الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كما تزرع تحصد ولكلّ جميل جميلٌ يماثله

كما تزرع تحصد ولكلّ جميل جميلٌ يماثله

فلاح فقير معدمٌ يعيشُ في إحدى المزارع الاسكتلندية يدعى «فلمنج». ورغم الفقر الشديد لم يكن يشكو أو يتذمر لكن همّه الأوحد كان ولده الوحيد ومستقبله وكيف ينقذه من حياة البؤس والشقاء، ولا يستريح من التفكير إلاّ بإعادة الأمور إلى الرّب فهو الشفوق الرحيم. ذات يومٍ وبينما هو يتجول مع قطيعه في إحدى المراعى سمع صوت كلب وفيّ ينبح نباحاً مستمراً مما أقلقه، فأسرع ناحيته ليجد طفلاً كان يرافق الكلب ويغوص في بركة من الوحل وترتسم على وجهه علامات الرّعب والفزع وصراخه يفتت الأكباد. لم يستهب فلمنج الخطر بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل وأمسك بالصبي من شعره ثم أخرجه وأنقذ حياته.

في اليوم التالي آتى رجلٌ إلى منزله وتبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربة مزركشة تجرها خيول أصيلة ومعه حارسان. اندهش الفلاح فلمنج لزيارة هذا اللّورد الثّري له في بيته المتواضع، غير أنه وفي قرارة نفسه ظنّ أنه والد الصّبي الذي أنقذه من الموت المحتم. بعد أن ترجّل اللّورد الثري بادر الفلاح قائلاً له: لو بقيت أشكرك طوال حياتي فلن أوافيك حقّك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، أطلب ما شئت من أموال أو مجوهرات أو ما يٌقرّ عينك. أجاب الفلاح: سيدي اللورد أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّا ضميري وأيّ رجل مثلي كان سيفعل ما فعلته، فابنك هذا مثل ابني والمأزق الذي تعرّض له من الممكن أن يتعرّض له ابني أيضاً. أجاب اللورد الثري: حسناً طالما تعتبر ابني مثل ابنك فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف وتكاليف تعليمه حتى يصبح رجلاً متعلماً نافعاً يخدم بلاده وقومه.

لم يصدّق فلمنج ما سمعه وطار من السعادة والفرح في قلبه أن ابنه سيتعلم في مدارس العظماء. وبالواقع والحقيقة تخرّج ابنه الصغير الكسندر فلمنج من مدرسة (سانت ماري) للعلوم الطبية وأصبح دكتوراً كبيراً يتمايل بين العلماء الكبار من الأطباء والبيولوجيين وهو ذاته العالم الكسندر فلمنج (1881- 1955) مكتشف البنسلين Penicillin عام 1929، أول مضاد حيوي عرفته البشرية على الإطلاق، كما وأنه حصل على جائزة نوبل للطبّ عام 1995. لم تنته تلك القصة الجميلة هكذا بل حينما مرض اللورد الثري بالتهاب رئوي كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته وفي الحالتين الفضل لآل فلمنج.

المفاجأة الكبرى أن ذاك الصّبي الذي غرق في الوحل ابن اللورد الثري والذي يُدعى اللورد راندولف تشرتشل والذي يحمل لقب ونستون تشرشل أصبح أعظم رئيس وزراء بريطاني على مرّ العصور، والذي قاد بلاده والحلفاء ضد دول المحور بقيادة هتلر في الحرب العالمية الثانية بين عامي 1935 – 1945 وكان الفضل له بإنقاذ العالم من غطرسة هتلر وتعسّفه. وانتصر الحلفاء وهم (فرنسا، إنجلترا، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي) على دول المحور (ألمانيا واليابان).

والقصة بمجملها يعود الفضل فيها لذاك الفلاح الاسكتلندي الفقير فلمنج، والعبرة منها: حقاً كما تزرع تحصد ولكل جميل يقابله جميل يماثله.


نَحْنُ يا إبني نعمل لآخِرَتِنا وليس لدُنيانا

للمروءةِ رجالٌ لا تُعرف مناقبُها إلّا في أوقاتها، وللشّهامة مواقف لا يُقَرّ بها إلا بعد وقوعها، وللأمانة ذِمَم لا يُشهد لها إلا بعد إقراراها، وللدّيانة والتديّن دلائل لا يُشار إليهما إلّا عند امتحان أصحابها.

نصف قرنِ مضى، وأرض شاسعة تزيد مساحتها على سبعة عشر ألفَ مترٍ مربعٍ مسجّلة (مُطوّبة) على اسم أصحابها غير الحقيقيين. واسترجاعُها كان أسرع من لمح الخاطر عند أصحاب اليقين. حتى احتار في أمرهم أصحابُها الشّرعيون.

قصّة ذلك أن شيخاً تقيّاً ورِعاً عُرف منذ مطلع شبابه وحتى غروب إيابه أنّه غني النفس، كريم الأخلاق، حميد الصفات، همُّه آخرته قبل دنياه، ورضى خالقه قبل سواه.

في الأربعينيّات من هذا القرن، يمّم السيد جورجي يَمِّين من بلدة حاصبيّا وجهه نحو المهجر اللئيم، بعد أن رَهن قطعة أرض تخصّه في محلّة «زغلة» إلى الشيخ أبو كامل سعيد أبو رافع من بلدة عين قنيا، بمبلغ مائة ليرة لبنانية آنذاك، والمعلوم أنّ قيمتها في تلك الأيام ربّما تعادل ألوف الدولارات في هذه الأيام.

توالت الأيام والسنون، وفاق عددها الستِّين عاماً، وإذا بأحد أولاد السيد جورجي يمّين الدكتور إميل يمّين يعود إلى بلدة آبائه وأجداده؛ حاصبيّا قصد التعرُّف على أملاك أبيه وإحصائها وإجراء حصر الإرث بعد وفاة والده. لكنّه فوجىء في الدوائر العقارية في مدينة صيدا أنّ أملاكه الشاسعة في محلة «زغلة» هي ملك الشيخ سعيد أبو رافع جَرّاء المسح القانوني في بلدة حاصبيا. وأكثر من ذلك ليس بحوزته أيّة حُجَّة أو وثيقة تُثبت هويّة تلك الأرض بأنّها ملكهم، أو على الأقل تابعة لإرثِ أبيهم.

بعدما قلقت أفكاره، وتشوشت مُخَيِّلته احتار في أمره، كيف أصبحت هذه الأملاك ملكاً للشيخ أبو رافع؟ وما العمل لاسترجاعها؟ وهي اليوم أرض غالية الثمن، لقربها من أماكن السكن وقيمتها المادية لا تقدر بثمن. تحقّق في الأمر، فإذا بها سُجّلت قانوناً بناء لأقوال المختار والنواطير أمام موظفي دائرة المساحة. حتى جيرانها، والجميع يعرفون، أنّها ملك من يستثمرها ويديرها منذ أمد بعيد. تفكّر الدكتور يمّين في ذاته، ثم عمد إلى مشورة العديد من أبناء حاصبيّا، قائلاً للعديد منهم إذا كانوا على صلة جيّدة مع المُسترهن، فإنّه على استعداد ليهبه نصف مساحة الأرض مقابل إعادة الباقي، أو نقده نصف ثمنها عند مبيعها، وليس من حلّ سوى ذلك وخصوصاً بعد استشارة المحامين، ورجال القانون ويأسه من إجاباتهم. اتصل دُعاة الخير بالشّيخ أبو رافع بطريقة لبقة دون إحراج لكرامته، أو إنقاص من أمانته، لكنهم فوجئوا بأول كلام نطق به : «عمَّ تسألونني يا أحبّائي، عن أرض السيد جورجي يمّين.. فهي ملكه. ونحنا استوفينا الرّهن من استغلالنا لها منذ زمن بعيد، فهل في الأمر من شيء غريب؟». تبسّم السائل، وهزّ برأسه، وأقرّ في ذاته أنّه أمام شيخ يجهل أنَّ الأرض أصبحت ملكه رسميّاً، أو قانونياً وإن لم تكن حقَّاً وحقيقة. لكنّه تجرَّأ فيما بعد وصارحه قائلاً: «شيخنا الكريم، إنَّ الأرض في محلَّة «زغلة» قد سُجّلت باسمكم في دوائر المساحة، ولا يستطيع أحدٌ أن يأخذها منكم، فهي ملككم عند الدولة وفي دوائرها».

انتفضَ الشيخ وكأن صاعقة وقعت عليه، ثم صرخَ في وجه محدّثه: « كيف تتجرَّأ وتقول ذلك، ألا تعلم يا ابني أنت والجميع بأنَّها ملك السيد جورجي يمّين؟ ألا تعلم أيضاً أنني أستعملها لقاء رهن استوفيتُه بعد أن طال أمده؟ أمّا إذا كنت تمتحن أمانتي وصدقي، فهذا رأس مالي في هذه الدنيا منذ إقراري بعهدي، لا خوفاً من أحد، ولا استرضاء لولد، بل إقراراً ورضاء لما كتبتُ وتصديقاً لما أعتقد، وإيماناً لما أُقرّ وأعترف.»

بعد أن علم الدكتور يمّين بما أقرَّ واعترف به الشيخ، قصد منزله في بلدته ومعه كاتب العدل، حيث أُعيد الحقُّ إلى نصابه بـ «شخطة» من قلم، ووقفة من ضمير، وليس أكثر من ذلك، ورغم محاولة الدكتور إرضاء المُسترهِن بالوفير من المال، وإذا لم يكن، فموقع بناء لأحد أبنائه أو أحفاده على الأقل. لكنَّ الشيخ أبى واستكبر أيَّ شيء، ثمّ أجابه: «يا بُنَي، قُلْ لمن تعرفه أو يحدّثك: إنّنا وإن كنّا فقراء في دُنيانا، فهذا لا يهمُّنا مُطلقاً، لأنّها ليست عندنا سوى مرحلة شقاء للعبور إلى دار البقاء. وما همُّنا الأول والأخير إلّا العمل لآخِرَتنا، ومرضاة خالقنا والضمير».

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading