من ذاكرة الجبل
درس مـن فدعــــــــــــة صعــــــــــــب
إلــــــى نسيــــــب بــــــك الأطــــــرش
ونجيب بك طراد استردّ دينه ذهباً
كان نسيب بك الأطرش شيخ بلدة صلخد قبل مئة عام ونيّف، من كبار زعماء الجبل وقادة الرّأي فيه، وكان من كبار الملّاكين في تلك المنطقة، وله أراض تتوزع في أكثر من قرية حول صلخد ومنها قرية شنّيرة. وأورد محمود خليل صعب، الأستاذ في الجامعة الأميركية هذه القصة التي جرت لابن عمٍّ له في جبل حوران في كتابه “قصص ومشاهد من جبل لبنان”، وقد أكّدها أحفاد نسيب بك المقيمون على تركة جدّهم في مدينة صلخد، ومؤدّاها أنّه في العام 1909 ذهب نسيب بك لزيارة قرية شنّيرة القريبة من صلخد ونزل ضيفاً مُكَرّماً على وكيله أبي ظاهر يوسف السّعدي، وتماشّياً مع عادات القوم دعا أبو ظاهر رجال شنّيرة للعشاء في مضافته على شرف نسيب بك، وبعد العشاء جلس النّاس للسّهر والسّمر، وكان بين الحضور فدعة (اسم علم مذكّر ذو دلالة على القوّة. على صيغة المؤنّث: كعنترة) بن عبدالله أحمد صعب من الشّويفات، فخصّه نسيب بك بالحديث وأخذ يسأله أسئلة محدّدة عن لبنان ورجال لبنان وكان فدعة على بيّنة من ذلك كلّه، وتشعّب البحث من السياسة إلى التّاريخ إلى المواسم، ثم الأدب الشعبي فدهش نسيب بك من سعة اطّلاع فدعة، وفهمه وطلاقة لسانه وسرعة خاطره. ولمّا انصرف النّاس آخر السّهرة أبدى نسيب بك لمضيفه أبي ظاهر يوسف إعجابه الشّديد بالضّيف الشويفاتيّ الشوفانيّ، وقال له: “إنْ كان هذا الرّجل يحتاج إلى أيّ دعم سياسيّ أو مادّي فأنا مستعدٌّ لمعونته”، فقال له أبو ظاهر” إنّه قريبنا وصهرنا، ولا يحتاج إلى شيء ممّا تفضلت به فهو تاجر، وعنده مخزن كبير هنا في شنّيرة، فانتفض نسيب بك وضرب كفّه الأيمن على كفّه الأيسر وقال لأبي ظاهر “ ماذا تقول يا أبا ظاهر؟ هذا الرّجل تاجر! يا للخسارة”.


كانت تلك نظرة الناس وخصوصاً زعماء العشائر إلى التّجارة والتّجار، وكذلك لأصحاب المهن والحرف، فقد رُوِيَ أنّه كان للأمير مصطفى أرسلان وكيل تجاريّ في دمشق، وهو من أصحاب الثّراء ويملك داراً فخمة فيها، لكنّ الأمير مصطفى لم يكن ينزل في ضيافته عندما يزور دمشق، بل ينزل عند بعض أبناء العائلات الوجيهة و”السّياسيّة”، ولو كان المنزل خشناً؛ ترفُّعاً عن مساواة التّاجر الذي كانوا يسمّونه “البيّاع!” بوجهاء القوم.
بعد مغادرة نسيب بك الأطرش شنّيرة حكى أبو ظاهر لأبي معروف فدعة ما كان من نسيب بك، فنظم فدعة قصيدة زجليّة من نحو ثلاثمائة بيت ضمّنها الكثير من الحِكَم وآداب الحياة والتّشديد على الأخلاق مهما كان ومهما تنوّع العمل، وأرسلها إلى نسيب بك الأطرش. وهنا يبدو أنّ نسيب بك المعروف بحصافته وكياسته تنبّه إلى غلطه بحق الرّجل فحاول استرضاءه، ودعاه إلى زيارته في صلخد، لكنّ فدعة لم يرضَ ولم يقبل الدّعوة.
كان فدعة من أزاهر الرّجال في بني صعب، فقد اجتمعت فيه الفطنة والأناقة والفصاحة، فهو مثل أبيه من الطّبقة الأولى بين شعراء الزجّل، وقد تحلّى بتلك الثّقافة الشّفويّة العفويّة التي تميّز بها “ أهل الذكاء”، ( وهذا هو التعبير الذي كان يطلق على جماعة الشعراء العاميين)، ولقد شدّته مهنة التجارة إلى جبل حوران، إذ قَدِمَ إليه بادئ الأمر مع قريبه علي محمود صعب، لكنّ عليّاً لم يلبث أن ترك العمل في الجبل، وبقي المخزن لفدعة وحده، لكنّ فدعة نفسه عاد إلى السّكن في الشويفات، غير إنّه أبقى على تجارته بالوكالة في شنّيرة، وكان يسافر إليها كلّما اقتضى العمل ذلك.
وحدث مرّة وهو في الشويفات العام (1915) أن أعدّت زوجته رأس خروف لغداء العائلة، وبعد تناول الطّعام رفعت الزّوجة الصّحون ورمت فضلات الأكل والعظام على الطّريق ودخلت إلى المطبخ، فيما كان فدعة يجلس قرب النافذة مسترخياً بعد الغداء، بينما انصرف ابنه الطفل مازن إلى اللّعب في الغرفة، ولاحت من مازن إلتفاتة نحو والده فرآه يتطلّع نحو الطّريق وهو يبكي، ركض إلى قُرْبه يستطلع السّبب فشاهد عدداً من الأطفال وقد تحلّقوا حيث رمت أمّه العظام وهم ينهشون ما بقي عليها من اللّحم.


كانت مجاعة الحرب العالمية الأولى قد اشتدّت وانتشرت، وفي مثل لمح البصر قرّر فدعة أمراً. نادى زوجته وقال لها “اجمعي أغراض البيت، فنحن مسافرون غداً إلى حوران”. وقبل أن تسأله زوجته عن سبب هذا القرار المفاجئ أخذها بيدها نحو النّافذة وأراها المنظر المُحزِن وقال لها “ما من أحد يدري ما سيكون مصير النّاس وأموالنا في جبل الدّروز، فماذا يحدث لنا إذا انقطعت المواصلات بيننا وبين الجبل؟” وبدأ الاستعداد للرّحيل.
ولبس فدعة ثياب السفر، وذهب من فوره إلى حيّ العمروسيّة لزيارة نجيب بك طراد، وكان هذا الرّجل من وجوه الشويفات المشرقة، وعلى صداقة حميمة به. أخبره فدعة بعزمه على السّفر إلى جبل حوران، وطلب منه أن يقرضه مائة ليرة ذهبيّة ليستعين بها على تجديد وتنشيط تجارته في الجبل، فأعطاه نجيب بك ما طلب ورفض أخذ أيّ مستند بالقيمة.
في الجبل، عاش فدعة مع عائلته في بحبوحة لكنّه لم يتمكّن من جمع المال اللّازم لتسديد دينه إلى نجيب بك طراد إلاّ سنة 1919، فجاء إلى الشويفات وذهب تَوّاً إلى منزل نجيب بك. وبعد تبادل السّلام والأشواق أخرج فدعة صرّة دراهم من جيبه، وعدّ منها مائة ليرة ذهبيّة وناولها إلى نجيب بك.
فقال له نجيب بك: “يظهر أنّك لم تعرف أنّه صدر قانون يسمح بتسديد الديون المعقودة في أيّام الحرب على أساس ليرة لبنانيّة عن كلّ ليرة ذهبيّة؟ وقد أفاد من هذا القانون حتّى الكبراء والأغنياء”، فانتفض فدعة وضرب طربوشه بيده وقال: “نعمْ، لقد عرفت بهذا القانون، ولكن أنا لا أقبل أن أستغلّ القانون لأردّ إليك مالك ناقصاً، فأنا لا أتقيّد إلاّ بقانون الشّرف”.
وكان نجيب بك طراد يستطيب أن يروي ما قاله وفعله فدعة صعب كلمّا ذكرت مكارم الأخلاق.