عرضنا في العدد السابق من الضحى (38) لمقام «المحبة» لمركزه الأثير في ثقافة التوحيد والعرفان؛ ونكمل في هذا العدد بيان أهمية مقام «الصدق»، صُنوِ المحبة، بل صورتها الملموسة.
تتدرج معاني الصدق من الأقرب منالاً، أي «الصدق» في معناه المباشر؛ إلى الصدق في معناه الاجتماعي؛ إذْ كيف يقوم مجتمعٌ أو تقوم حضارةٌ ( كالكثير من أحوال الحضارة المادية الاستهلاكية المسيطرة اليوم) على الكذب، نقيض الصدق؟ وصولاً إلى الصدق بمعناه الديني والتوحيدي على وجه الخصوص.
الصدق في أقرب معانيه، وربما أظهرها عياناً هو: صدق اللسان. هو التطابق بين الدّال مع المدلول، والتعبير مع الأصل؛ هو تطابق الظاهر مع الباطن، والفعل مع القصد أو النيّة.
وقبل أن نتناول الصدق في معناه الأعمق بعض الشيء، نقول ومن وجهة عملية، أنّ الصدق فضيلة أخلاقية، عملية، يقوم عليها إجماع منقطع النظير بين سائر الرسالات السماوية؛ وفي تعبير ابراهيم اليازجي النهضوي: «الصدق عمودُ الدين». وعن الإمام علي بن أبي طالب قوله : «النجاة في الصدق». وعن الخليفة عمر بن الخطّاب قوله: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدّى وإذا أشفى (همّ بالمعصية) ورع».
لكنّ الصدق في حقيقته الأعمق أكثر من ذلك: هو بطلان الثّنائية، وامحاؤها. إذ لا مكان لها في مقام الصدق. فالمعرفة الآن هي عينُ العارف، وبالحق تُعرفُ الأشياء. وأعلى مراتب العرفان الممكنة حين لا يحتاجُ الحق إلى برهان؛ فيغدو هو نفسه الدليل والشاهد والشهادة، وعلى قدر اجتهاد الساعي وقدراته. وكلما اقترب من عين المعرفة، اختفى الأين والكيف، واتّحد العارف بالمعروف، رمزيّا؛ فارتفع حجاب القول، وغدا الصمت أشدّ دلالة وأكثر إبلاغًا. وما النورُ الذي يضيءُ بعضَ الأمكنة، أو مُحيّا بعض المختارين، غير الترجمة المحسوسة (الهادفة أحياناً) لمقامَي المحبة والصدق. وعن ميخائيل نعيمه قوله: «الحياة مزيج من الصدق والكذب، أمّا السكوت فصدقٌ لا غشّ فيه».
وإذا انتقلنا إلى ثقافة مسلك التوحيد وأخلاقياته، فغيرُ خفيٍ المقام الرفيع الذي يوليه مسلكُ التوحيد لمقام الصدق، في مستوياته ومندرجاته كافة؛ فمثلُ الصدق من الدين، وفق مسلك التوحيد، كمثلِ الرأس من بقية الجسد.. وكذا تشديده على أن الصدق كمالُ التوحيد. وقد تجسّد التوحيد العرفاني هنا في مسلك أخلاقي، عملي صارم: الصدق في صلب الإيمان، لا مكان للكذب وأهله، ولا تبرير له في كل الأوقات والأحوال. وبسببٍ من التشدد هذا، أشار الرحّالة، والكتّاب، الأجانب والمحليون (الشدياق، اليازجي، مارون عبّود مثالاً)، إلى تجذّر فضيلة الصدق في سلوك الموحّدين، إذ جعلوا صدق اللسان فضيلة ترقى إلى مستوى الإيمان الديني. ومارون عبّود يقول: « إنّ ذلك متوقّع من رجال الدين، لكنّ الأمر عند الموحدين الدروز يتعدّى ذلك إلى عموم الجمهور» (مارون عبود، في مقدمته لكتاب أمين طليع «أصل الموحدين الدروز).
نقيضُ الصدق الكذب، بكل مندرجاته وألوانه. ولا تبرير للكذب، كما يُزعمُ أحياناً، إلا بما تدفعُ إليه أنانيّتنا، وغرائزنا، أي الجزء الحيواني فينا. وإذا كان الصدقُ هو صدقُ اللسان والسريرة والفعل ؛ فنقيضه الكذب وهو النفاق والتزوير والمخاتلة والرّياء والخداع. لكنّ مدلول ذلك أخطر شأوًا. فإذا كان الصدق هو تجلّي الإيمان عياناً، فالكذب هو الكفر، أي الشك، عياناً. وقبل أن يكون الكذب خداعاً للآخر، هو تجديفٌ على الحقيقة، بل محاولة مضحكة للتجديف على الحق المطلق أو الله تعالى، العارف العالم بما ظهر وما خفي، من أفعالنا ونوايانا «وكان الله بكل شيء محيطا» (سورة النساء، 4: 126)
هوذا حال مقام الصدق، المفضي إلى التّصديق؛ الأظهرُ لحقيقتنا كأفراد، والأظهرُ لحقيقة إيماننا، والأقربُ تعبيرًا عمّا فينا من خير بالمعنى الأشمل؛ أي الالتزام بالحق والحقيقة؛ والنأي كليًّا عن الشرّ، بما هو جهل بالفضائل، وشكٌ بحقيقة النظام الكوني، والبشري، المؤسس على مركزية فكرة الله الخالق لكل شيء، العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، عن عدل لا عن ظلم؛ كمالُ الصفات، بل كمالُ الكمالات: ما نعرفُ منها، وهو القليل، وما نسعى إلى المزيد من معرفته والاستضاءة بنوره.
اختصارًا، الصدق يكون على أنحاء ثلاثة: صدقٌ مع الناس، صدقٌ مع الذات، وصدقٌ مع الله تعالى، وهو معنى التصديق.
وما من نحوٍ يُغني عن نحوٍ آخر، أو يقوم مقام نحوٍ آخر. بل الصحيح أن كل صدقٍ (إذا صحّ) إنّما هونَحوٌ يقود إلى النحو الثاني فالثالث. فإذا صحّ الصدقُ مع الذات، صحّ بسهولة الصدق مع الناس؛ وليكتمل ويتوّج بالصدق مع الله. وفي السويّة نفسها، إذا صحّ الصدقُ مع الناس، غدا سهلاً الصدقُ مع الذات، واكتمل بالصدق مع الله. وإذا صحّ أعظمها، الصدق مع الله، بات الصدق مع الذات والصدق مع الناس من باب تحصيل الحاصل، ولا يحتاج إلى جهد كبير.
الأنحاء الثلاثة من الصدق نحوٌ واحد في الحقيقة: فإذا صدق المرء في واحد منها، صدق تلقائياً في النّحوَين الباقيين.
أخيراً، الصدق مطلوب ليس فقط حين يلائمنا؛ وإنما في كل الأوقات.
يبقى أن أفضل تعيين لمقام الصدق (وأهله)، ومن وجهة مسلكية أخلاقية عملية، القول: «الإيمان هو أن تؤثر الصدق حين يضرّك على الكذب حين ينفعك»
هكذا يكتمل، إلى حد ما، التعريف بالرّكن الثاني في ثقافة التوحيد، مقامُ «الصدق»، (دون الدخول في المعاني القصوى لمفهوم الصدق) وهي خارج حدود هذه الفقرة.