الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

فضائل من سورة يوسف

المُقَدَّمَة

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، سبحانه لا إله إلَّا هو، أحمده وأشكره، وأصلِّي على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه الطَّيِّبين.

أمّا بعد فإنَّ الله / خلق الإنسان وميَّزه بالعقل ليختار طريق الفضيلة لتوصله إلى برِّ الأمان. ولمّا كانت معرفة الفضائل والعمل بها هما الحجر الأساس في نجاح الفرد والمجتمع، والطَّريق الموصل إلى الفردوس الأعلى، كان لا بدَّ من تسليط الضّوء على الفضائل لبيان أهمِّيَّتها وتأثيراتها.

فالمَيْدان الأوسع لاقتباس هذه الفضائل وتَعلُّمِها هو القصص الواردة في الذّكر الحكيم،المعقودة بالفضائل، الزاخرة بالحِكَم والمواعظ، وفي مقدّمة ذلك ما وصفه تعالى بأحسن القَصص، فكانت كذلك، إذ احتوت على آيات بيّنات وحِكَم ومواعظ واضحات، أظهرت الفضيلة بأشكال مختلفة وظروف مُنوّعة، فكانت (الفضيلة) سيّدة الموقف في حلّ ألغاز القصّة وإعادة شمل العائلة والإخوة، والوصول بذلك المجتمع المصري القديم إلى برّ الأمان في الدّنيا والدّين.

في هذا البحث سنقوم بسرد مُختصر لقصّة نبيّ الله يوسف بن يعقوب، ثمّ نجمع ما تيسّر من فضائل وحِكم وعِبَر وردت في آيات السّورة الكريمة، فنعرّفها ونحلِّل نتائجها، مُستخلصين منها دروساً نستفيد منها في حياتنا ومجتمعنا، والله وليُّ التوفيق.

مختصر قصّة نبيّ اللّه يوسف(ع)

في أرض فلسطين عاش يوسف(ع) وأخوته الأحد عشر في كَنَف والدهم النبي يعقوب حفيد إبراهيم الخليل، وذات ليلة قصّ يوسف(ع) على أبيه رؤياه الغريبة قائلا: ﴿… يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف، 4)، نصح الأب ولده ألّا يُخْبر أخوته برؤياه خوفاً من كيدهم، ولعلمهم بمحبَّة والدهم العظيمة ليوسف(ع). إلّا أنّ الحسد الْمُكمِن في نفوس الإخوة جعلهم يتآمرون على يوسف(ع) ويأخذونه بعيداً عن أبيه ويرمونه وسط الجبِّ ويرجعون إلى أبيهم قائلين إنَّ ذئباً قد افترسه. لم تنطوِ الحيلة على الوالد المفجوع، لكنّه سلّم أمره إلى الله /صابراً خاشعا متوكّلاً.

من وحشة الجبّ إلى قصر عزيز مصر، مُكرَّماً مُعزّزاً إلى أن صار فتيَّاً حيث أنعم الله عليه بالحكمة والعلم وجمال الخلقة ما جعله فريد أهل زمانه. كانت إحدى هذه الإنعام سببا لابتلاء كبير امتحنه الله به، إذ أُعجبت امرأة العزيز ببهائه وحسن صورته، فلجأت إلى أساليب مختلفة لإغوائه والإيقاع به، لكنّه أعرض عنها مُعتصماً بالله، فكان مصيره السّجن لسنوات عديدة.

في السّجن أخذ يوسف(ع) يدعو إلى توحيد الله /، ويذمُّ عبادة ما سواه ويُصَغِّر أمر الأصنام والأوثان، فاكتسب ثقة المساجين خصوصاً بعد تفسير رؤياهم وتحقُّقها. جاءه طلبٌ من الملك بتأويل رؤيا له، فأُعجِب بما قاله يوسف(ع) وما قدّمه من خطط لتفادي كارثة طبيعيّة تَنبَّأ بوقوعها من خلال تلك الرؤيا. عندها أمر الملك بخروج يوسف(ع) من السِّجن معلنا براءته ممّا نُسب إليه، مُسَلّماً إيّاه زمام الأمور ليكون كما قال أميناً حكيماً.

أصبح يوسف(ع) ذا مكانة عالية عند الملك بعد ما رأى من براعته ونزاهته، فجعله أميناً على خزائنه مُتصرِّفاً في أمواله، ومرّت السّنون السَّبع الخِصاب وبدأت سنوات الجدْب، وعمَّ القحطُ ووصلَ بلاد كنعان (فلسطين) حيث النَّبي يعقوب(ع) وأولاده. وجاء إخوَةُ يوسف(ع) إلى الدِّيار المصرية يمتارون طعامًا، فَدخلوا عليه فَعرَفَهم وهم لَه منكِرون،فأعطاهم حِصَّتهم من الْمُؤَن واشترط عليهم أن يأتوا في المرّة القادمة مع أخيهم الصّغير. وهكذا عادوا إلى مصر مرّةً أُخرى هم وأخوهم بعد أن عاهدوا أباهم على رعايته، فأخذوا نصيبهم من الكيل وشرعوا بالعودة إلى ديارهم، فأوقفهم المأذون مُتَّهِما إيّاهم بِسَرِقة صَاع الملك، وعند تفتيش أوعيتهم وُجِد الصَّاع في مَتاع أخيهم، فبقي في مصر مُحتَجزاً.

لم يكن النبي يعقوب(ع) قد نسي ولده يوسف(ع) أو سلاه، وعندما جاء أبناؤه بخبر احتجاز أخيهم ازدادت حرقته واشتعل قلبه حزناً، وطلب من أولاده العودة إلى مصر لاقتفاء أثر ابنيه المفقودَيْن. وفور دخولهم على يوسف(ع)، بادرهم بالسؤال عن فعلتهم بأخيهم يوسف، فأدركوا على الفور أنّ الذي يخاطبهم هو يوسف، فاعترفوا بذنبهم وأقرُّوا بأنَّهم أساؤوا إليه وأخطؤوا، فغفر ذنبهم وسامحهم على فعلتهم،وأرسل في طلب أبَوَيه وأجلسهم على العرش حيث سجدوا له جميعا. وهكذا اجتمع شمل آل يعقوب بعد فراق طويل وتحقَّقت رؤيا يوسف التي رآها في البداية، إذ إنّ الأحدَ عشر كوكبا هم أخوته والشّمس والقمر هما أبواه.

إنّ الناظر في تفاصيل أحداث القصة يجد فيها الكثير من الخيرات البارزة من تصرّفات النّبيَّين الكريمَين يعقوب وابنه يوسف(ع)، ومن هنا كان لا بدّ من الإضاءة على هذه الفضائل الكريمة والسّعي إلى العمل بها، لتكون معراجاً لنا في الوصول إلى رضا الله/. وسنعتمد اسم الفضيلة ليكون عنوانا لكلّ قسم من هذا البحث، فنقوم بتعريف الفضيلة أولاً ثم نذكرها كما وردت في الآيات الكريمة، ثم نشرحها ونحلّلها مستخرجين منها ما استطعنا من دروس وعِبَر.

التَّوحيد

قال عزَّ وجل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة،163). فالتَّوحيد هو: «هو اعتقاد الوحدة لله تعالى والإقرار بها»(١)، وقيل هو: «إفراد الموحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحَدِيَّته إنَّه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل»(٢).

إنَّ التوحيد أفضل عطيّة يمنُّ بها الله تعالى على عباده الصّالحين، لأنَّ من اعتقد بوجود الله تعالى ونزّهه عن صفات الخلق والعبيد، وعمل بمواجب الأوامر والنواهي، فاز بالثّواب الأبديّ. وقد رأينا نبيَّنا يوسف موحِّداً مُصدِّقا بالله الواحد الأحد، على خُطى آبائه وأجداده، كيف لا وهو المسمّى صِدّيقاً.

تنتشر معاني التّوحيد في سورة يوسف في مواضع كثيرة منها:

 توحيد الأسماء والصّفات، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف، 6) ، وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (يوسف، 53)، و ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، 92). فهذه الأسماء والصفات التي ذكرها تعالى، هي بعض ممّا اثبته لنفسه ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا …﴾ (الأعراف،180)، وهو بالحقيقة منزَّهٌ عن الأسماء والصِّفات.

توحيد الالوهية: كانت دعوة يوسف إلى توحيد الإله الواحد الحقّ، وخلْع عبادة الأوثان المتعدِّدة، دلالةً على إقراره بألوهيّة الباري تعالى وأنّه واحد في ذاته لا شريك له. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40)، وكذلك قوله بعد اجتماع شمل آل يعقوب: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف، 108).

توحيد الرّبوبيّة: قال تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فكان توحيد يوسف جليَّا بأنَّه أَفْرَدَ الله سبحانه بأفعاله فهو وحده الخالق الفاطر وهو المحيي المميت.

إنّ هذه الفضيلة التي سار عليها نبي الله يوسف(ع) كانت سببا لنجاته في كلّ المواقف العصيبة، بل كان توحيده يغذِّي في نفسه الفضائل وينمّيها فتنشط به ويقوى بها. فالتّوحيد هو أصل الفضائل وجوهرها، وهو الدَّافع القويُّ الّذي عصمَ يوسف من رذيلة الفاحشة، والبلسم الشّافي له عند دخوله السّجن، حيث استأنس بخالقه تعالى، وكان سجنه فرصة استغلَّها في الدّعوة إلى التّوحيد. وباختصار يمكن القول: إنّ سورة يوسف تدور حول قضية جوهرية هي التوحيد، إذ استطاع هذا النبي المرسَل أن ينقل أهل مصر من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام إلى نور التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد.

الصِّدق

لعلّ أكثر الفضائل ارتباطاً بالنّبي يوسف هي فضيلة الصِّدق، ولأجل صدقه في جميع أقواله وأفعاله وأحواله تسمَّى صدّيقا. وفي مضمون سورة يوسف الكثير من الأحداث والعبارات التي تدلُّ على ذلك. فالصّدق هو «الإخبار عن الشّيء على ما هو عليه»(٣). وقيل هو: «استواء السّر والعلانية»، والصِّدِّيق «مَنْ صدَقَ في جميع أقواله وأفعاله وأحواله»، وعرّف بعض العلماءُ الصّدقَ بأنّه: «صحَّة التّوحيد مع القصد»، وقيل: «حقيقة الصِّدق أن تَصْدق في موطن لا ينجِّيك منه إلَّا الكذب»(٤).
فيوسف الصّدّيق، إضافة إلى قوله الصّدق في كلّ ما ينطق به، فإنّ الصّدق قد تجلّى بوضوح في رؤياه الخاصّة، وفي تفسيره لرؤيا غيره، وعندما استفتاه السّجينان عن تأويل رؤياهما قال: ﴿يَاصَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي سيِّدَه خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رأْسِهِ﴾ (يوسف،41)، وصحَّ تأويله وصدق، فنجا أحدهم وصُلِب الآخر.

ويمكننا القول إنّ تأويل الرؤيا كانت اختباراً حقيقيّاً أثبت صدقه لأنّ مُفسّري الأحلام بمعظمهم لا يَصْدُقون، إلّا أنَّ الأمر مختلف مع نبيٍّ خَصَّه الله بالعلم والمعرفة وكشف له من الغيب ما لم يكشفه لعموم البشر.

يمكن القول إنّ صدقه في تأويل رؤيا السَّجينَين شكّل نقطة مفصليّة في أحداث حياته، فحين جاءت الملك رؤيا غريبة وعجزَ الجميع عن تأويلها، تذكّره السَّجين الذي صَدّقَ تأويل يوسف في رؤياه ونجا، فأخبر الملك بأمره، وكان ما كان من استحسان الملك لتأويل يوسف، وخروجه من السّجن بعد أن أقرّت النّسوة ببراءته،
﴿… قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف،51)، فقد اعترفت بصدقه وهي التي اتّهمته بالخيانة، فخرج من السّجن عزيزاً وعلى خزائن الملِك أميناً، فصحّ قول الحكماء إنّ صِدق اللِّسان أوّل السّعادة(٥).

وبالصِّدق يكتسب المرء ثقة الآخرين، فحين اعترفت امرأة العزيز بصدقه، ازدادت ثقة الملك به وبنزاهته وملَّكه خزائنه، بعكس أخوة يوسف الذين لم يَصدُقوا فخسروا ثقة أبيهم، ولم يسمح لهم باصطحاب بنيامين معهم بعد ذلك إلّا بعد إبرام العهود عليهم حيث قال ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّه…﴾ (يوسف،66).

وكانت شهرته بالصّدق دلالة على صدق سريرته، فكما كان صادقا في أقواله وأفعاله كذلك كان صادقا مع ربّه، وهذا هو الصِّدق الحقيقي الذي تجلّى في صحَّة توحيده فأخلص لله تعالى في عباداته ومعاملاته.

الإحسان

وَرَدَ في الحديث المشهور عن الرسول محمّد(ص) في تعريف الإحسان قوله: ﴿أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراه فإن لم تكُن تراه فإنَّه يراك﴾(٦).

الإحسان فضيلة محوريَّة نجدها في سورة يوسف في غير موضع، وهي من الصّفات التي تحلّى بها الصِّدِّيق يوسف. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،56). وفي موضع آخر: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،78). وقد أمر الله تعالى بالإحسان بقوله: ﴿… وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة، 195).

والْمُحسِنُ كما ورد في تعريف الرسول(ص) هو مَن يعبُد الله ويستشعر حضوره دائم الأوقات وفي شتَّى الأحوال، وَمَن كانت هذه صفته لا يُقدِمُ على فعلٍ يغضِبُه تعالى، وقد رأينا كيف استعاذ يوسف بربّه إذ قال لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ (يوسف، 23)، قالها بنبرات المحسن المراقِب المستشعر وجود الله تعالى وهذا هو الإحسان في العبادة. ولعلَّ ما وصل إليه من فضل وعلم وعلوِّ درجة كان جزاء إحسانه، لقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،22).

أمَّا إحسانه في المعاملة مع النّاس فقد ظهر جليًّا في قيامه بدعوة النّاس إلى التّوحيد وهو أجَلُّ طرُق الإحسان إلى الآخرين وأتمُّها نفعاً، وكان في نصيحته للملك حين أوَّل رؤياه، وفي إطعامه طالبي الرِّزق ممّن حلَّ بهم القحط والجوع، إحساناً كبيراً، ونتيجة هذا الإحسان اجتمع شمله بأهله من جديد، إذ حين ذاع صيته في البلاد إنه يُحسِن إلى من يأتيه وصل الخبر إلى أهله فجاؤوه يبتغون الميرة. ولعلَّ معاملته لأخوته أيضا أدلّ دليل على إحسانه وكرمه، فعندما كشف لهم عن هويَّته بعد غيابٍ طويلٍ ومعاناةٍ شديدةٍ كانوا هم سببها، قال لهم: ﴿…لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف،92). فهو لن يثرِّب عليهم أو يعيَّرهم بذنبهم، وبهذا القول أعطاهم الأمان ولم ينتقم منهم أو يقاصصهم على ما ارتكبوه رغم مكانته وقدرته، ثم ذكر لهم سجنه ولم يذكر الجبَّ حين قال: ﴿…إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي…﴾ (يوسف، 100)، رغم أنّ الجبَّ كان أشدّ خطرا وأكثر إيلاما له من السّجن، لكنَّه لم يذكّرهم به ونسب الشّرَّ كلَّه إلى الشَّيطان كرماً منه ودلالة على إحسانه وشهامته.

أحسن النّبيّ يوسف في عبادة الله حين استشعر قربه فابتعد عن الخطايا، وعمّ إحسانه البلاد والعباد حين بذل ما استطاع من النَّفع والخير والنَّصيحة.

النَّصيحة

كان للنَّصيحة دور فعّال في أحداث هذه القصة ومجرياتها، وقد عرفها أحدهم بأنها «الدُّعاء إلى ما فيه الصّلاح، والنّهي عمّا فيه الفساد»(٧).

وقد تجلَّت النصيحة في قصّة يوسف في مواضع مختلفة، إذ بعد رؤيا يوسف، نصح الأب ابنه بعدم الكشف عن حاله لإخوته، بقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يوسف، 5). وجاءت نصيحته هذه بعد عِلْمه بما يدور في خَلَد أولاده وما يضمرونه، فكان من الطبيعي أن يلجأ الأب الخائف على ولده إلى نصيحته كوسيلة لحمايته والذَّود عنه.

ثم كانت نصيحة يعقوب لأولاده عند خروجهم إلى مصر طلباً للكيل والمؤونة، دلالة على حرصه عليهم ومحاولةً منه لإبعاد الخطر عنهم، فقال: ﴿… يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.(يوسف، 67). ثم نرى كيف أنَّ يوسف في سجنه يبادر إلى النّصيحة فيدعو المساجين من هذا المكان الموحش إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشِّرك، بقوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40). وإذا كانت النصيحة كما عرّفناها دعاءً إلى الصَّلاح ونهياً عن الفساد، فيكون يوسف قد ارتقى بنصيحته هذه إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان، به يحقِّق سعادته في الدنيا وفوزه في الآخرة، وفي النَّهي عن الشرك يكون خلاص المرء من فسادٍ في حياته وعقابٍ يوم حسابه.

ثمّ جاءت نصيحة يوسف للملك بقوله ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف،47)، لتكون على جانب كبير من الأهميّة، إذ أنقذت مصر وجوارها من القحط الكبير الذي حلّ بالبلاد، فرغم أنّ الجوع والقحط انتشر وعمَّ الأصقاع المجاورة إلَّا أنَّ نصيحة يوسف خلّصت مصر من هذه الأزمة، بل كانت البلد المنقذ للجوار.

العفَّة

العفّة هي: «ضبط النفس عن الشَّهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط، واجتناب السَّرف والتّقصير في جميع الملذات وقصد الاعتدال…»(٨).

إنَّ من يقرأ سورة يوسف يدرك أنَّ نجاته من مخالب الشّهوة والخديعة لم يكن أمراً عاديّاً بسيطاً، فلولا قدرته على ضبط النفس، واستعانته بالله، لما نجا منها مع تهيّؤ كلّ الأسباب المُسهِّلة لها: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ (يوسف،23).

تجلّت العفَّة في قصة يوسف بأبهى أشكالها، فهي حِصن يوسف الحصين الذي به خَلص من هوى النَّفس ومن الفتنة، فقد عفَّ نفسه عن إغواء امرأة العزيز حين راودته عن نفسه: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ…﴾ (يوسف،23)، ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَم…﴾ (يوسف،32)، وقد رأينا أنّ هذه المرأة صاحبة مركز وسلطة فهي زوجة الحاكم، ومكانتها هذه تجعل الجميع في خدمتها وتحت طاعتها وربَّما يتمنَّوْن قربها فلا يرفضون لها أمرا، لكنَّ يوسف لم يأبه لهذا كلّه، ولم يستجب لطلبها المخالف لأمر الله، ورغم تهديدها له بالسّجن، قَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف،33)، عرف يوسف أنّ مصيره عذاب السّجن والمرارة، إلّا أنَّه اختار السّجن على مُواقَعَة المحذور وهو الفاحشة وهوى النَّفْس، وفضَّل العذاب الحسِّي الذي مهما طال فلا بدَّ له من نهاية وآثر رضى ربّ العالمين على رضى المخلوقين.

أصبح يوسف، وبفضل نزاهته وبراءته، ذا مكانة عالية عند الملك واكتسب ثقته. صحيحٌ أنّ تفسير الرّؤيا لاقى استحساناً عند الملك فأخرجه من السّجن، إلَّا أنّ الملك كان منذ البداية على علم بنزاهة يوسف وعفَّته بدليل الشّاهد الذي عرف أنّ قميصه قد قُدَّ من دبر، ثمّ قُطِع الشّك باليقين حين طلب يوسف سؤال امرأة العزيز والنّسوة الَّلواتي قطَّعن أيديهنّ: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51)، فكانت هذه الشّهادة بعفّته وطهارته ما شدَّ ثقة الملك به، فلو لم يكن أمينا على أهل بيته، كيف له أن يُملِّكه خزائن ماله ويجعله أميناً على مملكته؟ فقد أعطاه الله الثّواب على هذه الفضيلة في دنياه قبل آخرته.

ورأينا كيف قام يوسف بتدبير الأمور حين طلب من الملك أن يولّيه إدارة المملكة، لقد كان مثالا في العفَّة والأمانة ولم يكن عليه مشرف ولا يدٌ تعلو يده فهو المتصرِّف الوحيد بالشّؤون الماليّة، وفي مثل هذه المواقع المهمّة يفشل الكثيرون عن ضبط نفوسهم خصوصاً حين تصبح الأموال تحت تصرُّفهم فنراهم يُسرِفون، لكن نبيّنا الكريم حقَّق كلَّ شروط العفَّة، فضبطَ نفسه عن الشّهوات واجتنبَ الإسراف وقصَدَ الاعتدال.

العدل

جاء في تعريف العدل: «العدل وهو القسط اللازم للاستواء وهو استعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها من غير سرَف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير»(٩).

قال تعالى ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة، 42). أمر سبحانه وتعالى بالعدل وبيَّن أنّ الحاكمَ العادلَ ينالُ محبَّةَ الله، وما بعد محبَّة الله سوى الحياة الطيِّبة في الدُّنيا والنَّعيم الأبديّ في الآخرة. ولا يقتصر فعل العدل على الحُكَّام، بل هو واجب على كلِّ انسان من موقعه. يقول في الحديث الشريف: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته»(١٠)، فالحاكم مسؤول عن رعيّته والمدير مسؤول عن عماله، والعمّال عن عملهم، والأهل عن أولادهم، فعلى كلّ راعٍ أن يقيم العدل في رعيّته، ولا نجاح لأيّة مسؤولية بغير العدل.

كان العدل سمةً اتَّصف بها النبي يوسف(ع) أثناء سنوات حكمه، ورأينا كيف كان عدله مُعينا له في خطَّته لاستقدام إخوته مرّة ثانية ومعهم أخيهم بنيامين حين قال لهم: ﴿أَلَاتَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ (يوسف، 59)، فلا أبخِّس النّاس أشياءهم، بل أعطيهم بحسب ما يستحقِّون، وكان يعطي لكلِّ رجل حملَ بعير، ليعدلَ بين الجميع. فأخبر أبناء يعقوب أباهم بهذا الأمر ليرسل أخاهم معهم، قالوا: ﴿نَزْدَادُ كَيْلَ بعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ (يوسف، 65)، فعادوا إلى يوسف برفقة أخيهم.
وقد ورَدت حادثةٌ أخرى بيَّنت كيف كان يوسف(ع) يحكم بالعدل بين الناس، فحين أمَر بحجز أخيه عنده لوجود الصّاع في أمتعته، طلب أخوته أن يأخذ أحدهم مكانه فقال ﴿… مَعَاذَ اللَّهِ أَن نأخُذ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ﴾ (يوسف، 79)، فلا تَزِر وازرة وِزْر أخرى. ويُستشَّفُّ من هذا القول أنَّ يوسف لم يكن ليساوم في أمور الرّعيّة، وإن كان في تلبية طلبهم وإخلاء سبيل أخيهم هذا نوع من الإحسان والرَّحمة لأبيهم الشّيخ الكبير، إلَّا أنَّ الإحسان إنَّما يكون إحسانا إذا لم يتضمّن فعلا مُحَرَّما أو ترك واجب، فترك العدل ظلما وليس إحساناً بأيّ وجه. لذلك حكم على أخيه بالعدل وطبَّق عليه القانون الجاري من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير.

ولا شكّ أنّ هذا المسلك الذي سار عليه النّبي يوسف قد بعث روح الولاء والطّمأنينة لدى رعيّته، وكانت هذه الحادثة التي ذكرناها وحكمه بالعدل فيها سببا لإبقاء أخيه عنده تمهيدا لعودة إخوته مرة أخرى ومن ثمَّ جمع شمله بوالده.

إنِّ عدل يوسف(ع) مع رعيّته كان انعكاساً لعدله مع نفسه، حيث زكّاها وطهَّرها من العيوب ولم يظلمها بالذنوب والوقوع في المحذور، ومن كانت معاملته لنفسه بهذه الأمور فقد عدل معها ولم يكلِّفها وزرَ المعاصي وثقل الخطايا والسّيئات وهذا ظلم للنّفس لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ…﴾ (النساء، 110).

وإذا كان الحاكم لا يملك قدرة على العدل مع نفسه بترفُّعها عن الرَّذائل، فكيف سيتمكّن من إقامة العدل مع رعيّته؟ ولم يكن عبثا قيام الفيلسوف اليوناني أفلاطون بوضع شروط لانتخاب رئيس مدينته الفاضلة، وأهمّ تلك الشّروط ترفُّعه عن الرّذائل والفواحش والموبقات.

{ارتَقَى يوسف} إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان.

الصّبر

قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل، 127).

سُئِل أحدهم عن الصّبر فأجاب: «هو تجرُّعُ المرارة من غير تعبيس»، وقيل «الصّبر مطية لا تكبو»(١١). وقال لقمان الحكيم: «الصبر صبران: صبر على ما تكره فيما ينوبك من الحقّ وصبر على ما تحبّ ممّا يدعوك إلى الهوى»(١٢).

إنّ الأحداث التي عاش فيها النّبيّان الكريمان يعقوب ويوسف(ع) استوجبت التّمسك بحبل الصّبر ليكون مطيّتهما التي لا تكبو، واستعانا بالصّبر مع الرّضا بقدر الله تعالى وقضائه، فكانا مثالين في الصبر الجميل، وقد تجلى ذلك واضحا في آيات السّورة الكريمة.
فمنذ أن فقد يعقوب(ع) ولده الحبيب وعد نفسه بالصّبر، إذ قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف، 18) واستعان بربّه ليأخذ بيده ويمدّه بالعون، فنجح في ذلك،وصبر صبراً جميلاً، و»الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى النّاس»(١٣).

كانت حرقته على فقدان يوسف كبيرة حتّى أنّه فقد بصره، ولكنَّه لم يفقد صبره، ولم تهتزَّ ثقته بالله بل كان الله شفيعه ومشكى همّه. فقوله تعالى ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف، 86) لا ينافي الصّبر، فالشّكوى إلى الله محمودة وإنّما ينافي الصّبر الشَّكوى إلى المخلوقين، لأنّ أيّوب(ع) كان شكى ألَمه إلى ربّه من غير اعتراض قائلا: ﴿… أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الانبياء، 83)، ومع ذلك فقد صحّ صبره وأثنى الله سبحانه عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص 44).

ثمّ رأينا يوسف(ع) في خِضَمِّ المحن والبلايا التي توالت عليه رَضيَّ القلب مطمئنّاً إلى إرادة الله ومشيئته،إذ بالتوحيد عرف ربّه وأحبّه فرضي بفعله، وصبر على حكمه، فكان يناجيه ويستعين به على كلّ مكروه، فيزرع الله في قلبه المزيد من الصّبر والتّسليم عند كلّ ضيق وابتلاء.

كان البلاء الأوّل شديداً، هذا الطفل الذي تربَّى في كنف والده على العطف والمحّبة ولم يعهد عهداً للقسوة والظُّلم، ها هو يتلقَّى أوّل صفعة غدر وخيانة ومن أقرب المقرّبين إليه، ولم يقابل يوسف هذا الابتلاء بأيِّ اعتراض أو استنكار، فجاء وحي الله يثبّت قلبه ويقينه أنّه تحت الرعاية الإلهية وسينبّئ إخوته بأمرهم وهم لا يشعرون.

ثمّ اختار الصّبر على إغواء امرأة العزيز ومحاولاتها المتكرّرة لإيقاعه بحبائل الهوى فقال ﴿… رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف، 33)، وهذا هو البلاء الأصعب الذي صبر عليه يوسف طوعا واختياراً، كما صبر على تهمة الزَّور ومرارة السّجن، وفي كلّ هذه الأحوال لم نرَه يلجأ إلاّ إلى ربّه ومالك أمره فهو الذي يسدّده كيف يشاء. فكان صبره على ما يكره مثل صبره على ما يحبّ، بلا تعبيس أو استياء.

وكان للصَّبر الذي تحلَّى به يوسف تأثيراً هامّاً على أحداث حياته من حين ابتعاده عن أهله إلى حين لقائه بهم، فصبره شدّ أزره، وثبّت فؤاده وقوّى عزيمته على المضي قُدُما في طريق الخير، فصبَر على المكروه من أذيّة وغربة وظلم، كما اختار الصّبر على الشّهوات من ملك وجاه وهوى، فنال بصبره أعلى الدّرجات، وخلص إلى القول: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف، 90).

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، لا يترك طريق الخير الذي رسمه لنفسه، ولو ضاقت به الحِيَل، بل يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج، فكان اللِّقاء المبارك بين يوسف وأهله الذي أثلج صدورهم ثوابا لهم على الصّبر وصحّة الإيمان.

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، […] يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج.

التّوبة

جاء في تعريف التّوبة بأنّها: «الرّجوع عمّا كان مذموماً في الشّرع إلى ما هو محمود فيه»(١٤).

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، 222)، وقيل: «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له…»(١٥) وهذا من فضل الله على العباد أن يغفر لهم قديم زلَلهم بعد التّوبة.

إنَّ ما قام به أخوة يوسف من رميه في الجبِّ وإبعاده عن أبيه، هو ذنب يستوجب التوبة، ورغم مرور الزَّمن، لم نرَ أخوة يوسف مُقرِّين بذنبهم أو مستغفرين بل كتموا أمرهم، ولم يتوبوا إلّا بعد زمن طويل حين كشف لهم يوسف عن نفسه فاعترفوا بذنبهم وأقرّوا به: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 91)، ثمّ ذهبوا إلى أبيهم وطلبوا السّماح واستغفروا، وأظهروا النَّدم: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 97)، فكان اعترافهم بخطئهم واستغفارهم لله، دلالةً على توبتهم. فمن يَنْوِ التوبة يبدأها بالاعتراف بالخطأ ثم الإقلاع عنه بالكليّة ثمّ الاستغفار.

أمّا زوجة العزيز فرغم اعترافها بذنبها في المرة الأولى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف، 32)، إلّا أنّها أصرّت على المضيّ قدُما في المعصية ولم تَتُب، ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف، 32). وحين ظهر فضل يوسف وحان خروجه من السّجن، أقرّت بذنبها أمام الحاضرين وقالت ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51). فكانت توبتها شهادة بيّنت فضل يوسف واستقامة طريقته، ونقلتها من رذيلة المعصية إلى فضيلة الطاعة والتوحيد.

رغم أن توبة أخوة يوسف جاءت في نهاية القصّة، إلّا أنّهم بتوبتهم كانت الخاتمة السّعيدة لهذه القصّة وتحقّقت الرّؤيا التي طلب يعقوب من يوسف أن يكتمها عنهم، حيث خرّوا له سُجَّدا وأقرّوا بفضله.

الخاتمة

في غيابةِ الجُبِّ المُظلمِ وَوَحشَته، لاذَ بربِّه فاطمأن…في وَحدة الغُربة المقفِرة وقَسوَتِها، لَجَأَ إلى خالقه فاستأنَس.به في غَيَاهُبِ السّجنِ الحالِكِ وقيودِهِ، ووحَّدَ بارِيهِ فَتَحرّر…

طريقُ طويلٌ شائكٌ وَوَعر، سلكه نبي الله يوسف(ع) بصبر ويقين وثبات. بلغ يوسف(ع) أعلى المناصب الدُّنيوية لكنّ وجهته هي الآخرة ورضى الله تعالى، لأنّ الدُّنيا لا تغني عن الآخرة بشيء بقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فسعى إلى الثَّواب ودعا الرّعيّة إلى معرفة الواحد الأحد، فنقل مصر من ظلمة الشِّرك إلى نور التّوحيد، وحازَ أعظم الفضل.

وكان جماله وحسن صورته ممزوجاً بجماله الرّوحي والأخلاقي، فأصبح جمالاً كاملاً تُضرَب به الأمثال، وعلى هذا فالإنسان مهما وهبه الله من الجمال والمظهر الكَيِّس، فلا يُسمَّى جميلاً إن لم يتمتّع بالأخلاق والفضائل الرّوحانيّة. ولم يبلغ يوسف ما بلغه من الرِّفعة والسُّموّ إلّا بالامتحان،فالله سبحانه يبتلي عباده بالشِّدة والرَّخاء والسُّرور والحزن واليسر والعسر ليمتحن صحّة إيمانهم بالشُّكر عند الرّخاء وبالصّبر عند الشِّدة والبلاء. ومن الَّلافت في هذه القصّة اتِّحاد الفضائل وسيرها بالتّوازي والتّوازن مع بعضها البعض، وكأنّها فريق واحد يعمل بتناغم وانسجام في سبيل ردع الرَّذائل وتحقيق الثّواب، والتَّوازن بين الفضائل ضرورة كي تقوى وتُحقِّق غايتها.

بعد هذا البيان لأهميّة الفضائل لابدّ ختاما من القول أننا إذا كنّا مؤمنين بالله وبرسوله الكريم وبكتابه العزيز وقد تحقَّق عندنا صدْقَ ما أنزله في هذه السُّورة المباركة من برهان جليّ على ثواب من تمسَّك بالفضائل وسار على طريقها، فَلْنبادر إلى تحصيل ما أمكننا من هذه القِيَم وتطبيقها في عباداتنا ومعاملاتنا فلا تبقى شعارات نرفعها بل نجعلها حياتنا التي نحيا بها ونعيش، علَّنا نخرج من الظّلمة فتشرق علينا أنوار الصّفي المختار ونصل إلى برِّ الأمان.


الحواشي

  1. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  2. لأبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 377.
  3. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين، تحقيق: د.محمّد صبّاح، د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).ص: 262.
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق.ص،ص: 285، 286،287.
  5. أنظر: أبو الحسن علي البصري الماوردي، كتاب أدب الدُّنيا والدين. مرجع سابق.ص: 261.
  6. رواه مسلم.
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة: محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م). ص: 203شوهد بتاريخ 1-12-2019. على الرابط:  https://www.noor-book.com-pdf
  8. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حذيفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م). ص،ص: 21-22.
  9. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. مرجع سابق. ص: 28.
  10. أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عمر.
  11. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص،ص: 258،259.
  12. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان). ص: 204
  13. أبو عبد الرحمن اللُّمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه). ص: 17.
  14. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 156.
  15. المرجع سابق نفسه. ص: 156.

المراجع

  1. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حديفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م).
  2. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين. تحقيق: د.محمّد صبّاح. د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).
  3. أبو عبد الرحمن الُّلمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه).
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان ابن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي: الرسالة القشيريةفي علم التصوّف. ط.1. (بيروت،دار إحياء التراث العربي:1998م).
  5. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  6. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان).
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة:محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م).

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي