السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كمال جنبلاط

 

 

[su_accordion]

[su_spoiler title=”رئيس التحرير” open=”yes” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

40 سنـــــة حضـــــور

كمال جنبلاظ

قبل 40 سنة سعوا لتغييبه
وهاهو حاضر مهيمن وهم الذين غابوا .
من طبيعة أجساد جميع الآدميين أن تعود إلى التراب
لكن الفكر لا ينزل مع الشهيد إلى التراب.

هو بكل بساطة عصيّ على كل فنون التدمير لأنه لا يسكن مكاناً ولا يُقارب من مكان وليس شيئاً يمكن أن تطاله المكائد والرصاص الجبان، لكنه نور ساطع محفوظ للأجيال في مشكاة العقل الخلاق وذخائر الحضارة وفي تضاعيف الأفئدة والحكايات وفي أعمق طبقات الوعي والهوية وهو شعلة الفخار وهو غذاء البقاء والصمود.
كمال جنبلاط بعد 40 سنة من تغييبه حاضر ويسدّ عليهم الجهات.
بمناسبة مرور 40 سنة على استشهاده تقدم مجلة “الضحى“ لقرائها هذا الملف الخاص ليكون تأكيداً على حضور كمال جنبلاط في الأفكار وفي التحرك وفي الجهاد المستمر من أجل لبنان لا طائفي ديمقراطي لجميع أبنائه، وليكون في الوقت نفسه احتفالاً بأربعين سنة من قيادة وليد جنبلاط الحكيمة والشجاعة للمسيرة الوطنية وكذلك احتفالاً بتقدم تيمور جنبلاط لتسلّم الأمانة الجليلة لمسيرة كمال جنبلاط ومسيرة وليد جنبلاط.

ومـــــا قتلــــوه يقينــــــــــاً

في الصبيحة الباردة للسادس عشر من شهر آذار 1977 أخمدت شعلة كانت ما زالت تعاند الأنواء وترسل بأنوارها الكاشفة فوق بحر الظلمات المتلاطم حولنا في هذه المنطقة التعسة من العالم. كان كمال جنبلاط تلك الشعلة التي تحلقنا حولها جميعاً بحثاً عن الأمل الغارب والصقيع المتسرب إلى أوصال الأمة، وكان هو وسط فوضى النكوص وزحف كائنات الظلام، بمثابة الحصن والملاذ الباقي الذي هرعنا إليه بعزيمة الرجال ليس خوفاً من بشر أو خطر بل تهيؤاً للصمود ولحماية المعلِّم ومشروعه التقدمي الإنساني حتى آخر نفس من أنفاسنا.
كثيرون كانوا يعرفون ما قد كتب، لكننا لم نكن عابئين بكل التحاليل والتنبؤات، فقد كان يكفي أن نجتمع إليه ونتأمل هدوء وجهه النوراني حتى تعترينا طمأنينة عجيبة وشعور يقيني بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ولم نكن لنجتهد من أنفسنا فقد كان هو فكرُنا ومعينُنا ومرآة ذاتِنا، وكنا لذلك لا نرى حاجة لأكثر من أن نجلس في مواجهته في صبيحة كلِّ يومٍ جديد لنستمع مثل الحواريين إلى كل كلمة يقولها ونتابع بأعيننا لغة عينيه وجسده. أما هو فقد كان ينظر إلينا نظرات الحب الطويلة ويتفحص وجوهنا ويصغي إلى أسئلتنا، ثم – وعندما وجد ذلك مناسباً- لم يجد حرجاً في تنبيهنا إلى أن كل انتفاضة على الظلم وكل مشروع تغيير لا يتعدى كونه رهاناً قد يتحقق وقد لا يتحقق، وأن على المجاهد العاقل أن يتقبل النصر كما الخسارة بنفس حالة الرضا، لأنه يعمل بدافع الحب وليس بشهوة الإنتصار وقهر الخصوم.
قليلون كانوا يدركون المعاني البعيدة لهذا التعليم (اغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون) وأكثرنا لم يقرأ فيه تنبيه المعلم لنا بأنه سيكون علينا قبول ما لم نكن مستعدين لقبوله (ولم يكن يدخل حتى في أسوأ تصوراتنا) وهو أن مشروع الإصلاح التاريخي الذي ناضلنا معه لأجله قد لا يكتب له النجاح، وأن المعلم الذي كان قبلة آمالنا في تحقيق ذلك المشروع قد يصبح هو نفسه شهيد تلك الخاتمة الحزينة.
سقط كمال جنبلاط في الموقعة الفاصلة بين الحق المستضعف وبين القوة الغاشمة، وهو سقط وحيداً على منعطف عميق مع رفيقين من أصفيائه وتابعيه الأبرار شهيداً “حسينياً” بكل معنى الكلمة وفي ظروف تجعل ممكناً المقارنة في الكثير من الوجوه بين استشهاد الإمام الحسين (ر) وحيداً ضحية الخذلان وغلبة سلطان القوة وبين سقوط هذا الأمير الرفيع القدر شهيداً مظلوماً في المواجهة مع سلطان غاشم ليس انتصاراً لنفسه بل من أجل إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
وقد كانت معركة كمال جنبلاط مثل معركة الإمام الحسين (ر) انتصاراً لمبدأ العدل وللفقراء والبسطاء المنسيين، وقد خاض الإمام الحسين معركته غير عابئ بالنتيجة أو بالمخاطر غير ملتفتٍ إلى المكاسب التي كان يمكن أن يحصل عليها لو أنه رضخ لأمر كان قد استتب، كذلك رفض كمال جنبلاط منطق المساومة مع ما كان يمكن أن يجلبه له من مكاسب السياسة والزعامة ومجد الدنيا، وقد قدمت له بالفعل إغراءات كثيرة إن هو قبل بقانون السجن الكبير وغض النظر عن أنظمة الأنانية والقهر والإفقار، لكنه أصرّ على التمسك بجانب الحق والعدل والكرامة الإنسانية، ورفض أن يحني الرأس للقوة الغاشمة وقبل بدلاً من ذلك أن يجعل من نفسه مثالاً للأجيال التالية يحبب إليهم الجرأة في الحق وبذل الذات وملاقاة الموت باعتباره خلاصاً وبشارة لا مصيبة.
أما الذين قتلوه، وهم يظنون أنهم يُخمِدون بذلك جذوة فكره ومثاله، فقد أثبتت الأيام أنهم كانوا في ضلال كبير ونحن نسأل: أين هم الآن؟ لقد زالوا واحداً بعد آخر ولن يبقى من أثرهم إلا صفحات سود في السجل الشامل لتاريخ البشر والمدنيات. }ولا يُحيقُ المَكر السيِّئُ إلَّا بأهلِه{ِ (فاطر 43)
أما المعلم، فإن الموت (وهو حقّ الخالق على جميع خلقه) فإنه خلده إلى الأبد في ذاكرة البشرية إرثاً فكرياً وأخلاقياً وسياسياً وغذاء لا ينضب للعقل والقلب والروح.
“وما قتلوه يقيناً” (النساء 157)

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رشيد حسن” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

على العهد باقون
على العهد باقون

كمال جنبلاط: 40 سنة حضور

يوم البيعة والتذكير

إكتسب يوم المختارة في 19 آذار 2017 الماضي، بحشده غير المسبوق منذ ثورة الأرز في العام 2005 صفة حدث وطني كبير من النوع الذي يأخذ مكانه في كتب التاريخ كمحطة مهمة في مسار لبنان وهو حقق ثلاثة أهداف أساسية:
فهو أولاً كان احتفالاً بذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاد المعلم كمال جنبلاط وقد كان إحتفالاً يليق بالزعيم الخالد ومناسبة مشحونة بالعاطفة والإعتزاز في آن بالنسبة الى الوطنيين عموماً وبالنسبة الى أكثر من مئة ألف مواطن ومواطنة تقاطروا بحماس إلى مكان الإحتفال من كل أنحاء لبنان مُتحدِّين المسافات والإزدحام والمشقة. نسبة كبيرة من هؤلاء الذين أحيوا الذكرى بالأمل والفرح لم يكونوا قد ولدوا يوم استشهاده وأكثرهم كانوا يافعين وأحداثاً عندما اختطفته يد الغدر في عزّ عطائه للبنان والعروبة والإنسانية.

بيعة واستمرارية
الحدث الكبير كان – ثانياً- يوم البيعة والولاء لتيمور جنبلاط الذي تسلّم رسميّاً كأس الزعامة المرّ وأمانتها الجسيمة من زعيم تاريخي فاق بحجمه وأثره البعيد الأمد حجم قاعدته الدرزية فهو أحد أبرز القادة الوطنيين الذين عملوا على دحر آثار الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ومعه نظام التمييز والاستئثار، وكان لقيادته ولتضحيات رفاقه في الجيش الشعبي والحزب التقدمي الاشتراكي وصفوف المجاهدين والحلفاء من القوى والأحزاب الوطنية فضل كبير في توفير الظروف لإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني وصولاً إلى اتفاق الطائف، وفضلاً عن دوره المفصلي في الأزمة اللبنانية فإن الدروز مدينون لوليد جنبلاط بقيادته الفذّة والشجاعة لهم وسط الأنواء والأخطار التي شكّلت في وقت معيّن تحدياً كبيراً لوجودهم ذاته. وتمثل مبايعة تيمور جنبلاط تعبيراً عن استمرارية لافتة في قوة وفعالية الزعامة الجنبلاطية على مدى قرنين ونصف قرن من الزمن، وهذه الفعالية التي لم تنقطع في أي من حلقات السلسلة الطويلة مثال نادر يصعب حتى على علم الجينات الحديث تفسيره، لذلك يعزوه الموحدون الدروز إلى كرامة خاصة للطائفة وأوليائها عند خالقهم، كما إنه واقع يُسفِّه بعض المتفلسفين حول “التوريث” إذ لولا استمرار الزعامة في هذه الأسرة الشريفة ودورها الكبير خصوصاً في المنعطفات الخطرة (وتاريخ المنطقة سلسلة لم تنقطع من المنعطفات الخطرة) لكان الوضع مختلفاً بل يصعب حتى مجرد التفكّر بنتائج الإحتمال المعاكس، ولا ننسى التذكير في هذه الذكرى الأربعين لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط بأن الأسرة الجنبلاطية قدّمت معظم كبرائها قرابين شهادة في ذلك الجهاد البطولي الذي لم يفتر في الذود عن وجود الموحدين الدروز وأرضهم وكرامتهم.

وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور
وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور

بالخط العريض
الاحتفال يأتي، ثالثاً ، في ظروف غير عادية بل في سياق أزمة وطنية متمادية ولعب بالمواثيق بل وتحرش طائش وأحقاد ومشاريع فتنة، لذلك يمكن وصف هذه المناسبة الجماهيرية الكبرى أيضاً بـ “يوم التذكير” وقد صمم الإحتفال بالفعل، كما بدا من حجم التعبئة التي سبقته والسيل البشري الذي توافد إليه والتمثيل السياسي الرفيع والرسائل والإشارات التي رافقته، لكي يساعد جميع من يهمهم الأمر على الإستفاقة من الوهم والتنّبه لعواقب ما يدور في المخيّلات الجامحة، فكان الإحتفال بذلك رسالة بالخط العريض مكتوبة بالرجال وبذاكرة التاريخ القريب والبعيد، لكنه كان في الوقت نفسه إخراجاً مشهدياً راقياً ومبدعاً في الشكل والمضمون.
إن لبنان اليوم يعيش فعلياً على دستور معلّق ويغرق في مناورات استنزاف وسطحية تأكل ما تبقى من مرتكزات الإستقرار الهش، وقد أدى الظرف السوري (بدءاً بخروج قوات الردع ثم اندلاع حرب عالمية مصغرة على الأرض السورية) إلى فراغ فتح الباب للعبة لا تضبطها مرجعية، وهناك مناخ في المنطقة يشبه خيال الظل حيث يمكن لكل مشاهد أن يقرأ في الظلال المرتسمة واقعاً افتراضياً لا علاقة له بحقيقة ما يجري، وهو لذلك يعرّض المشاهد المحلل لإحتمالات الخطأ، والمَعنيّ هنا هو الخطأ في الحساب.
تيمور جنبلاط الذي يظهر الكثير من خصائص السياسة الجنبلاطية بصراحتها ونقدها الذاتي وروحها الساخرة وصف في أكثر من مناسبة السياسة اللبنانية بأنها “عصفورية” وهذا وصف مجازي لحالة التخبط واللاعقلانية وصعوبة الحوار وبناء شراكات حول أي شيء يدوم. في العصفورية كثيرون يظنون في أنفسهم القدرة والعبقرية وهم سعداء بما أوتوا ولا يشكلون مشكلة بل ربما كانوا موضوعاً للمرح طالما بقوا في عالمهم الخاص، لكن المصيبة تقع عندما يدخل بعض هؤلاء في التعاطي مع العالم الواقعي، ونحن نسوق هذا المثال كنوع من الوصف المجازي بالطبع.

مشكلة ثقافة سياسية
خلفية مهرجان 19 آذار تتعدى إذاً المناسبة نفسها إلى مستجدات وحوادث وأساليب تعاطي تجعل القائد وليد جنبلاط يقلق على مسار الأمور، وهذا السياسي المحنك الصبور والرابط الجأش لديه الكثير من الخبرة والنصح الثمين الذي يمكن أن يقدمه لساسة هذا الزمن المضطرب، إن هم تواضعوا واستمعوا، لكن مواقف النصح والتهدئة يقرأها البعض ضعفاً، والسياسة العاقلة هي فن الممكن وبناء الشراكة والتسويات، لكن في نظر هذا البعض السياسة هي فن المراوغة أو الأخذ بالتهويل، وهذا التخلّف في التعاطي السياسي يعكس طبيعة القوى نفسها وهي قوى مستحدثة لا تملك خبرة حكم تعدّدي ولم تتربّ في ظل عمليّة تكوّن الوطن بموازينه الدقيقة وثقافة المواثيق وبناء التوافقات. في مكان آخر إلى جانب هذا الكلام يكتب صحافي مخضرم هو الزميل سركيس نعّوم عن هذه العِلّة المتأصِّلة بالقول: “إن المسيحيين لم يفهموا كمال جنبلاط” وهو يقصد من ذلك أنهم لو فهموه لكان لبنان ربّما تمكّن من اجتياز امتحان 1975 بأقل تكلفة ممكنة، ولكان بُنِي على ذلك التفهّم ميثاق جديد للبنان عصري ومنيع للعواصف وللمؤامرات الأجنبية. المسألة الآن، هل سيفهمون وليد جنبلاط أم أن هناك أكثر من مؤلف منهمكون في كتابة سيناريو عبثي جديد؟

جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام
جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام

نهاية الشوط
وجد وليد جنبلاط في الرمزية المتعددة الوجوه لذكرى مرور 40 سنة على اغتيال المعلم الشهيد فرصة استثنائية للتعامل مع مأزق يوشك أن يدخل لبنان أتون محنة جديدة قد تقصر (إن جاءت كلمة السرّ) أو قد تطول، لكن مع فارق كبير هذه المرّة وهو أن لبنان دخل الأزمات السابقة برصيد المناعة الاقتصادية التي توافرت له بسبب ثروته المدّخرة وقوة اقتصاده، كما إنه دخلها في ظروف سورية وعربية ساهمت (وإن بعد عناء) في بلوغ محطة الطائف وإعادة صياغة الميثاق الوطني والنظام السياسي للبلد. وفي كل الأزمات التي تخللت تلك الحقبة الصعبة خصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية واجه لبنان تلك المحن في ظل تضامن عربي ظهر على سبيل المثال في الاستنفار غير المسبوق الذي تبع عدوان 2006 وفي المساعدات السخيّة التي تلقاها في عمليات إعادة البناء ودعم الوضع المالي وفي عمليات الإعمار مع استمرار المواطنين الخليجيين في الاستثمار في لبنان وإحياء موسم الاصطياف وقطاع السياحة.

خطورة العزلة
أما الآن، فإن الوضع مختلف تماماً، إذ إن لبنان استهلك الكثير من مناعته السابقة في توالي الأزمات والنزف وتردّي المالية العامّة وتفاقم الدين العام، وهو يعاني الآن من فقر دم يجعله معرضاً لخطر انهيارات مالية واقتصادية واجتماعية، وهذا الأمر شبه مؤكد في حال نشوب أزمة وطنية أو حصول عدوان إسرائيلي قد لا يوجد من يوقفه هذه المرة. فإن تحققت هذه المخاطر وتهاوت آخر الدفاعات فإن المحذور هو أن لا يجد لبنان الدعم اللازم سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد المالي والاقتصادي، وذلك بسبب فتور مشاعر التضامن العربي، وهناك أربع دول خليجية تمنع مواطنيها الآن من السفر إلى لبنان وهي عموماً لا تنظر إلى لبنان كبلد عربي حليف. أضف إلى ذلك، أن هذه البلدان دخلت بسبب تراجع أسعار النفط مرحلة اقتصاد تقشف وهي تريد الاهتمام بنفسها أولاً وبشعوبها وبمشكلة البطالة لديها.
وليد جنبلاط هو السياسي اللبناني الأبرز الذي يظهر في هذه المرحلة فهماً عميقاً لخطورة استمرار الأزمة السياسية على اقتصاد البلد ومستقبله ومستقبل أجياله المقبلة، وهو يدرك أن الانهيار الذي تمكَّن اللبنانيون من تأجيله أكثر من مرة لن يحصل بالضرورة نتيجة اقتتال اللبنانيين (فهذا مستبعد) بل نتيجة استمرار الشلل والتعطيل وإضاعة الوقت في العبث السياسي غير المسؤول.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رامي الريّس” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أعلام-وحشود-وبوستر----سيبقى-فينا-وينتصر
أعلام-وحشود-وبوستر—-سيبقى-فينا-وينتصر

يست الكتابة عن كمال جنبلاط مهمة سهلة، فهو الفيلسوف والسياسي والمفكر والباحث والشاعر، هو الباحث أبداً عن العدالة الإجتماعية والمناضل في سبيلها وفي سبيل الحرية والديمقراطية والإعتدال، هو المؤمن بعروبة لبنان ووحدته والتصاقه بقضية العرب المركزية، قضية فلسطين، هو المنحاز إلى العمال والفلاحين الذين بسواعدهم سيغيرون هذا العالم.
كمال جنبلاط ناضل في سبيل التحرّر الإقتصادي والإجتماعي “لبناء مجتمع ودولة وحضارة، تنعكس فيها أكثر ما يمكن قيم الإنسان ومقاييس عقله وحقيقة طبيعته البشرية”.
عندما طرح كمال جنبلاط المشروع المرحلي للإصلاح السياسي في آب 1975 إلى جانب كوكبة من المناضلين في الحركة الوطنية اللبنانية، عكس رؤيته لإحداث التغيير السياسي الذي ينطلق من أسس المساواة بين اللبنانيين بعيداً عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. وأن تمرّ كل هذه العقود على البرنامج المرحلي من دون أن يشقّ طريقه إلى التنفيذ، فإن في ذلك مؤشرات في غاية السلبية ودلالات قاطعة على قصور النظام السياسي اللبناني وعدم قدرته على استيلاد آليات التطوير الذاتي والتغيير السلمي الديمقراطي من دون السقوط في دورات من العنف ودورات من الحروب والنزاعات المسلحة.
إن قواعد الإمتيازات الطائفية الموروثة جعلت النظام السياسي في خدمتها وأقفلت كل مجالات التغيير والتطوير والإصلاح الحقيقي، وأفرغت كل البرامج السياسية الإصلاحية من قدرتها على التغيير مما هدّد أسس الديمقراطية اللبنانية، التي رغم هشاشتها ووهنها ومكامن ضعفها، ظلت متنفساً للبنانيين والعرب الذين عانوا من أنظمة القمع والإستبداد والقهر.

القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري
القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري

واليوم، يعود الخطاب الطائفي والمذهبي ليفرض نفسه في مختلف أوجه الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية ويعيد فرز اللبنانيين وفقاً لطوائفهم ومذاهبهم بعيداً عن الإنتماء الوطني وحتى الإنساني. وكما حاول كمال جنبلاط طرح البرنامج المرحلي لتلافي الإنفجار الكبير، وهو ما لم يحصل نتيجة إجهاض البرنامج من أطراف محلية وإقليمية ودولية كما هو معروف؛ فإن ثمة حاجة اليوم لإعادة الإعتبار لما ورد في الدستور تحديداً إلغاء الطائفية السياسية.
إن التحوّل نحو نظام المجلسين، مجلس النواب (المفترض إنتخابه خارج القيد الطائفي) ومجلس الشيوخ (الذي تتمثل فيه الطوائف والعائلات الروحية) من شأنه أن يساعد على الخروج التدريجي من الواقع الطائفي المأزوم الذي يُطوى من خلال التوجّه نحو تفكيك عناصر النظام الطائفي وليس تكريسه كما يطرح من هنا وهناك!
إن تجاوز الصيغة الطائفية والمذهبية المتخلفة للنظام السياسي نحو نظام ديمقراطي عصري قادر على مواجهة التحديات المتنامية من كل حدب وصوب على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بات حاجة ملحة لتلافي الإنهيار الذي تتصاعد المخاوف منه في ضوء التطورات الإقليمية الخطيرة والإنقسام الحاد بين المحاور الذي تشهده المنطقة فضلاً عن استمرار النزاع العربي- الإسرائيلي من دون أي أفق للحل بسبب سياسات الإحتلال الإسرائيلي في التوسع الإستيطاني وقضم الأراضي ورفض حق العودة وإجهاض كل محاولات التسوية السلمية منذ مؤتمر مدريد للسلام (1991) وحتى يومنا هذا.

ولكن، هل سيستطيع لبنان الذي يرتكز النظام السياسي فيه على الطائفية والمذهبية أن يحافظ على إستقراره وسلمه الأهلي في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهل يمكن له أن يشكل نموذجاً في صيغة التعددية والتنوّع والشراكة التي لطالما تميّز بها ولو أنه لم يحسن إدارتها في الكثير من المنعطفات والمحطات؟
إنها تساؤلات مشروعة، لكنها للأسف تبقى من دون إجابة! فلنعد جميعاً إلى كمال جنبلاط!

 

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” سركيس نعوم ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

 سركيس نعوم
سركيس نعوم

شهادة الصحافي والمحلل السياسي سركيس نعوم

كـان صاحــب موقــف وصاحــب رؤيــــــــة وصاحــــــب مشـــــــروع

فتح باباً لإنتقال لبنان من دولة الطوائف إلى دولة مدنية لكن اللبنانيين لم يصغوا إليه والمسيحيين لم يفهموه

قدّم المحلل الصحفي الواسع الاطلاع الأستاذ سركيس نعوم في مقال نشره في صحيفة “النهار” اللبنانية بتاريخ 20 آذار 2017 شهادة منصفة وشاملة في المعلم كمال نقتطف هنا أبرز ما جاء فيها:

أتاح لي العمل الصحافي متابعة أخبار كمال جنبلاط الذي كان يشكِّل وعدداً محدوداً من أقرانه لولب العمل السياسي في لبنان. وأتاح لي أيضاً التعرف عليه وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهلية وغير الأهلية عام 1975، إذ صرت أرابط في منزله أحياناً لمتابعة نشاطاته واجتماعاته ولمحاولة الانفراد بأخبار منه شخصياً، وهنا لا أزعم أنني صرت ملازماً له وموضع ثقته، لكنني أقول وبكل ثقة إنه كان يستلطف هدوئي وتهذيبي وابتعادي عن الاشتراك في التدافع مع الآخرين للحصول على تصريح منه أو خبر! وسمح لي ذلك أكثر من مرة بأن أحظى بلقاء منفرد معه في غرفة قريبة من مطبخ بيته في محلة “فرن الحطب”، حيث كان يرتاح على كرسي طويلة (chaise longue) وكنت أجلس على كرسي بجانبه. كان أحياناً يفكر ويرتاح، وأحياناً يسأل مبدياً رغبته في معرفة مكان ولادتي وعائلتي. طبعاً كنت أسعد بذلك، لكن سعادتي كبرت يوم قال لي: أنت شاب “آدمي” يا سركيس. روح دبّر شي خمسة أو سبعة آلاف ليرة واشتر فيهم أسهماً في شركة سبلين (التي كان يؤسسها حينذاك أو يفكِّر في تأسيسها). ضحكت وقلت له: من أين يا حسرة؟
لم أتمكن من تعميق معرفتي الشخصية به أولاً بسبب الحرب، وثانياً لأن القدر والغدر لم يمهلانه فقضى شهيداً برصاص لم يعتقد يوماً أنه سيُطلق عليه. لكن أقول وبكل صدق ومن متابعتي نشاطه منذ بدايته انه كان مختلفاً عن زعامات لبنانية كثيرة، وكان مميزاً وصاحب موقف وصاحب رؤية وصاحب مشروع، فهو وُلد في عائلة حكمت جبل لبنان أي لبنان الصغير، أو شاركت في حكمه نحو قرنين من الزمن. ودفع ذلك بكثيرين إلى وصفهم بـ “الإقطاعية”. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنه تلقى دروسه في لبنان ثم أنهاها في الخارج، وإلى أنه أصبح من أكثر السياسيين في البلاد ثقافة، وإلى أنه أسس ومنذ بداياته حزباً أراده عابراً للطوائف والمذاهب – وهكذا كان، وأراده عابراً للطبقات وبانياً لجسور في ما بينها، وأراده إصلاحياً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، وأراد بواسطته ومع أحزاب وشخصيات سياسية أخرى بناء دولة مدنية حديثة فيها مواطنون لا رعايا لإقطاعيين وطوائف ومذاهب وعشائر، وفيها الكفاءة والالتزام الوطني هما المعياران الأوّلان لشغل أي موقع أو منصب. أراده مُؤسِّساً مع آخرين لدولة ينتمي مواطنوها إلى وطنهم أولاً، وتسود فيها المساواة بين الناس والحرية للمعتقدات والاحترام لحقوق الإنسان، أراده شريكاً في دولة تحافظ على التنوع الطائفي والمذهبي لشعبها وتعتبره مصدر غنى واعتزاز، وتفتح في الوقت نفسه باباً على مستقبل ينتقل عبره اللبنانيون من دولة حصص طائفية متنوعة إلى دولة أو مزارع مذهبية إلى دولة لا طائفية أو مدنية. وهو لم يتحرَّج من استعمال كلمة علمانية لوصف دولة لبنان المستقبل كما يفعل الكثيرون اليوم خوفاً من اتهامهم بالإلحاد أو بالكفر، بعد تنامي الأصوليات في كل الأديان وفي كل المذاهب.
أحبائي مهما حَكِيت عن كمال جنبلاط لا أفيه حقه، فأنا لست مؤرخاً، لكنني مواطن شعر دائماً بالإعجاب بهذا الزعيم الذي أخذ من إقطاعيَّة عائلته الأصالة والتمسك بالأرض، والذي أخذ من الثقافة الغربية والمسيحية والثقافة العربية والإسلامية ومن الثقافات السياسية والدينية الآسيوية ومن التجربة الشيوعية الاشتراكية الروسية، أخذ منها العناصر التي كوّنت شخصيته وفكره ووعيه وطموحه الى التغيير، وبدلاً من أن يدمّر ذلك شخصيته ويوقعها في التناقض كما يحصل مع الضعفاء وأنصاف المثقفين فإنه صقلها، وجعل مواقفها من كل القضايا منسجمة صغيرة كانت أم كبيرة. فالاهتمام بالفقراء وبالعمال وبالحركة النقابية والتمسك بيسارية تقدمية غير شيوعية تشبه إلى حدّ بعيد اشتراكية دول اسكندنافيا الأوروبية، وإصراره على دولة مدنية علمانية حديثة في لبنان، وتمسكه بإلغاء الطائفية وفي الوقت نفسه بالمحافظة على “أدوار” الطوائف والمذاهب المكِّونة للبنان والعائشة فيه، واعتباره عن حق أن العروبة الحقّة تحمي لبنان أو تساعده على حماية نفسه لا عروبة التسلط والاستبداد، وأن إسرائيل عدو أو شرُّ يجب الانتباه منه، وخوفه من مخططات الدولة الكبرى ومصالحها التي غالباً ما تكون على حساب مصالح الدول والشعوب الصغيرة والفقيرة وأيضاً الغنية والأكبر حجماً، فكل ذلك يؤكد شمولية هذه الشخصية وإحاطتها الواسعة بكل شيء وصفاء صاحبها وقدرته اللامحدودة.
لن أسترسل في هذا الكلام. أودّ أن أقول أمراً واحداً فقط هو أنني كنت دائماً من الذين يلومون الزعامات المسيحية وخصوصاً التي وصلت منها إلى رئاسة الجمهورية والأحزاب المسيحية لأنها لم تبادر بعد تسليم فرنسا دولة لبنان للمسيحيين، وإن مع مشاركة مسلمة، إلى إقامة شراكة وطنية فعلية تضم المسلمين والمسيحيين، وتبني دولة يفتخر مواطنوها بالإنتماء إليها وبالتضحية في سبيلها، وتلغي المخاوف المسيحية من الذوبان في المحيط الإسلامي والغبن المسلم جراء الامتيازات والضمانات المسيحية التي لم تضمن مسيحياً ولم تميّز مسيحياً، ولو حصل ذلك لما كانت كل طائفة سعت ولا تزال تسعى إلى “تحالف” وهمي مع قوة كبرى إقليمية أو دولية من أجل تعزيز موقعها في الداخل وسلطتها على حساب الطوائف الأخرى، ولما كان سيشهد لبنان أول ثورة “بدائية” بعد قليل من الاستقلال عام 1958، ثم أول حرب أهلية ما بين 1975 و1990، بل أول حرب بين قوى إقليمية ودوليّة جنودها ووقودها اللبنانيون.
إنطلاقاً من ذلك، لا بدّ من القول إن الإنصات إلى الشهيد كمال جنبلاط منذ بدئه حياته السياسية كان يمكن أن يجنِّب لبنان الانحدار من نظام الحزبين (كتلويين ودستوريين) اللذين يضمّان مناصرين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق إلى نظام الأحزاب الطائفية، وإن احتفظ بعضها بأسماء وطنية أو عربية أو اجتماعية، وإلى الحرب المسيحية – الإسلامية ما بين 1975– 1990، ثم إلى الحرب السنّية- الشيعية الباردة ما بين 1990 و 2005 التي تحوّلت حامية بعض الشيء بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى أن البرنامج المرحلي “للحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط بمضمونه العملي والدقيق والموضوعي ولاسيما في شِقّ الإصلاح السياسي فيه، كان يمكن أن يجنِّب لبنان الأهوال الماضية والحاضرة والأهوال المستقبلية، ومن يدقق في هذا البرنامج يرى أنه يتقدم حتى على “اتفاق الطائف” في أمور عدة.
ويرى المدقِّق أيضاً أن مثله فتح باباً أمام انتقال لبنان من دولة الطوائف والمذاهب إلى دولة مدنية علمانية أي دولة المواطن.إن وقوع كمال بك جنبلاط ضحية مخططات إقليمية وربما دولية لا يقلِّل من أهميته وحجمه ووعيه المبكر للأخطار التي واجهها لبنان. فضله الدائم أنه حذَّر دائماً وقبل سنوات من الذي حصل، ودعا إلى التسوية الوطنية الشاملة، لكن أحداً لم يصغ إليه والإصغاء كان يجب أن يبدأ قبل 1969 تاريخ أول صدام فلسطيني – لبناني رسمي مسلح، إذ كان الصدام إيذاناً بأن تنفيذ مخطط الاستيلاء على الدولة أو نصفها أو تدميرها قد بدأ.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”طلال سلمان” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

طلال سلمان عن المعلم كمال جنبلاط

قال لي وقد أخذ بحماستي للعـــروبة
يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية!

قال بعد وفاة عبد الناصر : خسرنا بطلاً عربياً عظيماً
لكن لو أن نظامه كان ديمقراطياً لما حصلت النكسة

طلال سلمان
طلال سلمان

كنت يافعاً حين التقيته أول مرة في دار المختارة، فبهرني بداية بتواضعه، سلوكاً ولباساً وصوتاً خفيضاً وابتسامة تلتمع بداية في عينيه قبل أن تضيء وجهه، ثم بقدرته على الجمع في الاهتمام بين بسطاء الناس المحتشدين في القصر ومن حوله الذين شدتهم الشعارات المدوية بوعدها المثير: “وطن حر لشعب سعيد”.. وبين كبار القوم، في الداخل والخارج، من ساسة ومفكرين ودبلوماسيين، يجيئونه للتشاور أو للإستنارة برأيه.
كنا نقطع الطريق إلى قصر الست شمس، متسلقين درج الدار نفسها لنبلغ مدرسة المعارف الإبتدائية الصغيرة تلك التي ألحّ المعلمون المعدودون فيها على تحدي أنفسهم وتحويلها إلى تكميلية، فكافأهم كمال جنبلاط بتقديم القصر ليكون المدرسة.
كنا، نحن الفتية الآتي بعضنا من البعيد إلى مدرستها الرسمية، نعبر متسلقين درج القصر، وقد غطته الشعارات التي لها في قلوبنا رنين: وطن حر شعب سعيد، والعلم الأحمر تتوسطه الكرة الأرضية وقد تقاطع فوقها المعول والقلم.
كان قبو ملحق القصر الذي غدا الآن متحفاً قد تحول إلى “سينما الشعب”، وكانت جريدة “الأنباء” أول طريقنا إلى القراءة السياسية المباشرة، وكانت بالنسبة إليّ أول منبر يتاح لي أن أكتب بتوقيعي، وفي بريد القرّاء، بعض الخواطر الوجدانية التي استولدتها الشعارات والأعلام وموقع القلم عليها، خصوصاً أنني لست على علاقة وطيدة بالمعول.
كنا ننتظره عصر كل خميس وهو قادم من بيروت بسيارته المرسيدس السوداء، ونسمع انه مُنع من قيادتها بنفسه لأن أفكاره قد تشغله عن الطريق.
وكنا نراه في الصباحات المشمسة لأيام الجمعة والسبت أحياناً وهو يضرب أرض الحديقة تحت القصر بمعوله، ووليد الطفل آنذاك يمسك بمعول صغير ويحاول أن يداري الشمس عن عينيه الزرقاوين بكفه اللدنة بينما تطارده مربيته السويسرية بالقبعة.
وكان يأتينا من يهمس في آذاننا أحياناً أن “كمال بك” قد قصد “كوخه” في أعلى المختارة، تحت بطمه مباشرة، ليختلي بكتبه وأوراقه وأفكاره، يقرأ ويفكر ويكتب، فنحرج من رفع أصواتنا، مهابة، بوهم أنها قد تزعجه!
من الصعب أن يتحدث جيلي عن كمال جنبلاط، السياسي والمفكر والكاتب والشاعر أحياناً، بلا عاطفة… حتى بين خصومه كان الإعجاب يخالط الإعتراض، وكان التقدير يحفظ للخصومة كرامتها، ذلك أن كمال جنبلاط كان صريحاً في خصومته أو معارضته السياسية من دون إسفاف، وكان حاداً في رفض ما لا يقتنع به لكنه لم يصل أبداً إلى رفض الآخرين ولم يخطر بباله أن يلجأ إلى غير الكلمة والموقف في حروبه التي نادراً ما هدأت.
في ربيع 1974 وعشية إصدار “السفير” ذهبت إلى كمال جنبلاط في منزله أشرح له تصوري للجريدة الجديدة.
قال لي وقد أخذ بحماستي للعروبة: يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية. شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب فتتكامل مع الديموقراطية. إن الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حكمت غالباً بالقمع فأساءت إلى فكرة العروبة وشوّهتها ونفّرت الناس منها. صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق بإسمها، فنفر منها الناس.
وافقته بطبيعة الحال وذكّرته بتجربة جمال عبد الناصر فقال جنبلاط بشيء من الحسرة:
خسرنا بطلاً عربياً عظيماً، وفي تقديري أن نظامه قد قتله. إن عبد الناصر أرقى من نظامه بكثير، ولكن نظامه كان لسنوات طويلة أقوى منه. لعله لم يتحرر من قيود النظام القمعي إلا بعد النكسة. لو كان نظام عبد الناصر ديموقراطياً لما توفّرت لإسرائيل فرصة ذلك الإنتصار الهائل الذي سيفرض علينا القهر لزمن طويل.
بعد صدور “السفير” إتصلت طالباً موعداً فقال: بل أنا سأجيء لزيارتكم…وجاء كمال جنبلاط فسمعنا منه امتداحاً لاتساع “السفير” للآراء المعارضة لنهجها السياسي. قال: هذه نبرة لبنانية تفيد العرب في تحركهم نحو المستقبل، لا تخافوا ممن يخاصمكم، الضعيف لا يخاصمه أحد.
يمكن القول بإمتياز إن كمال جنبلاط هو شهيد الديموقراطية بإمتياز، كما هو شهيد العروبة بإمتياز، بل إنه شهيد الغلط الذي أوقع التصادم بين شعار العروبة والديموقراطية.
وها نحن بعد أكثر من أربعين عاماً من الغياب نستمر في دفع ضريبة الدم الباهظة، نتيجة الافتراق بين الشعار العربي الذي رفعه الكثير من الأحزاب والحركات السياسية في ظل حدّ أدنى من الديموقراطية كانت تتمتع به في بلدانها ذات الأنظمة المدنية شبه الديموقراطية، وبين الممارسة القمعية التي لجأت إليها حين تسلقت الدبابة إلى السلطة بذريعة حماية العروبة… في حين أن الدبابة التي حمت السلطة قد سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجأة من حلفاء وأصدقاء بل ورفاق في العقيدة، إلى عملاء للإستعمار والإمبريالية والصهيونية.
إن دماء كمال جنبلاط ترسم لنا الطريق إلى الغد: فلا مقاومة للإحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية التي بات لها الآن عنوان ناصع مكتوب بالنجيع العراقي، إلا بإعادة الاعتبار إلى العروبة لتكون حركة بناء الغد…
وإعادة الاعتبار تقضي أول ما تقضي بإنهاء الفصل التعسفي بين الديموقراطية والعروبة.
إن العروبة الآن في المعارضة..معارضة في الشارع لنظم الطغيان، ومعارضة مقاومة للإحتلال الأجنبي، لا فرق بين أن يكون أميركياً أو إسرائيلياً، وليس جديداً الاكتشاف أن الطغيان حليف موضوعي للإحتلال، يمهّد له ويحميه، وأن الاحتلال حليف موضوعي للطغيان يرعاه ويزينه للناس ويحميه.
وبين المزايا النادرة لهذا النظام اللبناني أن بقية من ديموقراطية فيه، بفضل التنوع، قد وفّرت مناخاً صحياً لمقاومة الاحتلال الصهيوني، بالسلاح كما بالعقيدة والصمود الشعبي… وهكذا تضم قوائم الشهداء مجاهدين من حزب الله وحركة أمل كما من الحزب الشيوعي والحزب القومي والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب البعث وتنظيمات أخرى تؤمن بأرضها وبشعبها.
إن كمال جنبلاط يسكن في الديموقراطية وفي العروبة وفي الشعار الذي استذكره بهياً مكتوباً بالأحمر على مدخل “سينما الشعب” في المختارة التي تعرفت فيها وعبر العلم الذي يتقاطع فيه المعول مع القلم، إلى كل لبنان: “وطن حر لشعب سعيد”.
لنواصل المسيرة نحو كمال جنبلاط الذي ينتظرنا في غدنا غد العروبة والديمقراطية والتحرر.

المعلم مع الرئيس عبد الناصر
المعلم مع الرئيس عبد الناصر

الدبابة التي حمت السلطة سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجـأة من رفاق في العقيدة إلى عمـــلاء للإستعمار

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عايدة الجوهري” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class””]

في أن تكون نائباً

الديمقراطية التمثيلية عند كمال جنبلاط

دعا إلى المساواة الطبيعية والجوهرية من دون تمييز
واعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بتساوي البشر أمام الله

سعادة الإنسان وتفتّحه هما الغاية النهائية لكل جهد بشري

كلما تقدّم الزمن تفقد الديمقراطية التمثيلية في الأنظمة العربية معناها، لتتحول إلى خدعة لفظية وبصرية، لم تؤد ما يتوخى منها، ويتكشف فشل هذه الصيغة في التعارض الصارخ بين أداء معظم نواب الأمة في الواقع السياسي الفاسد مع واجباتهم المفترضة أو ما يوزعونه بسخاء من وعود وشعارات عند تقدمهم لنيل أصوات المواطنين. ومن واجبات النائب البديهية وفق تعريف نظامنا التمثيلي العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الناخبين وبمقتضيات الوكالة التي حصل عليها عبر العملية الانتخابية. إن التجربة اللبنانية هي مثال بليغ على تخلف النائب المكلف أو الموكل عن تنفيذ موجبات وكالته، وهذا الفساد في العلاقة بين الناخب والمنتخَب يبلغ أوجه في لبنان بسبب النظام الطائفي والولاءات الشخصية وغياب الأحزاب السياسية الوطنية كما إنه يعود إلى فساد نظام التمثيل نفسه.

هل هناك أمل؟
فما العمل إذاً؟ وهل هناك أمل لبلدنا وغيره من البلدان النامية التي لا تمتلك تجربة سياسية وتاريخاً في النظام التمثيلي؟ هل نرضخ للمثل القائل:”كما تكونوا يولى عليكم” فنحَمِّل بالتالي أنفسنا كمواطنين جزءاً كبيراً من الوزر أو ربما الوزر كله؟ وهل يوجد نظام أفضل؟ ومن سيختاره ويقرّه؟ وهل يكفي النظام القانوني في غياب الوعي المدني وثقافة الشفافية والإفصاح والمساءلة ؟
مثل كثير من الناس شغلني دائماً الزيغ الحاصل في وظيفة النائب والتناقض في أغلب الحالات بين ماهية دوره والتي هي تمثيل مصالح الشعب والعمل للصالح العام، وبين دوره الفعلي على أرض الواقع وآثاره السلبية على المجتمع، وليست غايتنا هنا التعميم بالتأكيد، إذ شهدت الساحة النيابية في لبنان عبر عدة حقب بروز برلمانيين صادقين وقيادات شعبية سعت فعلاً إلى تمثيل المواطن وتوفير التشريع وأسلوب الحكم اللذين يراعيان مصالح الناس ويعبران عن تطلعاتها وتطلعات الأجيال الشابة، لكن وجود الإستثناء لا يلغي صحة القاعدة وظهور مصلحين أفراد لا يلغي الصورة غير المفرحة لطبقة السياسيين المحترفين في أغلبهم، مما يعني أن المشكلة قائمة وطويلة الأمد.
في ضوء هذا الواقع راعني دوماً الإبهام النظري في تعريف دور النائب ومسؤولياته واقتصار التعريف على مسألة التشريع، وتساءلت كيف يمكن لهذا النائب الذي ينتخب على أساس عائلي أو طائفي أو بسلطان المال أو بتدخل الأجنبي أن يقوم حتى بدوره المفترض كمشترع ناهيك بدور المصلح أو “:المنقذ” إلى ما هنالك من الصفات الطنّانة لكن المفتقدة لأي مصداقية في عين المواطن المحبط.

وثيقة تاريخية
خلال بحثي عن بعض أجوبة لهذه الإشكاليات وقعت على كتيّب للمعلم الراحل كمال جنبلاط، وهو كناية عن محاضرة ألقيت يوم 15 آذار 1947 ضمن سلسلة محاضرات الندوة اللبنانية حملت عنوان “رسالتي كنائب”. كان كمال جنبلاط قد انتخب نائباً في البرلمان اللبناني خلفاً لعمه حكمت جنبلاط وعمره لم يكن قد تجاوز الثلاثين عاماً، وقد فوجئت فعلاً بعمق هذا النص وما حمله من تعريفات ومن اقتراحات بشأن دور النائب ومسؤولياته، لذلك ومن أجل تسليط الضوء على ذلك النص القيّم سأورد هنا بعض أهم ما جاء فيه، إذ إنني وجدت في أجوبة كمال جنبلاط السياسي الشاب والمثقف التقدّميّ الذي كان قد تخرج محامياً من جامعة السوربون في باريس ما يساعد على التفكر في الموضوع الشائك للديمقراطية النيابية وأفكاراً جريئة وعملية قد نكون في أمس الحاجة إليها في هذه المرحلة التي نشهد فيها انهيار التقليد البرلماني والحكم المسؤول الذي عرفناه قبل دخول مرحلة التدهور التي دشنتها الحرب الأهلية.

كمال-جنبلاظ1
كمال-جنبلاظ

بين السياسي ..ومحترف السياسة
يبدأ كمال جنبلاط محاضرته في الاتجاه المعاكس، معبراً عن عدم حماسته للموضوع المكلّف بمعالجته، ليس من قبيل الاستخفاف بدور النائب، بل بسبب نفوره ممن يسميهم فئة السياسيين المحترفين أو محترفي السياسة، والكلمة الأخيرة هي ترجمة تقريبية لمصطلح Politique politicienne الفرنسي الذي لا توجد ترجمة عربية له، والذي يمكن أيضاً ترجمته إلى “سياسة سياسوية” والتي تدل في ما تدل على السياسي (رجلاً أو امرأة) الذي يستخدم الجماهير لأغراضه وطموحاته ولا يملك المعرفة ولا الترفع الضروريين لحسن إدارة الشأن العام. ولو قُـيِّض لكمال جنبلاط لكتب على باب الندوة النيابية “لا يقبل محترفو السياسة في هذه الندوة”، مثلما كتب أفلاطون على باب جمهوريته قاصداً الشعراء، فهذه الفئة من محترفي السياسة تستمدّ أساليبها من نفعية مركانتيلية إلى ميكيافلّية خطرة إلى علم ناقص وهو الأشد خطراً، لكن كمال جنبلاط لم يكن ليتشاءم من ديمقراطية ناقصة أو مشوهة حسب ما يعتقد لأن الديمقراطية بطبيعتها نموذج محكوم مثل كل الظواهر بالتطور والإرتقاء بتأثير التعلم من التجارب وحركة التاريخ وجدلية الأضداد مثل الشر والخير، والظلم والحرية، والرأسمالية والعمل، والجهل “والعلم الواعي، والضلال والحقيقة.

مرتكزان أساسيان للديمقراطية
بعد هذه المقدمة ينتقل جنبلاط إلى تعريف مصطلح الديمقراطية ممهداً لتعريف دوره كنائب، فيبدأ بسرد الأخطاء الدموية التي ارتكبت بإسم الديمقراطية أو “حكم الشعب” بدءاً من قادة الثورة الفرنسية وانتهاءً بهتلر وستالين، ليعرض ما يعتقده الأسس الأولية لتجسيد هذا المفهوم ويحصر هذه الأسس بإثنين:
أولاً: حرية الإنسان بالمعنى الفعلي
ثانياً: المساواة الطبيعية والجوهرية بين البشر من دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو ما شابه من التصنيفات، وهو يعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بالمساواة أمام الله، علماً أن المساواة أمام الله لا تقضي بالضرورة بتساوي البشر في الدنيا، ولكن القبول بحتمية وجود الفوارق الاقتصادية بسبب اختلاف الكفاءة والمهارة وغيرهما من العوامل يجب أن لا يغطي الحاجة الأخلاقية لحماية الضعفاء الذين لا يستطيعون مجاراة القوي في المنافسة القاسية التي تحكم أسلوب عمل النظام الرأسمالي.
ويعتبر كمال جنبلاط أن المساواة الجوهرية تجعل الإنسان غاية إزاء أخوانه وإزاء المؤسسات البشرية، والمهنة والدولة والعائلة، لأن الوظيفة الحقيقية لهذه المؤسسات هي خدمة الإنسان بما يتفق وتفتّح شخصيته وتحقيق غاياته الأساسية المادية والمعنوية، متبنياً كنه الفكر الإنساني التنويري الذي يجعل الإنسان وتفتحه وسعادته غاية كل جهد بشري.

“كمال جنبلاط قَبل بحتمية نشوء فوارق اقتصادية لكنه أصرّ على ضرورة حماية الدولة للضعفــاء “

ولا يفوت كمال جنبلاط المثالي الصوفي التوحيدي أن يرهن الديمقراطية بالحب لا الإلزام، إذ لولا هذا الحب الذي يعصف في عقل الفنان والشاعر ورجل العمل والمبدع إلى أي فئة انتسب، لما أمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية. وتركيزه على لزوم المحبة للديمقراطية جعله يعرف فن الحكم كتوفيقٍ وجمع بين “تفهم محب وعمل كريم، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين حالة الحق وحالة الواقع، بين القوة والفعل، وفق مثال يخطه الحاكم لنفسه”.
إلا أن جنبلاط لم يكتف بعامل المحبة في بناء الديمقراطية، فالقانون هو الوجه الآخر لروح المحبة والعدالة، ولروح التفهم العميق لقيم الشخصية والبشرية والمصلحة العامة والحق الطبيعي، وهو الحجر الأساس لترسيخ الديمقراطية وحماية المجتمعات من الاستبداد، لكن سلطة القانون التي تحمي الديمقراطية لن تجدي نفعاً، ما لم يواكب القانون وعي وسلوك عامان، فالحرية “إنما تكون في قلوب النساء والرجال، فإذا ماتت فلا الدستور ولا القانون ولا القضاء يسعه أن يضع شيئاً يذكر لمساعدتها”، أي أنه يراهن على شيوع ثقافة الديمقراطية والحرية أكثر من مراهنته على القوانين الرادعة والناظمة.

ماذا تعني الحرية لكمال جنبلاط؟
لا ينتمي كمال جنبلاط إلى أولئك الذين يقصرون الحرية على حرية التعبير وحرية الفكر والتجمع وحرية السلوك الاجتماعي والاقتصادي، أي الليبرالية بما هي إعلاء لقيم الفردية على حساب الجماعة. فحسب كمال جنبلاط إن الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية التي ينشدها المرء، تفقد معناها إذا اقترنت بفوضى إقتصادية لا تهتم بمصائر البشر، ولا تأخذ بعين الاعتبار مصائر مختلف الشرائح الاجتماعية ولاسيما الضعيفة منها. فإن حصل هذا التجاهل وأصبح كل فرد مهتماً فقط بنفسه وكل جماعة مهتمة بنفسها فإن “الحقوق الطبيعية” التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان مثل الحقّ في الحياة والعمل والكفاية المعيشية والتعليم والتطبيب والراحة والتقاعد تصبح مجرد حقوق نظرية وفارغة من أي معنى، وهو لذلك يتساءل: “وما الفائدة من أن نُقِرّ للمرء حقه في الحياة والعيش عندما يصعب على فئة كبيرة من الشعب أن تعيش؟” و”ما الفائدة من حرية العمل، عندما يتعسر أو يستحيل وجود هذا العمل لملايين من العاطلين عن العمل؟” والقول نفسه يصح في حق الإنسان في الراحة، وحقه في التطبيب، وفي الإعانات العائلية وفي التقاعد وفي السكن وفي التسلية وفي التعليم إلخ….

رؤية سبّاقة
بهذه الطريقة يربط كمال جنبلاط بين الحقوق السياسية من جهة وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ يعتبر هذه الحقوق متلازمة فلا حرية سياسية من دون إكتفاء إقتصادي وفرصة لعمل كريم ورعاية للأسرة وللصحة وفرصة للتعليم ولا معنى للكفاية الاقتصادية أو للعمل إذا كان الثمن الحرمان من الحريات السياسية كما حصل في الأنظمة الشيوعية أو الفاشية الإستبدادية، لذلك فإنه يدعو إلى استيعاب فكرة المساواة الاقتصادية التي تدعم المساواة السياسية أمام القانون، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص في سبيل تنمية مواهب الأفراد وثرواتهم، وهو بذلك يعبّر عن رؤية سبّاقة بكل معنى الكلمة، إذ إن هذه الأفكار التي عبّر عنها في العام 1947 هي التي قامت عليها “شرعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” التي أقرّتها الأمم المتحدة في الستينات كمكمّل لشرعة حقوق الإنسان السياسية والفردية التي ترافقت مع تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

“رسالتي كنائب”
بعد أن يعرّف كمال جنبلاط الديمقراطية، ينتقل إلى تحديد رسالته كنائب منطلقاً من تعريفه السابق للديمقراطية، تلك التي تجمع بين “الحرية” (أي الحريات السياسية) و”الطمأنينة” (أي الأمان الاقتصادي والمعيشي)، ووفق مفهوم خاص لدور النائب، يخرج عن إدعاء مجرد النطق بإسم الجماهير، والإنابة عنها لأنها اختارته، وهو يعرّف دوره كنائب على الشكل التالي:
“إن رسالتي كنائب تشمل في الجوهر تفهم وتفهيم الديمقراطية الصحيحة لمواطنيّ اللبنانيين، هي في أن أعكس لهم في تفكيري وشعوري وفي كتاباتي وفي عملي شيئاً من هذه الروح الإنسانية الخلقية البناءة…. فتجعل منهم جميعاً، أو من أكثريتهم الساحقة على الأقل، مواطنين أكفاء مخلصين لوطنهم، وكتلة واعية فاهمة تقدس الطبيعة الإنسانية”.
ويضيف: “رسالة النائب هي في أن يشع حوله هذا الإكتناه وهذا التكريم للشخصية الإنسانية من حيث هي غاية في حد ذاتها وللحريات العامة التي ترتكز عليها: حرية المناقشة، حرية الاجتماع، حق تكوين الجمعيات، حق العمل وحق العيش، تلك الحريات التي في صيانتها الأساس الوحيد لقيام وبقاء الديمقراطيات”.
وعلى الدولة بالتالي أن تصمم مؤسساتها وقوانينها ونهج الحكم بما يصون الحق الطبيعي في الحياة وفي الحرية وفي السعي وراء السعادة والطمأنينة لا أن تقوم بما يعاكس أو يحبط إمكان التمتع المسؤول بتلك الحقوق.

يوضح هذا العرض مصادر كمال جنبلاط المعرفية في تلك المرحلة المستقاة من الفلسفة الإنسانية Humaniste ومن منطلقات “ديكارت” ومن شرعة حقوق الإنسان ومن أسس الليبرالية الغربية السياسية لا الاقتصادية ومن الأفكار اليسارية الاشتراكية، ومن الروحانيات الشرقية التوحيدية، ومن نظريات برغسون، وفكرة المحبة وارتباطها بالديمقراطية وهو لا يكفّ في رسالته القصيرة هذه عن الاستشهاد بالدستورين الأميركي والانكليزي، وهو يحسم أمره في أن مفاهيم الديمقراطية والحريات العامة والقوانين المطابقة للحق الطبيعي ذات منشأ غربي، مشككاً في الدعوات السلفية، ودعوات الأفغاني ومريديه الذين اعتقدوا بإمكان إحياء مدنية شرقية سياسية مختلفة جوهرياً عن مدنية الغرب، التي هي “مدنية العالم”.

“استهجَن الديمقراطية اللبنانية التي تقوم على تقسيمات جغرافية وفئوية ولا تعير اهتماماً لمؤهلات النائــب الأخلاقية والتزامـه الديمقراطي”

كمال-جنبلاظ
كمال-جنبلاظ

النائب ليس مجرد ناطق بإسم ناخبيه!
ينتقل كمال جنبلاط للتأكيد على أن النائب “ليس محامياً عن مصالح معينة أكانت قومية أم سياسية أم إقليمية، وقبل أن يكون متزعماً لفكرة وممثلاً لصوفية خاصة ولمبدأ ولحزب” فإنّه “باني الديمقراطية ومؤسس الدولة”، مستخفاً بمفهوم “الوكالة” التي تفترض أن يمثل النائب وجهة نظر ناخبيه، أيّاً كانت، وهو الذي شكك في أكثر من مكان بالديمقراطية العددية، وروّج لنظرية النخبة والتفوق العقلي والأخلاقي والثقافي، أي لـ “أرستقراطية عقلية وأخلاقية”، ولكن هذا الطموح المثالي يطرح إشكالية التوفيق بين ضمان قيادة النخبة المتفوقة عقلياً وأخلاقياً ونظام الاقتراع العام حيث لكل شخص وبغض النظر عن مكانته أو تعليمه أو حسن اطلاعه صوت يساوي صوت فرد من النخبة المثقفة أو النخبة السياسية أو الحاكمة مهما كانت مكانته..إلا إذا افترضنا (على سبيل التهكم) أن الجماهير قد توصلت هي الأخرى إلى ثقافة ووعي إستثنائيين؟!.
نستعرض اليوم كيف فهم جنبلاط رسالة النائب، كان من الطبيعي لذلك أن يعرب عن تعجبه أو استهجانه لواقع الديمقراطية اللبنانية التي تحصر التمثيل النيابي في لبنان بتقسيمات جغرافية وتصنيفات فئوية مقنّعة (وإن كان القانون لا يشير إليها صراحة) تحتاج إلى مسّاح Topographe يحصي الكيلومترات، وإحصائي يحصي الأنفار في كل منطقة، مستغرباً أيضاً أن تكون هناك حاجة لاستخدام تعبير “نزاهة الانتخابات” وهي كلها معايير وتصنيفات لا تتصل بوظيفة النائب ولا تعير أي اهتمام لمؤهلاته الأخلاقية والفكرية والتزامه الديمقراطي الفعلي.
كم تبدو الرؤية السبّاقة للنائب الشاب كمال جنبلاط بعيدة اليوم عن واقع التمثيل النيابي في لبنان وواقع دور النائب وقد تدهورت صفة النائب مع الأزمات واندلاع النزاعات الطائفية لتصبح مجردة من أي معنى وبعيدة كل البعد عن التعريف الذي وضعه كمال جنبلاط وتمنّى أن يشهد تطبيقه في الحياة النيابية، مع ذلك، فإن تلك الرؤية التي مرّ عليها الآن سبعون عاماً بالتمام، ما زالت تنبض بالصدق والخيال السياسي للمصلحين الكبار أولئك الذين بذلوا قصارى طاقتهم للإرتقاء بزمنهم وبمجتمعهم والذين حتى عندما لم يتوصلوا إلى تحقيق كل طموحاتهم تركوا على الأقل للأجيال التالية دستوراً وشرعة سلوك واضحة كضوء النهار.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المعلم في صبيحة يومه الأخير يصدح بنشيد «الذات الخالدة»” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

«لست خائفاً من الموت»

حياة كمال جنبلاط المعلم الكامل كانت بصغيرها وكبيرها حياة تجليات لم تتوقف وحياة جِدّة جعلت كل مقالة له وكل موقف إشراقة خاصة وحكمة لا تكرر نفسها إطلاقاً، وقد زخرت حياة كمال جنبلاط بما لا تسعه مجلدات من المواقف والأقوال لكن، قليل منا الذي يدرك أهمية المقال الذي ادخره المعلم لآخر يوم في حياته الحافلة وهو يوم كان متوجهاً فيه إلى ما نسميه نحن الموت والذي أسماه هو بكل بساطة ووضوح في ذلك اليوم بالذات “الخلاص”.
في ذلك اليوم الفاصل، اليوم العظيم، جلس كمال جنبلاط على سريره الخشبي البسيط في المختارة وهو في حال من الغبطة التي يصعب أن توصف. حرص يومها قبل ساعات من موعده الأخير على أن ينشد في حال من السرور والغبطة “نشيد الذات الخالدة” من تأليف فيلسوف التوحيد الهندي الكبير أدي شانكارا الذي يعتبر الشخصية الأبرز في تاريخ الأدفايتا فيدانتا الهندية وهي فلسفة التصوف الهندي الذي نهل منها شعراء العرب والفرس المسلمون وانتقل الكثير من مفاهيمها بل وتعابيرها إلى التصوف الإسلامي وإلى العديد من التيارات الروحية في العالم.
يعود هذا النشيد إلى القرن الثامن الميلادي ويعتبره حكماء الهند من الأناشيد الخالدة لأنه يلخص في ستة أبيات فلسفة التوحيد وخلود الذات الجوهرية في ما يتعدى الجسد وعالم الحواس والمفاهيم والصور. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يصدح المعلم أمام زواره في ذلك الصباح بهذا النشيد قبل ساعات من موعده المرسوم .
فلنتأمل ملياً في هذا النشيد ليس فقط لأنه الرسالة الأخيرة التي حملت تفسير كمال جنبلاط لوهم الجسد وخلود الذات بل لأنه أيضاً من أبلغ الدروس التي تركها لمحبيه وتابعيه والسائرين في طريقه كزاد روحي لا يفنى.

نشيد الذات الخالدة

أنا لست الفكر ولا الذهن ولا الأنا ولا الذاكرة
أنا لست الأذنين ولا الجلد، ولا الأنف ولا العينين
أنا لست الفضاء ولا الأرض ولا النار ولا الريح
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أنا لست النّفّس ولا العناصر الخمس
أنا لست المادة ولا الحجب الخمس للوعي
أنا لست الكلام ولا اليدين ولا القدمين
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس هناك ما أحب أو أكره ولا يأخذني جشع أو انخداع
ليس فيّ ذرة من افتخار أو حسد
لست مقيداً بواجب، ليست لي رغبة بثروة
لست تائقاً لشهوة ولا حتى للخلاص
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً
لا فضيلة هنا أو رذيلة، لا سرور أو ألم
لست في حاجة إلى مانترا أو إلى حج أو كتب مقدسة أو طقوس
لست أنا ما تختبره الحواس ولست أنا الاختبار ذاته
أنا الوعي المطلق بلا شكل، أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس بي خوف من الموت، لا انتماء لي إلى طبقة أو عقيدة
ليس لي أب ولا أم لأنني لم أولدُ أبداً
لست نسيباً لأحد ولا صديقاً ولا معلماً ولا تلميذاً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أصبحت خالياً من كل ثنائية وشكلي لا شكل له
موجود في كل مكان، متخللاً لجميع الحواس
لست متعلقاً ولا حراً ولا أسيراً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

[/su_spoiler]

 

[/su_accordion]

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي