الإعلان النهائي يكرّس مفهوم المساواة والدولة المدنية الدستورية
والحرية الدينية والتضامن بين الأديان في وجه التطرف والإلحاد
مؤتمر الأزهر حول الحرية والمواطنة حدث كبير بكل معنى الكلمة سواء بحجم الحضور الإسلامي المسيحي الذي شارك فيه من المنطقة ومن العالم أم في مناخات الصراحة والأخوة التي سادت المناقشات ومشاعر الوحدة التي عبّر عنها المشاركون في مواجهة التحديات المشتركة أم في الظروف الدقيقة التي انعقد في ظلها وأبرزها أحداث طائفية في مصر وفي المنطقة وموجة العداء للإسلام في المجتمعات الغربية، لكن ما يعطي للمؤتمر صفة الحدث المفصلي هو البيان الذي صدر عنه في نهاية يومين من المداولات والذي حمل في نظر المراقبين قفزة كبيرة في المفهوم الإسلامي للدولة الدستورية الحديثة وهي قفزة تزيح أهم العقبات من طريق التقارب والتضامن الإسلامي المسيحي وتعزّز الثقة المتبادلة وتنتزع من المعادين للإسلام آخر الحجج الواهية التي يتذرعون بها لاتهام الإسلام بالتمييز ضد الأديان الأخرى. وقد حضر المؤتمر نحو 200 شخصية دينية وفكرية من 60 بلداً لكن لفت الأنظار في هذا المجال الحضور اللبناني الكثيف إذ دعيت 50 شخصية لبنانية من المسلمين والمسيحيين للمشاركة في المؤتمر أكثر من نصفهم من رجال الدين، كما تميّز المؤتمر بحضور مصري كثيف من المسلمين والمسيحيين الأقباط وبرعاية شخصية من الرئيس السيسي للمؤتمر وبمشاركة ممثلين عن كنائس الولايات المتحدة ومجلس الكنائس العالمي والفاتيكان، وشاركت مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز في أعمال المؤتمر وانتدب سماحة شيخ العقل نعيم حسن القاضي غاندي مكارم لإلقاء الرسالة التي بعث بها إلى المؤتمرين.
تميّز المؤتمر أيضاً بالدور البارز الذي لعبه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيِّب في الإعداد للمؤتمر والمشاركة في أعماله وجلساته وكذلك في إعداد البيان النهائي، كما لعب الرئيس الروحي لأقباط مصر البابا تواضروس الثاني دوراً مهماً في أعمال الجلسات وفي الإعلان النهائي الذي اعتبر منعطفاً كبيراً في صياغة المفاهيم الإسلامية للدولة وكذلك في صياغة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر أو في خارجها.
ويتألف إعلان الأزهر حول الحرية والمواطنة من ستة بنود أساسية وهنا أهم النقاط والمبادئ التي تضمّنها:
أولاً: إن مصطلح “المواطنة” هو مصطلح أصيل في الإسلام، وقد شعّت أنواره الأولى من دستور المدينة وما تلاه من كتب وعهود لنبي الله – صلى الله عليه وسلم – يحدّد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين في أول مجتمع إسلامي أسسه، هو دولة المدينة. هذه الممارسة لم تتضمن أي قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمّنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهي تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في إطار المواطنة الكاملة والمساواة التي تمثلت بالنص في دستور المدينة على أن الفئات الاجتماعية المختلفة ديناً وعرقاً هم “أمة واحدة من دون الناس”، وأن غير المسلمين لهم ما للمسلمين،


وعليهم ما على المسلمين.
ثانياً: إن أول عوامل التماسك وتعزيز الإرادة المشتركة يتمثل في الدولة الوطنية الدستورية القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحكم القانون، كما إن تجاهل مفهوم المواطنة ومقتضياته يشجّع على الحديث عن الأقليات وحقوقها والذي كنا نظن أنه ولى بتولي عهود الإستعمار، إلا أنه أعيد استخدامه أخيراً للتفرقة بين المسلمين والمسيحيين، بل بين المسلمين أنفسهم، لأنه يؤدي إلى توزّع الولاءات والتبعية لمشروعات خارجية.
ثالثاً: نظراً إلى ما استشرى في العقود الأخيرة من ظواهر التطرف والعنف والإرهاب التي يتمسح القائمون بها بالدين، وما يتعرّض له أبناء الديانات الأخرى والثقافات الأخرى في مجتمعاتنا من ضغوط وتخويف وتهجير وملاحقات واختطاف، فإن المجتمعين من المسيحيين والمسلمين في مؤتمر الأزهر يعلنون أن الأديان كلها براءٌ من الإرهاب بشتى صوره، وهم يدينونه أشدّ الإدانة ويستنكرونه أشدّ الاستنكار.
رابعاً: إن حماية المواطنين في حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم وسائر حقوق مواطنتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، صارت الواجب الأول للدول الوطنية التي لا يصح إعفاؤها منها، ولا ينبغي بأي حالٍ من الأحوال مزاحمة الدولة في أداء هذا الواجب أياً كان نوع المزاحمة.
إننا اليوم مدعوون جميعاً بحكم الانتماء الواحد والمصير الواحد إلى التضامن والتعاون لحماية وجودنا الإنساني والاجتماعي والديني والسياسي، فالمظالم مشتركة، والمصالح مشتركة.
خامساً: إننا لنتطلع إلى إقامة المزيد من صلات التعاون بين سائر المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية في العالم العربي، من أجل العمل معاً في مجالات الإرشاد والتربية الدينية والأخلاقية، والتنشئة على المواطنة، وتطوير علاقات التفاهم مع المؤسسات الدينية العربية والعالمية، ترسيخاً للحوار الإسلامي المسيحي وحوار الحضارات.
سادساً: إن طموح الأزهر ومجلس حكماء المسلمين من وراء هذا المؤتمر هو التأسيس لشراكة متجددة أو عقد مستأنف بين المواطنين العرب كافة، مسلمين ومسيحيين وغيرهم من ذوي الانتماءات الأخرى، يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادل والمواطنة والحرية. إن المجتمعين مسلمين ومسيحيين يجددون عهود أخوتهم، ورفضهم أية محاولات من شأنها التفرقة بينهم، وإظهار أن المسيحيين مستهدفون في أوطانهم، ويؤكدون أنهم مهما فعل – ويفعل – الإرهاب بيننا في محاولة للإساءة إلى تجربتنا المشتركة، واستهداف مقومات الحياة في مجتمعاتنا لن ينال من عزيمتنا على مواصلة العيش الواحد وتطويره والتأكيد على المواطنة فكراً وممارسة، وهو -سبحانه- من وراء القصد، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.


مواقف بارزة في كلمة شيخ الأزهر
إفتتح شيخ الأزهر في مؤتمر الحرية والمواطنة بكلمة بليغة عبّرت عن أبرز الهموم الواقعية التي يواجهها الإسلام في علاقاته بالعالم وفي تعامله اليوم مع غير المسلمين، وتميّزت كلمة الدكتور الطيب بموقفها التقدمي والجريء من المسائل المثارة كما يبدو من المقتطفات التالية:
• إن رسالات الأنبياء التي تصطدم اصطداماً مدوياً بكل التفسيرات المغشوشة التي تتنكَّب بها طريق الأديان، بل وتُخطف بها النصوص المقدسة لتصبح في يد القِلَّة المُجرمة الخارجة عليها، وكأنها بندقية للإيجار، لِمَن ينقد الثمن المطلوب من سماسرة الحروب وتُجَّار الأسلحة، ومُنظِّري فلسفات الاستعمار الجديد.
• هل الإرهاب صناعة محلية، أو صناعة عالمية، أُحِكمَت حلقاتُها، ثم دُبِّرت بليل في غفلة، أو في تواطؤ مع كثير من الساهرين على حقوق الإنسان.
• إن هذه الشرذمة (التكفيريين) الشاردة عن نهج الدين كانت إلى عهد قريب محدودة الأثر والخطر، وكانت من قلة العُدَّة وضعف العتاد عاجزة عن تشويه صورة المسلمين، إلَّا أنَّها الآن، أوشكت على أن تُجيِّشَ العالَم كُلَّه ضِدَّ هذا الدِّين الحنيف.
• إن المتأمل المنصف في ظاهرة الإسلاموفوبيا لا تخطئ عيناه هذه التفرقة اللامنطقية، أو هذا الكيلَ بمكيالين بين المحاكمة العالمية للإسلام من جانب، وللمسيحية واليهودية من جانب آخر، رُغم اشتراك الكل في عريضة اتهام واحدة، وقضية واحدة هي قضية العنف والإرهاب الديني، فبينما مرَّ التطرُّف المسيحي واليهودي برداً وسلاماً على الغرب من دون أن تُدنَّس صورة هذين الدينين الإلهين؛ إذا بشقيقهما الثالث يُحبَسُ وحده في قفص الاتهام، وتجري إدانتُه وتشويه صورتهِ حتى هذه اللحظة.
• إن الإسلاموفوبيا إذا لم تعمل المؤسسات الدينية في الشرق والغرب معاً للتصدي لها، فإنها سوف تطلق أشرعتها نحو المسيحية واليهودية إن عاجلاً أو آجلاً.
• إن تبرئة الأديان من الإرهاب لم تعد تكفي أمام هذه التحديات المتوحشة، وأن خطوة أخرى يجب علينا أن نبادر بها، وهي: النزول بمبادئ الأديان وأخلاقياتها إلى هذا الواقع المضطرب، وأن هذه الخطوة تتطلَّب – من وجهة نظري- تجهيزات ضرورية، وأولها إزالة ما بين رؤساء الأديان وعلمائها من بقايا توترات وتوجسّات لم يَعُد لوجودها الآن أيُّ مُبرِّر، فما لم يتحقق السلام بين دُعاته أولاً لا يمكن لهؤلاء الدُّعاة أن يمنحوه للناس، وأنى لفاقد شيء أن يمنحه لغيره! وهذه الخطوة بدورها لا تتحقَّق إلَّا مع التعارف الذي يستلزم التعاون والتكامل، وهو مطلب ديني في المقام الأول.
• إن الأزهر حين يدعو إلى نشر مفهوم “المواطنة” بديلاً عن مصطلح “الأقلية والأقليات”، فإنما يدعو إلى مبدأ دستوري طبقه نبي الإسلام صلّى الله عليه وسلّم على أول مجتمع مسلم في التاريخ، وهو دولة المدينة، حين قرر المساواة بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، ومِن اليهود بكل قبائلهم وطوائفهم بحسبان الجميع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وقد حفظ لنا تراث الإسلام في هذا الموضوع وثيقة مفصَّلة في شكل دستور لم يعرفه التاريخ لنظام قبل الإسلام.
• إن الإسلام ينبهنا إلى حق أصيل فطر الله الإنسان عليه، وهو حق الحرية والتحرر من الضغوط، وبخاصة: ما يتعلق بحرية الدين والاعتقاد والتمذهب: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ البقرة: 256، }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ{يونس: 99، }لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ{الغاشية: 22، }إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ {الشورى: 48. وكان من بين البنود التي اشتمل عليها كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وأنه: “مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ”، إلى آخر كل هذه النصوص الدينية المُؤسِّسَة لحقِّ الحُريَّة والتحرُّر.
سماحة شيخ عقل الطائفة في كلمة إلى مؤتمر الأزهر
الأزهر إستكمل دوره التاريخي التنويري
بدعم الدولة الدستورية الديمقراطية الحديثة
تلا فضيلة القاضي الشيخ غاندي مكارم كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الشيخ نعيم حسن أمام مؤتمر الحرية والمواطنة معبراً في البدء عن تثمين سماحة شيخ العقل لما يقوم به الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين عبر هذا النوع من الملتقيات الروحية الرفيعة المستوى، ملمحاً في البدء إلى “أنَّ المواطَنة مفهوم مدنيّ مرتبط بحقوق الإنسان، تأسَّس في الأفكار التي طرحتها الثورة الفرنسيَّة، ثم تطوَّر نتيجة بروز القوميَّات، وصولاً إلى تجسيده في نصوص عالمية أبرزها ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان”.
وأضاف سماحة شيخ العقل: “إن العدل ضرورة يوجبُها العقلُ النيِّر المسترشِد بحكمة الحكيم، وإنَّ مقاصدَ الشريعة كلّها تهدفُ إلى حفظ نظام العالم بتحقيق المصالح وإبطال المفاسد” مشيراً إلى أن “المصالح الضروريَّة” تتمثل بـالكلّيات الخمس وهي: حقّ الدّين (المعتقد) وحقّ النفس، وحقّ العقل وحقّ النسل وحقّ المال، وهذه الحقوق الطبيعية أكّد عليها الرُّسل جميعاً”.
ودعا سماحة شيخ العقل إلى التوقف مليّاً أمام ما حقَّقه الأزهر الشريف استكمالاً لدوره التاريخي التنويريّ، ولاسيما تصدّيه للمسائل الدقيقة، حين أصدر تباعاً (منذ العام 2011) الوثائق الهامَّة المعروفة حول “مستقبل مصر”، وفي مساندة حركات التحرُّر العربيّ، وفي بيان منظومة الحرّيات الأساسيَّة، وفي حقوق المرأة، آخذاً في الاعتبار الأبعاد الفقهيَّة والتاريخيَّة والحضاريَّة الإصلاحيَّة، وهو الذي تحدّث بشجاعة عن دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستوريَّة الديمقراطيَّة الحديثة، واحترام أدب الاختلاف، واحترام المواثيق الدوليَّة، كما أكَّد على حرِّيَّة العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي”.
وقال سماحة شيخ العقل: “إنَّ مبدأ “المواطنة” علَّة وجود معظم ما تضَّمنته تلك الوثائق من مفاهيم ومقاربات، وهذا أمرٌ في غاية الأهميَّة من حيث إنجازه من قبَل مرجعيَّة هي مرجعيَّة الأزهر الشريف، ومن حيث إنه أرسى قواعد التطوير والتأصيل من دون أن ننسى بالطبع محطات التنوير التي يسعى المخلصون إلى انعقادها حول هذه المواضيع على امتداد العالم العربي والإسلامي”.
واستذكر سماحة شيخ العقل في سياق مخاطبته للمشاركين كلام الأمير شكيب أرسلان حين قال: “كما إنّ آفة الإسلام هي الفئة التي تريدُ أن تلغي كلَّ شيءٍ قديم، من دون نظر في ما هو ضارّ منه أو نافع، كذلك آفّة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريدُ أن تغيِّرَ شيئاً، ولا ترضى بإدخال أقلّ تعديل على أصُول التّعليم الإسلامي..”. ويعبِّر بشكلٍ رائع عن هذا الخلل بعبارة موجزة بالغة البيان: “أضاعَ الإسلامَ جاحدٌ وجامد.” وقد تساءل الأميرُ شكيب أرسلان وهو المؤمن العارف بالمضامين العميقة لكتاب الله وواقع المسلمين، قائلاً: “إنَّ الإسلامَ هو من أصله ثورةٌ على القديم الفاسد، وجَبٌّ للماضي القبيح، وقطع كلّ العلائق مع غير الحقائق، فكيف يكونُ الإسلامُ ملَّةَ الجمود؟” وختم سماحته الرسالة بالدعاء “أن يسدد الله تعالى خطانا ويوفِّقنا إلى ما فيه خير أمَّتنا وينوِّر بصائرنا بهداه”.