الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مشروع الدّولة الدرزيّة: مخطّط إسرائيلي، رفضه الدروز فلم يُكتَب له النجاح!

أعادت الأحداث الأخيرة في المدن الفلسطينية المحتلّة القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد. وتصدرت أخبار الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الإنسانية لشعب فلسطين الصحف العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي في سابقة في تاريخ التغطية الإعلامية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هذه الانتهاكات التي شملت التهجير المُمَنهج والتطهير العرقي واستهداف المدنيين، أعادت إلى الأذهان المؤامرات والمشاريع والحروب التي شنتها إسرائيل لا على الشعب الفلسطيني فحسب، بل على شعوب المنطقة قاطبة، لتبرير وجودها وتثبيت شرعية كيانها كدولة طائفية عنصرية استيطانية شرقي المتوسط. وقد تكون أخطر هذه المؤامرات تلك التي يروي قصتها الصحافي السوري الراحل محمّد خالد القطمة في كتابه «قصة الدولتين المارونية والدرزية» الصادر عام 1985. قضت المؤامرة الإسرائيلية المذكورة بتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية بهدف إضفاء الشرعية على كيانها وتشكيل حلف أقليات طائفيّة في منطقة ذات غالبية سنّية، وبالتالي مفاقمة الصراعات بين الشعوب وتعميق الشرخ الطائفي بينها. وتقرَّر بموجب المخطط إقامة دولة مارونية وأخرى درزية تضم جبل لبنان الجنوبي، الجنوب اللبناني، جبل حوران، الجولان، والسويداء والمناطق الواقعة بينها.

ويركز الكتاب على سرد حكاية قيام وسقوط مخطط إقامة الدولة الدرزية بالذات. أما بطلا قصّة فضح وإفشال المؤامرة التي يكشف خيوطها القطمة فهما كمال يوسف أبو لطيف المحامي والسياسي والعسكري اللبناني السوري، وكمال أسعد كنج أبو صالح ابن بلدة مجدل شمس ووريث زعامة سياسية متجذرة في منطقة الجولان. في معرض سرده لقصة «الكمالين»، يستخدم القطمة مصادر متعدّدة، فيلجأ إلى تقارير كتبها كمال أبو لطيف لمسؤولين عرب ووثائق احتفظ بها كمال جنبلاط صاحب الدور الفاعل في إحباط المخطط، وشهادات شفوية لبعض المقرّبين من كمال كنج أبو صالح إضافة إلى حوارات أجراها القطمة مع نقيب الصحافة الأسبق الشهيد رياض طه الذي توصل إلى اكتشاف معلومات قيّمة عن هذا المخطط وسبق أن أفشى عنها في مقالات وأحاديث صحفية قبل وفاته.

رغم أن حلم تقسيم وفرز المنطقة طائفياً راود القادة الإسرائيليين منذ قيام دولتهم، إلا أنّ النكسة العربية عام 1967 شكّلت بالنسبة لهم الفرصة الذهبية للمباشرة بتنفيذ المشروع. في تلك السنة المذكورة اجتاح الجيش الإسرائيلي مرتفعات الجولان فسقطت بلدة مجدل شمس وبقي سكانها صامدون. وفي السياق، يروي القطمة أن شيخ عقل فلسطين المرحوم الشيخ أبو يوسف أمين طريف كان قد بعث برسالة شفوية إلى دروز الجولان يحثهم فيها على استخدام السياسة مع الاحتلال الإسرائيلي تفادياً للتهجير وكسباً للوقت. أعقب الاحتلال فترة زمنية حاولت فيها السلطات الإسرائيلية التودد للسكان الدروز بشكل مُريب ومثير للشكوك. وتُعزى هذه المعاملة المميزة إلى رغبة إسرائيلية باستمالة الدروز وضمّهم إلى حلف الأقليات، تغذية الانقسامات الطائفية بين العرب، والأهم من كل ذلك: دفعهم إلى الموافقة على إقامة دولة درزية تمهد لقيام دويلات طائفية مشابهة للنموذج اليهودي في المنطقة العربية.

في منزل كمال الكنج في مجدل شمس، قدّم ضباط مخابرات إسرائيليين عرضهم هذا أمام عدد من الوجهاء وقد خيروهم بين دعم مشروع الدولة الطائفية الدرزية أو التهجير القسري من مناطقهم. وفي كلتا الحالتين مصلحة لإسرائيل إذ إنهما يخدمان الغرض ذاته: تطهير الدولة من غير اليهود. ولعل هذا الغرض شكّل الهاجس الأكبر لزعماء الصهيونية فهم يعرفون حق المعرفة أن التطور الديمغرافي يصب في صالح السكان العرب ويهدد وجود إسرائيل، فكانت الطريقة المثلى لمواجهة هذا الخطر بالنسبة للإسرائيليين هي التهجير القسري. وبالعودة إلى الاجتماع الذي عُقد في منزل الكنج فقد تقرّر فيه أن يدّعي الدروز الموافقة على العرض والمماطلة لكسب المزيد من الوقت، ريثما يتوصلون للمخرج المناسب. كما وتم الاتفاق على تكليف كمال الكنج بالاتصال بسلطات الاحتلال والتنسيق معها.

في خريف عام 1967 توجه كمال الكنج إلى تل أبيب للقاء مسؤولين إسرائيليين (منهم الوزيران موشيه ديان وإيغال ألون) والبحث في الخطة المقترحة وتحديد دور الكنج في تنفيذها. هناك، حيث وافق الكنج ظاهريا على التعاون مع الصهاينة، دخلت العملية البطولية التي فضحت المؤامرة الإسرائيلية حيّز التنفيذ. طُلب من الكنج التواصل مع إحدى الشخصيات الدرزية الموثوقة للتنسيق مع الإسرائيليين والتعاون معه في تأدية الدور المطلوب منه. فاختار الكنج صديقه وقريبه كمال أبو لطيف لهذه المهمة. التقى الرجلان في أحد فنادق روما يوم 27 تشرين الأول من العام 1967 حيث كان من المفترض أن يحضر اللقاء ضابط «الشين بيت» (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) المرافق للكنج. غير أن هذا الأخير تمكّن من الاجتماع بأبو لطيف على انفراد والإفصاح له عن مهمته المُفترضة وعن حقيقة نواياه. اتفق الرجلان على إظهار التعاون مع الضابط المسؤول عن العملية، «الكولونيل يعقوب»، على أن يحاولا انتزاع أكبر قدر ممكن من المعلومات العسكرية والسياسية المتعلقة بالخطة وإيصالها للمسؤولين العرب.
توالت الاجتماعات في العاصمة الإيطالية بين الكولونيل و»الكمالين» تمكن فيها الأخيران من استدراج الأول، فجمعا معلومات قيّمة عن الحيثيات العسكرية والزمانية والسياسية للعملية المخطط لها: كانت إسرائيل تنوي افتعال الأحداث على الجبهتين السورية اللبنانية لخلق ذريعة لاجتياح الجنوب والجبل اللبناني وجبل الدروز في سورية. حتى إذا تقدمت القوات الإسرائيلية واحتلّت هذه المناطق أعلن الزعماء الدروز انفصالهم عن لبنان وسوريا وتأسيس دولتهم الدرزية. الجدير بالذكر أن وثائقيّاً أعدّته الجزيرة أكّد استعداد الولايات المتحدة الأميركية للاعتراف بالدولة المُزمع إنشاؤها فور إعلان قيامها. وهذا ما أكده أيضا الكولونيل الإسرائيلي للكمالين بحسب قصة القطمة.

في المقابل، حرص العربيّان على الإجابة عن أسئلة الضابط بمعلومات عامة وسطحية حول بعض القضايا السياسية والعسكرية والاجتماعية في بلديهما كي يقنعاه بتعاونهما معه. ويعود نجاح الدرزيان في سحب المعطيات من الضابط، حسب كتاب القطمة، إلى ذكاء الرجلين وتنسيقهما المستمر فيما بينهما، ورغبة الكولونيل بإتمام مهمته بأسرع وقت ممكن لإرضاء رؤسائه في إسرائيل. إشارة إلى أن المسؤولين عن الكولونيل يعقوب في «الشين بيت» كانوا على اتصال دائم بمرؤوسهم في روما لإيفائهم بالمعلومات التي يتلقاها من الدرزيين، ما يدل على اهتمام إسرائيلي كبير بالمشروع. من جهة أخرى، وفور عودته إلى لبنان، اجتمع أبو لطيف بالزعيمين كمال جنبلاط وشوكت شقير وأحاطهما بتفاصيل اللقاءات التي جمعته بالكنج والضابط الإسرائيلي، فأظهرا دهشة عظيمة لهول المخطط المُحَضّر وسارعا بإبلاغ الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أبدى بدوره اهتماما بالغاً بالموضوع. ثم توجّه أبو لطيف إلى دمشق حيث التقى مدير المخابرات السورية عبد الكريم الجندي واضعاً معلوماته في تصرّفه.

 

وفي تشرين الثاني 1967 كلّف الإسرائيليون أبو لطيف بالتواصل مع الأمير حسن الأطرش وحثّه على تبنِّي مشروع الدولة الدرزية، مستغلّين خلاف الأمير مع النظام البعثي السوري. تعذّر على الأمير الذهاب فآثر إرسال حفيده حمد لتلبية دعوة أبو لطيف في روما (دون أن يعلم الهدف من الزيارة). وسرعان ما انضم الأمير حمد إلى الكمالين في مسعاهما لإفشال المؤامرة. كانت اللقاءات المتتالية بين الإسرائيلي والثلاثة العرب كفيلة بالإجابة على الكثير من الأسئلة العالقة في أذهان الكنج وأبو لطيف والاستفسارات التي طلب بعض المسؤولون العرب الإجابة عنها، فقد كان «يعقوب» يكشف لهم تدريجيا المزيد من المعلومات العسكرية والاستخباراتية عن المشروع. من جهته، لم يتأخر أبو لطيف في إبلاغ السلطات اللبنانية والسورية والمصرية وكمال جنبلاط بكل جديد في تقارير مفصلة هي التي اعتمد عليها مؤلف الكتاب لاستقاء معظم معلوماته. وفي كانون الأول 1967 سافر كمال أبو لطيف إلى بيروت ومنها إلى دمشق حيث قدم المزيد من المعلومات الهامة لمدير المخابرات السورية الذي أبلغ بدوره الرئيس السوري نور الدين الأتاسي.

بعد انتهاء المباحثات مع الثلاثة الدروز في روما، عاد كل منهم إلى بلده على أن يبقى التواصل قائما بينهم وبين الكولونيل من خلال الرسائل المُشَفَّرة. وظلت القضية سريّة لا يعلم بها سوى عدد قليل من المسؤولين العرب رفيعي المستوى الذين تواصل معهم أبو لطيف. وظل هذا الأخير يتنقّل بين لبنان وسوريا والعراق ويدلي بما لديه من معلومات للمسؤولين، حتى أن كمال جنبلاط طلب منه سحب ترشيحه من انتخابات 1968 النيابية والتفرغ لمتابعة هذه القضية الخطرة. في تلك الفترة، كان يعقوب يبعث لأبو لطيف رسائل مشفرة من أوروبا طالباً منه العودة للقائه، دون أن يلقى جواباً واضحاً. لكن عندما اتّخذ جمال عبد الناصر قرار الرد على المؤامرة عبر تعزيز المواجهات العسكرية في مواقع المحاور الوارد ذكرها في تقارير أبو لطيف التي كانت إسرائيل تعتزم التحرك منها لتنفيذ مخططها، أدركت هذه الأخيرة انفضاح مشروعها فاعتقلت الكولونيل واتهمت الكنج وأبو لطيف بإفشاء أسرار المخطط لدول عربية، وأصبحت حياتهما معرضة للخطر. وسرعان ما أُلقي القبض على كمال الكنج في بلدته المحتلة مجدل شمس ثم أُفرج عنه بعد بضع سنوات ضمن صفقة تبادل أسرى سورية إسرائيلية. وعُلق تنفيذ مشروع إنشاء الدولة الدرزية حتى تحين الفرصة الملائمة لذلك.

يذكر القطمة في نهاية كتابه أن كمال الكنج فضل متابعة النضال داخل منطقته بعد تحريره، واعتُقل مرات عدة حتى وفاته في 15 أيلول 1983 بسبب ما تعرض له من تعذيب في السجون الإسرائيلية. لكن تغيب عن كتابه حادثة مقتل كمال أبو لطيف الغامضة. ففي 20 تموز من العام 1985 أي بعد عام من صدور الكتاب، قُتل كمال أبو لطيف أثناء محاولته فض نزاع مسلح بين أهالي بلدته وقيل آنذاك أنه أصيب عن طريق الخطأ.

إن مؤامرة إنشاء الدولة الدرزية، هي بلا شك إحدى أخطر المؤامرات التي حاكتها إسرائيل في المنطقة، بيد أنها واحدة فقط من مئات وربما آلاف المخططات غير المكشوفة التي أعدتها منذ قيامها حتى اليوم. لقد أعيد إحياء هذا المشروع الخبيث إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تبعه من انهيار مؤسسات الدولة وتفكك الجيش وتقسيم لبنان غير المعلن إلى كانتونات طائفية لكنه فشل في بلوغ هدفه. أمّا اليوم، وبالرغم من أن مشروع حلف الأقليات وتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية يبدو أنه لم يعد على رأس قائمة الأوليات الإسرائيلية، على اعتبار أن اسرائيل تمكنت من تشريع وجودها عبر التطبيع العلني والضمني مع معظم الدول العربية، إلّا أنه من الضروري في هذه المرحلة بالذات، التذكير بهذا المخطط الذي لم يأخذ حقه في النشر، للإضاءة على النوايا الإسرائيلية الحقيقية التي تخفيها تجاه العرب غير اليهود. لقد مارست إسرائيل عبر عقود سياسة تطهير عرقي تهدف إلى تطهير إسرائيل من غير اليهود، وجعلها دولة يسكن فيها «شعب الله المختار» الذي يتفوّق على غيره من الشعوب. وقصة المؤامرة هذه، إن دلّت على شيء، فهي تدل على عدم تردد الإسرائيليين في ممارسة السياسة المذكورة حتى على الدروز، الذين يجمع الاسرائيليين بهم «حلف معمّد بالدم» على حد زعمهم، في حين أنّ المخطط المذكور هدف إلى طرد الدروز من مناطقهم في فلسطين وكشف حقيقة نواياهم التي بدأ يدركها دروز فلسطين بعد ما طالهم من تمييز عنصري وطائفي من دولةٍ عنصرية تقوم على التمييز الديني والعرقي.

 

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading