شــــــاعِرَ الرّيفِ وزَهـــــر اليـــــــاسمينْ | والـــــهوى البِكْـــــرِ وَرَعْشَـــــاتِ الحنينْ | |
قُــمْ إلـــــــى الـشعْـــــــر تَبــــــوأْ سُــــــــدَّةً | أَنْـــتَ فيـهـــــــا رائـــــــدٌ للـمـحـدِثـيـــــــنْ | |
إنّمـــــــا الشـعــــــــرُ لآلِــــــــئَ صُغــتَــــــــهُ | من فتِيْتِ المِسْـــكِ فــي صِدْقٍ ولِيــــنْ | |
يستريـــــحُ السِحْــــرُ فــي ألـفــــــاظِــــــهِ | مثلـمــــــا العِطْــــرُ بِزَهْــــرِ الياسمـيــــنْ |
هذا هو فؤاد الخشن، كما عَرَفْتُهُ شخصياً، أَحَد كبارِ شعراءِ الضاد في القرن العشرين، وممّن نبغوا فتركوا آثاراً شعريّة بعدهم تدُلُ عليهم، خالدةً على مَرِّ العصور، بشهادة أكبر الشعراء اللبنانييِّن والعرب، «الأخطل الصغير»، «عمر أبو ريشة»، «الدكتور محمَّد مندور» «سليمان العيسى» وغيرهم. وفي هذه المقالة نحاول التذكير به، فلم يكن يؤتى على ذكره في وسائل الإعلام بما يتناسب مع ما أعطى من إبداع وتميُّز.
وُلِد فؤاد الخَشن يوم 13/1/1924 في بيروت، ولكنْ عندما هاجر والده إلى البرازيل عام 1926، عاد مع جدَّته ووالدته وأخيه إلى ضيعتهم الشويفات. هذا الريف الرائع الواقع بين الساحل والجبل، عرف طفولةً سعيدة، أغنت نفسه، وأَثْرَتْ مُخيّلتَهُ في سنوات عمره الأولى، وإلى أن استوى رجلاً متين الشخصيّة، لم ينفكّ إبّان تفجُّرِ موهبته، شاعراً يغرف من بحر، عن أن يسجّل ذكرياته، وأحاسيسَهُ، وافتتانه بجمال الطبيعة الريفية: «كنا نُمضي فرصَنا المدرسية، شاردين بين الكروم والضهور، تحت أشجار الصنوبر الفاتحة مظلاتها المخملية الخضراء مهسهسةً باحتكاك إبَرِها العطرية الدقيقة… أو في «وادي البير» حيث نمتّع البصر ربيعاً بالنجوم البيضاء المعلّقة قناديلَ صغيرةً على أشجار اللوز، وعقوداً على أشجار المشمش، ونسرق ما يطيب لنا من ثمار بستان العم حامد»… أمّا في مواسم قطاف الزيتون فكنّا نرافق الأهل إلى غابة الزيتون الواسعة الممتدّة بين الشّويفات والبحر، بحيرةً من الخضرة الدائمة، وهذا قبل زحف الفيل الحديدي عليها من مدينة أقفاص الإسمنت ليُردي أكثر أشجارها الدهريّة… أشجار الخير والنور والبركة… وها هو في قصيدة بعنوان «أصداء» في صفحة 36 من ديوانه، يتغنّى بالريف
كما كان يراه:
أنـــــا مــــن ريـــــفٍ علــــى تلك الرُبــــى | أســبــــــغَ الــلــــــــــهُ عـلــيـــــــه فِتَــــنَـــــــهْ | |
نَشَـــــــــرَ الضّــــــوءَ عـلــــــــى تُرْبــتـــــــــه | وبـــــأَزْهــــــــــارِ الأمـــــــــــاني زَيَّـــنَــــــــــهْ | |
أنــــــــا من أرضِ رُعَــــــــاةٍ جَـــــرَّحـــــــوا | سَحْبَــــــةَ النـــــــاي الحـنــــونِ المُحزِنةْ | |
مـــن جـــــدودٍ عصــــــروا الكرْمَ دَمـــــــاً | سَكِرتْ منــــه الـخـــوابـــــــي المدْمِنَــــةْ | |
وعلــــــى سُمْــــرِ الــــدوالـــــــي كـتـبــــــوا | شِـــــرعة الحُـبِّ وخَــطُّـــوا سُنَـنَـــــهْ |
وبعد أن عاد والده من البرازيل عام 1939 أعادَ العائلة إلى بيروت حيثُ تتلمذ في «مدرسة حوض الولاية» على يد الشيخ راشد عليوان اللغوي والشاعر. وهنا كتب أول قصيدة له باللغة الفصحى، وكان عنوانها «بلبل»، لحّنها وغنَّاها رفيقه في الصفوف الابتدائية ومطرب الإذاعة اللبنانيّة خليل عيتاني، ثم أعقبها بثانية بعنوان «ذكريات» نشرها في مجلة «المعارف» لصاحبها الشويفاتي «وديع نقولا حنَّا»، وعندما أصبح في الصفوف التكميلية، أعلنت «محطة الشرق الأدنى» من يافا، عن جائزة لأجمل قصيدة مترجمة عن الإنكليزية أو الفرنسية. فكانت المفاجأة الكبرى أنّه فاز من بين مئات الشعراء بالجائزة الأولى، بترجمته قصيدة «الخريف» للشاعر الفرنسي لامرتين، الذي عَشِقَ شِعْرَهُ، رَدْحاً من الزمن، بتأثير من زميله، الكاتب في ما بعد، محمّد عيتاني. وفي عام 1944 عندما أصبح فؤاد الخشن طالباً بدار المعلمين، راح يقرأ بِنَهَمٍ، بودلير، ورامبو، وفرلين، وفاليري، بلغتهم الأم، ويقرأ بترارك، وشلي، وبيرون، وطاغور مترجَمين إلى العربية، كما راح يكتب بعض القصائد التي كان منها قصيدة «الراقصة السوداء التي أعجبت أستاذَه في الرسم، الشيخ قيصر الجميٍّل، صاحب اللّوحات الرائعة، فرّسم لوحةً صغيرةً من وحيها وأهداها له:
نَمَّ عنها الستارْ…
طيفاً من الليلِ…
تمطَّى كلهثةٍ وتَرَقْرُقْ:
تتلوى التواءَ أفعى…
وتَنْزو تحت غيمٍ من الحرير
المُرَقَّقْ
تمسحُ الأرضَ مثلَ طيرٍ هلوعٍ
مَسَحَ الماءَ بالجَناح وحَلَّقْ
وتَمَسُّ الرُخَامَ مسّاً رفيقاً!!
مثلما اللّحنُ شاء أن تترفّق
وعلى غُلْمةِ الشفاهِ نداءٌ
رَفَّ من رِعشةِ الدماء وأَشرقْ
ثُمَّ قصيدة «إلى مُلهمتي الأولى» التي حَمَلَها بنفسهِ هذا الفنان الكبير، والوالد الروحي له، بحسب تعبيره إلى ألبير أديب ونشرها في مجلّته الهامة «الأديب» وعندما نُشِرتْ هذه القصيدة، ترجمها المستشرق البريطاني، والأستاذ في جامعة كمبريدج اللورد آربري إلى الإنكليزية، ثم اعتبرتها الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيّوسي أوّل قصيدةٍ حديثةٍ نُشِرَتْ في العالم العربي، وكان ذلك عام 1946، عام زواجهٍ من ابنة عمِّهِ الشاعرة أديل الخشن…
وفي عام 1951 كان فؤاد الخشن من مؤسّسي «أسرة الجبل الملهم» في شُلةٍ ساعدت على التغيير شكلاً ومضموناً في الأدب والشعر، بالقفز من تهويمات الرومنطيقية إلى جدِّيات الأدب الملتزم… ولقد عاشت هذه الأسرةً نحواً من سنتين… هاجر بعدها إلى فنزويلا مع زوجته هرباً من روتين الوظيفة. وفي هذا المغترَب النائي كتب قصائد قليلة، كان أهمها قصيدة حنين، التي قال نقيب الصحافة الأسبق رياض طه، في إحدى رسائله إليه، أنها أبكته… وقرأ فؤاد الخشن بإنعام شعراء أميركا اللاتينية، وإسبانيا باللغة الإسبانية، هذه اللغة التي قال عنها: إنها موسيقية، شبيهة بكرَّات الحساسين، وتغريد البلابل، وعلى ذكر الشعر وحالاته يقول: ليس لكتابته عنده ساعة معينة، وإن كانت ساعات الفجر الأولى هي ساعات الصفاء والتدفُّق، كما ليس لميلاد القصيدة مكان معيّن، فالمكتب، والعيادة، والحافلة والشارع يمكن أن تكون أماكن ولادتها غير المنتظَرة. وبعد ذلك راح يطوف في دنيا الله الواسعة، ويُدعى إلى أكثر مهرجانات الشعر العربية، وبزيارته الاتحاد السوفياتي «السابق» وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، شعر بانعطاف يشده من الغزليات والريفيَّات إلى كتابة الشعر الإنساني، والوطني، وكَرَّت حبات السُبحة بهذا النوع من الشعر وقلَّت الوجدانيات حتى نَدَرَتْ.
في عام 1966 كان للدولة اللبنانيّة التفاتها الوحيدة نحو منح جوائزها الأدبية للآثار الأدبية الصادرة عام 1965 – 1966، فكانت جائزة الشعر من نصيب ملحمته الشعرية «أدونيس وعشتروت» ثم أعقبتها جائزة أصدقاء الكتاب، عن منتخباته الشعرية التي صدرت عن دار المعارف، بمصر تحت عنوان «سنابل حزيران». وثمة بُعْدٌ آخر ينبغي ذكره عن فؤاد الخشن، وهو تضلُّعه باللغة العربية، وإتقانه الفرنسية والإسبانية، وتثقُّفُهُ الواسع في المسائل الأدبية والفكرية على اختلافها، فترى له خَوْضاً شعريّاً عبقرياً تُفاجأ به، ما يجعله جديراً بالمستوى السامي الذي بلغه، كما أنّه كان يؤكد مقدرته مراراً وفي كل أوان، على نظم الشعر المقفّى الموزون، كقصيدته إلى «الشاعر القروي» التي قيلت يوم الوفاء له من على منبر دار الطائفة الدرزية:
يـــــــا شـــــاعراً غنّـــــى بثورتـنــــــا التي | مــــــا زال يذكرهـــــا الدخيــلُ ويُكـبــــرُ | |
فــــي يوم حَمْلَتِهِ علــــى «الجبل» الذي | لا يُستبــــــاحُ لــغــــــاصـــب أو يـقـهــــــرُ | |
إذ هُوجم الجيشُ المقــيـــــــمُ بسهـلِـــهِ | والفجـرُ مفـتـــوحُ المــــــراوحِ أشـقــــــرُ | |
فـــــإذا الجــنـــــودُ مسمَّرون لـــذعـــــره | بُكْمٌ… وفــرســـــانُ الــــدروز تزمـجـــرُ | |
وإذا بمــغـــــــوارٍ يحـمـحـــــــمُ تحــتَــــــــهُ | ويَخِبُّ في الـوحــــلِ المخضَّـــب أبجرُ | |
يهــوي علــــى تلك الخصور… يقدُّهــا | ويكُــــرُّ كــــالأســــد الغـضــــوب ويـــزأرُ | |
وعلى المـنـــــاكـــب من ضـــراوةِ سيفه | تُــلــــــوى مُغَلَّـقـــــةُ الــــــرؤوس وتُبـتـــــرُ |
وهكذا كان يكتبُ الشعر بكل معانيه، وكل أشكاله، مُقفّىً، وذا تفعيلة وحرّاً وموشَّحاً… فكيف يكون النبوغ الساطع. إن لم يكن هكذا وبهذه السويّة؟ زد على ذلك تبحُّره على طريقه المتصوّفين في العِلمين المادي والروحاني، كابن عربي، والسهروردي والحلاج، والفارابي.. فمراقي، العرفان والتوحيد.
كما في قصائده: «توحيد»، «شهقات في قنديل الشيخ سلمان»، و»صلوات الشيخ الأزرق»:
شيخي المتعبِّدُ ذو الثوبِ الأزرقْ
للعقل الكُليّ نذور
يفنى، صلواتٍ للمولى
ودعاءً ينداح غَمامَ بَخُورْ
لإلهٍ لا تعرف عيناه الغفوة
شيخي المتنسكُ يقْهَرُ في الخلوات النفسْ
والطينَ الهاجسَ… ثعبانَ الأمسْ
يتبتَّلُ للوجه الأبقى، بفُتات بالكِسراتْ
من خبز يُنْبِتُ أشجار العَفَنِ
مخبوءٌ تحت حصيرٍ رطبٍ
ويَبُلُّ الغُلَّةَ بالقطراتْ
من إبريق أعشبَ من أنفاسِ الزمن
ليصفّي الجسم الخاطئَ من أوشال الذّنب
فؤاد الخشن، يقول فيه المتفقّه في عِلم التّوحيد، الدكتور سامي مكارم: «إنّه يُنْشِدُ الحقيقة، وفي نشدانه لها، ينشدها أغنية أحدُ جناحيها خيال يطير به إلى خلوات الدُنوّ على حد تعبير الحلاج، وجناحها الثاني حبٌ هو بَدوٌ لعشقٍ إلهي تجلّى على قلب الشاعر لألاءً، هو سر الحياة الحق. وحتى نُدرك أكثر ماهية شعر فؤاد الخشن، ونبوغه فيه، فهو يتحلَّى على حد قول «عمر أبو ريشة»: بأصالةٍ ورقَّةٍ هما حِليَةُ الشعر ومطمحُ كلّ شاعر، إنّه يعرف كيف يُجنِّح الحرف ويُطلقه في دُنيا الحب والجمال، ليعود إلينا منه مُثقَلاً بالعطر والأنداء… هذا قليل من كثير عنه… فهل نكون أوفياءَ بَرَرةً به، فنُخَلِّدَه بما يستحقّ، على الأقل في مدينته الشّويفات أو في الوطن العربي الذي آمن به ودعا إلى نهضته؟