الإنتصارُ الذي أذلّ الفَرَنسيّين
وأشعلَ نيران الثّورة السّوريّة الكُبْرى
أرسل سلطان من ينصح الضابط نورمان بضرورة مغادرة الكفر
فاستهزأ قائلاً: اذهب وأبلغه أنني أنتظره هنا على أحرّ من الجمر
بدأ القتال بالسلاح الأبيض وقتل نورمان قائد الفرقة
وفي ساعتين قضي على الحملة الفرنسية عن آخرها
تُعتَبرُ معركة الكفر والإنتصار الحاسم الذي حقّقه الثّوّار على القوّات الفرنسيّة شرارة الثّورة السّوريّة الكبرى ونقطة التحوّل التي مكّنت سلطان باشا الأطرش من تعزيز قيادته وتعبئة الألوف من قوّات المجاهدين وفرض هيبة الثّورة على معظم قرى جبل العرب في تحدٍّ زعزع معنويّات السّلطات الفرنسيّة المُنتدبة.
إستفزازٌ فرنسيّ
كانت شرارة المواجهة في الكفر بين القوات الفرنسيّة وبين مجاهدي جبل العرب قد انطلقت عندما قامت السّلطة الفرنسيّة في 12 تموز 1925 بإلقاء القبض بأسلوب الغدر على ثلاثة من أصل خمسة من كبار زعماء آل الأطرش، كانوا موجودين في دار مفوّضيّة الجبل في حيّ القزّازين بدمشق، تلك الدار التي كان يشغلها ممثّلون من آل الأطرش منذ أيّام العثمانيين، وهم عبد الغفار ونسيب وحمد، وذلك بعد دعوتهم إلى دمشق بدعوى مفاوضات للنّظر في شكاوى مقدّمة ضدّ الحاكم العسكريّ الفرنسيّ لجبل الدّروز، الكابتن كاربييه، وكان بالمصادفة موجوداً عندهم ليلتها برجس الأطرش شيخ قرية المجيمر ويوسف الأطرش أخو متعب وعبد الكريم الأطرش. كان المندوب الفرنسيّ في دمشق، شوفلر، حريصاً على أن يبقى أمر الاعتقال سرّاً ليتمكّن من القبض على متعب وسلطان المعتصمين في الجبل، لكنّ الذين نفّذوا أمر الاعتقال في دمشق لم يعتقلوا حسن وكان حينها فتى صغير السنّ، فما كان منه إلاّ أن غيّر ملابسه ولبس ثياباً ملطّخة بالزّيوت لسائق سيّارة، وخادَعَ خادم الدار (راغب) الذي كان يقوم بدور جاسوس للفرنسيّين؛ إذ أخذه بسيّارته مسافة بعيدة عن المدينة وتركه ليعود وحيداً وهو يدرك أنّه سيصل إلى الجبل قبل أن يصل راغب ويخبر الفرنسيين بأنّ سرّ الاعتقال سيفتضح… تجاوز الفتى حسن المخافر على طريق سهل حوران إلى الجبل، بمهارة ووصل إلى قرية رساس في الجبل وأخبر الأمير متعب بالذي حصل.
كان متعب وسلطان قد رفضا الدّعوة إلى دمشق بعد أن توجّسا من نوايا الفرنسيّين، وما إن انتشر خبر اعتقال الزّعماء الأطارشة وكان فريق آخر قبلهم من قادة وشبان الدّروز رهن الاعتقال حتى بدأ سلطان حملة لتعبئة الرّجال في قرى الجبل للانضمام إلى الثورة. ومن الدّلائل البليغة على قِصَر نظر الفرنسيّين وغرور القوّة الذي كان يحكم تصرّفاتهم أنّهم أرادوا باعتقال زعماء آل الأطرش إجهاض أيّ احتمال لانتفاضةٍ على الحكم الفرنسيّ في الجبل، وهكذا كان اعتقال هؤلاء الزّعماء عمليّاً الشّرارة التي أشعلت نيران الثّورة.


فشل محاولة القبض على سلطان
يقول الأستاذ سلامة عبيد إنّ سلطان كان في سبيله مع فريق من الأهالي في يوم الرّابع عشر من تموز لمعايدة القومندان تومي مارتان رئيس قلم الاستخبارات المكلّف بمهمة الحاكم بالوكالة في دولة الجبل في السّويداء بمناسبة عيد الحرّيّة الفرنسي، وكان في نيّتهم طلب إطلاق الرّهائن من الشبّان المُعتقلين، لكنه في قرية رساس شعر بشيء من الرّيبة إزاء نوايا القائد الفرنسي، فأرسل ابن عمّه المقرّب منه صيّاح الأطرش إلى صديقه ورفيق جهاده علي عبيد في السّويداء يستشيره فنصحه بعدم الحضور، وأدرك الفرنسيّون أن علي عبيد أفشل خطّتهم فألقَوْا القبض عليه وساقوه مخفوراً في سيّارة شحن عسكريّة مع زعماء آخرين إلى المنفى في الحسكة. أمّا الزّعيم المسيحيّ عقلة القطامي فقد كان معتقلاً بأمر ساراي من قبل.. ومع افتضاح غدر الفرنسيّين باعتقال أولئك الزّعماء، غيّر سلطان ومن معه من الرّجال وجهتهم من السّويداء إلى المقرن القبلي وهم ينخّون ويَنتخون ويحثّون على الثورة مردّدين الحداء التالي:
حَــــــــــرايباً وِدْهــــــــا تصيـــــــــــــــــــــــــر ماهي على جــــال الخَفا
العام في بطــــــن الشِّعِيب واليــــــــوم عَ رُوْسِ الشَّــــــــــفا
ليلة المبيت في القريّا
سار سلطان بجماعته القلائل من رساس باتّجاه المقرن القبلي الذي كان أكثر استعداداً لتقبّل الثّورة، فمرّوا بالقريّا، وباتوا ليلتهم فيها، ليلة 17 تموز 1925. يقول سلطان في روايته لأحداث الثّورة وقد أدرك أنّ عواملها قد توفّرت “كان علينا أن نستمدّ قوة العزيمة والجرأة في إعلان الثورة من الله عزّ وجل، ومن شعبنا المؤمن الصّبور، كان شعورنا بمسؤولية ما نحن مقدمون عليه يتملّكنا ويأخذ بمجامع أفكارنا للسّببين التّاليين :
الأوّل: ما كان يدخل في تقديرنا من فارق كبير بين ثورات محلّية اعتاد آباؤنا أن يعلنوها ويخوضوا معاركها ضدّ سلطة أعجميّة متخلّفة تنتابها الفوضى ويستشري في كيانها الفساد، وبين ثورة وطنية نعلنها بوسائلنا القديمة ذاتها على دولة كبرى حديثة من أعظم دول أوروبا الاستعماريّة التي كانت تزهو بانتصاراتها السّاحقة على الجيوش الألمانية في الحرب العالميّة الأولى.
الثاني: بما أنّ تفكيرنا بالثّورة لم يكن محصوراً في نطاق الجبل، كما توهّم قصيرو النّظر وأصحاب الأقلام المغرضة والآراء الخاطئة، فقد كان من العيب جدّاً علينا أن نحقّق فكرة تعميمها ومدّ نشاطها إلى سائر أنحاء الوطن إلّا إذا نلنا في معاركها الأولى من هيبة السّلطة الفرنسيّة وأنزلنا بقوّاتها العسكريّة ضربة قاصمة تنتشر أخبارها في كلّ مكان”.
مشايخ عقل الموحّدين يؤيدون سلطان باشا
في ساعة متأخّرة من تلك الليلة 17 تموز، حضر وفد من رجال الدّين يتقدّمهم الشّيخ أبو هاني علي الحناوي من السّهوة والشّيخ سعيد الحجلي من عرمان، فَسُرّ سلطان بقدومهم غير المتوقّع وقد أبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنوات والشّيخ حسن جربوع في السّويداء، بعد أن أصرّت السلطة الفرنسيّة على عنادها في تطبيق الأساليب المذلّة في الحكم. وفي تلك الزّيارة نلمس عمق إيمان سلطان باشا الذي طلب من المشايخ ان يعظوه ويرشدوه في ما هو مقدم عليه من أمر جلل، فقال له الشيخ الحنّاوي: أمّا ما نعظك فيه ونرشدك فلا نزيد فيه على ما جاء في كتاب الله العزيز من آيات بيّنات تدخل الطمأنينة إلى قلوبنا وتهدينا سواء السبيل كقوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ (الحجرات: 15) وشدّد المشايخ الأفاضل على التعليم الصريح بهذا الصدد مرددين صفات الشجاعة وعدم الخوف التي يتحلى بها الموحِّد الديّان.
يقول سلطان باشا إن موقف مشايخ العقل “كان فصل الخطاب وكان به زادنا المعنويّ الذي لم ينضب له معين وسلاحنا الأقوى الذي خضنا به معارك الثورة”.
“مشايخ العقل زاروا سلطان باشا وأبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنــــوات والشّيـــخ حسن جربوع في السّــــويداء”
نبوءة زوجة
فجر اليوم التالي استيقظ سلطان على صهيل الخيل وحداء الفرسان وقد كانوا على علم مسبق بإعلان الثّورة. يقول سلطان: “وقد لفت نظري الحماسة الكبيرة التي كانت تبدو على أخي مصطفى في ذاك اليوم إذ إنّه بكّر على غير عادته وارتدى أجمل ما عنده من ثياب وتقلد سيفه وحمل بندقيته على ظهره وتمنطق بجناد ذخيرته وأخذ يجول وهو على صهوة جواده بين الفرسان، يحدّث هذا ويمازح ذاك ورائحة العطر تفوح من ظفائر شعره الأشقر المسترسل تحت كوفيته البيضاء وعقاله الأسود، وقبل خروجنا من ساحة الدار اقتربت منه زوجته وقالت له وهي تجهش بالبكاء “ألا تودع ابنك محمداً يا أبا مصطفى”.
وناولته إيّاه وهو لم يبلغ بعد شهره السادس ثم أسرعت نحوي وقالت: “وديعتك مصطفى يا سلطان قلبي يحدثني بأنّني لن أراه بعد الآن”.
فهدّأت من روعها وطلبت من نساء العائلة الحاضرات لوداعنا أن يأخذن بيدها ويدخلنها برفق إلى غرفتها. ولم أدر أن شعورها بالخوف عليه كان صادقاً وأننا سنفقده مع من سنفقد من مجاهدينا الأبرار في أوّل معركة ضارية تدور بيننا وبين المستعمرين الفرنسيين”.
في الثامنة صباحاً غادر سلطان القريا ومعه خمسة عشر فارساً هم: جاد الله شلهوب وداود طربيه ودرويش طربيه وسليم شقير وعبطان النّجم وعلي الملحم وغازي العبد الله وفارس الدّبس وفارس مفرّج وفرحان زيتونة وهاني أبو هدير ويوسف البلعوس وزيد ومصطفى شقيقا سلطان وأبناء عمه نواف وهايل، وبقي في القريّا أخوه علي وفرسان ورجال آخرون لإنهاء أعمال الموسم الزراعي واستطلاع تحرّكات الفرنسيين وتزويد الثوّار بتحرّكاتهم..
وصلوا بكّا حيث كان صياح الأطرش ينتظرهم وقد انضم للحملة من فرسان بكّا بهاء الدين ورشراش مراد وجدعان المعّاز ومن ثم تابعوا مسيرهم إلى أم الرمّان فباتوا ليلتهم فيها وانضم إليهم من رجالها نصّار ومحمّد ومحمود وحامد وحمّود البربور وحمد النّبواني وقد وعد الكثير من محاربيها بالانضمام إلى الثّورة بعد الانتهاء من أعمال الموسم الزّراعي، وإلى أم الرّمان انضمّ للثّوّار وفد من قرية حوط هم فرحان وعبد الله وحسن وحسين وحمّود العبد الله أمّا حمد البربور فقد كان لديه ما يشغله أيضاً ثم التحق بنا في صلخد إثر دخولنا إليها.
إستعراض قوّة في مَلَح
مرّ موكب الثوّار بالغاريّة ثم “عنز” فـ “المشقوق” فـ “صمّا البردان” فـ “متان” حيث أيّدهم فيها المجاهد يوسف العيسمي وشيخها الفتى علي الأطرش وهيّجوا أهل القرية فقاموا بعراضات حماسيّة في الساحة العامة وقد تمّ لقاؤهم مع الثّوار في اليوم التالي في عرمان. وانتقلوا بعدها إلى مَلَح، هناك لم يكن عدد الثوّار قد تجاوز الثلاثين فارساً وقد استقبلهم عند مدخل البلدة علي الملحم وخليل الباسط فأبلغوا سلطان أنّ سريّة من الحرس السيّار التابع للفرنسيين تعدادها نحو مائة خيّال موجودة في القرية فقام سلطان ومن معه بإرهاب القوة بعقد حلبة سباق في ميدان القرية وراح بعض الفرسان يتصايحون أثناء الطّراد ويطلقون الرصاص في الهواء وفي دقائق معدودة خرج رجال القرية ونساؤها لاستقبالهم وبيرق ملح يخفق بألوانه الزّاهية فوق حامله البطل شهاب غزالة، وفي بيت خليل الباسط في ملح بات سلطان وكتب رسائل عديدة لأعيان المقرن الشّرقي وشرح أحوال البلاد العامّة وبيّن أسباب القيام بالثّورة. وفي صبيحة 20 تمّوز انتقلوا إلى عرمان فاستقبلهم أهلُها في السّاحة العامّة بالأهازيج الحربيّة وقد أصبح عددهم نحو مائتين وخمسين فارساً، وهناك حلّقت فوق جمعهم طيّارتان للاستكشاف والإرهاب فأمطرهما الثوّار برصاص بنادقهم وأسقطوا واحدة منهما هبطت في قرية امتان واقتيد طيّاراها أسيرين بأمان إلى بيت الشيخ علي الأطرش، وقد ظلاّ في حمايته وضيافته إلى أن جرت مبادلتهما في ما بعد مع السلطات الفرنسية.
وفي عرمان، وقبل الزّحف إلى صلخد، حضر سليمان نصار وحمزة درويش ومعهما عدد كبير من فرسان المقرن الشرقي فكانوا في طليعة المجاهدين الذين لبّوا نداء الثّورة من تلك الجهات. ومن عرمان في اليوم نفسه، تابع الثوّار طريقهم إلى صلخد وكان استقبال أهاليها لهم مثيراً للنّخوة وقد تقدّم إبراهيم الشّعار أحد وجهاء المدينة وربط منديلاً أخرجه من جيبه في رقبة فرس سلطان إشارة منه إلى أنه يرغب في استضافته في بيته، ولم يلبث الثوّار أن استولَوْا على القلعة ودار الحكومة من دون مقاومة إذ إنّ أفراد السّلطة والموظّفين الكبار فيها فرّوا من المدينة عندما رأَوْا جموع الثوّار قادمين إليهم من جهة عرمان.
دخل الثوّار دار البعثة الفرنسية وأحرقوا محتوياتها وهي الدّار التي كانت تدار منها أعمال السخرة وإهانة وجهاء الدّروز أيام حكم كاربييه.


مقدّمات المعركة
فرض تحرير صلخد من قبل الثوّار تعديلاً على حركة القوّة الفرنسيّة التي كان يقودها نورمان باتجاه القريّا والمقرن القبلي فتوجّه شرقاً مارّاً بقريتي العفينة وحبران، ونزل عند الظّهر في البساتين الواقعة بجوار نبع عين موسى، ليقطع على الثوّار طريق السويداء، ومن ثمّ ضربَ خيامه على الهضبة الوعرة إلى الشّرق من عين العليقة وكان نورمان قد تفقّد الموقع وعمل على بناء متاريس وتحصينات حوله طوال الأيام السّابقة ليوم الواقعة.
سلطان يحذّر الفَرَنسيين
نزل الثوّار في خربة العيّن شمال غربي صلخد ببضعة كيلومترات، وفيها نبع غزير كان الهدف إقامة مخيّم كبير ينطلق منه المجاهدون بحسب ضرورات المواجهات المرتقبة، وكان سلطان باشا في اليوم السابق قد أوفد رسولين إلى الكفر هما قاسم الأطرش وعبد الله العبد الله بمهمة مقابلة قائد الحملة ونصحه بإخلاء الطّريق والانسحاب بجيشه قبل فوات الأوان وتسليمه كتاباً موجّهاً إلى السّلطة الفرنسيّة بالسّويداء يحمّلها مسؤولية عدم الاستجابة لمطالب الشّعب الحقّة واستمرارها على النّهج الاستبداديّ الموروث عن كاربييه، بالإضافة إلى السياسة الاستعماريّة التي انتهجتها المفوضيّة الفرنسيّة في بيروت بتقسيم البلاد إلى دويلات مجزّأة محكومة حكماً عسكريّاً مباشراً قائماً على الظلم والإرهاب وإثارة الأحقاد الدّينية والطائفيّة.
نورمان يرفض النصيحة
وصل الرسولان إلى أسعد مرشد شيخ القرية، فارتأى أن يقوم هو نفسه بالمهمّة فاصطحب بعض وجهاء الكفر إلى معسكر نورمان، ولما أذن لهم بالدخول إلى معسكره وجدوه منبطحاً في خيمته ومعه بعض ضبّاط الحملة وترجمانه السّوري يوسف صايغ، ولما سلّموه رسالة سلطان الخطّيّة ونُصْحه له بمغادرة المكان، أجابهم بتهكّم واستخفاف: “سألقي القبض على سلطان وأعوانه وأعيد الأمن إلى نصابه في سائر أنحاء الجبل خلال بضعة أيّام”، حاول أسعد مرشد أن يكرر نُصحه للقائد الفرنسيّ بقوله: “إنني أنصحك يا حضرة القائد بصدق وأمانة بأن تغادر المكان قبل وصول سلطان لأنّ قوتك هذه لا تستطيع أن تصمد طويلاً في وجه الثوّار”.
ثارت ثائرة الضّابط وقال: “ألا تعلم أنّ عندنا من السلاح والذخيرة هنا ما نحارب به الدروز ثلاثة أشهر؟! من هم هؤلاء العصاة الذين تخوّفنا بهم؟! ــ وأشار إلى مترجمه ــ إن الملازم يوسف صايغ هذا يستطيع أنْ يسوق الدّروز بعصاه من الصورة الكبيرة شمالاً إلى العانات جنوباً” ثمّ التفت إلى أعضاء الوفد وقال لهم”اذهبوا إلى سلطان وقولوا له: إنّني بانتظاره على أحرّ من الجمر في هذا المكان”.
رجع رسولا سلطان باشا وأبلغاه جواب نورمان، فغضب الثوّار لسوء جوابه، وفي تلك اللّحظات وصل بيرق ملح قادماً من الشّرق، فلم يتريّث حامله شهاب غزالة لدى سماعه بجواب نورمان، فمضى مندفعاً باتّجاه الكفر وانطلقت بيارق القرى من خلفه، وترك الجميع موقعهم في العيّن هائجين تتقدمهم بيارقهم الخفاقة، كان عددهم دون الخمسمائة مقاتل أكثرهم لا يحمل من السلاح سوى السّيوف والمُدى والبلطات أمّا البنادق فكان أحدثها من النوع الإنكليزي والألماني الطويل والقصير العثماني بأنواعه. كان حَمَلَةُ البيارق ومن خلفهم الفرسان والمشاة يتقدّمون في زحف سريع يتنافسون على نَيل شرَف السّبق إلى ميدان المعركة.


بَدْو الجبل يقاتلون فَرَنسا إلى جانب الدّروز
شارك في معركة الكفر فرسان من بدو الجبل من عشيرة الشّنابلة وعودة السّرور شيخ عشيرة المساعيد وكاين القنيص ــ وهو شريك سلطان في تربية أغنامه ومواشيه ــ وكان القنيص صديقاً وفيّاً لسلطان باشا وللدّروز، وهو من كان له الفضل في اشتراك شيخ المساعيد بتأييد الثوّار، إذ قال له: “أنصحك أن تحارب مع الدّروز فهذه الثّورة هي أوّلاً ضدّ أجنبي وثانياً أنت ترى أن الذين قاموا بها هم الطّرشان وأنت ترى نفسك معزوزاً مُحترماً منهم فاستحسن عودة السّرور هذا الرّأي واشترك في المعركة وأعلن أنّ البدو هم أيضاً مع الدّروز ضدّ الأجنبيّ” .
المعركة
في صبيحة 21 تموز 1925 قامت طائرة يقودها الكابتن (دي بويسون) بإستطلاع طريق (السويداء – الكفر – صلخد) فلم يلحظ ما يثير الريبة في نفسه، ما جعل نورمان يتجه إلى الكفر ظهر ذلك اليوم ويتمركز حول نبعها عند هضبة صخرية، وقد فصل المشاة عن الخيالة فسهل على الثوار القضاء على كل فئة منفردة على التوالي. وكان المجاهدون في حماس بالغ لأن يوم الكفر كان يصادف الذكرى الثالثة لثورة سلطان الأولى على الفرنسيين.
قبل أن يبدأ سلطان الهجوم أرسل لنورمان كتاباً يستنكر فيه عملية الغدر التي قامت بها السلطة الفرنسية بإعتقال الزعماء ونفيهم إلى الحسكة وتدمر وطلب المفاوضة، لكن نورمان رفض بسبب اعتداده بقوته وانه قدم لإخماد فتنة الدروز. وبعد انسحاب المجندين الدروز العشرة من جيش الحملة الفرنسية بدأت المعركة ظهراً حسب الخطة التي وضعها سلطان باشا فاستولى الثوار على رشاشين كانا يحميان زوايا المخيم الفرنسي وحالت سرعة هجوم الثوار وهول المفاجأة بين الفرنسيين وأسلحتهم، وبدأ القتال بالسلاح الأبيض حيث تمكنوا من قتل نورمان قائد الحملة والكابتن (هلم جيزون)، ودامت المعركة ساعتين قضى الثوار فيها على الحملة كلها تقريباً، بينما كانت خسائر المهاجمين أربع وخمسين شهيداً من بينهم شقيق سلطان الأطرش (مصطفى الأطرش) و(إسماعيل الأطرش).
يذكر سلامي عبيد في كتابه “الثورة السورية الكبرى” (ص 125) أن الحملة الفرنسية كانت تتألف من 300 جندي وثلاثين خيالاَ مسلحين بالرشاشات، وقد قتل أغلب أفراد الحملة وضباطها. ويذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه لم ينج من معركة الكفر من الجنود الفرنسيين إلا خمسة.
غنم الثوار في هذه المعركة جميع الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك التالية كما غنموا الخيول والمؤونة، إلا إن أبرز النتائج هي عودة الثقة إلى نفوس المواطنين في قدرتهم على المقاومة كما كانوا في العصر العثماني، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً بيد الثوار أمر المبادرة وسرعة الانقضاض، حتى إن حامل راية قرية ملح وهو الشاب (شهاب غزالة) قد غرس سارية البيرق في ظهر رامي الرشاش الفرنسي فصرعه ولكنه استشهد في نفس المعركة، ودخل غزالة سجل الثورة السورية كأحد أول وأشجع أبطالها وله نصب بارز في مدينة الكفر التي كانت ساحة استشهاده.


خطة سلطان
قام سلطان بتقسيم المجاهدين إلى فرقتين، الأولى من المشاة وعليها أن تجتاز طريقاً وعرة عبر كروم القرية لتقوم بحركة التفاف على معسكر العدوّ من جهة الشرق، والثّانية يتألّف معظمها من الفرسان وقد اندفعت بسرعة نحو مواقع العدو لتصعد إليه مواجهة من الجهة الغربيّة في جبهة ضيّقة فرضتها على القيادة طبيعة الأرض الجبليّة يبلغ عرضها نحو مائتيّ متر وما هي سوى دقائق معدودة حتى أصبح العدوّ مطوّقاً من كلّ جانب.
يقول سلطان واصفاً مشاهد المعركة “رأيت شيوخاً وفتياناً يقتحمون المراكز الدّفاعية الحصينة أو يخترقونها هبوطاً من الجهات المرتفعة لا يحملون بأيديهم سوى عِصيّ السّنديان الثّخينة أو الأسلحة البيضاء المتنوّعة التي كان يشاهد لبعضها بريق خاطف عندما تنعكس عليه أشعّة الشمس الوهّاجة، وسمعت بأذني نخوات مقاتلينا وصيحاتهم المرعبة بعد أن توسّطوا المعسكر الفرنسيّ ثم لم أسمع بعد قليل سوى صرخات ألم متتالية تنبعث من أولئك الجنود التّعساء الذين مالت على رقابهم السّيوف الباترة وهوت على رؤوسهم وأجسادهم الفؤوس القاطعة ولم يكن ضبّاط الحملة وجهاز القيادة أسعد حظّاً وإنّما لقَوْا المصير نفسه وكتبت النّجاة لأفراد قلائل تمكّنوا من الوصول إلى قلعة السّويداء بكل صعوبة”.
نتائج النصر
أحيا نصر الكفر المؤزر الثّقة في نفوس الثوّار واكتسب العُزّل منهم أسلحة حديثة وذخائر ثمينة ليخوضوا بها معارك مُقبلة وانضمّت أكثريّة من المتردّدين إلى صفوف الثّورة.
كانت خسائر الثوّار في تلك المعركة جسيمة في أول معارك الثورة على الفرنسيين، ولكنّ الانتصار السّاحق كان له أثر فوري في استقطاب المجاهدين والمتطوعين وهو فرض على سلطان والثوّار بالتالي الانتقال إلى المرحلة التالية من الثورة، إذ إنه كان قد سدد طعنة كبيرة للوحش الفرنسي ولم يعد في إمكانه بالتالي التوقّف. لقد اشتعلت الثورة وأصبح على جميع الأطراف التعامل مع الواقع الجديد وترقب تبعاته والتعامل معها.
سلطان يجند الجبل
من قنوات عمل سلطان على استثمار نصر الكفر السّاحق فراح يكاتب القرى ويشرح المبادئ الأساسيّة التي قامت عليها الثّورة وكانت الأجوبة التي ترد إليه من شيوخ القرى وأعيانها تنطوي على التّأييد المطلق والوعود القاطعة بإرسال النّجدات السريعة.
وفي قنوات أخذت وفود من الجبل ونواحيه تأتي إلى سلطان للتّعزية باستشهاد أخيه مصطفى وإعلان الولاء للثّورة وقد أجابهم “مصطفى راح في يومه فداء للوطن، وإنّني لم آسف على فراقه أكثر ممّا أسفت على فراق الشّهداء الآخرين الذين ضحّوْا بأنفسهم في سبيل حرّية بلادهم واستقلالها، واعلَموا أنّنا سنفقد الكثير من أبنائنا وأخواننا في معارك قادمة لنتخلّص نهائياً من ظلم الأجنبي واحتلاله لبلادنا”.
وقد عزّز انتصار سلطان باشا والثوّار في الكفر من شعبيّته في الجبل فبدأ الرّجال بالانضمام إلى الثّورة بحيث تمكّن في غضون أسبوع من استقطاب ألوف المتطوّعين من جميع قرى المنطقة وتحوّلت فرقته الصّغيرة إلى قوّة ضخمة تضمّ ما يتراوح ما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف مقاتل سيطروا على كافّة مناطق جبل الدروز، وكانوا في ما بعد النواة التي ألهبت نيران الثورة السوريّة الكبرى على المحتل الفرنسي في سوريا ولبنان.