السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نصرة دروز لبنان

نصرة دروز لبنان
لثـــــورة 1936 فــي فلسطيــن

المفرزة الدرزية في حملة القاوقجي نالت الثناء
على انضباطها وشجاعتها وكفاءتها القتالية

دروز جبل لبنان لعبوا دوراً مهماً في تسليح الفلسطينيين
وسلطات الانتداب جندت كل قواها لإحباط التهريب

الأمير مجيد أرسلان ينتقد الحكومة بشدة
لمشاركتها في معرض تل أبيب الزراعي

لعب دروز لبنان دوراً مهماً -وغير موثق بصورة كافية- في نصرة ثورة العام 1936 ضد الاستيطان اليهودي والاحتلال البريطاني في فلسطين. واتخذت هذه النصرة شكلين أساسيين: المشاركة المباشرة في الجهاد الوطني إلى جانب الفلسطينيين ثم تنظيم حملات وقوافل لنقل السلاح إلى الفلسطينيين لموازنة عمليات التسلّح الكثيفة من قبل اليهود. في هذه المقالة نعرض لخصائص المرحلة التي كانت تعيشها فلسطين في تلك الفترة ولتفاصيل المشاركة الوطنية والدرزية المهمة بالقتال المباشر والسلاح في تلك الثورة التي أجهضت بفعل القمع البريطاني ومناشدات التهدئة العربية. وكانت هذه آخر الانتفاضات الجادة لمحاولة وقف السيل اليهودي الذي تدفق على الأرض المقدسة بتآمر مشترك من الانتدابين البريطاني في فلسطين والأردن والفرنسي في لبنان وسورية.

بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسّام في 19 تشرين الثاني 1935، عادت مجموعته الثورية إلى الجهاد ضد اليهود في أواسط نيسان 1936، فكان ذلك بداية لأكبر ثورة فلسطينية بين الحربين العالميتين، استمرت حتى 1939، وتخللها إضراب شامل، وكان شعار الفلسطينيين فيها، وفي ما سيعقبها من ثورات ومواجهات، عبارات القسّام التي قالها لرفاقه عند استشهاده: “لا تستسلموا. موتوا شهداء”.
لم يواجه الفلسطينيون اليهود فقط، بل واجهوا أيضاً البريطانيين المنتدبين على فلسطين، الآخذين على عاتقهم تسهيل هجرة اليهود وإقامة الوطن القومي اليهودي تنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم. لذا كان الفلسطينيون بحاجة إلى المساعدات من الدول العربية. ولقد قدمت لهم القوى الوطنية في هذه الدول، وبخاصة في دول المشرق العربي، النصرة في سنة 1936 بقدر ما تسمح به الظروف والإمكانات، وبقدر الحرية المتاحة لها للتحرّك في إطار الهيمنة البريطانية على العراق وشرق الأردن إضافة إلى فلسطين، والهيمنة الفرنسية على سورية ولبنان، وفي إطار تبعية حكومات تلك الدول للسلطات المنتدبة.
وفي ما يتعلق بلبنان يمكن القول إنه واكب ثورة 1936 وأثّر وتأثر بها، كما واكب وأثر وتأثر بما سبقها وأعقبها من حروب وأحداث مرتبطة بالقضية الفلسطينية بسبب مجاورته لفلسطين وعروبة أبنائه وتوجههم القومي. كما يمكن القول إن نصرته للثورة الفلسطينية جاءت على صعيد شعبي لا رسمي تجلت في إرسال بيانات وبرقيات التأييد، وتشكيل اللجان لجمع الإعانات للمصابين وعائلات الضحايا، وتزويد الثوار بالسلاح والقتال إلى جانبهم، والقيام بالمظاهرات والإضرابات، وتقديم الاحتجاجات على المخطط الصهيوني البريطاني واعتداءات الصهاينة وقمع البريطانيين لانتفاضات الفلسطينيين.
كانت الهيئات الرسمية في لبنان عاجزة آنذاك، ولو أرادت، عن تقديم أي دعم للوطنيين الفلسطينيين، وذلك بسبب هيمنة الفرنسيين على جميع الأمور، وتواطؤهم مع البريطانيين في إقامة الكيان الصهيوني، والاشتراك معهم في تنفيذ المخطط الاستعماري التقسيمي في المشرق العربي. وقد كان دور الهيئات الحكومية التابعة للمنتدب ليس فقط دون المأمول، بل كان أيضاً وفي مجالات عديدة دوراً قمعياً لنشاط تلك التيارات، إضافة إلى اتخاذ بضعة مواقف أخرى تخدم اليهود وتضر بالقضية الفلسطينية. فالحكومة اللبنانية، مثلاً، منعت تظاهر الطلاب لتأييد الفلسطينيين وشجب السياسة البريطانية، بحجة المحافظة على الأمن، كما أنها بالحجة نفسها وبحجة منع الظهور المسلح، تصدّت للجماعات المسلحة التي كانت تقصد فلسطين للقتال إلى جانب الثوار وإيصال السلاح إليهم.

موقف وطني للأمير مجيد أرسلان
وفي الوقت الذي كانت تنطلق فيه الدعوات لمقاطعة البضائع اليهودية والبريطانية، وافقت حكومة أيوب ثابت، في عهد رئيس الجمهورية إميل إده، على حضور لبنان معرض تل أبيب الزراعي في أيار 1936، إبَّان الثورة الفلسطينية، ووافق على هذا الحضور معظم أعضاء المجلس النيابي اللبناني، بحجة أن ذلك يفيد الاصطياف، ويعزز علاقات لبنان مع فلسطين. وقد أشاد أرباب الصناعة في دمشق واللجنة القومية في فلسطين والصحف الوطنية والجماهير البيروتية الإسلامية بموقف المعارضين للاشتراك في المعرض، وبخاصة موقف الأمير مجيد أرسلان، وهاجموا المؤيدين للاشتراك، وبخاصة الرئيس إميل إده ورئيس الحكومة أيوب ثابت. ومما جاء في بيان اللجنة القومية المعمم على الصحف ما يلي:
“إن اشتراك حكومة لبنان في المعرض الصهيوني تعدٍ على قدسية دماء شهداء فلسطين العربية وعلى أية رابطة تربطنا بلبنان. وهي حين تُقدِم بهذا الاشتراك على ما أحجم عنه الأجانب، إنما تتعمد الإساءة إلينا. إن في رسالة رئيس جمهورية لبنان إلى المعرض الصهيوني لروحاً عدائية يجدر بلبنان الشقيق أن يمحو أثرها بالعدول عن الإشتراك في المعرض المذكور”.
وما كان رئيس الجمهورية إميل إده موافقاً على حضور معرض تل أبيب الزراعي فقط، بل هو أبدى، بحسب تصريحه، الارتياح لقيام الوطن اليهودي في فلسطين. فلقد صرّح في 27 حزيران 1937 لجريدة “إيكو دو باري” بما يلي: “إن خلق جمهورية صهيونية ليس من شأنه ألا يسرنا”.

مشاركة الدروز في الثورة
مع اشتداد الإضراب العام في فلسطين حتى توقفه في 12 تشرين الأول 1936، وكذلك انتشار الاضطرابات بين العرب من جهة واليهود والبريطانيين من جهة أخرى، ازدادت حركة الاحتجاجات والاضرابات في المناطق والمدن اللبنانية، وكثرت البرقيات المرسلة من الزعماء والأئمة واللجان الطلابية، والتي تحتج على سياسة السلطة البريطانية، كما نشطت حركة جمع التبرعات لإغاثة المنكوبين العرب بواسطة لجانِ الإعانات المشكّلة في المدن، وبواسطة جريدة بيروت التي افتتحت الاكتتاب لجمع التبرعات. وواكب هذه التحركات المؤيدة والداعمة للثوار الفلسطينيين نقل السلاح إليهم، والتحاق بعض المقيمين اللبنانيين في فلسطين بالثوار، والتحاق العديد من اللبنانيين المقيمين في لبنان بهم. وبفضل هؤلاء اللبنانيين الذين انضموا إلى الفرق الفلسطينية المسلحة أو شكلوا فرق قتال صغيرة، توسع نطاق الثورة إلى ميدان جديد هو منطقة صفد شمال فلسطين، حيث برزت العصابات المسلحة من الموحدين الدروز. وفي هذه المنطقة استشهد لبنانيان في معركة الجرمق التي خاضها الثوار بقيادة الشيخ سعد الخالدي.
كان بعض اللبنانيين يلتحقون بثورة فلسطين عن طريق دمشق، وبخاصة بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها اسمها “اللجنة المركزية للجهاد”، كانت تتولى نقل هؤلاء اللبنانيين إلى فلسطين حيث ينزلون في ضيافة الأمير محمد الصالح في غور بيسان ويتسلمون منه السلاح. وكان بعض ناقلي السلاح إلى الثوار الفلسطينيين ينخرطون في صفوفهم، ويقاتلون إلى جانبهم.
وممن كان له دور في حوادث فلسطين الجارية بين العامين 1936 و 1939 أفراد العصابات اللبنانية المطاردين من السلطة أو المحكوم عليهم بالإعدام . ومن هؤلاء عصابة اسماعيل عبد الحق التي ظهرت في أواسط كانون الأول 1936 في جوار بلدة “يركا” حيث عادت إلى سلب المارة بحسب ما جاء في إبلاغ الحكومة الفلسطينية إلى حكومة لبنان. فانتدبت الحكومة اللبنانية ثلاثة من مفتشي شرطة التحري لمعاونة شرطة فلسطين في تعقب اسماعيل عبد الحق ورفاقه. ثم ظهرت عصابة اسماعيل عبد الحق في ضواحي عكا، واستقوت بانضمام بقايا عصابة فؤاد علامه، التي تشتتت بعد مقتله في سنة 1935. وأخذت عصابة عبد الحق “تقاوم اعتداءات الصهيونيين باعتداءات مثلها”. وقد خرجت قوات من الجيش الانكليزي لمطاردتها فاشتبكت معها في قتال دام ساعات عدة سقط فيه عدد من القتلى والجرحى. وتمكنت العصابة من الانسحاب بعد أن اعتقل الجيش اثنين منها. وقد أشار راديو لندن إلى اشتباك الجند البريطاني مع هذه العصابة، وقال إن أفرادها مسلحون بأحدث أنواع الأسلحة.
وبالاضافة إلى الالتحاق الفردي والجماعي، غير المنظم، بالثورة الفلسطينية التحقت بالثورة سرية لبنانية بحملة فوزي القاوقجي التي بدأ الاستعداد لها في أوائل شهر حزيران 1936، ووصلت عناصرها الآتية من العراق، ومن مناطق سورية التالية: دمشق وحمص وحماه وحوران، ومن جبل لبنان، إلى نقطة التجمع الأخيرة في ميدان الجهاد في فلسطين، في الواحد من شهر آب.

بعض اللبنانيين التحقوا بثورة فلسطين عن طريق دمشق بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها باسم “اللجنة المركزية للجهاد”

يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947
يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947

القاوقجي يغيّر المعادلات
قسّم القاوقجي حملته إلى خمس مفارز أو سرايا هي سرية فلسطينية بقيادة نائبه فخري عبد الهادي، وسرية دمشقية حورانية أردنية بقيادة الشيخ محمد الأشمر، وسرية حموية حمصية بقيادة منير الريّس، وسرية عراقية بقيادة الضابط العراقي (جاسم)، وسرية درزية من جبل لبنان وجبل العرب بقيادة حمد صعب من قرية الكحلونية، إحدى قرى قضاء الشوف . أما الدوافع إلى تقسيم القاوقجي لحملته إلى سرايا على أساس مناطقي، فهي ميل عناصر كل سرية إلى القتال مع بعضهم البعض “وحتى تتبارى وتتنافس كل فئة منها في إظهار خصائصها العربية الكريمة” بحسب ما ذكر قائد إحدى هذه السرايا منير الريس.
قبل وصول القاوقجي كان الثوار الفلسطينيون عبارة عن شراذم متفرقة، مستقلة عن بعضها البعض، يكمنون في سفوح الأودية أو رؤوس الهضاب والجبال، حتى إذا مرّت قافلة انكليزية أو يهودية من أمامهم، يصلونها ناراً حامية، ثم يسرعون إلى قراهم، مما كان يجعل أمر ملاحقتهم في القرى ميسوراً، ولا يضطر الإنكليز إلى كبير عناء وكثرة عدد لمواجهتهم وملاحقتهم. وبعد وصول القاوقجي إلى فلسطين في 25 آب 1936 تسلّم قيادة الثورة الفلسطينية بالنظر إلى خبرته وتجاربه، وأصدر بلاغات إلى الأمة الفلسطينية والأمة العربية الإسلامية كي تذيع أخبار المعارك المنتصرة، وتحث على حمل السلاح والجهاد من أجل إنقاذ فلسطين من الظلم والاعتساف، وأسس محكمة ثورية ولجاناً خاصة للإعاشة والتموين مرتبطة به.
وبناءً على ذلك، وعلى تنظيم القاوقجي للثوار، وعلى كون المجاهدون الذين أتوا معه إلى فلسطين مدربين ومنظمين، ومعظمهم خاضوا معارك الثورة السورية الكبرى، حصل تغير جوهري في نوعية العمليات العسكرية وغدا هناك زمر يتراوح عدد الوحدة منها ما بين خمسين وسبعين رجلاً، تمارس ما تعتقد بأنه حرب وطنية تدافع بها عن بلادها في وجه الظلم والتهديد بالسيطرة اليهودية، كما اشتدت حماسة الفلسطينيين إلى القتال، وإلى الاستمرار في الإضراب العام، بعد فتور في هذين الأمرين.
نجاحات القاوقجي تفاجئ البريطانيين
بدأت السرايا التي شكّلها القاوقجي القتال في جبل جريش في 25 آب 1936 حيث تمّ اسقاط طائرتين انكليزيتين. وخاضت معركة في 2 أيلول، وانتصرت على الانكليز وأوقعت بهم العديد من القتلى والجرحى وأسقطت لهم طائرتين. ثم خاضت معركة جبع في 24 أيلول وانتصرت على الفرق الإنكليزية على الرغم من الإمدادات التي أتى بها الانكليز إلى فلسطين. وقامت بهجوم ناجح على مراكز الجيش الإنكليزي في نابلس في 29 أيلول وهزمته في بيت أمرين، وخرّبت خطوط مواصلاته في هذه المنطقة مما اضطره إلى استقدام قوات إضافية إلى فلسطين لسحق الثورة. فكان لهذه الانتصارات الباهرة أثر كبير في فلسطين، إذ ضعفت هيبة الجيش الانكليزي، وتلاشت الدعايات المضللة، وتأججت نار الحماسة في النفوس، وازداد الأمل بالنصر، كما كان لها أثرها أيضاً في سورية والأردن والعراق، إذ اشتد الهياج في هذه الدول، وقوي تأييد الثورة الفلسطينية، وتألفت لجان الإسعاف والإعانات التي كانت تتلقى المساعدات والأموال بالمزيد من البذل والعطاء.

فوزي القاوقجي
فوزي القاوقجي

القاوقجي يثني على المفرزة الدرزية
أما عن السرية اللبنانية، فقد جاء في مذكرات فوزي القاوقجي، في الحديث عن الفوضى والمشكلات التي عانت منها حملته، ما يلي: “اعترف ان المفرزة الدرزية اللبنانية كانت نموذجاً عظيماً للمجاهدين في تحمّلهم وصبرهم وقلة مشاكلهم، وكان قائدها حمد بك صعب مثال النخوة والاقدام”. وعن خسائر “السرية الدرزية” يرد في مذكرات القاوقجي استشهاد محمود أبو يحيى من جبل العرب في معركة بلعا “وهو الذي كان له الفضل في الصمود والمحافظة على خط دفاعنا المركزي. وقد أبدى – شأنه في كل معركة عرفته فيها في معارك الثورة السورية – من الجرأة والشجاعة ما يعجز عن وصفها القلم”. كما يردّ في “يوميات أكرم زعيتر” استشهاد المجاهد حسين البنّا من شارون، إحدى بلدات قضاء عاليه في معركة بلعا، واستشهاد ملحم سعيد سلّوم حماده من بعقلين، إحدى بلدات الشوف، في معركة كفرصور في 8 تشرين الأول 1936، بعد أن أردى ضابطاً بريطانياً من ثقب الدبابة. ولقد تحاشى أهله في بعقلين الإجابة عن أسئلة السلطة المتكرّرة عن سبب موته وإقامة عزائه من دون جثة، نظراً لما كان يتعرض له أهل المجاهدين من ملاحقات ومضايقات وعمليات دهم في وقت ساعدت فيه السلطة المنتدبة الفرنسية على سورية ولبنان السلطة المنتدبة البريطانية على فلسطين، على قمع الثورة الفلسطينية ومنع وصول المساعدات إليها والتحاق المجاهدين من سورية ولبنان بها.

خلافات على الطريقة العربية
واجهت القاوقجي مشكلاتٌ عديدة منها غياب الدعم العربي المطلوب، والمشكلات الداخلية بين مجاهدي حملته، والتي منها عصيان المفرزة العراقية بسبب الرواتب، وهي التي كانت أكثر انتظاماً من غيرها. ومنها الخلافات الفردية بين الحماصنة والشوام، التي كانت تصل أحياناً إلى استعمال السلاح، ومنها تحول الخلافات الفردية إلى خلافات بين السرايا، وإصرار بعض الزعماء على تنفيذ آرائهم وخططهم، وعودة بعض العناصر إلى مواطنها، واتصال بعض العناصر برجال الاستخبارات البريطانية في فلسطين ورجال الاستخبارات الفرنسية في درعا. وكان القاوقجي يبذل جهداً كبيراً في حل هذه المشكلات وتلافي أضرارها ويضطر أحياناً إلى تسريح المشاغبين. كل هذه العوامل، إضافة إلى إنهاء الإضراب العام في فلسطين تلبية لنداء ملوك العرب وإعلان الإنكليز للهدنة، اضطرت فوزي القاوقجي إلى الانسحاب من فلسطين في تشرين الأول 1936.

سباق تسلح بين الفلسطينيين واليهود
كان الفلسطينيون في أمس الحاجة إلى السلاح في صراعهم مع اليهود والجيش البريطاني، وهو الذي كان بكمّه ونوعه أهم أسباب انتصار اليهود في جميع الحروب العربية الإسرائيلية. لقد كانت سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين لا تسهّل هجرة اليهود واستيطانهم فقط، بل توفّر لهم أيضاً الحماية بسياستها المنحازة، وتصادر الأسلحة من العرب وتقمع انتفاضاتهم التي قامت من أجل وقف هجرة اليهود إلى فلسطين ومنع إقامة كيانهم العنصري.
وفي المقابل، كان اليهود يحصلون على السلاح إمّا من مصادر السلطة البريطانية أو بواسطة التهريب بتواطؤ مع المسؤولين البريطانيين. واكتشاف شحنة الأسلحة والذخائر في ميناء يافا، المهربة إليهم داخل براميل، في أواخر سنة 1935، كان من أهم أسباب ثورة الفلسطينيين في سنة 1936، كما أن اليهود عملوا بشتى الأساليب على إفراغ أسواق البلدان العربية المجاورة وبيوت الأهالي من السلاح لتلافي احتمال انتقاله إلى الفلسطينيين، والّفوا لهذا الغرض شركة لشراء السلاح من سورية ولبنان بعد انتفاضة الفلسطينيين في سنة 1929، المعروفة، بانتفاضة البرّاق، وبعد تعاظم شعور العداء في الدول العربية إزاءهم وإزاء البريطانيين. وقد اكتشف رجال الأمن اللبنانيين شركة يهودية تشتري السلاح من سورية ولبنان، وتجمعه في مستودع في صحراء الشويفات، وتنقله إلى اليهود. وهذه الأسلحة هي بنادق ومدفع رشاش وقنابل يدوية.
منذ أن قامت الثورة الفلسطينية في سنة 1936 شرع الكثيرون من أبناء سورية ولبنان وشرق الأردن بنقل السلاح إلى الفلسطينيين والقتال إلى جانبهم. وإذا كان أكثر ناقلي السلاح قد فعلوا ذلك بدافع وطني، فإن قلة منهم توخّت الربح؛ لأن البندقية، مثلاً، كانت تُشترى في لبنان بـ 14 ليرة وتباع في فلسطين بـ 31 ليرة، ومع هذا الدافع التجاري لهؤلاء، فقد أسدوا خدمة جلّى للفلسطينيين، وللمتطوعين للقتال إلى جانبهم؛ لأنهم بحاجة إلى السلاح والذخيرة. وكان بعض السلاح المنقول إلى فلسطين من بقايا سلاح الثورة السورية الكبرى، وبهذا ردّ الدروز للفلسطينيين في سنة 1936، الجميل الذي صنعوه مع مجاهدي الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

قوافل السلاح تنطلق من الشوف وعاليه
لم يكن نقل السلاح وتسرّب المسلحين إلى فلسطين عمليةً سهلة، بل كانا مغامرة محفوفة بالمخاطر، وبخاصة بعد تكاثر حواجز القوى الأمنية لمنعهما. وقد حفلت عشرات الأعداد من الصحف المختلفة الصادرة آنذاك، وبيانات السلطات، ونشرات راديو فلسطين، بأخبار الاشتباكات الكثيرة بين الجند والمسلحين في مختلف المناطق اللبنانية، ولا سيما مناطق الحدود اللبنانية الفلسطينية، والمسالك الرئيسية التي كانت الكمائن تقام فيها، كما حفلت بأخبار المداهمات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع، وفي لبنان الجنوبي، بحثاً عن السلاح وناقليه.
جرت أضخم مسيرة من مسيرات المنتقلين إلى فلسطين، في ليل 10 – 11 أيلول سنة 1936، وضمت ما يقارب المئة مسلح من مختلف قرى الشوف وعاليه. ولدى وصولهم إلى تومات نيحا، اصطدموا برجال الدرك الذين كمنوا لهم في هذا المكان؛ إذ كان مخبرو السلطة قد أعلموها بتحركهم، وبأن في نيتهم نقل السلاح إلى الثوار الفلسطينيين والالتحاق بهم. لكن هذا الاشتباك لم يحل دون متابعة أكثر المسلحين لطريقهم في حين عاد قلة منهم إلى قراهم.
اهتمت السلطة الفرنسية المنتدبة بهذه الحادثة. وبناءً على توجيهاتها إزداد اهتمام الحكومة اللبنانية والمسؤولين الأمنيين، فعززوا قوى الدرك على الحدود اللبنانية الفلسطينية، واهتم على الأخص محافظا جبل لبنان ولبنان الجنوبي، اللذان تجري الحوادث في منطقتيهما. فحضر محافظ جبل لبنان إلى اعالي الشوف في 14 أيلول 1936، واجتمع بقائمقام الشوف وقومندان الدرك وزوّدهما بالتعليمات اللازمة، ثم عاد إلى بيروت حيث اجتمع برجال السراي الصغير. وحضر محافظ الجنوب إلى بيروت في 18 أيلول ليقابل أمين سر الدولة، ثم عُقد اجتماعٌ أمني ضمه ومدير الداخلية وقائمقام الشوف، حيث إتفق على تعزيز قوى الأمن واتخاذ الإجراءات المتشددة والكافية للقضاء على ما سمي “تهريب السلاح”. ومن جملة ما اتخذ من إجراءات استعانة قوات الدرك في مرجعيون بالمتطوعين لمساعدتها في مهماتها.

القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ
القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ

عمليات دهم وقمع بالجملة
باشر رجال الدرك ابتداءً من 12 أيلول مداهمة بيوت المسلحين الذين عُرفت اسماؤهم من رجال الاستخبارات وممن القي القبض عليهم من المسلحين الذين عادوا من تومات نيحا ولم يكملوا طريقهم إلى فلسطين. وداهموا ايضاً بيوت المتهمين بامتلاك السلاح، والمتعاطفين مع الثوار الفلسطينيين، الذين كان يخشى أن يقودهم التعاطف إلى القتال مع الثوار أو تزويدهم بالسلاح. وصادروا في بضعة أيام كميات كبيرة من الأسلحة بلغت من الشوف وحده 51 بندقية و1050 رصاصة. وارتفع هذا العدد كثيراً مع تتابع عمليات الدهم والتفتيش فبلغ ما جمع من بلدة نيحا، حتى تاريخ 19 أيلول 1936، 59 بندقية. وتمّ اعتقال الكثيرين. ورافق عمليات الدهم اشتباكات عدة منها اطلاق النار على رجال الدرك في 13 أيلول من الاكمات القائمة وراء بلدة مزرعة الشوف عندما كان رجال الدرك يسوقون الموقوفين منها، والاشتباك قرب بلدة عين زحلتا الذي جرى بعد بضعة أيام وقُتل فيه أحد أبناء البلدة محمد كرامي.

السلطات تحتفل بإحباط تهريب الأسلحة
كان اعتقال مئات الأشخاص مثار إدانةٍ من الوطنيين؛ لأن اعتقالهم بحسب ما جاء في احتجاج أمين الريحاني على أعمال الحكومة “يخدم المخططات البريطانية والصهيونية ويعزل الثورة الفلسطينية”. بيد أن ما احتج عليه الوطنيون كان مدعاة لتقدير السلطة. فقد منحت الحكومة اللبنانية قائمقام الشوف ميدالية الاستحقاق اللبناني الفضية ذات السعف لأنه بفضل التدابير التي اتخذها في ظروف صعبة ساعد على توطيد النظام والأمن في قضاء الشوف ” كما جاء في مرسوم منحه هذا الوسام. كما منحت الحكومة ميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثانية لضابط بيت الدين والمختارة، وميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الرابعة لجنوده، لنجاحهم في تشتيت عصابة كبيرة في ليل 10 – 11 أيلول وتوقيف الكثير من المسلحين. وجاء في مرسوم منح الضابط الميدالية بأنه تمكّن خلال يومين من إماطة اللثام عن أفراد تلك العصابة وعددهم سبعون، واعتقال 64 شخصاً ومصادرة 48 بندقية و1879 خرطوشة.
ومع استمرار الثورة في فلسطين حتى سنة 1939 استمر انتقال المسلحين اللبنانيين إليها وتهريب السلاح إلى مجاهديها. ولم يكن ذلك يتم عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً عبر المناطق السورية وبفضل مبادرات منظمة أو فردية. فبعض أهالي منطقة راشيا نقلوا السلاح إلى أهل أقليم البلان(الجولان) وبخاصة أهل مجدل شمس، وهؤلاء بدورهم نقلوه إلى فلسطين. وكان المسلّحون اللبنانيون ومهربو السلاح يستعينون بأهل الإقليم في أثناء انتقالهم إلى فلسطين لمعرفة هؤلاء بالمسالك المؤدية إلى قراها الشمالية.

تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين
تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين

محاكمات عسكرية وغرامات باهظة
واستمرت الكمائن والمداهمات والاعتقالات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع وفي لبنان الجنوبي، وهي لم تكن تخلو من الاشتباكات، منها الاشتباك الذي جرى في ليل 9 – 10 آب 1938 في سد بنت جبيل، بين كونين وبنت جبيل، وأدى إلى جرح مسلحين عدة ومقتل مزيد أبو حمدان من قرية الكحلونية (الشوف)، مما عزّز اتهام السلطة لابن هذه القرية، حمد صعب، قائد السرية اللبنانية في حملة فوزي القاوقجي إلى فلسطين، بأنه المسؤول عن تهريب السلاح. وبسبب هذه الحادثة، وسواها من الحادثات مع الجماعات المسلحة، لفتت المفوضية العليا الفرنسية الحكومة اللبنانية إلى تعدّد حوادث هذه الجماعات، وطلبت منها اتخاذ تدابير فعّالة لمقاومة هذه الأعمال.
كان المعتقلون يحالون إلى المحكمة العسكرية في بيروت. وقد بلغ عددهم في 4 كانون الأول 1938، 350 شخصاً. وكانت المحكمة العسكرية تصدر أحكامها بالجملة، فقد أفرجت بتاريخ 9 كانون الثاني 1937 عن 65 معتقلاً من أبناء الشوف بعد أن قضوا في السجن مدداً أكثر من المدد المحكوم عليهم بها. وأصدرت أحكامها بتاريخ 3 كانون الأول 1938 على 50 رجلاً بالسجن لمدة سنتين، ودفع غرامة مالية مقدارها ألفا ليرة (وهو ما كان يمثّل مبلغاً باهظاً) عن كل سجين.
توقّع المسؤولون البريطانيون المزيد من أعمال المقاومة العربية “وذلك بالنظر للجهود المتصاعدة في تهريب الأسلحة إلى داخل فلسطين”، فطلب القنصل البريطاني في بيروت والمندوب السامي في فلسطين من السلطة الفرنسية المنتدبة ومن الحكومة اللبنانية وقف تسرب الجماعات المسلحة من لبنان إلى فلسطين. وتضمنت مذكرة المندوب السامي السر أرثر واكهوب إلى الحكومة اللبنانية في أواخر تشرين الثاني 1937، زيادة الحاميات العسكرية على الحدود.

السلطات الفرنسية تتنصل
وأرسلت سلطة الانتداب البريطاني تقريراً إلى لجنة الانتدابات التابعة لعصبة الأمم، في اوائل 1939، أشار إلى استفحال حركة تهريب الأسلحة وإلى أن موظفي الأمن العام صادروا كمية من البنادق، معظمها مصنوع في ألمانيا، وكمية من المسدسات. وعند إثارة هذه القضية أمام لجنة الانتدابات لم ينكر ممثل فرنسا الكونت دوكه المحاولات الكثيرة لتهريب السلاح وجهود الأمن العام لوقفها، كما انه صرّح بأن لا مصلحة لسلطة الانتداب في سورية ولبنان في تشجيع حركات التهريب وتقديم المساعدات للثوار الفلسطينيين، بل مصلحتها في عكس ذلك.
إن تأييد السوريين واللبنانيين للثوار الفلسطينيين، وتقديم الدعم المادي والأسلحة لهم، وقتال البعض إلى جانبهم، كان مثار تقدير الثوار الفلسطينيين وإصدارهم بيانات الشكر، ومنها بيان القائد العام للثورة يوسف سعيد أبو درّة في 7 آذار 1939 إلى السوريين واللبنانيين، الذي جاء فيه: “لا عجب ولا غرابة فإن أخوّتهم الإسلامية ودماءهم العربية الزكية التي تسري في تلك العروق الحية جعلت إخواننا سكان سوريا ولبنان، خصوصاً أهالي بيروت، يبذلون الجهد في مساعدة إخوانهم في الدين والعروبة”

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading