السبت, حزيران 7, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, حزيران 7, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

لبنانيون في اليمن

لبنانيون في اليمن

نجيب أبو عزّ الدين

في صيف 1934 نشبت حرب بمقاييس ذلك الزمان بين ملك المملكة العربية عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يحيى حميد الدين، وذلك في خلاف على منطقة عسير التي يعتبرها اليمنيون تاريخياً جزءاً من اليمن كونها ولاية من ولايات بلادهم أثناء الحكم العثماني وقبل أن يستقل بها فعلياً محمد الإدريسي. ووصل الأمير فيصل نجل الملك عبد العزيز ورجاله المزودون بعقيدة ناشئة وبأسلحة أكثر حداثة إلى ميناء الحديدة اليمني بعد تراجع قبائل ومقاتلي اليمن بقيادة الأمير أحمد ولي العهد اليمني. وتداعت القيادات والشخصيات العربية والإسلامية الناشطة آنذاك إلى تشكيل لجنة لإصلاح ذات البين بين العاهلين العربيين المستقلين عن الإنتدابين البريطاني والفرنسي، واللذين اقتسما القسم العربي من السلطنة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأُولى، وذلك بموجب اتفاق سايكس بيكو عام 1916.
وكان من بين أعضاء اللجنة (الرباعية) الأمير شكيب أرسلان المناضل العربي والإسلامي الذي كلفته مواقفه وسياسته ضد الانتداب، خاصةً الفرنسي، النفي إلى سويسرا حيث راح يتابع حياته السياسية من هناك، ويراسل زعماء حركات التحرر والإستقلال في كل من لبنان وفلسطين والمغرب والجزائر وتونس، ويعقد صداقات متينة ورصينة مع زعماء العالم العربي آنذاك، وقد نجحت هذه اللجنة في إيقاف الحرب بين الطرفين، وتمّ عقد اتفاقية الطائف عام 1934، وتراجعت القوات السعودية الى الحدود الحالية بين البلدين، وظلت اتفاقية الطائف تحكم العلاقات بين البلدين رغم عدم إقتناع حكام اليمن بها، إلى أن كرّس الرئيس السابق علي عبد الله صالح هذا الاتفاق بموجب اتفاق جدّة عام 1990.
وتعود علاقة الأمير شكيب باليمن إلى الفترة التي كان فيها نائباً في مجلس «المبعوثان العثماني» وصديقاً للأعضاء اليمنيين فيه، وهو كتب تقريراً وافياً عن رحلته إلى بلاد الحجاز، وقدّم إقتراحات مفصّلة عن وجوب تطوير علاقة السلطنة بولاياتها اليمنية البعيدة، ومن بين الاقتراحات تمديد خط سكة حديدية من ولاية الحجاز آنذاك إلى اليمن على إمتداد البحر الأحمر، حتى إن الموظف العثماني يوسف بك حسن من قرية بتلون الشوفية حين عيّن قائمقاماً على أحد أقضية اليمن ووصل إليها عام 1910 كان يقول إنه رسول سياسي وسري للأمير شكيب الى اليمن وإنه مبعوث الأمير اليها، كما قال الصحافي والمناضل عجاج نويهض. صحيح أن علاقة الأمير شكيب بالإمام يحيى كانت سبقت التوسط في إنهاء الخلاف بين العاهلين الجارين إلا أن اهتمامه باليمن قد زاد بعد ذلك، وقد صُدِم بتخلف هذا القطر وعزلته عن العالم،

نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني
نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني

 

 

ذهب إلى اليمن بتشجيع من الأمير شكيب أرسلان
فأمضى فيها عقدين كاملين ولعب فيها أدواراً مهمة

وكان القادة والمناضلون العرب والمسلمون يعولون أن يكون الإمام يحيى وعاصمته صنعاء منطلقاً أو مركزاً لكيان سياسي ما يجتمع العرب تحت ظلاله، خاصةً بعد فشل تجربة الهاشميين في الحجاز وسوريا. واقترح الأمير شكيب إطلاق نهضة عربية عن طريق الإستعانة بالشباب العربي الناهض المتعلم والمتخرج من الجامعات في كل من لبنان ومصر وفلسطين والعراق لإطلاق هذه النهضة، التي تشمل قطاعات الإدارة والتربية والتعليم والمواصلات والجيش أهم عوامل قيام الدولة الحديثة. ولهذه الغاية، إتصل الأمير بمعارفه في لبنان وخارجه من أجل تشجيع الشباب المتعلم للذهاب إلى اليمن، إلا أن الإمام يحيى خيّب أمل كل هؤلاء وآثر أن تبقى إمامته تطوق أراضي اليمن وتمنع عنها رياح التغيير المتمثل بالعوامل المذكورة، أو الإستعانة بالغرباء، مع ما قد ينتج عن هذه الرياح من فساد وإفساد خلقي وديني!!
هكذا كان قدر نجيب سعيد أبو عزالدين أن يكون من بين الذين دعاهم الأمير شكيب للذهاب الى اليمن رغم معرفته بصعوبة المهمة والتي اقترح الأمير أن تكون لمدة سنة على سبيل التجربة مشبّهاً إياها بـ “الخدمة الإجبارية” في بلد عربي!! والشاب نجيب المولود في 1909 تخرّج من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وهو ابن سعيد الموظف الذي خدم في السودان التابعة آنذاك لراية ملك مصر (تحت الحماية البريطانية)، وشقيقه الأصغر حليم، السفير لاحقاً في وزارة الخارجية اللبنانية. هذه العائلة الدرزية من بلدة العبادية معروفة بعِلمِها وعملها في الإدارة والقضاء والشأن العام منذ عهد المتصرفية، ولما لم تعد المتصرفية ولبنان الانتداب لاحقاً، يستوعبان علم وطموح ونشاط أبنائها فقد وصلت بهم أقدارهم إلى السودان ومصر واسطنبول وكذلك سويسرا، حتى إن الشاب نجيب كان قد خرج من المساحة الضيقة للعمل في لبنان الانتداب وتوظّف في مشروع منتجع مياه الحمة في فلسطين، والذي كان يملكه متمول من لبنان من عائلة ناصيف من بلدة المختارة الشوفية، وخلال عمله هناك تلقى رسالة من والده نقل إليه فيها عرض الأمير شكيب عليه الذهاب إلى اليمن، ولو لسنة واحدة للتجربة، خدمة للعروبة التي كانت الأزمات التي أصابتها تؤرق فكر الأمير، ورغم أن معرفة نجيب باليمن كانت كمعرفة باقي المتعلمين قليلة جداً، ورغم استشارة بعض الذين التقاهم، ومن بينهم الناشط السياسي والمفكر أمين الريحاني الذي زار اليمن عام 1922 وقابل إمامها، والذين نصحوه بالصبر والاستعداد لتحمل المشقة، ورغم الرسالة المبهمة التي تلقاها الأمير شكيب من الإمام بهذا الشأن والتي تعطي إنطباعاً واضحاً عن عقليته وأسلوبه في إدارة البلاد، نقول رغم كل ذلك تحمس الشاب للذهاب مثل بعض أقرانه اللبنانيين العاملين في كل من العراق والمملكة العربية السعودية.

نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع
نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع

عشرون عاماً في اليمن
أمضى نجيب أبو عزالدين عشرين عاماً في اليمن بدأت في أيلول عام 1936 وانتهت في أواسط العام 1956، نصفها في اليمن الإمامي الشمالي على مرحلتين والنصف الآخر في عدن مع البريطانيين، وهي مدة تعتبر طويلة في الظروف التي كانت تمرّ بها اليمن آنذاك، ورغم أن جميع الأطراف التي عمل معها قد طلبت منه الاستمرار، إلا أنه آثر، بعد عشرين عاماً، الاعتذار عن عدم مواصلة عمله هناك والعودة إلى لبنان. وكان من بين الأسباب التي دعته إلى ذلك وفاة والده من جهة ثم اعتلال صحته من جهة أُخرى، وكان قد أجرى أربع عمليات جراحية وعانى الكثير حتى إنه إضطر أثناء الحرب العالمية الثانية ومن أجل العلاج أن يسافر إلى لبنان عن طريق الهند ثم البصرة ثم براً الى بيروت!!) وهو شكا يوماً أن كل أمراض اليمن استقرت فيه!

مع الإمام يحيى
دامت هذه المرحلة ثلاثة عشر شهراً فقط، من أيلول 1936 لغاية تشرين الأول1937، وتعتبر هذه المدة من أصعب المراحل في حياته المهنية. وكما كان مفترضاً فقد التحق بوزارة الخارجية والاتصالات، وفوجئ أن الوزارة تقوم على موظف واحد هو التركي محمد راغب الذي خدم السلطنة العثمانية كقائمقام في طرابلس الشام ثم كمتصرف في اليمن قبل أن يستدعيه الإمام يحيى للخدمة بعد سقوط السلطنة. وقد شكا هذا “الوزير” لاحقاً في عهد الإمام أحمد من ضعف دوره في مواضيع العلاقات الخارجية وإهماله من قبل الإمام وأبنائه. وكانت الوزارة تتألف من غرفة في المبنى الحكومي، وكان على الموظف الجديد “نجيب” أن يترجم كل ما يصل المملكة من تقارير وطلبات وعروض أسعار، إضافة إلى أمور ليست لها علاقة بالوزارة، لأنه كان المترجم الوحيد!! كان عليه أن يستقبل الفضوليين في المكتب، يأتونه دون موعد أو سبب، ومنهم من يأتي فقط كي يستمع إلى الراديو الوحيد الموجود والمسموح به. كان على نجيب أن يتابع ما أمكن من نشرات الأخبار، ومنها نشرة أخبار إذاعة برلين باللغة العربية، وان يقوم بإعداد تقرير شبه يومي عن أحوال العالم يرفعه للإمام!!
كانت جلسة العمل الحكومي تجري حين يصل الإمام الى الديوان، فيجلس على فراش أعلى من غيره يحيط به بعض “سيوف الإسلام” من أبنائه والمكلفين ببعض المهام، وبعض الموظفين الذين يعرضون عليه أعمالهم، حيث يقرأها موظف ويبت هو فيها ويوقّع عليها بخاتمه، ثم يستمع لبعض الحضور قبل أن يخرج الى قصره للغداء، وللإستعداد لجلسة القات عصراً التي تعتبر جزءاً من العمل كذلك.
كانت الآلة الطابعة التي استقدمها معه نجيب موضوع تعجب واستغراب من الإمام والحضور في المجلس، حتى إنه طلب منه مرة أمام حضرة الإمام أن يشرح كيف يضع أوراق الكاربون بين الصفحات ويطبع بسرعة دون النظر إلى مكامن الحروف، ثم يسحب خمس نسخ من أية صفحة يطبعها!! لا بل صدم مرة حين دخل إلى المكتب موظف لوضع قيد حديدي في رجليه مبلغاً إياه أنه معاقب مع زميل له لخطأ طباعي وقعا فيه! وهو الذي كان عليه أن يعمل مساءً على ضوء قنديل كاز (نمرة 4) لينهي ترجماته وتقاريره الفائضة عن عمله في المكتب.
بدأت الأحوال تسوء والشكوى من كثرة العمل والإرهاق تتسع، علاوة على أن الحذر الدائم منه والشك به وشعوره بقلة الثقة بشخصه جعلته يفكر بعدم تجديد العقد الذي كان مقرراً لسنة واحدة قابلة للتجديد، ولما نقل تبرّمه إلى ولي العهد مطالباً بتحسين أوضاعه الوظيفية والمادية ورغبته بالعودة الى وطنه، أجابه هذا ممازحاً أن عليه أن يختار بين المتابعة في العمل وبين دخول السجن!! لكن المرض وندرة الأطباء (طبيب إيطالي واحد) عجّلا في حسم خروجه من صنعاء مرفقاً بشهادة إنهاء الخدمة التي حملت عبارات عمومية وجافة أوحت له بنكران الجميل وقلّة التقدير.

الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري
الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري

 

في حكومة عدن
وعلى عكس الإحباط وعدم التقدير اللذين حملهما “نجيب” من تجربته مع الإمام يحيى وأولاده، عرفت حكومة عدن البريطانية قيمته، وقدرت الحاجة إليه، واستفادت من تجربته في الشمال، ومن معرفته بأطباع الإمام وسياساته، ومن إجادته للغات، وعيّنته ضابط ارتباط سياسياً وأُسندت إليه مهاماً تضخمت مع الوقت ومنها:
1. تسوية الخلافات القائمة بين السلطنات المتحالفة مع حكومة عدن، ومنها الخلافات حول توزيع المياه النادرة والاختلاف على المراعي.
2. تسوية الخلافات بين هذه السلطنات وحكومة عدن خاصةً تلك المتعلقة بتوزيع الرواتب على السلاطين وحاشياتهم والمخصصات التي كانوا يطالبون بها. وكم من مرة عبّر عن دهشته واستغرابه لشعوره أنه عاد الى القرون الوسطى خلال زياراته الى السلطنات من أجل حل بعض القضايا العالقة بين الحكام وأنسبائهم ورعاياهم.
3. تسوية الخلافات والتعدّيات الحاصلة بين السلطنات المحاذية لدولة اليمن الإمامية الشمالية، حيث اشتكى السلاطين غالباً من جور الإمام وتعديات عماله على أراضيهم خاصةً أن هؤلاء العمال كانوا يعيبون على السلاطين والتابعين لهم عمالتهم للمحتل البريطاني ويصفونهم بالخونة للإسلام والعروبة!!
ومن أفضل من هذا الضابط الأشقر البشرة والعربي اللسان ليتعاطى مع هذه الأزمات الدائمة الوقوع، التي يصعب على الضابط البريطاني التعامل معها! لا بل أصبح “نجيب” صلة الوصل بين مسؤولي حكومة عدن ومبعوثي الإمام العلنيين والسريين. ويكشف أبو عزالدين بعض السياسة السرية التي كان ينتهجها الإمام مع البريطانيين، فبينما كان يهاجم الإنكليز علناً وجهاراً لأنهم استعماريون ومحتلون، إذ به يرسل، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، مندوباً رفيع المستوى بمهمة سرية إلى ضابط الإرتباط ليشجع الإنكليز على احتلال مضيق باب المندب خوفاً من أطماع إيطاليا الفاشية، والتي كانت تحتل أثيوبيا وأريتريا والصومال، وتحاشياً لسيطرتها على سواحل البحر الأحمر من جهتيه، غير إن مصالح الإنكليز آنذاك وبعد نظرهم الاستعماري جعلهم يرفضون هذا العرض حتى لا يستعدوا العالمين العربي والإسلامي.
كما إن بوادر العمل السياسي بدأت تظهر لدى أبو عزالدين. فنتيجة للسياسة القمعية للإمام يحيى وولده أحمد، حاكم تعز، تجاه العناصر المتنورة في البلاد وانتشار بعض الأفكار التحررية في بلدان العالم العربي ومقاومة الاستعمار وتأثر اليمنيين بهذا الجو، اضطر بعض المتعلمين في اليمن الإمامي لأن يلجأوا إلى عدن ويطالبوا بالإصلاح والديمقراطية، وطلب بعضهم

شيبام في حضرموت عام 1945
شيبام في حضرموت عام 1945

اللجوء السياسي رسمياً، ما جعل النفور يزداد بين حكومة عدن وحكم الإمام الذي طالب بإعادة هؤلاء المعارضين أو طردهم من البلاد. وبات أبو عزّ الدين يلتقي سراً أو علناً مع هؤلاء، أمثال محمد الزبيري الذي قتل في ما بعد والأستاذ أحمد محمد نعمان، وهذا ما جعل وضع أبو عزّ الدين حرجاً تجاه السلطتين الجنوبية والشمالية، حتى إن موظفي الاستخبارات البريطانيين لم ينظروا بعين الرضا الى لقاءاته التشجيعية لهذه العناصر التحررية المطالبة بالاستقلال والمتأثرة بالجو السياسي المتنامي.وكان “نجيب” يساعد هؤلاء العناصر على صياغة بيان سياسي أحياناً أو على تخفيف ملاحقة الإنكليز لهم احياناً أخرى. لقد استمرت صداقته لهؤلاء اللاجئين حتى عندما عاد لاحقاً للعمل مع ولي العهد سيف الإسلام أحمد، الذي لبّى رغبته بتخفيف الحكم عن المناضل الأستاذ أحمد محمد نعمان المسجون في سجن مدينة حجة (وكان اسم هذا السجن يوحي بالرعب) ثم بالإفراج عنه!! ورغم الاتكال عليه من قبل حكومة عدن كان أبو عز الدين يطالب بتحسين وضعه الوظيفي، خاصةً أن صحته تراجعت نتيجة لذلك العمل في المناخ اليمني المضني. ولهذا لبى دعوة وجّهها اليه ولي العهد أحمد، أثناء زيارة رسمية له إلى عدن، للعودة إلى العمل معه في تعز ثم في صنعاء، الأمر الذي اعتبره “نجيب” إعترافاً من ولي العهد بأهميته.

مع الإمام أحمد
فشل انقلاب 18 شباط عام 1948 بالتخلص من الحكم الإمامي، رغم مقتل الإمام الكهل والمريض يحيى وإثنين من أبنائه ورئيس وزرائه عبد الله العمري، وسارع الإمام أحمد بالعودة من تعز ليقضي، بالتعاون مع القبائل، على العهد الجديد قبل شهر آذار من العام ذاته، حيث نكّل بالانقلابيين وسجن بعضهم. تلقى السيد أبو عزّ الدين برقيتين متلاحقتين من شقيق الإمام أحمد يلحّ عليه بالعودة إلى تعز للعمل مع الإمام الجديد وكان قد طلِب منه قبل الاستدعاء بحوالي سنة الإلتحاق بالوفد اليمني الذاهب الى لندن لحضور الطاولة المستديرة حول القضية الفلسطينية، رغم أنه لم يكن مرتبطاً بالنظام الملكي، فإن الحاجة إلى مهارته وخبرته السياسية وقدراته اللغوية باتت ملحة أكثر من قبل ، خصوصاً بعد أن أبصرت الجامعة العربية النور وأصبحت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل للعالم العربي، وبات الانفتاح أو الاهتمام بالشأن الإقليمي والدولي حاجة إضافية للنظام اليمني بعد أن أصبحعضواً مؤسساً للجامعة، مما حتّم خروج هذا النظام مما كان معتاداً عليه من عزلة وعدم مشاركة في القضايا العربية.
عاد أبو عزّ الدين إلى الشمال مقدَّراً ومستفاداً من خدمته وخبرته السابقتين للإمام الراحل ولولده الإمام الحالي، وقد تلقى عبارات التقدير والثناء من الإمام ومن كبار المستشارين، وأنزله الإمام في دار الضيافة في تعز ليظل قربه وليشرف على راحة الضيوف الرسميين، وليتابع جهاز راديو البطارية الوحيد الذي ينقل أخبار العالم ولتعود غرفته من جديد ملتقى الفضوليين ونزلاء دار الضيافة. وأُضيفت إلى مهامه وظيفة جديدة حساسة وهي تدريس ولد الإمام، الإمام البدر، اللغة الإنكليزية ومبادئ القانون الدولي على اعتبار ما سيكون له من دور في المستقبل، ولما رأى أن المسؤوليات التي باتت تلقى عليه بهذا القدر من الأهمية، طالب بالحصول على لقب “سفير”. ولعلّ السيد نجيب تمنى الحصول على هذا اللقب لوجود بعض أقرانه اللبنانيين يعملون كما أسلفنا في العراق والمملكة العربية السعودية، وحصلوا على لقب مماثل، كما هي الحال مع فؤاد بك حمزة اللبناني من بلدة عبيه، والذي حصل على ذلك اللقب في السعودية، علاوة على أن أخاه حليماً صار بمثابة قنصل عام لبناني في القاهرة، وقد التقى به نجيب مرة هناك أثناء مروره بالقاهرة.

مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946
مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946

دور سياسي ودبلوماسي
لم يلب الملك يحيى، الذي لم يكن متساهلاً كعادته رغبة نجيب وأقنعه بأن كونه المستشار السياسي الأوحد له يفوق هذا اللقب! وكانت وزارة الخارجية قد “ تضخمت” وباتت تضم حوالي عشرة موظفين ومن بينهم السيد سامي أبو عز الدين الذي استقدمه نجيب ليعمل معه في الوزارة لمدة يبدو أنها لم تطل كثيراً! وكون “نجيب” قد صار مسؤول المراسم وقريباً من الملك، فإنه بات يتابع معظم اللقاءات والزيارات والوفود التي كانت تزور تعز، ولقد روى بعض الأحداث الطريفة التي كان شاهداً عليها ومنها تقديم أوراق اعتماد سفير باكستان. كانت باكستان عضواً في رابطة دول الكمنولث في ذلك الحين، وكان سفراؤها يقدمون أوراق اعتمادهم باسم جلالة ملكة بريطانيا، وهذا ما رفضه الملك أحمد واعتبره إهانة للإسلام أن يقدم سفير مسلم أوراق اعتماده باسم ملكة بريطانيا!! عقد كبار رجال الخارجية إجتماعاً هاماً وزاروا الإمام راجين منه أن يقبل كتاب الرئيس الباكستاني بمثابة أوراق اعتماد والضرب صفحاً عن كتاب الملكة. “وقد ألهم الله جلالته قبول رجاء المسؤولين في الخارجية فقام السفير بمقابلة جلالة الإمام وقدم له أوراق اعتماده الرسمية” قبل أن يعود الى مقر إقامته في القاهرة!
هكذا صار الأستاذ نجيب جزءأً ضرورياً من الجهاز الإمامي الدبلوماسي اليمني يمارس البروتوكول والترجمة والعلاقات العامة والنصح للإمام الناشئ ولي العهد البدر، وكذلك عضواً في البعثات اليمنية التي ستنتدب الى خارج البلاد. ففي أواخر العام 1948 تشكل وفد يمني رفيع المستوى برئاسة الإمام البدر غايته التوسط في الخلافات وحل النزاعات الناشئة بين بعض الملوك والرؤساء العرب، وكذلك تدشين سياسة انفتاح يمني تحل محل سياسة العزلة التي تميزت بها السياسة اليمنية تقليدياً، واستهدف الوفد أيضاً التعرّف على ما كان يجري في العالم العربي، وقد شعر أبو عز الدين بالفخر لهذا الانفتاح واعتبره نتيجة تأثيره وتعاطيه الدائم مع الإمام البدر وشملت الزيارة، الرسمية والسياحية، كلاً من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وسوريا ولبنان ومصر ودامت مدة 125 يوماً قابل خلالها ولي العهد والوفد الرسمي كل المسؤولين في هذه البلدان، وكان للسيد نجيب دور في تكريم واستضافة الوفد في لبنان وفي عقد معاهدة سميت “معاهدة الصداقة والتجارة بين لبنان واليمن”، وجرى تعيينه لاحقاً مرافقاً للوفد اليمني إلى دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول 1949، وساهم في ما بعد في إنشاء المفوضية اليمنية المتوكلية في واشنطن عام 1951.

الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد
الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد

مديراً في هيئة الأمم المتحدة
استفاد السيد أبو عز الدين من وجوده في نيويورك لينتقل الى الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة بمنصب مدير مساعد لقسم الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أوصله هذا المنصب ليكون بين عامي 1954 و 1956 مستشاراً وضابط ارتباط في بعثة الأمم المتحدة في الصومال خلال فترة نقل هذا البلد من الاحتلال الإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية الى أصحاب البلاد الشرعيين. هذا الانتقال للعمل في المنظمة الدولية لم يتم برضا الإمام، فإذا به يستدعيه لمرافقته إلى جدة لحضور جلسات الحلف الدفاعي الثلاثي الذي انعقد بين الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس جمال عبد الناصر وإمام اليمن، وشارك “نجيب” في هذا الاجتماع الهام رغم كونه ما زال محسوباً على هيئة موظفي الأُمم المتحدة في الصومال.
لم يسمح إعتلال صحة “نجيب” بمتابعة عمله وتنقله في مناخ غير مؤات في اليمن أو الصومال، فآثر العودة رغم إلحاح الإمام احمد وولده البدر عليه بالبقاء ومحاولة إغرائه بتحسين وضعه الوظيفي والمادي، وقد تزامن اعتلال صحته مع وفاة والده عام 1956 فاستقر في لبنان نهائياً.

كتابان عن أيامه اليمنية
أرّخ الأُستاذ نجيب أبو عزالدين تجربته اليمنية في كتابين: الأول بعنوان “الإمارات اليمنية الجنوبية 1937-1947” وصدر عام 1989، والثاني بعنوان “عشرون عاماً في خدمة اليمن” وصدر عام 1990. وفي حين اقتصر الكتاب الأول على تجربته وعمله ومغامراته في القسم الجنوبي من اليمن الخاضع للحماية البريطانية، صدر الكتاب الثاني بصورة أشمل وأعمق، ويبدو أنه كان يدون قسماً من مضمون الكتابين على شكل مذكرات كتبها أثناء عمله ثم عاد ليصيغها من جديد بأُسلوب فيه من السلاسة واللباقة، والسخرية أحياناً، للتعبير عن غرابة الموقف والحدث. وتنمّ تجربته عن الصدق والمثابرة والتواضع وحتى التفاني والصبر في ممارسة عمله، مما أكسبه تقدير وثقة من تعامل معهم في ناحيتي اليمن، ولو لم يكن يتمتع بهذه الصفات لما تحمّل ما تحمّله، ولما صار موضع ثقة الإمام وأبنائه رغم حذرهم منه غالباً، ومن كل غريب يتعامل معهم.
والى جانب الأحداث والمهام الموكلة إليه، جمع الأستاذ نجيب كمية كبيرة من الملاحق والوثائق ونصوص المعاهدات، كذلك أضاف الى تدوين تجاربه معلومات عن المحميات الجنوبية وطرق تعاطيها مع البريطانيين، كذلك عن عادات الأئمة وتاريخهم دون أن يتطرق الى مذهبهم الزيدي إلا لماماً، لذا يبقى هذان الكتابان مرجعاً لنصوص المعاهدات والاتفاقيات المبرمة آنذاك، وهي نادرة الورود في مراجع يمنية أُخرى. وهو لم يستند إلى تجاربه ومشاهداته فقط، إنما تزود بمعلومات قيمة من مراجع إنكليزية وعربية، ما زالت حاضرة في مكتبته، هذا الى جانب مجموعة من الصور النادرة عن بعض الأئمة أو الأمراء والسلاطين والضباط البريطانيين والشخصيات التي التقى بها.

دار الهجرة - وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي
دار الهجرة – وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي

لقد عزّ على الأستاذ نجيب ألا تنال هذه العشرون سنة من خدمة اليمن التقدير اللازم ومن التعويض المعنوي والمادي، كما لم يحصل على أي لقب يليق بما قدمه، مثل لقب سفير أو ممثل دولة أو ملك كما حصل على مثله بعض من خدم في عواصم أُخرى. ونحن حين نعود الى سيرة الأستاذ نجيب والكلام عن تجربته في اليمن، نكون قد أعدنا ذكراه إلى الضوء وأوفيناه بعض التقدير الذي كان يستحقه، لينضم الى قافلة عريقة من شخصيات عائلة أبوعز الدين، وليبقى علماً من أعلامها في الوطنية والخدمة العامة في لبنان والخارج.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي