الأربعاء, أيار 7, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 7, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

هذا العدد

تستمر الضّحى في عددها الجديد (العدد 24، تمّوز 2018) في ترسيخ التوجّهات التي أرستها منذ بضعة أعداد ومحورها الجمعُ بين الأصالة والحداثة في آنٍ معاً. وجرت ترجمة الاستراتيجية تلك، عملياً، في مروحةٍ من الأبواب والموضوعات قطبُها الأساس الإسهامُ المباشر في نشر نماذج حيّة من “الأخلاق التوحيدية” و”تراث العقل” وآيات من الإسهامات الاستثنائية لرجالٍ عظامٍ أو لِسيَرٍ لا تُنسى في تاريخ الموحدين الدروز، الروحي أو السياسي والتاريخي والاجتماعي.
في هذا الجانب الأساس، تضمّن العدد الجديد من الضّحى إسهامات عميقة بدأت بكلمة سماحة “شيخ العقل” التوجيهية، ثم “خطاب العقل”، ف “ثقافة الحوار وقبول الآخر عند الموحدين الدروز”، إلى سلسلة من الإضاءات على شخصيات موحّدة نادرة المثال في الإخلاص للقضايا الوطنية والعربية وفي الإقدام والوصول بفضيلة الشجاعة إلى ذروتها (الشهيد حمد صعب، والعميد عصام أبو زكي).
لكن الجانب الأساس هذا لا يُعفي الضّحى من واجب المقاربة اللصيقة، أيضاً، للمسائل الملحّة الراهنة والماثلة بقوة أمام قراء يومياً وفي كل مكان. وستكون الضّحى كثيرة التجريد وغريبة جداً عن مجتمعها ومشكلات قرّائها وأصدقائها وهمومهم إن لم تفتتح بين صفحاتها مساحات مناسبة للهموم الراهنة تلك والتي أسميناها “مشكلات ومسائل اجتماعية”. في الجانب اليومي الراهن هذا تضمّن العدد إضاءات تفصيلية على مشكلات الشباب الأكثر ألحاحاً والتي أسميناها “الشباب على مفترق خطير”، كما أضأنا تفصيلاً (ولعله سبْقٌ صحافي لمجلة فصلية) على أعمال وتوصيات “مؤتمر جودة الدواء والغذاء والماء” المنعقد في الجامعة اللبنانية قبل بضعة أسابيع وبمشاركة علماء وبحّاثة من جامعات ومراكز أبحاث عدة، ولحظنا التوصيات التفصيلية التي انتهى إليها المؤتمر. ولن تفوت القرّاء أيضاً أهمية مقالة “ترشيد استخدام المياه في الريّ” التي تضمنها العدد الجديد.
وفي بابي “ثقافة وآداب”، و”تحقيقات”، سيجد القارئ أعمالاً أصيلة، قيّمة جداً، لا يفيد معها الاختصار، بل نترك أمر اكتشافها وتقدير أهميتها للقارئ نفسه.
وأخيراً، سيجد قارىء العدد 24 باباً جديداُ أسميناه “مساهمات حرّة” تضمّن مساهمتين كتابيتين مهمتين من الأصدقاء القراء، وتأمل الضّحى أن تتحوّل التجربة هذه إلى تقليد يتعزز عدداً بعد آخر.
هذه هي الضّحى في عددها الجديد (24)، وتبقى غايتها، أولاً وأخيراً، الإسهام ما وسِعها الأمر في نشر تراث العقل وقيم الأخلاق واستذكار الاسهامات المعروفية الوطنية والقومية مع مساحة واسعة لهموم الحداثة والشأن الحياتي لدى قرّائها.

واللّه الموفّق

المُخَدِّرات آفة العصر!

تقديم:

نبدأ الملف بتوصيف سماحة شيخ العقل لظاهرة انتشار المخدرات باعتبارها “آفة العصر”. وهي حقاً كذلك. لا نظن أن مرضاً (حتى السرطان) فتك بناس عصرنا كما فعلت المخدرات، بأنواعها المختلفة. لم تفعل الحروب، بمآسيها وضحاياها، ما فعلته آفة المخدرات.
كيف لا، والمخدرات تستهدف الأجيال الشابة على وجه الخصوص. وهي بذلك لا تقتل حاضر الجماعة والمجتمع فقط، بل تقتل مستقبلهما قبل ذلك وفوقه. هل رأيت آفة أخرى تحيل الحي ميتاً فيما هو على قيد الحياة؟ وتحيل الشاب كهلاً، فيما هو في ريعان صباه؟
هل رأيت آفة أخرى إذا أقفلت الباب في وجهها دخلت من النافذة؟ وإذا أحكمت إقفال النافذة تسللت عبر مسام الجدران؟
هل رأيت آفة أخرى تتمكن من مريضها، إلى الحد الذي يفقد معه كل إرادة للمقاومة، فيستسلم لها استسلام العبد الخانع الذليل؟
هل رأيت آفة أخرى تنسي مريضها أهله، أمه وأباه، وأخوته، بخيالات وصور وهمية مرضية من عالم اللاوعي؟
هل رأيت آفة أخرى تفقد مريضها اتزان العقل، والوعي السليم، والإحساس بالعيب وسائر قيم مجتمعه، وتحيله مريضاً مرمياً على الهامش يتحرك ب 10 بالمئة لا أكثر من طاقته وقدرته ووعيه وإمكاناته، وهو القادر على أن يكون منتجاً فاعلاً وعضواً نشطاً في أسرته ومجتمعه؟
هذا بعض ما دفع، ويدفع، كل المجتمعات لفعل ما تستطيع لدرء هذه الآفة الفتّاكة عن مجتمعها وشبابها وناشئتها؛ وعن مدارسها على وجه الخصوص.
وهو أيضاً بعض ما دفعنا في لإعادة فتح الملف المؤلم، بل الخطير، وبخاصة على شبابنا وناشئتنا، عدة المستقبل وعتاده.
يصح في المخدرات القول، إذا أردت أن تقتل شعباً على نحو ناعم، ومن دون دماء، فوزّع فيه المخدرات على أنواعها، من الحشيشة إلى حبوب ’ الكبتاغون’ إلى سواهما مما تجود به العقلية الشيطانية لشبكات المنتفعين بتجارة المخدرات، دولاً (ربما)، وشركات، ورؤوس أموال، وشبكات اتجار وموزعين. ألم تحاول دول استعمارية أن تفرض المخدرات بالقوة على مستعمرات لها كي تضمن “موت” شعوب المستعمرات تلك، وتأبيد استعمارها بالتالي؟
يبدأ الملف يتقديم تعريف علمي للمخدرات وما تحتويه من عناصر مكوّنة، وما تنطوي عليه من أضرار قاتلة.
ولأن الملف يتزامن مع “شهر الحرب على المخدرات”، شهر آذار، من كل عام. لذلك جعلنا أولى فقرات الملف ثبتاً سريعاً بأهم الندوات التي دعت إليها لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، واللجنة الدينية واللجنة الإجتماعية تخصيصاً، لإظهار مخاطر آفة المخدرات، إلى أنشطة أخرى. ونختم الملف بمقالتين/محاضرتين لكل من:
– العميد أنور يحي، الرئيس السابق للشرطة القضائية، في قوى الأمن الداخلي، في لبنان،
– والشيخ سلمان عودة، عضو اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.
وغايتنا من ذلك كله التحذير ثم التحذير من هذه الآفة الفتّاكة، والحضّ على التعاون في درء مخاطرها، وبخاصة عن شبابنا.


تعريف المخدرات

المخدِّرات هي كلّ ما يمنع الجهاز العصبي عن القيام بعمله وهي مادّة تسبّب تسكين الألم والنّعاس أو غياب الوعي. ويعرّفها القانون على أنّها مواد تُسمّم الجهاز العصبي وتسبّب الإدمان وتُمْنَعُ زراعتُها أو صناعتها أو تداولها إلّا لأغراض يُحدّدها القانون وتكون فقط بواسطة من يُرَخَّص له.

أنواع المخدّرات

تُصَنّف المخدِّرات تبْعًا لمصدرها إلى:

مخدِّرات طبيعيّة:

وهي من أصل نباتي فهي تُسْتَخرَج من أوراق النّبات أو أزهاره أو ثماره.
أ- الخشخاش: تتركّز في الثّمار غيرِ الناضجة.
ب- القنّب: تتركّز في الأورق والقمم الزهرية
ج- القات: تتركز في الأوراق
د- الكوكا: تتركز في الأوراق – جوزة الطيب: تتركز في البذور
ويمكن أن تُسْتخلَص المواد المخدّرة باستعمال المُذيبات العضويّة: الحشيش والأفيون والمورفين والكوكايين.
مُخدِّرات نصف صناعيّة:
وهي مواد مُخدِّرة مستخلَصة من النباتات المخدرة متفاعلة مع موادّ أخرى فتتكوّن موادّ أكثر فعالية من المواد الأولية، على سبيل المثال: الهيرويين ينتج من تفاعل مادة المورفين مع مادة أستيل آلورايد.

مُخدِّرات صناعية:

تنتج من تفاعلات كيميائية معقدة بين المركبات الكيميائية المختلفة في معامل شركات الأدوية أو معامل مراكز البحوث. ويمكن أن تُصنَّف تبعًا لتأثيرها على النشاط العقلي للمتعاطي وحالته النفسية إلى مُهبّطات ومُنشّطات ومُهلوسات. الحشيش باعتباره مُهبّطًا بالجرعة الصغيرة ومهلوسًا بالجرعة الكبيرة.
وإذا ما أخذنا الأساسين السابقين سويّة فيمكن أن نصنفها إلى مُهبّطات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، ومنشّطات طبيعية أو صناعية، مهلوسات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، والحشيش.


تاريخ:

إنّ استخدام المواد المخدّرة يعود إلى عصور قديمة ولكن البدايات المعاصرة لاستخدام المخدرات خاصّة في الغرب بدأت بالاستخدام الطبّي للمخدرات وكان الأطبّاء يصفون مركّبات الأفيون كعلاج. وكتب أحد الأطباء كتابًا يبيّن للأمهات كيفية استخدام المخدّرات لعلاج أطفالهنّ وكان جهل الأطباء حينئذ بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن إدمان هذه المواد قد جعلهم يستخدمونها على نطاق واسع لعلاج العديد من الأمراض والآلام وقد اتّسع نطاق استخدامها إلى أن دخلت في كلّ مهدّئات الأطفال. وقد استخدم في الحرب الأهلية الأمريكية لعلاج حالات الإصابة حتّى سُمِّيَ الإدمان على المورفين آنذاك بـ “مرض الجُندي” وفي سنة 1898 أنتجت شركة باير في ألمانيا مادة مخدرة جديدة على اعتبار أنها أقل خطورة وكانت هذه هي مادّة الهيرويين التي تبيّن أنها أكثر خطورة في الإدمان من المورفين. وعندما أدرك الأطبّاء وعموم النّاس مخاطر الإدمان كانت المخدّرات قد انتشرت بشكل واسع جدًّا.


الإدمان:

وهو التعوّد على الشّيء مع صعوبة في التخلّص منه. لكنّ هذا التعريف لا ينطبق على كافّة المخدرات وعقاقير الهلوسة، لذلك رأت هيئة الصحّة العالمية في عام 1964 استبدال كلمة إدمان واستخدام الاعتماد الفسيولوجي (أو الصحّي) والاعتماد السيكولوجي (أو النّفسي).
الاعتماد الفسيولوجي يُستخدَم للدلالة على أنّ كيمياء الجسم حدث بها تغيّرات معيّنة بسبب استمرارية تعاطي المواد المخدِّرة، فيتطلّب الأمر زيادة كميّة المخدِّر دومًا للحصول على نفس التأثير، والانقطاع عن تعاطي المخدّر دفعةً واحدة ينجم عنه حدوث نكسة صحية وآلام شديدة قد تؤدي إلى الموت في النهاية.
أمّا الاعتماد السيكولوجي فيدلّ على شعور الإنسان بالحاجة إلى العقاقير المخدّرة لأسباب نفسية فقط والتوقّف عنها لا يسبب عادة نكسات صحيّة أو عضويّة.
يعود سبب الاعتماد الفسيولوجي إلى دخول هذه السموم في كيمياء الجسم فتُحدث تغيّرات بها. ثمّ لا تلبث بالتدرّج أن تتجاوب مع أنسجة الجسم وخلاياه. وبعدها يقلّ التجاوب لأنّ أنسجة الجسم تَعْتَبرُ المادة المخدّرة كأحد مكونات الدّم الطبيعيّة، وبذلك تقلّ الاستجابة إلى مفعولها ممّا يضطر المُدمن إلى الإكثار من كميّتها للحصول على التأثيرات المطلوبة. فإنْ لم يستطع المدمن لسبب ما الاستمرار بتعاطيه، تظهر بعض الأمراض التي تُسمّى بالأعراض الانسحابية. وتبدأ هذه على شكل قلق عنيف وتدميع العيون، ويظهر المريض وكأنّه أصيب برشح حادّ، ثم يتغيّر بؤبؤ العين، ويصاحب كلّ ذلك ألم في الظهر وتقلّص شديد في العضلات مع ارتفاع في ضغط الدم وحرارة الجسم.


أضرار المخدرات:

الأضرار الجسمية:

1- فقدان الشهيّة للطعام ممّا يؤدي إلى النحافة والهزال والضعف
العام المصحوب باصفرار الوجه أو اسوداده لدى المُتعاطي، كما تتسبّب في قلّة النشاط والحيوية وضعف المقاومة للمرض الذي يؤدّي إلى دُوار وصداع مزمن يصحبه احمرار العينين، ويحدث اختلال في التوازن والتآزر العصبي في الأذنين.
2- يُحدِث تعاطي المخدّرات تهيّجًا موضعيًّا للأغشية المخاطية
والشُّعَب الهوائية وذلك نتيجة تكون مواد كربونية وترسبها في الشُّعَب الهوائية حيث ينتج عنها التهابات رئويّة مزمنة قد تصل إلى الاصابة بالتدرّن الرئوي.
3- يحدث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الجهاز الهضمي والذي
ينتج عنه سوء الهضم وكَثرة الغازات والشّعور بالانتفاخ والامتلاء والتُّخمة التي عادة ما تنتهي إلى حالات الاسهال الخاصّة عند تناول مخدِّر الأفيون والامساك. كذلك تُسبب التهاب المعدة المزمن فتعجز المعدة عن القيام بوظيفتها وهضم الطعام، كما تسبب التهابًا في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها في هضم الطعام، وتزويد الجسم بهرمون الأنسولين الذي يقوم بتنظيم مستوى السكر بالدم.
4- كما تُتلف الكبد وتُليِّفه حيث يُحلِّل المخدّر؛ الأفيون مثلًا خلايا
الكبد، ويُحدث بها تليُّفًا وزيادة في نسبة السكر، ممّا يسبّب التهاباً وتضخماً في الكبد وتوقّف عمله بسبب السموم التي تُعْجِز الكبد عن تخليص الجسم منها.
5- تسبب التهابًا في المخ وتحطيم وتآكل ملايين الخلايا العصبية
التي تكوّن المخ ممّا يؤدي إلى فقدان الذاكرة والهلوسات السمعية والبصرية والفكرية.
6- بالإضافة إلى اضطراب في القلب، ومرض القلب الحولي
والذّبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، وانفجار الشرايين، وتسبب فقر الدم الشديد وتكسُّر كريات الدم الحمراء وقلة التغذية، وتسمّم نخاع العظام الذي يصنع كُريات الدم الحمراء.
7- التأثير على النشاط الجنسي، حيث تُقلّل من القدرة الجنسية
وتُنقص من إفرازات الغُدد الجنسية.
8- التورّم المنتشر، واليرقان وسيلان الدم وارتفاع الضغط الدموي
في الشريان الكبدي.
9- الاصابة بنوبات الصّرَع بسبب الاستبعاد للعقار، وذلك بعد
ثمانية أيام من الاستبعاد.
10-إحداث عيوبٍ خَلْقيّة في الأطفال حديثي الولادة.
11-مشاكل صحيّة لدى المدمنات الحوامل مثل فقر الدم ومرض
القلب، والسكري والتهاب الرئتين والكبد والاجهاض العفوي، ووضع مقلوب للجنين الذي يولد ناقص النّمو، هذا إذا لم يمت في رحم الأم.
12-تعاطي المخدّرات قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان
13- تعاطي جرعة زائدة ومُفرطة هي انتحار.

الأضرار النّفسيّة:

1- يُحدِث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الإدراك الحسّي العام
وخاصة إذا ما تعلق الأمر بحواس السمع والبصر، بالإضافة إلى الخلل في إدراك الزّمن فيصبح بطيئًا، واختلال في إدراك المسافات فتصبح طويلة، واختلال إدراك الحجم فتتضخم الأشياء..
2- يؤدي تعاطي المخدرات إلى اختلال في التفكير العام وصعوبة
وبطء به، وبالتالي يؤدي إلى فساد الحكم على الأمور والأشياء والهلوسة والهذيان.
3- يؤدي تعاطي المخدرات إلى آثار نفسية مثل القلق والتوتّر
المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والشعور بالانقباض والهبوط مع عصبيّة وحِدّة في المزاج وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
4- تُسبّب المخدرات اختلالًا في الاتزان والذي يُحدِث بدوره بعض
التشنّجات والصعوبات في النطق والتعبير عما يدور في ذهن المتعاطي بالإضافة إلى صعوبة المشي.
5- يؤدي تعاطي المخدّرات إلى اضطراب في الوجدان، حيث ينقلب
المتعاطي بين حالة المرح والنشوة والشعور بالرضا والراحة بعد تعاطي المخدر وحالة ضعف في المستوى الذهني وذلك لتضارب الأفكار لديه فهو بعد التعاطي يشعر بالسعادة والنشوة والعيش في جو خيالي وزيادة النشاط والحيوية ولكن سرعان ما يتحوّل ذلك إلى ندم وواقع مؤلم وفتور وإرهاق مصحوب بخمول واكتئاب.
6- تُسبب المخدرات حدوث العصبية الزائدة والحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم والذي ينتج عنه بالضرورة ضعف القدرة على التّواؤم الاجتماعي.

الحشيش
الحشيش هو مخدِّر يُصنع من القِنّب الهندي (Cannabis Sativa) وتتمّ زراعته في المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة، والماريجوانا هي أوراق وأزهار القنّب الجافة. والسائل المُجَفّف من المادّة الصمغية هو الحشيش.
وهو أكثر المخدّرات انتشارًا في العالم لرخص ثمنه وسهوله تعاطيه فلا تلزمه أدوات معقّده مثل “سرنجات” الإبر أو غيرها. وأوراق نبات القنّب تحتوي موادَّ كيميائيةً tetrahydrocannabinol THC وكميّات صغيرة من مادة تشبه الأتروبين تسبّب جفاف الحلق. ومادة تشبه الأستيل كولين تسبب تأثير دخان الحشيش المهيّج. والحشيش من المواد المهلوسة بجرعات كبيرة ويُعتبر تدخينه من أكثر الطّرق انتشارًا، وأسرعها تأثيرًا على الجهاز العصبي المركزي نظرًا لسرعة وصول المادة الفعالة من الرئة إلى الدم ومنه إلى أنحاء المخ.

تأثيره على الرّئتين
من الأمراض الأولى التي يُحدِثها تعاطي الحشيش هي التهاب القصبات الهوائية وأمراض الرّئة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحشيش يسبّب سرطان الرّئة. كما قد ثبت أنّ له تأثيرًا على الأجِنّة والأجيال المستقبليّة وذلك لأنّه يؤثّر على صحّة أجهزة الجنس لدى الجنسين ويمكن أن يوقف الدّورة لدى النساء المتعاطيات. بالإضافة إلى أنّه يُجرّد المتعاطي من قوّة جهازه المناعي ويجعله عرضةً لخطر الجراثيم والفيروسات.
والاستهلاك الكثيف منه يؤدّي الى أمراض الجهاز التنفسي مثل السّعال المُزمن والرّبو والالتهاب الرئوي وقرحة الحلق المزمنة والتهاب البلعوم والسِّلّ.

تأثيره على الدّماغ
يؤثّر الحشيش على الجهاز العصبي، وله تأثير منعكس فهو يبدأ بتنبيه المتعاطي ثم تخديره وتعقبه هلوسة، ثم خمول فنوم مع زيادة الجرعة فيفقد الاحساس بالنشوة ويستبدله بإحساس يتدرّج من الحزن إلى الغضب حتى جنون العظمة ونوبات الغضب الشديدة.

الاستعمال الطبّي:
تُعَدّ الماريجوانا أفضل مُسكّنات الآلام حيث تختلف عن أغلب البدائل بأنّها لا تسبّب أيَّ إدمان نظرًا لخفّة أعراضها الجانبيّة. كما يمكن أن تُستعمَل كمضادّ للقيء ومنشّط للشهيّة وتبيّن الدراسات أنَّ الماريجوانا يمكن أن تساعد في علاج الكثير من الأمراض المختلفة مثل الأمراض التي تتسبب بآلام كبيرة ولا تنفع معها المهدّئات المتوافرة في المستشفيات المتخصِّصة أو قد يؤدي كثرة استخدام المهدئات الطبيّة إلى مضاعفات أخرى أو تفاقم المرض.

الآثار الجسديّة:
يُسبّب تعاطي الحشيش على المدى القصير تزايدًا في سرعة القلب وجفاف الفم واحمرار العينين (احتقان في الأوعية الدمويّة المُلتحمة) وانخفاضًا في الضغط داخل العين والاسترخاء العضلي والإحساس باليدين والقدمين الباردتين أو الساخنتين. تُظهر الـ EEG أو موجات ألفا الكهربائية ثباتًا إلى حدٍّ ما وتردّدات أدنى قليلًا عن المعتاد، وتسبّب المواد المخدِّرة “الاكتئاب الواضح في النشاط الحركي” عن طريق تنشيط مستقبلات الحشيش العصبية وتحدث مستويات الذروة المرتبطة بتسمُّم الحشيش تقريبًا 30 دقيقة بعد تدخينه وتستمرّ لساعات عديدة.

الآثار العصبيّة:
تَتَّسِق المناطق الدّماغية حيث تتواجد مستقبلات الحشيش بكثرة سائدة مع الآثار السلوكية الناتجة عن المواد المخدّرة، حيث مستقبلات الحشيش كثيرة جدًّا؛ هي العقد العصبية القاعدية المرتبطة بالمراقبة الحركية.
المُخَيخ: ويرتبط مع تنسيق حركة الجسد الحصين، ويرتبط مع التعليم والذاكرة والسيطرة والإجهاد.
القشرة الدماغية: ترتبط بالوظائف المعرفية العليا.
النواة المتكئة: التي تُعْتَبَر مركز المكافأة في المخّ ومناطق أخرى حيث تتركّز مستقبلات الحشيش باعتدال وهي منطقة ما تحت المهاد، التي تنظّمُ وظائف التماثل الساكن.
اللّوزة الدّماغية: وترتبط مع الاستجابات العاطفية والخوف.
النخاع الشوكي: ويرتبط مع الأحاسيس الطّرفية مثل الآلام.
جذع الدّماغ: ويرتبط مع النّوم والإثارة والتحكّم الحركي.
نواة الجهاز الانفرادي: ويرتبط مع الأحاسيس الباطنيّة مثل الغثيان والتقيُّؤ.

لقد أظهرت التّجارب على الحيوانات والأنسجة البشريّة تعطيل تشكيل الذاكرة على المدى القصير، الذي يتَّسِق بغزارة مستقبلات CB1 على الحصين ومنطقة الدّماغ المرتبطة بشكل وثيق مع الذاكرة. تمنع المواد المخدِّرة إطلاق العديد من الناقلات العصبية في الحصين مثل أستيل وبإفراز الغلوتامات، ممّا أدى إلى انخفاض كبير في نشاطات الخلايا العصبية في تلك المنطقة.

الكبتاجون

الكبتاجون أو فينيثايلين هو أحد مشتقات مادة الأمفيتامين. صنعت في البداية سنة 1919 في اليابان بواسطة الكيميائي أوقاتا. واستخدم لحوالي 25 عاما، باعتباره بديلًا أكثر اعتدالًا للأمفيتامين كان يُستخدم في تطبيقات كعلاج للأطفال “قصور الانتباه وفرط الحركة”، وكما شاع استعماله لمرض ناركوليبسي أو كمضاد للاكتئاب.

تاريخ الأمفيتامينات ومثيلاتها:

في البداية صنع الأمفيتامين في ألمانيا سنة 1887 وأطلق عليها عندما اكتشفت باسم المقوِّيات، وقد صُنعت لمكافحة الجوع.
الميثامفيتامين صُنعت أوّلًا في اليابان سنة 1919، وفي العشرينيّات استُخدمت الأمفيتامينات كعلاج للعديد من الأمراض مثل الصّرع وانفصام الشخصية, وإدمان المُسكرات والصّداع النّصفي (الشقيقة), وغيرها، في سنة 1930 لاحظ الطبيب بنيس أنها ترفع ضغط الدم، في سنة 1932 استخدمت لعلاج احتقان الأنف، وفي سنة 1933 لاحظ أليس تأثيرها كمنشّط للجهاز العصبي المركزي وموسّع لقنوات الجهاز التنفسي، وفي سنة 1935 استُخدمت لعلاج نوبات النّعاس الغالبة (Narcolepsy) (مرض يحدث فيه نوبات قصيرة من النّوم العميق والتي من الممكن أن تَحْدث في أي وقت خلال اليوم)، وفي سنة 1937م استخدمت لعلاج فرط النّشاط لدى الأطفال ADHD (تأثير الأمفيتامين على الأطفال يكون كمهدّئ بدلًا من تنبيههم بعكس البالغين).

الكبتاجون (captagon) هو الاسم التّجاري للفينثيلين (Fenethylline) الاسم العلمي وهو مركب مثيل للأمفيتامين التي تُعَدُّ من المنشطات، والمنشطات هي العقاقير التي تسبّب النشاط الزائد وكثرة الحركة وعدم الشعور بالتّعب والجوع وتسبّب الأرق وتُعتبَرُ من المخدِّرات التصنيعيّة وهي موادّ محظورة، ومن أشهر أنواع الأمفيتامينات ذلك الذي يُعْرَف تجاريًّا باسم “بنزدرين” وميثامفتيامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديسوكسين” وديكسترو أمفيتامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديكسيدرين”. كما توجد مركبات أخرى مثيلة للأمفيتاميات وهي فينثيلين والمعروف بالكبتاجون والفينمترازين المعروف تجاريًّا باسم “بريلودين” وفينديميترازين المعروف باسم “بليجين” وفينترمين
أشكال الأمفيتامينات: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

قد يعاني المُدمن من الهلوسات السمعيّة والبصريّة وتضطرب حواسُّه فيتخيّل أشياء لا وجود لها، كما يؤدي الاستعمال إلى حدوث حالة من التوهُّم حيث يشعر المُدمن أنَّ حشراتٍ تتحرّك على جلده. وهناك مَنْ تظهر عليه أعراض تشبه حالات مرض الفصام أو جنون العظمة. كذلك الشعور بالاضطهاد والبكاء بدون سبب و الشكّ في الآخرين فمثلًا بعض المتعاطين يشكُّ في أصدقائه بأنّهم مخبرون متعاونون مع مكافحة المخدِّرات وهناك من يشكّ في زوجته بأنّ لها علاقات مع غيره ممّا يسبّب مشاكل عائليّة واجتماعية للمتعاطي ومع الإفراط في الاستخدام يحدث نقص في كُريات الدم البيضاء ممّا يضعف المقاومة للأمراض, كذلك تحدث أنيميا، كما يؤدّي إدمان الأمفيتامينات إلى حدوث أمراض سوء التغذية، كما يسبب حقنها في الوريد بجرعات كبيرة حدوث إصابات في الشرايين مثل الالتهاب والنّخر وفشل كلوي وتدمير الأوعية الدموية بالكليَة وانسداد الأوعية الدموية للمخ ونزيف في المخ قد يؤدي إلى الوفاة، ويؤدي استنشاق الأمفيتامين إلى إثارة الأغشية المخاطية للأنف، ويؤدّي استخدام الحقن الملوثة إلى نقل عدّة أمراض خطيرة مثل الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي من نوع B ومن أضرارها كذلك أنها تؤدي إلى الوقوع في التّدخين (أو الإكثار من التدخين إذا كان يدخّن قبل الوقوع في تعاطي الكبتاجون) لأنّها تزيد من مفعول الكبتاجون. كذلك تؤدي إلى الوقوع في الحشيش لأنّ الحشيش يضادّ مفعول الكبتاجون فيستخدمها بعض المتعاطين إذا أراد النوم، كما تؤدي إلى الوقوع في المُسكرات (لأنّه يُشاع بين المتعاطين أنّ الكحول تُزيل أثر الكبتاجون من الجسم فلا يتمّ التعرّف على المتعاطي من خلال التّحليل).
اشكال الكبتاجون: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

الهيرويين

يُصَنَّف من المخدّرات في الغرب، ويُحصل عليه عبر أستلة (إضافة جُزَيء أستيل) المورفين، وهو أهمّ شبه قلوي مُستخرَج من الخشخاش المنوِّم، وهو مُخدِّر قويّ للجهاز العصبي المركزي ويسبب إدمان جسمي ونفسي قوي، والهيرويين (باسمه العلمي “دايمورفين” أو “دايستلمورفين”) يوصف كعلاج للأغراض الطبيّة كمخدِّر للآلام الحادّة.
يُسْتَخدم الهرويين في المملكة المتحدة كمُسكِّن قوي للألم تحت اسمه العلمي دايمورفين أو دايستلمورفين. استخدامه يشمل علاج الآلام الحادّة، مثل الإصابات الجسدية الحادّه، واحتشاء عضلة القلب، وآلام ما بعد الجراحة، والآلام المزمنة وأمراض أخرى، ويُصَنّف من ضمن الأدوية فئة A الخاضعة للرقابة.

أعراض إدمان الهيرويين:
الأعراض الجسديّة: ضيق التنفسّس والجفاف وضيق حَدَقة العين وتغيّرات سلوكية واضحة وضعف الاتزان واضطراب ضربات القلب وعدم القدرة على التركيز وكَثرة النّسيان وزيادة في النشاط يليها الخمول والكسل وانخفاض ضغط الدم وفقدان الوزن والرشح المستمرّ والتهابات في أماكن الإبر والحقن والضّعف الجنسيّ والإصابة بالإيدز، اضطرابات الدّورة الشّهرية لدى السيّدات.
الأعراض السلوكية والنفسية:
التّلعثم في الكلام وعدم القدرة على التحدّث بشكل لائق، والعزلة والابتعاد عن الأصدقاء والعائلة وتدمير العلاقات الأسريّة.
أمّا الأمراض التي يُصاب بها المُدمن على المدى الطّويل فكثيرة مثل: أمراض القلب وانتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي والالتهاب الرّئوي وتجلّط الدم وأمراض الكبد والتّشنّجات وأعراض الانسحاب من إدمان الهيرويين وتظهر من خلال الرّعشة الشديدة ولإسهال والحُمَّى.

الكوكايين

هو مسحوق أبيض يُستَخلص من أوراق نبات الكوكا الذي ينمو بشكل رئيسي في أمريكا الجنوبية. وعادة ما يتم تعاطيه باستنشاق المسحوق عن طريق الأنف و”الكراك” ليس مخدِّرًا مُختلفًا، وإنّما هو شكل من أشكال الكوكايين يسبّب درجة أكبر من الإدمان، وعادةً ما يتم تدخين الكراك، الذي يسمّى أيضاً بالصّخر أو الحجر أو الكوكايين المُنَقَّى ويتمّ أحيانًا حقن الكوكايين أو أكلّه.
الآثار الجانبية: نظرًا لتأثيراته القوية، كثيرًا ما تكون لدى متعاطي الكوكايين رغبة مُلحّة في تعاطي المزيد، وقد تؤدّي الجرعات الكبيرة من المخدِّر إلى إصابتك بالإجهاد، والقلق، والاكتئاب، وأحيانًا العُدوانيّة.
المخاطر: قد يؤدي استنشاق الكوكايين إلى تلف لا يمكن علاجه لداخل الأنف، وقد يضرّ تعاطي الكوكايين قلبك ورئتيك، وقد تؤدي الجرعات الكبيرة إلى الوفاة بالأزمات القلبية أو الجلطات. وتعاطي الكوكايين مع الكحول يزيد من مخاطر الإصابة بالأزمة القلبية والوفاة، وقد يؤدي أكل الكوكايين إلى تلف نسيج الأمعاء. وقد يكون الاكتئاب الذي يلي الشعور بالنشوة حادًّا وقد يؤدي إلى محاولات انتحار، ومع الاستعمال طويل المدى أو بجرعات مفرطة، قد تتحول الإثارة التي يولدها الكوكايين إلى قلق، وأرق، وفقدان وزن. وبعض الأشخاص يظهر عندهم مرض الذّهان الزّوري (الخُيَلائي) حيث يُحْتَمل ممارستهم للعنف، وقد تؤدّي الرّغبات الملحّة في تعاطي الكوكايين، وخاصّة الكراك، إلى رغبتك في تعاطي المخدِّر طوال الوقت، وقد تفقد السّيطرةَ على استخدامِك للمخدِّر.

هذا العدد

لكلّ عددٍ من الضحى نكهته الخاصة المميِّزة. تسري القاعدة هذه على أعداد الضحى كافة، غير أنها تتحقق بالتمام والكمال في هذا العدد بالذات (العدد 23 من الضحى). فغنى الموضوعات فيه تجعله بحق عدداً غير مسبوق من نواح عدّة. في وسع نصف مواد العدد هذا تشكيل مادة مكتملة لأية مطبوعة ثقافية دورية. لكننا رغبنا، ومن باب معرفتنا أنّ الضحى فصلية، أن يعيش القارئ مع مجلّته أطول زمن ممكن. وعليه، احتوى هذا العدد من المقالات ما يمكن تصنيفها في الطبقة الأولى: الأخلاق التوحيدية في تراث الأمير السيّد عبد الله التنوخي (قدس)، إلى التراثي المعروفي الأصيل، من رشيد طليع الذي كتب “سجّل…أنا رشيد طليع”، إلى سيرَتي مجاهدين نادرين ترفع لهما القبعات احتراماً (سعيد أبو الحسن وعبّاس نصر الله). وإلى ذلك، مقالتان أخريان: الأولى في النفس عند أفلاطون، والثانية حول موضوع بالغ الأهمية وتفسحُ الضحى المجال للإسهام فيه (ومن باب أخلاقي وإنساني صرف) وهو “الاستخدام الجاري للأطفال في الأعمال القتالية”، والتداعيات الاجتماعية المدمّرة لذلك، ناهيك بالانتهاك الصارخ للقوانين الدولية، إلى مقالة أخيرة حول “متعة القراءة” التي تكاد تختفي.
هذا في المقالات، أمّا “ملف العدد”، في العدد 23، فهو تحت عنوان “المخدرات …. آفة العصر: كيف نحصّن شبابنا حيالها؟” سيضع الملفُ القارئ بصراحة، وقسوة، أمام حقائق صادمة لا ينفع في شيء التعامي عنها، وموجزها: الانتشار النسبي لظاهرة الإقبال على المخدرات، بدرجاتها وأنواعها المختلفة. يبدأ الملف بتعريف علمي وتقني من أرفع مرجعية علمية ممكنة، إلى إسهام من تولَّوْا، ويَتَوَلَّوْن الآن، مواجهة الظاهرة ذاك، من أرفع المسؤولين في الأجهزة الرسمية، إلى الجهود الكبرى التي تبذلها اللجان المعنية في المجلس المذهبي لطائفية الموحدين الدروز، وجهات شبيهة أخرى.
وفي جانب التحقيقات المصوّرة، يقدّم العدد ثلاثة تحقيقات تستحق المتابعة في أعداد لاحقة لأهميتها: عن المكتبة الوطنية في بلدة بعقلين التي باتت صرحاً ثقافياً رفيعاً يغني الطالب أو الباحث في منطقة الجبل عن ارتياد أي مكان مشابه آخر، وثان عن بلدة “عَنز” في محافظة السويداء، سوريا، حيث يقدّم العمران الديني والحضري المتبقي منها شهادة على ماض غني جداً، والثالث، من بلدة “صوفر” على مفترق طرق مواصلات جبل لبنان ما جعلها مكاناً التقت فيه الجغرافيا الصعبة مع صفحات نابضة من التاريخ.
في وسعنا التنويه، أخيراً، بباب “مدارات الإبداع” الذي يميط اللثام هذه المرّة عن عبقرية معروفية “بيروتية”، هي الفنّانة التشكيلية الذائعة الصيت سلوى روضة شقير، التي نالت الكثير من الجوائز في النصف الثاني من القرن الماضي. وكلّ التقدير، باستمرار، لقارئ الضحى.

والله، دائماً، وليّ التوفيق.

ندوة وتوقيع كتاب حول سيرة المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا

استضافت قاعة الاحتفالات في دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت في 30\1\2018 حفل إطلاق كتاب الدكتور حسن البعيني حول سيرة المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا، فجرى توقيع المؤلف للكتاب وانعقدت حوله ندوة تحدث فيها، بعد تلاوة عطرة لآيات من الذكر الحكيم والنشيد الوطني اللبناني، سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، سيادة المطران بولس مطر، الدكتور محمّد السمّاك، الدكتور فرح موسى، وأخيراً للمؤلف الدكتور البعيني. عرّف بالكتابوالمنتدين الشيخ الدكتور سامي أبي المني.

قال الشيخ أبي المنى في افتتاح الندوة: عندما تقرأ الكتاب السيرة تستذكر سماحة الشيخ العَلَم، وأول ما يلفتك كم كان حريصاً على وحدة الصف والكلمة، كمثل

حرصه على الوحدة الإسلامية والوطنية، عاملاً في سبيل نهضة المجتمع، من خلال المؤسسات التي أنشأها ورعاها ودعمها معنوياً، ومن خلال المواقف التي أطلقها، وكأن تلك الوحدة كانت هاجسه الدائم، فقد كان ضنيناً بها، ساعياً إلى بلورة مواقفه على أساسها. وقد جاء تعبيره عن ذلك في أكثر من مناسبة، ومنها مناسبة صلاة الغائب على روح الأمير مجيد أرسلان في قصر المختارة بتاريخ 20 أيلول 1983، بمبادرة من الأستاذ وليد بك جنبلاط، وفي ظل الوضع الأمني المتوتر في البلاد يومذاك، فكان ذلك أصدق تعبير عن موقفه الجامع ذاك… وها هو سماحة الشيخ نعيم حسن خير خلف لخير سلف، يسير على النهج ذاته، ويعلن في أكثر من موقف….إن تاريخ الموحدين الدروز السياسي ليس تاريخاً طائفياً بل هو تاريخ وطني يعطي الأمثولة الصالحة في النضال الوطني الشريف…ومن غير منة ولا تباهٍ فيه أو تبجح.”

وتحدث سماحة شيخ العقل في كلمته عن “المكانة التي تبوأها سماحة الشيخ محمد أبو شقرا في تاريخ الموحدين الدروز خصوصاً هي مكانة في مقام ذاكرة ماثلة في الثوابت التراثية والوطنية والعربية والإسلامية للمعروفيين في كل مكان. وليس الكتاب شاهداً على ما يستقر في وجدان الناس من شهادة حيّة فقط، وإنما هو بعض صفحات من سجل هو أكبر من كتاب، فشكراً للجهود التي تظافرت في إنجاز هذا العمل الطيّب”. كلّنا يعلم أن سماحته تولّى مقام مشيخة العقل في زمن كان لبنان فيه لسنوات قليلة خلت حائزاً على استقلاله بعد ما يناهز عقدين من الانتداب الفرنسي. وكان لخيار كبار رجال الطائفة آنذاك منحى وطنياً متأصلاً، كما هو دأبهم على الدوام، إذ كان للشيخ محمّد في الشام مواقف وطنية شجاعة ضد الاستعمار الأجنبي كما يشهد بذلك يوم معركة ’ قلعة دمشق’ وما كُتب عن دوره فيها”.

وبعد استعراضه محطات أخرى في سيرة المغفور له، أنهى سماحة شيخ العقل كلمته قائلاً: “وفي المحصلة فإننا إن استعرضنا ثمرة حياة سماحته التي يتظهّر منها الجوهري في الكتاب الذي بين أيدينا، لوجدنا كفة الوحدة الوطنية، والوحدة الإسلامية، مرجّحة على كل مصلحة ضيّقة. ولوجدنا الثوابت فيها هي ثوابت القادة الروحيين حتى يومنا هذا، وهي ثوابت وطنية جامعة لا تشبه طائفة بعينها، بل تشبه وطننا الذي نريده أجمل ما يكون لنا جميعاً، ونحن على خطاه الصالحة سائرون”.

وكانت بعد ذلك كلمات أجمعت على الخصال الشخصية والوطنية الاستثنائية التي تمتع بها المغفور له سماحة الشيخ أبو شقرا، والتي حوّلته مرجعية دينية ووطنية في الجبل كما على صعيد الوطن. واستذكر الجميع حرصه على الوحدة الوطنية اللبنانية، وكذلك مواقف مشهودة له وبخاصة في مواجهة الاستعمار الأجنبي في الأربعينات كما في مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان في حزيران 1982، ونصرته لحقوق الشعب الفلسطيني، كما للمطالب الحياتية المحقة للفئات والنقابات المهنية في لبنان.

وجرى بعد ذلك توقيع المؤلف للكتاب. كما جرى التنويه بميادرة أسرة المغفور له سماحة الشيخ أبو شقرا والشيخ علي عبد اللطيف بتخصيص ريع بيع الكتاب لدار المسنين في مستشفى عين وزين

التراث والحداثة

يتنازع قراء ’الضحى’ الكُثُر – والحمدلله – اتجاهان حيال المواد التي تنشرها المجلة، وهم لا يترددون في التعبير عنهما بغير طريقة وشكل، ونحن لا نتردد أيضاً في أخذ الملاحظات تلك بكل الجدية والاهتمام المطلوبين، وكما يفترض أن تفعل كل مطبوعة ثقافية تعنى باتجاهات قرائها.

الاتجاه الأول يطلب المزيد من المواد التراثية، وبخاصة في المجال التاريخي – تاريخ أبرز الرجال المعروفيين الذين رفدوا التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث على نحو ساطع. فمن دخول الأمراء التنوخيين القدس لتحريرها من الاحتلال الصليبي برفقة صلاح الدين الأيوبي، إلى إسهامات الشخصيات المعروفية الحاسمة في التصدي للغزو الغربي الشرق، وتبرز هنا حملة الأمير شكيب أرسلان في التصدي للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 جنباً إلى جنب مع المجاهد الليبي عمر المختار. كذلك الإسهام المباشر في الثورة العربية الكبرى لاستعادة حق العرب التاريخي في إقامة كيان عربي مستقل، ثورة الشريف حسين، شريف مكة والحجاز، وأن يكون أحد أبرز قادتهم التاريخيين، سلطان باشا الأطرش، أول من دخل على صهوة جواده دمشق لإجلاء بقايا جمال باشا السفّاح وتركته عنها سنة 1918. وكذا إسهامهم المباشر في المحاولات اليائسة التي بذلها رجال العرب التاريخيين لمنع سقوط دولتهم الوليدة على يدي الفرنسيين سنة 1920، فكانت مشاركتهم المباشرة في معركة ميسلون، فأصيب منهم من أصيب – ولا أدري إذا كان من ضحايا أيضاً. ولم يطل الأمر حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش واستمرت حوال ثلاث سنوات كبّد فيها مجاهدو بني معروف على قلة عددهم الفرنسيين الهزيمة تلو الهزيمة، ولم تنته الثورة سنة 1927 إلا باتفاق، بل بمؤامرة فرنسية إنجليزية أطبقت على مناطق الدروز. وليس أدل على الموقف المعروفي الواحد، في سوريا ولبنان، من ملاحظة العدد الكبير من دروز لبنان الذين شاركوا في العمليات الحربية وعدد الضحايا الكبير الذي قدموه في رفد الثورة  – إذ تكاد لا تخلو بلدة في وادي التيم وجبل لبنان الجنوبي من شهيد أو أكثر سقطوا في العمليات العسكرية بين سنتي 1925-1927، وبخاصة من منطقة حاصبيا – راشيا، حيث أعداد الشهداء العالية  (وفي العدد ثبت دقيق بشهداء وادي التيم في مواجهات الثورة مباشرة أو عمليات ضد الفرنسيين متصلة بالثورة). ومن تاريخهم الحديث، أيضاً، تصديهم للاحتلال الصهيوني عبر المشاركة المباشرة في الانتفاضات الفلسطينة المتعاقبة (وخصوصاً ثورة 1936) إلى الانخراط أخيراً في حملة ’جيش الانقاذ’ البائسة التي قادها المجاهد فوزي القاوقجي، والتي حاصرتها الخيانات من كل اتجاه. وفي التاريخ الحديث أيضاً تصديهم للانحراف الذي حدث في الخمسينيات في لبنان وانخراطه في محور إقليمي اعتبر معادياً لعبد الناصر ولحركة القومية العربية ما أوصل إلى ثورة 1958 التصحيحية. ثم تصديهم طوال سنوات 1973 و1975-76 وصولاً إلى سنة 1982 للمحاولات الإسرائيلية والأمريكية /الأطلسية التي هدفت إلى محو القضية الفلسطينية بالقوة من معادلات الشرق الأوسط.

 وقاد التصدي البطولي ذاك وبكل شجاعة واقتدار المغفور له كمال جنبلاط، ثم القيادة الدرزية الموحّدة التي تشكلت غداة الغزو الإسرائيلي والتي تكونت من المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا ووليد جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان. قدّم دروز لبنان في المعارك الأخيرة وحدها حوالي أربعة ألاف شهيد، عدا مئات الجرحى والمعوقين، لا يزال معظمهم بيننا اليوم مكرّمين معززين وشهوداً أيضاً على حجم التضحيات التي بذلت في سبيل القضية الوطنية والعربية. هذا في الجانب الجهادي والنضالي فقط، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إسهامات المفكرين والأدباء والفنانين والتراجمة المعروفيين في النهضة العربية الحديثة، وفي نهضة أقطار المشرق العربي قاطبة، من اليمن إلى العربية السعودية، فلبنان وسوريا، وهم بالعشرات، ومن واجب ’الضحى’ البديهي التعريف المستمر بهم

وبعظيم إنجازاتهم.

هذا اتجاه أول، يمكن تسميته بالاتجاه التراثي، يُسعَد لكل فقرة  تتضمنها ’الضحى’ تتصل بالتراث أو بتضحيات المعروفيين في كل اتجاه.

في مقابل هذا الاتجاه، يقوم اتجاه ثان بين قرّاء ’الضحى’، ما انفكوا يعبّرون عنه بأكثر من طريقة، ويمكن تسميته بالاتجاه الحداثي، أو الحداثوي.

أصحاب هذا الاتجاه الحداثي – ولنوضح موقفهم بدقة – هم مع استمرار ’الضحى’ في إبراز الجوانب التراثية في تاريخ بين معروف، وهم يقولون أنها ستبقى مفخرة بني معروف الفذّة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، إلا أن هؤلاء – وهم من طبقات وشرائح اجتماعية وثقافية عدة –يرون أن ’الضحى’ لا تولي الشباب المعروفي الطالع المقدار الضروري من الأهمية – إلا نادراً. هي لا تخاطبهم مباشرة، لا تفسح في المجال ليعبروا بأنفسهم عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، من تقدم المعارف والعلوم والتقنيات التي تلقى هوى عند الشباب ويعنيهم أن يتابعوا تطوراتها، إلى مشكلاتهم الكثيرة: من البطالة وفقدان فرص العمل، والكلفة العالية للتعليم، وغياب معظم مؤسسات التعليم العالي الرسمية عن مناطقهم، والطبابة الرسمية الغائبة عن مناطق الجبل، وكذلك ندرة المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية عن مناطقهم، إلى الحصار الإعلامي الذي تتعرض له مناطقهم وفقدانهم أمكنة التعبير عن أرائهم أو نتاجهم الثقافي، إلى أزمة الشباب المغترب وانشطار الوعي لديه، وعجزه عن التعبير عن أزمته، ومشكلات كثيرة أخرى. بعض أصحاب هذا الاتجاه، وبينهم رجال دين أجلاّء، عبّروا بشكل صريح عن هذا الرأي بالقول: كيف لي أن أجعل أولادي يقرأون ’الضحى’ وهي في عالم بينما أولادنا في عالم آخر مختلف؟

تلك بعض ’ألطف’ الانتقادات التي وردتنا، إذ عبّر آخرون في هذا الاتجاه عن منحى حداثي أكثر جذرية ونقدانية.

لا تستطيع ’الضحى’ إلاّ أن تصغي بانتباه شديد للرأيين أعلاه. ومن باب احترامها لقرائها، تُوسِع الضحى في مضمونها مكاناً للاتجاهين معاً. ومن غير الضروري افتعال التناقض بين الاتجاه التراثي والاتجاه الحداثي بين قرّاء الضحى وعلى صفحاتها. فالمساحة المخصصة للتراث في ’الضحى’ يجب أن تبقى، لما فيه من تذكير بالتقليد المعروفي العريق، ومن حضّ على التمسك بالقيم الموروثة الأصيلة. وكذلك، يجب أن تتسع المساحة التي تتيحها ’الضحى’ للمشكلات التي باتت تواجه مجتمعاتنا لأسباب عدة، كما للهواجس التي تشغل باب شبابنا وأجيالنا الناشئة، وهي كثيرة أيضاً. وثالث التجديدات الحداثية فتحُ آفاقٍ ثقافية جديدة لتطلّ منها إبداعات مبدعينا، فنانين وكتّاباً، رجالاً ونساء، من باب التعريف والتكريم من جهة، وتشجيع الميل للإبداع لدى شبابنا وشاباتنا من جهة ثانية. وفي كل الحالاات، ’الضحى’ هي ’الضحى’، كما أرادها المؤسسون العظام في طائفة الموحدين الدروز، قبل خمسين سنة ونيّف؛ ومستمرة كذلك مع سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، وصحبه في مجلس أمناء المجلة وفي المجلس المذهبي.

والله وليّ التوفيق

رئيس التحرير

د. محمد شيّا

جلال الدين الرومـي في تعليمـه الحكمي

لا تبــــــع نفســـك رخيصـــــاً وأنــت نفيـــسٌ جــدّاً فــي عيـــــن الحـــقّ!

يُعتبر جلال الدين الرُّومي مؤسِّس الطريقة المولويَّة، أحد أعظم مشايخ الصوفية؛ كما أنه يُعتبر شاعرها الأكبر وهو الذي خلَّف السفر النفيس «مثنوي»، و«ديوان كبير» و«شمس تبريز» وغيرها. لكن الرومي كان في الوقت نفسه مُرشِداً تتحلَّق حوله نخبة السالكين والباحثين عن الحقيقة. وقد جُمعت حواراته مع مُريديه في كتابٍ نفيس أُطلق عليه اسم: «فيه ما فيه»، وأصبح أحد أبرز المؤلَّفات التي تشرح حِكمَة الرومي وخُلاصة تعليمه. ويتطرَّق جلال الدين في هذه الحوارات _ التي ننشرها _ إلى أهمية الإخلاص في العبادة وإلى التقرُّب من الصالحين وأهل السرّ؛ كما يتناول «علماء زماننا الذي يفلقون الشَعرَة في العلوم»، وبينما ما هو أهمّ وأقرب إلى الإنسان من كلِّ تلك الأشياء، وهي النفس أو الذات، فلا يعرفونه.

سأل أحدهم جلال الدين الرومي: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصّلاة؟
أجاب: الصّلاة أيضاً؛ ولكن الصلاة ليست هذه الصورة الظاهرة فقط. فهذه هي قالب الصلاة، لأنَّ لهذه الصلاة بدايةً ونهاية. وكلُّ شيءٍ له بداية ونهاية يكون قالباً. لأنَّ التكبير بداية الصلاة، والسلام نهايتها. مثل ذلك الشهادة، فإنَّها ليست الصيغة التي تُقال باللسان فقط؛ لأنَّ تلك الصيغة أيضاً لها بداية ونهاية. وكلُّ شيء يُعبّر عنه بالحَرف والصوت ويكون له أول وآخر يكون صورة وقابلاً؛ أما روحه فغير محدَّدٍ ولا متناهٍ، وليس له أول ولا آخر.

ويروي جلال الدين هذه الحكاية للتأكيد على أهمية الإخلاص وحضور القلب في العبادة، مقارنة مع صورة العبادات. فيقول: “يُحكى أنَّ سلطان العلماء، بهاء الحق والدين، كان في أحد الأيام بين أصحابه لكن في حال من الاستغراق التام. ولمَّا حان وقت الصلاة نادى بعض المريدين هذا العارف الربَّاني أن: “حان وقتُ الصلاة”.

لم يلتفت الشيخ إلى قولهم، فنهضوا وانشغلوا بالصلاة، لكنّ اثنين من المريدين وافقا الشيخ فلم ينهضا للصلاة وكان واحد من أولئك المريدين المنشغلين بالصلاة يسمى خواجكى، وقد كشف له بعين السرِّ أنَّ كلَّ الأصحاب الذين كانوا في الصلاة كانت ظهورهم إلى القبلة، وأنَّ ذينك المريدَين اللذين كانا قد وافقا الشيخ كان وجههما إلى القبلة. تفسير ذلك أنَّ الشيخ عندما غاب عن (نحن) و(أنا) وفنيت هويته وتلاشى واستهلك في نور الحق “موتوا قبل أن تموتوا”، صار نور الحق. وكلُّ من يدير ظهره إلى نور الحق ووجهه إلى الجدار لا بُدَّ أن يكون قد جعل ظهره إلى القبلة. ذلك لأنَّ نور الحق هو روح القبلة.

تمسَّكوا بأذيال أهل الحق

قال أحد الملوك لدرويش: “في تلك اللحظة التي يكون لك تجلٍّ وقرب من الحق تذكَّرني”، فأجاب الدرويش:”عندما أصل إلى تلك الحضرة ويسطع عليّ ضياء شمس ذلك الجمال لا أعود أتذكَّر نفسي. فكيف أتذكَّرُك؟ ولكن إذا اختار الحق عبداً، وجعله مُستغرقاً فيه تماماً، فإنَّ كلَّ من يتمسَّك بأذياله ويطلب منه حاجة، يُلبِّي له الحق مطلبه من دون أن يذكره ذلك العظيم عند الحق ويعرضه عليه.
يُحكى أنه كان هناك مَلك وكان له عبدٌ خاص جداً، وعندما كان ذلك العبد يتوجَّه ناحية قصر الملك، كان أهل الحاجات يُسلِّمونه التماسات أو رسائل طالبين منه أن يعرضها على الملك. كان يضع تلك الالتماسات والرسائل التي فيها حاجات القوم في محفظته، لكنه كُلَّما دخل في حضرة الملك كان لا يستطيع أن يتحمَّل ضياء جماله، فيقع مغشياً عليه. وكان الملك يُدخِل يده في جيبه ومحفظته على سبيل الدعابة، قائلاً: “هذا العبد المندهش فينا المستغرق في جمالنا، ماذا لديه؟ كان يأخذ تلك الرسائل ويأمر بتنفيذ الحاجات المطلوبة فيها كلَّها بالكتابة على ظهورها، ثمَّ يُعيدها إلى محفظة عبده. وهكذا كان يلبّي حاجات الجميع من دون أن يعرضها العبد عليه، على نحو لا يرفض فيه أياً منها، بل كانوا يحصلون على مطلوبهم مُضاعفاً وأكثر من ذلك الذي كانوا يطلبونه. أمَّا العبيد الآخرون الذين كانوا واعين وقادرين على عرض التماسات أهل الحاجات على جناب الملك، فنادراً ما تُقضى حاجة واحدة من مئة حاجة أو مسألة من تلك التي كانوا يعرضونها.
يتابع جلال الدين الرومي القول: “هناك شيء واحد في هذا العالم لا ينبغي أن يُنسى، وإذا نسيت الأشياء كلها ولم تنسَ ذلك الشيء فلا داعي للخوف؛ ولو أنك أنجزت الأشياء كُلَّها وتذكرتها ونسيت ذلك الشيء، فكأنك ما فعلت شيئاً البتَّة. وهذا تماماً مثلما لو أنَّ الملك أرسلك إلى قرية من أجل عمل مُعيَّن، فذهبت وأدَّيت مئة عمل آخر، فإن لم تؤدِّ ذلك العمل الذي بعثك الملك من أجل تأديته، فكأنك ما أدَّيت شيئاً”. وهكذا، فإنَّ الإنسان جاء إلى هذا العالم من أجل عملٍ مُعيَّن، وذلك مقصوده وهدفه، فإن لم يؤدِّ هذا الذي جاء من أجله، فإنه لا يكون قد فعل شيئاً. وعندما يفعل ذلك العمل ُينفى عنه الظلم والجهل. وإذا قلت: “صحيح أنني لم أؤدِّ ذلك العمل، لكنِّني قمت بأعمال كثيرة غيره”؛ فإنَّ الإنسان لم يخلق من أجل تلك الأعمال الأخرى. كما لو أنك أتيت بسيف فولاذي من سيوف الهند التي لا تُقدَّر بثمن كتلك التي تتواجد في خزائن الملوك، ثمَّ جعلته ساطوراً لقطع اللحم الفاسد، أو كما لو أنك أتيت بقِدر مصنوعة من الذهب واستخدمتها آنية للطبخ في الوقت الذي تستطيع بحبة واحدة من ذلك الذهب أن تشتري مئة قدر، أو كما لو جعلت خنجراً مُرصَّعاً بالجواهر مسماراً لتعليق قرعة مكسورة قائلاً: “استفيد منه وأُعلِّق القرعة عليه”. أَلاَ يكون ذلك مُحزناً ومُضحكاً؟ عندما يمكن تعليق القرعة بمسمار من خشب أو حديد؟
الحق تعالى جعل لك قيمة عظيمة، إذ يقول:
{ إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهُمُ الجَنَّة } (التوبة:111)
أنتَ في القِيمةِ أَسمى من العالمين فما حيلتي إِن لم تكن تعرف قدرك؟
لا تبع نفسك رخيصاً وأنت نفيس جداً في عين الحق!
يقول الحق تعالى: “لقد اشتريتكم أنتم وأوقاتكم وأنفاسكم وأموالكم وحيواتكم. إذا ُصرِفت كلها في سبيلي وإذا أعطيتموني إيَّاها فإنَّ ثمنها جنَّة الخُلد. قيمتك عندي هي هذه”. لو بعت نفسك لجهنم لكنت قد ظلمت نفسك، مثل ذلك الرجل الذي دقَّ خنجراً قيمته مئة دينار في الجدار وعلَّق عليه جرّة أو قرعة”.
لنعد إلى ما كُنَّا قد بدأناه: “أنت تقدِّم تبريرك، قائلاً: “استنفذ طاقاتي في أداء أعمال عالية نبيلة. أدرس علوم الفقه والحِكمة والمنطق والنجوم والطب وغير ذلك، لكنك تفعل كلّ هذا من أجلك أنت. فإذا كنت تدرس الفقه فإنَّ ذلك من أجل أن لا يسرق أحد الرغيف من يدك، أو ينزع عنك لباسك أو يقتلك. باختصار من أجل أن تكون في أمان. وإذا كنت تدرس النجوم وأحوال الفلك وتأثيرها على الأرض من خِفَّة وثقل، فإنَّ هذه الأشياء من أجلك أيضاً”.
عندما تتأمَّل جيِّداً تجد أصل الأشياء كلّها نفسك. وهذه الأشياء جميعاً فرع لنفسك. وعندما يكون لفرعك الكثير من التفاصيل والعجائب والأحوال والعوالم العجيبة التي لا نهاية لها، فتأمل ما يكون لك، أنت الأصل من أحوال. عندما يكون لفروعك عروج وهبوط

 

الصلاة ليست الصورة الظاهرة فقط، بل في الإخلاص وحضور القلب مع المولى

وسعدٍ ونحس، فتأمل نفسك أنت الأصل ماذا يكن لك من عروج وهبوط في عالم الأرواح، من سعد ونحس ونفع وضر!
إنَّ لك غذاءً آخر غير هذا الغذاء من النوم والأكل. قال النبي (عليه الصلاة والسلام):
“أَبيتُ عند رَبِّي يُطعمني ويسقيني”.

في هذا العالم الوضيع نسيتُ الغذاء السماوي، وشغلت بهذا القُوتِ المادي. وأخذت ليلاً ونهاراً تغذي جسمك. والآن فإنَّ هذا الجسم هو جوادك وهذا العالم الوضيع إصطبلك. إنَّ غذاء الفرس لا يكون غذاءً للفارس، إذ إنَّ للفارس نوعاً خاصاً من النوم والطعام والتنعّم. ولكن لأَّن الحيوانية والبهيمية غلبتا عليك فقد تخلَّفت عن جوادك في إصطبل الخيل، ولم يكن لك مقام في صفّ ملوك عالم البقاء وأمرائه. قلبك هناك، وعندما غلب عليك الجسد صرت خاضعاً لحُكمِهِ، وبقيتَ أسيراً له.
وهذا مثلُ ما يحكى من أنَّ أحد الملوك أَسلم ولده إلى جماعة من أهل البراعة حتى يعلِّموه علوم النجوم والرمل وغير ذلك، حتى غدا أستاذاً كاملاً، على الرغم من غبائه المُطبق وبلادته. وفي يوم من الأيام أمسك الملك في قبضته خاتماً وامتحن ابنه.
“تعال، قل ماذا في قبضتي؟”
قال الأمير: “الشيء الذي تمسكه مدوَّر وأصفر ومجوَّف”.
قال الملك: “أمَّا وقد قدَّمت العلامات الصحيحة، فقرِّر الآن أي شيء ذلك؟”.
أجاب الأمير:”ينبغي أن يكون غربالاً”.
قال الملك: “حقاً، أعطيت كلّ هذه العلامات الدقيقة الكثيرة ما يحيِّر العقول، وإذ لك كلّ هذا القدر من قوَّة التحصيل والعِلم، كيف فاتك أنَّ الغربال لا تتسع له قبضة اليد؟”.
ومثل هذا الآن حال علماء زماننا الذي يفلقون الشَعرَة في العلوم وقد عرفوا غاية المعرفة أشياء عديدة لا تَعلّق لها بهم، وصارت لهم إحاطة كاملة بها؛ وأمَّا ما هو مهمٌّ حقاً وأقرب إلى الإنسان من كلِّ تلك الأشياء، أي نفس الإنسان، فلا يعرفه ذلك العالم؛ لا يعرف نفسه. يحكم على الأشياء كُلَّها بالحِلّ والحرمة قائلاً: “هذا جائز وذلك غير جائز، هذا حلال وذلك حرام. لا يعرف نفسه إن كانت حلالاً أم حراماً، جائزة أم غير جائزة، طاهرة أم غير طاهرة”.

المصدر: “فيه ما فيه” لمولانا جلال الدين الرومي

بطاقة هوية

– الضحى تنطلق من بيئة الموحدين الدروز لكن انتماءها والتزامها يقع في الدوحة الأوسع للعروبة والإسلام .

–  الضحى مجلة قضايا وحوار ومبادرات تهم الناس في وعيهم وثقافتهم وعيشهم وليست مجلة للخوض السياسي. فالشأن السياسي له مرجعيته ووسائله المولجة بها.

– نهتم بقضايا مجتمع الموحدين الدروز والجبل لأننا قريبون منها واقدر بالتالي على مواجهتها ولا ننطلق في ذلك من مشاعر الانغلاق الثقافي أو الديني أو الاجتماعي.

– لأن العديد من هذه القضايا ليس خاصا بمنطقة أو بفئة فإن المعالجات قد تحمل ما يمكن البناء عليه من قبل إخواننا في الوطن في مناطق وبيئات مشابهة. أي أن عملنا ينطلق من الخاص ليطال بالفائدة صعيدا أعم وأرحب.

الحكيم سقراط في حياته وتعليمه

حتلُّ المعلم الأكبر سقراط موقعاً محورياً في وجدان أهل التوحيد ومعتقدهم. وهذا الموقع الأساسي الذي يحظى به بين مشايخهم وزُهَّادهم والسالكين الجَّادين منهم، له بالطبع أساسه المتين في ما نُقِلَ عبر التاريخ، وخصوصاً عبر مؤلَّفات معاصريه أو تلامذته (أفلاطون وزينوفون وغيرهما) من أخباره وحِكمته وزُهده وإِبائه وتعليمه وأثره الهائل الذي طبع كافة التيَّارات الفكرية والفلسفية بعده؛ كما أنَّ تعظيم الموحِّدين الدروز لـ سقراط الحكيم، هو في الوقت نفسه دليل بين دلائل كثيرة على الجذور الكونية لمسلك التوحيد، كما أنه برهان على الصلة بين التعليم السقراطي وبين ما انطبع عليه الموحِّدون الدروز من نسق خاص في العبادة والتأمُّل والمجاهدة والمراقبة، وما تاق إليه شيوخهم التقاة على الدوام من فقر واحتقار للدُّنيا واستقامة وصدق وتسليم وخضوع تام للخالق العلام. ولهذا السبب وجدنا أنَّه من الفوائد الكبرى للموحِّدين أن يطلعوا بصورة أفضل على حقيقة سقراط وأن يحيطوا جيداً بشخصيته وسلوكه وشمائله وتعليمه، ليروا فيها إعزازاً للمسلك وتوضيحاً للطريق ورفعاً للأوهام وحثّاً على الجِدِّ والاستقامة في العبادة، اقتداءً بهذا المُعلِّم وبإرشاده السامي للطالبين والمجاهدين في كلِّ زمان ومكان.

نشأته وظهوره

بعد مضي أكثر من 2480 عاماً على ولادته لا تزال حياة الحكيم سقراط لغزاً كبيراً، لكن المعروف عنه أنَّه وُلِدَ وترعرع وعاش وعَلَّم الأثينيين الحِكمة في ما اعتبر العصر الذهبي لأثينا، وهي الفترة التي امتدَّت بين العامين 469 و399 قبل الميلاد والتي تمكّن اليونانيون خلالها، ليس فقط من صد توسُّع الفرس في معركة ماراثون في العام 490، بل إلحاق هزيمة كبيرة تالية بهم في العام 480 ق.م. في معركة سالاميس، ثم في بلاتاي في العام 479 ق.م. وقد نجم عن هاتين المعركتين ردُّ الفرس على أعقابهم وتمتَّع اليونان بمرحلة طويلة من الأمن والازدهار.
وكما يحصل دائماً فإنَّ البحبوحة والسلام يجلبان معهما المتناقضات. فهناك من جهة مظاهر البذخ والإسراف والتعلّق بزينة الحياة مثل المال والجاه والتسابق على الفوز بمغانمها، لكنه وبالنظر لتحرّر الناس من جهد العمل (وقد كان الاقتصاد اليوناني قائماً على جهود العبيد)، فإنَّ العديد منهم ستتاح له فرصة الإطلاع والبحث في الفلسفة والفنون والترقِّي بنفسه في معارج العلوم. وليس صدفة أن تكون المدرسة الأثينية ازدهرت في تلك الحقبة بالذات لتُخلِّف للبشرية إرثاً هائلاً ما زلنا إلى اليوم ننهل من نفائسه.
في هذه الحقبة الخاصة بالتاريخ اليوناني عاش سقراط، ويمكن القول مع بعض أهل الحقّ أنَّ وجوده في أثينا كان في حدِّ ذاته رحمة جلبت لها ولليونانيين المِنعة والقوَّة والازدهار، رفعت عنهم السيف المُسلَّط للتوسّع الفارسي. وقد عاش سقراط في أثينا 70 عاماً تقريباً، وعَلَّم فيها بلا انقطاع طوال أربعين عاماً ممَّا يعني أنه كان بلغ أعلى مراتب الحِكمة وهو بعد في سن الثلاثين.

شغفه بالحقيقة وتعلُّقه بالحُكماء

ينقل أفلاطون عن معلمه سقراط أنه «كرّس حياته كلها لمعرفة الحِكمة وأنه لم يصرف أيّ وقت للهو أو المِتع أو لشؤون البيت، وإنه لهذا السبب كان في فقر دائم بسبب تكرّسه لخدمة ربَّه. وفي كتاب فيدو لـ أفلاطون يشرح سقراط تطوّر تعلّقه بالعِلم ومسيرته كالتالي:
«عندما كنتُ شاباً كان لديّ شغف كبير باكتساب الحِكمة، إذ بدا لي أنَّ من أروع الأمور أن تعرف أصل كل شيء. لماذا يخلق الشيء ولماذا يختفي من الوجود، أو لماذا ظهر إلى الوجود». يضيف سقراط أنه قلَّب الأمور على كل الوجوه، وحاول إيجاد تفسير للوجود عن طريق علائق الأشياء وقوانين الأسباب، لكنه لم يصل إلى نتيجة. لكن حدث أن كان في جمع واستمع لأحدهم يقرأ نصاً لـ «أناكزاغوراس» يقول فيه أنَّ الفكر هو الذي يرتِّب

ويتسبَّب بظهور كل شيء. و«عندها شعرت بالرضى لهذا القول، وبدا لي مقنعاً بالفعل القول بأنَّ الفكر هو في أساس وجود كل شيء لأنني كنتُ في قرارة نفسي أعتقد ذلك». هذه الشهادة لـ سقراط ساهمت مع غيرها في اعتقاد العديد من أهل عصره، بأنه أخذ الحِكمة على يد أناكزاغوراس بينما ذكرت أنباء أخرى وبعض المقاطع في كتابات أفلاطون أنَّ سقراط تعرّف على بارمنيدس، أحد أشهر فلاسفة التوحيد في عصره، عندما كان في يفاعه. وقد ذكر سقراط في ما بعد أنه لاحظ استخدام بارمنيدس لأسلوب السؤال والجواب (الديالكتيك)، بينما قال ديوجين لـرتيوس أنَّ سقراط تعلَّم على يد أناكزاغوراس ودايمون وأرشيلاوس.
في جورجياس يشرح سقراط للحضور أنه كان مُتعلِّقاً بالحقيقة طوال عمره، «وأنّ من الأفضل لي أن يكون العَالم كلّه ضدِّي ويعارضني، على أن أكون أنا متعارضاً مع نفسي أو أن أناقضها» وفي دفاعه عن رفضه الهرب من السجن يقول سقراط أنَّ الحياة في حدِّ ذاتها ليست ثمينة إلى هذا الحدّ، بل الحياة السعيدة أو الفاضلة. لذا فإنه لن يقوم بما هو مذموم أو شرير ردّاً على ما قد يوقعه الآخرون به من شرٍّ. ولهذا قرَّر عدم الفرار من السجن وبالتالي قبول الموت.

توحيده وكتمه لعقيدته

على الرغم من إيمانه الراسخ، فإنَّ سقراط اتّبع سياسة كتم عقيدته بسبب طغيان العقائد الفاسدة لدى حُكَّام أثينا وعامتها. ومن مظاهر كتم الإيمان ما ذكره في دفاعه أمام هيئة المُحلِّفين من أنه يحترم عقيدة الدولة ويدعو الآخرين لاحترامها، وأنه كان يقدِّم الأضاحي في المناسبات الدينية اقتداءً بالكُهَّان وخادمات معبد دلفي. ومن مظاهر تكييف إيمانه حديثه عن الإله بصيغة الجمع (الآلهة)، لكن مع التأكيد لأهل أثينا أنهم «يعلمون الغيب وكل ما تخفي النفوس من أعمال أو خواطر وأنَّ وجودهم محيط بكلِّ شيء، وأنهم يوحون للإنسان بما يعينه على طاعتهم أو يهدونه بالوحي». ولو رفعنا صيغة الجمع التي كان سقراط مضطراً لاستخدامها ووضعنا محلها صيغة التوحيد التي كان يؤمن بها وأسرَّ بها دوماً إلى المُقرَّبين منه لكان كل وصفه لآلهة اليونان هو في الحقيقة وصف للحقِّ تعالى.
على العكس من تصريحه العلني، فإنَّ حديث سقراط في مجلسه الخاص أو مع مريديه الخلص كان يشير إلى الله دوماً بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع. وعلى سبيل المثال نرى سقراط يُعرب في كتاب أفلاطون «دفاعاً

تكرّس بكامله للمعرفة، ولم يصرف أيّ وقت للهو أو مشاغل البيت أو كسب ما يفوق حاجته، وعاش حياته لذلك في فقرٍ دائم

عن سقراط «عن شكِّه في المحاكمة وفي نتائجها المحتملة، لكنه يضيف القول كل ما أرجوه هو أن يكون في هذه المحاكمة مرضاة لربي لأنَّ مشيئته (شريعته) لا بُدّ من أن تُطاع. وأضاف سقراط القول إنه حتى ولو قرَّرت المحكمة تبرئته فإنه لا يمكن أن يتوقَّف عن حثِّ الناس على اتِّخاذ طريق الحِكمة والفضيلة والاعتناء بالروح، وأنه يُفضِّل الموت على أن يعصى الله لأنه مؤمن بأنَّ الله بعث به إكراماً لأثينا وأنَّ الأثينيين لم يحصلوا في حياتهم على قدر الخير الذي حمله إليهم بسبب طاعته وخدمته لربِّه. بل إنَّ سقراط أضاف القول أنه لن يغيِّر طريقه حتى ولو تعين عليه الموت مرات عدة. وحتى عندما كان يواجه الموت لم يكن في قلب سقراط أيّ ذرَّة خوف لاعتقاده بأنَّ الإنسان الصالح لا يمكن أن يمسّه سوء لا في الحياة ولا في الموت، لأنَّ الله لا يمكن أن يهمل عباده». وكان سقراط مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال.
من أبلغ الأدلَّة على توحيد سقراط هو أنه دفع حياته في النهاية ثمناً له. فالتهمة التي وُجِّهت إليه من قِبَل ثلاثة أشخاص هم: مليتوس، وكان يمثِّل الشعراء، وأنيتوس، وكان يُمثِّل الحِرفيين والسياسيين، وليكون، وكان يُمثِّل فئة الخطباء هي حرفياً التالية:
«سقراط لا يؤمن بالآلهة الرسمية التي تؤمن بها الدولة وهو أحلَّ محلَّها ربّاً جديداً، كما أنه وبسبب ذلك مُتَّهم بإفساد عقول الشباب في أثينا عبر زعزعة معتقداتهم».
وقد ذكر زينوفون في ما بعد أنَّ اهتمام هيئة المُحلَّفين التي حاكمته، كان منصباً على معتقد سقراط الديني وما كان يُردِّده من أنه يحمل رسالة ذات مصدر إلهي».

كان مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يُحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال

بين الدُّنيا والدين

يخبر زينوفون عن سقراط قوله أنَّه من الحماقة الاعتقاد بأنَّ العقل البشري يمكنه الإحاطة بكافة الأمور من دون معونة أو هدي من الله. لكن سقراط كان يعتبر أنَّ من الحمق أيضاً اللجوء إلى المشيئة الإلهية في كل شاردة وواردة، مثل أن يسأل إنسان ربًّه مثلاً هل يستأجر لرحلته قائد مركبة مجرب أم آخر لا خبرة له. أو كأن يسأل هل يركب سفينة يقودها قبطان ذو خبرة أم سفينة أخرى يقودها قبطان مبتدئ، أو أن يسأل في أمور الحساب أو القياس أو غيرهما ممَّا هو في متناول المعرفة العقلية. وفي رأيه أنَّ ما وهبه الله لنا ممّا يمكن تعلّمه يجب تعلّمه، لكن ما هو محجوب عن البشر العاديين فلا بُدَّ من السعي لكشفه عن طريق الوحي أو عن طريق رجل عارف يحظى بفضل الله بالبصيرة والإلهام لمعرفة تلك الأمور.

زهده وفقره

كثير من الفلاسفة وطلاُّب الحقيقة ربما أهملوا الكثير من مظاهر الحياة المادية، لكن لا يوجد في تاريخ الحِكمة اليونانية من عاش ببساطة وفقر مطلق كما عاش سقراط. وقد كان الحكيم عظيماً في نفوذه ومشهوراً وكان الناس يتهافتون لعرض المساعدة والمال عليه، لكنه كان يرفض بإصرار. في المقابل كان العديد من السفسطائيين يعيشون في أبهة وبحبوحة من جرّاء الأموال التي كانوا يتقاضونها لقاء إعطاء الدروس في كسب الحجج الباطلة، وكان سقراط لا يخفي احتقاره لهم.
وصف أريستوفان سقراط بأنه كان «سائحاً في الأرض» عاري القدمين، بينما أشار تلميذه زينوفون بأنَّ معلمه كان دائم التجوّل وأنه كان يبدأ يومه بالخروج صباحاً إلى الحدائق والطرق العامة وأماكن التدريب، وأنه كان يقضي منتصف النهار في الأسواق وبقية النهار في أيِّ مكان تواجد فيه الناس. وكان عادة يقدّم حِكمته إلى من شاء الاستماع من دون أيِّ قيد.
شرح سقراط أثناء محاكمته كيف أنه أهمل تحصيل المال أو امتلاك الأرض، وهي أمور يحرص معظم الرجال عليها، لأنه أشرف من أن يضيِّع الوقت على هذه الأمور الجوفاء في وقت يمكنه أن يُنفِق الوقت على تقديم أعظم خدمة للناس وهي تشجيعهم على سلوك درب الحِكمة والخير. وأخبر زينوفون أنَّ كلّ ممتلكات سقراط كان يمكن بيعها بخمس دوانق ذهبية، مع ذلك فقد كان سقراط يؤكِّد بأنه يشعر دوماً بأنه غني فعلاً لأنه ليس في حاجة للمزيد من المال. وفي كتبه عن ذكريات عن سقراط وروى ديوجينوس لـرتيوس أن سقراط رفض عرضاً من شارميدس منحه بعض العبيد الذين يمكن أن يحقِّقوا له عائداً يُعينه في عيشه. كما سعى صديقه ألسيبيادس لمنحه قطعة أرض كبيرة ليبني عليها بيتاً، لكن سقراط رفض العرض وأجاب صديقه بالقول: لنفرض أنَّ بعضهم قدَّموا لي جلد بقرة ذبيحة لأصنع منه زوجاً من الأحذية، ألن يكون من المثير للسخرية أن أقبل بتلك الهدية. وهو كان يعني أنَّ قطعة الأرض ستفرض عليه إيجاد المال اللازم لبناء بيت وهو ما سيفرض عليه التخلِّي عن فقره.. . وذكر ديوجينوس في كتابه عن حياة أريستيبيس أنَّ هذا الأخير كان الأول من تلامذة سقراط الذي جلس للتعليم وتقاضى المال عليه. وفي إحدى المرات أرسل إلى سقراط 20 ديناراً لكن المُعلِّم رفض استلامها وأعادها إليه قائلاً إنَّ الهاتف الإلهي يمنعه من أخذها؛ ويضيف ديوجينوس أنَّ مجرد عرض المال من أريستيبيس كدّر خاطر سقراط على تلميذه.
ويروى أنه كان يمرُّ في الأسواق ويرى جملة البضائع والأشياء المعروضة فيها، فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لك كم من الأغراض أعنتني على تركها»؛ وكتب ديوجينوس لـ رتيوس أنَّ حياة سقراط تميَّزت بدرجة عالية من الانضباط، حتى أنه حصل في أكثر من مرّة أن انتشرت أوبئة في أثينا لكن سقراط كان الرجل الوحيد الذي لم يصل إليه المرض. وعلى الرغم من أنه لم يقبل أخذ المال أبداً فإنه عندما كان البعض يرسل إليه قمحاً أو زاداً

كان يأخذ منهما القليل ويردّ الباقي.

السيطرة على النفس

كان لـ سقراط مقدرة غير عادية على احتمال التعب والجوع، ثمَّ وبصورة خاصة احتمال البرد. وكل هذه الخصائص اختبرها زملاؤه خلال الحملة العسكرية التي شارك فيها سقراط على منطقة «بوتيده» وكانت في الشتاء وفي منط

قة تتميَّز بالثلوج والصقيع. وقد ذكر صديقه ألسي

بيادس كيف كان سقراط غير مُبالٍ بالجوع فيما كان الآخرون يتضوّرون من قِلَّة الطعام. أما عن احتماله للبرد فقد ذكر أنه بينما كان الجميع يختبئون في الداخل من الصقيع وإن خرجوا يرتدون الثياب الصوفية السميكة ويلفون أرجلهم باللبَّاد والصوف، فإنَّ سقراط كان يتنقل على الجليد حافي القدمين وبثوبه العادي بخِفَّة وسهولة تفوق أولئك الذين تدثَّروا الصوف وانتعلوا الأحذية الجلدية، وكان هؤلاء يرمقون سقراط بنظرات غريبة قد ظنوا بأنه بسلوكه هذا إنما كان يستهين بهم.
كان حليماً إلى أقصى الحدود، ولم يُرَ إطلاقاً غاضباً أو حانقاً. هذا على الرغم من أنَّ طريقته المُحرجة في طرح الأسئلة والحوار كانت تثير بعض صغار العقول، فكانت تأخذهم الحمية فيتعرَّضون له بالكلام النابي أو حتى بالعنف. لكن سقراط كان يستقبل هذا العنف الجسدي أو الكلامي بطيبة خاطر، وغالباً ما تمكَّن من تغيير الجوِّ بفضل أسلوبه المرح وروح الدعابة التي كان يظهرها. وقد سأله بعض أصدقائه يوماً: أَلاَ تجد بعض الناس من الغلظة بحيث لا يمكن احتمالهم. فأجاب: كلاَّ لأنَّ أيَّ شجار يحتاج إلى اثنين. فهم إن أظهروا عيوبنا فقد أفضلوا علينا، وإن لم يظهروها فإنهم لن يمسّونا بسوء.

تواضع الحُكماء

أهمّ صفة رافقت عِلم سقراط وحِكمته العظيمة كانت صفة التواضع والورع الشديد، مثل تأكيده الدائم لتلامذته وأصحابه أنه «ليس معلِّماً وإنَّما مجرد هاو للعلم» وهذا في الوقت الذي كان حريصاً فيه على مدح الآخرين وتعظيم شأنهم وشأن معرفتهم. بعض الناس في زمانه اعتبروا ذلك تصنُّعاً أو تظاهراً، لكن سقراط كان كمُعلم يقدّم المِثَال للآخرين بأنه لا يمكن لأحد أن يتعلَّم الحِكمة ما لم يعتبر نفسه جاهلاً في الأصل ولا يعتدُّ بعِلمه أو بما حصَّله قبل ملاقاته للحكيم. عُرِف عنه أنه لم يقل أبداً في حوار «لا أوافق»، بل كان ردُّه المؤدَّب أحياناً: لم استوعب النقطة أو الردّ بسؤال هدفه مساعدة المُحدِّث؛ وهو لم يوقف أي محادثة من تعب أو نفاد صبر وكان يرفق حجته بالكثير من الاحتياط والتحفُّظ بحيث يمكن

قبولها لمن يفهم أو تجاوزها أو اعتبارها مجرد محاولة لإيجاد حلٍّ أو تفسير. وفي كتاب أثيديموس لـ سقراط يعتذر سقراط لأصحابه عن «قصور فهمه» لهذه الأفكار المُعقَّدة ،حتى عندما تكون صائبة؛ مضيفاً القول: «إنني مُفكِّر خامل بل ربما قد أجنح أحياناً للإدلاء بآراء غريبة، لذا أرجو منكم أن تسامحوني».

نبوءَتُه وعِلمهُ بالغيب

كان سقراط يؤمن بقوَّة بأنَّ الله يهديه في كل خطوة يقوم بها، وأنه كان في بعض الحالات يستوحي مباشرة من الحضور الربَّاني معه. وفي آخر كتاب كريتو لـ أفلاطون يقترح سقراط على الحاضرين أن يقبلوا بنتائج الحِجَّة التي قدَّمها على اعتبار أنَّ الله إنَّما يهديهم عن هذا الطريق (أي عن طريق وضع الآيات الهادية على لسان سقراط). وقد أكَّد سقراط مِراراً بأنَّ مواهبه كلها وقدراته إنَّما هي إنعام عليه من الله.
وأبرز ملامح الاختبار الروحي لـ سقراط كان حديثه الدائم عن الروح المُرشد الذي كان يسميه daimon باللغة الإغريقية، وهو يؤكِّد في كتاب الجمهورية لـ أفلاطون أن ندرة من الناس أو ربما لا أحد أنعم عليه بالروح المُرشد الذي يقوده في كلِّ شيء. ويشرح زينوفون في مواضع عدَّة كيف أنَّ الحِسَّ النبوئي لـ سقراط كان من الوضوح والدِقَّة بحيث أنَّ العديد من أصدقائه وجلسائه كانوا يلجأون إليه، حيث كان ينصحهم

بفعل شيء ما أو الإحجام عنه وفقاً لوحي الروح العلوي، وقد حدث دوماً أنَّ الذين اتبعوا نصيحته نجحوا بينما الذين تجاهلوا نصيحته ندموا بعد ذلك. ويقول زينوفون أنه من الحماقة على أيِّ إنسان يرى عِلم سقراط للغيب ولا يؤمن من دون أيِّ شك أنه يتلقَّى ذلك مباشرة من الله. ويذكر سقراط أنَّ الروح المُرشد صدّه مرتين عندما بدأ يفكِّر في إعداد دفاعه أمام محكمة أثينا، وهو ما جعله يقرِّر أن لا يتقدَّم بأيِّ دفاع مُعدٍّ سلفاً.
ويذكر شيشرون في كتابه “عن التنبؤ” عدداً من القصص التي تؤكِّد حدس سقراط النبوئي وانكشافه على غيب الأمور. ففي إحدى المرَّات كان كريتو يهم بأخذ طريق تقع على جانبه شجرة كبيرة، وقد هرع سقراط لتحذيره من أخذ ذلك الطريق، لكن كريتو تجاهل تحذير سقراط ولم يكد يسير مسافة حتى سقط عليه غصن شجرة يابس وأصابه في وجهه. ورجع في اليوم التالي مُضمَّداً إلى سقراط الذي ذكره بتحذيره له. في حادثة أخرى كان سقراط ولاشيس قائده العسكري عائدين من معركة ديليوم عندما بلغا مفترقاً يتفرَّع منه ثلاث طرق، وقد رفض سقراط أخذ إحدى الطرق التي اقترحها لاشيس والآخرون فلما سألوه لماذا أجاب: إنَّ الله يحول دوني وذلك»، والحال الذين أخذوا الطريق الذي رفضه سقراط واجهوا فجأة فرقة من خيَّالة العدو.
في مؤلَّف للكاتب بلوتارك يورد الكاتب حواراً مُفصَّلاً لـ سيمياس عن «الهاتف الإلهي لـ سقراط»، ويذكر بصورة خاصة حادثة مثيرة وهي أنَّ سقراط حذّر مجموعة من الرجال عن أخذ طريق ما. لكن هؤلاء رغبة منهم في إثبات أنَّ تحذيره لا أساس له، قرَّروا أخذ ذلك الطريق لكنهم ما إن قطعوا مسافة صغيرة حتى واجههم قطيع هائج من الخنازير البريَّة، ونظراً لضيق ذلك الطريق فقد نشرت حوافر الخنازير الوحل على ثياب الرجال، كما أُلقي بعضهم أرضاً.

محاكمتهُ واستشهادهُ

تُعتبر محاكمة سقراط وما سبقها أحد أعظم الفصول التي يمكن لحكيم عظيم أن يختم بها حياته. وما زالت محاكمة سقراط من قِبَل هيئة محلَّفي أثينا محطةً بارزة في تاريخ البشرية وتاريخ الحِكمة والمواجهة بين الحقِّ والباطل. وما زالت وقفة سقراط وأسلوب مواجهته للموت والمواقف التي أعلنها خلال المحاكمة وبعدها مصدر إلهام لا ينقطع لأهلِّ السمو والمجاهدة والتسليم الحقيقي.
أول ما ميّز محاكمة سقراط أنه رفض الأخذ بخطاب دفاع قويٍّ أعدَّه أحد مريديه لاستخدامه خلال المحاكمة، وقد ردَّ سقراط على مريديه بالقول إنَّ الخطاب لا يلائمه. ويذكر زينوفون أن تلميذ سقراط هرموجينس حاول بدوره إقناعه، وهو أبرع من تحدَّث المنطق وقوَّة الحِجَّة بإعداد دفاعه الذي ينبغي أن يلقيه أمام لجنة المُحلَّفين؛ لكن المُعلم ردَّ عليه بالقول، أنه كلَّما بدأ التفكير في إعداد دفاعه فإنَّ الإشارات

الإلهية التي تَرِده كانت تصدّه عن ذلك.
بدلاً من خطاب مُعدٍّ سلفاً ألقى سقراط خلال المُحاكمة دفاعاً عفوياً وغير مُحضَّر بُنِيَ على العقل، وشرح للمُحلَّفين الأسباب التي دفعته لعدم الطلب من زوجته وأولاده الحضور وإلتماس البراءة له –كما كانت العادة في أثينا- وقد أدين سقراط بأكثرية ستين صوتاً من هيئة مُحلَّفين بلغ عدد أعضاؤها 501 عضو.
وطلب المدعي العام في القضية الإعدام لـ سقراط، وهي عقوبة يؤكِّد زينوفون أنها كانت مخالفة لقانون أثينا الذي يحصر إيقاع عقوبة الموت فقط بحالات الجُرم المشهود بالسرقة الموصوفة والخطف وسرقة المعابد.
وحسب القانون اليوناني فقد كان لـ سقراط الحقّ بالرد واقتراح عقوبة بديلة. وقد استخدم سقراط هذا الحقّ ليقترح –وهو المتأكِّد من أنه لم يرتكب ذنباً- أن تحكم هيئة المُحلَّفين بتقديم وجبة غذاء مجَّانية على حساب الدولة. وبالطبع فقد رفضت هيئة المُحلفين التي كانت أدانته هذا الطلب الذي يكاد يتَّسم بالسخرية منها؛ كما رفض سقراط النفي أو السجن باعتبارهما لا يليقان به، وانتهى إلى اقتراح تغريمه ديناراً ذهبياً واحداً. وكانت اقتراحات سقراط تعكس شخصيته القوية وفي الوقت نفسه عِزَّة نفسه الكبيرة، لكن هذه الاقتراحات قوبلت بالمزيد من الحنق من لجنة مُحلَّفين يسيطر عليها صلف النخبة وشعور السلطة، كما لا يوجّهها حقيقة مبدأ العدل وهي التي حكمت على العديد من الأبرياء في السابق. وقد ردَّ المُحلِّفون على سقراط بتصويت جاء نتيجته أسوأ من التصويت الأول، إذ بدل 80 من المُحلِّفين موقفهم ليصوِّتوا ضدَّ سقراط ويؤيِّدوا العقوبة.
وضع سقراط في السجن لكن تنفيذ عقوبة الموت به تأخُّر بسبب أعياد دينية مهمة، إذ كانت حكومة أثينا تُرسل سفينة إلى ميناء ديلوس كل عام لإحياء ذكرى مقدَّسة، وكان مُحرّماً تنفيذ أيَّة عقوبة بالموت طيلة المدة التي تستغرقها الرحلة وإلى حين عودة السفينة من مهمتها. ويبدو أنَّ إعصاراً وعواصف أخّرت رحلة عودة السفينة، وأعطت سقراط وتلامذته ومحبيه الفرصة لزيارة المُعلِّم يومياً والاستماع إليه في آخر أيَّامه. في هذه الأيام القليلة انصرف سقراط إلى كتابة شِعر بناه على حكايات أيزوب، كما ذكر لأصدقائه رؤية أوحي إليه فيها العمل على الموسيقى.

لا مُبالاته وهدوؤه التام في مواجهة الموت

في اليوم المُحدَّد لتنفيذ عقوبة الموت لـ سقراط أُزيلت الأغلال من قديه وأدخلت عليه زوجته زانتيبه وولده الصغير، كما أُدخل عليه من شاء من أصدقائه وتلامذته، وقد عرض أفلاطون الحكيم لتلك اللحظات الأخيرة بالتفصيل في حواريته الشهيرة فيدو. وكان سقراط يمضي في الحوار مع زائريه قبل تجرُّع السّم من كأس مُذهَّب؛ ويبدو أنَّ الحرس الأثيني اعترض على ذلك، مشيراً بأنَّ الحديث وما يرافقه من مشاعر

زينوفون:المُريد المُحبّ الذي سجَّل العديد

من جوانب شخصية وحياة سقراط

كان يمرُّ في الأسواق ويرى جُملة البضائع والأشياء المعروضة فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لكَ كَم من الأغراضِ أعنتني على تركها»

 

 

وانفعال قد يؤخِّر مفعول السمّ، لكن سقراط رفض التوقّف عن الحديث وعرض على الحَرس استعداده لتجرُّع السمّ ثانية وثالثة إذا اقتضى الأمر. ومع اقتراب الغروب توجَّه سقراط للاستحمام حتى يوفّر على النساء مهمة غسل جثته، وعندما سأله كريتو كيف يريد منهم أن يدفنوه قال سقراط: «عليك لكي تدفنني أن تُمسِك بي أولاً»، (وكان يعني بهذا القول الرُّوح، وأنَّ سقراط الروح لا يمكن دفنه)، لكنه أردف قائلاً: «أمَّا الجسد فيمكنكم دفنه بالطريقة التي ترونها مناسبة». وبعد أن استحمّ وَدَّعَ سقراط زوجته وولده الصغير، ورفض تأخير الإجراءات واتبع تعليمات الحَرس في تجرُّع السمّ وبالمشي في الغرفة إلى أن يشعر بثقل في رجليه، بعدها استلقى على ظهره وغطَّى نفسه ورأسه بالكفن القطني الأبيض، ثمَّ رفع الغطاء للحظة سائلاً صديقه كريتو أن يدفع نذراً بذِمَّته إلى إسكولابيوس، قديس الشفاء، ثمَّ غطَّى رأسه مجددا وأسلم الروح.
يُسجِّل زينوفون أنه لم يحصل في التاريخ أن واجه إنسان الموت بمشاعر النُبل والرضى التام التي أظهرها سقراط. ويضيف أنَّ سقراط شعر بأنَّ النِعمَة الإلهية شاءت أن توفِّر عليه مشقَّة الكهولة، مثل أن يفقد البصر أو السمع، أو أن يتبلَّد ذهنه أو يصاب بالخَرف. كما أنَّه بموته بهذه الطريقة، فإنه سيبقى أكثر وإلى الأبد في ذاكرة البشرية وأجيالها القادمة. ويتَّفق زينوفون مع أفلاطون في أنَّ سقراط رفض اقتراح عقوبات مُخفَّفة على هيئة المُحلَّفين، لأنَّ ذلك كان يعني إقراره بالتهم التي وُجِّهت إليه.

حوار سقراط الشهير مع السفسطائي أنتيفون

روي زينوفون هذا الحوار الخالد بين المُعلِّم سقراط وبين أحد السفسطائيين المدعو أنتيفون، والذي خاطب سقراط بالقول أنَّ الثمار التي يجنيها من الفلسفة هي مزيج من المرارة والتعاسة. فهو يحصل على أفقر الطعام والشراب ولا يمتلك سوى ثوباً واحداً يلبسه صيفا وشتاءً، ولا يمتلك معطفاً يقيه البرد أو حذاء. كل ذلك نظراً لأنه يرفض تقاضي المال على تعليمه، مع كلِّ ما يوفِّره المال من وسائل للسعادة والاستقلال، وما يشبع به حاجاته. وأضاف أنتيفون القول بأنَّ المُعلِّم يدفع تلامذته عادة للاقتداء به، ولهذا فإنَّ سقراط يمكن اعتباره مُعلِّماً للشقاء.
بماذا ردَّ سقراط على أنتيفون؟
قال: «يبدو يا أنتيفون أنك تعتقد حقاً بأنَّ حياتي بائسة للغاية، وأنا على يقين بأنَّك لو كنت في مكاني لكنت فضَّلت الموت على هذا النوع من الحياة. فلننظر إذاً ما هي مظاهر البؤس التي رأيتها في حياتي. ألا ترى أنَّ الذين يأخذون المال ملزمون بتنفيذ العمل الذي تقاضوا المال من أجل القيام به؟ وبما أنني أرفض تقاضي المال فإنه ليس في إمكان أي إنسان أن يلزمني بشيء لا أرغب به؛ أو أنك تظنُّ بأنَّ طعامي بائس لأنه ليس كاملاً مثل طعامك، أو ليس مغذِّياً؟ أو أنه من الصعب عليَّ الحصول على اللحم الذي تحصل عليه نظراً لنُدرته ولارتفاع ثمنه؟ أو أنَّك تظنُّ بأنَّ طعامك بصورة عامة ألذّ وأطيب من طعامي؟ لكن أَلاَ تظنُّ أنَّ المرء الذي يتمتّع بطعامه في كلِّ حال لا يحتاج إلى المرق مثل غيره؟ وأنَّ من يتمتّع بالشراب مهما كان قليلاً تقلُّ حاجته للبحث عنه عندما لا يكون متوفِّراً؟ أمَّا بالنسبة للأثواب، فإنَّ الناس تُبدِّل ثيابها كما تعلم وفقاً لحالات البرد أو الحرّ، كما أنَّ المرء ينتعل الحذاء حماية لقدمه من التشقّق أو صعوبة المشي. فهل بلغك أنني بسبب هذه النواقص أمضي وقتي في المنزل لا أخرج إلى الناس خوفاً من البرد؟ أو أنني أُنازع أي إنسان على الظلِّ في وقت الحرّ، أو أنني عجزت عن المشي والذهاب إلى أيِّ مكان أريده بسبب تقرّح قدميّ؟
ألاَ تعلم أنه في إمكان أيِّ شخص نحيل أو ضعيف الحال أن يمتلك وبفضل التدريب المناسب، قوَّة تفوق بكثير أيِّ شخص مفتول العضلات لكن لا يتبع التدريب المناسب؟ وبما أنَّك ترى كيف أني أُدرِّب جسدي على احتمال كافة الظروف، أَلاَ تعتقد بأنني في إمكاني احتمال أيّ ظروف شاقَّة قد تطرأ أفضل منك بسبب نقص التدريب لديك؟
أَلاَ تعلم أنَّ اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دوماً إذا أمكن للمرء اكتساب متع أكبر وأرفع، وهذه المِتع ليست فقط مصدراً للفرح الحقيقي، بل لأنَّ في الإمكان إدامتها والحفاظ عليها؟

اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دومـــــاً إذا أمكن للمرء اكتساب المِتَع الأرفع والفرح الحقيقي الذي يدوم

وأنت تعلم أيضاً أنَّ من يعتقد أن لا شيء في حياته يسير على ما يرام، هو إنسان شقي حتى ولو كان يعيش في يُسرٍ مادي وبحبوحة، وأن من يعتقد بأنه موفَّق في مهنة الزراعة أو الملاحة أو أيِّ عمل آخر سيكون سعيداً بمجرد اعتقاده بأنه موفَّق في هذه الأمور؟ وهل تعتقد أنَّ هناك في الحياة أجمل من فكرة «أنني أرتقي كلَّ يوم في طريق الخير وأنني أكسب أصدقاء أفاضل»، وهذا في الواقع هو اعتقادي الدائم؟ أضف إلى ما سبق أنه لو احتاج أصدقائي أو احتاجت مدينتي إلى المعونة فمن هو الأقدر على التلبية؟ الشخص الفقير مثلي الذي يملك كلَّ الوقت والحرية، أو ذلك التي تصف حياته بأنها مليئة بالسعادة؟ من الذي سيجد الانخراط في الجندية دفاعاً عن المدينة أسهل عليه؟ هل هو الذي لا يمكنه العيش دون الطعام غالي الثمن، أو الذي يرضيه الحصول على أيِّ شيء يسدّ جوعه؟ ومن ذا الذي بحال تعرُّضه للحصار سيستسلم أولاً؟ ذاك الذي تتعلّق نفسه بالحصول على أشياء من الصعب الحصول عليها في ذلك الظرف، أم الذي يكتفي بأيِّ شيء يجده آنذاك؟. يبدو لي يا أنتيفون أنك تعتبر أنَّ السعادة هي في الحصول على أفخر الأشياء والإسراف في العيش، لكن اعتقادي بالمقابل هو أنه من ليست له حاجات هو في مقام ربَّاني، وأنَّ من يملك أقل شيء ممكن يأتي في المرتبة التالية من الرِفعة المعنوية لأنَّ المقام الربَّاني هو أعلى المقامات وأنَّ أيَّ سلوك يقترب منه يكون بالتالي أقرب إلى ذلك المقام.

شؤون وشجون الاغتراب في منطقة راشيا

عين على المعيشة وعين على مستقبل الأولاد

“الضحى” تحاور مغتربين ومقيمين حول الهجرة وآثارها

في منطقة راشيا التي صدرت ألوف الشباب نحو العالم وخصوصا المغتربات البعيدة في الأميركيتين الشمالية والجنوبية مشاعر مشتركة في ما يخص الغربة وآثارها. الهاجس الأول هو الأسرة والأولاد وخطر الذوبان في المجتمعات الجديدة وبالتالي انقطاع رابط “الحسب والنسب” مع الوطن الأم. السؤال الذي يردده الكثيرون ممن التقينا بهم: هل تستحق الهجرة وهدف جمع المال هذا الثمن الباهظ؟ الجواب مع ذلك ليس موحداً. بينما يعطي البعض الأولوية لإنجاز الثبات في الأرض وصون الهوية ويشكو ترك الأرض فإن البعض الآخر يعتبر الهجرة رافدا مهما لاقتصاديات القرى التي هاجر منها الشباب أو قل “شر لا بد منه” في غياب التنمية المستدامة وفرص العمل الكريم في الوطن.
هنا حصيلة جولة من الحوارات المفيدة التي أجراها مراسل الضحى عماد خير:

المغترب قاسم سلامة : لا ينفع جمع المال إذا خسرنا أولادنا

اغترب ما يقارب الـ 35 عاماً لكن الحنين إلى الوطن ومنادمة الأهل والأصدقاء وتربية الأولاد على عادات وتقاليد البلدة أثمن من جمع المال.

ما هي الظروف التي دفعتكم إلى السفر ؟ ولماذا كانت العودة والاستقرار في البلدة؟

أسباب الغربة تكاد تكون واحدة:

صعوبة الأوضاع الاقتصادية في لبنان، انعدام فرص العمل ثم الحرب الأهلية التي كانت كارثة على الوطن وعلى شبابه.
على الرغم من ذلك، فإن جمع المال في المغترب لا يكفي بل أقول ما الذي ينفع المرء إذا جمع الأموال الطائلة في الغربة وخسر أولاده؟ وأي ربح يمكن أن يعوض هذه الخسارة الفادحة. لهذا قررت أن تنشئة الأولاد في الوطن وعلى العادات والتقاليد المحلية وزواج الأولاد من أبناء ملتهم أثمن بكثير.

كيف تنظرون إلى العلاقات الاجتماعية بين لبنان وكندا؟
العلاقات الاجتماعية في كندا محدودة جداً وهي تقتصر على الأهل والمغتربين من ابناء البلدة أما العلاقة مع الآخرين فهي علاقة عمل. حاولنا الحؤول قدر الإمكان من دون اختلاط الأولاد بالأجانب ولا سيما خارج نطاق المدرسة

وذلك للتخفيف من احتمالات الاندماج بعادات وتقاليد الغرب. وكم كنت أتمنى أن يتوفّر لأولادي ظروف أفضل في هذا البلد لتجنيبهم خوض تلك التجربة مرة أخرى. ومما يثير القلق أن الكثير من أبناء الطائفة تزوجوا من نساء في كندا وهذا ما يؤدي الى قطع صلة الوصل بالوطن والأهل لأن أولادهم يشبون على عادات وتقاليد الغرب.

بماذا تنصحون أو هل لديكم اقتراح لتفعيل ارتباط الشباب بالبلدة؟
على القيمين على الشأن الدرزي شد أواصر الشباب من خلال ارسال كتيبات تشرح أهمية ارتباط الشباب بالوطن الأم.
المغترب أحمد الحلبي عدت وأعمل لعودة أبنائي أيضا

بعد 29 عاماً من الاغتراب كيف تنظرون إلى الغربة؟
الغربة عن الوطن هي مثل ليلة ظلماء من دون صباح، لأنها ليل يطول انتظار آخره وبزوغ الشمس والعودة الى الوطن وطن الآباء والأجداد. لكن ها أنا وبعد أعوام الغربة الطويلة عدت إلى الوطن داعيا أولادي أيضاً إلى العودة من خلال شراء الأراضي وتشييد الأبنية ومحاولة إقامة عمل في الوطن.

كيف بدأتم حياتكم في الغربة؟

بدأتها كتاجر متجول على العربة ثم اقتنيت سيارة وانتهيت بامتلاك محل للمفروشات كل ذلك كان بالمعاناة وعرق الجبين والسعي دوماً لإيجاد الأفضل.

هل أولادكم يحبّذون الغربة؟
أولادي متزوجون وعائلاتهم تسكن في البلدة. فهم مهاجرون من أجل العمل وهدفهم مثلي هو المحافظة على الأولاد ومنعهم من الانجراف خلف الثقافات الأخرى، وأنا عدت خصيصا لتزويج أولادي من البلد خوفاً عليهم من الارتباط بنساء أجانب.

السيد صدام ابو رافع: الهجرة نعمة ونقمة

صدام أبو رافع شاب عمد إلى تكوين ذاته في رحاب الوطن متسلحاً بالإرادة العليا، شعاره أن الوطن للجميع وأن الغنى ليس المال بل هو الاستقرار النفسي والهوية والحياة الأسرية السعيدة. سألناه:

كيف تنظرون إلى السفر؟
السفر هو مخرج أو متنفس للشباب عندما تأفل أمامهم السبل. والغربة على الرغم من المشقات والآلام التي تسببها باتت مكوناً أساسياً في اقتصاد الوطن. لكن لا يجب النظر إلى الهجرة على أنها نعمة فقط لأنها في الوقت

رئيس بلدية ينطا عن أثر الهجرة

الهجرة الواسعة أخرت سن الزواج والإنفاق أكثره على المنازل الفخمة

التقت مجلة “الضحى” رئيس بلدية ينطا نبيل الحلبي في حوار تناول تاريخ الهجرة في ينطا والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي يرتها على البلدة وهنا نص الحوار:

ما هي دوافع الاغتراب في البلدة؟ضيق السبل المادية وصعوبة ايجاد فرص عمل والظروف الصعبة التي كان يعيشها أبناء هذه البلدة دفعتهم إلى الهجرة منذ القدم.

ما هو تأثير الحروب على الهجرة؟
الاوضاع المأسوية التي أرخت بظلالها على الوطن ككل خلال الحرب الأولى دفعت بالعديد من الشباب آنذاك إلى الهجرة، لكن صعوبة السفر في تلك الأيام أبقت على معدلات الهجرة منخفضة. لكن في مطلع 1950 أخذت معدلات الهجرة ترتفع نحو كندا وبلغت الذروة خلال الحرب الأهلية، حتى أصبح لدينا اليوم ما يقارب الـ 2000 مهاجر 90 في المئة منهم استقروا في كندا وتوزع الباقي على بلدان مختلفة.

كيف أثر الاغتراب على الروابط الأسرية؟
لا شك أن الغربة تؤثر على هذا الواقع حيث تأخر سن الزواج إلى ما بعد 30 عاما وارتفعت نسبة العزوبية لدى النساء وتزايدت حالات تزويج النساء إلى خارج البلدة.

ما هي طبيعة عمل المغتربين والمهن التي يأخذون بها؟
يعمل معظم مغتربي البلدة في التجارة وهناك آخرون استطاعوا اقتناء المطاعم لا سيما في ضواحي المدن والريف الكندي، كما برز العديد من أبناء البلدة على صعدٍ أخرى فهناك ثلاثة من ابناء البلدة كتّاب عدل على مستوى الجالية العربية والأستاذ صقر حسن العنيسي محامٍ لامع في الاستئناف.

هل هناك مساهمات من قبل المغتربين في الحياة الاقتصادية للبلدة؟
تلعب أموال المغتربين دوراً أساسياً وفعالاً في إنماء البلدة، وقد ساهمت تلك الأموال في تنفيذ مشاريع المياه والصرف الصحي وإقامة موقف في البلدة بالإضافة إلى إنشاء دار للمسنين.
كما تلعب أموال المغتربين دورا مهما في تحريك اقتصاد البلدة من خلال الأموال المرسلة إلى ذويهم. وخلال فصل الصيف يزداد عدد المغتربين في البلدة مما يخلق حركة اقتصادية جيدة . لكن مع الاسف لا توجد مشاريع تحد من البطالة في البلدة وإن كان هناك استثمار فهو غالبا ذو طابع فردي بينما ينفق الكثير من الأموال على تشييد المنازل الفخمة.

كيف ترون علاقة المغتربين بالبلدة؟
باختصار البلدة أصبحت مثل “الفندق” يأتي إليها المغتربون خلال فصل الصيف ويغادرونها في نهاية موسم العطلات، لكن يمكن القول أن المغتربين أصبحت لهم ثقافتهم وأجواءهم وإن كانوا يسعون جهدهم للحفاظ على علاقة عضوية بالوطن.

نفسه نقمة باعتبارها تفرغ الوطن من شبابه المتعلم والعامل بحيث أصبحت بعض القطاعات ولا سيما الزراعة تفتقر إلى العمال وتتأخر باستمرار

هل تعتبرون أن إنتاجكم اليوم جيد مقارنة مع ما يمكن أن تحققوه في الخارج؟
عرض علي العمل في الخارج وغادرت لبنان أشهراً عدة فوجدت أن الانسان عندما يطور عمله في وطنه ويكون مؤمناً به يستطيع أن يحقق نتائج افضل من النتائج التي يحققها في الخارج. أولاً المال ليس كل شيء وما النفع في أن تحصل على المال وتخسر عائلتك في ثقافةٍ مختلفة. وهل يستأهل ذلك المخاطرة بالنفس والعائلة وإن قست الظروف؟

هل يساهم المغتربون في اقتصاد البلدة؟
نعم، هناك مساهمات في الشأن العام وفي مد يد العون لمساعدة المحتاجين لكن لا يوجد مشروع يستطيع تخفيف البطالة أو ايجاد فرص عمل جديدة فكل الأعمال محض فردية.

رئيس بلدية ضهر الأحمر الاستاذ شوقي بحمد:

تعتبر ضهر الأحمر إحدى قرى راشيا المهمة والنابضة بالحياة. “الضحى” التقت رئيس البلدية الأستاذ شوقي بحمد في هذا الحوار:

كيف ساهم الاغتراب في هذه الحركة؟
يلعب المال الاغترابي دوراً مهماً في غياب الانتاج المحلي على الصعد الزراعي والصناعي، وغالباً ما تتجه تحويلات المغتربين نحو تشييد الأبنية وإنشاء المؤسسات التجارية أو الإنتاجية الفردية.

هل لهذه النشاطات دور في استيعاب البطالة؟
للأسف لا يوجد مؤسسات ضخمة قام بها المغتربون وتستوعب أعداداً من الموظفين بل بقي جل نشاطهم محصورا في مؤسسات فردية وبعض المصانع البسيطة.
وقد يكون الاستثناء المحلي هنا هو الاستثمار في قطاع التعليم الخاص، إذ نشأ عدد من المدارس الخاصة التي تساهم بشكل فعّال في توفير فرص العمل للشباب لكن معظم هذه المؤسسات استثمار محلي ولا تعود إلى مغتربين.

كيف أثّرت حركة الاغتراب في تنشيط سوق العقارات؟
المال الاغترابي لعب دورا مهما في تنشيط حركة العقار والبناء إذ تم استثمار جزء مهم من أموال المغتربين في شراء الأراضي وتشييد الأبنية التجارية والسكنية. لكن هذا الإقبال أدى من جهة ثانية إلى رفع أسعار العقارات بشكلٍ ملحوظ.

د. شوقي أبو لطيف عن الهجرة في عيحا

أصبحت قطاعاً اقتصادياً ولا حل من دون تنمية مستدامة

بلدة عيحا هي إحدى القرى الواقعة في سفوح جبل الشيخ، يقارب عدد سكانها الـ 3000 نسمة لكن ما يقارب الـ 30 في المئة منهم منتشرون في الاغتراب
يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن هجرة أهل ينطا بدأت نحو الأميركيتين الشمالية والجنوبية في مطلع القرن الماضي لكنها بلغت حدا في ما بعد قبل أن تشهد البلدة موجة جديدة من الهجرة بعد العام 1950، ثم خلال الحرب الأهلية التي اندلعت العام 1975. في تلك الفترة الصعبة سافر ما يقارب الـ 200 شاب إلى المملكة العربية السعودية لينتقلوا في ما بعد نحو كولومبيا والبرازيل وفنزويلا.وما زالت الهجرة في ينطا هجرة شبابية بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من أن العديد منهم يعتقد أنه يهاجر للعمل ولكنه سرعان ما يركز أعماله في البلد ويكتشف أنه من الصعب عليه ترك أعماله والعودة، كما أن البعض الآخر يرى أولاده يتزوجون في تلك البلاد ويقيمون فيها وهؤلاء يرغبون عادة البقاء إلى جانب أولادهم

شرح الدكتور أبو لطيف مخاطر الاغتراب على العلاقة طويلة الأمد بالوطن بالقول أن هناك بعض المغتربين الذين يحرصون على العودة بأولادهم إلى رحاب الوطن من خلال إرسالهم للتعلم في الجامعات اللبنانية، وهم يعملون بصورة مستمرة على توثيق عرى التواصل مع الوطن وذلك عبر إرسال الأولاد بشكل مستمر إلى البلدة ليقضوا عطلة الصيف مثلا. لكن الاستمرار في الاغتراب وترك الأولاد ينهلون من ثقافة الغربة يعقدان مهمة الأهل الذين غالباً ما يخسرون الرهان ويعجزون عن تحقيق حلم العودة والاندماج مجدداً بالوطن
ويضيف أن الآثار السلبية للهجرة لم تقتصر على خسارة الرابط بالأهل والوطن بل تعدتها مع الأسف إلى الاقتصاد الزراعي الذي شكل أساس نمط عيش أهلنا والسبب الأهم لتمسكهم بالأرض. وقد ساهمت الهجرة إضافة إلى سعي الشباب للعمل الوظيفي إلى تدهور حالة الأراضي الزراعية وإهمال الكثير منها كما أدت إلى تراجع حجم الإنتاج الزراعي في القرية ومحيطها
على الرغم من ذلك يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن الهجرة باتت واقعاً أساسياً وجزءاً من مجتمعنا، بل هي أصبحت قطاعاً اقتصادياً أساسياً لا يقل في أهميته عن القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة أو الصناعة أو الخدمات، لأن هذا القطاع يدعم الاقتصاد المحلي من خلال التحويلات المالية الكبيرة التي ترد من عالم الاغتراب، وهو يرى أن التخفيف من الهجرة وآثارها يكون عبر التنظير عن بعد بل يجب البحث في أسس التنمية المستدامة والبحث عن البديل وتأمين فرص حقيقية وأمل بالمستقبل للشباب في لبنان

الشيخ هائل القاضي: مناجل الغربة تحصد أولادنا

أحد قدامى مغتربي عين عطا حدثنا وقال أن الهجرة في البلدة شأنها شأن معظم الهجرات المماثلة. سفر وحلم بالعودة ثم غلبة المهجر ومتطلباته على آمال العودة. ويشير إلى أن معظم هجرة عين عطا بدأت في مطلع القرن الماضي إلى الأرجنتين والولايات المتحدة. وبالنظر لأن تلك البلاد بعيدة فإن تواصل المهاجرين الثقافي والعائلي يصبح صعباً، وهم لذلك يسلّمون بالأمر الواقع والقليل منهم عاد أدراجه نحو الوطن. ويضيف القول أن الهجرة عادت مجدداً في مطلع خمسينات القرن الماضي ولا سيما نحو البرازيل حيث كان من أوائل هؤلاء المغتربين محمد حسن خضر ومحمد سعيد القاضي.
ألفت هنا إلى أنه وفي مطلع العام 1960 هاجر من البلدة 60 شاباً في وقت كان عدد المنازل فيها ستين منزلاً أي أننا شهدنا هجرة شاب واحد على الأقل من كل منزل.

كيف كان واقع الهجرة خلال الحرب الأهلية؟
أثرت الحرب الأهلية كثيراً فتضاعف عدد المهاجرين بشكل ملحوظ ولاسيما نحو أوستراليا، حيث برز عدد من المهاجرين وفي طليعتهم أبناء الشيخ علي ريدان.
أحد مغتربي عين عطا قال الهجرة أصبحت مصيدة الشباب الناجح عندما يغترب الشباب ويؤسس عمل يقع فريسة اللاعودة فهو لا يستطيع التخلي عنه بل يصبح جزءاً منه فينقله إلى أولاده ليصبحوا ملزمين به.
وآخرون يفشلون فلا يحبذون العودة فتحصد مناجل الغربة أولادهم.

من هم أبرز مغتربي البلدة الذين ساهموا بشكل فعّال في إنمائها؟
لا نستطيع أن نحصر المساعدات باشخاصٍ محدودين لكن نستطيع القول بأن السيدين محمد حسن خضر وسليمان علي ريدان من اصحاب الأيادي البيضاء الذين ساهموا مساهمة فعّالة في انماء الشأن العام للبلدة من خلال ما أسدوه من خدمات إلى أبناء بلدتهم.

المغترب أياد أبو لطيف : الاغتراب سلاح ذو حدين

هل أثّر الاغتراب على العلاقة الأسرية؟
تزوجت ولم أرغب أن تغادر زوجتي فكونت أسرة في لبنان وكنت أزور البلد بشكل سنوي كي لا يشرب أولادي أجواء الغربة، والرغبة في المحافظة عليهم. واليوم قررت أن أبقى بشكل نهائي إلى جانب أسرتي كي لا أكسب المال وأخسر أسرتي.

كيف يساهم المغتربون في البلدة؟
يلعب المغتربون دوراً مهماً في تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال الأموال التي يتم صرفها

لا سيما خلال فصل الصيف أو الأموال المرسلة إلى ذويهم.

المغترب فوزي كمال الحاج: إقبال على العقار

أولادي لا يحبذون العودة لغياب الإستقرارين الأمني والسياسي في البلد وعدم قدرتهم على التكيف مع هذا الواقع المرير لا سيما المحسوبية.
المشكلة مع ذلك ليست في الهجرة وحدها بل في تحول الشباب نحو الوظائف الحكومية والخاصة أو العمل التجاري وتراجع المساحات المستثمرة زراعياً وكذلك تربية المواشي التي ضعفت بشكل كبير ولاسيما في السنوات العشر الأخيرة.
في المقابل نرى أن المال الاغترابي اتجه نحو سوق العقارات في منطقة راشيا بشكل ملحوظ سواء على سبيل الاستثمار أو بهدف بناء المنازل الخاصة أو إنشاء الأبنية المعدة للتأجير والاستثمار التجاري.

صوت مواطن رفض الاغتراب
سامر سيف الدين: الثبات إنجاز أهم من الهجرة

الأستاذ سامر سيف الدين مدرس شق طريقه منفرداً بعيداً عن الغربة على الرغم من العروض التي قدمت له للعمل في الخارج فكان أن ارتضى العمل براتب في البلد وعدم الإغتراب براتبٍ يعادل 3 أضعاف راتبه. سألناه:

ما الدافع وراء بقائكم في ينطا على الرغم من هذا العدد الهائل من الذين هاجروا؟
دفعني أولا حب الوطن والإيمان بأن من الممكن لأي شخص يجتهد أن يجد فرصة عمل في بلده. كنت كلما راودتني فكرة السفر أسترجع أيام صباي وصور البيوت ورائحة الصعتر والزيتون وجمال جبل حرمون فأعدل وأقرر الثبات في الأرض.

ما هو واقعكم اليوم وماذا حققتم؟
أستطيع القول إنني حققت في بلدي ما عجز الكثيرون عن تحقيقه في الخارج وبثمن الغرفة وشقاء الانسلاخ عن الجذور. لقد حقق البقاء ومقومة فكرة الهجرة جزءاً من طموحي بالإضافة إلى اكتسابي مهنة التعليم الممتعة وهي مهنة تمكنك فعلا من تخريج الرجال التي تعتبر مصنع الأجيال وخزان الوطن، كما أنني أصبحت مدرباً في المركز الثقافي البريطاني.

ما الذي تعتبرونه أبرز انجازاتكم ؟
الانجاز الأكبر في نظري كان البقاء في الوطن وتدبر شؤوني في وطني، فضلاً عن ذلك فإنني حزت على عدد من الجوائز في العالم العربي بما في ذلك الحصول على المركز الثالث في سلطنة عمان أمام ما يزيد على 200 أستاذ من 18 دولة عربية.

بماذا تنصحون الشباب؟
أنصح الشباب بأن يتحلوا بالصبر والنفس الطويل وأؤكد لهم أن الوطن قادر على حضن الجميع ولكن لا بدّ من بعض التضحيات وعدم استعجال النتيجة.

أدب الحرب في وصيتين

الخليفة عمر بن الخطاب

اشتهر عمر بن الخطاب الخليفة الثالث لرسول الله (ص) بصفات القوة في الحق والعدل في الناس، لكن بين إحدى أهم صفات هذا القائد العربي كانت شهامته وتمسكه بأعلى مناقب السلوك في الحرب، وهو الذي كان يؤمن بأن سبيل النصر هو تقوى الله وليس المكائد والخيانة أو الظلم والعدوان كما يحصل اليوم في أكثر حروب البشر وصراعاتهم. في ما يلي وصيتان لـ الخليفة عمر كان يكررهما على اسماع القادة والجند قبل انطلاقهم للجهاد وهما وصيتان زاخرتان بالمعاني التي تكشف سماحة الإسلام وعظمته

وصية عمر لقادة الجند

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على إلقاء هذه الوصية على مسامع قادة الجند عند تسليمهم الأعلام وتأهبهم للفتوحات والجهاد. وتلخّص هذه الوصية البليغة مفهوم الجهاد في الإسلام باعتباره يقوم على تقوى الله وطلب النصر منه عبر اجتناب المعاصي وهنا نص الوصية:
«أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة على الحرب. وآمرك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخْوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعُدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم تجاهدون في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلَّط علينا، فرُب قوم سُلِـط عليهم شرٌّ منهم كما سُلِط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، اسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم.‏

وصية عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح

أوصى عمر بن الخطاب قائده أبا عبيدة بن الجراح لما وجّهه إلى فتح بلاد الشام بما يلي:‏
“بسم الله وعلى عون الله، وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تُمثـِّـلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرِماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حُمّة النهضات، وفي شن الغارات، ولا تَغُلّوا عند الغنائم، ونزِّهوا الجِهاد عن غرض الدنيا، وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم”.‏
أهم ما في هذه الوصية هي تشديد الخليفة عمر على أن يكون الجهاد والسير بالفتح «بسم الله وعلى عون الله»، لأن هذه النية بالذات هي التي تميّز «الجهاد» الحقيقي عن حروب العدوان والتوسّع أو الانتقام أو كسب المجد الدنيوي العابر. كما يؤسس الخليفة عمر لقانون إنساني في الحرب ينسجم مع سماحة الإسلام عندما يوصي قادة جنده بعدم الاعتداء، لأن الله تعالى لا يحب المعتدين كما يوصي بعد ذلك بإظهار الشجاعة عند لقاء العدو ويحذر من المُثلة –أي التمثيل بالجرحى والقتلى- وهو ما نهى عنه الرسول (ص) أيضاً في الحديث الصحيح: «إياكم والمُثلة ولو بكلب عقور».
كما يوصي عمر المسلمين «بألا يسرفوا عند الظهور»، ومعنى هذا ألا يتعدوا حدود التواضع بعد تحقيق النصر، لأن هذا النصر من عند الله من جهة، ولأنه ليس من المصلحة إيغال صدور جند العدو بالتكبر والتعالي والزهو عليهم عند النصر، من جهة ثانية فإن قتل الشيوخ والنساء والأطفال محرم كما يتوجب على المقاتلين أن يبذلوا جهدهم لتجنب إيذاء المدنيين عند اشتداد حدة القتال (إذا التقى الزحفان) أو في حال القيام بالإغارة على معسكرات العدو وتجمعاته.
يوصي عمر جنده بعد ذلك «بألا يغلوا عند الغنائم» أي الاستئثار بجانب من الغنائم وعدم تقديمه إلى القسمة الشرعية ويضيف «وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به». ‏وهو الجهاد المكرس لخدمة الله تعالى ودعوته، والمنزه عن أي هدف من الأهداف الدنيوية وقد اجتمعت الآيات القرآنية والسنة النبوية على فضل وثواب الجهاد في سبيل الله

الزيّ الديني عند الموحِّدين والموحِّدات الدروز

إنَّ استعمالنا لكلمة “الزيِّ الديني” يجب أن يفهم بمعناه الثقافي والتراثي، لأنَّ الموحّدين الدروز السالكين في معارج الحق هم جماعة من العابدين والزُهَّاد الأحرار الذين لا يتبعون إلى رهبانية أو ما يشابهها من المؤسسات والسلطات التي قامت في العديد من الأديان، وبات لها هرميتها وتراتبيتها وامتيازاتها. وقد نشأ الموحَّدون الدروز كسالكين يهتدون بهدي العارفين من كبارهم وزُهادهم، الذين لا يبتغون من هذه الدنيا سوى مرضاة الله والالتزام بوصاياه والتقرُّب منه بالعبادة والذكر الدائمين.

 

أما “الزيّ الديني” فقد تطوَّر من الأساس ليس ليمنح عُقَّال الدروز والطالبين منهم موقَّعاً خاصاً على غيرهم، ولا ليشير إلى مكانة دنيوية أو سلطة على العباد، بل ليقدِّم أوضح دليل على مجافاتهم لمباهج الدنيا وبهارجها وتحمُّلهم لمشقَّة ارتداء الخشن من الثياب وأسود اللون منها ورفضهم التزيُّن، أو استخدام الذهب أو الفضة أو غيرها. كما إنَّ قيافة السلوك بين العُقَّال واحدة ولا يستحبّ لأيِّ منهم أن يبالغ في نوع القماش أو الهندام بغية أن يرفع نفسه على الآخرين، وهذا ما يقوي فيهم روح الزُهد والخضوع لله والتساوي والأخوة والتواضع في السلوك.

برغم ذلك فإنَّ اتساع جماعة العُقَّال وتنوّع مداركهم ومراتبهم في السلوك، وَلَّد مع الوقت توجُّهاً لترجمة هذا التمايز في السلوك والمقام الروحي ببعض العلامات البسيطة التي تمثِّل إعترافاً بفضل أهل العلم والصلاح، وإصراراً من عامة الموحِّدين على تقدير مشايخهم من أصحاب المقامات الروحية أكثر ممَّا تمثِّل اتجاهاً أو قبولاً بخلق تراتبية كهنوتية من أي نوع.

وتعرف طائفة الموحّدين الدروز أكثر ما تُعرف بأزياء مشايخها ونسائها المتديّنات، وهي أزياء كما يتضح لها جذورها في المجتمع المشرقي الإسلامي، وإن كانت قد اتخذت خصوصيتها الثقافية ربما بتأثير تطوُّر المجتمع الدرزي كمجتمع جبلي وزراعي، بل يمكن القول إنَّ قسماً مهماً من لباس الموحِّدين الأجاويد يعود في جذوره إلى القرون السابقة ربما كان يشترك في بعضه (الشروال والصدرية المزررة وحتى العمائم) جمهور الموحِّدين، لكن التطوّر الذي شهده المجتمع في ما بعد _ وبتأثير دخول التقاليد الغربية والثقافات العصرية _ زايد الفارق في لباس العُقَّال وبقية المجتمع الدرزي إذ تمسَّك الأجاويد السالكين منهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساء بتراث الأجداد وأدب المظهر حشمة وتقشُّفاً، فنشأ بذلك هذا التمايز الذي نراه اليوم.

تمييز المشايخ التُقاة في زيِّهم جاء اعترافاً بفضلهم وتكريماً لهم، ولم يستهدف في أي حال خلق تراتبية كهنوتية من أيِّ نوع

يُعرَف “الأجاويد” الموحّدون، أي الملتزمون، بارتدائهم الزيّ الديني وحلاقة شعر الرأس. أمّا اللباس فيتألَّف، في الغالب، من السروال والقميص أو “القمباز” أي القِباء، وفوقه الجبّة أو العباءة التي تُرتدى في المناسبات، وغالباً ما يكون الأسود هو اللون المعتَمد، في إشارةً إلى الزهد الذي طبع حياةَ المتديّنين، وربما على سبيل الابتعاد عمَّا ساد المجتمعات المشرقية في مراحل الازدهار والبحبوحة من تباه بالألبسة المزركشة ومظاهر الجاه. علماً أنَّ بعض الأجاويد يُفضّلون اللون الكحلي الداكن، بينما يختار الآخرون ألواناً خاصة للعمل مثل: اللون الزيتي، أو الأسمر الفاتح (العسكري). وأمّا الأكيد، وفي جميع الحالات فهو البساطة المعتمدة في الزيِّ وعدم التزيُّن واعتماد الألوان، قاصدين أنَّ يكون الهدف من الزيّ السترة وتأكيد الزهد والتواضع والتساوي.

كما أنَّ زيّ المرأة الموحِّدة “الجويّدة”، يتألّف من التنورة السوداء، وأحياناً الكحلية الفضفاضة الطويلة حتى محاذاة الكعبين، والقميص اللائق غير الشفاف وطويل الكمّين، والمنديل الأبيض الكبير الذي هو حجابٌ يغطي الرأس والصدر والظهر والفم بل والأنف أيضاً لدى بعض المتورّعات التقيّات، وهذا ما يُسمّى “اللَّثمة” أو “الستحة” بحيث لا تظهر المرأة الموحِّدة إلاَّ عينيها. كما لا يُستحَبُّ  اعتماد ألوانٍ أخرى أو التفنّن بترتيب الزيّ وهندمته، ولكن يجوز عند بعض النسوة أو الفتيات تخفيف المنديل طولاً وعرضاً وسماكة، مع الالتزام باللون الأبيض وتغطية الشعر. بعض النسوة، اليوم، يضعن المنديل الأبيض الصغير كشعارٍ، ومنهنّ من يضعنه في مناسبات الأتراح فقط، ولكن، ما يُشدّد عليه المشايخ، في كلّ حال، هو “أنّ زيَّ الموحّدين والموحّدات يجب أن يراعي شروطاً ثلاثة هي: الحشمة والسترة، البساطة والزهد، النظافة والترتيب

مؤسسة العرفان التوحيدية، تعرّف إلى مذهبك، ص 48.

الأمير السيد شدَّد دوماً على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّدين

لقد كانت السلطات الدينية والزمنية الإسلامية تتدخّل، غالباً، للحفاظ على الأزياء، وشدّد الأمير السيّد التنوخي على احتشام المرأة في لباسها، وعلى ضرورة تقيّدها بالقواعد الدينية… حتى أنّ

مشيخة العقل تصدّت مرّاتٍ عدّة لأمر اختلاط النساء بالرجال وتزيّنهنّ بالأزياء الأوروبية الحديثة ” المُخلّة بالآداب”، والسفور عن الوجوه، موجّهةً ومحذّرةً من تفشّي الخلاعة.. إذ في ذلك غضب الله تعالى والحرمان الديني. وهذا ما يُشدّد عليه “الأجاويد” دائماً”، مع التأكيد على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّد، دون أن يغلب أحدهما الآخر، فيتحوّل الدينُ تحجّراً ورياءً، أو يغدو تساهلاً ويُسراً خاضعاً للأهواء والمغريات.

فصول من العادات والتقاليد في جبل لبنان، حسن البعيني، ص 211، (بتصرّف).

أمّا المشايخ الموحِّدون فيرتدون العباءات السوداء في المناسبات، وبعضهم يرتديها حتى في محيطه القريب محافظاً على الطابع الرسمي لكونه شيخاً، وهي على 3 أنواع:

  1. العباءة السوداء: يلبسها معظم رجال الدين في مناسباتهم الاجتماعية. وهي قصيرة الأكمام مفتوحة الصدر، تنتهي تحت الركبتين بقليل.
  2. العباءة الحمراء المقلَّمة بخطوط بيضاء عمودية: وهي قصيرة تصل الى تحت الخصر، ويلبسها غالباً كبار السن من رجال الدين.
  3. العباءة البيضاء المقلّمة بخطوط سوداء عمودية: وهي قصيرة أيضاً، ولا يلبسها إلاَّ من يجتمع رأي المشايخ على أن يرتديها في حال رأوه أهلاً لذلك، وفقاً لدقّة مسلكه وإخلاصه في

عبادته، فيكون واحداً من المشايخ القدوة في منطقته أو على مستوى الطائفة”ز

كذلك، يعتمُّ الرجالُ بالعمامة البيضاء، وتُعرف أيضاً باسمٍ آخر هو “اللفّة”، باعتبارها قبّعة ملفوفة بنسيج، وهي مؤلفة من طربوش أحمر يلفه كليّاً وبطبقات رقيقة القماش الأبيض، سوى سطحه، وقد “كانت العمامة معروفة وذات أهميّة عند العرب، اقترن مصيرهم بها، وقد جاء في الحديث الشريف “العمائم تيجان العرب” وقيل أيضاً يبقى العرب ما بقيت عمائمهم،… وكان الخليفة العباسي المتوكّل أول من أحدث تمييزاً في العمائم، فجعل البيضاء والخضراء للمسلمين، والصفراء لليهود، والكحليّة (الزرقاء) للنصارى”[2]وتغيّرت الألوان بتغيّر العهود. وتقترب عمامة الموحّدين من عمامة شيوخ الأزهر مع بعض الاختلاف في عدم بروز سطح الطربوش الأحمر عن مستوى “اللفّة البيضاء”.

يعتمر العمامةَ معظمُ المشايخ الملتزمين، بحيث لا تفارق رؤوسهم سوى أثناء العمل لتحلّ مكانها “العرقية” أو “القلنسوة” البيضاء أو “الحَطّة” التي هي شبه المنديل الصغير الأبيض (معتمَدَة في مناطق راشيا وحاصبيا، كما في سورية)، والتي يُمكن أن تُوضع، كذلك، فوق العمامة، والغاية من ذلك أن لا يبقى الرأس دون غطاء، وهذا تقليدٌ إسلاميّ قديم.

أمّا العمامة “المدوّرة” أو “المكولسة”، أو “اللفّة المدوّريّة”، فتخصّ البارزين في التقوى من أركان المرجعية الروحية أو الهيئة الروحية العليا، كما بات يُعرَف اليوم، أو من المشايخ المشهود لهم بورَعهم وتقواهم، “وقد تراوح عدد المعمَّمين بها بين قلّةٍ وكثرة، فوصل إلى حوالي الأربعين في أواخر القرن التاسع عشر”، بينما مرّت فتراتٌ لم يكن فيها من المعمّمين سوى شيخٍ واحد أو اثنين أو ثلاثة، امّا اليوم فهم أربعة فقط، “ولابسو هذه العمامة يتحوّلون محجّة ومرجعاً لأخوانهم من رجال الدين، كما يعود إليهم رجال السياسة في المواضيع المهمّة والأزمات الصعبة والقضايا المصيرية. ومن المعروف أنَّ معظم من لبس هذه العمامة  لم يرضَ أن يُعمّم بها إلاّ بعد إلحاحٍ شديد من المشايخ، وذلك من قبيل الزهد والتواضع، ولم يُخالف هذه القاعدة إلاّ قلائل جدّاً ممّن رغبوا باعتمارها، أو ممّن لبسوها عن يد مَن ليس مُعمَّماً بها، وهذا الأمر يُعتبَر استثنائياً وغير مُستَحبّ.

من جهةٍ أُخرى، يقتدي الأولاد بأهلهم، عادةً، في ارتداء الزيّ، فيلبس الولد السروال، ويُسمّى “الشروال”، “والعرقية” البيضاء على الرأس، وتلبس البنت الرداء الطويل والمنديل الصغير الأبيض، منذ سنِّ مبكّرة، ويُفضَّل عدم تعويدهم على الألوان المزركشة والملابس الفاخرة، حتى إذا بلغ الولد فيختار إمّا الاستمرار في الالتزام بالزيّ الديني ومسلك أهله، أو التخلّي عن الزيّ، ومنهم من يبقى ملتزِماً سلكه الديني، وإن لم يظلّ مرتدياً الزيّ بشكلٍ دائم.

 (نصّ مقتطف من رسالة جامعية للشيخ سامي أبي المنى، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وأمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية – 2009)

 

شهداء وادي التيـم في أثناء الثورة السورية الكبرى 1925-1926

جدول بالشهداء الأبرار الذين قدّمتهم بلدات منطقة وادي التيم. في أثناء الثورة السورية الوطنية الكبرى في مواجهة عدوان المستعمر الفرنسي. لأرواحهم الرحمة، لذكراهم المجد والخلود، ولمنطقة وادي التيم الأبيّة التحية لعطاءات لها لم تتوقف دفاعاً عن الأرض والشرف والكرامة. أعد الجدول وزوّد به الباحث في تاريخ وادي التيم الأستاذ أمين خير.

أفراد من بني معروف يتجهزون للإلتحاق بالثورة الى جانب سلطان باشا
أفراد من بني معروف يتجهزون للإلتحاق بالثورة الى جانب سلطان باشا

[su_accordion]
[su_spoiler title=” شهداء حاصبيا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أسعد شرف
قاسم أبو دهن
محمود أبو دهن
علي أبو غيدا
علي بدوي
علي الغزال
سلمان الشمعة
سلمان الشوفي
سلمان شرّوف
فارس أبو عمّار
فارس حامد
فايز بدوي
فايز وزير
قاسم محمد أبو دهن
محمود يوسف ابو دهن
قاسم بدر الدين
محمد أبو دهن
محمود أبو غيدا
ملحم شروف
محمد بدوي
سعيد الحلبي
نجيب سابق
علي رعد
يوسف ايو عمّار
يوسف الحرفاوي
يوسف عزالدين
يوسف العيسمي
جميل قيس
ابراهيم أبو دهن
علي يوسف بدوي
اسماعيل بدر الدين
أسعد جبر
صالح ابو دهن
صالح الخماسي.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء راشيا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشيخ سلمان زاكي
الشيخ نعمان زاكي (قاضي مذهب)
سليم سعيد زاكي
سليمان أحمد زاكي
يوسف حسين زاكي
علي أبو غطاس مهنا
شرف الدين أبو غطاس مهنا
غطاس أبو غطاس مهنا
أسعد حسين مهنا
أحمد عثمان مهنا
رشراش الصبّاغ
خطار صعب
علي صعب
علي صالح فايق
صافي ناجي
إبراهيم علبي
محمد أبو صفا
أسعد صافي
جبر الحلبي
عسّاف الحلبي
يوسف البيطار
يوسف التقي

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء ميمس
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم أبو قنصول
حسن أبو قنصول
سليم أبو العز
بشير دحدوح
ذوقان مدّاح
محمود عربيد
يوسف غالب صالح

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء عين قنيا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

فارس كبّورة
قاسم محمد أبو رافع
غانم سنان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء شويا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سليم جماز
بشير علوان
سليمان أبو سيف
قاسم جماز

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عيحا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

محمد يوسف
جميل حمود
يوسف سلمان
قاسم بهاء الدين
يوسف بهاء الدين
يوسف حسين بو لطيف
يوسف السقعان
أسعد السقعان
حسين السقعان
قاسم البرقش
أسعد حمصي

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عين عطا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سعيد ريدان
أسعد ريدان
رشراش القاضي
سليم القاضي
علي شاهين القاضي
ابراهيم القاضي
حسين ميرهم
سعيد حسين البرّي
شمس الدين غزالة

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء كفرقوق” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

علي مرعي أبو درهمين
محمود عبد الخالق
محمد شرف

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء حلوا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

رشراش البلانة
سليمان البلانة
أسعد سجيم
حسن سجيم
إبراهيم سجيم
مزيد الطويل

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء الخلوات” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

حسن علي بوفاعور
قاسم أبو سعد
وهبي حسين بوفاعور

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء الكفير
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سعيد أحمد سعيد
يوسف عدنان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء تنورة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أحمد التقي
صالح أبو زور
حسين سرحال

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء ظهر الأحمر
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سلمان منذر
شهاب العوّام

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عين جرفا
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أسعد الحسنية

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء دير العشاير
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

محمد الذيب
ابراهيم ابو سعدى
محمد فايق

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء مجدل بلهيص
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم محمود

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء ينطا
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم تمراز
صالح الحلبي
سليم الحلبي
ابراهيم الحلبي
يوسف ياغي
سليمان شتيه
سليم نصر الدين الحلبي
حسن مظفر
سالم علاء الدين
قاسم الحكيم
حسين كمال

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

2018