الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

علي ناصر الدين

عليّ ناصر الدّين غير المعروف كثيراً من قبل العديد من المفكّرين العرب ومجهول إلى حد كبير من قبل المؤمنين بوحدة البلاد العربية هو في الواقع كما قيل عنه: إنّه مؤسس «عصبة العمل القومي»، صاحب «قضيّة العرب»، والمجاهد في سبيل القضية العربية، والمناضل البارز في الجبهات العسكريّة… (1)

ولد علي ناصر الدين سنة 1888 في بلدة «بمريم»، من أعمال المتن الجنوبي، البلدة الصغيرة والمستظلّة حفافي السنديان والصنوبر في الوادي المتنيّ الجميل، تعانقها حمّانا والشبانيّة وبتخنيه ورأس المتن شرقاً وشمالاً وغرباً، ويربض في أفقها الشرقي جبل صنّين، رمزاً أبديّاً لعلوّ الهامة وصلابة الصّخر وبياض الثلج.

تأثّر علي الابن بالمُناخ الوطني للوالد محمود ناصر الدين، وللمنطقة في مقارعة الغازي الأجنبي والمحتل عبر تاريخ سواحل الشام منذ أيام الفتح العربي الإسلامي، وبالثقافة الوطنية والقومية التي حصّلها على أكثر من معلّم ومدرّس من بمريم ورأس المتن، وصولاً إلى الكلّيّة الأزهرية في بيروت التي أسسها الشيخ أحمد عبّاس الأزهري؛ ذات التربية الوطنية والقوميّة التي أنجبت كوكبة من رجالات العمل القومي والوطني الذين لمعوا في المعارك الوطنية والقومية أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. هذا بعضٌ ممّا شكّل أو جبَل هذا العود الصّلب في علي ناصر الدين الذي اغتنى بعد ذلك بثقافته، وخبرته وغنى تجربته الأصيلة والعميقة.
في بواكير القرن العشرين بين المناخ الوطني الصّاعد والرقابة العثمانية غادر علي بيروت إلى باريس فكان يستزيد من الثقافة الفرنسية كما بات أقرب إلى المناخ القومي الصرف الذي كان يبثه من باريس نفر من أوائل القوميين العرب لبنانيين وسوريين. وبُعيْد نشوب الحرب العالمية الأولى وإعلان ولسون، الرئيس الأمريكي، مبدأه الشهير في «حق الأمم في تقرير مصيرها»، التحق علي في شمال إفريقيا بالفرقة الأجنبيّة في جيش الشَّرق التابع للحلفاء الذي شكلته فرنسا، والذي توجه إلى الشّرق في سنة 1917 لمساعدة الإنكليز ضدّ الأتراك والألمان وهزيمتهم، من ثمة، متوهّماً أنَّه يجاهد في تحرير بلده وأمّته من النير العثماني، وفي إيصالها، بالتالي، برَّ الاستقلال والحرية، لكن أوهامه لم تَطُل، فقد اكتشف بالملموس، من تجربته ومن تطوّرات قضية الثورة العربية الأولى للشريف حسين، أنّ الحلفاء غير صادقين في وعودهم، وأن حلم العرب بالحريّة قَصِيُّ وبعيد، وعليه لم يَطُل المقام بعليّ في جيش الحلفاء، فغادره.

جهاد وعفّة نفس

كان عليّ يجاهد دونما ثمن من أجل العروبة، دون طمع بمكسب أو مغنم، ومن ذلك أنّه كان في عداد وفد لبناني ذهب لتهنئة الملك غازي ملك العراق إبّان تنصيبه على عرش الرافدين، وفي المساء اختفى عليّ من قصر الضيافة المُخصّص للضيوف؛ حيث كان الوفد. قضى ليلته عند رفيق له هو نقولا خير؛ الذي كان يسكن غرفة واحدة متواضعة. كان همّ علي توطيد عرى الصداقة مع رجال الحركة العربية. وقبل العودة من العراق أصرّ الملك أن يمنح كلّ فرد من أعضاء الوفد مبلغاً ماليّاً مُحترماً عربون صداقة؛ فاعتذر عليّ عن أخذ المال بتهذيب وشمم.

هذا الأجر المادي الذي لو كان لعلي طمعٌ فيه لدى الفرنسيين لنال فوق ما يستطيع منافسوه، لكنّه كان مشغولاً بما هو أكثر أهمّيّة وأبقى أثراً(2).

يروي لطف الله الخوري في جريدة الحياة، عدد 3966، أنّ محاكمات المهداوي بعد ثورة 14 تموز في العراق 1958 كشفت الكثير من الصّلات الماليّة لبعض رجالات تلك الحقبة، أمّا برقيات السفارة العراقية التي نُشرت فبيّنت أنّ عليّأً كان وكالعادة أكبر بكثير من كلّ المال، ويعلّق الخوري: فإذا كان ثمّة من حسنة أعترف بها لهذه المحكمة العسكريّة في العراق ففي أنّها خلال محاكماتها أوردت ـ مرغمة، طبعاً بالواقع والحقيقة ـ وثيقة أو مستمسكاً يصح أن تكون مثلاً يُحتذى للشباب العربي.
كما كتب محمّد علي الرّز وهو أحد رفاق علي البارزين يقول إنّه في أواخر الستينيّات بينما عليّ يصارع المرض الذي أنهكه، سمع جَلَبة في الشارع فقالت له زوجته: إنّ حاكم الكويت حلّ في المبنى المجاور. فأرسل له رسالة يتمنّى عليه أن تتبنّى دولة الكويت مشروع مؤسسة لعلماء الذرّة العرب في موازاة علماء إسرائيل، وعرّفه بنفسه بأنّه إنسان عربي يصارع الموت، ولا يبغي مغنماً؛ بل أهداه كذلك مجموعة من كتبه؛ أُعجب الأمير بالرسالة فأرسل له مُغلّفاً يحوي مبلغاً كبيراً من المال مع رسالة احترام، فكتب له علي ثانيةً يقول: اسمح لي يا سموَّ الأمير أن أقدّم هذا المبلغ مساهمة متواضعة منّي في سبيل تحقيق المشروع الذي اقترحته على سموّك. أعاد الأمير ثانية المبلغ فأصرّ عليّ على الرّفض مع التحيّة والشكر، هذا مع العلم أنّه كان لا يملك، آنذاك، ثمن الدواء الذي كان بأمسّ الحاجة إليه…»(3)

هذا بعضٌ من رهبنة علي ناصر الدين وسموّ نفسه، ولا حاجة لاستزادة أو استفاضة. يكفي أنّهم كانوا ينادونه بـ «الشهيد الحيّ»، إشارة إلى عظيم معاناته، وجميل صبره، وبالغ حزنه في غربته في محيط أصمّ.

المواجهة مع المحتلّين

 

بيروت سنة 1922

انقطع علي عن الفرنسيين، وانقلب إلى معاداتهم مطلع عام 1919، وقبل مبايعة فيصل ملكاً على سورية العربية المستقلة، وتلا ذلك اجتياح غورو لدمشق بعد إعاقة بطوليّة قصيرة في ميسلون في 24 تموز 1924، وثبت أنّ العرب خرجوا من الاحتلال التركي ليعلقوا في براثن احتلال آخر… عندها انصرف عليّ إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي كاتباً وخطيباً ومحاضراً، بل لعلّ بعض نشاطه التنظيمي القومي الأوّل يعود إلى عام 1921 في بيروت وفي حلقات أولى مع بعض المثقفين البيروتيين والعرب الذين كانوا يشاركونه إحباط سقوط الدولة العربية الاستقلالية الحديثة الأولى، وبواعث السعي إلى تجديد العمل العربي القومي وتجذيره وتنظيمه. وكان اعتقاله واستجوابه، وأطلق بعد ذلك وهو أشد إصراراً على مقاومة حكم الانتداب، والاستعمار عموماً، وعلى ضرورة تجديد العمل العربي القومي ونشره، فأسّس مطلع عام 1922 جريدته الأولى «المنبر»، فكانت بياناً قومياًّ عربياً في التاريخ والسياسة والأدب. كانت تتلقفها الناشئة القومية، في بيروت خصوصاً، في لهفة واهتمام، وكان لها دور في إطلاق الحلقات القومية الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت.

لكنّ «المنبر» لم تكمل عامها الأول فقد أغلقها الفرنسيون وجرى اعتقال علي ثانية فكُبّل بالحديد وأُخرج من لبنان ونُفي إلى حيفا في فلسطين، وفي حيفا تابع حملته الشعواء على المستعمر الفرنسي الذي مزّق البلاد السورية الواحدة، إلى دويلات، ونهب ثرواتها، فكانت صفحات صُحُف «الكرمل» و «اليرموك» و «الحقيقة» منبراً آخر لحملته تلك، وفي مطلع سنة 1925 عاد علي إلى بيروت بعد توسّط الأمير مصطفى أرسلان (دون طلب منه)، كانت آنذاك فترة تصاعد الثورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في أنحاء جبل الدروز، وضواحي دمشق، وفي الأقسام الشرقية والجنوبية من لبنان، وأجفل الفرنسيون وأعوانهم منه، وقد أوقع الثوار في صفوفهم الهزيمة تلو الهزيمة، فاتهموه وبعضاً من رفاقه بالاشتراك في الثورة السورية ومدّها بالتأييد الماديّ والمعنويّ، فاعتقلوه في 15 شباط 1926 ونفوه إلى أرواد ومنها إلى القدس.

بعد الوعود التي أُعطيت، وانتهاء العمل العسكري للثورة، ومناخ الحرية (النّسبي) الذي ساد لبرهة وجيزة أُطلق سراح علي؛ إلّا أنّه وكالعادة عاد سريعاً إلى جهاده وبيانه وتنظيمه فكان تأسيسه سنة 1927 لعصبة تكريم الشهداء مع صحب ميامين من بينهم صلاح الدين بيهم وقسطنطين يني وفهيم الخوري والشيخ أحمد عارف الزين ويوسف ابراهيم يزبك وجورج عقل وسواهم، وحظر الفرنسيون كالعادة عمل العصبة، واعتبروها غير قانونية ولاحقوا أعضاءها. لكن عليّأً وكثيراً من صحبه لم يأبهوا للأمر.. واستمر عليّ يُرسي عمل العصبة كمحاولة وطنية واسعة لاحتضان ذكرى الشهداء الوطنيين وتكريمهم من خلال تكريم قضيتهم وحفظها وتجديدها، فناصبهم الفرنسيون العداء وطاردوهم حتى عام 1936 حين تولّى ميشال زكّور وزارة الداخلية في لبنان، فأوقف المطاردة عن عصبة التكريم، واعتبرها هيئة وطنية ذات صفة رسميّة تتعاون الحكومة مع أعضائها في وضع منهاج الاحتفال، وكان عليّ رئيساً لتلك العصبة منذ تأسيسها حتى عام 1936.

في سنة 1928، يمّم شطر طرابلس وتولّى مع رفاق له تحرير صحيفة «اللواء» لكن سلطات الانتداب كانت له بالمرصاد، فطاردته وعاد إلى فلسطين…(4) غير أنّه لم ينقطع عن الكتابة في العديد من دوريّات تلك الفترة أمثال «البيرق» و«الأحرار» و«البلاغ» و«اليقظة» وعلى الموضوع عينه وفي الواقع ذاته من الصراحة والجرأة والحدّة في المواقف.

مؤتمر العصبة

وفي مأثرة عليّ الأبرز؛ تناديه ونخبة من رفاقه القوميين القدامى من لبنان وسورية وفلسطين إلى مؤتمر قومي للبحث في شؤون العمل العربي القومي، فانعقد المؤتمر بين 24 و 29 آب سنة 1933، فتمخض عن تأسيس «عصبة العمل القومي» وكان علي، بشهادة المؤتمرين، لولب الاجتماعات؛ وقلبها الحيّ النابض كتابة، وخطابة وتنظيماً وشرحاً دائباً لأهداف العصبة، والعمل المستمر على رعاية فروعها، كما كانت فرصة لاشتراك قومي عميق من جانب علي ابن الستين عاماً في أعمال الثّورة الفلسطينية عام 1936، إلى جانب آخرين من فتيان العصبة ورجالات العمل القومي في أكثر من قطر عربي.(5)

من الذين رافقوا أبا وائل (عليّ) في مؤتمر العصبة واشتركوا في تأسيسها نذكر: الشيخ عبد الله العلايلي والمحامي فهيم خوري والأستاذ ناظم القادري والشيخ قسطنطين يني والأستاذ أكرم زعيتر والدكتور محمّد خير نوري والمحامي شوقي الدندشلي والأستاذ محمّد علي الرز وآخرون، وبعد تأسيس العصبة ترأس علي فرع لبنان كما كان الدكتور محمّد علي الرز أمينها العام، وعلى هذا كانت العصبة سبباً في اصطدام علي مع الاحتلال الفرنسي فتمّ اعتقاله…

وقد تميزت العصبة عمّ سبقها من تنظيمات مثل جمعية العربية الفتاة وحزب الاستقلال والعهد (خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثماني)، هو أنّها ميّزت وللمرة الأولى وعلى نحو واضح وكامل بين القومية والدين، أو تحديداً بين العروبة والإسلام، لأنّ القومية غير الدين، والدين غير القوميّة والعروبة، وإن كانت (العروبة) كثيرة القربى والولاء لصعود البعثة المحمّديّة والدين الحنيف، فهي مستقلة تماماً عن الدين، وهي ليست بالتالي قضية إسلامية ــ وهو الموضوع الذي سيوضحه علي، مَلِيّاً، في مقالاته وخطبه ثم بإسهاب في كتابه «قضية العرب» الذي فرغ منه في أواخر الثلاثينيّات. وهكذا وإذا كان هناك الآن من عروبة علمانية ـ ليست ضد الدين إطلاقاً ولكنها في ميدان غير ديني ـ فإنّ الفضل فيها إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى عصبة العمل القومي، وإلى إسهام علي ورفاقه، وإن يكُ هو الأكثر قِدَماً بينهم والأكثر نتاجاً ووضوحاً في المسألة.

كان دور علي الأساسي والمركزي في مؤتمر قرنايل في تأسيس العصبة هو «موضع إجماع، على الدوام، بشهادة المُحدِثين؛ كما المعاصرين من أمثال أكرم زعيتر وعبد الله العلايلي، ومحمّد علي الرز وابراهيم يوسف يزبك، وسواهم، وهو موقع تبدّى كذلك في ترؤسه فرع لبنان للعصبة، الفرع الأكثر نشاطاً والأكثر ديمومة. لكنّ ما لا يشار إليه دائماً أو لا يشار إليه بالمقدار المناسب هو دوره الفكري التأسيسي للمشروع العربي القومي الحديث الذي يعود إلى نهاية الثلاثينيّات وإلى ثلاثة أو أربعة كتب تحديداً منها: «دستور العرب القومي» للشيخ عبد الله العلايلي الصادر سنة 1938، و «الوعي القومي» لقسطنطين زريق الصادر سنة 1939 ثمّ «قضية العرب» لعلي ناصر الدين الصادر عام 1946»(6).

إنّ الكثير من أسس برنامج عمل العصبة، كما المشروع العربي القومي الحديث عموماً، إنّما هو في الحقيقة نتاج اجتهاد علي وإبداعه وثقافته وتجربته، مع لحظ الأهميّة الكبرى لما أضافه غيره، إلى هذا الحد أو ذاك.

وفي ذلك كتب لطف الله الخوري عن علي: «كان أحد مؤسسي أول حزب عربي على أسس علميّة وقومية خالصة». أمّا محمّد علي الرز الذي كان أحد المشتركين في مؤتمر قرنايل والذي انتخب أميناً عاماً للعصبة فيقول في ذلك»كان علي القلب النابض لذلك المؤتمر الذي انبثق عنه حزب» عصبة العمل القومي» الحزب القومي الوطني الذي جسد بشكل علمي آمال الملايين من الخليج إلى المحيط والذي تتلخص أهدافه فيما يلي:

  1. العرب أمة واحدة…
  2. الأمة العربية جسم اجتماعي واحد…
  3. البلدان العربية بكليتها وطن عربي واحد.
  4. القومية العربية تنبذ كل ما عداها من العصبيات الطائفية والقبلية والأسريّة.
  5. الحركة العربية حركة تحرير وإنشاء.
  6. تعمل العصبة لإقامة نظام اقتصادي عادل شامل يظفر فيه كل مواطن بحقه المتناسب مع عمله وتحارب الجهل والفقر والمرض.

ثمّ تركز بقيّة الأهداف على الإنماء والمشاريع الاقتصادية والعدل والمساواة بين الرجل والمرأة وضرورة التركيز على التنظيم داخل الدولة. وهكذا،
فإنّ فضل علي الفكري في التأسيس المنهجي لفكرة العروبة العلمانية الحديثة لا يقل عن فضله في الجهاد لمشروعها السياسي والتاريخي، ولعل الرّيادة التي قصدها العلامة العلايلي في تأبينه لعلي ناصر الدين تقع في هذا المفصل بالتحديد.

أما ميزة العصبة الثانية ـ ولعلّ في ذلك بعضاً من تبتُّل علي ـ فهي طلاقها المطلق مع المستعمر طلاقاً يبدأ برفض أي مركز أو وظيفة أو تعاون معه، لينتهي في أشكال المقاومة كافة وصولاً إلى القتال. ويُروى أنّ طبيباً عضواً في العصبة قبل وظيفة ناظر صحيّة دمشق، فما كان من فرع العصبة في دمشق إلّا أن أقاله من عضوية العصبة، وهذا بعض من رهبنة العمل القومي كما فهمته العصبة وكما طبقه عليّ على نفسه وإلى أقصى درجات الاحتمال الإنساني.

في 3 أيلول 1939 مع بدء الحرب العالمية الثانية اعتقل الفرنسيون علي مع كامل أعضاء اللجنة المركزية للعصبة في معتقل «الميّة وميّة» في جنوب لبنان حيث بقي مدّة أربع سنوات (وقد نال الاعتقال من جسمه وصحّته الكثير) ليُفرَج عنه صبيحة يوم استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943…
ويعلق د. شيا: «ومن الطّريف حقّاً أن يخرج علي من معتقله صبيحة يوم الاستقلال كأي معتقل أو مجرم آخر، وكأنْ لا دور له في هذا الاستقلال، بل لكأنّ هذا الاستقلال الذي تحقّق غير ذاك الذي طلبه علي، وضحّى في سبيله بأغلى ما يملك. هذه المرارة هي التي أحسّها عليّ في صدره فقال: «وإنه لمن الغرابة والشذوذ، فعلاً، بحيث يكاد المرء يكفر بعدالة السماء، وصحة السّنن الطبيعية في التطور والتقدم أن تنكشف رواية الاستقلال عن أنّ سماسرة الاستعمار وعبيده صاروا من أبطال الاستقلال وأسياده ــ وما أدري كيف يكون السماسرة والعبيد أبطالاً وأسيادا ــ وعن أن هزل القدر، مضافاً إليه قلّة حياء البشر من كهول وشبان وصبيان، شقّ لأشخاص من مثل هؤلاء طريق التبجّح… وشرف النضال!!!»(7)

نعم لقد طبقت فرنسا بحق عصبة العمل القومي أشدَّ الإجراءات القمعيّة وصلت إلى الحكم بالإعدام، بينما أمر المفوّض السامي؛ غبريال بيو، بملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي واعتقال قادتهم، وبعدم التعرّض للكتلة الوطنية والشهبندريين على اعتبار أنهم لا يشكلون خطراً!

أعضاء المؤتمر الإسلامي العام، القدس 7 كانون أول 1931.

علي في معترك الحق الفلسطيني

تعود علاقة علي بفلسطين إلى عام 1924 فقد عرفها منفيّاً عام 1924 ومجاهداً سنتي 1933 و 1936، ومشتركاً على أرضها في أوّل مؤتمر إسلامي حديث في القدس سنة 1931، المؤتمر الإسلامي العالمي الذي ضمّ وفوداً لامعة من الدول الإسلاميّة. كان ما قدّمه علي ناصر الدين عامي 1947 ــ 1948 هو نبراس آخر مضيء في الطريق القومي الصعب الذي اختاره أبو وائل.

في تلك الفترة، تحوّل علي مع نهاية سنة 1946 وسحابة سنتي 1947 ــ 1948 إلى داعية لا يلين لعروبة فلسطين، وضرورة شحذ الهمم وتعبئة الطاقات وتوحيد الصفوف، دفاعاً عنها، أرضاً وسكّاناً، فاستصرخ في العرب كلّ ما فيهم أن «احفظوا فلسطين» التي تكاد تضيع، وما ترك وسيلة شريفة إلاّ ولجأ إليها، ولم يخاطب العرب فريقاً دون فريق بل رأى، لتفاؤل فيه، أنّ كل العرب سواسية في مسؤولية حفظ عروبة فلسطين ونجدة المجاهدين من أبنائها. وعشية الدخول إلى القتال في فلسطين، وجّه علي إلى رفاقه في «عصبة العمل القومي» نداء قوميّاً حارّاً وفي ما يلي بعض منه: «أيّها العصبويون.. أيُّها العرب، من كان يستطيع القتال ولا يقاتل فهو جبان، ومن كان يستطيع القتال ولا يقاتل خائن وجبان! أدعوكم للقتال، وأبدؤه بنفسي، وملتقانا في بطاح فلسطين…»

ودخل علي فلسطين، مجدّداً، برفقة القاوقجي الذي كان قد ساهم معه في تكوين جيش الإنقاذ لمحاربة الصهيونيين، وكان في قيادة الجيش المذكور، وسهّل مرور أوّل كتيبة عبر الأراضي اللبنانية إلى الجليل في فلسطين بعد أن اجتمع، ومعه أحد رفاقه، الفريق عفيف البزري، مع صديقه قائد الجيش اللبناني، في تلك الفترة، اللواء فؤاد شهاب؛ الذي قدّم المساعدة لهما، وقد شارك علي في استطلاع طريق جيش الإنقاذ، وفي جميع المعارك التي خاضها هذا الجيش في فلسطين وتولّى إدارة قسم الإعلام فيه وإدارة إذاعة فلسطين العربية من رام الله.(8)

كان نداؤه: القتال والإقدام، وهو الشيخ ابن الستين عاماً، وكان لا يخلد إلى راحة متنقّلاً بين موقع وموقع، ومن خندق إلى خندق، وكان إذا حضر موضع حفاوة من قبل المتطوّعين، كما يروي الفريق عفيف البزري شريك بعض مراحل تلك الحملة، هذا إلى اشتراكه الفعلي في القتال والمعارك كما في حصار القدس واللطرون. عاد أبو وائل من فلسطين ـ كما يروي الصحافي المجاهد أكرم زعيتر ـ فارساً مهزوماً جريحاً مكسور الخاطر والقلب(9).

عليّ بعد نكبة فلسطين

اعتزل عليّ في بيته، لا يخرج منه، لا يكتب، لا يحاضر، لا يعتلي منبراً إلّا في النادر النادر وفي موضوع واحد، وهو كيفيّة محو العار، أو الثأر للنّكبة في فلسطين.

وكان عليّ على علاقة وطيدة بحركة القوميين العرب، التي تأسست في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1951، كان تأثيره السياسي في تطوّرها أهم ما تأثّرت به الحركة من خارجها… ويُعْتَقد أنّه كان وراء حملة المقاطعة التي قادتها الحركة في بيروت(10). كما أسّس منشورات دار الحكمة، عام 1955، مع محمود عبد الصمد وعلي أبي حيدر، ليعيد كتابة التاريخ العربي بشكل علمي وصحيح لبعث التراث العربي الفكري، لأنه يؤمن بأن الحضارة العربية حضارة إنسانية تستطيع مواكبة التطور في العالم(11). وألّف عدة كتب أهمها قضية العرب الذي عبر فيه عن مفهومه الحضاري للقومية، وردّ على الذين يخلطون بين العروبة والإسلام، واعتبر أنّ العمل السياسي يجب أن يؤدي إلى المساواة والعدالة لكل أفراد المجتمع، وقد أنجز تأليف جزء من الكتاب المذكور وهو في سجن «الميّة وميّة».

كان للهزيمة في نفسه ثمن يجب دفعه، فقد أدّى اعتكافه وخيبته وحزنه وحدّته العصبية البالغة إلى تأزّم تدريجيّ في وظائف جسمه الحيويّة وفي تصلّب شرايين القلب، خصوصاً، فانحطّت قواه، تدريجيّاً، في نهاية الخمسينيات وسحابة الستينيات وما بعدها، ليجد أخيرا،ً راحته الأبديّة في رضوان ربّه، في 29 نيسان سنة 1974، عن عمر ناهز السادسة والثمانين(12). وكانت كلمته الأخيرة حيث وُجِدت بين أوراقه مُدَوّنة قبل ساعات من وفاته: «سأبقى منقطعاً عن كتابة مذكّراتي ما دامت هذه الأمّة التي من أجلها كدت أموت، ويا ليتني متُّ قبل أن يدركها الذلّ والعار، مُتضرّعاً إلى الله أن ينقذها ولو بأسبوع قبل أن أموت رغم ما أتألّم منه من مرض النشاف»(13).

رؤية شاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده

هي رؤية صائبة، ما كان يلحّ عليه عليٌّ، في إعلانه وشرحه والتفصيل فيه، منذ أولى كتاباته في العشرينيات، عبر مجموعة كتابات، في أجزاء منها: «هكذا كنا نكتب» وغيرها…

وفي ذلك، تبلور مشروعه العربي القومي النهضوي والوحدوي، مذ هُزِمت أوّل تجربة عربية استقلالية حديثة، سنة 1920، على يد الفرنسيين بعد احتلالهم دمشق…» وليبلغ ذروته – حسب اعتقادي – في تأسيس عصبة العمل القوميّ، سنة 1933، أعظم إنجازاته على الإطلاق(14).

نظر عليّ ناصر الدين للأمة العربية في تاريخها الإجماليّ، فكتب في تاريخ العرب قبل الإسلام «سلسلة الثائرون العرب في التاريخ»، وصدر منها «أذينة والزبّاء» و»الملك سيف بن ذي يزن»…

كان له همٌّ واحدٌ وقضية واحدة هي «قضية العرب»، وهو كتاب صدر في طبعات ثلاث، الأولى عام 1946، والثالثة والأخيرة صدرت عام 1963. والكتابُ نظريٌّ رئيسيٌّ بالغ الدقّة رغم شموليّته؛ فالعروبة، عنده، قوميّةٌ، ترتكز على بعث الأمجاد السالفة، بهدف إقامة دولة عربية واحدة. ويحدّد علي هوّيّته، فيقول: «نعم، أنا قوميٌّ، ومعنى ذلك أنّني عربي مؤمن بعبقريّة أمّتي وحقها في الحياة حُرّة مستقلَّة مُوَحّدة، ومؤمن بمستقبلها العظيم وبأنني وأخواني القوميّين العرب بُناة هذا المستقبل»(15).

العروبة لدى عليّ تشمل كلّ العرب بِغَضِّ النَّظر عن الانتماء الدينيّ

يقول عليّ: «إنّني أعتبر كلّ عربي – مهما يكن منشؤه، ومهما تكن عقيدته الدينيّة – أخاً لي مُتَمِّماً لِقَومي… وإنّني حارس العروبة؛ أحميها بأخلاقي وأقوالي وأعمالي ودمي… رسالة القوميين العرب هي رسالة القوّة والحق والخير إلى العرب ثمّ إلى الناس، كافة، ويريد القوميون من وراء ذلك أن يخلقوا من الناشئة العربية، ذكوراً وإناثا،ً جيلاً قويّاً صالحاً جريئاً خَيِّراً عاملاً مؤمناً… يعمل لإنشاء كيان قومي عربي موحّد قوي: أي دولة عربية اتحادية كبرى، تستند إلى القومية الخالصة، وتحارب الفَقر والجهل والمرض والظلم وكلَّ عصبيّة إلّا العصبية القوميّة(16). وإلى اللبنانيين يتوجّه علي ناصر الدين بخطابه، فيقول: «لا قوميّة لنا إلّا القومية العربية، فنحن عربٌ، نعمل، ونجاهد في إيمان وإخلاص للوحدة العربية، ونريد أن نقنع اللبنانيين، كافة، بهذا؛ ولا يتيسر لنا ذلك ما نوقّعنّ في نفوس الذين من اللبنانيين ربّتهم الإرساليات السيّارة والمعاهد الأجنبيّة الثابتة تربية غربية، وأشربتهم روح النفور من العرب والعروبة… لا يتيسر لنا ذلك ما لم نوقظ في نفوس هؤلاء، جميعاً، الشعورَ بالقومية العربية المرتكزة على التاريخ واللغة والأدب والتقاليد والسلالة الغالبة والمصلحة المشتركة…»(17).
ومن قبل، كان عليٌّ يقول بهذا في نهاية العشرينيّات، في وقت كانت فيه الأوساط الثقافية المحلّية في سورية واقعة تحت تأثير الأب لامنس (الفرنسي) اليسوعي ونظريته حول سورية السورية غير العربية. وإلى هذا يشير د. محمّد شيا: «أرسى علي ناصر الدين، منذ نهاية العشرينيات، الخط العربي الخالص الصّراح، والذي لا تشوبه شائبة، ولا يدخل فيه غير العامل القومي دون سواه، لذلك يجب أن نضيف – ومن باب الأمانة العلمية – أنّ عليّاً يستبق، زمنيّا،ً في ذلك غالبية القوميين العرب ومنظّريهم ومفكّريهم، وأنَّ هؤلاء سيجدون، بالتالي، في كتابات عليّ، كما تثبت كل قراءة مقارنة، بذورَ كثير من أفكارهم وأصولاً غير نظرية من نظرياتهم، بل وقدراً لا بأس به من تفاصيل شكل خطابهم القومي وأدواته وصياغاته»(18).

علي ناصر الدين والثورة السورية الكبرى

يقول د. محمّد شيا إن العاصفة الهادرة التي أطلقها سلطان باشا الأطرش بإعلان الثورة السورية الكبرى عام 1925، كانت الرافعة القوميّة الضخمة التي قلبت مسار الأحداث «أطلقت من جديد التيار القومي العربي التوحيدي، وكسرت حاجز الخوف، وألزمت الفرنسيين في تنازل غير مباشر على التخلّي عن سياسة تفتيت سورية إلى دويلات مصطنعة وإلى اعتراف متزايد بالحكم الذاتي؛ مع قدر من الحرية تجلّى في تنظيم الأحزاب والانتخابات وما إليهما..» في تلك الآونة غدا علي ناصر الدين صوت الثورة في الصحافة البيروتية والعربية، إلى رفاق آخرين له، وَرَدّ الفرنسيون على الفور باعتقاله وسوقه موثوقاً إلى سجن القلعة بتهمة مراسلة زعماء الثورة في سورية، والعمل على تأمين المدد لها(19).

كتب علي في تلك الفترة «إنّ دمشق واسطة العقد في جيد هذا الشرق العربي الذي يستيقظ استيقاظ الجبار الكريم… دمشق معلّمة بلاد العرب الغضب للكرامة… فنحن نصرّح باقتناع أننا دمشقيّون شاميّون وعراقيّون وحجازيّون ونجديون ويمنيون ولبنانيون وأيّة غرابة في ذلك» ويقول أيضاً «لقد كنّا نقول: إننا عرب سوريون أصحاب عقيدة قومية.. وإننا نريد أن نكون أسياداً في بلادنا أحراراً نقول ذلك ونعمل له في صراحة وإخلاص وروية وإننا نريد وحدة سورية فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم ونعمل لذلك في إخلاص وصراحة ورويّة».

وفي رؤية حضارية غير عرقية ولا عنصرية للقومية يقول علي»العربي هو من كانت لغته العربية»(20). في شباط 1930 كتب أيضاً «إنّنا عُصَبٌ تدعو إلى تشييد الكيان السياسي على أسس القومية الخالصة وإنّ قسطا وغسان العربيّين لأقرب إلينا وأحَبُ من محمّد خان العجمي وعصمت قره بكير التركي. وأن يلحد أحدُنا بالدين لا يعنينا في شيء مثل أن يُلحد بالعروبة»(21).

آمن علي بأولويّة العروبة ولزوم تفعيل الدين الإسلامي في مواجهة الاستعمار الغربي وكان المستعمر الإنكليزي يتوجّس من نشاطه في هذا المجال، وفي هذا يقول د. محمّد شيّا «وليس من المصادفة في شيء أنّ المستعمر الإنكليزي في فلسطين يقبل علي ناصر الدين عضواً في المؤتمر الإسلامي لسنة 1931، بينما يتّهمه أنّه يسعى من وراء ذلك إلى مؤتمر عربي قومي ممنوع»(22).

علي ناصر الدين والحق الفلسطيني

حذّر علي أهل فلسطين منذ 1924 بقوله «يا أبناء فلسطين، لا تضيّعوا فلسطين» وهم لم يسمعوا همسه العاقل «أيّها العرب الفلسطينيون… ألا أن تجمعوا كلمتكم وتنظموا صفوفكم وتعملوا جادّين مخلصين وتعدّوا لهم في علم ما استطعتم حتى ترهبوا عدوّكم وتحفظوا فلسطين». بهذا، منح أبو وائل القضية روحه وعقله وجهاده، فدقّ النفير قبل الكارثة بزمن، إذ حذّر وأنذر وألمح وأفصح، وشرح بالحجّة والبرهان طبيعة الخطر الداهم في أحاديث وخطب ومؤتمرات واتصالات ومؤلّفات… وحَمَل جسده النّحيل إلى فلسطين وهو في الستين من عمره مجاهداً في جيش الإنقاذ… وبعد الكارثة كتب يقول: عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور ومنها أن لا أحاضر ولا أخطب ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً إلا أن يكون الغرض منه البحث الجدي في محو العار الذي ألصقه بالعرب، فريق من العرب أنفسهم، قبل الإنكليز، وقبل الأمريكان وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب ويترتَّب عليهم أن يتقيَّدوا بها ويسيروا عليها. وليس غريباً أن يكون عدد من المنظمات القومية التي حاولت الردّ على النكبة إنّما قامت تحت تأثير مباشر من أفكار علي ناصر الدين، وربما بهديه وتوجيهه، من منظمة «شباب الثأر» إلى حركة القوميين العرب «وغيرهما من ردّات الفعل التي ظهرت بعيد 1948.

ويقول علي بثقة «كانت فلسطين وما برحت جزءاً من بلاد الشام… وستظل كذلك ما دام في العالم لغة عربيّة وقومية عربية وأخلاق عربية وأنَّ الفلسطينيين كانوا وما زالوا عرباً شاميين … وسيظلون كذلك ما دامت الأرض لا تبدّل غير الأرض والسماء لا تبدّل غير السماء»(23).

علي في مواجهة الصهاينة

القائد فوزي القاوقجي
في قرية جبع سنة ١٩٤٨

ويدرك علي مدى تقصير قومه العرب في البذل دون حقّهم المُهدد في فلسطين فيقول: «التقصير من أهل الحق أحال الحقيقة إلى حلم وذكرى، هو ذا الفارق بين ما فعله اليهود وما لم يفعله العرب يقول علي ناصر الدين من على صفحات جريدة الكرمل في حيفا 1924 «عرف الصهيونيون فصرفوا معارفهم وجهودهم في المُنصَرف الذي تَصرف فيه الجماعات الحيّة معارفها وجهودها فأنشأوا الجمعيّات وألّفوا النّقابات صناعية وزراعية وتجارية وأسسوا المعاهد وأقبلوا على العلم زرافات فإذا منهم جيوش مُتعلّمة عاملة منظّمة وإذا هم يسيرون في الاقتصاد والاجتماع والسياسة في سبل قويمة وعلى خطط مدروسة مقرّرة ثابتة سيبلغون بواسطتها إلى ما يريدون إذا هم لم يُصدموا صدمة عنيفة وإذا هم لم يحارَبوا بسلاحهم من علم وعمل…»(24). وبالإضافة إلى ما سلف يقترح علي في مواجهة الصهاينة سلاح المقاطعة الشاملة اقتصادياً واجتماعياً وعلى هذا فليس غريباً أن ينعقد أوّل مؤتمر عربي قومي في فلسطين أواخر سنة 1931 في القدس وعلى هامش المؤتمر الإسلامي العالمي في حينه حيث اختير الأمير شكيب أرسلان أميناً عاماً للمؤتمر وكان عملاء الإنكليز يستريبون بنهج عليّ القومي العروبي في المؤتمرين ويعملون ضدّه في الخفاء(25)

لقد اجتمعت المذاهب الإسلامية كافة لرد الغزوة الغربية المُتمثلة في الأطماع الصهيونية في فلسطين بغضّ النظر عن التباين والتمايز، بل أمَّ المصلّين في الأقصى ولأوّل مرة إمام من الشيعة وأشاد المؤتمر في مقرراته بمواقف النّصارى الشجاعة، وانصهارهم التام مع الحركة الوطنية الفلسطينيّة، كما يقرّ علي بذلك. وتطور موقف علي من الكلام والتحذير إلى العمل والتنظيم المتمثل في تأسيس عصبة العمل القومي إثر مؤتمر قرنايل 1933 وكانت القضية الفلسطينية الحاضر الأكبر في المؤتمر، وإلى هذا يشير محمّد شيّا، أنّ العصبة « رفعت الردّ على الغزوة الغربية الصهيونية من مستوى الردّ القطري إلى مستوى الردّ القومي..». وكان بين المؤتمرين شبّان من فلسطين وسورية ولبنان… ويذكر الدكتور محمّد علي الرز أمين عام العصبة أنّ علي ناصر الدين طلب من الحاضرين وقد اتّجهوا جميعاً صوب قبلة فلسطين أن يُقسموا على الدفاع المستميت عن عروبتها.

ولهذا الموقف المبدئي من الحقّ الفلسطيني ومساعدة علي للمجاهدين والثوار وبالوسائل كافة اعتقله الفرنسيون في الفترة بين عامي 1939 و1943
غير أنّه «وبعد خروجه من السجن عاد أبو وائل إلى ديدنه في لجوئه إلى كل وسيلة ومناسبة، في الصحافة ومحطّة الإذاعة واللِّجان، وسواها، داعياً إلى تكثيف العمل والجهد في ردّ الخطر الصهيوني، وعلى هذا فقد أنهى حديثه الإذاعي من محطة بيروت في الثاني من تشرين الثاني عام 1946 بندائه: «أقول لمن يشاء منكم إلى اللقاء في ساحات الشّرف ولا أذكّركم بخضاب الرجال، فإنكم في ما أظن لذاكرون. وبين تشرين الثاني 1946 و1948، تاريخ دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين كان اشتراك علي حاسماً في التحضيرات والاستعدادات ومَدّ المقاومة في الداخل بما تحتاجه من مال وسلاح… كانت استعدادات مشتركة مع القائد فوزي القاوقجي الذي محضه علي تقديراً يستحقّه، وتولّى عليّ محطته الإذاعية التي واكبت الحملة… وفي أكثر من حالة كان علي وقد جاوز الستّين وهو في مرضه وهُزاله يرافق الوحدات العسكريّة… وكما يروي الفريق عفيف البزري أنّه كان مرافقاً لأوّل كتيبة عسكرية دخلت عبر الأراضي اللبنانية …

وفي داخل فلسطين كان علي لا يهدأ من موقع إلى آخر، وكان حيثما حل بين المتطوعين أو الأهالي موضع انتظار وترحيب(26)… وبعد الكارثة، أو النكبة، كما يعبّر علي، صُدِمَ الرّجل. يروي محمّد علي الرز حيث كان مع بعض العصبويين في حديقة منزل أبي وائل؛ المقرّ الفعلي للعصبة، بعد سنتين من النكبة، وعلا صوتهم قليلا في مرح خفيف، فما كان من علي إلّا أن خرج من مكتبه يصرخ فيهم، فانصرف هؤلاء، ولما فاتحوه بعد يومين عن سرّ غضبه، أجاب ببساطة: كيف تستطيعون المرح والضحك وعار النكبة ما زال في الأعناق! وفي هذا يقول علي: كنت قد عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور منها: أن لا أحاضر ولا أخطب، ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً، إلّا أن يكون الغرض من هذا كله البحث الجدّي في محو العار الذي ألصقه بالعرب فريق من العرب أنفسهم؛ قبل الإنكليز والأمريكان، وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب أن يتقيدوا بها، ويسيروا عليها(27).

مقترحات علي ناصر الدين لترسيخ الوحدة الوطنيّة اللبنانية

من أجل لبنان العربي السيد الواحد المستقل يقترح علي جملة من الوسائل لم تزل حالة ضرورية يلزم العمل عليها إلى يومنا هذا وأبرزها: تذكرة الهويّة بدون ذكر لدين المواطن، وتطبيق التجنيد الإجباري كواجب مقدّس، وتوحيد منهاج التربية والتعليم توحيداً مُطلقاً كركيزة أساسية لتحقيق الوحدة الوطنيّة وألّا ينحصر تمثيل النواب بمناطقهم فقط لأنّهم يمثّلون الشعب بجميع فئاته، وتجريم كل من يسعى بالفعل أو بالقول إلى التفرقة بين اللبنانيين باسم الدين أو المذهب(28).

خاتمة

يتساءل د. شيا في خاتمة كتابه: ماذا تبقّى من علي ناصر الدين؟ ويجيب بقوله: لقد استقلّت بلاد العرب فعلاً، ولكن ما الذي يُثبت أنّ بلاد العرب للعرب وحدهم، دون سواهم، كما حلم أبو وائل ورفاقه، القوميون الأوائل؟ فالكثير من مقوّمات الاستقلال هي في يد القومية الاستعماريّة الكبرى التي ما خرجت من الباب السياسي والعسكري إلّا لتدخل من النافذة الاقتصاديّة، والثقافية والتقنية، وسواها.

استشعر العرب مكامن الوحدة القائمة في ما بينهم في كلّ منحى من مناحي حياتهم، فقضية العرب هي دائماً قضية الوحدة، من وجهة نظر علي ناصر الدين، وكانت الجامعة العربية عام 1945 على عيوبها وعجزها وإخفاقاتها؛ خطوة نحو الوحدة العربية(29). ولا يشذّ عن هذا مجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي وغيره من المحاولات الوحدويّة، وهذا يؤكّد صدق ما دعا إليه وجاهد من أجله علي ناصر الدين، كما تحقَّق للعرب مقدار غير قليل من التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي… غير أنّ «عنق اقتصاديّات العرب، ومواردهم الاستراتيجية هي في الدول الاستعمارية العظمى وشركاتها العملاقة المتعددة الجنسيّة…»(30).
نعم تحققت نجاحات، وفي المقابل حدثت خيبات، لكنّ «أشدّ ما أدمى قلب علي، ومزّق روحه وجسده هو الجرح الفلسطيني، أو نكبة فلسطين. لقد خلخلت النكبة كيانه كلّه لكأنّه عليّ بعد النكبة غير علي قبلها، كيف لا وهو العائد مهزوماً من حرب ١٩٤٨ في شهادة أكرم زعيتر الذي يقول: «بدا فارسنا وهو عائد من المعركة أشعث أغبر كسير الخاطر، جريح الفؤاد… وكأنّي به وقد توارى عن المجتمع المهزوم إنّه استُشهد قبل أن يُستَشهد، ورأيت فيه وهو زاهد في دنياه، فارس الملحمة الذي صُرع يوم صرعت فلسطين»(31).

توقيع ميثاق تأسيس جامعة الدول العربية سنة ١٩٤٥.

إنّ أعظم مآثره لا تكمن في ما كتب أو حاضر فقط وإنّما في ما فعل ومارس، بل في شكل فعله وممارسته. يقول فيه العلامة عبد الله العلايلي يوم تأبينه: «… ثمّ عرفته من قريب فعرفت فيه إيمان الأنبياء يوم تجسّد، وبراءة قلب القديسين، ومُنْعَقَدَ عزم الأبطال وتألّق وصبح الحرّية في مقلة الأحرار». وفيه يقول معاصره عارف النكدي في تقديمه كتابه «هكذا كنا نكتب «ملّت دوائر الانتداب على قوّتها المادية عداءه، وما ملّ، على ضعفه المادي عداءها». ولعلّ العالم الجليل الشيخ أحمد رضا يفيه حقه حين يقول: «… إذا قيل من هو المجاهد الحرّ الصابر على حرّ الجهاد الماضي على سُنَّته في نُصرة العرب والعروبة، الصادق في جهاده، الذي لا يبالي بالآلام والشدائد مهما عظُمت… لقلت لهم: ذاك علي ناصر الدين». أمّا فخري البارودي من الرعيل القومي الأوّل فحين سُئل في أواخر أيّامه من هم العشرة من رجالات العرب في القرن العشرين دون أن يصيبوا مغنماً ودون أن يخدعوا قومهم وظلّوا أوفياء لعروبتهم رغم النّكران والجحود حتّى وافته المنيّة فأطرق قليلا ثمّ قال: «هم ليسوا عشرة بل لا يتجاوزون الأربعة، ثمّ عدّ أربعة كان علي في طليعتهم».

وفي حفل تأبين علي في 18 أيّار 1974 قال يوسف إبراهيم يزبك رفيقه ردحاً من الزمن: تسألون ماذا بقي من علي ناصر الدين؟، وأجيب: سياسيّاً يبقى المناضل الشجاع واللّحن الصريح في أنشودة الاستقلال والعروبة… يبقى علي ناصر الدّين في القمّة. ساعة وارَوْه في ترابه دنا منه أخوه، ورفيق جهاده الذي سُجِن معه وكُبِّلا بقيد واحد قبل خمسين سنة، دنا منه وقال: يا أبا وائل، لأجل تحطيم سلطانهم، ومنع استغلالهم ستتابع القافلة سيرها… وأبشر يا أبا وائل، فالمحطمون يكثرون والحمد لله».

وفي حفل تأبينه كذلك كانت شهادة نصري المعلوف رسالة اعتذار لهذا الذي مات وحيداً مريضاً منسيّاً… فيقول: «الثمانون بما حفلت وبما حملت؛ هل كانت إلّا وقفاً على رسالة بدت في طفولتها ضرباً من الخيال… ولكنها في تصوّرك وإيمانك هي الحقيقة المحتومة الآتية لا ريب فيها؛ ولكن دعوت لها وعلّمت بالقلم واللسان والقدوة المثلى… إنّ سبيلك إلى غايتك إنّما كانت مجاهدة وجهاداً وصبراً وحرماناً… ويشير المعلوف إلى أولئك الذين كانوا يعتبرون نضال علي من أجل قضية العروبة خيالاً ومحالاً، وكفراً وضلالاً، ومجلبة للقهر والحرمان، عرفوا كيف يمتطونها وهي بوابة العز والسلطان بينما علي يقف «في الموضع النائي العالي ينظر من بعيد إلى المتزاحمين المتصارعين المتهالكين على الغنائم والأسلاب والسبايا…» ثم يضيف: «حنانيك يا أبا وائل، وكم أحبّت أذناك هذا النداء أنت في بني قومك قدوة نادرة وذكرى عاطرة ومشكاة هدًى غائبة حاضرة، أيّها القويّ في حَوْبائه، الفتيّ في هيجائه، الأبيّ في بأسائه، الوفيُّ في أصدقائه، سلامٌ عليك في الخالدين».

ويختم شيا في خاتمته: «لقد آمن علي أن الوحدة لأمّته هي الحياة والوجود والمستقبل، أمّا دونها فلا شيء يبقى أو يدوم. إنّ الأيام لتثبت أنّ عليّاً كان على حق، وأن الهدف الذي سعى إليه ومنحه عمره كان يستحق ذلك العناء رغم جحد الجاحدين وإنكار الجامدين. لقد نجح علي العليل الضعيف المُتَوحّد في كَسْرِ القيود كلّها، وشق الطريق الصحيح… فهل نخفق اليوم ونحن كثر أقوياء أصحّاء! أبا وائل؛ في ذكرى مولدك المئة، سلام عليك!


المراجع:

  1. بدران، أحمد، الاتجاه الوحدوي في فكر علي ناصر الدين، الدار التقدمية، ط 1، 2010، ص 9.
  2. بوسعيد، خطار، عصبة العمل القومي ودورها في لبنان وسورية، 1933ـ 1939، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص 127.
  3. الكبيسي باسل، حركة القوميين العرب، بيروت دار العودة، ط 2، ص 134.
  4. بوسعيد، خطار، م س، ص 129.
  5. إسماعيل، فايز، البدايات، منشورات حزب البعث العربي الاشتراكي، 1980، ص 5.
  6. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، صفحات من الفكر القومي العربي، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء، 1993، ص 28.
  7. م، ذاته، ص 29.
  8. شيّا، محمّد، م، س، شهدة من عارف النكدي، هامش ص19.
  9. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 14.
  10. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، م، س، ص46.
  11. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 367
  12. شيّا، محمّد، م، س، ص 49.
  13. شيّا، محمّد، ص 37.
  14. شيّا، محمّد،م، س، ص 37.
  15. شيّا، محمّد، م، س، ص24.
  16. نفسه، ص 23.
  17. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 5.
  18. بو سعيد، خطار، عصبة العمل القومي..، ص 71.
  19. ناصر الدين، علي، قضيّة العرب، ص 34.
  20. نفسه، ص 91ـ 92.
  21. “المجاهد علي ناصر الدين”، ص8.
  22. شيّا، محمّد، م، س، ص 56.
  23. ناصر الدين، علي، قضية العرب، ص 83.
  24. شيّا، محمّد، م، س، ص 57.
  25. ناصر الدين، هكذا كنا نكتب، ص 54.
  26. شيّا، محمّد، م، س، ص 69.
  27. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 15
  28. شيّا، محمّد، ص 79.
  29. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 18.
  30. شيّا، محمّد، ص84.
  31. . ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 278.

 

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي