فارس بك الخوري
فارس الاستقلال والعروبة والوحدة الوطنية
ابن الكفير المسيحي رأس الحكومة السورية
وأحبه المسلمون لدرجة تعيينه وزيراً للأوقاف
إحتجت فرنسا بحماية المسيحيين لإدامة احتلالها لسوريا
فهرع مع رفاق إلى الجامع الأموي معلناً نحن مسلمون فاذهبوا عنا
فارس بك الخوري أشهر شخصية مسيحية في التاريخ العربي المعاصر وأكثر زعيم سوري شعبية، وطنيٌّ صلب جعل من وقفاته التاريخية حديثاً للصغير والكبير ومادة دسمة لكاتبي التاريخ السوري والعربي. اشتهر بشخصيته المحببة وحس الطرفة وسرعة الخاطر بحيث تسابقت أرقى البرلمانات والصالونات السياسية والأدبية على استضافته والتمتع بحضوره وطيب مجالسته. قليل من أبناء جيلنا المعاصر تعرفوا على هذا العملاق العربي وعلى حياته الحافلة بالنضالات والمواقف المجيدة. لذلك، ومن أجل التعريف بهذه الشخصية الكبيرة وأحد مؤسسي تاريخنا المضيء نعرض في ما يلي لسيرة حياة فارس بك الخوري على أن ننتقل في الأعداد التالية من “الضحى” للإضاءة على شخصيات تاريخية لبنانية وعربية تركت بصماتها على تاريخ المنطقة وعلى مسارها في الماضي والحاضر.
فارس الخوري: حياة حافلة
• في عام 1908 انتسب لجمعية الاتحاد والترقي، أول التزام له بالسياسة.
• في 1914 عيّن نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني.
• في سنة 1916 سجنه جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، ثم برّئ ونفي إلى اسطنبول.
• في 1919، عاد إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن الحكم العثماني.
• عيّن عضواً في مجلس الشورى الذي أسسه الشريف فيصل وتولى وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال عهد الملك.
• أسس معهد الحقوق العربي، وكان أحد أساتذته وشارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.
• مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا في 1920، انتقل الخوري للعمل كمحام ومدرس في معهد الحقوق.
• أسس مع عبد الرحمن الشهبندر حزب الشعب رداً على تعسف السلطة الفرنسية.
• اعتقل في 1925 مع قيام الثورة الكبرى، ونفي إلى معتقل جزيرة أرواد، ثم نفي إلى خارج سوريا.
• شارك في تأسيس الكتلة الوطنية التي قادت حركة المطالبة بإنهاء الانتداب واستقلال سوريا
• في عام 1936، بعد الإضراب الستيني الذي عمّ البلاد، شارك كنائب لرئيس الوفد الذي فاوض باريس لإنهاء الانتداب.
• انتخب رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936، ومرة ثانية في 1943.
• تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري، وهو المسيحي البروتستانتي، فكان لذلك صدى عميق داخل سوريا وخارجها.
• عين وزيراً للمعارف والداخلية في 1944.
• تولى وزارة الأوقاف الإسلامية، وحين اعترض البعض، دافعت عنه الكتلة الإسلامية في المجلس، إذ قالت على لسان نائبها عبد الحميد الطباع: “إننا نؤمِّنك فارس الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا”.
• ترأس الخوري الوفد السوري بإسم سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة، لبحث جلاء الفرنسيين.
• مثّل سوريا في مجلس الأمن الدولي (1947 – 1948)، ثم انتخب رئيساً له في آب 1947، وكان أول ممثل دائم لسورية في الأمم المتحدة.
• عام 1962 توفاه الله ودفن في دمشق.
فارس بك الخوري من الرجال الذين لا يجود التاريخ بمثلهم إلا نادراً شغل الناس وملأ الدنيا بمواقفه ونضالاته ومبادراته فهو شخص لم يسكت على ظلم ولم يهدأ له بال منذ شبابه وهو يعمل من أجل استقلال سوريا والعرب ومن أجل الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة، شرّع كقانوني لامع الكثير من القوانين والقرارات لكلّ من دولتي لبنان وسوريا ، واقتبست تلك في العديد من البلدان العربية والأفريقية.
ولد في الكفير، إحدى قرى وادي التيم في لبنان عام 1873، وتعلّم في المدرسة الإنجيلية في صيدا. سأله يوماً مديرها القسيس يواكيم الرّاسي والد الأديب سلام الراسي: يا فارس إذا جمعنا 5+3+2 كم يكون المجموع؟ وكان في الثانية عشرة من عمره فأجاب على الفور: ليس عشرة بل حسب ما تقتضي الأمور. ضحك المدير وقال: استبشروا به سياسياً كبيراً.
مفاوض الاستقلال السوري
بدأ حياته السياسية في العام 1914 عندما عيّنته السلطات العثمانية مندوباً عن دمشق في مجلس المبعوثان وتقلّب في مناصب عديدة (راجع الإطار) لكن أبرز المهام التي تسلمها كانت رئاسة مجلس النواب السوري ثم رئاسة الحكومة السورية ثم تمثيله لسوريا في مجلس الأمن وتولّيه المفاوضات التي انتهت بنيلها الاستقلال، وفي تلك الفترة انتخب عام 1947 رئيساً لمجلس الأمن ثم عين في العام 1954 رئيساً للوزارة السورية للمرة الثانية.
بعد أن أصبح نائباً في مجلس المبعوثان التركي عام 1914 عن مسيحيي سوريا كانت له صولات وجولات، ومن مواقفه المشهودة أن أحد المسؤولين الأتراك (من الذين كانوا تحت تأثير الأفكار العلمانية التي راجت في تركيا بتشجيع من الحركة الماسونية عمل بعد عودته من أوروبا، على إصدار قانون مخالف لجوهر الأحكام الشرعية الإسلامية، فقامـــت المظاهــــرات والاحتجاجات أمام البرلمان، لهذا تشــكلت لجنة من النواب يرأســها نائب دمشق محمد فوزي العظم ومقرّرها فارس بك الخوري لتصحيح الخطأ، وأثناء إحدى الجلسات بهذا الشأن وقف الأخير وتكلّم لأكثر من ساعة وباللّغة التركية ذاتها، إذ تمكّن خلال شهر واحد من إتقانها، وبعد الانتهاء من تجريح القانون وتبيان مخالفته مع الشرع الإسلامي هرع نحوه النائب الشيخ أحمد أفندي التركي فخلع عن رأسه العمامة ووضعها فوق رأسه قائلاً بالتركية: “هذه العمامة تليق بكم أكثر ما تليق بممثلي هذه الأمة من الطوائف الإسلامية”.
بعد ذلك، لمع إسم فارس بك الخوري في القانون العام، كعلم من أعلامه ووزيراً للعدل، واستاذاً للقانون في الجامعة السورية، وعندما برزت قضية لواء الإسكندرون في الثلاثينيات من القرن الماضي، وما اتخذ من إجراءات من قبل السلطة الفرنسية والتركية ثم كان ضمّها إلى الأخيرة ، كما حصل في ما بعد، أثناء ذلك قدم بحثاً تاريخياً في البرلمان السوري ونُشر عبر الصحف آنذاك مفنداً لما لهذا اللواء من أهمية إذ إنه من قلب الأراضي السورية كون أبناءه وقاطنيه عرباً يرتبطون بجيرانهم في حلب وسواها بصلة القربى والنسب، وكذلك ما للكرسي الرسولي الأنطاكي من مكانةٍ ورمزٍ عند جميع الطوائف المسيحية العربية، ومع هذا صمّت فرنسا آذانها عن الحقيقة ومضت في سلخ المقاطعة الساحلية المهمة لتجارة سوريا وموقعها الاستراتيجي وضمّتها إلى تركيا الأتاتوركية.


ردّ قاس على الجنرال غورو
بعد انتصار الجنرال غورو الفرنسي عام 1920 بجيشه الجرار على البطل السوري يوسف العظمة وزير دفاع الحكومة العربية في حينه واستشهاده في تلك المعركة، كان الوزير الأول والأخير الذي يستشهد في ساحات المعارك، مع العلم أنه لم يكن عربياً بل كردياً، وقد مثّل بعمله هذا دور جدّه الأول السلطان صلاح الدين. وبعد تقدم الجنرال المذكور غورو، وحيال وصوله إلى دمشق، وقف أمام قبر البطل صلاح الدين وخاطبه بصلف وغرور (مذكراً بالحملات الصليبية) قائلاً: “ها قد عدنا من جديد يا صلاح الدين”، ثم دعا وجهاء دمشق ومن بقي من حكومة الملك فيصل إلى وليمة عشاء في قصر المهاجرين ليقف بعد العشاء قائلاً ومتهكماً: “هذا هو قصر مليككم”.
سكت الجميع ولم يتجرأ أحد على الإجابة، غير إن الوزير آنذاك في حكومة الملك فيصل فارس الخوري وقف وأجاب قائلاً: “نعم، هذا هو قصر مليكنا فيصل وقد بناه سابقاً أحد الولاة الأتراك ويُدعى أسعد العظم ثم تركه وعاد إلى بلاده، ثم أتى بعده السّفاح جمال باشا وأيضاً سكنه ثم تركه وعاد إلى بلاده، وكذلك الجنرال اللّنبي الإنكليزي سكنه أيضاً ثم تركه وعاد إلى بلاده، وأيضاً أنتم تسكنونه حالياً وسيأتي وقت وستتركونه وتعودون إلى بلادكم، فالقصر باقٍ وأهله باقون” .
إعتقد الجميع بأن الوزير فارس الخوري سيكون مصيره السجن، غير إن المستعمر الذي صدم بهذه الجرأة من مواطن سوري مسيحي لم يجد أيّ مبرر قانوني لسجنه وهكذا بقي طليقاً …
عام 1945 كان من جملة الوفد السوري لتأسيس الجامعة العربية، ويوماً رغب أن يستبدل طربوشه القديم بطربوش جديد، وبعد أن جال نحو ساعتين في شوارع القاهرة بحثاً عن طربوش يناسب قياس رأسه الكبير، حتى عثر في أحد المحال، غير إن صاحب المحل بعد أن علم أنه جال على جميع المحال لهذا طلب ثمنه أضعاف سعره الحقيقي قائلاً: لم تجد ما يناسب قياس رأسكم سوى في دكّاني. ضحك الرئيس الخوري على الفور وقال: صحيح ذلك لكن ثق أنكم لو فتشتم العالم العربي بأكمله وليس في مصر فقط فلن تجدوا رأساً أكبر من هذا الرأس..
إبان التفاوض مع الدولة المستعمرة فرنسا كي تمنح الإستقلال للدول العربية أخذت الأخيرة تتذرع بحجج واهية ومنها أنها لا تغادر سوريا خوفاً على المسيحيين من أخوتهم المسلمين، مما حمل الرئيس الخوري إلى أن يجمع نحو عشرين رجل دين مسيحي مع جمهرة من أتباعهم ويذهب بهم إلى بهو الجامع الأموي، وكان نهار جمعة يغصّ بالمصلين، وأمام أعين وسائل الإعلام والسفراء الأجانب وقف وقال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإذا كانت فرنسا خائفة على المسيحيين من أخوتهم المسلمين فنحن منذ الآن وصاعداً أصبحنا مسلمين، وما عليها سوى أن تتركنا وشأننا”.
رئيساً لمجلس الأمن
عام 1946 أرسل مندوباً للحكومة السورية إلى الأمم المتحدة في نيويورك للتفاوض بشأن جلاء الجيوش الفرنسية عن الأراضي السورية..أثناء تلك المفاوضات وصل فارس الخوري إلى قاعة المجلس فوجد كرسي الرئاسة خالية فجلس قصداً، وكان رئيس المجلس آنذاك المندوب الفرنسي، وبعد أن وصل الأخير استشاط غضباً وقال: حقاً إنها وقاحة، كيف تجلسون على مقعدي وأنتم تعلمون ذلك؟؟
ضحك المندوب السوري فارس الخوري وقال: لم تسلني كم أصبح لي جالسٌ على هذه الكرسي، إذ ليس أكثر من عشر دقائق، استكثرتم ذلك ولم يتبادر إلى ذهنكم أنكم تجلسون على صدورنا لأكثر من عشرين عاماً..
عام 1947 انتخب رئيساً لمجلس الأمن في نيويورك إبان الحرب العربية الإسرائيلية، ويوماً أتاه أحد الزعماء العرب آنذاك قائلا:ً “يا حضرة الرئيس ما رأيكم بالهدنة التي تطلبها إسرائيل مع الجيوش العربية التي تقاتلها“؟؟
انتفض فارس بك الخوري قائلاً: لا، لا، لا، ثلاث مرات… أيها العرب لا توقفوا القتال مطلقاً فهذه خدعة حربية كي تجمع قواها العصابات الإسرائيلية وتستقدم سلاحاً جديداً.. وهكذا حصل في ما بعد.




حذر من خطط إسرائيل لتمزيق المنطقة
ويوماً يلتقي الأديب السوري الكبير محمود الجابري بالرئيس الإسرائيلي دافيد بن غوريون في أوروبا فخاطبه قائلاً: لنفترض أنكم حققتم حلمكم بقيام دولة إسرائيل، فهل باستطاعتكم إبقاءها حية بين محيط عربي هائل يكرهكم ويعتبركم جسماً دخيلاً؟
أجابه: في أيدينا سلاح سنستعمله وهو كفيل ببقائنا.
وقد أعاد الجابري الحديث أمام فارس الخوري مستفسراً عن ما يعنيه بن غوريون بـ “السلاح” الذي سيضمن بقاء إسرائيل وربما ظن أن أول رئيس حكومة للكيان الصهيوني كان يلمح إلى سلاح حربي متفوق، لكن فارس الخوري أجابه على الفور: “إنه سلاح التفرقة يا أخي وعلى مبدأ فرّق تسُد كما هو الحال اليوم بعد أن تشرذم العرب فرقاً وآحاداً ولم يبق أحد يفكر بالقضية عملياً وليس ادعاء ونفاقاً”.
كان فارس بك الخوري على صداقة متينة مع المناضل العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان حيث كان للأخير دور كبير في الإفراج عنه وعن رفاقه الأبطال بعد اعتقالهم من قبل السلطات الفرنسية وسجنهم في جزيرة أرواد عام 1932، وبقي إلى آخر لحظة في حياته يقول إن الأمير شكيب أرسلان أقرب الناس إلى قلبه، وتؤكد ذلك حفيدته الأديبة الكبيرة كوليت خوري قائلة إنه كان يسافر إلى جنيف لرؤية الأمير شكيب وقضاء بعض الوقت معه.
وأيضاً صداقته مع الوجيه الكبير سليم بك نوفل ممثل الدروز عن وادي التيم في دمشق إبان الحكم العثماني، وكان لهذا التعاون أن أبعد شبح الدمار والحريق لبلدة الكفير عام 1925. وأيضاً وأيضاً صداقته مع مشايخ البياضة، وهذه رسالة وجدتها عند الشيخ غالب قيس تؤكد صحة ذلك وهي مرفقة مع هذا المقال.
في النهاية لا يسعنا في هذا البحث الجليل إلا أن نشير إلى قول للأديب الكبير ظافر القاسم إذ يقول: “ إن فارس الخوري وليد القرون ولم يكن يشبهه أحد وقد تخطى قروناً، ولا يرزق العالم العربي بمن يماثله حقاً .. إنه كان رجلاً بدولة ودولة برجل”.