ذهب العديد من الباحثين في الفكر السياسي والاجتماعي حول نمط الاجتماع في لبنان بعيداً في تقدير أهمية وخطورة تعدد فئات المجتمع اللبناني وانتماءاتها وولاءاتها، ومن دون أن يبذلوا بعض العناء للتدقيق في مدى صحة المعايير المستخدمة لتحديد «الطوائف الدينية» ومدى تناقض الفئات المكوّنة لهذا المجتمع بعضها مع بعض، فوقَعوا في شرك فهم الماضي على مقاييس الحاضر ومعطياته، آخذين مجرد الصراعات الدموية التي كانت تظهر إلى سطح العلاقات لتبرير أقوالهم وكمؤشر وحيد لدراساتهم من دون التدقيق أحيانا فيما إذا كانت هذه الصراعات تتخطى هذا السطح إلى الجوهر أم أنها كانت تمكث فيه. فلذلك تتكرر في العديد من الأبحاث مفاهيم تصف المجتمع اللبناني بأنه «مجتمع الفسيفساء» و«الفسيفساء الطائفية» و «وعاء الأقليات الدينية والقومية» والكلام عن «المشاريع والآمال المتناقضة للطوائف والمذاهب المختلفة» وصولاً إلى ما بات يشاع حول «التعددية الحضارية» و«الأصول الحضارية المتعددة» و«الخصوصيات المذهبية» وغيرها من المفاهيم التي لنا أن نشك في أسباب رواجها وفي غايات مروّجيها.
فما من «طائفة» أو «مذهب» نزعت جماعته، وتحديداً بعد اتفاق الطائف، باتجاه الانفصال عن المجتمع كليّة، وعملت على بلورة مشروعها الانفصالي بالانعزال والتقوقع، وحدّدت لنفسها المجال الجغرافي الخاص الذي يصبح الدفاع عنه وحمايته دفاعاً عن قيمها ومبادئها وخصوصياتها. أي أنّ ما من فئة تخطّت التمايز «الإيديولوجي» عن باقي الفئات باتجاه التحوّل إلى «أمّة» أو «وطن». فقد كانت كل العناوين التي تحملها الطوائف اللبنانية منتشرة في كل المناطق، وشبكة الولاءات والانتماءات قابلة للتبدل بشكل دائم وأحياناً على نطاق واسع. مما جعل كل فئة من فئات المجتمع اللبناني تلتقي مع الفئات الأخرى في قواسم مشتركة، بالقدر ذاته الذي تختلف جماعات كل فئة بداخلها. وبذلك تصبح الطوائف الدينية برمّتها مجموعة من الوحدات المتداخلة التي يصعب فصم عراها على أي أساس من أسس التمايز، تتفاعل فيما بينها، مع الاعتراف لكل منها بخصوصية معينة والتي تميّزها عن غيرها، دون أن تؤهلها بالطبع لممارسة الانغلاق على نفسها أو حتى الانعزال عن بقية الطوائف.
وبناء على ذلك، يمكن القول بأنّ المسألة الطائفية في لبنان ليست مشكلة أديان ومذاهب إذ لا يضر لبنان شيء إن كثر عدد طوائفه ومذاهبه أو قلّ. ذلك أن الديانتين المسيحية والإسلامية تقومان على الخير والمحبة والأخوّة والتسامح بين البشر، فهما بهذه القيم السامية إغناء للمجتمع، مهما تعددت طوائفهما ومذاهبهما. لكن الخطر في الأمر انخراط أربابهما في العمل السياسي وإعطاء الطائفية، عبر الدساتير والقوانين المتلاحقة، شخصية معنوية تُعنى بالشأن العام، باسم الدين الذي انبثقت أصلاً منه، في أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وهذا ما أدى إلى ضياعها بين دورها الروحي الإنساني السامي والممارسات الزمنية التي تقوم بها في شتى المجالات وعلى مختلف المستويات. فضلاً عن استغلال المشاركة الطوائفية في السلطة لتقوية مواقع النفوذ وتحقيق المكاسب على حساب الصالح العام من خلال استنفار العصبيات الطائفية، وتحويل الطائفة إلى جماعة تقيم حواجز نفسية واجتماعية بينها وبين الطوائف الأُخرى المتحصنة أيضا بخصوصياتها وذلك بهدف تجذير الانقسامات الطائفية وتعزيز الزبائنية السياسية التي هي تبعية تتميز عن الطائفية وإن كانت تتلبّس بها كتمويه (1)، من خلال أسياد وزبائن وشبكة الأسياد والزبائن المتداخلة من كل الطوائف والمذاهب، متحالفين ومتنافسين في آن معاً على المنافع وحماية المستفيدين من المنافع والهدر(2).
فدستور الطائف 1990 وإن كان قد كرّس الاعتراف بالطوائف الدينية كركيزة أساسية للمنتظم السياسي اللبناني، فالعرف القاضي بتوزيع الرئاسات الثلاث أبقى عليه، كما أن المواد 9 و10 من الدستور المتعلقة بالطوائف وحقوقها لم يطرا أي تعديل عليها. إضافة إلى ذلك منح التعديل الدستوري في المادة 19 رؤساء الطوائف المعترف بها قانونا حق مراجعة المجلس الدستوري فيما يختص بدستورية القوانين في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، إلاّ أنه وعد بالمقابل بإقامة نظام المجلسين وتخطي الطائفية السياسية، وبالتالي إلغاء الفيتويات الفئوية المعطّلة، والزبائنية السياسية، والمحاصصة الطائفية، والاستئثار المذهبي، فيكون مجلس الشيوخ الهيئة التي تؤمن الضمانات الأساسية للطوائف وإطار مشاركتها في الدولة كمجموعات طائفية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.
وإذا كان بالإمكان القول أن مجالس الشيوخ قد حلّت بعض القضايا الحساسة في بعض الأنظمة البرلمانية التعددية حيث تلعب هذه المجالس دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على وحدة تلك البلدان، وتأمين استقرار النظام، والاستمرارية في الحكم، وبناء الديموقراطية، وعصرنة النظام السياسي، واستيعاب التبدلات التي تحصل على مستوى الجماعات والولايات، وتأمين حضورها السياسي، وبوصفها كابحة لطغيان الأغلبية العددية، فربما ينطبق الأمر نفسه في لبنان، إلا أن ذلك يستلزم بعض الشروط لما يتمتع به لبنان من وضع خاص لجهة التركيبة الاجتماعية – السياسية وحتى تداخل أزمات أزماته الداخلية مع بعض الأزمات الخارجية.
ولكن بصرف النظر عمّا يمكن أن يحققه نظام المجلسين في بلد كلبنان الذي يساوي نظامه السياسي بين الطوائف الدينية وبين المواطنين الأفراد في آن معاً، فضلاً عن محاكاته للطبيعة الثنائية عند المواطن الذي ولّد عنده شخصية مزدوجة، بين إنسان يعيش مواطنة في التشريع لممارسة الحياة بأشكالها المختلفة من جهة، وبين إنسان طائفي ينتمي إلى جماعة لها خاصيتها والتي تختلف بالضرورة عن خاصيات المواطنة من جهة أخرى. فإن نجاحه مرتبط بقدرته على التوفيق بين مشكلتين: مشكلة التمثيل النيابي الشعبي من جهة، ومن جهة أخرى مشكلة المشاركة الطائفية في القضايا المصيرية من جهة أخرى، الأمر الذي تؤكد عليه المادة 22 من الدستور من خلال إطلاقها مشروع تخطي الطائفية السياسية مقابل تثبيت المحاصصة الطائفية في مجلس الشيوخ وليس إلغاءها.
إن الجدل القائم بشأن مجلس الشيوخ، أو بعبارة أخرى حول الجدوى من وجود غرفة ثانية في البرلمان اللبناني ليس جديداً، ولا خاصاً فقط بلبنان، بل يندرج ضمن فلسفة وتاريخ الحركة البرلمانية، التي انقسمت بين مؤيّد لنظام الغرفتين من جهة، وبين متمسك بنظام الغرفة الواحدة، غير أن المطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ في لبنان لم تشهد عبر التاريخ ضوابط معينة تجعله مطلباً ملحاً وثابتاً في برامج الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.
وبينما يرى البعض، أن مجلس الشيوخ يمكن أن يشكل المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة المذهبية التي تقيده وتدفع الناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لاطائفية عند صندوق الاقتراع. وهذا من شأنه أن يحقق المساواة الكاملة بين اللبنانيين من خلال القضاء على المحاصصة السياسية، وتالياً الدفع في اتجاه دولة المواطنة. أمّا المكان الصحيح للطائفية السياسية، فهو مجلس الشيوخ حيث تنتخب الطوائف والمذاهب ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده ويتولون النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديته، الأمر الذي يتيح لها القدرة على تثبيت الضمانات والاطمئنان إلى أن وجه لبنان لن يتغير، من خلال إعطاء هذا المجلس صلاحية المناقشة والبت في الأمور والقضايا المصيرية المطروحة على مستوى الوطن.
بالمقابل، يخشى البعض الآخر، أن يتم تنظيم مجلس الشيوخ مع ضرب روحية الميثاق اللبناني، إذ ينتخب المقترعون من الطوائف المتعددة ممثلين لهم من أبناء طائفتهم ومذاهبهم مما سيؤدي إلى فرز اللبنانيين، وهذا يُعَدّ مخالفاً تماماً لمبدأ الهيئة الانتخابية الموحدة، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال الاندماج في العلاقات اليومية والتواصلية.
ولكن، كيف يمكن لوثيقة الطائف استحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني في ظل وجود شرطين أساسين يرتبطان بإنشاء مجلس الشيوخ: الأول يتعلق بآلية انتخاب الأعضاء وعددهم، والتحديد الدقيق لمفهوم «القضايا المصيرية» الذي لايزال يكتنفه غموض كبير. أما الشرط الثاني فهو مرتبط بضرورة التثبيت النهائي لطائفة رئيس مجلس الشيوخ، حيث أنّ هذه النقطة ما تزال مادة خلافية بين فريق يرى أنّها يجب أن تُعطى للمسيحيين وتحديداً للروم الأرثوذكس حفاظاً على المناصفة والعدالة في التمثيل الحقيقي لكل الطوائف، إذ لا يجوز وجود ثلاث رئاسات إسلامية مقابل واحدة مسيحية فيما يصر فريق آخر على «درزية» هذا الرئيس بالاستناد إلى المداولات في اجتماعات الطائف وما بعدها، وعلى اعتبار أن الطائفة الدرزية لا تشغل منصباً سياسياً رسمياً كبيراً على غرار الطوائف المسيحية والإسلامية الأخرى.
وفي حين أن الرئاسات ثلاث في لبنان، واحدة للموارنة واثنتان للمسلمين، لكن المؤسسات الدستورية تشمل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي الاجتماعي اللذين تعود رئاستهما للمسيحيين، وهذا يعني أن من بين 5 رئاسات هناك ثلاث للمسيحيين واثنتان للمسلمين، هذا إذا استثنينا حاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى وقيادة الجيش.
لكن في مطلق الأحوال فإن هذه المطالب الفئوية تتنافى وحقيقة مجلس الشيوخ المقترح الذي لا ينشأ حسب وثيقة الطائف قبل انتخاب مجلس نواب «على أساس وطني غير طائفي»، وهذا يعني بأن رئاسة مجلس الشيوخ لن تكون محفوظة لأيّة طائفة معينة من الطوائف اللبنانية، إلّا في حال تحويل الرئاسات الثلاث وبنص دستوري غير موجود، إلى تحديد طائفي، بدلاً من الحالة العرفية القائمة، وهذا لا يستقيم بالطبع مع مشروع تخطي الطائفية السياسية.
إنّ هذين الشرطين لا يمكن العثور عليهما في النص وهما أساسيان لوجود هذا المجلس. ولكن من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن نسخة 1926 من الدستور قد فصلت هذه الشروط من خلال النص الموجود (نصف أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية)، وهذا يدل على غياب صارخ للدقة والوضوح في نص المادة 22 الجديدة من الدستور التي لا تقدّم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، دون التطرق لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد القضايا التي تنطبق عليها صفة «المصيرية» وقضايا أخرى، الأمر الذي يدفع برأي البعض – وفي حال أردنا تفعيل هذا المجلس – إلى طرح تعديل للدستور، خاصة وأن المادة 22 التي تقول بإنشاء مجلس الشيوخ هي من باب النص الانشائي وليست نصّاً ناظماً، أي إنها أنشأت مجلس الشيوخ كفكرة أو أسست لإنشائه لكنها لم تضع التفاصيل وتأثيراته على مجلس النواب، وبالتالي يجب إعادة النظر في كل ذلك ما يقتضي إجراء تعديل دستوري لتفعيل مجلس الشيوخ.
يضاف إلى ذلك، أنّ وثيقة الطائف لم تحدد مهلة زمنية لكيفية العبور من المجتمع الطوائفي إلى المجتمع الوطني من خلال تخطي الطائفية في تركيبة مجلس النواب، وإنما اكتفت بتحديد آلية غير مرتبطة بأجل معيّن حيث نصت الفقرة (ز) من بند الإصلاحات السياسية على تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية لاقتراح الطرق الكفيلة بتخطي الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية مما جعل هذا المجلس لا يبصر النور حتى يومنا هذا.
وإذا كان هناك من يعتقد أن مفهوم الطائفية السياسية المطلوب معالجته منفصل عن الحق الذي تعطيه المادة 19 من الدستور لرؤساء الطوائف بمراجعة المجلس الدستوري، إلاّ أنّ أي مراقب محايد لوثيقة الطائف لا يمكنه إلاّ أن يتساءل عن مدى الانسجام بين النصّين: من جهة هنالك مادة تثّبت حق رؤساء الطوائف، ومن جهة ثانية مادة أخرى تنص عل مبدأ تخطي الطائفية السياسية. لذلك فإن أي اقتراح يؤدي إلى تخطي الطائفية السياسية كما جاء في المادة 95 من الدستور، قد يعترض طريقه رؤساء الطوائف أمام المجلس الدستوري، مشكلين معاً حاجزاً منيعاً للتقدم والتغيير وصولاً إلى مبدأ المواطنة والمساواة، بدلاً من الحالة المذهبية والطائفية.
بالطبع إنّ مثل هذه المسائل تحتاج الدخول في تفاصيلها لكي نعرف ما إذا كانت طبيعة تكوين الاجتماع اللبناني الذي يتألف من مجموعات من الطوائف والمذاهب الدينيّة، لا يستقيم نظامه السياسي إلّا بوجود نوعين من المؤسسات التمثيلية، يعبّر الأول منها عن وحدة أبنائه في مجلس وطني، والثاني عن تنوعهم في مجلس توافقي متوازن، فضلاً عن الانقسام الحاصل بين اللبنانيين حول مسألة تخطّي الطائفية السياسية والتي ارتبط إنشاء مجلس الشيوخ بتخطيها.
وفي حين يمثل مطلب تخطي الطائفية السياسية في مقدمة الدستور بوصفه هدفاً وطنياً أساسيّاً يقتضي العمل على تحقيقه، إلاّ أن مسألة الطائفية السياسية نراها تراوح بين مُؤيِّد مطالب بالإسراع في تخطيها، ومُستنكر مُذكّر، أو بالأحرى ملوّح، بالخطر المتربص بلبنان في حال الإبقاء عليها من جهة، ومن جهة أخرى بين من يعتبر أنه وفي ظل المجتمع اللبناني التعددي يصعب تخطي الطائفية السياسية نظراً لعدم وجود تمثيل سياسي على أساس وطني غير طائفي.
انطلاقاً من ذلك، كيف لنا أن نستولد من هذه المسائل الشاقة سياقًا لتخطي الطائفية السياسية عملياً؟
مرّة أخرى نعود إلى صيغة نظام المجلسين المقترحة في وثيقة الطائف بغية استيلاد مواطنية تزاوج بين ولاءين متناقضين مثلما تنأى عن مواطنة تمضي إلى الذوبان الكامل في بحور طوائفها ومذاهبها.
إنّ من صفات صيغة نظام المجلسين في لبنان، أنها تأخذ بسبيل الوصول إلى المواطنية الفاعلة، أي التي تدفع بالمواطنة إلى واقع ممكن التحقيق. إذ بينما تعترف هذه الصيغة بالمواطنة المركّبة كحالة موضوعية للبنان ترسخّت على امتداد زمن طويل من الحروب والتسويات والعقود السياسية، تروح تحفر مجراها المغاير للمألوف الطائفي، فإذا كانت القوانين والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام الطائفي، فإنّ تبديلها بقوانين وأعراف مدنية لاطائفية سيولِّد سيرورة جديدة من الآمال بوطن موحّد ومواطنية جامعة.
إن مستهل الطريق إلى مواطنية بهذا التوصيف تستلزم تثمير التسويات التي عادة ما تعقب النزاعات والحروب الأهلية. كأن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانين والمواثيق الجديدة، تطلق سيرورة من الخطوط والعمليات السلمية على قاعدة فك الاشتباك المزمن بين الطائفي والوطني، كعاملين منتجين لازدواجية الانتماء والولاء في البيئة التاريخية اللبنانية.
وإذا كانت المطالبة بإجراءات إصلاحية في قانون الانتخاب، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس وطني لا طائفي تدخل في هذا السياق، فإن تربية المواطن على حضوره كفاعل في فضاء الوطن هي أساس العملية التغييرية المنشودة.
ذلك أنّ المواطنية الفاعلة هي التي تنتج المواطن المتواصل مع نظيره في الوطن، لا على أساس التقابل الطائفي، وإنّما على أرض الولاء لعقيدة أساسها المصلحة الوطنية العليا.
هذا ما أضاء عليه كثيرون من المفكرين، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين اللبنانيين، حين وجدوا أنّ العنف الأهلي مصدره الاستبداد بالرأي، وأنّ من استبد برأيه كان مآله الهلاك، وأن الطغيان يبتدئ – حسب جون لوك – حيث تنتهي سلطة القانون، وتُنتهَكُ حُرمة الآخرين.
مستهل الرحلة باتجاه مواطنية الولاء، هو تظهير مكامن الفطرة الخيّرة في نفوس اللبنانيين، وترجيح العام الوطني على الخاص الطائفي، وكل ذلك بعقلانية مسدّدة بالأخلاق حتى يرجع اللبنانيون إلى بيت الحكمة. ولبيت الحكمة منازل كثيرة كما في مأثور القديس يوحنا في إنجيله. فإذا ما تم تنظيف السقوف اللبنانية بالمعاسف إذ يجب أن يتم تنظيفها مما عُلّق فيها على مرّ الزمان من نسيج العنكبوت فستكون هنالك طرق لا متناهية يمكن من خلالها إعادة النظر في تاريخ لبنان، وصياغته على نشأة الإدراك لحقيقة الوطن والمواطنة.
ونحن وإن كنا لا ننكر ما لصيغة المجلسين من حسنات وفضائل، فإننا نعترف أنها كغيرها من الصيغ الأخرى تبقى بالنسبة إلى نجاحها أو فشلها، رهن الظروف الموضوعية والأساليب التطبيقية، فقيمة أي صيغة لا تكمن في المواد الدستورية التي تتكون منها، وإنما في الإرادة المصممة على تطبيقها والرغبة الصادقة في رعايتها واحترامها والتوافق الشامل على وجوب إقرارها ووضعها موضع التنفيذ.
وعليه، يُطرح السؤال: هل يمكن إنشاء مجلس شيوخ وفق ما هو مطروح في صيغة الطائف؟ أم أن الطائفية هي قدَر اللبنانيين، وأن مسألة التصدي لها لا تزال تحتاج إلى القول الشجاع والموقف الحاسم؟
لقد دلّت التجارب العالمية على أن نظام المجلسين يشكل في بلد متعدد الطوائف كلبنان توفيقاً بين مسألة التمثيل النيابي الشعبي ومسألة مشاركة الطوائف في القضايا المصيرية، مع ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية كما هو الحال في التجربة الفرنسية، خاصة وأن اللامركزية الإدارية واللامركزية الإنمائية تشكلان في الدولة الحديثة قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية والمشاركة الشعبية في تسيير الأمور الحياتية وتسهيلها. كما أن الإنماء المتوازن يعتبر أحد أوجه العدالة الاجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الطبقية داخل المجتمع.
ولكن أي بحث حول إلغاء « الطائفية « أو تخطيها أو معالجتها أو في قاعدة الكوتا، تطبيقاً أو تغييراً أو تعديلاً، لا فاعلية علمية له قبل البت بموضوع الهيئة الوطنية المنوي إنشاؤها بموجب المادة 95 الجديدة من الدستور التي توكِل إلى هيئة وطنية عليا وضع خطة لتخطي الممارسات الطائفية تجنُّباً لطرح هذا الموضوع في السوق السياسية للتحريض والتفجير وتغذية النزاعات (3).
وبالتالي فإن قضية مجلس الشيوخ مرتبطة إلى حد كبير بالهيئة الوطنية التي تتمتع بدور هام في مقاربة مسألة تخطي الطائفية من ناحية تحديد العلاقة بين الدولة والطوائف (4)، وضرورة تحديد مهل لهذا الموضوع تترافق مع لحظ ديناميكية اجتماعية وسياسية في التغيير، إذ إنّ قضايا التغيير السياسي في لبنان لا تُطرح في أجواء تحريضية وبهدف الفتنة السياسية (5). كما أن المهل القانونية المحض هي بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء(6).
من هنا تبدو أهمية قانون الانتخابات على أساس النسبية والذي يشكل نقلة إصلاحية نوعية قادرة على تحسين التمثيل السياسي، وعلى استيعاب جانب من تعقيدات الواقع الطائفي، وتوسيع خيارات الناخبين، والتخفيف من هيمنة الطوائف على مجرى العملية الانتخابية، مما يقرّبنا بالتالي من تطبيق اتفاق الطائف الذي يتحدث عن تخطي الطائفية السياسية كهدف وطني، وأنْ «لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك»، وأن الانصهار الوطني يتحقق في سياق إعادة النظر بالدوائر الانتخابية.
إنَّ اللبنانيين على مر العهود، ولاسيما في مراحل عهد الاستقلال لم يعتمدوا الوسائل الكفيلة بمعالجة مسألة الطائفية ومن خلال رؤية واضحة وتحليل علمي دقيق، وخلق وعي عام ثقافي وفكري وسياسي وخلق إرادة حقيقية في التغيير. فكل التسويات التي تحققت بعد الحروب التي اندلعت في البلد خلال عمره القصير، إنما حصلت على أسس طائفية، ولم يكن ممكنا أن تكون غير ذلك، طالما أن الحروب ذاتها تم خوضها تحت شعارات وبأزياء طائفية أدت إلى ترسيخ الكيان الطائفي والمفهوم الطائفي في النظام اللبناني، على كافة الصعد السياسية والإدارية والانتخابية، ما يجعل مطلب تخطي الطائفية السياسية أمراً متعذّراً في المدى القريب، خاصة وأن لهذه الطائفية جذوراً عميقة، تعود في بنيتها الفكرية والاجتماعية إلى عصور مديدة في الزمن. فبعد أن كانت سداسية الرؤوس في نظامي القائمقاميتين والمتصرفية (ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، درزي)، أينعت في عهد الانتداب الفرنسي فبلغت سبع عشرة طائفة معترفاً بها رسمياً في قرار المفوض السامي رقم 60 تاريخ 13 آذار/ مارس 1936، ليرتفع هذا العدد إلى ثماني عشرة طائفة بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وقد أصبحت جزءاً من الممارسة اليومية في لبنان.
بناء على ذلك، يمكن القول إنّ الممارسة الطائفية منذ تطبيق اتفاق الطائف زادت حدّة واتسع نطاقها، وقد ساعدت على ذلك المتغيرات الديمغرافية، وتأثيرها على القيم العامة الثقافية والسياسية، وانعكاسها على القوى الموجودة في مواقع القرار، مثل المجلس النيابي والحكومة والإدارات العامة. كما أنه لا يمكن أن ننكر أن التنافس والصراع على السلطة بين الطوائف هو جزء لا يتجزّأ من التاريخ السياسي للبنان منذ زمن بعيد. وإذا كنا نشهد ما نشهده من صراع طائفي ومذهبي حول التعيينات الإدارية والوظائف العامة وتحديداً تلك التي نصّ اتفاق الطائف صراحة على إلغاء ارتباطها بالتمثيل الطائفي، فكيف سيكون الحال عندما يصل المعنيون إلى إلغاء الطائفية كليّاً من التمثيل النيابي؟
ومادام هناك من لا يرضى بمعالجة مسألة الطائفية أو حتى بمجرد طرحها في الوقت الحاضر، فهذا يعني أن موضوع مجلس الشيوخ حسب صيغة اتفاق الطائف أمر مؤجّل، إلاّ في حالة واحدة وهي تعديل الدستور والنص على إنشاء مجلس شيوخ مع الإبقاء على مجلس نواب طائفي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وعندها يُطرح السؤال عن مبرر إنشاء مجلسين طائفيين في البرلمان اللبناني؟
ولئن يكن قيام مجلس الشيوخ وارتباطه بتخطي الطائفية السياسية عملية بالغة التعقيد، كمن يقول بأن الثلج لا يصلح وقوداً للنار ولا النار وعاء للثلج، إلّا أن ذلك لا يعفينا من الالتزام بنظام المجلسين. فالمطلوب هو إصلاح نظام المجلسين، وليس إلغاء نظام المجلسين. وبالتالي يجب البحث منذ الآن عن مقاربة استثنائية وقراءة واقعية لطبيعة ما نرمي إليه، حيث إنّ مسألة استحداث مجلس للشيوخ، على مركزيتها وأهميتها، يجب أن تكون مقاربتها مبنية على قاعدة وطنية تؤمّن تمثيل اللبنانيين على مستوى الأفراد والجماعات، وفي إطار المجتمع اللبناني الضامن للوحدة والتعددية. وذلك بهدف تحرير مجلس النواب في وقت لاحق من القيود الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيدا عن الحساسيات الضّيقة والمناكفات الفئوية. حيث يمكن للبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتورات) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، بشكل يؤمن حماية حقوق المواطن والطوائف والمذهب في آن معا.
وإذا كان التمثيل المتساوي لجميع الطوائف حلّاً مرضياً للطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة، الشيعة، السُنّة)، إلّا أن تمثيلاً لكل طائفة ومذهب يبقى أمراً أساسياً لتمكين مجلس الشيوخ من القيام بدوره كضامن لتمثيل الطوائف والمذاهب، ويمكن في هذا المضمار العودة إلى الحل العادل الذي اعتمده «الاتفاق الثلاثي» الآنف الذكر، للطوائف في المرحلة الانتقالية، أي المُثالثة ضمن المناصفة (أي التمثيل المتساوي للطوائف الرئيسية الثلاث مع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين). أما فيما يختصّ بأصول انتخاب هذا المجلس فتبدو الضمانة الطائفية أكثر إلحاحاً، ولئن تكن الهيئة الانتخابية المختلطة طائفياً، كما يلاحظ «بيار روندو» بحق، تدفع نحو الاعتدال الطائفي في ظل المجلس الواحد، فهي أسهمت في إضعاف فعالية هذا المجلس ولا سيما في الفترات العصيبة وحملت الطوائف على البحث عن وسائل ومؤسسات أخرى للتعبير عن حقيقة آرائها ومصالحها، كان أهمها المؤسسات الدينية.
وعلى أيّة حال ليس هناك من ضابط للشهوات الفالتة إلّا التمثيل الصحيح والأمين «للعائلات الروحية» في مجلس الشيوخ، باعتباره المانع الأساسي، في الظروف الراهنة، لتحوّل السباق بين الطوائف والمذاهب إلى اقتتال. وليس عيباً، برأينا، إذا كان لبنان كما وصفه سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر بلد التعايش الإسلامي المسيحي وهو ما يجعله ثروة يجب التمسك بها أو كما نظر إليه الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وأوصى بالحفاظ عليه تجربة حضارية وإنسانية لا مثيل لها في هذا الشرق، بل العيب أن نظلّ نكذب على أنفسنا وعلى اللبنانيين جميعا بأنّ كل الحق على ممارسة الحكم بالتراضي، أو كما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية» التي قليلا ما تشبه، التجارب التوافقية التي اعتمدتها بلدان أخرى أو أن نضع كلّ اللوم على الطائفية السياسية مما يستدعي إلغاءها، كما لو أن بهذا الإلغاء تزول المخاوف والشهوات وتستوي موازين العدالة والمساواة، ويزول بزوالها التعايش الهشّ بين اللبنانيين والمشوب بالشك والحذر. إنّه كلام يقال منذ فترة الاستقلال، بل منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير عام 1920، حتى غدا أشبه بترهيب لكل من يرى العكس.
كما أنّ مقاربة مسألة « الطائفية» ذات المضامين الواردة في ست مواد أساسية من الدستور اللبناني ( 9-10-19-49-65-95)، يعتبره قانونيون ودستوريون وكأنه قانون مشوّه، droit perverti، ويعتبره أخصائيون في العلوم الانسانية عامة وكأنه علم اجتماع فاسد، في حين أن مجرد ورود نصوص في الدستور يعني بداهة أن «الطائفية» حتى في أسوأ مظاهرها هي خاضعة لمعايير وقواعد حقوقية وليست خارج القانون(7). فالنظام الذي نسميه طائفياً هو عملياً غير مطبّق في لبنان – قانونياً – في كل مُندرجاته حيث إنّ قاعدة الكوتا تخضع لشروط إدارية وقانونية وليس إلى علاقات نفوذ زبائنية، وحيث إنّ المادة 9 من الدستور تنص على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة»، مما يوجب عدم إجبار أي شخص في الانتماء إلى طائفة واعتماد نظام منفتح في الأحوال الشخصية(8).
وعليه، فإن الثنائية البرلمانية التي تقوم كمرحلة انتقالية على إنشاء مجلس للشيوخ دون إلغاء الطائفية السياسية من جهة، إلى جانب مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، هي ثنائية نموذجية برأينا، ينبغي التركيز على إصلاحها، وعلى تنفيذها، لتحقّق غاياتها المرجوّة منها، كما هي ليست ثنائية الضرورة، هي ثنائية الاختيار، وهي ثنائية مناسبة لطبيعة لبنان، لأنها توافق وتحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدّم والازدهار، وتعزيز الثقة والاندماج بين جميع مكونات الشعب. وهي ثنائية لا تلغي التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي اللبناني، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على الاعتراف بحقوق الطوائف والمذاهب، وعلى احترام التنوع وليس على نفيه، حتى يشعر جميع اللبنانيين أفراداً وجماعات بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة. وهي ثنائية تمكّن الطوائف الدينية من التخلي تدريجيا عن الرعاية والحماية الخارجية، مقابل ضمانات من شركائها في الوطن.
لذلك، فإن مفهوم هذه الثنائية البرلمانية لا يكتمل على الصعيد الواقعي في لبنان، إلّا بتعزيز دولة الإنسان اللبناني تلك الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأفكار مواطنيها، بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله الطائفية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثّل في النهاية مجموع إرادات الأفراد والجماعات المكوّنة لها، وتؤمن الأمن والطمأنينة لكل المواطنين.
لسنا هنا بصدد محاكاة أحلام خيالية، فكما أنّ العداوات والحروب صار تركيبها على أيدي اللبنانيين فيما تولّت العوامل الاجتماعية والثقافية تقديسها، كذلك يمكن استئصالها من ذاكرتنا. ليس مستحيلاً، بل وليس صعباً، أن يعاد تكوين الولاءات المجتمعية في لبنان. فالمجتمع، متى تسنّت له قيادات حكيمة وأنتلجنسيا تتمتع بخطاب لا يثير القرف من كثرة ما استُهلك حول «الطائفية» و «الطائفية السياسية» و «العلمنة» وما إلى ذلك من الكلمات القذائف(9)، فعندها يمكن للبنان أن يشكل في إدارته العقلانية للتنوع أمثولة لدول عربية تتحكم فيها طائفية من لون واحد ويتقوقع فيها المواطن في الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.
إنّه التحدي والمصير الأكبر الذي ينتظر بلداً جَعَلْنا منه دولة ولكن لم نعرف كيف نرفعه إلى مرتبة وطن.
المراجع:
1- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 208.
2- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص: 207.
3- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص:155.
4- المرجع السابق، ص: 336.
5- المرجع نفسه، ص:155.
6- المرجع نفسه، ص:94.
7- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 404.
8- المرجع السابق، ص: 429-430.
9- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سابق، ص: 356.