فَضْلُ الله باشا هنيدي
شهيــــــد جهــــاد حرفتــــه البطولــــة
«كــان من بني معروف الأشـــــاوس، باسلاً في وثباته، عظيماً في حــملاته»
(محي الدين السفرجلاني)
إحتل المجاهد فضل الله باشا هنيدي موقعاً في الثورة السورية الكبرى جعل منه أحد أبرز أركانها وأمضاهم جهاداً وأشدّهم في المواجهة مع القوات الفرنسية التي لفرط كرهها له سارعت بعد إصابته بقليل برمي المناشير من الطائرات لتعلن لثوار الجبل عن وفاته ولم يكن قد توفي بعد وذلك على أمل أن يؤدي خبر استشهاد هذا البطل إلى زعزعة معنويات الثوار وإضعاف إرادتهم في القتال. فمن هو هذا المجاهد الكبير وما هو الدور الذي لعبه في الثورة السورية الكبرى؟
يعتبر آل هنيدي (هُنَيديّ) من الرّواد الأوائل الذين سكنوا جبل حوران قبيل عام 1685، وذلك استناداً إلى ما يشير إليه صاحب الأصول والأنساب يحيى حسين عمّار، وهو يشير أيضاً إلى أنّهم يعودون بأصولهم مع أبناء عمومتهم آل المصري إلى آل خير الدّين القحطانيّين من عرب اليمن.
ويتّفق صاحب الأصول والأنساب مع الرّحالة حنّا أبو راشد الذي زار الجبل في فترة الإعداد للثّورة السوريّة الكُبرى ووثّق تاريخ الكثير من عائلات الجبل في كتابه “جبل الدروز” على أنّ آل هنيدي يعودون في أصلهم إلى بلدة صليما المتن من أعمال جبل لبنان، وأنّ أصلهم من عائلة المصري المعروفة فيها حتى الآن، وكُنية هنيدي تعود إلى لقبٍ رجوليّ ــ فُرُوسيّ، حمله جدّ الأسرة هَزيمة بن اسماعيل المصريّ وكان” يعدّ من الأبطال المشهورين، إذ كان يحمل سيفاً ثقيلاً فاشتُهر بصاحب المُهنّد، وغلب اللّقب على الأصل ثم تحوّر المهنّد إلى هنيدي، وعُرف بـ :”هزيمة الهُنيَدي”.
وفضل الله باشا موضوع بحثنا هو أحد أحفاد هزيمة المذكور وُلِدَ في قرية مَجْدل الهنيدات في المقرن الغربيّ من الجبل عام 1876، وفيها تعلّم القراءة والكتابة ثم درس في الآستانة. عاش فضل الله هنيدي مُعظَم سِنيِّ عمره في العهد العثمانيّ، إذ كانت دراسته في الآستانة ، ثم أنه عاش مرحلة أفول السلطنة العثمانية وصعود النزعة الطورانية المتعصِّبة للزمرة العسكرية الماسونية التي استولت على السلطة بانقلاب عسكري كان من نتائجه خلع السّلطان عبد الحميد الثاني.
نتيجة لتلك التطورات، إنضم هنيدي مع العديد من الشباب إلى التيّار الإصلاحي فانتسب إلى جمعيّة “العربيّة الفتاة”، وكانت هذه تعمل بادئ الأمر من أجل حقوق العرب في إطار الدّولة العثمانيّة، ثمّ انتقلت إلى العمل على استقلال العرب عن تركيا بعد أن اتّضحت نوايا جماعة الاتّحاد والتّرقّي المعادية للشّعوب غير التّركيّة، وتأثر هنيدي الشاب بقوة بالحملة العثمانيّة الظّالمة على جبل الدروز بقيادة الجنرال سامي باشا الفاروقي عام 1910 والتي عاثت دماراً وقتلاً في سكان الجبل، وكان من الأسباب المباشرة لتلك الحملة إقدام الدّروز على الثّأر من أهالي قريتيّ غصم ومعرّبة لقتلهم ثلاثة من التجار الدّروز العابرين كانوا ضيوفاً لديهم، ويذكر سلطان باشا الأطرش في كتابه (أحداث الثّورة السورية الكبرى)،”أنّ العثمانييّن كانوا يروّجون في أوساط مواطنينا (يقصد الجوار الحوراني والدّمشقي والبدو) دعاياتهم الكاذبة المُغرضة ويستفزّونهم ضِدّنا بالتّهم الباطلة التي كانوا


يوجّهونها إلينا كالكُفر والإلحاد والزّندقة والتمرّد على الخلافة، وذلك بواسطة الفتاوى الصّادرة عن بعض المشايخ المأجورين في الحواضر الكبرى التي تُبيح لهم قتلنا وتدمير قُرانا وحرق بيوتنا ونهب أرزاقنا ومواشينا، فذلك ما حصل بالفعل أثناء حملات عديدة جُرِّدت علينا، وعلى أبناء طائفتنا بلبنان في أزمنة سابقة”.
مجاهداً في الثّورة العربية
لعب المجاهد فضل الله هنيدي دوراً مهماً في الثّورة العربيّة، إذ كانت دارته في قريته “المجدل” مَقصداً لأعضاء الحركة الاستقلالية عن تركيا، وممّن قَدِموا إليها من وجهاء دمشق محمّد وجميل وعبد القادر الجزائري، وعمر وسعيد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وشارك هنيدي في اجتماع مهم عُقِد في منطقة الكراع وهي منطقة وعرة شرقي الجبل وبعيدة عن أنظار الرّقيب التركي ودَعا إليه سلطان باشا الذي اختير في ذلك الاجتماع قائداً عاماً لثوّار الجبل، بينما اختير فضل الله هنيدي قائداً للمنطقة الشّماليّة والغربيّة وحسين الأطرش قائداً للمنطقة الجنوبيّة.
عند نشوب الثّورة العربيّة الكُبرى التي قادها الشّريف حسين بن علي سنة 1916، كان فضل الله هنيدي في الطّليعة من فرسان الجبل الذين توجّهوا لملاقاة القوّات العربيّة الثّائرة في مدينة العقبة جنوب الأردنّ تمهيداً لدخولها إلى سوريا وتحرير دمشق، وهكذا ففي الثّلاثين من أيلول 1918 كان الرّجل في مُقَدَّمة فرسان الجبل الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش قبل دخول الجيش العربيّ الذي يقوده فيصل بن الحسين، وقبل دخول الجيش البريطانيّ الذي يقوده الجنرال البريطانيّ، اللّنبي.
موقعة دامية مع العثمانيين
يذكر حنّا أبو راشد في “حوران الدّامية” (ص 137ــ 138) إلى أنّ فضل الله هنيدي ونسيب بك نصار ومتعب بك الأطرش ورجالهم من الدّروز اشتبكوا عند وصولهم قرب قرية الدّير علي التي تبعد عن دمشق مسافة ثلاث ساعات “في موقعة دمويّة” قُتِل فيها عدد كبير من الأتراك، وقد غَنِم فيها المجاهدون بقيادة سلطان باشا 21 مدفعاً مع ذخائر حربيّة كثيرة، وساقوا الأسرى أمامهم، ودخلوا بعدها دمشق ظافرين في 29 أيلول 1918، وبعد انفتاح أبواب دمشق ودخول الأمير فيصل إليها “نال كلّ من الزّعماء الآتية أسماؤهم لقب البَاشويّة وهم: سلطان باشا الأطرش وحسين باشا الأطرش، وفضل الله باشا هنيدي وأمّا عبد الغفّار باشا الأطرش ونجم باشا عزّ الدين وعبد المجيد باشا عزّ الدّين الحلبي وطلال باشا عامر، فنالوها قبلاً من جمال باشا، ونالها أخيراً متعب بك الأطرش من السّلطان (الشّريف) حسين سنة 1924، ولكنّه لم يعلنها “اجتناباً من جواسيس الحاكم الفرنسي كاربييه”.
طرائف الحرب
في معرِض حديثه عن الخطط والخِدع الحربيّة التي كان الدّروز يتّبعونها في مصادماتهم مع الفرنسيّين بهدف الإيقاع بقطار كان ينقل القوّات والعتاد والمؤن من دمشق إلى مواقع القوّات الفرنسية في سهل حوران، يورد مؤرّخ الثّورة حنّا أبي راشد هذه الحادثة فيقول: “إنقسم الدّروز في أوائل تشرين الأوّل 1925 إلى فِرقتين، فرقة مشت في جانب القطار الذي ينقل الجيش من دمشق إلى أزرع، وبعد أنْ وصل القطار إلى قرب الفِرقة الثّانية المرابطة في جهة أزرع وقف القطار بسبب الأحجار المتراكمة على الخط الحديديّ فرجع حالاً إلى الوراء خوفاً من الكمين الذي تأكّد وجوده! ولكنّه لم يرجع ثلاثة كيلومترات حتى اصطدم بأحجار ثانية على الخط، أي بعد مرور القطار، كانت الفرقة الثّانية قد نفّذت خطّتها، وتلك اللّعبة الشّيطانيّة قد ربّحت الدّروز جميع الذّخائر الموجودة في القطار، وبهذه المناسبة قال حمزة الدّرويش متسائلاً: “الذي يقوم بهذه الخطط الحربيّة هل يكون جاهلاً كما ادّعى كاربييه بأنّه جاء إلى الجبل ليهذّبنا؟ احكموا يا قوم، ألا يحقّ لنا أن نعيش أحراراً في عقر دارنا ومسقط رأسنا!”..
ولم يُنهِ كلامه حتّى قال فضل الله باشا هنيدي: “والدّهر دولاب، فيوم لك ويوم عليك، فاليوم الذي كان لكاربييه كان فيه مُهَذِّباً لنا طبعاً، أمّا اليوم فأظنّ بأنّنا نحن نُهذّبه بقوّة ساعدنا ومواضي سيوفنا”. فضحك سلطان باشا وقال: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للنّار للنّار”.
في مواجهة الفرنسيين
كان فضل الله باشا هنيدي يدرك أهمّية العمل السّياسيّ قبل الإقدام على العمل الحربيّ، ومن هنا فقد “اقترح على سلطان باشا زِيارة الجنرال غورو على رأس وفد يمثل جبل الدّروز”لمعرفة مرامي السّياسة الفرنسيّة تجاه سوريّة، وذلك في عام 1919 قبل نشوب الثّورة بعدّة سنوات، ولكن غورو الذي قَدِم إلى الشّرق بعقليّة ملوّثة بالإرث الصّليبّي، صرحّ للوفد بكثير من العنجهية بأنّ “سورية هي من نصيب الفرنسييّن!!”.
على أثر ذلك حسم فضل الله هنيدي أمره بضرورة مقاومة الإحتلال الفرنسي، في ذلك الحين كان هذا المجاهد عضواً في المجلس الإسلاميّ الفلسطينيّ وعضواً في المؤتمر السّوريّ الفلسطينيّ، كما تسلّم منصباً كبيراً في إدارة العدليّة بدمشق.
وعندما تناقلت الأنباء توجّه جيش غورو نحو دمشق، دعا سلطان باشا إلى اجتماع في القريّا، وتوجّه على أثر ذلك نحو ثلاثة آلاف من الفرسان والمشاة إلى دمشق، وعند وصول الثوّار إلى قرية المزرعة بلغهم نبأ دخول الجيش الفرنسيّ العاصمة، وكان فضل الله هنيدي حينها على رأس خيّالة المقرن الغربيّ من الجبل، وذُكر حينها أنّ طلائع من أولئك الثوّار وصلت إلى بصر الحّرير في سبيلها نحو العاصمة دمشق.
وفي عام 1921 اختير عضواً في أوّل مجلس نيابيّ في دولة جبل الدروز وأمّا في نيسان 1925 فقد كان أحد أعضاء وفد الجبل الذي تشكّل برئاسة الأمير حمد الأطرش للمطالبة بتغيير كاربييه؛ الحاكم الفرنسيّ المستبدّ لدولة جبل الدّروز، وكانت المواجهة بين أعضاء ذلك الوفد وبين المندوب الساميّ الفرنسيّ على سورية ولبنان ساراي حادّة، إذ طالبوه بأنّه يتوجّب على فرنسا أن تحترم تعهّداتها للدّروز التي نصّت على أن يكون الحاكم من أبناء الجبل، لا فرنسيّاً، فأجابهم ساراي بأن تلك المعاهدة حبر على ورق، وهو لا يعترف بها، وأنذرهم بمغادرة دمشق أو يُنفَوْن، ولكنّه أمر بنفي رفيقهم الزّعيم الوطنيّ المسيحيّ عقلة القطامي إلى تدمر لاعتراضه على تنصّله (أي: ساراي) من تنفيذ الاتفاق المعقود سابقاً مع ممثّلين من مواطنيه الدّروز، إذ كان ساراي يرى أن واجب القطامي بإعتباره مسيحياً تأييد الفرنسيّين وليس أخذ جانب مع مواطنيه الدروز.
وقبيل نشوب الثّورة التي كان سلطان باشا يمهّد لها بتصفية الخلافات العائليّة والعشائريّة في الجبل، تشكّلت خمس لجان لهذا الغرض في مقارن الجبل، وكان فضل الله هنيدي بحكم مركزه الاجتماعي المرموق رئيساً للجنة الأولى. وقال في كاربييه قولة فصل في حاكم ظالم: “أنا أرغب السّلام ولكنّني لا أرغب الظّالم ولا أعلم ما هو سبب تمسّك الجنرال ساراي بأثواب كاربييه، مع أنّ الجبل بمن فيه طلب إبدال حاكم فرنسيّ ظالم بحاكم فرنسيّ عادل .. كان الأولى بالحكومة الإفرنسيّة أن تسمع صوتنا وتعمل بإرادتنا”.
وفي حزيران عام 1925، كان فضل الله هنيدي من ضمن وفد يمثّل وطنيّي الجبل إلى دمشق ضمّ نسيب ومتعب وصيّاح الأطرش ونجم وسعيد وفواز عز الدين وأسعد مرشد ويوسف العيسمي عقدوا اجتماعين سِرِّيّين في منزل عبد الرّحمن الشّهبندر، وتمّ الاتّفاق مع ممثليّ الحركة الوطنيّة في العاصمة على حشد القوى لمدّ يد العون ودعم الثّورة المنشودة. وفي ما بعد قَدِم وفد دمشقيّ من كلّ من أسعد البكري وتوفيق الحلبي وزكي الدّروبي إلى دارة فضل الله هنيدي في المجدل لتنسيق المساعي الوطنيّة ومجابهة المحتلّ.
ومن موقعه في المجلس النيابي آنذاك، كان فضل الله هنيدي على رأس الفريق المعارض لعودة كاربييه لحكم الجبل، ولئن فاتته المشاركة في معركة الكفر؛ إلاّ أنّه كان في طليعة الثوّار الذين تصدَّوْا لحملة الجنرال ميشو منذ عبورها قرية بصر الحرير الحورانيّة باتجاه الجبل، في 31 تموز، إذ كان على رأس المجاهدين الذين تعقّبوا مؤخّرة إمدادات وتموين الجيش الفرنسيّ، واستولَوْا عليها، وقد مثّلت تلك العمليّة الجريئة البادِرة الأولى في النّصر المؤزّر الذي تحقّق على جيش ميشو في معركة المزرعة في 2 و3 آب 1925، كما كان الرجل في طليعة فرسان الدّروز الذين هاجموا موقع نصبه الفرنسيّون في تلّ الخروف قبل نصر المزرعة بيوم واحد، وقد خسر الثوّار في ذلك اليوم نحو ثلاثين شهيداً من ألمع فرسانهم، وكان من بينهم حمد البربور رفيق سلطان باشا وساعده الأيمن في الثّورات السّابقة، غير إنّ فضل الله هنيدي كان واحداً من بين النّاجين القلّة في ذلك الهجوم الخاسر، لكنه في اليومين التّاليين كان ممن قاموا بأعمال بطولية خارقة في معركة المزرعة، وأصيب يومها بإصابة بالغة، وقد أشاد سلطان باشا ببطولته تلك في مذكّراته.
وفي 15 آب وعلى أثر اجتماع في قرية المجيمر اختير عضواً في لجنة مؤلّفة من سليمان عبدي الأطرش، وهايل عامر ومحمد باشا عز الدّين الحلبي وسليمان نصّار بهدف دراسة الشروط التي قدّمها الفرنسيّون بإسم الجنرال ساراي.


الحملة على دمشق
وبعد الهزيمة المدوّية للفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة شارك فضل الله هنيدي في محاولة لم يكتب لها النجاح لتحرير دمشق على يد مجاهدي الدّروز ومن شاركهم من مجاهدين من العشائر البدويّة في الجبل والأردن، وذلك بسبب فعالية سلاحي المدفعية والطيران الفرنسيين، وقد تجاوز عديد الحملة ثلاثمائة خيال وسبعمائة من الهجانة والمشاة، لكن المقاتلين الدّمشقيّين لم يظهروا -كما وعدوا- لملاقاة الثوّار ومشاركتهم في مواجهة القوات الفرنسية. وقد علّق سلطان باشا على نتيجتها بقوله: “وبذلك حقّق الفرنسيّون نصرهم الأوّل علينا في معارك الثّورة وأدّى فشل هذه الحملة إلى دفع الوطنيين في دمشق وغيرها من المدن السوريّة إلى الالتحاق بالثّورة في الجبل حيث ساهموا في صفوفها كلٌّ حسب طاقته وخبرته”.
عضواً في مجلس أركان الثورة
على أثر فشل حملة دمشق قَدِم ممثّلون عن الحركة الوطنيّة فيها وعقد مؤتمر ريمة الفخور، الذي اهتم المشاركون فيه (بمن فيهم ممثلو الحركة الوطنية الدمشقية) بوضع قواعد عامّة للتّعاون والتآزر بين جميع العناصر الوطنيّة في سورية ولبنان، لتقوية دعائم الثورة وتوسيع نطاقها، وإيجاد الوسائل الكفيلة بتمويلها وتأمين السلاح لها، كما رسمت الخطوط الرئيسية لنظام جهازها القيادي وشؤونها الإداريّة والسياسيّة والعسكريّة، وأنهى المؤتمر أعماله بإعلان قرارات مهمّة منها: متابعة الثّورة حتى تنال البلاد استقلالها التّام، وتسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عامّاً للثّورة، وتولية الدّكتور عبد الرّحمن شهبندر إدارة الشّؤون السّياسيّة للثورة، وتسميته ناطقاً رسميّاً لها، وتشكيل أركان قيادة للثّورة من قادة الرّأي وذوي الشّجاعة في القتال من بني معروف ومن بينهم فضل الله هنيدي1، وفي مجريات التّمهيد لمعركة المسيفرة قاد هنيدي قوّة استطلاع عبر قرى صمّا الهنيدات وقرية علما وخربة غزالة الحورانيّـتين واشتبكت قوّته مع مخافر ودوريّات معادية مكلّفة بحماية خطوط تحرّك ومواقع الفرنسيّين. وفي يوم 17 أيلول كان وبحكم موقعه القياديّ من المشاركين في معركة المسيفرة الأسطورية وقد أصيب فيها2.
واستمرّ هنيدي يقاتل بعد شفائه من الإصابة قائداً في طليعة الفرسان المجاهدين الذين تصدّوا لزحف جيش الجنرال غاملان في محاولة لاحتلال السّويداء ثم في معارك قُرى المجيمر وعرى ورساس وكناكر والثّعلة وتلّ الحديد والمزرعة، وقد انتهت هذه السلسلة من المعارك بصد القوّات الفرنسيّة ونكوصها من دون تحقيق أهدافها في السيطرة على السويداء، وفي معركة تل الحديد أصيب المجاهد فضل الله هنيدي، وقد أشاد سلطان باشا به لبسالته في معركة رساس.
كان الباشا هنيدي ماثلاً دوماً في الثّورة، إنْ في الحضور الاجتماعي ــ السّياسيّ، أو في الميدان الحربيّ القتالي، ففي عام 1926 انتُخب عضواً في المجلس الوطنيّ، في اللّجنة الممثلة لقريته المجدل، كما عُهد إليه بقيادة المنطقة الغربيّة من الجبل وذلك بحكم وقوع قريته “المجدل” في تلك المنطقة وبالتالي خبرته الطويلة بها. وفي أوائل نيسان من عام 1926 كان من بين قادة الثّورة الذين قاتلوا في موقعة بقع جمرة وهم سلطان باشا والأمير عادل أرسلان، وصياح الأطرش وعلي عبيد ومحمود كيوان وسواهم، تلك المعركة التي كادت أن تكون مأساة على بني معروف، إذ تعرّض الفرنسيّون وعملاؤهم من بدو اللجاة لعشرة آلاف نازح من الرّجال والنّساء والشيوخ والأطفال من دروز إقليم جبل الشيخ ووادي التّيم كانوا قاصدين جبل الدّروز، وقد تمكّنوا على قلّة عددهم من دحر المعتدين وإنقاذ المحاصَرين في منطقة وُحُول ومستنقع ضلّلهم إليها العملاء بقصد الإيقاع بهم..
وعندما هاجم أندريا السّويداء في ما عُرِف بمعارك السّويداء الثّانية، ما بين 23 و26 نيسان سنة 1926، تلك المعارك التي انتهت


باحتلال السّويداء، كان المجاهد فضل الله باشا مشاركاً فيها، وينقل محمد جابر في كتابه “أركان الثّورة..” شهادة للسّوفياتي لوتسكي يشيد فيها ببسالة مجاهديّ بني معروف ويقول فيها: “انتظر الثوّار العدو عند مشارف السّويداء، فاحتشدت قوّات الدروز كلّها هناك وحُفرت الخنادق، ونُصِب المدفع الوحيد الموجود لديهم، وتخلّى الدّروز هذه المرّة عن تكتيكهم المُعتاد وقرّروا للمرّة الأولى خوض معركة دفاعيّة، فانقضّ الفرنسيّون عليهم بكلّ ما لديهم من قوّة مُجَهّزة بأحدث المعدّات الحربيّة، وتحوّلت المعركة إلى مجزرة، وصمد الدّروز بشجاعة وذلك باعتراف الأعداء أنفسهم، فقد أشار أندريا إلى القدرة الخارقة التي تُلْهِمُ هذا الشّعب الذي بالرُّغم من هزيمته وتكبّده خسائر فادحة لم تراوده فكرة إلقاء السّلاح، بل على العكس تابع القتال يحدوه الأمل بالنّصر النّهائيّ، لكن ورغم المقاومة البطوليّة التي أبداها الدّروز تمكّن الفرنسيّون من اقتحام السّويداء.
فعلاً لم يستسلم بنو معروف بعد اقتحام الفرنسيّين عرين الجبل الذي لطالما رَوَوْا ترابه بدماء شهدائهم، ففي شهر أيّار كان أندريا قد أرسل حملة توجّهت من السّويداء باتّجاه شهبا، عبر قرى عتيل وسليم، وفي طريق عودتها مرّت بقرى بريكة وكفر اللّحف وقريته المجدل فالمزرعة (السَّجَن سابقاً)، وكان فضل الله باشا مع فرسانه ورجاله يقوم بتعقّب تلك الحملة ويشنّ الهجمات عليها وعلى ذلك يعلّق أندريا: “في المجدل استسلم الوجهاء والفلّاحون مخالفين شيخهم فضل الله هنيدي، الذي كان يشغل وظيفة كبيرة في عدليّة دمشق، ويرأس اليوم عصابة، وهذا الشيخ عضو في اللجنة السوريّة الفلسطينيّة”3.
ولشدّة مقاومته وبسالته في جهاده الفرنسيين فقد فجّر الفرنسيّون داره التي شبّهها أندريا بالقلعة الإقطاعيّة، وفي مجال قيادته لعمليات الثّورة في المنطقة الغربية من الجبل فقد واجه الفرنسيّين في معركة نجران وكان أندريا بَرِماً بإخلاص وولاء فلاّحي بني معروف لقادتهم في الثورة فيقول:” علينا ألّا ننسى أنّ الفلاّحين الجاهلين يصعب عليهم الوقوف في وجهيّ الشّيخين القادرَين اللّذين يحرّكان ساعة يشاءان المقرن الشّمالي وهما فضل الله باشا هنيدي من المجدل ومحمّد باشا عزّ الدّين الحلبيّ من وادي اللّوى”.
ولشدّة حقد الفرنسيّين عليه فقد أشاعوا نبأ موته قبل استشهاده لأجل تثبيط معنويّات المقاتلين في اللّجاة، إذ كانوا يلقون المنشورات ملفوفة داخل مواسير يلقونها من الطّائرات لتعميم نبأ موته، وكان قد أُصيب في رأسه برصاصة من رشّاش طائرة خرقت رأسه، في الوقت الذي كان فيه يرصد المعركة بمنظاره في معركة قلاع الجفّ بتاريخ 4 أب 1926 بين قريتيّ المزرعة ونجران في اللّجاة،


وقام الدّكتور خالد الخطيب بإسعافه، ولكنّ الأجل المقدور تغلب في نهاية الأمر على كلّ شيء.
كان فضل الله باشا هنيدي من أركان الثّورة بطلاً ومقداماً، صبوراً على المكاره ذا بأس، وإليه يعود الفضل في الدّفاع والمقاومة في الموقعات الأولى التي جرت في نجران وعريقة ومجادل وأم الزيتون، وذكر حفيده فضل الله داود هنيدي أنّ الثوار أخلوا جدّه بعد أن أصيب من موقع قلاع الجفّ إلى قرية ريمة اللّحف ثمّ إلى قرية جديّة، فقرية صميد، وكان الذين نقلوه قد أوكلوا أمر رعايته إلى المجاهدة السيّدة بُسْتان شلغين وقفلوا للإلتحاق بالمعركة، وحينما فاضت روحه هناك لم تجد السيّدة شلغين قربها سوى أخيها الصّغير محمّد شلغين، فانتخت فوق رأس الشّهيد، ونخت أخاها فقاما بعملية دفنه في قريتهما صميد”4.
وأبّنه سلطان باشا بالقول: “فقدنا بإستشهاده أعزّ صديق وأوفى رفيق على طريق النّضال منذ أيّام الثّورة العربيّة الكبرى.”5
أمّا الدّكتور الشّهبندر فقد اعتبره “من فحول الثّورة السّوريّة الكبرى” ووصفه محي الدّين السّفرجلاني بأنّه “من بني معروف الأشاوس كان باسلاً في وثباته، عظيماً في حملاته، كبيراً إذا انقضّ على أعدائه، جمع بين المزايا الحسان جميعاً “ .
وفي قصيدة للشاعر المجاهد فارس سلامة النّجم الأطرش، أثبتها رفيق جهاده المجاهد علي عبيد في مذكّراته ينعته فيها بأنّه سليل البطل جدّه هزيمة هنيدي، وبأنّه مُضيف كريم يدفأ البردان في مضافته.. وأفعاله الخارقة تحقق الأهداف المطلوبة، يقول فيه:
خِلْفِةْ هَزيمة ياذِرا كُلّْ بَرْدان شِفْنا افعالك ماضْيَةْ بالمطاليب