نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه
في لبنان الكل يسأل عن دينك أما في البرازيل فلا أحد يسألك «لا شو دينك ولا شو معك ولا شــــو عليك»
نورا: الإلفة هي أجمل ما في لبنان لكن الناس يدخنون بكثرة وزحمــــة سيـــــر كبـــــــــيرة
نجم أبو عاصي بعد
خمسة وستين سنة غربة
مش مصدِّق إني بالمعاصر !


ظهر كمال بك فجأة ليعينني على رفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة، وعندما رآه الناس بُهتـــــــــــــــــوا وراحــــــــــوا ينادونه «لا يا بيك لا يا بيك»!!
قف وأسند راحتيه على الحافة الحديدية في أعلى نقطة مشرفة على كل القرية، كانت عيناه تسرحان في ضيعة تختزن ذكريات طفولته، ضيعة تغيّرت كل معالمها لدرجة أنه لم يعرفها لكنه عرف جبالها وبريتها واخضرارها الممتد حتى القمم كما عرف أيضاً أن حبه لهذا المكان لم يتغير أبداً.
> ما هو شعورك وأنت تنظر إلى المعاصر؟
إستدار وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة وفي عينيه لمعة حزن: “حاسس حالي عم بحلم، ما عمصدق إني بالمعاصر”… هو أيضاً لا يصدّق أنه يرى أبناء وبنات شقيقته وأشقائه وكل ما التقى أحدهم سأله “أنت مصدّق أني هنا أمامك… أنا لا أصدق”.
عشرون يوماً منذ وصوله من البرازيل وهو يحاول أن يعوّض ولو قليلاً ما فاته خلال خمسة وستين عاماً من الغربة البعيدة. إنه عمر طويل بمقياس الزمن وقد أخذه بعيداً إلى الجانب الآخر من الكرة حيث لم تكن هناك مواصلات سهلة ولا وسائل تجعل من السهل البقاء على تواصل كما هي الحال اليوم. كانت الغربة منفىً اختيارياً طويلاً وربما أبديّاً، لكن ها هو يعود محاولاً أن يصدق فعلاً أنه في لبنان وفي بلدة الطفولة. إطلالة واحدة جديدة على الوطن حرّكت فيه كل الحنين.. الحنين إلى الأماكن وإلى الناس، الأصول والفروع لعائلة من ثلاثة أخوة وأخت وحيدة هاجر وهي في الخامسة عشر وعندما عاد كانت هي رحلت عن الدنيا… كل هذا العمر هاتفها مرة واحدة عندما توفّي زوجها، غصّ هو وغصّت هي بالبكاء ولم يستطع أي منهما الكلام فأجلا المكالمة لليوم التالي. الشيء نفسه تكرر مع ابنتها الكبرى، ولكن الفارق أن اتصاله بأخته كان من على بعد ثماني عشرة ساعة سفر في الطائرة، أما ابنتها فكان أقرب، كان يبعد عنها ثلث ساعة بالسيارة.
لم يكن نجم ابن الثمانية عشر عاماً يعلم وهو يلملم رحاله إلى البرازيل أن الله سيمد في عمره في المهجر ليعود يوماً إلى بلدته وهو


ابن ثلاثة وثمانين.. وعندما غادر المعاصر في العام 1934 كان وهو الشاب الصغير يتحرك بحماس وشوق لخوض المغامرة وملاقاة المستقبل في قفار بعيدة، وقد رأى في السفر فرصته للخلاص من الكدح في تجارة مضنية باغتته وهو في الثامنة من عمره. لم يكن يائساً من العودة لكن كان أمله بذلك يضعف مع مرور السنين في تلك البلاد. يقول: “ما بعمري خفت إرجع على لبنان بس العين بصيرة واليد قصيرة”… ولكنه في النهاية عاد.. عاد وهو يحمل أثقال الحنين المتجمِّع في قلبه، حنين لا يجد كلاماً مناسباً لشرحه فلا يبقى إلا الدموع.
“أريد أن أخبرك كيف كنت أعمل في لبنان”… هكذا، بالعربية وباللهجة المعاصرية القروية، وبحماسة وابتسامة تعلو محيّاه، يبدأ نجم حديث السنين الخوالي. “من عمر الثماني سنوات بدأت أعمل، كنت أذهب إلى البقاع وأبادل التين والعنب والتفاح والإجاص الذي تنتجه أرض يملكها أهلي، بالعدس والسميد”، في ذلك العصر كانت المقايضة هي الوسيلة الغالبة في التجارة، فبدل دفع المال كان الناس يبادلون بضائع فائضة عنهم ببضائع فائضة عن غيرهم وهم في حاجة إليها.
ورغم المشاق التي تكبّدها بعمله المبكر، إلا أن “عين مصعر”، تلك البقعة التي كانت تنتج بضاعته وعاش فيها طفولته، كانت أول مكان أراد الذهاب إليه فور عودته، ولكن أمله خاب عندما رأى الحال الذي آلت إليه، اذ تغيّرت كل معالم ذلك البستان المثمر المخبّأ في ذاكرته.
مفاجأة في ساحة المختارة
عدا البقاع كان نجم يذهب نهار الأحد إلى نبع الباروك ليبيع التين والعنب، وفي بعض الأحيان كان يذهب إلى المختارة.
وبسبب حداثة سنه وضعف بنيته لم يكن نجم، وكان بلغ التاسعة من عمره، قادراً على إنزال البضاعة عن حماره، فكان الناس يساعدونه في تحطيط حمولته. وفي أحد الأيام كان في المختارة، انتهى من بيع البضاعة وأراد أن يرفع الصناديق الفارغة إلى بردعة (جلال) الحمار ولكنه لم يكن قادراً على ذلك.. يشرح ما حصل له في تلك اللحظة ويقول: كنت أجاهد عبثاً لرفع الأقفاص التي فرغت من البضاعة وبسبب قصر قامتي فإنني لم أجد وسيلة إلى ذلك لأن عليك أن تتمكن من وضعها على ظهر الدابة مرة واحدة. كان الناس في السوق ينظرون ولم يتقدم أحد لمساعدتي، وكنت فعلاً محبطاً بعض الشيء. فجأة إذا بالمعلّم كمال جنبلاط، يأتي إليّ مسرعاً، أخذ يرفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة؛ وعندما رآه الناس بُهتوا ولم يصدقوا فراحوا ينادونه “لا يا بك لا يا بك”.. لكنه لم يُعرهم إهتماماً وتابع عونه لي إلى أن تمكّنت من تثبيت الصناديق على ظهر الدابة وتابعت بذلك طريق العودة إلى بلدتي.
حادثة المعروف الذي قدّمه المعلم بعفوية تامة إلى هذا الطفل الصغير ما زالت منطبعة في ذاكرة الرجل الكهل كأنها البارحة، وهو كما يقول لن ينسى ذلك النبل وتلك الإنسانية العفوية ما دام حيّاً وسيبقى يلهج بها لما فيها من تعليم للكثيرين. عدا هذه الحكاية الجميلة، فإن ذاكرة نجم مزدحمة بفصول الحياة القاسية التي عاشها وهو طفل.. لكنه يتوقف ويتحول فجأة وبالحماسة نفسها للحديث عن البرازيل، الموطن:
“بدي خبرك عن البرازيل، بلاد ما في أحلى منها.. حرة حرة.. تفعل ما يحلو لك ولكن عليك أن تلتزمي بالقانون”.
ذهب والد نجم، عبد الخالق، إلى البرازيل في العام 1920، عاد منها إلى لبنان في العام 1928 ولكنه اضطر أن يعود اليها وهو في السبعينات من عمره لبيع أرض عالقة تعذر على قريبه بيعها، وهكذا أمضى ما تبقى من عمره في تلك الأرض البعيدة ليعود إلى لبنان قبل وفاته ببضعة أشهر عن عمر ناهز الخمسة وتسعين عاماً، ولم تكن عودة عبد الخالق إلى العائلة والوطن بأقل غرابة من عودة إبنه نجم، فالكل تفاجأ به في ذلك الوقت، والمفاجأة الأكبر كانت بقصته مع قارئة كف مشّته الدرب الدرب، وعاد ليموت في لبنان بعد أن تنبأت له بأنه سيموت في شهر محدّد من سنة محدّدة، وقد أصابت معها السنة ولكنها أخطأت التاريخ المحدّد بشهر واحد..
لطعام.. أول صدمة ثقافية
كان نجم الثاني بين ثلاثة أشقاء وشقيقة، وكان شقيقه الأكبر عارف كرّس نفسه لمعاملة خاله وعليه كان نجم المرشّح الأبرز للذهاب إلى والده، ولكن ذلك لم يلق إستحساناً لا عند والدته ولا عند شقيقه عارف.
فنجم لم يكن حينها قد أكمل الثامنة عشر عاماً، لكنه انتظر قليلاً حتى بلغ السن القانوني الذي يُسمح فيه للشاب بالتصرف كمواطن كامل الحقوق، فأسرع إلى مختار القرية وبدأ بإعداد الأوراق اللازمة للسفر.
نسأله عن سبب حماسته للهجرة فيقول والضحكة تعلو وجهه: “أنا كنت شايف بدي روح عند بيي بالبرازيل.. لأنه في لبنان كنت أعمل وأنا صغير وكنت أنا المسؤول نوعاً ما عن المنزل في غياب والدي، فأخي الأكبر كان يعيش عند خالي، وعندما كان والدي في لبنان كان يتنقل بين القرى ويبيع البضاعة بخسارة، في البرازيل كان يبيع ويقبض مقابل بضاعته أما في لبنان فلا أحد يدفع”.
ليس بين لبنان والبرازيل ساعات سفر طويلة وحسب، فالبلدان مختلفان في الجذور من حيث الثقافة واللغة… وقد تكون أول صدمة ثقافية عاشها نجم في البرازيل هي الطعام. وبضحكة عالية يخبر قصته مع أول وجبة طعام أكلها هناك: كان والدي يملك عربة خيل، وأول ما وصلت أخذني معه، عرّج على دكان واشترى لي رغيفاً، ورغيف تلك البلاد كبير فعلاً، وضع فيه قطعة لحم مقدّد وأعطاني إياه”، وعلى ما يبدو قرّف نجم من هذا الطعام فقال لوالده لا أريده وبضحكة يكمل نجم “أجابني والدي بشيء من الحمق وعدم الإكتراث: على مهلك ما تاكل… يلي ساواك بنفسه ما ظلمك”.
كان هذا أول لقاء تعارف بين نجم والبرازيل، بعدها أخذه والده إلى سان باولو وعرّفه بأصدقائه وأعطاه حقيبة مليئة بالأغراض ليتجوّل ويبيع ما فيها.
لم تكن اللغة مشكلة بالنسبة الى نجم لأنه كان يتكلم الفرنسية بشكل جيّد، بعد التجول في الطرقات فتح محّلاً، وهنا يقول بابتسامة الفوز: “أغلب البرازيليين كانوا أميين، فإذا أراد أحدهم أن يرسل مكتوباً إلى أهله كان يطلب مني أن أخطه له”. وكان في البرازيل الكثير من العرب واللبنانيين تحديداً. وعند سؤاله عن شعوره بالغربة يجيب “كنت أحن إلى بلدي ولكنني أحببت البرازيل واعتدت على الجو”. “البرازيل غير شي”، هكذا يصفها.
كرامة لأمي تزوجت لبنانية
من يرى نجم والحنين في عينيه والمحبة الكبيرة لعائلته يستغرب كيف يمكن لشخص يملك قلباً مليئاً بهذا الحب أن يبتعد كل هذه السنوات ولكن كما يبدو كان خائفاً من العودة..
“ممّ كنت خائفاً”… لم يعط جواباً صريحاً ولكن جوابه كان: أخي عارف كان عند خالي وأنا كنت سعيداً ولا أريد العودة”.. ومن هذا الجواب تقرأ أنه ربما كان خائفاً من عبء المسؤولية التي ألقيت عليه باكراً..
هاجر ولم يرد العودة ولكن قلبه بقّي حاملاً ما أخذه معه. وفي هذا الصدد، يتحدث نجم عن الزواج. “قبل أن أسافر إلى البرازيل نادتني والدتي إلى درج مقام خالي وقالت لي اجلس هنا، لا تتزوج إلا بفتاة منّا”.. بقيت كلمات والدته محفورة في قلبه، ولم يخيّب أملها. وهنا يبدأ بسرد قصته مع زوجته والابتسامة تعلو ثغره وعينيه “بعد ثماني عشرة سنة من وجودي في البرازيل لم تعد لدّي معارف عرب، ولكن كان هناك رجل من حاصبيا يعيش في سان باولو على بعد 1500 كلم مني، ويعمل في تجارة الثياب وكان لديه 5 شركاء.. قال لي أريد أن أعرّفك على أصحاب لي وأخذني إلى منزل بيت عمي الحاليين، عندما وصلت إلى المنزل كانت هناك فتاة جالسة في الزاوية قلت لرفيقي لا أريدها، وإذا بزوجتي أميرة مارة فقلت هذه هي من أريدها”.. وعندما تسأله ماذا حصل معه يجيب وكل معالم وجهه منفرجة.. “أحببتها” ويعقّب “لا أزال أحبها حتى الآن”.. ويشرح نجم أن زوجته، وهي أصلاً من مواليد المديرج في لبنان، عاشت كل حياتها في البرازيل وعلى ما يبدو لم يعن لها لبنان شيئاً. يقول وكأنه يحاول أن يبرّر عدم مجيئها إلى لبنان أبداً “مرتي ما بتحب الطيارات”.


العقدة في الزوجة؟
لو شجعتك هي هل كنت ستأتي قبل الآن؟ بهدوء المحّب يجيب: “لا أعرف إن كنت أتيت لو حمستني.. هي ربيت هناك”. ويتابع بلهفة المتشوّق: “هالسنة ما قدرت جبتها معي بس انشالله السنة الجاية”.
وهنا نسأله: “هل من المحتمل أن تأتي زوجتك إلى لبنان ثم تغير رأيها وتقول لا أريد العودة إلى البرازيل” وبسرعة كان الجواب لا لا”.
تزوجت وصار عندي بيت
تزوج نجم ولكن ماذا تغيّر في حياته؟ يقول بإبتسامة تعكس الراحة: “صار عندي بيت لما تزوجت” وهو لم يقصد بذلك المعنى المادي للمنزل، فهو كان لديه منزل ولكنه كان يفتقد لروح العائلة التي تعطيه معنى.
أما ماذا حمل معه من لبنان إلى البرازيل؟ “أخذت لبنانية”… يجيب بعفوية الأطفال. ويتابع ليقول: “حافظت على ديني، ما غيّرت ديني فهناك بيعملو أديان كثيرة”. وهنا يعقّب أخوه نبيه: “أنا زرته في البرازيل، هو لا يتعدى على أحد، لا يكذب، لا يسرق ولم يتعاط الأشياء الممنوعة، بقيّ محافظاً على أخلاقياته”.
ويختم بالقول: “خمسة وستون عاماً في البرازيل ولا يزال محافظاً على نفس العادات والتقاليد”.
ومع أنهم لا يتكلمون اللغة العربية البتة هناك، يعلّق نجم بأن العرب يسيطرون على 80 في المئة من التجارة البرازيلية، وأكثرهم لبنانيون. وعن علاقة لبنانيي المهجر بالوطن الأم يقول إنهم يأتون إلى لبنان أكثر منه بكثير، إلا أن الغالبية لا يعودون أبداً خصوصاً أولئك الذين يتزوجون بنساء برازيليات.
لم تكن البرازيل بالنسبة إلى نجم ملاذاً من شقاء الحياة في لبنان وحسب، ولكنها كانت مكاناً آمناً بالنسبة إليه على عدة صعد وربما أبرزها الحرية الشخصية، ففي لبنان كان معتاداً أن الكل يسأله عن دينه أما في البرازيل فلا أحد يسألك “لا شو دينك ولا شو معك ولا شو عليك”.
فجأة تراه يبدأ بالضحك، فهذا الحديث أعاد إلى ذاكرته المقالب التي كان يحيكها للشباب البرازيليين والذين كانوا ينادونه بـ Turku نسبة إلى تركيا التي كانت حاكمة لأولاد العرب على حد تعبيره.
وراح يسرد أحد المقالب وعينيه شبه مغلقتين من كثرة الضحك.. “مرة قلت لأحد الشباب هل تريد أن تعرف معنى اسمك باللغة العربية، تحمّس كثيراً للأمر.. فقلت له معناه على أنه اسم لأحد الحيوانات، واذا به من فرط حماسته ينادي على أحد الشباب العرب ويقول له صرت أعرف معنى اسمي بلغتكم، وعندما نطقه انفجر كل الحاضرين بالضحك عليه”.
بفعل الخبرة والزمن تطوّر عمل نجم وبات يملك معملاً للخياطة يشغّل نحو أربعين عاملاً، وهو حالياً متقاعد ويعيش من تقاعده ومن التجارة الحرة في العقارات.
قد تكون العائلة كلها استسلمت لهجرة نجم وأصبح بعده جسدياً ومعنوياً أمراً اعتيادياً بالنسبة إليها، إلا نبيه، أخوه الأصغر، الذي حرص على التواصل معه وإعادته إلى لبنان ولو في زيارة قصيرة.
من الرسائل بالباخرة إلى الواتس
كان نبيه يتواصل مع أخيه عبر الرسائل بالبواخر أولاً ومن ثم الطائرات، وكانت تأخذ وقتاً طويلاً لتصل، حتى العام 1980، حيث أصبح الهاتف متوفراً ولكن طبعاً ليس باليسر الموجود حالياً. ويروي كيف أخذ أخواته في إحدى المرات إلى السنترال وحاول الاتصال بنجم، إلا أن الاتصال انقطع مرتين ولم يتمكنوا من التحدث إليه.. وانحصر التواصل مع نجم المهاجر بنبيه وعائلته، وتلقى الأخير منه دعوة للزيارة لبّاها مطلع عام 1995، ذهب إلى البرازيل ومكّث هناك ثلاثة أشهر. هذه الزيارة عزّزت العلاقة بين الأخوين وصارا بعدها على تواصل دائم، تخلله بعض المقاطعة، ولكنه أثمر في النهاية زيارة إلى لبنان ظلّت حلماً لكلا الطرفين حتى بعد تحقّقه.
وهنا يعلّق نبيه بالقول: “استطعنا أن نقنعه أن يأتي لزيارة لبنان، ما توصلنا إليه في النهاية هو أن يأتي هو وابنته التي كانت متخوفة جداً من المجيء، ولكن تبدّد عامل الخوف لديها بعد أن أتت، أخذناها إلى الشمال وتحديداً طرابلس، كما ذهبت إلى حاصبيا مسقط رأس أحد معارفها في البرازيل”.
ويضيف نبيه أنه حاول أن يقنع أخاه بالمجيء إلى لبنان عندما زاره في التسعينيات ولكن أولاده كانوا صغاراً وقتها، وكانوا يهربون عندما يسمعون باسم لبنان الذي كان يتخبط


بالأحداث السياسية وتبعات الحرب.
نورا هي الابنة الثانية بين ثلاثة أولاد لنجم: ابنتان وصبي، وهي على خلاف والدها الذي يرى كل شيء بعين الحنين، ترى لبنان بعين نقدية عقلانية. لم تزره يوماً ولم تحمل له أي حب أو ذكريات، كان بالنسبة إليها بلد الحرب والخوف، تبدّدت هذه النظرة بعد أن أتت وشعرت بالألفة والمحبة بين العائلة ولكنها لا تخفي شعورها بالخيبة، “الناس هنا يدخنون بكثرة، وزحمة سير كبيرة وهناك مشاكل كبيرة في البنية التحتية”.
تحمل نورا لبنان في جيناتها وهذا ما خلق مودة بينها وبين أولاد عمها وعمتها حتى لو لم تكن تعرف من اللغة العربية الا بضع كلمات كان عمّها يعلّمها إياها.
أينما تذهب طعام طعام!!!
وعندما تسألها عن أكثر شيء أحبّته في لبنان، تجيب بحماسة وابتسامة عريضة “I liked food”، وتفتح يديها وعينيها على وسعهما وتقول باستغراب ممزوج بنوع من الإمتعاض “أينما تذهب طعام طعام طعام”..
وتعقّب بأن الطبيعة في لبنان جميلة جداً، ولفتها أن الناس هنا يحترمون كبار السن. وفي الاطار العائلي، تقول نورا إن أفراد عائلتها في البرازيل مقربون جداً من بعضهم بعضاً ولكن في بعض الأحيان يكون
الأصدقاء أقرب من الأهل هناك.
تعتبر نورا أن الحرية في البرازيل متاحة أكثر منها في لبنان. وعن الصورة النمطية أن السرقة منتشرة بقوة هناك تقول: “يجب أن نبقى حذرين ولكن لم يحصل معنا أي حادث يوماً”.
أما عن الفساد، تقول نورا إنه مستشرٍ في البرازيل ولكنه ليس بالحجم الذي في لبنان. وعندما تسأل والدها يقول بضحكة عالية “ما الرئيس البرازيلي أصلو لبناني”.
قد تبدو نورا غربية المنشأ بطريقة تفكيرها ومنطقها في الحياة ولكن كان واضحاً تعلقها بوالدها، وعندما تسألها عن الشيء الذي لن تنساه عن لبنان، تمسك بيد والدها بكلتا يديها تنظر إليه بحب وتقول “أعتقد ذلك، الألفة بين أفراد العائلة هنا، فوالدي كان غائباً لفترة طويلة جداً، ولكن الكل أفاض عليه بالمحبة”.
وعما إذا كانت نورا مهتمة بالعودة مرة ثانية إلى لبنان، تصمت لبرهة وهي تفكر وكأنها لا تريد أن تعطي جواباً تعرف سلفاً أنه لن يتلاءم مع تطلعات العائلة: “لا أعرف، كل شيء غالٍ هنا، ومن المكلف جداً البقاء”.
أما اذا كانت ستشجع والدتها وأخوتها على المجيء تقول بحماسة شديدة “نعم نعم” وتتابع بضحكة: “الناس يقولون أشياء كثيرة عن لبنان، الجيدة والسيئة ولكنني أرى أن الدروز مختلفون بعض الشيء”.
«بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي»
عندما تراه مع أخوته، تشعر بألفة ومحبة لا تصدق معها أنه غاب عنهم خمسة وستين عاماً.
كل هذه السنوات من البعد ولكن ما هو الشعور بعد أول زيارة؟
“توّلد عندي شعور بالندم لو أني أتيت قبل”، يقول نجم بحرقة. وهنا يعلّق مقيم، إبن أخيه، في زفاف إبنة عمتي كان يقول أنا أحلم. ويعقّب أخوه نبيه: “لا يعرفكم ولا يعرف أحد هنا وعندما التقاهم شعر وكأنه يحلُم”.
تتلألأ الدموع في عيني نجم ويقول بدوره: “أنا مش مصدّق حالي إني بلبنان.. كنت حاسس إنو هيدا الشي ما رح يصير بحياتي.. مش مصدق إنو بنتي أجت على لبنان”.
ينظر إلى أخيه الثاني يحضنه بابتسامة ممزوجة بالدمعة: “بعدني لهلق بس ضم خيي نزيه ببكي، خيي نبيه كنت احكي معو وراح لعندي بس نزيه لأ، ما حكيت معو أبداً كل فترة سفري”.
في ختام اللقاء سألنا نجم إن كان يندم على شيء، أجاب بالنفي ولكن عندما سألناه إن كان مجيئه إلى لبنان ولّد عنده شعوراً “لو أتى منذ زمن”… “إيه”.. ومجدداً راح يردّد “مش مصدق إني بلبنان مش مصدق إني بالمعاصر. رح إرجع السنة الجايي على لبنان، وإذا قبلت مرتي بدها تجي معي”.1)

