الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

استشهاد القديس يوحنا المعمدان

صدر أخيراً كتابٌ قيّم للمحامي الدكتور منيف حمدان بعنوان “تركيب الملفات وثورات الكبار”، يتضمن ملفات عن ما يسميه “عشر مظالم تاريخية” أهمها وأجلّها ملف النبي يحيى بن زكريا أو القديس يوحنا المعمدان، الذي سنركز عليه في هذه المراجعة.

وخير ما يبتدأ بذكره الإنجيل المقدس عن يوحنا المعمدان،إذ يقول: “ومن ذلك امتنان الرّب تعالى على أبوية الأكرمين وهم في حالة الكبر”، وكذلك شهادة السيد المسيح (ع) قائلاً: “إنه أعظم نبيٍّ وأنا أشهد أنه أعظم من مائة وثمانين نبياًّ، ومن جملة الأنبياء أصولاً مائة وتسعون نبياًّ”. وأن يوحنا المعمدان الوارد ذكره في الإنجيل المقدس هو ذاته يحيى بن زكريا الوارد ذكرهُ في القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: }يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا{ (مريم:7) وكذلك قول الرسول محمد (ص) : لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا، إذ وصفه القرآن فقال }وآتيناه الحكم صبيا {ولم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. وقد ورد اسم النبي يحيى عليه السلام في القرآن الكريم ستَّ مرات، وجاء ذكره في أربع سور قرآنية: آل عمران، الأنعام، مريم، الأنبياء. وجاء الحديث الرئيس عنه في سورة مريم عليها السلام.
حسب النصوص المسيحية فإن القديس يوحنا ولد وعاش في عهد الحاكم الروماني المستبّد هيرودوس لوالدين هما النبي زكريا وزوجته المؤمنة من بنات هارون أليصابات. وكانا عابدين تقيين ملتزمين بالشريعة، وقد طعنا في السن ولم يُرزقا بولدٍ إذ كانت الزوجة عاقراً، ومع هذا لم يفقد زكريا الأمل، وقد كان من عادته ككاهن أن يترك قريته الجبلية ويتوجه إلى القدس مرتين في السنة، وكان من مهامه أن ينثر البخور على الجمر المتوهج، ولما يبدأ البخور برائحته الزكيّة يتصاعد حاجباً ما حوله سأل زكريا ربّه “ربّ هبني من لدنك ذريّة طيّبة إنك سميع الدعاء”. وأجاب الله دعاءه وبعث إليه الملائكة مبشرين.وقال “لا تخف يا زكريا فإن صلاتك قد سُمعَتْ وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتدعوه يوحنا فيكون لك الفرح والسرور، ويكون إماماً عظيماً لا يشرب الخمر والمُسكر ويمتلىء من الروح القدس ويسير أمام المسيح بروح إيليا النبي وقوته”. ولما سأل زكريا الملاك المتكلم معه أجابه: “أنا جبرائيل الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشّرك بهذا فلتكن منذ الآن صامتاً لا تستطيع الكلام إلى يوم تكون هذه البشارة لأنك لم تؤمن بكلماتي وهي تتم بأوانها”. ولما جاء الوقت لأليصابات أن تلد ولدت ابناً فأسمته يوحنا.
بعد وفاة والديه أدرك الطفل يوحنا أنه معدّ لرسالة عظيمة، فعاهد نفسه على الصبر، لهذا اعتزل الحياة في المدن والقرى وتوجّه إلى البريّة هائماً على وجهه، وقطع عهداً على نفسه أنه لن يقتات إلاّ بأكل الجراد والعسل البريّ، وكان قميصه مصنوعاً من وبر الجمال… ولما بلغ الثلاثين من العمر ترك البرية وعاد إلى القرى المحيطة بالأردن منادياً بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا حيث أثّرت كلماته الروحيّة بسامعيه، فتذكروا كلمات الأنبياء السابقين أشعيا وأرميا وحزقيال، فتقاطرت الجموع إليه من كلّ مكان، من القدس ومحيط البحيرة وبريّة جلعاد حيث يسكن بنو اسماعيل، وراحوا يسألونه فيجيب: “ أثمروا ثماراً تليق بالتوبة، من له قميص فليعط من ليس له، ولا تطالبوا أيّها العشّارون بأكثر مما أردتم به، ولا تظلموا يا أيها الجنود أحداً، ولا تعتمدوا علي وكفاكم أجركم.. أنا أعمّدكم بالماء ويأتي بعدي من هو أقوى منّي.. ذاك الذي لا أستحق أن أحلّ سير حذائه.. هو يعمّدكم بالروح القدس وهو الذي قلتُ عنه يأتي بعدي رجلٌ صار قدّامي لأنه كان قبلي”… بسرعة البرق انتشرت أخبار يوحنا المعمدان، ولما طرقت هذه الأخبار مسامع هيرودوس أطلق جواسيسه في كل مكان لينقلوا ما يتحدث عنه، ودامت تلك المراقبة عدة شهور فأدرك هيرودس أن المعمدان رجلٌ صادقٌ وأمين وطاهر. ويوماً أرسل إليه أحد أتباعه لإلقاء إحدى عظاته في القصر الملكي فلبّى الدعوة واستمع إليه الملك بكل سرور.
غير إنه في زياراته المتكررة للقصر الملكي تكلم القديس يوحنا بأمور عامة ثم ألمح إلى بعض الأخطاء من قبل المشرفين على الإدارة فلاقى ذلك استحساناً لدى السامعين، وسرّ به الملك سروراً عظيماً كون القديس لم يأت على ذكر خطيئته الكبرى بزواجه المحرّم من هيروديا زوجة شقيقه وهو حي رغم أنه كان متزوجاً من بنت الملك عبيدة النبطي ملك العرب في دمشق وجوارها، ولهذا بعد أن علمت الأميرة العربية بهذا العمل المشين ثارت لكرامتها وهجرت القصر الملكي وعادت إلى ذويها في دمشق.
لكن القديس اغتنم فرصة دعوته إلى حفل في قصر هيرودوس ليوجه النقد لسلوك الملك وزوجته مكرراً نبوءته بمجيء قريب لملكوت السموات ووجوب الإنتقال من حياة الغفلة والخطيئة إلى حياة التوبة والفضيلة، ثم قال موجهاً حديثه نحو الأمبراطور: “أما أنت يا هيرودوس فقد أتيت من الأعمال التي لا تأتلف مع هيبتك كملك، ومع أمانتك كزوج ومع دمك كأخ وطعن زوجتك العربية بكرامتها وجميع هذه الأعمال لا تحلّ لك وستدفع مقابلاً لها ثمناً يوماً ما” …
غضب الملك لعظة يوحنا المعمدان كما غضبت زوجته هيروديا فأمر باعتقال القديس وأمر بإرساله إلى قلعة ماكيرا أو البرج الأسود على ضفاف البحر الميت، وهو لم يزل قائماً حتى يومنا الحاضر، وفي هذا السجن الذي لا يدخل إليه النور ولا الهواء النقي، ألقي يوحنا المعمدان بعد أن أوثقوا يديه بالأصفاد وكبّلوا رجليه بالسلاسل انتقاماً منه ومن مواعظه.
ويوماً، وبناء على رغبة زوجته هيروديا، أقام الملك هيرودوس حفلاً عامراً في قلعة ماكيرا ليكون على مقربة من سجن ذلك القديس الذي نغّص عليهما حياتهما، وربما لغاية في نفس زوجته، في تلك الليلة طلبت هيروديا من ابنتها صالومي الرقص بصورة أثارت السرور في قلب هيرودوس فأشار إليها أن تقترب منه، ثم قال: “سلي ما تريدين وأنا أعطيك ما تسألين وأقسم لك بذلك”.
تظاهرت صالومي بالتمنع والخجل، ثم خرجت إلى أمها وسألتها بماذا تجيبه، فقالت أمها على الفور: رأس يوحنا المعمدان. عادت الصبية إلى الملك وقالت له: أريد أن تقدّم لي رأس يوحنا المعمدان على طبق.
تردّد هيرودوس بادئ الأمر، لكنه ونزولاً عند رغبة هيروديا أمر أحد السّيافين بالذهاب إلى السجن وقطع رأس يوحنا المعمدان والعودة به على طبق قدم إلى صالومي التي قدمته بدورها إلى أمها هيروديا. وأدرك هيرودوس على الفور عظم فعله وغدا يرى يوحنا المعمدان ماثلاً أمامه في الليل والنهار يوبخه على إقدامه على فعلته. ثم انتشر الخبر ووصل إلى مسامع ملك دمشق الحارث الرابع، الذي جرّد حملة عسكرية كبيرة ضد صهره هيرودس في العام 27 للميلاد ونازله في عقر داره وانتصر عليه انتصاراً ساحقاً في معركة (جلعاد) وانتقم لشقيقته وأعاد إليها الفرح والحبور، وكذلك انشرح صدر تلامذة يوحنا المعمدان على أعظم انتقام ضد الظالمين في التاريخ أمثال الملك هيرودوس وزوجته هيروديا.
أمّا مكان دفن رأسه، فتروي بعض الكتب التاريخية أنه عند تحويل كنيسة دمشق ما أصبح اليوم الجامع الأموي في دمشق عثر العمال في أساس البناء على مغارة، فأخبروا الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي جاء أثناء الليل يحمل الشموع، فنزل فإذا هي قبو في أسفل الكنيسة وإذا بداخلها صندوق حديدي، فلما فُتِح سقط منه رأس مكتوب عليه: “هذا رأس يحيا بن زكريا”، فردّه الوليد إلى مكانه وقال: اجعلوا عليه عمداً مسفّطاً، وهو العمود المسفّط الشرقي الرابع من ركن القبة في الجامع الأموي والذي يعتبر من أشهر المزارات الدينية والإسلامية.

لله في خلقه شؤون، والناس أجناس لكن أكثر ما نلاحظ توزع أكثرهم بين من هم على سلامة السجية وطيبة القلب وحب الخير ومدّ يد العون للمحتاج وبين من يفتقدون الفطرة السليمة ويحملون سوء النية والظن بالآخرين وربما سقطوا في اتهام الآخرين بما ليس فيهم افتراء وحمقاً. بينما تسهم الفئة الأولى في نشر أجواء الخير بين الناس وتخفف عنهم همومهم وتنشر الإيجابية في المجتمع فإن الثانية هي مصدر دائم للنكد وتعكير الأجواء فهم مثل جنود إبليس لا عمل لهم إلا إفساد المسرّات ونشر الفتنة والتفريق بين أهل المودة والخلّان.
هنا قصة عن رجلين أحدهم هبّ إلى مساعدة جاره وقدم له خدمة جليلة وعظيمة إذ ساعده على إعادة ما فقده من أموال ومصاغ ومقتنيات وليرات ذهبية، ومع ذلك فإنه لم يلقَ من جاره المذكور أي تقدير أو شكر أو امتنان، بل على العكس من ذلك قوبل بسوء الأخلاق وخشونة التصرف وقلة الأدب.
فما هي تفاصيل القصة؟
أثناء حرب قوات حكومة فيشي الفرنسية والتي أقامها الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت موالية له، حصلت معارك ومواجهات عنيفة في قرى الجنوب والعديد من مناطق جبل لبنان بين تلك القوات وبين جيوش الحلفاء التي كانت بدأت في مطلع الأربعينات من القرن الماضي تميل الكفة إلى صفها. وحصلت في منطقتي مرجعيون وحاصبيّا بصورة خاصة معارك بين جيش حكومة فيشي التي كانت تحكمنا، وقوات فرنسا الحرة وبريطانيا التي تمكنت من طرد قوات فيشي من تلك المنطقة في حزيران 1941.
وسط هذا الاقتتال انسحبت الأجهزة الأمنية من المنطقة وفرغت المخافر من عناصرها فغرب حبل الأمن في داخل بلدة حاصبيا ومنطقتها وانتشر القلق على السلامة الشخصية أو على المال بين الناس. لكن فراغ الأجهزة الحكومية وسلطة الأمن ملأتهما على الفور مبادرات المشايخ الأجلاء والوجهاء والعقلاء في منطقة حاصبيا والذين كانوا على يقظة وتماسك في ما بينهم للحفاظ على الأمن والأمان. فبقيت الحياة الإجتماعية على طبيعتها واستمراريتها وحصد الناس غلالهم في جو آمن وامتلأت الكواير بالحبوب حتى إن كبير المشايخ في حينه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين حين سُئل عن رأيه في تغيّر الأوضاع أجاب: “الراعي صالح، أما المغادرون فلا نأسف لرحيلهم وأما القادمون فلا نسّر لقدومهم”.
ومع هذا فإن بعض ضعفاء النفوس وضيقي التفكير لم يجدوا في كل هذا التدبير وتضامن العقلاء سبباً كافياً للطمأنينة ولم تفلح تطمينات الناس والمعارف في تهدئة خواطرهم وهم المصابون بمرض الحرص الشديد على الدنيا والمقتنيات وحرصهم يجعلهم في حالة رعب دائم على مالهم ولا علاج له.
هذا ما غشى على عقل السيد أبو نصري أسعد الدبغي، من أبناء حاصبيا المقيمين فيها، إذ كان رغم أجواء الهدوء والإلفة يتقلب على نار المخاوف، وقد بدأ يرى في كل إنسان أو جار أو عابر سبيل ربما تهديداً لماله ولرغد حاله. ولما لم يعد في قادراً على تهدئة روعه، جمع كل ما يملك من مئات الليرات الذهبية والمصاغ والمجوهرات العائدة لزوجته وبناته المتزوجات وجميع الصكوك والحجج وكل المقتنيات الثمينة فوضعها كلها في مرطبان كبير الحجم من الزجاج ثم أودع المرطبان داخل صفيحة من التنك وأحكم إغلاقها.
وعندما أسدل الليل عتمته فوق بلدته ومنزله خرج إلى الحديقة، وبعد أن أجال الطرف يميناً وشمالاً استقرّ رأيه على أن يحفر تحت أحدى شجيرات الحديقة حفرة عميقة قدر الإمكان، ثم قام بدفن الصندوق الحديدي فيها ولم ينس بالطبع أن يضع قطعة من الخشب فوق تراب الحفرة كعلامة يهتدي لاحقاً من خلالها على مكان الصندوق. لكن، من حكمة الخالق الذي يكره الحرص والظنون أن مرّ على الطريق العام المحاذية لحديقته في تلك اللحظة ثلاثة رجال عرف منهم السيد شاهين حمزة، وقد ألقى الرجال التحية على أبو نصري ثم سألوه قائلين: “يا عم أبو نصري، شو عمتعمل أول الليل في الحديقة؟” ولم يكن تساور المارة الثلاثة أي شكوك إنما أرادوا ملاطفة الرجل الذي كان في منزله وداخل حديقته فربما خرج لحاجة أو للبحث عن شيء من أغراضه.
لكن أبو نصري المسكون بالهواجس صدم بمرور هؤلاء الرجال فاشتعل فكره بعشرات الأفكار والافتراضات، وكل إنسان ينكب على عمل في السرّ وفي عتمة الليل يميل بطبيعة الأمور للخوف ولتفسير أي أمر ولو كان عادياً تفسيراً يقوم على الشك والظنون واحتمال الفضيحة. والله تعالى يقول في قرآنه الكريم }إن الله لا يصلح عمل المفسدين{ (يونس:81)
هكذا أصبح الحال عند العم أبو نصري، وغدا على ثقة تامة بأن هؤلاء الشباب اطلعوا على ما كان يفعله في الحديقة، وأنهم سيتآمرون للاستيلاء على كنزه، لذلك وبعد أن دخل بيته وجلس على أريكته لم يهدأ له بال، وكانت الأفكار تأخذه وتعيده وهو مشوش الفكر حتى لم يعد قادراً على الاحتمال أو السكون في مكانه، فانطلق مسرعاً نحو الحديقة والمكان الذي دفن به مقتنياته، لكنه وبسبب اضطراب فكره وحالة الذعر التي كانت مسيطرة عليه أضاع الاتجاهات واسودت الدنيا أمامه فلم يعثر على العلامة التي وضعها للاستدلال على كنزه الدفين، وقد أضلّه الله ليجعل منه عبرة ومثلاً.
بحث أبو نصري بصورة هستيرية عن المكان ودار على نفسه وفتش في أكثر من اتجاه لكنه لم يعثر على العلامة وأضاع الدليل على كنزه، فعاد في حالة من الخوف الممتزج بالحنق والغضب على كل مخلوق..لا يحمل لفشله في العثور على كنزه إلا الظنون مطلقاً التّهم جزافاً بحق من مرّ قربه قائلاً ومردداً أنهم قد أخذوا أمواله وتحويجة عمره، ثم أخذ يجوب أرض الغرفة ذهاباً وإياباً ويضرب كفاً بكف وبلغت به حال الضياع والغضب أن توجه إلى زوجته المسكينة متهماً إياها بأنها هي التي دبرت المكيدة موجهاً لها التهديد واللغة العنيفة..
المرأة المسكينة أصيبت بالخوف والحيرة، فهي لا تعلم ما يمكنها أن تفعله أمام ثور هائج، لذا سكتت خوفاً من إقدامه على عمل طائش، ثم انسلّت إلى خارج الغرفة وقفزت فوق الحائط الذي يفصل بين منزلها وبين منزل جارهم الشاب أبو سليمان إسماعيل أبو غيدا، متوسِّلة وراجية منه أن يأتي معها ويبحث عن الأموال التي استودعها زوجها في أرض الحديقة لعله يجدها ويهدىء من هيجان وثورة زوجها.
أبو سليمان اسماعيل هبّ مسرعاً ثم ذهب مع خالته أم نصري، كما كان يناديها، وأخذ يتنقل في الحديقة من مكان إلى مكان، ومن زاوية إلى أخرى إلى أن صادف مروره تحت شجرة الليمون، وإذا بدعسة قدمه تهتز تحتها خشبة، فعمل فوراً على نبشها وإذا به يهتدي إلى الصندوق وفي وسطه مرطبان الزجاج، فحمله وعاد مسرعاً إلى منزل جاره وأم نصري تنظر إليه بامتنان واعتزاز.
ذهب الجار بالكنز ليبشر جاره وطرق الباب:
“إفتح يا عم أبو نصري إفتح فهذا قطرميز الزجاج كما وضعته يداك، إفتح “ كان يردد ذلك بكل تهذيب واحترام ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.
فأبو نصري المسكون بالرعب والظنون اعتبر أن كلام جاره من قبيل تهدئة الخاطر فرفض تصديقه كما رفض فتح الباب له واستمر في الصياح من الداخل مكيلاً اللعن والسباب للجميع فالمرطبان “مع الزعران” ثم لعن الأيام والحياة والزمان والمكان. لهذا وبعد أن يئس أبو سليمان من هذا التصرف الغبي والسيىء ناوله إلى خالته أم نصري وقفل عائداً إلى منزله وكأن شيئاً ما كان.
الزوجة أم نصري هالها هذا التصرف المشين من قبل زوجها أكثر من فقدان مصاغها، لهذا تجرأت ثم فتحت الباب وأدخلت المرطبان وقالت لزوجها الغارق في الهيجان: خذه وتفقده وكفى سوء تصرّف وغضب وقد كان أقل واجب عليك أن تستقبل جارك وتشكره بل وليس إهداؤه شيئاً من محتويات هذا الصندو.. ومع كل ذلك لم يهدأ أبو نصري لكنه مدّ يده وأخذ المرطبان ثم تفقدّه فوجده كما كان، لكنه بقي على تجهمه ولم يتلفظ بأي عبارات تحمد الله أو تشكر جاره على المعروف الذي أسداه إليه، فهو انزوى في مقعده عاقد الجبين وزوجته حائرة في ذاتها آسفة لعشرة السوء هذه التي ابتلاها الله بها وهي صابرة محتسبة.
العبرة من هذه المأثرة يلخصها قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَمـاً عَلَيْـهِ وَيَـنْـدَم

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي