تعلمنا الحياة اشياء كثيرة، تتبدل قناعاتنا يوما بعد يوم، يمضي العمر سريعا لنكتشف في نهاية المطاف اننا مجرد حبوب بين كفي رحا وان السنابل التي حملتنا يوما كانت تدرك ان قلة منا ستنجو من التأقلم المزيف مع متطلبات الحياة وستعيش لتحيا في سنبلة جديدة تمايلها الريح وتلفحها الشمس ثم تنحني ملأى بخير وفير وعزة ورضا.
في عصر العولمة والتسارع المعرفي وتنامي النزاعات الدولية لأجل السيطرة على الموارد والأسواق، نرى شبابنا تائهين بين عالم افتراضي وواقع مغاير تماما، يتسلل اليأس ببطء اليهم وهم متسمرون خلف شاشات هواتفهم النقالة يراقبون تقدم الحياة في المجتمعات الغربية ويحلمون بوطن مماثل، وجلهم
يحلم بحقيبة وتأشيرة سفر.
الكل يريد التعلم والنجاح، يريدون شهادة، يضنيهم التعب لنيلها بعد ان تفرغ جيوب أهاليهم الخاوية أصلا، ثم، ماذا بعد؟ يأتي انتظار الفرصة، الوظيفة! الراتب الشهري! إنه نزاع البقاء والسعي لحياة فضلى، هي حقوقهم البسيطة من عمل ومسكن وأسرة سعيدة، تصير في وطنهم التائه بين مطرقة الفساد وسندان الإقطاع احلاما في يقظة، وخيبة من واقع يحارون على من تقع مسؤوليته… لكنه يضل واقعا مرا.
شباب اليوم اعتادوا على نقر الأزرار، فنقرة من هنا تنقلهم ببرهة عين الى ما يشتهون رؤيته وامتلاكه، تأخذهم الى حيث يكتشفون كم تطور العالم وكم ارتقى مستوى العمران والإنتاج، ومدى ما بلغته المجتمعات المتقدمة من احترام للإنسان، ونقرة أخرى تعيدهم الى واقعهم المرير عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تتبارى في نقل الشؤم والفساد والانقسامات وأخبار الدولة المهترئة المسلوبة من الانتهازيين دون أدنى أمل في تغيير سريع وقريب.
عادة الانتظار ونقر الأزرار أثنت شبابنا عن تطوير مهاراتهم الذهنية والجسدية التي تؤهلهم لخدمة مجتمعهم وتوفر لهم فرص العمل وتحمي اقتصادهم من ندرة اليد العاملة المهنية القادرة على إقامة اقتصاد واقعي حقيقي في قطاعات الزراعة والصناعة والبناء والمهن الفنية وغيرها من مجالات العمل التي حلت اليد العاملة الأجنبية فيها مكان المحلية، حتى بتنا أمام مشكلة فعلية تتمثل في افتقارنا للقدرات الذاتية والخبرات اللازمة في مختلف مجالات العمل التي تتطلب جهدا جسديا ومهارات يدوية، على حساب كم هائل من حملة الشهادات التواقين الى وظيفة بربطة عنق مع علمهم انها لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا الإتجاه نحو التوظف تعززه رغبة جامحة لدى الأهل، لا سيما الفقراء منهم الذين لا يتمتعون بأي نوع من أنواع حماية الدخل والحماية الصحية والتقاعد، فينقلون معاناتهم تلك الى أبنائهم ويزرعون لديهم فكرة الوظيفة كحل وحيد لمشكلة الأمان الاجتماعي، وهكذا ينتقل هاجس الوظيفة من الآباء الى الأبناء، رغم أن العديد من أولئك الآباء يكونون من اصحاب المهن الحرة ومنهم من يملك مؤسسة انتاجية صغيرة وبإمكانهم أن ينقلوا خبراتهم وتجاربهم وأعمالهم القائمة الى أبنائهم والاستفادة من ضخ دم جديد في شرايين مؤسساتهم الصغيرة وتحويلها الى مؤسسات كبرى. وفي حالات أخرى نرى احجام بعض الأهل المقتدرين ماديا عن مساعدة أبنائهم أو تشجيعهم على تأسيس أعمالهم الخاصة ولو كانت ضمن حقل اختصاصهم العلمي ويدفعون بهم باتجاه البحث عن وظيفة خوفا عليهم من المعاناة اوالفشل.
هل نحن أمام مشكلة «التعلم الزائد»؟ ام هي مشكلة «الكسل الزائد» وربما «الخوف الزائد»؟ إن التعليم بشكل عام، يهدف الى بناء الانسان المنتج، المستقل، ولكن في ظل الدولة المستباحة وغياب منهجية التخطيط وتخبط قطاعات الإنتاج وسقوطها بين براثن من لا يعنيهم حمايتها بمقدار ما يعنيهم استمرار زعاماتهم وانتفاخ جيوبهم من المال العام، تحولت الوظيفة العامة الى فرصة العمر، فإن لم تتوفر فلا بأس بوظيفة في القطاع الخاص، المهم أنها «وظيفة براتب شهري»، تتوقف الحياة عند «وظيفة» غالبا ما يكون ثمنها الكثير من مسح الجوخ والتذلل، كل ذلك لا يهم، المهم أن «الشاب صار موظفا».
أيها الشباب، أين هي إرادتكم وكرامتكم وحريتكم؟ هل هذه هي الحياة التي تتمنون؟ راتب زهيد ودوام يومي ورب عمل! لماذا تعلمتم ولمن تعلمتم؟ لماذا تبحثون عن القيد وقد ولدتم أحرارا؟ لماذا تخشون المغامرة وليس لديكم ما تخسرونه؟ لما لا تسخرون علمكم وقدراتكم في خدمة أنفسكم بدل ان تسخروها في خدمة الغير؟ هلا حاولتم ليكون لكم أمام ذواتكم شرف المحاولة على الأقل؟ ان وطنكم يحتاج الى طموحكم وأحلامكم وجرأتكم لتبنوا فيه مؤسساتكم وترفدوه بطاقاتكم، هكذا يستطيع ان ينهض بكم ومعكم من خلال زيادة حجم اقتصاده وخلق فرص عمل جديدة وتخفيض نسبة الهجرة.
قد لا تكون طريقكم سهلة، بل أقول لكم أنها لن تكون سهلة، ولكن هل سمعتم عمن بلغ العلى بغير تعب وجهد وإرادة لا تقهر؟ حاولوا وحاولوا فإن بلغتم فسوف تنعمون بالنجاح لكم ولأبنائكم من بعدكم، وستوفرون على أنفسكم شعوركم الدائم بعدم الاستقرار والتبعية وحاجتكم لرضى من تعملون لديه، وأفضل ما ستنعمون به أنكم لن تجربوا حياة حصان السبق الذي تخلى مسبقا عن حرية البراري ليفني زهرة أيامه في خدمة سيده مقابل حفنة من الحنطة وبعض الأعشاب اليابسة، وربما يحصل على مكافأة عند تفوقه لا تزيد عن «قطعة سكر».
اعملوا لحياة حرة كريمة فإذا اضمحلت الحرية لن يبقى شيء من الحقيقة.