القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وإثنان في النار، وتفسير ذلك:
الأول عرف الحق وقضى بموجبه فدخل الجنة.
أما الثاني فعرف الحق وقضى ضده.
أما الثالث فقضى من دون معرفة الحق فكان الأخيران في النار. (حديث شريف)
قصص القضاة كثيرة ومثيرة أحياناً وقلما خلا الأدب الشعبي في أي بلد من حكايات وعبر عن أعمال القضاة لأن العدل مسألة تتعلق بها قلوب الناس ويهتمون بأخبارها كما يهتمون ويتابعون أخبار الجور والإفتئات على الحقوق والكرامات. تحضرني هنا مأثرة لأحد الملوك في غابر الزمان، إذ كان ما إن يعيّن قاضياً حتى يطالب الشعب بعزله، غير أن قاضياً جديداً انتدبه للنظر في قضايا وشؤون الناس في إحدى المدن بقي الشعب يطالب ببقائه عاماً بعد عام. تعجب الملك من هذه الظاهرة وثار فضوله فقرر أن يذهب بنفسه ويستطلع سبب تعلق الناس بذاك القاضي، تدروش بزي رجل بسيط وركب فرسه قاصداً تلك المدينة.
في الطريق شاهد رجلاً منبطحاً إلى جانب حائط يستغيث بذي المروءة، ليحمله كونه مريضاً. أشفق الملك عليه ثم نزل عن فرسه وأركبه مكانه. وبعد وصولهما إلى المدينة المقصودة، طلب الملك الفرس فأبى المدّعي أن يعيدها قائلاً إنها ملكه، آنذاك ما كان أمامهما سوى الإحتكام إلى القاضي، والذي كان يحاول الملك أن يعرف سبب محبة واحترام الناس لقضائه وأحكامه.
كان القاضي المذكور يقضي بدعويين غير دعوى الملك على الرجل، الأولى بين لحّام وزيّات على صرة دراهم، والثانية بين كاتب ومكاري على إمرأة يدّعي كل منهما أنها زوجته، وهي لا تنبس ببنت شفة. ولما وصل الملك المتدروش والرجل المتخاصمان على الفرس، كان الوقت قد صار مساء، فقال القاضي للمتداعين: اتركوا عندي الصرة والمرأة والفرس وتعالوا غداً فأسلم كل ذي حق حقه.
في الوقت المحدّد، رجع المتداعون إلى المحكمة، فقال القاضي للشرطي: سلّم صرة المال إلى اللحام، واصرف الزيّات بعد أن تجلده أربعين جلدة، ثم سلّم المرأة للكاتب واجلد المكاري أربعين جلدة، ففعل الشرطي، ولما أتى دور المتداعيين على الفرس نهض القاضي، وأنزل المتدروش (أي الملك) إلى الإسطبل، حيث الفرس المربوطة بين عدد من رؤوس الخيل، ثم طلب إليه أن يدله عليها ففعل على الفور، ثم أتى بالرجل وطلب إليه أن يعرفها فعرفها أيضاً.
قال القاضي للشرطي: سلّم الفرس للمتدروش واجلد الرجل أربعين جلدة.
دهش الملك المتنكر لأحكام القاضي القاطعة، فقصده ليلاً إلى منزله وكشف له أنه الملك وأنه يريد أن يعرف على أي أسس بنى أحكامه.
أجاب القاضي: أما الدراهم التي اختلف عليها اللحام والزيّات، فإنني وضعتها في الماء المغلي فطافت الأزهام والأدهان العالقة بها، فعرفتها أنها دراهم اللحام.
أما المرأة التي اختلف عليها المكاري والكاتب، فقد أمرتها أن تضع علفاً للفرس، فلم تستطع أن تميّز نسبة كمية الشعير في العلف إلى نسبة التبن، فعرفت أنها زوجة الكاتب وليس المكاري.
قال الملك: يبقى أن تخبرني كيف علمت أن الفرس هي فرسي، مع أن المدّعي عرفها كما عرفتها أنا!
أجاب القاضي: لكن ظهر لي فرق كبير بين معرفتك ومعرفته، فهي عرفتك بهمهمتها ونظرتها إليك وعطفها نحوك.
فأين قضاة اليوم من قضاة الأمس.
وأين زعماء اليوم من زعماء الأمس.
وهل أن اليوم أفضل من الأمس؟!
حكاية «أم الصبي» في آداب الشعوب
العدل في التراث الصيني والهندي
وصولاً إلى قضاء النبي سليمان (ع)
قال بعض الحكماء:
لا شيء أحسن من عقل زانه حلـمٌ
ومن عمل زانه علـــمٌ
ومن حلم زانه صدقٌ
البلد مليء بأخبار ونوادر السياسيين وصفقاتهم والأعمال المشينة لبعضهم (ولا نريد التعميم). ومن هؤلاء من يرفعون شعارات العفة والطهارة وحتى الشفافية، حتى إذا تجرّأ أحدهم وسألهم عن سبب التناقض بين أقوالهم وأفعالهم اعتلوا سروج خيولهم وسطوح أبراجهم وملأوا الدنيا بصياحهم مرددين بكل ثقة وفخر: نحن من سلالة “أم الصبي” وهم يعنون بذلك أن لا أحد يمكن أن يضاهيهم في الغيرة على مصلحة البلاد والعباد. وكي لا يبقى استخدام الكلام في غير محله ومن أجل تحرير هذا المثل من الاستخدام الباطل أحببت أن أسرد ثلاث حكايات مما أوردته الكتب المقدسة وآداب الشعوب توضح أصل هذا التعبير وسبب تحوله إلى تعبير شهير في أكثر الثقافات العالمة.
لنبدأ بقصة مثيرة في الأدب الشعبي الصيني وردت في كتاب “الشمعة والغرفة المظلمة” لأحد الكتّاب الصينيين، وقد دارت فصول تلك الرواية في بيت أحد الأمراء في الصين، إذ لعبت دور البطولة فيها زوجة من جهة وعشيقة من جهة ثانية. وتقول الرواية إن الأمير تزوج إبنة عمه فلم يرزق منها بولد رغم مرور ست سنوات على الزواج، فراح يُفكر بوليّ للعهد. وارتأى أن يتخذ له عشيقة لتقوم بالمهمة، ثم فاتح إبنة عمه بالأمر فوافقت بعد ممانعة، كون التعاليم الدينية لا تسمح بتعدد الزوجات عند الصينيين.
استجابت السماء لدعاء الزوجة الطاهرة فحملت في الوقت نفسه الذي حملت فيه المرأة التي اتخذها الأمير عشيقة طمعاً في أن يرزق منها بوليّ للعهد، بل شاءت الأقدار أن تضعا معاً في ليلة واحدة، فولدت الزوجة صبياً وولدت العشيقة بنتاً.
أصيبت العشيقة بصدمة كبيرة وهي ترى غريمتها قد رزقت بوليّ للعهد بينما لم تجلب هي للأمير سوى بنت والبنت في المجتمع الصيني القديم لا يمكن أن تعتلي عرشاً. وسوس الشيطان للعشيقة فعمدت إلى أخذ الصبي خلسة وفي غفلة عن والدته ووضعت البنت مكانه على أمل أن يقوم الأمير بتطليق زوجته وإحلال العشيقة مكانها، كونها هي التي ولدت له ولي العهد. لكن عندما انتبهت الزوجة لجناية العشيقة رفعت الصوت عالياً وأوصلت الأمر إلى قاضي القضاة، فعيّن موعداً للمحاكمة واستمع إلى مرافعات العشيقة والزوجة، وكانت الحجج متقاربة في المرافعتين. عندها قرر إحضار الطفل إلى بيته وأوصى زوجته كي تعتني به.
في الموعد المحدد للإستماع إلى الحكم وضع ثياب الطفل فوق جسد لعبة بحجم الطفل كانت صنعتها زوجته من القماش والقطن، ثم قال للزوجة والعشيقة إنكما لا تستحقان هذا الطفل، وعليه قررت أن أضعه في هذه الجرة، وأن ألقيه في النهر، ثم عمد مسرعاً إلى وضع اللعبة في الجرة ورمى بها في النهر المجاور للمحكمة.
الأم الحقيقية ما كان منها إلا أن ألقت بنفسها في النهر وراء الجرة، أملاً منها بإنقاذ الطفل، رغم أنها لا تحسن السباحة، بينما العشيقة بقيت في محلها.
عرف القاضي آنذاك من هي الأم الحقيقية، ثم أرسل السباحين لإنقاذها، ومن بعدها أصدر أمراً بتسليم الطفل إليها.
وفي الأدب الشعبي الهندي في ( كتاب تاريخ النفق) رواية تأسر الأنفاس تقول: كانت إحدى السيدات اللواتي حُرمن نعمة الأمومة تمر قرب أحد الأنهار فشاهدت شابة خارقة الجمال تستحم في غدير، تاركة ثيابها وطفلها على مقربة منها، فغافلتها واستولت على الطفل وولت هاربة ثم زعمت أنه ابنها.
الأم الحقيقية لحقت بها وهي عارية، محاولة إسترجاع فلذة كبدها فلم تفلح.. لكن القدر كان بالمرصاد إذ وصل إلى مكان النزاع أحد وجهاء القرية المجاورة، وبعد مشاهدة المرأتين تتخاصمان ألقى فوراً بعباءته فوق جسد المرأة العارية، ثم أمرهما بتسليم الطفل إليه والذهاب معه إلى رجل حكيم كان مشهوراً في الناحية.
ما إن وصل الرجل والإمرأتان إلى مقر الحكيم، حتى عقد جلسة محاكمة استمع خلالها إلى الرجل الشاهد أولاً فقال هذا: كنت قاصداً على ظهر فرسي صديقاً في البلدة الواقعة خلف النهر، فشاهدت سيدتين تتنازعان أمومة الطفل الذي أحضرته إلى هنا.. وقد راعني أن تكون إحدى المتنازعتين عارية، من ثيابها فغضضت طرفي ثم ألقيت عليها عباءتي، ولما عرفت سبب النزاع عرضت عليهما أن تحتكما إلى عدلكم أيها الحكيم وأحضرتهما مع الطفل إلى مجلسكم الموقّر.
بعد الشهادة هذه استمع الحكيم إلى المرأة التي كانت متدثرة بالعباءة فقال: قبل شهرين رزقت بهذا الطفل من زوجي المدعو فلان، لكن القدر سرق زوجي مني قبل أن يبصر ولدنا النور بثلاثة أشهر، وبعد فك الحداد قصدت النهر مع طفلي لأستحمّ، فوضعته فوق ثيابي على مقربة من حافة الغدير ولم يكن ببالي أن تتجرّأ إحدى النساء من الإنس أو الجن على التفكير بخطفه مني والإدعاء أنها أمه.
غير أن المرأة الثانية قالت: لقد جنى عليّ الدهر فحرمني العيش في أحضان عائلة كريمة، إذ إنني أبصرت النور عند أم غير مستقيمة وعندما كبرت وقعت في غرام رجل فتزوجته وحملت منه، لكنه لم يكن وفياً فتركني وكنت بعد في الشهر السابع من حملي. وأثناء قيامي اليوم بنزهة مع طفلي على شاطىء النهر تصدّت لي هذه المرأة فخفت منها، لكنها لحقت بي وحاولت أن تنزع فلذة كبدي عن صدري، فتعاركنا إلى أن وصل هذا الرجل في غمرة شجارنا. وطلب منا الاحتكام إلى حضرتك.
تعجب الحكيم بحجة كل من المتداعيتين لكنه لم يصل إلى تكوين القناعة التامة بتحديد الأم الحقيقية، فقرر إخضاعهما لإختبار يقضي بأن تشد كل إمرأة بالطفل شداً قوياً صوبها ومهما تكن النتيجة وبعدها يكون الطفل لمن تشده نحوها. المرأة الباغية قبلت على الفور. لكن لابسة العباءة رفضت قائلة: أفضل أن تأخذه هذه المرأة على أن أسمعه يصرخ من الألم. آنذاك علم الحكيم أن الأخيرة هي الأم الحقيقية للصبي وفهم لماذا ركضت عارية من ثيابها خلف سارقة الطفل لاستعادته فحكم بتسليمها إياه.
أما من هي أم الصبي الحقيقية عند النبي سليمان عليه السلام، فالعديد من المثقفين يعرفونها إذ يتناقلها الأحفاد عن الآباء والأجداد وعبر الزمان. غير أنني أردت أن أوردها كما هي في سفر الملوك من التوراة وليس عن غيرها.
تقول الرواية أن إمرأتين من أهل البغاء كانتا تسكنان كوخاً واحداً، وشاء القدر أن تحمل هاتان البغيتان في وقت متقارب، وبعد تسعة أشهر وضعت كل منهما طفلاً ذكراً بفارق ثلاثة أيام، لكن مشيئة الله قضت أن تكون إحداهما ثقيلة النوم فقلبت أثناء نومها على طفلها وتسببت في إخماد أنفاسه.
استيقظت صباحاً واكتشفت هول ما حدث لطفلها، فعمدت إلى نقل طفلها الميت من فراشها، واستبدلته بطفل صديقتها التي كانت تتحضر خارج الكوخ لإرضاع طفلها. وكان من جراء ذلك أن اشتعل الخلاف بينهما، ولم تستطع أي منهما الإحتفاظ بالصبي الحي. بعد أن هدأت العاصفة لبعض الوقت قالت إحداهما للثانية ما رأيك لو ذهبنا إلى الملك سليمان بصفته وعرضنا عليه خلافنا، فوافقتا وتعاهدتا على أن ترضيا بحكمه العادل.
حضرت المرأتان مجلس النبي سليمان عليه السلام، وعرضت كل منهما القضية عليه فقالت الأولى، إن هذا الطفل هو إبني، أنظر إليه أنه يبز القمر جمالاً مثل أبيه، وعندما سألها عن سبب عدم مجيء والد الطفل قالت إنها بغية.. عندها نظر إلى رفيقتها كي تجيب عن إدعائها فقالت: أنا مثل رفيقتي وهذا الطفل هو طفلي وفلذة كبدي ولا أعرف من هو أبوه.. لكنني أعرف بأن صديقتي ثقيلة النوم كثيراً وقد طلبت منها عندما وضعت طفلها أن لا تدعه ينام في حضنها خوفاً عليه فلم تقبل النصيحة. ومن هنا كانت الوقيعة. وحيث قتلت طفلها بعد أن انقلبت عليه ولكنها استغلت وجودي خارج الكوخ فاستبدلت طفلها الميت بطفلي الحي.
بعد التدقيق بالأمر وتقليبه من جميع الوجوه، وفي ظل عدم وجود شاهد حي على ما جرى، قال النبي سليمان (ع): إما أن أحلّف كل منكما اليمين على صحة ما تدّعي وإما اللجوء إلى الحكم الإلهي.
وبما أنني أخشى أن تحلف كل منكما اليمين الكاذب، كما أخشى أن تنتصر الأم الزائفة على الأم الحقيقية لهذا استلهمت من رب العالمين أن يمدني من لدنه بالقدرة على كشف الحقيقة وإعطاء الحكم العادل.
وبما أنكما لا تستحقان أمومة هذا الطفل قررت أن أقطعه بالسيف نصفين متساويين فأعطي لكل منكما نصفاً محدداً.
ما إن سمعت الأم الحقيقية هذا الحكم حتى صرخت بأعلى صوتها: أرجو صاحب العدالة أن يترك هذا الصبي على قيد الحياة حتى لو أخذته هذه القاتلة. أما الأم الزائفة فلم تعترض على الحكم رغم صعوبته، كما قالت .
على الإثر أدرك النبي سليمان وهو الملك العالم العادل من هي الأم الحقيقية وأصدر أمراً بتسليمها الطفل.
يلي ما عندو كبير يشتري كبير
الشاب الذي أدهش تيمورلنك
حقاً للعمر الطويل والعقل النيّـر المستنير والآخذ معرفة الدال والدليل أن يصبح مدرسة ومرجعاً في الإرشاد والتوجيه لخير السبيل.
الحياة بأكملها مدرسة من المهد إلى اللحد فكيف بالذي يعيش العمر المديد بين الكتب والمعارف والمعاشرة والمؤازرة والتنقل بين شتى المشارب والتجمعات، فمن المدرسة طفلاً حتى الجامعة شاباً إلى الحياة العملية رجلاً، والحياة الإجتماعية كهلاً وشيخاً ليتزود ويزداد علماً ومعرفة بالكثير الكثير من العبر والمآثر والقيم، ومن خلال التجارب والتجاوب مع العديد من العادات والتقاليد والأمثال والمثل ليختبر من ذاك أو يختمر مع ذاك، وفي النهاية يستخلص وليختزن مع ما يكتنز ويغني الفكر والذات.
من هنا الحري بنا أن نأخذ برأي وتدبير من هم أكبر منّا سناً وأكثر تفاعلاً وتجاربَ، إذ أن آراءهم وأحكامهم هي ثمرة تجربة ومعاناة يقدمونها لنا خبزاً ناضجاً من مخابزهم إلى موائدنا نقتات بها بأقل المتاعب والمصاعب، وهذا مغزى القول المأثور الشهير “يلي ما عندو كبير يشتري كبير”.
أما ما أحوجني إلى كتابة هذه المأثرة ما سمعته من شاب كان يتعاون معنا في طرش منزلنا وطلاء أبوابه ونوافذه وهو من بلدة تل الأبيض قرب الرقة في الجمهورية العربية السورية.
قال: ياعم، سمعت أنّكم حافظو ومدونو التراث وتاريخه، فهل تسمع مني هذه العبرة عن لسان جدتي، والتي جاوزت التسعين من العمر وكانت لم تزل تردد على مسامعنا ربما كي نتمثل بها ونقتدي بمدلولها.
قال: إن تيمورلنك ذاك القائد المغولي البطاش، حينما غزا بلادنا وصل أحد قادته المتجبرين إلى مدينة احتلتها جيوشهم فطلب من سكانها أن يخرجوا إليه جميع معمريها من الكهول حتى العجزة، وحيال مثولهم بين يديه أمر بقطع رؤوسهم. أحد الشباب كان يحب والده كثيراً ويعتمد عليه كثيراً، رأياً ومشورةً، وهو تمكن من إخفائه عن نظر الواشين والمخبرين طمعاً في حفظ حياته والعودة إلى رأيه وتدبيره في كل صغيرة وكبيرة.
في تلك الأثناء كان القائد المغولي أمر السكان الباقين بالذهاب إلى حقولهم وكان يعتزم تسخيرهم بعمل مضنٍّ تحت أشعة الشمس وحرّها اللافح، ولكن عمل لا طائلة منه وهو طلب منهم أن يتخيلوا أنفسهم يحصدون الريح.
الشاب أخبر والده بما طلب القائد المتعسف وكيف سيمضون أوقاتهم في لهيب الشمس وما الفائدة من حصاد الريح. أجابه والده إفعل يا بني ما يطلب منك لكن عندما تشاهد القائد قادماً نحوك أفرك يديك وتظاهر أنك تأكل ما بينهما. وهكذا، عندما شاهد الشاب القائد المغولي قادماً صوبه فعل كما نصحه والده. اندهش القائد وسأل الشاب: ماذا تمضغ أيها الشاب؟ أجاب: مولاي ما أمرتنا به، فالذي نحصده نأكله. دهش القائد لتصرف الشاب وبداهته فهزّ برأسه وقال: لا شك من رجل كبير يرشدك.
أحنى الشاب برأسه وقال: مولاي، هل بقي من كبير في مدينتنا كي تسأله وقد أمرت بقتلهم جميعاً، ومنهم أبي وأمي.
لم يقتنع القائد المستبد بإجابته، وأراد أن يمتحنه من جديد فقال له:غداً تأتيني منتعلاً وحافياً.
أخبر الشاب والده بما أمر القائد من جديد فأجابه: هذا سهل يا بني، إخلع نعل حذائك السفلي واجعل الباقي منه فوق رجليك بعد أن تربطهما مع سروالك.
في اليوم التالي نظر القائد نحوه وقال: كيف أنت حافٍ والحذاء فوق رجليك؟ رفع الشاب إحدى رجليه عن الأرض فإذا هي من الأسفل حافية وتلامس الأرض.
هزّ القائد برأسه متعجباً ثم أعاد القول من جديد: لا شك أن والدك حيٌّ أو أحد أقاربك يرشدك برأيه. ثم نظر إليه بمكرٍ وقال: غداً تأتيني راكباً وماشياً.
أعلم الشاب والده بذلك فأجابه: لا تقلق يا بني وهذا أمر سهل، وما عليك إلاّ أن تركب مهراً صغيراً وترخي قدميك بحيث تلامسا الأرض.
عندما وصل الشاب على جحشه الصغير شقل القائد حاجبيه تعجباً ثم استلقى على ظهره ضاحكاً وقال: مهما تخفي ومهما تتظاهر أنك بريء فهذا لا يحملني على تصديقك، وأنك عبقري زمانك، وأن هذا الذكاء لا يصدر عن شاب بعمرك، ومع هذا سأطلب إليك من جديد أن تأتي في اليوم التالي بصديق وعدو من بيتك.
عرض الأمر على والده المحنك فأجابه: الأمر سهل، غداً صباحاً يا بني اصطحب كلبك وزوجتك معاً وعند وصولك بين يديه تضرب الكلب بخيزرانة تحملها بيدك فينبح الكلب ويعوي، وبعد أن يبتعد عنك تناديه من جديد فيعود مسرعاً إليك وهو يهز بذيله، ثم يمرغ برأسه في جانبيك وكأنّ شيئاً لم يكن.
بعدها تضرب زوجتك بذاك القضيب وعندها تسمع الجواب النجيب والغريب، وما يدلك على عدوانيتها وغضبها القريب.
وهكذا حصل أمام القائد فبعد أن ضرب الكلب وعوى، إلا أنه أسرع بالعودة إليه بعد مناداته وهو يشمشمه من جديد. لكنه ما إن ضرب زوجته بالقضيب ذاته حتى انتفضت غاضبة وخاطبت القائد بالقول: مولاي زوجي كذّاب ومحتال وخائن، ووالده لم يزل حياً وقد أخفاه في أحد الأقبية ويعود إليه في جميع ما طلبته منه.
ضحك القائد كثيراً متعجباً أيما إعجاب لهذا الذكاء الخارق للأب الكهل وللشاب الذي يعرف كيف يطلب المشورة من الكبار أصحاب التجارب. فقال: لقد عفوت عنك وعن والدك والواجب كان علينا عكس ما فعلنا أن نحترم الكبار ونجل المقام قبل الصغار كي نأخذ بآرائهم وبركاتهم وتجاربهم فلهم حق المشورة وإليهم نلجأ عندما يعوزنا التدبير.