السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

الدكتور محمد السماك في كلام بليغ
عن وحدة الإيمان الإسلامي المسيحي

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما
الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا

(أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي)
في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل.
يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق.
وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.”
وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”.

عهد النبي للنصارى
توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م.
حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه:
“هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي:
“تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف:
1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين.

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا (أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي) في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل. يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق. وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.” وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”. عهد النبي للنصارى توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م. حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه: “هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف: 1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين. 2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين. 3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”. ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42) يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.
الأستاذ محمد السمّاك

2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين.
3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”.
ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42)
يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.

من مآثر وعبر المُصلح الإجتماعي
عارف النكدي

عارف النكدي علمٌ من أعلام العروبة والتوحيد، ومنارة مشعّة وركن تليد.. وحصنٌ حصين للمعذبين واليتامى والمشردين لا يُماثله نديد.
حقاً إنه كان المُصلح الإجتماعي الكبير، وأحد العاملين لتأمين سلامة المجتمع ورُقيّه في هذه البيئة المعذبة من الشرق، في وقتٍ كان الفقر والعوز والتشرد سيد المواقف بين أبناء وطبقات المجتمع. وقد لمع اسمه هذا الرجل الكبير في عمله الوظيفي، فكان كالسيف القاطع بوجه الإنحلال والإنهيار كالرشوة وسوء المعاملة والإستعلاء واستغلال المواقع من قبل المفسدين.
من هنا كانت له تلك المكانة الرفيعة في نفوس أبناء طائفته وعارفيه ومقدّري فضله وعلمه، والمطّلعين عن كثب على أعماله الخيرية وفي طليعتها بيت اليتيم الدرزي، وكم كان لهذا العمل من أفضال على اليتامى والمشردين، وكم هم كُثر عند الطبقة الفقيرة من المجتمع الشرقي، وكم كان لهذا الميتم من رفع شأن طلّابه ونزلائه، والذين يفوق عددهم الألف نزيل كل عام، حيث توصل البعض منهم إلى أعلى المراتب والمواقع الإجتماعية والسياسية والعسكرية وسواء ذلك، ليصحّ به القول المأثور “الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله وأَحَبُّهم إليه أنفعُهم لعِيالِه”.
تقلّد النكدي العديد من المناصب والمواقع، إذ عمل قاضياً ثم محافظاً ثم مديراً عاماً لوزارة العدل السورية العام 1944، ثم رئيساً لمجلس الشورى السوري العام 1946، ثم مديراً عاماً للشرطة في تموز 1946 وبقي في موقعه هذا حتى تقاعده من الوظيفة العامّة ليعيّن بعدها بالوكالة محافظاً لجبل الدروز بالإضافة إلى تولّيه الأوقاف الدرزية منذ العام 1930. ومما قام به من خدمة مميزة إنشاءه فروعاً للمدرسة الداودية (عبيه) في 43 قرية درزية من قرى جبل لبنان ووادي التيم..
غير إن ما نحن في صدده هو مآثره ومواقفه أثناء حياته الوظيفية والإجتماعية والتربوية، ومنها أنه أثناء خدمته كمفتش عدليّ في وزارة العدل السورية إبان الإنتداب الفرنسي، يقصده يوماً “المسيو سيرو” أول مستشار فرنسي لوزارة العدل السورية، وقصده تأنيب أحد المفتشين لتقريره الشديد اللهجة ضد المستشار الفرنسي ذاته وعلى مرأى من السيد النكدي، لكن النكدي استهجن تصرف المستشار الفرنسي وتحركت حميته دفاعاً عن كرامة زميله المفتش فتوجّه إلى سيرو يخاطبه بحدّة قائلاً: “إنك لا تخيفنا لا أنت ولا دولتك، وإنني لن أتردّد عن طردك من هذا المكتب إن لم تتراجع عن تهديدك”.

عارف بك النكديّ
عارف بك النكديّ

وعندها أدرك المستشار الفرنسي خطأه وأن النّكدي جادّ في تهديده تراجع بانتظام ثم صافحه معتذراً.
ويوماً عمل النكدي على تسريح أحد القضاة، فحضر المستشار الفرنسي إليه وقال: “إنني لا أوافقكم على تسريحه، لأن السلطات الفرنسية راضية عنه تماماً. أجاب النكدي: كيف لا أسرّحه وهو يختلف مع الحاجب عنده في ما إذا كانت الهدية التي قُدّمت له أم للحاجب، وفي النهاية تمّ تسريحه عنوة عن المستشار.
في العام 1942 تقدم وزير العدل السوري بمشروع قانون يتضمن تسريح أربعين قاضياً من بينهم قاضٍ له نفوذ بين زعماء الأحياء في دمشق، وذلك بعد استشارة عارف النكدي ومباركته لهذه الخطوة. رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد شكري القوتلي استدعى السيد عارف النكدي ثم طلب منه أن يستثني هذا القاضي من قائمة المسرّحين لما له من حظوة وأنه يعده بأنه سيوقع هذا القانون فور وصوله إليه. وبعد أخذ وردّ بين الرئيس والسيد النكدي، أجابه الأخير: لقد وجدتُ لكم الطريقة لإنقاذ الموقف يا فخامة الرئيس، ثم تناول ورقة وقلماً وكتب استقالته وقدمها للسيد الرئيس قائلاً: في هذه الحالة يمكنكم الإحتفاظ بهذا التاجر..! لكن في النهاية تنبّه الرئيس القوتلي إلى صعوبة ما يطلبه فوقّع قائمة التسريحات ومن بينهم القاضي المشار إليه.
صديقه وابن موطنه لبنان، الرئيس فارس بك الخوري، وكان يومها رئيساً للمجلس النيابي السوري، اجتمع وإيّاه في أحد المنازل ثم فاتحه القول: يا صديقي عارف بك، إنني لا أوافقكم الأمر على ما تقومون به من تسريحات بين القضاة وسواهم من الموظفين، والواقع أنه لا يمكنني النوم إزاء ذلك. تبسّم عارف النكدي وأجابه : “أيضاً لا أقدر أن أنام إذا لم أسرّح مرتشياً أو فاسداً وخيرٌ لي ولك أن لا تنام أنت من أن لا أنام أنا”.
أحد رجالات التربية المرموقين في لبنان حدثني قائلاً : كنت العام 1956 في الصف الثالث التكميلي في المدرسة الداودية في عبيه، وقد حلّ عيد تأسيس الجامعة العربية في 22 آذار 1945 من كل عام، وكانت تلتزم بعطلة هذا العيد جميع المدارس الرسمية والخاصة في لبنان، غير إن إدارة المدرسة الداودية لم تلتزم بذلك، بل كان الدوام عادياً مما حملنا نحن الطلاب على الإحتجاج والإمتناع عن الدخول إلى غرف التدريس، فما كان من الإدارة إلا أن دعت المغفور له عارف النكدي كونه يتولى الأوقاف والرئيس الأعلى للمدرسة كي يساهم في حلّ هذه المشكلة بين الطلاب والإدارة.
أتى عارف بك ثم استدعى من كل صفّ تلميذاً، وكنت شخصياً ممثلاً لصفي، وعند الإجتماع معه قال: “أشكر غيرتكم من أجل العروبة والجامعة العربية، ولكن يا أبنائي الأعزاء لعلمكم أن هذه الجامعة عملت على إنشائها بريطانيا لتكون وسيلة للتفريق بين العرب والحؤول دون وحدتهم، ولو كان الواقع غير ذلك لكنتُ أوّل الدّاعين إلى الإحتفال بالعيد”. ثم خرجنا من لقائه ونحن مقتنعون وغير مقتنعين لكننا نزولاً عند رغبته (وهيبته) عدنا إلى صفوفنا لمتابعة الدراسة.
في العام 1969، وبعد مرور عامين على نكسة حرب حزيران 1967، أقام أساتذة مؤسسة بيت اليتيم الدرزي في عبيه، بالإشتراك مع طلاب وطالبات المدرسة، احتفالاً بالمناسبة استنكاراً للهزيمة وتنديداً بالعدو الإسرائيلي، وخلال الإجتماع وصل المُصلح الإجتماعي ورئيس المؤسسة عارف النكدي وجلس مع الحضور. وبعد أن ألقى بعض المعلمين والطلاب خطابات ملؤها الحماسة والحث على الدفاع والإستماتة في سبيل القضية العربية.. طُلب إلى السيد عارف بك أن يلقي كلمته، فصعد إلى المنصة ثم ارتجل الكلمة التالية: “أخواني وأبنائي الأعزاء، لو سُئلتُ عن إقامة هذه الحفلة قبل أن دُعيتُ لما وافقت على إقامتها، فالخطيبة الأولى وصفت إسرائيل بالدولة المسخ، فإن كانت دولة مسخاً فعلت بنا ما فعلت، فماذا كانت ستفعل لو لم تكن كذلك؟؟ لستم أنتم وحدكم من يُؤخذ عليكم هذا، فالحكومات العربية دأبت على إسماعنا مثل هذه الخطب الطنّانة أما أنتم فعليكم أن تكونوا مجتهدين أولاً بدروسكم وبأخلاقكم، لا يجوز أن نُكابر ونعمي أنظارنا عن الحقيقة رغم مرارتها، بل يجب علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتغيير واقعنا، وأعظم رجل إذا أراد أن يحكم أمّته يجب أن يكون خادمها وصادقها وأمينها. الرسول محمد بن عبدالله (ص) كان إذا عظّموه يقول: “أنا لستُ سوى ابن إمرأة كانت تأكل القديد”.. وإلا فإننا سنبقى مثل ذلك الأعرابي الذي جاء إليه اللصوص وسلبوه إبله فعاد إلى أبيه وقال: لقد ذهبت إبلي، فسأله أبوه: وماذا فعلت؟ قال: “لحقتهم بالشتائم” وأضاف النكدي مثل الخليفة عثمان بن عفان (ر) الذي وقف ليخطب فلم يطاوعه لسانه، فوقف وقال: “أنتم أحوج إلى إمام فعّال منكم إلى إمام قوّال، وبالفعل فقد تمّت أعظم الفتوحات العربية في زمن عثمان بن عفان (ر). ثم قال العرب يا أعزائي وصلوا إلى الأندلس ثم وصلوا هددوا أوروبا، لكن دبّ بينهم الخلاف فأضاعوا ذلك الفردوس. وإلى اللقاء في مرة قادمة في حفلة تكرّم فيها اليد وليس اللسان”.
في جلساته المتكررّة كان دائماً يردد ويقول: الشباب والعلماء مدعوون إلى العودة للماضي الغني جداً بالقيم والمآثر والبطولات للإستعانة بكنوزه في بناء الحاضر والمستقبل، وأن يفتحوا خزائن أجدادنا وما قدموا وما ضحوا في سبيل عزة العرب وكرامتهم، وليس ذلك بالمستحيل لأن باسقات النخيل عميقات الجذور، وما البحرُ إلا مجمّع للسواقي والأنهار، وما الزمان إلا الأيام والأسابيع والشهور والأعوام..
أتى لزيارته قبيل وفاته بيوم واحد الأستاذ زهير مارديني فدار بينهما حوار عن الحياة والموت نقله الأستاذ مارديني بهذه الكلمات:
سأل عارف النكدي جليسه قائلاً:
ماذا بعد الموت؟
أجاب الأستاذ مارديني: العدم
النكدي: هذا مستحيل.. فالعدم لا يؤدي إلى الوجود.
المارديني: ماذا قبل الوجود إذا؟
النكدي: وجود ينتهي إلى وجود
المارديني: ماذا بعد الحياة؟
النكدي: حياة
المارديني: ألا تؤمن بأن الحياة تفنى؟
النكدي: الحياة كالشمس، تغيب لتشرق..
المارديني: ألا يُساورك الخوف من الموت؟
النكدي: الموت ليس مشكلة، الحياة هي المشكلة.
بعد هذا الحوار ترك عارف النكدي بيروت وانتقل إلى بلدته عبيه، ثم قام بتفقد مؤسسته الشامخة، بيت اليتيم الدرزي، وبعد هذا أخذ يطوف على أقاربه وأصدقائه في البلدة ثم أوى إلى منزله وقال لزوجته: أشعر ببعض التعب، لقد تجوّلت اليوم كثيراً، ثم تمدّد على الفراش بعد أن أحسّ بألم طفيف في رأسه، فطلب إلى زوجته أن تهيىء له كأساً من الشراب الساخن، فذهبت الزوجة لتعدّ له ما طلب ثم عادت إليه بالكأس الساخن لتجده غافياً، وكانت تلك الإغفاءة الأخيرة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي