كلمة السواء
حافظوا ..تُحفَظوا
الكثير من الناس استبدلوا دين أجدادهم وموروث الآداب والسلوك القويم الذي تناقلته الأجيال، بعقيدة العصر، وهي عقيدة الحرية المنفلتة من أي قيد، حيث الإنسان يعيش لنفسه ويضع على جبينه شعاراً بالأحمر لعل الجميع يقرأه، وهذا الشعار هو: “أنا حر”. إنسان العصر الجديد بين ظهرانينا هو تركيب مسوخي غريب من بيئتنا الاجتماعية وعصبياتنا ومن عقيدة الحرية الفردية التي أشرِبناها بمختلف الصور المباشرة والخفية بدءاً بسنوات الدراسة ومروراً بمقررات الجامعات وأخيراً عبر وسائل التواصل والمنتج الثقافي الغربي، سواء كان في السينما أو الأقنية الفضائية أم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وما أدراك ما الإنترنت.
كل هذه الوسائل وكل ما نراه في التلفزيون وعلى الإنترنت من كلمات ومشاهد وخطابات كله يدعونا لأن “نكون أحراراً، وأن نترك واجب احترام حقوق الآخرين، وهو يزرع في رأسنا أن حرية الفرد وحقه في أن يفعل ما يشاء هي الغاية لأي نظام سياسي واجتماعي في عصرنا. لا شيء في ما نتلقاه من كل تلك الوسائل يرشدنا إلى الفضائل أو إلى سبيل الله تعالى أو فعل الخير. لا شيء يبصرنا بأهمية وجود شرعة وأعراف تنظم العلاقات بين الأفراد والجماعات وتحول دون تحول الدنيا إلى غاب تسرح فيه الوحوش.
الحقيقة المؤسفة هي أنه لا أمل على الإطلاق في أي خير يأتي من حضارتهم لسببين أساسيين: الأول هو أنهم تخلوا تماماً عن الدين وقيمه وفضائله وباتوا يعيشون في مجتمع يمجد الأنانية وانهارت فيه لذلك قيم الترابط الأسري أو العائلي أو المجتمعي فأصبحوا أفراداً لا يربطهم رابط أخلاقي أو ديني أو اجتماعي. ومن الطبيعي أن تأتي القيم التي يروجون لها في منتجاتهم الثقافية لتعكس واقع تلك المجتمعات بل مأساتها. أما السبب الثاني، والذي لا يدركه السذج الذين يلحقون بتلك النفايات الثقافية هو أن ما يأتينا من جهتهم ليس لتسليتنا بل هو مصمم لتخريب نظام قيمنا بل هو جزء من “حرب إلغاء”، الهدف منها تدمير مقومات الثقافة العربية الإسلامية وكل منظومة قيم محافظة يمكن أن تقاوم المد الثقافي ومن بعده المد الاستهلاكي والتجاري للشركات الأجنبية. بهذا المعنى، فإن الذين يسقطون في فخ تقليد الآخرين واتباع النماذج الغربية الفاسدة يعتقدون أنهم يلحقون بالحضارة، لكنهم في الحقيقة يخسرون أنفسهم ويصبحون مثل شجرة مقطوعة الجذور إذ يتحولون بملء إرادتهم إلى عمّال أو خدم صغار لحضارة الاستهلاك الغربية وللقيمين عليها من حكومات وشركات وتجار سلاح ومؤسسات استرهان مالي واقتصادي وثقافي.
إذا أردت أن تعرف ماذا يحل بنا على هذا الصعيد يكفي أن تأخذ عينة من أبناء الجيل الجديد الصغار أو الأحداث، أو حتى الذين هم في سن الدراسة الجامعية، وكل ما عليك أن تحاول البحث عنه لديهم هو أي الأسماء والمواضيع هي الأكثر تكرراً في حياتهم اليومية، وما هو مثالهم الأعلى إذا وُجِد- وكيف يقضون وقت الفراغ في الموسم الدراسي أو في العطلات الدراسية. النتيجة المفاجئة أنهم يعرفون الكثير تقريباً عن “نجوم” عرب وأجانب وعن آخر “موضات” الموسم ومنتجات الهواتف الذكية وتطبيقات “أندرويد” أو “أبل” وألعاب، وكما أنهم منشغلون لساعات في اليوم في ثرثرات “الهاتف” أو “الفايسبوك” أو “تويتر”، وفي تبادل الصور والنكات والأغاني وغيرها من الترهات. الآن اِسأل أياً من هؤلاء عن آخر كتاب قرأه أو اِسأله عن شخصيات عربية أو إسلامية شهيرة يعرفها، اسأله عن زراعات الجبل أو أهم قراه، اسأله عن كمال جنبلاط أو سلطان باشا الأطرش أو شكيب أرسلان، اسأله عن أهله في جبل العرب أو في الجولان المحتل، اسأله عن نباتات الحقل وعن الوزال والبطم والقطلب والسنديان، اسأله عن الأنهر والأودية ومحميات الجبل، اسأله عن التنوخيين وعن الأمير السيد وعن الشيخ الفاضل وغيرهما من أولياء الجماعة المعروفية الشريفة.. اللائحة طويلة فلا تتعب نفسك في المزيد لأن الذي ستحصل عليه من أكثر أبناء جيل اليوم هو عيون فارغة وأفواه فاغرة وصمت مرتبك وغير مبالٍ.
تلك بصورة تقريبية نذر مقلقة لمستقبل لا نعرف ما الذي يحمله لنا، لكن يجب علينا أن نتكهن بما قد يجره هذا الفساد العام على حياتنا انطلاقاً من قاعدة متفق عليها بين عقّال هذه الأمة، وهي أن “الجزاء من جنس العمل” (إنما هي أعمالكم ترد إليكم)، وقد كان المغفور له الشيخ أبو حسن عارف حلاوي يذكرنا على الدوام بهذه القاعدة الأساسية عندما كان يشدّد على الدوام في لقاءاته بجمهور الطائفة وأركانها على أنه “بقدر ما نحافظ بقدر ما ننحفظ، بقدر ما نهمل بقدر ما ننهمل”، وهذا المبدأ البسيط يكاد يكون قاعدة ذهبية تلخص سرّ صمود الموحدين الدروز لشتى أنواع التحديات والأطماع ونوايا الشر على الرغم من قلة عددهم وعدتهم وافتقادهم للكثير مما يتوهم البعض أنه أساس القوة والغلبة، ألا وهو الكثرة في الرجال وفي المال.
هذا هو السر: لقد عمل أجدادنا والذين سبقونا بوصايا المولى وانتهوا عمّا نهاهم عنه، كما صانوا قيمهم وقيم أسلافهم، فأيّدهم رب العزة ونصرهم ولم يخذلهم في أي وقت. وقد تعهد المولى عباده الصالحين بهذا التأييد في قوله جل من قائل: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{ (الحجّ: 38) وبالطبع أن الوجه الآخر لهذه الحقيقة هو أن الله تعالى لا يدافع عن الذين كفروا بنعمه وأهملوا وصاياه وساروا على غير هدى في سبل الطيش والشر والضلالة.
فلنتفكر بهذه الحقائق ولنستفق من غيبوبة الروح والضمير قبل فوات الأوان.
طريق السراب
الجبل يدفع أثماناً باهظة لزهد الناس بأرضهم وقراهم وتوجههم إلى سراب المال والعمل السهل في قطاع التجارة والخدمات وغيرها من الأعمال والمشاريع. نقول “أثماناً باهظة” بصيغة الجميع لنشير إلى العدد الكبير من الخاسرين في هذا التحول الاجتماعي الكارثي.
الخاسر الأول والأهم هنا هو أكثر قرى الجبل في لبنان التي فرغت من معظم شبابها ليس فقط بسبب الهجرة إلى الخارج، وقد كانت الهجرة عاملاً إيجابياً في تعويض الجمود الاقتصادي في الداخل ووفّرت للناس مداخيل بديلة مكّنتهم من الصمود، لكن بسبب النزوح من القرية إلى ما يمكن اعتباره “المدن الجديدة” التي لم تكن موجودة قبل خمسين عاماً لكنها أصبحت اليوم نقاط جذب كبيرة للناس من قراهم، وبسبب هذا الجذب والتدفق اليومي لسكان القرى القريبة والبعيدة إلى تلك الحواضر يستمر التوسّع العمراني العشوائي في تلك التجمعات السكانية، فتنشأ كل يوم عشرات الأبنية السكنية وتفتح المحال التجارية ومراكز التسوق والدكاكين المختلفة الأغراض.
صحيح أن وجود مراكز تجارية سهّل على الناس مسألة التبضع ووفّر عليهم في الكثير من الحالات عبء الانتقال إلى العاصمة أو غيرها من المدن البعيدة نسبياً، كما أن للمدن الجديدة ميزة هي أنها وفّرت قاعدة لقيام الخدمات الصحية والتعليمية، وهذا الاتجاه موجود في كل لبنان، وفي العديد من الدول، وسببه الأول هو النمو السكاني وتوسع شبكة المواصلات، الأمر الذي بات يسهل توصيل البضائع إلى أي نقطة في البلد من دون صعوبة.
لكن مثلما يحصل في المدن عموماً، فإن الكثيرين من الوافدين إليها ليس لهم عمل حقيقي، وهم يدلفون إليها من قراهم ليس بسبب وجود فرص أفضل لهم، بل بسبب عقلية الزهد بالأرض والعمل فيها والعيش مما تنتجه. واللافت أن العديد من أغنياء الجبل يستثمرون بسخاء في المشاريع الزراعية بعد أن اكتشفوا أهمية الزراعة كمصدر للدخل والربح، بينما يزهد الفقير في أرضه ويتركها لتبور وتأكلها الأشواك.
وهذا الجيل من النازحين بلا هدف إلى التجمعات الحضرية الكبيرة هم وعائلاتهم الخاسر الثاني لأنهم يُحشرون في شقق رثة ثم يعملون ليل نهار، من أجل دفع الإيجار وتأمين أقساط المدارس والطعام وغيره من الأساسيات، وهؤلاء هم دوماً في حالة عوز وضنك كبيرين. أما عائلاتهم فهي عرضة أكثر من أي مكان للتفكك والتمازج السيىء العواقب ورفقة السوء، ونحن بتنا نسمع الكثير عن الانحرافات ومظاهر الفساد التي تنمو في زواريب تلك المدن وعتمتها في بيئة هي، على عكس البيئة المتماسكة للقرية، مفككة أصلاً ولا تربط الناس فيها روابط تضامن بل حالة عامة من عدم الاكتراث في أفضل الحالات.
وبسبب النمو العشوائي للبناء في العديد من هذه التجمعات البشرية، فإن أكثرها يفتقد إلى البنى الأساسية الحيوية لتقدم أي مدينة، بل أن التزايد المستمر في عدد السكان وتكاثر الأبنية وتوالدها كالفطر خلق ضغطاً هائلاً على البنى الأساسية، وعلى الخدمات التي تكاد تكون شبه معدومة في الكثير من الحالات، وهذا ما يصيب المدن الجديدة بالكثير مما أصاب المدن اللبنانية الرئيسية وخصوصاً التلوث البيئي والضجيج وتردي شروط العيش مع تسرب مياه الصرف الصحي إلى الشوارع وبين البيوت. وتُفاقِم هذه الظروف مشكلة الانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه وتردي نوعية الطرق وغياب أي صيانة للمرافق العامة.
خلاصة القول إن المدن الجديدة لها إيجابياتها لكنها ولّدت الكثير من السلبيات لأنها خلقت سراباً بات يجتذب الكثير من بسطاء القرى، كما تجتذب الفراشات إلى اللهب المحرق للشموع.