ما برحت “الدار التقدميّة”، ترفعُ رسالة الثقافة والمعرفة والتراث، وتوسّعُ الاختيار ليشمل جميع أبوابِ المعارف.
وما زالت تُخرّجُ كتُبَ الفِكر، والسياسة، والأدب، والفلسفة، والتاريخ، والسيرةِ والاجتماع، وسواها من ثمرات العقول، خدمةً للأجيال الناشئة، وما يعرض لها في مجتمعها الحاضر ومستقبلها الطالع.
فالكتاب الذي تُعنى “الدار التقدميّة” بنشره، هو الروحيّةُ في هيكل الوطن، والانسانية في معنى الأُمّة، وإن شئتَ قُل هو الرأيُ المثقّف، والانفتاح الواعي، والفكر المستقلّ.
ومن الكتب التي صدرت حديثاً عن “الدار التقدميّة” مخطوط تاريخيٌّ نفيس من محفوظات الصديق الأستاذ محمود صافي، (مدير “الدار التقدميّة”)، عنوان هذا المخطوط: “نَسَب الأُمراء الشهابيين وأخبارهم في بلادِ حوران ووادي التَيم ولبنان”. وقد نَسَخه بيده الأمير نجيب محمد سليم الشهابي.
أصدرت الدار هذا الكتاب المخطوط، لمعرفتها أنَّ “التاريخ في ظاهره إخبار، وفي باطنه نظَرٌ وتحقيقٌ وتعليل، وعِلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها”، كما قالَ “ابن خلدون”، فضلاً عن أنَّ التراث ركنٌ من أركان العملية الإبداعية، التي “تقفُ فيها على أحوال ما قبلك، مِنَ الأيام والأجيال، وما بَعدك”.
يبدأ المخطوط بجدّ الشهابيين الأوّل، وهو مالك الملقّب بـ شهاب، ويعود نسبه إلى نزار بن معدّ بن عدنان، جَدّ العرب المستعربة في بلاد الحجاز، ويذكر بالأسماء أولاد عدنان، ليصل إلى عبد مناف، وهاشم، أجداد الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، تثبيتاً لجذور الشهابية في الإسلام، ثمَّ يرتفع من عدنان بالتفصيل إلى سام بن نوح، أوّل الرُّسُل وثاني الأنبياء بَعدَ آدم.
ويستعرض الكاتب في الصفحات الأولى مِنَ المخطوط أسماءَ الأُمراء الشهابيين جميعاً، بما يشبه شجرة الأُسرة، كاملةً مِن فجر الإسلام، إلى قيام نظام القائمقاميتين في لبنان، ثم يعرض للهجرة النبويّة سنة 622م، على اعتبارها التاريخ الفاصل الذي انتقل بعده الشهابيون من شبه الجزيرة العربية؛ وأمّا قيامهم في بلاد حوران فكان في القرن الثالث عشر للميلاد. ويروي الكاتب وقائع الشهابيين مع الإفرنج وانتصارهم عليهم، مستعرضاً علاقة الأمراء الشهابيين بالسلطان صلاح الدين الأيوبي (1138 – 1193)، الذي كانَ حصن الشرق في وجه غزوات الإفرنج لبلادنا، مستفيضاً في وصف الروابط الوثيقة بين الشهابيين والأيوبيين، كقوله، كان الملك صلاح الدين يعتمد عليهم في الحروب (ويجعلهم أمامَ عساكره)، مما دفع بـ صلاح الدين الأيوبي إلى أن (يخلع على الأمير منقذ الشهابي خلع الولاية على البلاد..)
وروى الكاتب، أنَّ فتوح القسطنطينيّة سنة 1453، جرّت في أيام الأمير أحمد الشهابي (نسيب الأمير ملحم المعني، أمير جبل الشوف) مُلمِّحاً إلى المصاهرة المتبادلة بين آل معن وآل شهاب، زواج الأمير محمد الشهابي من ابنة الأمير يوسف المعني، وزواج الأمير يوسف بن يونس المعني من ابنة الأمير مُنقذ الشهابي). وقد خلف الشهابيون المعنيين في حكم لبنان (1697 – 1841)، بعد مؤتمر السمقانية الشهير.
يخبر الكاتب في مخطوطه عن وصول المغول إلى الشام سنة 1260 م ويسرد بتفصيلٍ دقيق وغنيّ، مراعياً فيه التسلسل التاريخي، وصول السلطان سليم الأوّل (العثماني) إلى أبواب حلب، ثمَّ انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق سنة 1516، وقيامه بمكافأة الأمراء الشهابيين وإقطاع أميرهم منصور شهاب بلاد وادي التيم.
وهذا ويأتي المخطوط على ذِكر الأمراء من آل تنوخ وآل علم الدين وآل جمال الدين، ويعزوهم إلى أبٍ واحدٍ هو “بُحْتُر”.
تناول الجزء الثاني من الكتاب “قيام الأمراء آل شهاب بوادي التيم إلى تملُّكهم في ديار جبل لبنان، وذِكر أخبارهم التي تولوا فيها”، ومنها صفاتهم وعدالتهم في رعيّتهم، ومعاملتهم لسائر أمراء لبنان، ومعاملة العثمانيين الخاصة لهم، وحدب ولاة بني عثمان عليهم، وفي هذا الجزء، ذِكر المراكز الإدارية والعسكرية التي تولاّها الأُمراء الشهابيون، وغيرهم من أمراء البلاد. مع تفصيل دقيق للتقسيمات الإدارية في لبنان يومذاك، وللعادات والتقاليد والإعراب المُتّبَعة في المعاملات والتحريرات والمراتب الاجتماعية، مع ذِكر أسماء الأماكن وعدد الجيوش في كلِّ وقعةٍ، ممَّا يدلّ على تمكّن الكاتب من موضوعه، ومعرفته بأدقِّ تفاصيله.
ولم ينسَ الكاتبُ الجغرافيا. ففي المخطوط تعريفٌ بأنهار لبنان، ووصف بعض أوديته وقُراه وبقاعه، وسردٌ مُفصَّل لتاريخه وأحداثه السياسية والأمنية، وإلتفات إلى المعارك المفصلية، مثل معركة عين داره بين القيسيّة واليمنيّة سنة (1711) وكثير غيرها، وسرد ما جرى في زمن العثمانيين من تحالفات، وما وقع بين ذوي الشأن مِن دسائس ونزاعات، وتحالفاتٍ وعهود، حتى كاد، مؤلِّف هذا المخطوط، لا يترك شاردة إلاّ قَيّدها، ولا حادثة إلاّ سرَدها، كقوله: }ثم أُحْضِرَ محمود باشا أبو هرموش، فقُطع رأسُ لسانه، وباهميه (إبهاميه)، ولم يقتله (الأمير حيدر) لأنه لم تكن العادة جارية بقتل مشايخ بلاد الشوف{. وقوله : }وفَرَّ الأمير يوسف ابن الأمير ملحم بأخوته وأهله إلى قرية المختارة… فنزل عند الشيخ علي جنبلاط{، وسواها مما لا يَفي هذا التعليق به.
ولعلّ هذا الكتاب – المخطوط ، تضمّن من “الأسماء، والرسائل والخطابات والفرامانات” والأقوال نثراً وشعراً، ما لم يتضمَّنه كتاب، في ما أعرف، من كتبُ تاريخ لبنان.
وجاء في آخر المخطوط }نبذة من تاريخ جودت باشا بحروفها، وذِكر كيفيّة إدارة جبل لبنان، الماضية والحاضرة ، وأصول حكامه ورسومهم القديمة، وعدد أهاليه وأقسامهم{.
يقع المخطوط في 438 صفحة، قياس 24 × 17 سنتم، مجلّد بغلافٍ فاخر، خالٍ من الفصول والأبواب والفهارس، واضح الخط شَيِّقُ السَرد، سليم اللُغة، يُعتبر – بحق – مصدراً من بين أهم مصادر التاريخ اللبنانية، الحافل بالحركات والأحداث.