السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كل الجهات… القدس!

لا تستطيع ، ولا أية مطبوعة ثقافية عربية، أن تكون بمنأى عن تحوّلات الحدث الجلل الحزين الذي ألقى بظله الثقيل على الأراضي العربية الفلسطينة أواسط الشهر الأخير من السنة الماضية والذي تمثّل بالقرار الجائر من رئيس الدولة الأولى في العالم اليوم (لجهة الإمكانات والقوة العسكرية والاقتصادية) دونالد ترامب والذي تضمّن الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلده بالتالي إليها.
وليس أدلّ على خطورة ما أقدم عليه الرئيس الأميركي ترامب من متابعة الإجماع الفلسطيني، والعربي، والإسلامي المسيحي، بل والدولي ضد خطوته على نحو جعل الولايات المتحدة (بين مشاهد مشابهة أخرى) تقف وحيدة في مجلس الأمن الدولي ضد باقي بلدان العالم الممثل في المجلس (14 صوتاً مقابل صوت الولايات المتحدة وحيداً) في جلسة 18/12/2017، إلى مشاهد مشابهة أخرى بدت فيها الولايات المتحدة مع إسرائيل في مواجهة العالم بأجمعه، فخطوة ترامب تنقض الاجماع الأممي والدولي في رفض أي تغيير للوضعية القانونية والسياسية للقدس في ظل الاحتلال، وفي اعتبارها مدينة فلسطينية محتلة إلى أن تجد حلاً نهائياً عن طريق التفاوض وليس الاحتلال العسكري، أو فرض الحلول بالقوة.
ومع الأسف لتخلي الراعي الدولي الأول عن مسؤولياته حيال ملف القدس، ومن باب تقديرنا مع العالم بأسره لخطورة خطوة ترامب، ليس حاضراً فقط، وإنما مستقبلاً وبالمعنى الشامل، كما عبّر عن ذلك بوضوح البيان الصادر عن سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز بتاريخ….، وتضامناً مع المدينة الفلسطينية العربية، المسيحية الإسلامية بامتياز، فقد جعلنا للقدس ملفاً خاصاً أوّل، في العدد هذا جعلناه تحت عنوان

“كل الجهات… القدس”.
وبالرغم من عامل الوقت الذي يعقّد من متابعة الدوريات الفصلية للحدث المتحرك بسرعة، فقد كان الملف الذي جهّزناه تحت ضغط عامل الوقت أقل ما يجب القيام به إسهاماً ولو بالقليل في فضح بطلان الإجراء الأميركي المتسرع والجائر، وزيف كل المبررات التي استند إليها. مع التسليم ببطلان كل الأسباب والمبررات السياسية والقانونية التي أعطيت للقرار، وإفصاحه بالخط العريض عن وحدة الأهداف بين سياستي الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن خلفية تصرف ترامب إنما أظهرت ثقافياً، برأي الكثيرين، إلى الأسباب السياسية الأخرى، حقيقتين اثنتين هما، أولاً تجاهله للحقائق التاريخية، وثانياً، تقديمه المصالح السياسية على حساب الحقائق والقيم. وإذا كان واحد من السببين أعلاه يكفي ليضلّ الحاكم سواء السبيل (رحمة الله على أفلاطون في ’جمهوريته’ وعلى الفارابي في ’مدينته الفاضلة’) فكيف إذا اجتمع السببان معاً.
نؤكد أن القدس فلسطينية عربية منذ ثلاثة ألاف سنة، وأن اليهود لم يسكنوها إلا للحظات، وبالمعنى الحرفي قياساً بزمنها الفلسطيني العربي المشرقي المديد. وبذلك فقد كرر الرئيس الأميركي مأساة وعد بلفور، أي لقد “أعطى من لا يملك” أرضاً لمن “ليس له حق فيها”. إذ وفق أي قانون يتصرف رئيس دولة ما (مطلق دولة، وكائناً ما كانت قوتها) بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة وفق القانون الدولي (وأولها الأرض) فيقدّمها لجهة لا تملك أي حق له فيها؟

وللتذكير فإن العالم منذ سنة 1947، أي قبل اصطناع دولة إسرائيل، كان حريصاً على تنبيه الجميع إلى أن القدس هي فوق المصالح والسياسات، وأنها إرث روحي يخص العالم بأسره والمؤمنين بأسرهم. والعالم ذاك، ممثلاً بالأمم المتحدة بدأ حرصه على طلب إعلان القدس عاصمة للمؤمنين بأديان الله كافة، وليست لدين واحد، وختم إعلاناته تلك – حتى الآن – بإعلان مجلس الأمن سنة 2016 قراره الأممي رقم 2334 بتاريخ 23/12/2016 الذي نصّ صراحة على عدم اعترافه بأي تغيير في حدود الرابع من حزيران 1967 في ما خص الأراضي، بما فيها القدس، “إلا إذا توصّل الطرفان إلى تسوية في هذا الشأن، وعبر مفاوضات”. وما تصويت مجلس الأمن الدولي ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يشبه الإجماع ضد قرار ترامب، غير برهان إضافي على أن ترامب في واد، والعالم بإسره، تقريباً، في واد آخر.
ونؤكد مرة أخرى أن في القدس أقدس مقدسات المسيحيين والمسلمين (عشرات الأمكنة)، ولذلك فقد غدت القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كما أنها تحتفظ بتاريخ روحي مسيحي عريق.

ومع ذلك، فالأكثر خطورة في قرار ترامب هو تداعياته المستقبلية. فلم يتأخر بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بربطه أية مفاوضات في المستقبل مع الفلسطينيين باعترافهم أولاً بقرار ترامب اعتبار القدس يهودية وعاصمة ’أبدية’ لإسرائيل.
ولم تتأخر لجنة الاستيطان الصهيوني في استثمار الوضع الناشئ فأعلنت دون إبطاء عن النيّة لبناء أربعة عشر ألف وحدة سكنية جديدة في القدس المحتلة والمستوطنات الصهيونية المحيطة بها.
والتحرك الإسرائيلي السريع والمنسّق لاستثمار التصعيد الأميركي ليس غير جزء من الاستراتيجية الصهيونية المستمرة القائمة على عدم تقديم أية تنازلات – ولو صغيرة – بخصوص الأرض وإجبار الفلسطينيين والعرب بالمقابل على القبول بالأمر الواقع الجديد وقبول ما يبنى عليه. وأكثر الأدلة وضوحاً تصريح نتنياهو الأخير في باريس وما معناه أن الإجراء الأميركي يعجّل في عملية السلام التي تقوم على “اعتراف الفلسطينيين بالأمر الواقع”.

لكن حسابات حقل ترامب – نتنياهو لم تتطابق ومعطيات الحقل الفلسطيني، والعربي، والدولي. فقد أشعلت خطوة ترامب ردود أفعال فلسطينية غاضبة، من القدس المحتلة إلى رام الله وغزّة، وبدا أن الفلسطينيين قد توحّدوا من جديد وأنهم جاهزون للذهاب في التصدي للقرار الأميركي إلى أقصى حد، وإلى حدود ما يقترب من انتفاضة ثالثة بدت نُذُرُها في عدد الشهداء والجرحى والأسرى الذي باتت تحمله أخبار كل صباح من المدن والبلدات الفلسطينية.
عربياً، بدا أيضاً أن قرار ترامب قد أعاد القضية الفلسطينية، ومحورها القدس، إلى صدارة أولويات الشعوب العربية، بعدما نجحت المآرب السياسية الأنية في جعل ’الإرهاب’ هو القضية وعلى حساب القضية الفلسطينية. أعاد القرار الأميركي الأمور إلى نصابها وعادت القضية الفلسطينية في رأس أولويات القضايا العربية وربما العالمية أيضاً.
وانفجرت دولياً في وجه ترامب – نتنياهو مواقف من العالم بأسره، حكومات ومنظمات وشعوباً، في أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا وشرق أسيا، رافضة هذا الاستخفاف الأميركي بالحقوق التاريخية الوطنية للشعب الفلسطيني، وبالقرارات الدولية الصريحة في هذا الشأن.
القدس، مدينة السلام، زهرة المدائن، ’خزنة’ أديان التوحيد، وذاكرتها، ومن غير المعقول أن تستمر العربدة الصهيونية فيها أو حولها إلى ما لا نهاية. هي لحظة من الزمن وستمضي في النهاية، كما مضى غيرها، وتعود القدس قِبلة وملتقى لكل الباحثين عن السلام في مدينة السلام، ولبني البشر كافة، يجمعهم اشتراكهم في الجوهر الإنساني، والحقوق الأساسية المشتقة منه، كما يجمعهم إيمانهم، وما يشتق منه – ولا نقول يترتب عليه – من واجبات. وحين تتوازن الواجبات والحقوق، في الأفراد والعلاقات والسياسات، نقترب من تحقيق إنسانيتنا، وعلى قدر ما تسمح به ظروف عيشنا، وعلى أمل أن يكون ذلك خطوة في طريق خلاص أكثر شمولاً – نحو الحق والحقيقة.
تسهم ’الضحى’ في الحملة العربية، والإسلامية المسيحية، والدولية، ضد قرار ترامب بهذا الملف الذي جرى إعداده في وقت قصير، ويتضمن ثلاث فقرات:
– الإعلانات اللبنانية، والعربية، والمسيحية الإسلامية، التي
صدرت ضد القرار،
– بطلان قرار ترامب من وجهة نظر القانون الدولي،
– و”القدس في التاريخ”

كنيسة القيامة
كنيسة
القيامة

ردود الأفعال على خطوة الرئيس الأميركي الجائرة

في هذا الإطار، صدرت عن جهات روحية وزمنية عدة بيانات ووثائق استنكرت الإجراء الأميركي أهمها:
1- عن المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز،
2- الوثيقة الصادرة عن القمّة المسيحية الإسلامية في بكركي
3- التوصية الصادرة عن المجلس النيابي اللبناني.
4- القمّة الإسلامية في إسطنبول.
5- فضلاً عن إعلان الاتحاد الأوروبي موقفه الواضح عبر إعلانه
أن القدس الشرقيّة هي عاصمة دولة فلسطين…

◄ ففي بيان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في اجتماع
مجلس إدارته نهار الثلاثاء في 12/12/2017 برئاسة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن أكّد فيه «تمسّكه بالقدس كمدينة جامعة لها خصوصيّتها الروحانيّة الخاصّة وصفتها التمثيليّة للديانات السماويّة، رافضاً مصادرتها من أي طرف كان لاسيّما سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وحذّر من التداعيات الناجمة عن مثل هذه القرارات. داعياً إلى تحرّك عربي عاجل يكون على مستوى هذا التحدّي الخطير الذي يطال المسلمين والمسيحيين على السواء، باعتبار أن القدس الشريف هي عاصمة دولة فلسطين المستقلّة»(1).

◄ كما أكّدت القمّة الروحيّة المسيحيّة الإسلاميّة التي عقدت في
بكركي نهار الخميس في 14/12/2017، على أن «تهويد القدس هو تحدّ لثلاثة مليارات شخص… وأن قرار الرئيس الأميركي ترامب الاعتراف «بالقدس عاصمة إسرائيل» يسيء إلى ما ترمز إليه مدينة القدس وهو مبني على حسابات سياسيّة… لا سيّما أن القدس تزخر بمواقع تاريخيّة مقدّسة لدى الديانات التوحيديّة وليست مدينة عاديّة كغيرها من مدن العالم لها موقع مميّز في ضمائر مؤمني هذه الديانات…».
وأشار البيان الختامي لقمّة بكركي إلى أنّ «أصحاب القداسة والغبطة والسماحة يرفضون هذا القرار ويطالبون بالرجوع عنه فضلاً عن مخالفته القوانين والمواثيق الدوليّة… وإن القدس الشرقيّة هي عاصمة دولة فلسطين…» (2).

◄ نهار الجمعة في 8/12/2017 انعقد مجلس النواب اللبناني
بدعوة من رئيسه الأستاذ نبيه بري في جلسة خاصة كرست لمناقشة خطورة خطوة الرئيس الأميركي حيال القدس والتداعيات المحتملة للقرار على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي.

كما جاء في البيان الختامي للقمّة الإستثنائيّة لمنظمة التعاون
الإسلامي المنعقدة في إسطنبول نهار الأربعاء 13/12/2017 ما يلي: «نرفض وندين بأشدّ العبارات القرار الأحادي غير القانوني وغير المسؤول للرئيس الأميركي ترامب، ونعتبره لاغياً وباطلاً، واعتداء على الحقوق التاريخيّة والقانونية والطبيعية والوطنية للشعب الفلسطيني، وتقويضاً متعمّداً لجميع الجهود المبذولة لتحقيق السلام، ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب ويهدّد السلم والأمن الدوليين». على هذا الأساس، تعلن القمّة الإسلاميّة أن «القدس الشرقية هي عاصمة لدولة فلسطين وتدعو الدول إلى أن تعترف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقيّة المحتلّة عاصمة لها، مؤكدين أن على واشنطن أن تنسحب من دورها في عمليّة السلام»(3).

توصية مجلس
النواب اللبناني

إن مجلس النواب اللبناني المجتمع في 8 كانون الأول سنة 2017 لبحث موضوع القرار الأميركي بخصوص القدس الشريف، يعتبر أن القرار المتعلق بنقل السفارة الأميركية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يقود إلى الحروب ويهدد الأمن والسلام الإقليمي والدولي ويشكّل غطاء للاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته وعملياته الاستيطانية وكل تجاوزاته على القوانين الدولية والإنسانية. كما أن القرار يشجع النوايا العدوانية الهادفة لأسرلة وتهويد فلسطين، ويهدد الآثار الناجمة عن ذلك بتنفيذ مشاريع التوطين وتذويب الشعب الفلسطيني وشطب القضية الفلسطينية تمهيداً لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية.
إنّ مجلس النواب إذ يستنكر ويدين هذا القرار يؤكد أن بناء وصنع السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط إنما ينطلق من تأكيد الحقوق والأماني الوطنية للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وفي تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولية المتعلقة بالأراضي العربية.
والمجلس يؤكد على:
1- دعم حق الشعب الفلسطيني في مقاومته ونضاله المشروع
للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي لنيل كل حقوقه في العودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
2- الرفض الشديد لموقف الإدارة الأميركية بشأن إقفال مكتب
منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
3- إدانة قرار الاحتلال الإسرائيلي الاستمرار في مشاريعها
الاستيطانية الاستعمارية في أراضي دولة فلسطين المحتلة.
4- إخلاء سبيل البرلمانيين الفلسطينيين المختطفين والمعتقلين في
سجون الاحتلال أو الموقوفين إدارياً مما يستوجب موقفاً عقابياً رادعاً من قبل البرلمانات والمنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية وعلى رأسها الاتحاد البرلماني الدولي.
5- دعمه للمصالحة الوطنية الفلسطينية من خلال منظمة
التحرير الفلسطينية وتوجيه الطاقات كافة لاستكمال مسيرة الاستقلال الناجز بعودة اللاجئين إلى ديارهم وإقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة.
6- توجيه كل الجهود العربية والإقليمية لوضع الإمكانات كافة
في سبيل إيصال الفلسطينيين لحقوقهم وتجنب كل الصراعات الأخرى.
7- إبلاغ هذه التوصية إلى الإدارة الأميركية باسم الشعب اللبناني
والحكومة اللبنانية ولأعضاء مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، واعتبارها وثيقة رسمية باسم الشعب اللبناني.
بيروت في: 8/12/2017
رئيس مجلس النواب
نبيه بري

القدس
في التاريخ

د. صالح زهر الدين

في السادس من كانون الأوّل 2017، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وثيقة أطلق عليها «وثيقة الوعد» الرسميّة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد توقيعه عليها في البيت الأبيض. معلناً في الوقت نفسه أن القرار تأخّر، فأقدم حيث لم يجرؤ أيّ من أسلافه في البيت الأبيض، وهذه الوثيقة تقضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس…
وحده بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) هتف قائلاً: «هذا يوم تاريخي»، ثم ألا نستطيع القول، أن هذا الإعلان الترامبي هو «وعد ترامب» الأميركي مثلما هو «وعد بلفور» البريطاني واستكمالاً له؟
أليس هذا الإعلان الأميركي هو بمثابة «القرار الأخطر» في التاريخ الفلسطيني، الذي يعادل قرار «إقامة دولة الاحتلال الصهيوني» على أرض فلسطين العربية؟ أليس هذا «الوعد الترامبي» بخصوص القدس.
في ضوء ذلك نتساءل: لماذا القدس اليوم؟ وما أهميتها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؟ وماذا عن مصيرها ومقدساتها بعد قرار الرئيس الأميركي ترامب بشأنها؟ وما الموقف والاقتراحات إزاء ذلك؟
قال أحد الكتاب: إذا طُلِبَ من إنسان أن يعرّف عن نفسه، فإنه يقدم بطاقة هويته الشخصية أو جواز سفرٍ، أو إخراج قيد، أو ما شابه. وإذا طُلِبَ من أمّة أن تعرّف عن نفسها، فإنها تقدم علماءها ومفكّريها ومؤرّخيها وأطباءها ومهندسيها وفنّانيها وعباقرتها وأبطالها، كبطاقة تعريف لها… لكننا نحن بدورنا نقول إنه إذا طُلب من القدس أن تعرّف عن نفسها، فإنها ستقول بلا شك إسألوا التاريخ، لأن «الـقـدس مدينة التاريخ، وكأنها والتاريخ توأمـان لا ينفصمان»(1).
والجدير بالذكر، أن السيد المسيح عليه السلام دخل القدس راكباً على حمار تحقيقاً لنبوءة زكريا، واستُقبل بسعف النخل دلالة على انتصار كلمة الحق، وشرع في الوعظ ملقيا خطبة إثر أخرى. غير أنه أظهر غضباً كبيراً عندما رأى في ساحة الهيكل الباعة والبضائع وحركة التجارة، فطردهم صارخاً: “بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”. بعد ذلك حاور كهنة اليهود ناقضا عليهم جمود الروح، ومرّة أخرى تصبح البقعةُ التي تقوم عليها القدسُ وما حولها اصطفاءً إلهياً لنشر العدالة في الأرض … وأخيراً توّجت أمجادُ الصبغة المقدسة للمدينة، باختيارها من قبل الباري سبحانه وتعالى، كموضع صلة بين السماء والأرض، إذ أسرى بالنبي الكريم إليها، ومنها عرّج إلى السماء، فكان أن اتخذ من المسجد الأقصى قبلة أولى للمسلمين(2)﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ1﴾ (سورة الإسراء). و«لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم (في المدينة المنوّرة)، والمسجد الأقصى» (رواء مسلم عن أبي هريرة).والـواقع، أن ما يجري الـيـوم مـن «توأمة» مـدن وقرى ومدارس ومستشفيات وغيرها في العالـم لن يصل إلى أهم «توأمة» في التاريخ ولن يشهد التاريخ بعدها «توأمة» بهذه الأهمية. تلك «التوأمة القرآنية» التي جمعت القدس بمكّة المكرّمة.
بعد أن أصدر الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) قراره الشهير بشأن القدس، فإننا نستطيع القول أنّه إذا كان الناس في الماضي يستعينون بالنجم القطبي والبوصلة في تنقلاتهم، فإننا اليوم، بالنسبة للقدس والمقدسات، بحاجة إلى «قطب» وإلى بوصلة أيضاً، تدعى «بوصلة القدس»، لا تتجه إبرتها نحو الشمال – كما هو متعارف عليه – بل تتجه إلى هناك. إلى القدس وفلسطين فقط… لأنه لا‎ ‏ يمكن أن يوجد في العالم قضية يجب أن يتفق عليها العرب والمسلمون بحجم قضية القدس، فالقدس هي أرضُ الله ولا يمكن التنازل عن أرض الله مهما كانت النتائج، وإلا لن نكون جديرين بالانتماء الحق لرسالة السيد المسيح عليه السلام ولرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا لمدينة الله ومدينة السلام، التي رأى فيها الشاعر الإيطالي «دانتي» محورَ الكون، وبلغت من السموّ مركزاً قلَّ أن بلغه مكان آخر في العالم(3).
والحقيقة أن شعار «الـيـهـود شـعـب الله الـمختار» وشـعـارَ «الأرض الموعودة» يقول عنهما البابا الأنبا شنوده الثالث: «إن اليهود جاؤوا إلى فلسطين (التي يسمّونها الأرض الموعودة) ليس بوعد من الله، بل بوعد من بلفور»(4). الذي كان «أوّل وثيقة لخلق أوّل وطن قومي يهودي»(5)، ورغم ذلك، ستبقى القدس لؤلؤة العرب والمسلمين وضمير الأمّة، وأرضها من أقدمِ مواطن الإنسان، ولقد اختصّها الله بفضله دون بقاع أرضه فكانت من أقدم بقاع الأرض التي عرفت التوحيد ومهبط الرسالات السماوية ودرج على أرضها رسل كرام.
على هذا ستبقى القدس حاضرة فينا حضور القداسة في مقدساتها، وحضور العدل في ميزان العدل… حاضرة فينا حضور المسيحية في السيد المسيح عليه السلام، وحضور الإسلام في النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم… وعندما كان من المستحيل أن تتبرأ المسيحية من مسيحها، وأن يتبرأ الإسلام من نبيّه الكريم، فمن المستحيل أن تغيّب القدسُ عنا، فهل نغيب عنها؟
في معرض ذلك، لا بد من الإشارة إلى بعض ما تطرّق إليه «الأب الروحي» للصهيونية الدكتور تيودور هرتزل، حيث قال: «إذا حصلت يوماً على القدس وكنت ما أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل ما هو غير مقدس لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها القرون»(6).
أليس ما يجري حالياً – وما جرى – في القدس هو التعبير الحيّ عمّا ذكره هرتزل؟… فلو كان هذا الكلام الهرتزليّ بمثابة ‎«وصيّة»،‏ لما كان اليهود ينفذونه بهذه الدقّة وبهذه الروحية الهرتزلية الصهيونية…
وفي هذا الإطار، قال دافيد بن غوريون أيضاً: «إذا أردنا خلاصاً يهودياً مئة في المئة، فلا بدّ من استيطان عبري مئة في المئة، ومزرعة عبرية مئة في المئة، ومرفأ عبري مئة في المئة..»(7). وبالطبع فإنه يتضمن القدس كحلقةٍ مركزيةٍ في السلسلة اليهودية، لذلك نرى بن غوريون يقول: «لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل»(8).
والجدير بالذكر، أن اليهود بارعون صهيونياً بفبركة «مطابخ الأفكار» و«مـصانع الـمـزاعـم والادعاءات» وليس زعـمـهـم وادعاؤهم بـ «يـهـودية» القدس، إلا من هذا القبيل والتي تعود إلى أيام النبيين داوود و سليمان (ع)، في أعقاب احتلال القدس في القرن العاشر ق. م. حيث لم تدم سيطرتهما عليها أكثر من 70 عاماً… بينما تؤكد وثائق التاريخ وآثاره (كما سنرى لاحقاً) أن القدس مدينة عربية كنعانية: وليست يهودية حكمها العرب أكثر من ثلاثة آلاف سنة، بينما حكمها اليهود حوالي 70 سنة فقط… فحقائق التاريخ إذن، أصدق من اليهود ومزاعمهم وأباطيلهم، ولن تغيّر القوّة شيئاً من هذه الحقائق، مهما برعت أيادي التشويه والتحريف والتزوير في هذا الفن… فالقدسُ التي دخلها الملك داوود واحتلها لم تكن مدينة داوود، ولا مدينة اليهود، بل كانت مدينة موجودةً وقائمةً بذاتها، ولم يبنها داوود… وقد أكّدت كل الحفريات التي قامت بها كل البعثات الأجنبية واليهودية أنها لم تقدم حتى الآن أي دليل أو أثر يهودي يعود إلى عصر داوود وسليمان في منطقة القدس، والأقصى تحديداً….
من هذا المنطلق، فقد تعرضت القدس بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى ما يشبه «ضربة السكين» في سنة 1948، فشطرتها إلى قسمين. فبعد أن أعلن قيام دولة الاحتلال الصهيوني في منتصف شهر أيار 1948، ونشبت المعارك العربية – الإسرائيلية على هذا الأثر، تعيّن الخط الفاصل بين الجزء الغربي من القدس، والجزء الشرقي منها بتاريخ 22 تموز 1948، ثم وقّع الأردن مع دولة الاحتلال الصهيوني اتفاقية وقف إطلاق النار على الجبهة الشرقية في 30 تشرين الثاني 1948، وتبعتها اتفاقية هدنة وقّعها الطرفان في 3 آذار 1949… وبتوقيع هذه الاتفاقية تمّ في الواقع تأكيد حقيقة اقتسام مدينةِ القدس بين الطرفين: الجزء الغربي الموجود فيه الجيش الإسرائيلي لإسرائيل، والجزءُ الشرقي الذي كان تحت سيطرة الجيش الأردني للأردن(9). وبعد حرب حزيران 1967، وقعت القدس الشرقية تحت الاحتلال وبدأت إجراءات تهويدها على قدم وساق، ولا تزال منذ ذلك الوقت، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعمل تارة بالسرّ وتارة بالعلن على تهويد المدينة المقدسة وتوسيع بؤر الاستيطان، ووضع البرامج المنظمة والمكثفة لبلوغ هذا الهدف. وقد جاء قرار ترامب اليوم تتويجاً لكل هذه الإجراءات المخالفة للقرارات الدوليّة…
ففي 7 حزيران 1967 – مثالاً- بعد أن احتلت القوات الإسرائيلية القدس القديمة، وأحكمت قبضتها على المدينة برمتها، تقدم «موشي دايان» و«شلومو غورن» حاخام الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي ليقف على رأس ثلّة من الجيش بالقرب من حائط المبكى -ـ الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف – ويقيم الشعائر الدينية اليهودية معلناً في ختامها: «إن حلم الأجيال اليهودية قد تحقق، فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية»(10)، وكذلك قال دايان: «لا فراق بعد اليوم، ولا عزلة، ولا ابتعاد. سنبقى معاً: الشعب والأرض والحائط».
بعد ذلك التاريخ، وسلطات الاحتلال الصهيوني تواصل حملات وإجراءات التطبيق لمخططات الضم بغية ضمان السيطرة على القدس عسكرياً وجغرافياً وسكانياً ولم يكن ليتسنّى لها ذلك دون أن تحقق السيطرة الاستراتيجية والسيطرة الديموغرافية، وذلك عبر التوجهات التالية:
1- السيطرة الجغرافية على أكبر مساحة مختلفة من الأراضي
المحيطة بالمدينة عن طريق مصادرة الأراضي والاستيطان وإقامة شبكة طرق.
2- عزل التجمع السكاني العـربي في القدس عن التجمعات
السكانية العربية في الضفة الغربية.
3- تطويق القدس بأحزمة استيطانية متصلة قوية، على شكل
تجمعات سكانية تحقق إقامة عازل سكاني يهودي بين القدس وخارجها من جهة، وتحقق سيطرة استراتيجية على التجمّعات العربية داخل القدس من جهة أخرى.
4- تصميم الضواحي الاستيطانية بأساليب بناء فاصلة تخدم
الغرضين: المدني في حالة السلم، والعسكري في حالة الحرب(11).
وبالفعل فقد أقدمت دولة الاحتلال الصهيوني على ضم القدس إدارياً وسياسياً وقضائياً للسيادة الإسرائيلية بتاريخ 28 حزيران 1967، مُقدمة بعد ذلك على سلسلة من الإجراءات على طريق «القضـم والهضـم والضـم» وفق مخطّط «الطرد الصامت والتفريغ الصامت والتهويد الصامت» (والصارخ في الوقت نفسه)، لكامل المدينة. ومن أبرز هذه الإجراءات ما يلي:
1- حل مجلس أمانة القدس العربي ومصادرة سجلاته وأملاكه
المنقولة وغير المنقولة وإلغاء كافة القوانين السائدة واستبدالها بالقوانين الإسرائيلية وإجبار عرب القدس على مراجعة المحاكم الإسرائيلية.
2- مصادرة 131 ألف دونم دفعة واحدة إضافة إلى عشرات
العقارات وأربعة أحياء عربية كاملة وهدم 720 منزلاً ومزرعة داخل أسوار المدينة وإجلاء السكان عنها بالقوة.
3- إحراق المسجد الأقصى بتاريخ 21 آب 1969 وإصدار أمر لليهود
بالصلاة داخل الحرم الشريف إضافة إلى القيام باعتداءات متواصلة على عدد من الكنائس المسيحية، ومنها كنيسة القيامة وممارسة الضغوطات المتواصلة على رجال الدين المسيحي للتنازل عن أملاك أراضي كنائسـهـم، مما أدّى إلى انخفاض عدد رجال الدين المسيحي إلى الثلث والأراضي إلى النصف. ومن المعروف بأن الذي أحرق المسجد الأقصى كان الأسترالي الماسوني «دينيس مايكل روهان» بتكليف من جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) وتنسيق منه مع المحفل الماسوني الأسترالي.
4- قامت السلطات الإسرائيلية بإغلاق كل المصارف (البنوك)
العربية ومصادرة أموالها وإجبار عرب القدس على التعامل مع البنوك الإسرائيلية.
5- منعت السلطات الإسرائيلية التعليم العربي وصادرت الكتب
العربية وطردت المعلمين العرب، أو أبعدتهم إلى الخارج.
6- منعت جميع العرب «الغائبين» أثناء القتال عام 1967 من
العودة وصادرت أملاكهم ويقدّر عددهم بعشرات الآلاف.
7- أغلقت – ولم تزل تغلق – المؤسسات الفلسطينية الدينية
والخيرية والطبية.
8- قامت باستبدال أسماء الشوارع والساحات بأسماء إسرائيلية
لطمس المعالم العربية والإسلامية في المدينة.
9- إنشاء أحياء يهودية داخل وخارج السور وإقامة محيط كامل
من المستوطنات والمساكن والمتاجر اليهودية والمصانع والمنشآت الإسرائيلية.
10- فتح النوادي والملاهي الليلية الاستفزازية قرب المساجد كما
حدث قرب مسجد سعيد في البلدة القديمة.
11- مصادرة شركة كهرباء القدس العربية ووضعها تحت تصرف
الحاكم العسكري الإسرائيلي.
12- فتح باب الهجرة أمام اليهود وتشجيعهم على الإقامة في
القدس وتقديم الأراضي مجاناً.
13- نقل الكثير من المؤسسات اليهودية إلى القدس الشرقية وفي
مقدمتها «الوكالة اليهودية» و«المنظمة الصهيونية» وبعض المقرّات الحكومية الإسرائيليّة…
14- تشجيع الدول الأجنبية على نقل سفاراتها من تل أبيب إلى
القدس، وقد وافقت الولايات المتحدة الأميركية على هذه الخطوة الاستفزازية بعد موافقة الكونغرس على شراء أراض وإقامة السفارة الأميركية عليها، على أن يتم نقل السفارة من تل أبيب إلى المبنى الجديد في القدس بحلول عام 1999»(12). مع العلم أن الأساقفة الكاثوليك الأميركيين (الذين يتبعون للفاتيكان)، أعلنوا معارضتهم لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، بلسان الأب «بريان هير Brian Hair ‎» أمين لجنة «العدل والسلام» في الولايات المتحدة(13).
15- متابعة أعمال التنقيب والحفر التي بدأت منذ سنوات طويلة،
رغم أنه لم يتم الكشف عن أي آثار يهودية في المنطقة، وحتى في مدينة سلوان نفسها (التي يطلق عليها بالعبري «مدينة ‏داوود») وتقع جنوب شرقي الحرم الشريف، واكتشف فيها ثلاثة من علماء الآثار ‏اليهود وهم: جدعون أفني، وروني رايخ، ويائير بيكوفيتش، اكتشفوا منذ‎ سنوات قليلة، شارع «ملكي صادق» (اليبوسي الكنعاني العربي)، وقد نشرت‎ جريدة «يديعوت أحرونوت» نتيجة أبحاثهم هذه (التي لم تعجب بالطبع الساسة‎ ‏الإسرائيليين) وقال هؤلاء العلماء بجرأة: «إننا نحني رؤوسنا احتراماً ‏لليبوسييين الكنعانيين الذين خلقوا هذه المدينة والحضارة العظيمة، وقد كانت‎ ‏مدينة القدس اليبوسية هذه ضعف مدينة القدس الحالية(14).‎
‏ومما لا شك فيه، أن اكتشاف هؤلاء العلماء الأثريين اليهود له أهمية‎ ‏بالغة، باعتباره ينسف كل مزاعم اليهود وادعاءاتهم بشأن القدس ومقدساتها.‎ ‏وهذا ما يؤكد بأن القدس (كما أسلفنا) ليست مدينة داوود. بل هي مدينة كانت‎ ‏قائمة، فدخلها داوود ولم يبنها أبداً… إنها كنعانية يبوسية عربية وليست ‏يهودية… حكمها العرب منذ ثلاثة آلاف عام، بينما لم يحكمها اليهود أكثر‎ من 70 سنة فقط أيام داوود وسليمان، أي بنسبة 2% فقط من سنوات الحكم‎ الإجمالي لهذه المدينة… وكما قال ‏عنها المؤرخ عارف العارف «إنها أقدم‎ بقعة ذكرها التاريخ آمنت بالله الواحد لا شريك له يشمل بعنايته جميع الخلق»(15).
بالمقابل أوضح تقرير سرّي أعدّته لجنة خبراء مختصّين إسرائيليين، يقضي بوضع حلول سريعة لفرض السيطرة والسيادة الكاملة على القدس الشرقية، على الشكل التالي:
شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة خاصة لوضع الحلول اللازمة برئاسة وزير الأمن الداخلي «أفيغدور كهلانى» وعضوية أبي بلوشتاين، الدكتور صموئيل برنر، شالوم غولدشتاين مستشار رئيس بلديّة القدس للشؤون العربيّة، ومندوبي الأجهزة الأمنية المختلفة – الشرطة، الموساد – الشاباك (شين بيت) – وبقيت اللجنة تعمل على مدار سبعة أشهر، فعقدت لقاءات عديدة مع كبار المسؤولين في الوزارات، وبلورت خطة عمل منظمة تتضمن تعزيز احتلال القدس الشرقية.
هذا ما صرّح به صموئيل برنر لراديو الجيش الإسرائيلي، والذي أضاف: إذا لم تؤخذ هذه المقترحات بعين الاعتبار، فإن القدس الشرقية ستبقى تحت رحمة الفلسطينيين عشرين عاماً آخر.

وكانت توصيات هذه اللجنة على الشكل التالي:
أولاً: طالبت اللجنة بفرض السيطرة والسيادة على القطاع الصحي بالكامل، حيث لاحظت أن هذا القطاع هو فلسطيني 100%، مع العلم أن السلطات الإسرائيلية منذ 1967، لم تقدم لهذا القطاع شيئاً أبداً… كما طالبت، ليس فقط بتعيين مديرين يهود للمشافي، وأن تشرف الوزارة على توزيع واستيراد الدواء، بل طالبت كذلك حتى بتغيير الأسماء العربية للمشافي.
ثانياً: ذكر التقرير أن كل المعامل والمصانع والمشاغل موجودة في القدس الغربية مما جعل الهواء ملوثاً وغير صحي 100%، عكس القدس الشرقية، حيث لا يزال هواؤها نظيفاً وغير ملوّث. وقد انعكس ذلك على كل المظاهر الحياتية الأخرى، وخاصة السياحة… فطالبت اللجنة بتوصياتها توزيع المعالم بالمناصفة بين القدس الشرقية والقدس الغربية، للتخفيف من حدة التلوّث على الأقل.
ثالثاً: لاحظت اللجنة أن الطابع العربي الشرقي الخالص بات ميزة واضحة في شرقي المدينة حيث أصوات المؤذّنين وانتشار المساجد وصلوات الجمعة والشوارع الضيقة، والأبنية الشرقية، فأوصت اللجنة بإصدار قرار يمنع «مكبرات الصوت» في المساجد التي تثير «الضجة الدائمة» في المدينة، وتشحن نفوس السكان، بالقوّة؛ كما طالبت اللجنة بإصدار أمر فوري بإيقاف بناء المساجد في كل أنحاء المدينة وتوسيع الشوارع وهدم عدد من المساجد بهذه الحجة.
رابعاً: يجب العمل فوراً على منع الباعة المتجوّلين في كل أنحاء المدينة، لأن هؤلاء معروفون على أنهم عيون للمنظمات الفلسطينية كما يقول الناس.
خامساً: يجب التسريع باتخاذ خطوات سريعة جداً في سبيل إقامة وحدات استيطانية وأبنية ذات طابع يهودي خالص لأن الطابع العربي لم يزل مهيمناً تماماً على القدس الشرقية، لذلك يجب تغيير أسماء الشوارع والحارات… وحثّ كافة الوزارات على فتح مكاتب وفروع خدمات ومساكن للموظفين اليهود وإقامة محطات شرطة إسرائيلية بالسرعة الممكنة.
سادساً: لفت التقرير نظر المسؤولين إلى شيء هام جداً وهو خطباء المساجد والمؤذّنين حيث يتبع هؤلاء إلى مكتب الشيخ حسن طهبوب وزير الأديان في السلطة الفلسطينية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، والمشرف على النشاطات الدينية والأعياد… والشيخ طهبوب هو المسؤول عن تعيين خطباء المساجد والمؤذنين والإشراف على كتابة خطبة الجمعة في كل المساجد والتي من خلالها يحثّون الناس على عدم التعامل مع «إسرائيل» ويحذّرون من بيع الأراضي أو إسكان اليهود، ويهدرون دم كل شخص يبيع أرضاً لليهود… كما يشرف الشيخ طهبوب على الجمعيات الخيرية التي تقوم بترميم البيوت القديمة المتصدّعة… لذلك أوصت اللجنة في تقريرها بطرد الشيخ حسن طهبوب إلى خارج القدس وإغلاق مكتبه في شرقي القدس، كما أوصت اللجنة بإغلاق المساجد يوم الجمعة والاكتفاء بمسجد واحد فقط، ومصادرة الوقف الإسلامي ووضع لجنة خاصة للإشراف تتبع لوزارة الأديان الإسرائيليّة.
سابعاً: قضى التقرير أيضاً بضرورة إدخال الشرطة الإسرائيلية إلى المدينة وتقاسم العمل مع الشرطة الفلسطينية إلى أن يحين طردها خارج القدس… وكذلك ضرورة الإشراف على المحاكم في القدس الشرقية وعلى المحاكم الدينية إشرافاً مباشراً، وتعيين القضاة، وتنظيم مهنة المحاماة، وإبعاد كل محام غير ملتزم بالقوانين الإسرائيلية إلى أراضي الحكم الذاتي… كما أوصى التقرير بالإشراف التام على المناهج الدراسية ومنع ترديد الأناشيد الفلسطينية(16).
‎ هذا على الصعيد الصهيوني؛ أما على الصعيد الفلسطيني فقد كشف تقرير رسمي فلسطيني(17)، الممارسات الإسرائيلية المتواصلة منذ احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس بهدف تهويدها وطمس معالمها العربية والإسلامية وتحقيق أغلبية سكانية فيها. تطرق التقرير إلى أبرز المستجدات في المخططات الاستيطانية التي تنشط لتنفيذها الجهات الرسمية والحركات الدينية المتطرفة صهيونياً.

الخطط الحكومية
أولاً: خطة المدراء العامين في لجنة شؤون القدس
المشكّلة من عدة وزارات إسرائيلية وتقوم على:
1- بناء 7500 وحدة سكنية في مستعمرة «هارحوماه» في جبل أبو
غنيم؛ وخصوصاً على الأرض التي أعطاها البطريرك الأرثوذكسي في القدس ثيـودوروس إلى بلدية القدس عام 1992 من الأراضي التابعة للكنيسة الأرثوذكسية في مار الياس على المشارف الجنوبية للقدس… إنها أحد أبرز مرتكزات عملية إقامة مستوطنة جبل أبو غنيم، فضلاً عن أنها «مشروع بالغ الخطورة لأنه يشكل آخر حلقة من حلقات الاختناق في سلسلة المستوطنات التي تزنّر (القدس الكبرى)(18). ‏
يضاف إلى الوحدات السكنية في منطقة جبل أبو غنيم هذه، 3500 وحدة سكنية في مستوطنة «بسغات زئيف»، وإضافة 3500 وحدة سكنية في مستوطنة «جفعات همطوس»: وفي بيت صفافا إضافة 2200 وحدة سكنية. هذا إلى جانب إقامة 3500 وحدة سكنية جنوباً، و6000 وحدة سكنية غرباً، وألفي وحدة سكنية في الوسط، وألفي وحدة سكنية شمالاً، إضافة إلى إقامة ألف وحدة سكنية في مناطق ضمّت للقدس عام 1992 من جهة الغرب… إنه العمل على مشروع «القدس الكبرى» الذي سيفقد القدس جمالها ويحوّلها إلى مدينة سكنية بعد أن كانت مدينة دينية سياحية، وقد وصف البروفسور «برونسفى» أحد كبار المهندسين الإيطاليين الأعمال التي تمت في بناء القدس بأنها انتحار جماعي نتيجة الفشل الذريع.(19)
2- تقديم مساعدات للمصانع في مستوطنات القدس بنسبة تزيد
عن 10% عن أعلى نسبة تقدم في مناطق التطوير الأخرى.
3- مساعدة المصانع في مستوطنة «عطروت» قرب قلنديا.
4- يحصل اليهود العاملون في الصناعات المتطورة في القدس على
إعفاءات ضريبية.
5- تخفيض أسعار السكن في المستوطنات بحيث لا يزيد سعر
الشقة عن 7 إلى 10 آلاف دولار.
6- تعبيد الشارع الشرقي ليستكمل طوق الشوارع المحيطة بالقدس
من الشرق والشمال والجنوب، ويوصف هذا الشارع بأنه «ذو أهمية أمنية وسياسية كبرى…».

ثانياً: خطة بلدية القدس الغربية:
لقد أعد مهندس إسرائيلي يدعى «يورام بوغل» خطة للبلدية تشمل بناء مساكن ومحلات تجارية ومنتزهات ومناطق صناعية وقد بدأ بتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع قبل فترة وجيزة ويشمل:
1- إقامة مركز تسوّق على مساحة 50 ألف م2 وبرج بارتفاع
30 طابقاً، وحديقة تكنولوجية من 8 طوابق ومكاتب وكاراجات ومواقف سيارات.
2- إقامة ثلاثة جسور تشكل امتداداً بين التلة الفرنسية ومستوطنة
«بسغات زئيف».
3- توسيع الشوارع وبناء خط قطار ومركز تعليمي وآخر طبي،
وجسر يربط بين شقيّ مستوطنة «بسغات زئيف) بطول 250م وارتفاع 30م فوق الوادي.

ثالثاً: مشروع وزارة الإسكان الإسرائيلية وتتضمن: بناء 28949 وحدة سكنية في المستوطنات القائمة في محيط الخط الأخضر والقدس الكبرى، على أن يتم إنجاز 15 ألف وحدة سكنية منها مع نهاية عام 1998.

رابعاً: توسيع مستعمرة افرات: بناء 708 وحدات سكنية على التلّة المحاذية لمستوطنة افرات، وتعبيد شارع التفافي من منطقة «هيروديون» يلتف حول بيت ساحور وزعترة وينتهي في جبل أبو غنيم.

أما الخطط غير الحكومية: تتمثل بمواصلة أنشطة الجمعيات الاستيطانية بدعم حكومي في الاستيلاء على الأراضي والعقارات الفلسطينية، بهدف إنشاء أحياء استيطانية أفقية على شكل فيلات من طابق واحد لإسكان المتطرفين، ومن بين هذه المنظمات الاستيطانية جمعية «عطيرات كوهانيم» و«أمناء جبل الهيكل» وجمعية «ليوشناه» وغيرها، ومعظم هذه العقارات تقع في الحي الإسلامي وخصوصاً في المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك… وكذلك الاستيطان في بلدة سلوان (التي يطلق عليها بالعبري «مدينة داوود»).. وأكثر عمليات الاستيلاء هذه تتم عن طريق تزوير وثائق وعقود ملكية، تقوم بها جمعية تدعى «ألعاد»، عبر ملفات الضريبة والطابو التي تحولها للمستوطنين.
يرافق هذه العمليات التي تأخذ طابع «حمّى الاستيطان»، تضييقات ضد المواطنين العرب ممنهجة ومكثفة وأكثر ما تتعلق بالأطفال المقدسيّين الذين ترفض سلطات الاحتلال تسجيلهم في هويات ذويهم، وبالتالي عدم الاعتراف القانوني بوجودهم وحرمانهـم من السكن والإقامة في القدس. وقد سحبت ‎هويات 470 عائلة مقدسية. إلى جانب 1425 عائلة يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي في عداد فاقدي حق الإقامة. إضافة إلى مئات الطلاب المقدسيين الذين كانوا يدرسون في الخارج تلقّوا إخطارات بسحب هوياتهم… إنه مشروع خطير جداً يقضي بالاقتلاع من الجذور المقدسية والمستقبل المقدسي… لكن صمود ومقاومة عرب القدس وإرادتهم في الدفاع عن مدينتهم تتحدى كل الإجراءات، مما يتوجب علينا مساعدتهم ودعمهم بكل ما نستطيع انطلاقاً من واجبنا الوطني والقومي والديني والإنساني…
في هذا الإطار، نرى لزاماً علينا أن نشير إلى بعض العينات كنماذج صمود (ذكوري وأنثوي) في التعلق بالأرض والمقدسات والكرامة… ولعلّ نموذج «الحاج موسى الخالص» والسيدة «هناء أبو هيكل»، خير تعبير عن هذا الواقع. وهما من الذين رفضوا بيع ممتلكاتهم لليهود رغم الإغراءات الهائلة التي قدّمت إليهما…»(20). ‏

في ضوء هذا الواقع نستطيع تسجيل النقاط التالية:
أولاً: إن سياسة التهويد الإسرائيلية هي سياسة تقطيع الأوصال، واستئصال الجذور… لأن التهويد يعني محو كل ما هو غير يهودي (كما قال هرتزل) وجعل كل ما في المدينة المقدّسة ومن فيها من الحجر والبشر والشجر، يهودياً… إنها عملية شطب الماضي التاريخي والجغرافي والديموغرافي والحضاري من خارطة الوجود الإنساني للقدس – وفلسطين – واستبدالها بوجود لا صلة له ولا علاقة بهذه الأرض والتاريخ والحضارة، بمعنى استئصال الأصيل وزرع الدخيل… ذلك لأن القدس وفلسطين والشرق، مهد الأديان السماوية ومهد الحضارات الإنسانية.
ثانياً: هناك مجسّم للقدس، ومـجـسـّم آخر للهيكل، أعدّهما يهود الولايات المتحدة الأميركية، ويعملون على تنفيذه في الفرصة المناسبة، بينما ينتظر العرب والمسلمون لكي يهدم المسجد الأقصى ليتحركوا؟ وكم من المرات انتهك الصهاينة حرمته ودنسوا مقدساته، ولم يُواجهوا إلا بالشجب والاستنكار؟
ثالثاً: إن تهويد القدس يعني صرف الاهتمام الإسلامي والمسيحي بمصير المدينة المقدسة… وإن الهدف الصهيوني من تهويد القدس هو محو طابع القداسة والتقديس عنها، بمعنى تهويد القداسة، وإفراغها من قدسيّتها…
رابعاً: إن احتفالات اليهود بالذكرى الألفية الثالثة للقدس معناها: «ليس الجانب التاريخي فقط، وإنما الظهور أمام العالم بمظهر أنهم أصحاب الحق بالمدينة، وإن علاقتهم بها تفوق علاقة أي شعب آخر… وبالتالي دفع العالم للاعتراف بالقدس «كعاصمة أبدية لإسرائيل» من خلال فرض الأمر الواقع»(21).
خامساً: يقول البعض إنه لو قرأ المسؤولون الغربيون كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر قبل نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، لكانوا قد جنّبوا ‎العالم معظم كوارث هذه الحرب ومآسيها، ونحن بدورنا نقول أنه لو قرأ المسؤولون العرب كتاب بنيامين نتنياهو «مكان تحت الشمس.. إسرائيل والعالم»، قبل وصوله إلى الحكم (وبعده) لوفّروا على أنفسهم كثيراً من عمليات: الاستهجان والاستغراب لسياسة نتنياهو هذا، باعتباره ينفذ «برنامجه الاستراتيجي» المعلن…
سادساً: إن دينيس مايكل روهان (الذي أحرق المسجد الأقصى عام 1969) وباروخ غولدشتاين (الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي) وتاتيانا سوسكانيد (التي رسمت شكلاً للنبي الكريم ينمّ عن حقدها ووقاحتها وبعدها النيل من السيدة العذراء) ليسوا سوى «الصنف النموذجي النقي» الذي سيشكل «دولة اليهود» في فلسطين المستقبل… التي ستسمى «دولة إسرائيل».
سابعاً: إن إيماننا بعروبة القدس وإسلاميتها هو إيمان واحد وثابت لا يقبل الخلل ولا الزعزعة ولا التجزيء، لأن القدس واحدة ولا تقبل التجزيء أيضاً… وإن مخطط الاقتلاع والتهويد لا يقتصر على المقدسيين فقط، بل يطالنا جميعاً كعرب ومسلمين في الصميم أينما كنا… والفرق كبير جداً بين التاريخ العربي للقدس، والتاريخ العبري العابر فيها…
ثامناً: إذا كان «وعد بلفور» في القرن العشرين منذ 100 سنة، يضم 67 كلمة / قد غيّر تاريخ المنطقة، فإنّ «وعد ترامب» بخصوص القدس، يحتوي 1200 كلمة في 13 دقيقة، يكرّس وعد بلفور ويعطيه الشرعيّة الدولية في القرن الحادي والعشرين…
فأيّة تداعيات سيحملها «وعد ترامب» تجاه القدس خصوصاً، وتجاه فلسطين والعرب بشكل عام في ظل «استراتيجيّة» الشجب والاستنكار اللفظي والبيانات الورقيّة التي تمحو السنين والأيام حبرها.
وإذا لم ينتقل العرب والمسلمون من حالة «ردّة الفعل» إلى حالة «الفعل» للمواجهة والتحدّي، فإن الأمور سائرة نحو الانهيار الكارثي المأساوي… وليس بغير الوحدة العربية وتوحيد قواها يمكن أن يكون الرد على وعدي بلفور وترامب معاً…

► الصورة المقابلة:
المسجد الأقصى الذي حاول الإعلام الصهيوني محو صورته من أذهان العرب والعالم.

شريط الانتفاضات والهبّات والثورات المقدسيّة ضدّ الاحتلال
اعداد د. صالح زهر الدين

انتفاضة موسم النبي موسى (1920)
كانت أولى الانتفاضات الشعبية الفلسطينية بعـد الاحتلال البريطاني انطلقت مـن باب الخليل غربي البلدة القديمة، بعـد اعتداء مستوطن علـى بيرق (رايـة) أهـل الخليل. استشهد فيها أربعـة مـن الفلسطينيين وقتل خمسـة مـن اليهـود، كانت هـذه المعركة ضربة البدايــة لثورة استمرت خمسـة أيام فـي القدس قتل فيها تسعة مـن اليهود.

ثورة البراق (1929)
هي أول ثورة تشتعل في فلسطين ضد الاحتلال البريطاني، اندلعت عقب تنظيم حركة «بيتار الصهيونية لمظاهرة ضخمة يوم 15 آب/ أغسطس 1929 في شوارع القدس إحياء لما قالت إنها ذكرى تدمير «هيكل سليمان» وأدت إلى تصاعد المواجهات التي اندلعت بداية قرب حائط البراق في المسجد الأقصى، ومن ثم عمّت أرجاء الأراضي الفلسطينية.

الثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936)
انطلقت في 20 نيسان/ أبريل 1936 بعد إضراب دام ستة أشهر وترافقت مع عمليات نوعية للثوار في القدس، تُعدّ من أضخم الثورات الشعبية التي قام بها الشعب الفلسطيني ضد المستعمرين الإنجليز واليهود المهاجرين إلى فلسطين، واستمرت ثلاث سنوات متواصلة.

هبة النفق (1996)
انطلقت فـي 25 مـن أيلول/ سبتمبر 1996، على أثر فتح سلطات الاحتلال لباب النفــق الغربـي أسـفل المسـجد الأقصى. وذلك فـي فترة حكــم بنيامين نتنياهو الذي كلف رئيــس بلديـة الاحتلال آنذاك إيهـود أولمرت بافتتاحــه. ودارت مواجهــات مـع الفلسطينيين فـي مختلف أنحاء فلسطين المحتلة على مـدار ثلاثة أيام.

انتفاضة الأقصى الثانية (2000)
انطلقت عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك «أريئيـل شـارون» لباحـات المسجد الأقصى، تحت حماية نحو ألفين مـن الجنـود والقوات الخاصة، ما أدى لاستشهاد 7 فلسطينيين وإصابة 250 برصاص الاحتلال خلال ساعة الاقتحام وارتقى خلال الانتفاضة التـي امتدت لـ 5 سنوات آلاف الشهداء إضافـة إلـى 48 ألفاً و322 جريحاً.

انتفاضة القدس (2015)
شكلت إجراءات الاحتلال وإصـرار المستوطنين اليهود علـى اقتحام باحات الأقصى ومحاولة فرض تقسيم زماني ومكاني للمسجد، والاعتداء على المقدسيات، أسـباباً رئيسية لاندلاع انتفاضـة القـدس: أوائل تشـرين أول/أكتوبـر 2015. وتميزت انتفاضـة القدس بطابع العمل الفردي، عبـر عمليات طعـن ودهـس لجنـود إسرائيليين ومسـتوطنين بالضفـة الغربية والداخل المحتـل والقدس.

هبة باب الأسباط (2017)
شهدت مدينة القدس وضواحيها انتفاضة شعبية واسعة، نتيجة لمنع قوات الاحتلال المصلين مــن دخــول المسجد الأقصى، وفرض تدابيـــر مشددة مـن بوابــات إلكترونيـة وكاميـرات عقـب عملية فدائيــة لثلاثـة شبان مــن عائلة الجباريــن. انتصـر الفلسـطينيون بإصرارهـم ووعيهـم ووحدتهــم أمــام صلـف المحتـل وجبروتـه.

وأخيراً فالسلام مرهونٌ بـ «مدينة السلام»… وإذا لم تعرف السلام مدينة السلام… فستبقى أرض فلسطين والمنطقة أرضاً للتوتر والحروب لا للسلام.

د. رامي أديب عز الدين

قرار «ترامب»:
نقل السفارة الأميركية إلى القدس
من وجهة نظر القانون الدولي

بتاريخ 6 كانون الأول / ديسمبر 2017، أعلن رئيس الولايات المتحدة رسمياً اعتراف إدارته بالقدس (المحتلة) عاصمة لإسرائيل. وصرّح بأنه سينقل السفارة الأميركية من تل ابيب إلى القدس، في خطوة سبقتها وتلتها إدانات وانتقادات وتحركات شعبية واسعة، عربياً ودولياً، إلاّ عند الإسرائيليين حيث صرح نتنياهو بعد ساعات قليلة من صدور القرار ان تاريخ إسرائيل (المجيد) كان يُختصر بثلاثة محطات وأصبح يختصر بأربعة:
– وعد بلفور 1916
– إعلان دولة إسرائيل 1949
– السيطرة على القدس 1967
– وحديثاً الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل 2017
ونظراً لخطورة هذه الخطوة “الترامبيّة” وهذا القرار غير المسؤول آثرنا معالجة الموضوع قانونياً استناداً إلى مبادىء القانون الدولي وممارساته (سواء القواعد العرفية أو المعاهدات او قرارات هيئة الأمم المتحدة…) ومعالجته سياسياً أيضاً في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة لما له من تأثيرات ومفاعيل. ولكن قبل ذلك سؤال يطرح نفسه:
على ماذا اعتمد ترامب في قراره بشأن القدس؟
الواقع أن ترامب إستند الى قرار عمره 27 سنة ، صادر عن مجلس الشيوخ الأميركي بتاريخ 23 تشرين الاول / أكتوبر 1995، ويقضي بنقل السفارة الأميركية الى القدس واعتبر هذا القرار يومها اعترافاً من الولايات المتحدة باحتلال إسرائيل للقدس كاملة بهدف الاعتراف بها لاحقاً عاصمة لإسرائيل وهذا ما حدث في عهد “ترامب “.

أولاً في القانون:
الواقع أن القرار الأميركي قرار خاطىء ويتعارض مع أحكام وقواعد القانون الدولي واجتهاداته خاصة وأن جميع المؤسسات الرسمية الدولية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية…) تعتبر “القدس” أرضاً محتلة وكل التدابير الإسرائيلية التي قامت بعد عام 1967 اي بعد عملية ضم القدس باطلة ولاغية من الناحية القانونية لمخالفتها أحكام القانون الدولي، أهمها مخالفة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والتي يُستنتج منها أن كل الاجراءات في القدس المتخذة من قبل إسرائيل كدولة محتلة تعتبر باطلة، ولا تترتب عليها أية آثار قانونية وان الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن ان يرتب أية حقوق أو آثار على حق السيادة الاصلي للشعب الفلسطيني لأن الاحتلال لا يخوّل نقل السيادة على القدس إلى الدولة المحتلة وكونه مؤقت ومحدود. وسوف نورد مجموعة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتي تؤكد ما نقول:
1- قرار رقم /242/ تاريخ 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1967 والذي
يدعو فيه مجلس الأمن إسرائيل للانسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1967.
2- قرار رقم /253/ تاريخ 21 أيار/ مايو1968 ويدعو فيه مجلس
الأمن إسرائيل الى إلغاء جميع إجراءاتها التعسفية لتغيير وضع المدينة، وقبله القرار رقم /465/ عام 1980 وقرار رقم /476/ تاريخ 30 حزيران / يونيو 1980 لجهة بطلان تغيير طابع القدس.
3- قرار رقم /271/ تاريخ 15 نيسان / أبريل 1969 والذي يدين
قيام إسرائيل بحرق المسجد الاقصى يوم 21 آب/ أغسطس من العام ذاته، ويدعو فيه إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.
4- قرار رقم /478/ تاريخ 29 آب / أغسطس 1980 ويتضمن
عدم الاعتراف بالقانون الإسرائيلي بشأن القدس ودعوة الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة.
5- القرار رقم /2334/ تاريخ 23 كانون الأول/ ديسمبر
2016 الذي يؤكد أنّ إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية. ويطالب إسرائيل بوقف فوري لجميع الأنشطة الاستيطانية وعدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967.

ومن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة:
– قرار رقم /181/ تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947 والذي
أقر تقسيم الأرض الفلسطينية إلى دولة عربية ودولة يهودية مع وضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.
– قرار رقم /2253/ تاريخ 4 تموز / يوليو 1967 وفيه تأسف
الجمعية العامة لقرار إسرائيل تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية وترى ذلك غير شرعي.
كل هذا فضلاً عن القرارات الدولية الخاصة بتشييد الجدال العازل العنصري في الأراضي الفلسطينية والتي تثبت عدم شرعيته من وجهة نظر القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني. مثل قرار رقم (14/10)، وقرارات اليونيسكو التي تؤكد أهمية القدس القديمية بتراثها العالمي وتشجب كل محاولة لتغيير وتدمير هذا التراث، مثل قرار رقم /150/ تاريخ 27 تشرين الثاني / نوفمبر 1996 وقرار رقم /184/ تاريخ 2 نيسان /أبريل 2010.
بالإضافة الى قرارات هيئة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي ومنظمة اليونسكو التي تثبت ان القدس لها وضع خاص ويمنع تغيير طابعها والمساس بها كونها تحت الوصاية الدولية لا بد من الإشارة قانونياً إلى ما يعرف ” بالاعتراف” في القانون الدولي.
وفي التعريف فإن الاعتراف في القانون الدولي تعبير أحادي الجانب عن إرادة دولة ما بالاعتراف بأن واقعاً أو وضعاً قانونياً محدداً له صحة تجاهها، وعليه فهو عمل تقر دولة ما بواسطته بأن كياناً ممدداً آخر يجمع الشروط الضرورية لحيازة الشخصية القانونية الكاملة في النظام الدولي.

فكيف يرى القانون الدولي خطوة ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟
لابد في البداية من القول أنّ الاعتراف بالدول شيء والاعتراف بالحكومات شيء آخر، وهذا ليس مجال بحثنا، ولكن هل الاعتراف بمدينة معينة على أنها عاصمة لدولة ما، تنطبق عليه قواعد الاعتراف الأساسية في القانون الدولي؟
الإجابة نعم، لأن الاعتراف بالعاصمة معناه التسليم بواقع جديد ووضع قانوني محدد وبالتالي هو إقرار بكيان جديد له شروط قانونية واعتبارية.
من هنا يمكننا القول أنّ الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل اعتراف باطل وغير شرعي كون القدس مدينة محتلة باستعمال القوة المسلحة تاريخياً وحاضراً وكون الاعتراف يجب أن يخضع لاحترام دولة القانون وللديمقراطية ولحقوق الانسان والأقليات كما ينص القانون الدولي. والغريب والمثير للسخرية إن الولايات المتحدة رفضت عام 1931 الاعتراف بضم مدينة ” مندشوكو” اليابانية معتبرة أن ضمها جاء بشكل مناقض للتعهدات الموقع عليها في ميثاق برياند- كللوج لعام 1928 (المتعلّق بوضع الحرب خارج القانون).

ماهي اذن الانتهاكات التي سبّبها قرار ترامب لقواعد القانون الدولي؟
الانتهاك الأول: إن القرار الأميركي يُعتبر اعترافاً بالقدس عاصمة لإسرائيل وهذا ما يخالف القرارات الدولية ويكرس القانون الإسرائيلي القائل بأن القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة أبدية لإسرائيل.

الانتهاك الثاني: القرار الأميركي يخالف ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الذي يحرّم احتلال أراضي الغير بالقوة، ويحرّم مجرد التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية.

الانتهاك الثالث: القرار الأميركي يخالف بنود اتفاقية أوسلو والمعاهدات العربية- الإسرائلية.

الانتهاك الرابع: القرار يخالف رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري والذي أكّد بمناسبة ” تشييد الجدار” على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية.

الانتهاك الخامس: إنّ القرار الأميركي يشرّع من ناحية قانونية ما أقامته إسرائيل من استعمار استيطاني في القدس.

ثانياً في السياسية:
لا شك أن الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل يعتبر تأكيداً لوجود حقيقة ما رغم علم الجميع أنها وهمية ويأمل الأميركيون والإسرائيليون أن تصبح حقيقة واقعية في حال استدرجوا المجتمع الدولي لتبنّي هذا الاعتراف. كما أن هذا الاعتراف يحول دون تمكّن الشعب الفلسطيني من حق تقرير مصيره بإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس وكأنه جاء مكافأة لإسرائيل على انتهاكها لحقوق الإنسان في فلسطين بدل محاسبتها.
بالإضافة الى أن القرار “الترامبي” جاء ليؤكد ما أعلنته إسرائيل منذ عام 1949 بأن القدس عاصمتها، وبالتالي فهو قرار سياسي مناقض كل نهج المجتمع الدولي الذي لم يعترف حتى الساعة بذلك. وهنا تطرح جملة أسئلة فد تختصر الإجابة عليها كل التساؤلات:
– هل من تغطية عربية لقرار ترامب أو علم مسبق بذلك؟
– هل ستقدّم دعوى أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل التي بدأت بالعمل لاعتماد العاصمة الجديدة؟
– ما هو الدور أو الرد العربي على هذه الخطوة؟
– هل سينجر المجتمع الدولي ويفعل ما فعله ترامب؟
– هل الضعف والانبطاح العربي أمام أميركا وإسرائيل والتطبيع مع الأخيرة (العلني والسري) سيكون مدخلاً لتصفية القضية الفلسطينية؟

كلها أسئلة، الزمن كفيل بالإجابة عليها.
في النهاية وتعليقاً عما طرحه وزير الخارجية اللبنانية في مجلس الوزراء لانشاء سفارة لبنانية في القدس الشرقية عبر تقديم قطعة أرض من السلطة الفلسطينية للبنان ومبادلة العكس، يهمنا الاشارة الى النقاط التالية:
1- إن مدينة القدس حتى الساعة محتلة من قبل إسرائيل وفتح
سفارة لبنانية فيها يعتبر اعترافاً بها كدولة فهل أصبحنا على استعداد للاعتراف بهذا الكيان الغاصب؟
2- إن القيام بمثل هذه الخطوة التي تلفّها المحاذير والعواقب تعتبر
مخالفة لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 (المذكورة) والتي وافق عليها لبنان عام 1951.
3- بما أن القدس مدينة محتلة فإن فتح سفارة فيها أمر مخالف
لقواعد القانون الدولي لمخالفته احكام القرار /181/ تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947 (المذكور) والذي يقر وضع القدس تحت وصاية دولية وأحكام القرارين /476/ و/478/ لعام 1980 (المذكورين) واللذين يبطلان كل تغيير لطابع القدس. ويدعوان الدول إلى سحب البعثات الدبلوماسية منها. فهل نحن على استعداد لمخالفة بعض القرارات الدولية والتي هي في الأساس لصالح القدس وفلسطين في مواجهة إسرائيل؟

عارف أبو شقرا

عارف أبو شقرا
التربوي، الشاعر، والمناضل

في كثير من المناسبات نتذكر الأستاذ الذي علمنا التاريخ الحقيقي واللغة العريقة والأخلاق الحميدة، عنينا به شاعر العروبة والمقاصد وأستاذ العربية والتاريخ في مدارسها المعلم عارف أبو شقرا الهوزاني العماطوري.

الأصل والمولد والمسكن.
يقول عارف أبو شقرا في كتابه “الحركات في لبنان الى عهد المتصرفية” أن أصل أسرته من هوزان نزلت عماطور في زمن غير محدد.
وهوزان على ما يقول النسابة، هو هوزان بن منصور بن عكرمة، من قيس عيلان من العرب العدنانيين. كانت منازلهم من غور تهامة الى بيشة والسراة والطائف. وقد كثرة بطونهم وقبائلهم مثل بنو سعد (منهم حليمة السعدية مرضعة النبيّ) وثقيف وفروعها، وعامر وعقيل وخفاجة وهلال بن عامر.
وأخبار هوزان كثيرة في الجاهلية والإسلام، وهم من أكبر قبائل العرب وأشهرهم فروسية وشجاعة وقوة شكيمة، كانت لهم في أيام العرب ومعاركهم صولات وجولات مشهودة.
وعماطور أو “عي ماطور” بلدة قديمة جاء ذكرها في منشور صدر سنة 1256 باسم سعد الدين البحتري. وكان لها الحق بأن تحمي من يلجأ اليها مدة سنة، وكان المارة بها يمتنعون عن رفع أصواتهم بغناء او إنشاد. كما كان يفك وثاق المقيد والمكتوف أثناء مروره بها، بينما كان الفرسان يترجلون ويقودون أفراسهم حتى يجاوزوا البلدة.
من هذه الأرومة العربية، وفي هذه المدينة العريقة وفي بيت علم وأدب وشعر ولد عارف أبو شقرا. والده يوسف تخرج متقناً العربية على يد عبدالله البستاني درس الفقه وزاول المحاماة والصحافة وله نثر وشعر في ديوان صغير.
وسار الابن على هدي أبيه فأتقن العربية وأصدر مجلة “الأماني” وضمّته المقاصد الإسلامية إلى أساتذتها فبدأ عهده منذ الثلاثينات مدرساً للعربية في مدرسة أبي بكر الصديق. انتقل بعدها الى كلية المقاصد الحرج أستاذاً للعربية فثانوية علي بن ابي طالب مدرساً للعربية والتاريخ ومرشداً وطنياً واجتماعياً.

القائد جمال عبد الناصر، المعلم كمال جنبلاط، المؤرخ والشاعر والأديب عارف أبو شقرا (في المقدمة)، في قصر الضيافة في دمشق، يوم إعلان الوحدة بين مصر وسورية في 28 نيسان / 1958.
القائد جمال عبد الناصر، المعلم كمال جنبلاط، المؤرخ والشاعر والأديب عارف أبو شقرا (في المقدمة)، في قصر الضيافة في دمشق، يوم إعلان الوحدة بين مصر وسورية في 28 نيسان / 1958.

دروس في الإلقاء والكرامة
ومباراة في الخطابة.
ما يزال تلامذة عارف أبو شقرا في مدرسة ابي بكر الصديق – ومنهم العميد مختار عيتاني – يذكرون المباريات الخطابية التي كان ينظمها في ختام السنة المدرسية لتنمية ملكة الإلقاء والخطابة عبر التلامذة وكان منهم في تلك الحقبة الدكتور حسن صعب.
فيحفِّظهم قصائد من نظمه. جاء في قصيدة من تلك القصائد التي أراد بها أن يبرز موقفاً سياسياً وليد ظرف سياسي بين أنصار الاستقلال ومسايري الانتداب:

قل للذي اتخذ الزعـامة إرثه
الناس في الأديان أمة واحـدة
والعز والشرف المؤثل لم يكن
إن الذي شرع الشرائع في الورى
ومضى زمان عبـادة الأسياد

ما الخلق ملك أبيك كالأنعام
والمجد مستبق لكل همام
وقفـاً على أحد من الأقـوام
جعل المُرأَّس أصـغر الخُدام
والزعماء والأزلام والأصنام

يذكر انه في تلك الفترة سنة 1933 كانت عمليات المسح الإجباري قد افتتحت في بيروت. وقد حصل خلاف في حينه حول حدود قطعة الأرض المتاخمة لمجلس القنطاري (دار الطائفة الدرزية اليوم) مع ورثة أنطوان سيور حول ما اذا كانت القطعة المذكورة من ضمن أرض الوقف المذكور أم لا. وعلم تلامذة عارف أبو شقرا من أهالي المحلة بهذا الأمر فتوجهوا الى المنطقة وأخذوا يهزجون مع الموجودين هناك تحية لسلطان باشا الأطرش، وكان أستاذنا معجباً بسلطان باشا وعلق صورته في بيته:

يا سلطان السـوريين
رجال بني معروف

يا حامي الوطن والدين
للحرب مستعدِّين

الصورة مأخوذة عام 1935 في مدرسة أبي بكر الصديق - المقاصد. الأستاذ عارف أبو شقرا الخامس من اليمين.
الصورة مأخوذة عام 1935 في مدرسة أبي بكر الصديق – المقاصد.
الأستاذ عارف أبو شقرا الخامس من اليمين.

العروبة والوطن لا قيس ولا يمن
بعد المفاوضات التي واكبت إنشاء الجامعة العربية، تنادى العرب الى جمع كلمتهم ووحدة بلادهم ومقاصدهم. وقد أوحت هذه المناسبة الى أستاذنا عارف أبو شقرا فنظم سنة 1946 نشيد الوحدة العربية الذي لحنه الأخوان فليفل وأنشد في كثير من المناسبات وكان له أطيب الواقع في نفوس المستمعين، وأحيل الى دائرة الثقافة في الجامعة العربية ليكون في عداد أناشيدها الوطنية. وفيه يقول:

المـعـالي لنا وطـن
ليس في عزمنا وهن
نمشي على صرف النوب

نحن أكرومة الزمن
نحن لا قيس ولا يمـن
نحن الألى نحن العرب

يا رئيس البلاد: عدل المنهاجا
كان عارف أبو شقرا يدرس أنواع الحكمة التي تتهذب بها النفوس وتتوفر بها مكارم الأخلاق، فيدل بذلك على وفور فضله ورجاحة عقله وحسن خلقه. وكان يحث التلامذة على المطالعة ويحدثهم عن الزعماء والأبطال والحركات الوطنية في العالم العربي.
ولم يكن بعيداً عما يحصل في مجتمعه وبلده، وقد رأى أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري ما وقع في البلد من اختلال لإهمال بعض الرعاة مصالح الرعية واستطالتهم على الفقير ومد أيديهم الى أموال الناس بالباطل وخروجهم عن دائرة العدل وعدم الالتفاف الى حاجات المستحقين ومصالحهم، وتولت المناصب غير أهلها بحيث وقع الاختلال والفساد، فنهض في أحد المهرجانات الخطابية ورفع عقيرته بقصيدة عصماء يذكر الظلم الاجتماعي ويشير الى جنوح سفينة الحكم والسلطة وينبه الحاكم فيقول فيها:

ويختمها ببيتين خاتمة الثاني منهما عنوان القصيدة “عدل المنهاجا” وهما:

وقيل يومها إن رجال السلطة حاولوا اعتقاله على اثر انتهائه من إلقاء قصيدته، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر والاجتماع الشعبي الحاشد.
الفاء والنون وما بينهما.
لم يكن عارف أبو شقرا استاذاً للغة والتاريخ فحسب، يحبس عطاءه فيما يلقيه من دروس وأمثال وعبر، لم يكن استاذاً من حبر وورق، بل كان ينبوع فكر ومثير طاقات ومحرك همم وحافظ تراث. وما كان له ان يتجاهل ما حل بفلسطين وبالعرب بها من نكبة فنظم قصيدة من روائع ما نظم، ما زلنا نحفظ منها بيتاً يذكر فيه حق العرب في فلسطين (الفاء أولها والنون آخرها) وكل ما بين الفاء والنون من فنون الأدب والشعر والفروسية والحكمة، وهو البيت القائل:

وهذا الاعتزاز بتاريخ العرب وأمجادهم تراه في العديد من قصائد الأستاذ المعلم عارف أبو شقرا. تجلى في نشيد الوحدة العربية السابق ذكره، كما تجلى في نشيد المقاصد الذي ردده شباب المقاصد ولا يزالون ينشدونه بلحن الأخوين فليفل بادئاً بقوله:

عهدنا بالمقاصد
ناديك منـزلاً
دمت للحق وال

في ظلال المعاهد
ومباديك منهلاً
علا خير قائد

قد نمتنا عزة في يعرب
حسبنا إنا على هدي
في جوار الصنوبر
يا رفاقـاً على الزمـن

وتـراث خالـد في الأدب
النبـيّ في المحـامد
ضَمَّنـا خير معشـر
اشتروا المجد بالثمن

وعلى نصـرة الوطن
بالجنان واللسان والقلم
والحديد والعديد والهمم

فلنجـاهدِ فلنجاهدِ
والشباب المستنير بالحكم
والسواعد والسـواعد

اذا كان عارف أبو شقرا قد أشار في هذا النشيد الى “معشر ضّمَّنا وإياه في جوار الصنوبر – كان علم المقاصد يضم في زاويته العليا صورة لصنوبرة شعاراً – فلم يمنع ذلك معلمنا من التغني بأرز لبنان الخالد، ممجداً له واضعاً إياه في مصاف خوالد الدهر وأعاجيبه، فيهتف معتزاً مفتخراً في قصيدة بقي في الذاكرة منها:

أرز لبنان حرمة وتحيـة
زانـك اللـه بالجـلال
ياخدين الأهرام والهيكل

طبت دوحاً في أرضنا الشامية
فأمليت على كل بقعة أملية
الفخم وصهر الجنائن البابلية

ولم يغفل أستاذنا ومعلمنا عارف أبو شقرا دور المرأة عامة والممرضات خاصة اللواتي يبلسمن آلام المرضى وينعشن أمانيهم. فنظم لهن سنة 1951 نشيد الممرضات الذي لحنه الأخوان فليفل وأخذ به في مدرسة التمريض التي كان يديرها المرحوم الدكتور مصطفى خالد فأنشد في حفلاتها وانتقل الى مختلف مدارس التمريض.
وقد أحسن الشاعر باختيار مفردات من العربية تتوافق مع دور الممرضة وعملها مثل: الوفاء، الألم، الشفاء، الحان، الصبر، الرجاء والأمل الخ… فقال مخاطباً الممرضة:

اسمعي صدى الضمير
أنـت للسقم أنـت
نـادى الاشفيا

هاتفاً للوفا يا فتاة للوفـا
للألـم أن تعسفا
أنعشـي الأمـانيـا

واحملي الشفا
يا رسالة الرجاء والأمل
مهدي الوساد، هيئي

وانشـري الأمـان
تنعش النفوس تطرد العلل
الضماد، غالبي الوجل

وبعد،
اذا كانت حضارة الأمم والشعور تقاس بمقياس نتاج أبنائها وتكريم عطاءاتهم ومساهمتهم في تقدم شعوبهم والتعبير عن آلام أمتهم وآمالها، فإن واجب الأمة يكمن في تكريم اعلامها ونشر تراثهم.
واننا نتوجه الى أصدقاء معلمنا وتلامذته وأهله واخوانه والمسؤولين عن الثقافة والتربية لإخراج كنوزه من زوايا النسيان ونشرها على اللبنانيين والعرب إنصافاً لأستاذ علم الأجيال العلم والوطنية والأخلاق والرجولة.

بلدية حاصبيا حارسة التاريخ العريق والمستقبل الواعد

لمحة أوّلية، سريعة
نقول لمحة (أوّلية، سريعة) لا أكثر، لأننا في إطار تحضير ملف كامل شامل عن (حاصبيا: التاريخ العريق والمستقبل الواعد). لكن نجاحات بلدية حاصبيا المنتخبة سنة 2016 في أكثر من مجال عمراني وإنمائي، ونجاحها في حل أزمة الكهرباء، وتحويلها حاصبيا إلى ورشة إنماء واسعة، جعلتنا في “الضحى” نسلّط الضوء على الإنجازات تلك، كما على المشاريع المستقبلية، معتذرين سلفاً عن قصور هذه اللمحة عن الإحاطة بكامل ملف حاصبيا التاريخي الضخم، والذي سنعود إليه في تحقيق شامل لاحق إن شاء الله.
ومع ذلك لا نستطيع إلا أن نمر ولو سريعاً بحاصبيا الماضي، حاصبيا التاريخ، نعبر منه إلى الحاضر والمستقبل. وقبل ذلك، كيف نعرّف بحاصبيا؟
التعريف بحاصبيا:
لم نجد في الواقع مقدمة تعرّف بحاصبيا أفضل مما وجدناه في مجلة “الجيش” اللبناني، عدد 289، سنة 2009، والمنشور على موقع الجيش الآلكتروني (في إطار تحقيق سياحي/وطني من إعداد العميد أنطوان نجيم وجاندارك أبي ياغي). تقول مقدّمة التحقيق:
“حاص حوّلها التاريخ، فبيّاه الله، وابتدعته، فاجترحها مقدسة، على ضفاف نهر استسمى الخلود، واستدركه، فتسمّى بها، وسط أصقاع خصيبة طبّقت شهرتها الآفاق، كجورة الذهب (الحولة) والجليل وجبل عامل وسهل مرجعيون جنوباً، وهضاب وادي التيم وتخوم البقاع شمالاً.
خالدة إلى جوار جبل حرمون، أقدس الجبال في التاريخ،
حاضنة مزار ’رأوبين’ أحد أخوة يوسف الصدّيق أبناء يعقوب، محجّ لعبادة بعل جاد، إله الحظ عند الشعوب القديمة، قبلة الموحدين الدروز في خلوات البيّاضة،
ترتاح وادعة حاصبيا التي هي مع التاريخ في جدلية، ومع القداسة هي على دروب اللقاء، ومع الجمال والكرم في تماهٍ.
حاصبيا المترفعة، المتعالية، الباسطة ذراعيها تنتظر أبناءها وقاصديها…”
ها هي بعض ملامح صورة حاصبيا المدهشة: نعم المدهشة؛ إذ يندر أن تجمع بلدة واحدة ما اجتمع في حاصبيا من تاريخ (يكاد يختصر تاريخ منطقة الشرق الأدنى لكثرة ما مرّ غزاة على الزاوية اللبنانية الجنوبية الشرقية تلك) ومن دين (إذ بدأ انتشار دعوة التوحيد فيها أو في محيطها من بلدات وادي التيم، ولاحتوائها منذ سنة 1650 على واحد من أقدس مقدسات الموحدين الدروز ألا وهو “خلوات البيّاضة”، المركز الروحي والتعليمي الرفيع).

حاصبيا دخلها الأجنبي محتلاً
فخرج منها منهزماً
مدينة السلام والزيتون تقبع وادعة ً بين أحضان الطبيعة الساحرة وعلى أكتاف تلال تعانق حرمون تُطالعك حاصبيا بجمالها الآخاذ بفتون ٍسرمدي تجلبب بقلعة ٍتاريخية وبنهر معطاء متدفق طالما روى ظمأ الأرض العطشى، وبتفاعلٍ تاريخي ثقافي قل نظيره حيث كانت مثالاً للعيش المشترك.
إذاً، هذه البلدة العتيقة التي غزلت على منوال الزيتون شالاً أخضراً سرمدياً استمدّت من جبل الشيخ الأشيب روعة التسامي ومن ترنّم الحاصباني معنى العطاء ليتوّجها المرجع الديني الأول لطائفة الموحدين الدروز، خلوات البياضة.
حاصبيا التي سكن القدّيسون والأولياء الصالحون جنبات وهادها فمنحوها بركتهم، فكانت ذخراً لأهاليها الميامين في مقاومة غزوات المحتلين، من الصليبيين، إلى المغول، إلى الإسرائيلي – لبضع سنوات أواخر القرن الماضي. قاومت حاصبيا الغزاة أولئك في معارك باسلة، فخرج الصليبي، ثم المغولي، والعثماني، والفرنسي، وأخيراً الإسرائيلي. وكان طبيعياً أن تدفع الثمن غالياً لقاء حريتها، فأحرقها الغزاة غير مرّة، بل أحرق جزءاً منها الفرنسيون تأديباً لها لوقوفها مع ثورة جبل الدروز سنة 1925، وكذلك حاصرها الإسرائيلي في ثمانينات القرن الماضي لوقوفها سدّاً في وجه أطماعه.

لكنّ حاصبيا كانت تخرج من كلّ امتحان أقوى مما كانت قبله، فتقدّم للوطن اللبناني والعربي خيرة رجالات الحكم، كما تقدّم لبلدان الاغتراب أفضل الطاقات الاغترابية. وثروة حاصبيا الكبرى اليوم هي اللحمة الوطنية التي تشدّ بين أواصر بنيها، يتسابقون لخدمتها وإعمارها، على الصعيد الوطني والاجتماعي والمادي.

صورة قديمة لحاصبيا
صورة قديمة لحاصبيا

حاصبيا اليوم
حاصبيا عاصمة وادي التيم الجنوبي، مركز قضاءٍ يتبع إدارياً محافظة النبطية، يضم 22 قرية وبلدة كما تضم جميع الدوائر الرسمية في القضاء.
تصل إليها، إما من الجنوب: النبطية، الخيام، مرجعيون، حاصبيا؛ أو من الشمال: شتورا، راشيا، فحاصبيا. يناهز ارتفاعها 800 متر حيث تفترش هذه المدينة مساحة 2565 هكتارا ًومعظم مساحاتها خضراء تُظلّل القسم الأكبر منها غابات الزيتون.
يقارب عدد سكانها 16000 نسمة بين مقيم ومغترب (كان عدد سكانها سنة 1905، 5000 نسمة، وهو رقم عال نسبياً ما يدل على عمرانها البشري القديم).
أكسبها موقعها الجغرافي بين لبنان وسوريا وفلسطين أهمية كبرى عبر التاريخ، ممّا جعلها محط أنظار الغزاة، من الصليبيين حتى الإسرائيليين.
تُعتبر حاصبيا شأنها شأن معظم القرى والبلدات اللبنانية مصدراً ثرياً للاغتراب حيث جاب أبناؤها معظم بلدان العالم فأغنوا هذه المغتربات من خلال ما قدّموه إلى البلدان تلك، كما عادوا بالفائدة المادية على مدينتهم من خلال الأموال التي كانت ترسل إلى ذويهم أو من خلال الأموال التي تمّ استثمارها في مجالي السياحة والبناء، ناهيك بالصيت الذي منحوه لحاصبيا، كموئل للعلم والأعمال وقبل ذلك للوطنية.

أبرز ما يميّز البلدة
الخلوات الدينية التي خرّجت أجيالاً من المشايخ الأجلاء.
سرايا حاصبيا، رمز التاريخ العريق، ومقر الأمراء الشهابيين سابقاً.
العيش الواحد، الخلوة، الجامع، والكنيسة.
عدد كبير من الأسماء اللامعة التي خرجت من حاصبيا، في
السياسة والأدب والاقتصاد والاغتراب، والأندية والجمعيات تشد أواصر المجتمع المدني.
منتزهات الحاصباني التي تُعتبر مرجعاً سياحياً مهما ً تشكّل
مصدراً للدخل لا يُستهان به لأبناء البلدة.
الحمّر … ثروة لبنان الضائعة، حيث تُعتبر حاصبيا غنية بهذه
المادة على الرغم من توقّف استخراجها منذ زمن بعيد.
التعليم والتربية حيث تتوزّع المؤسّسات التربوية بين رسمية
وخاصة ومعاهد فنية تقدّم خدمات تربوية مميزة.
صناعة الصابون البلدي الذي يُعتبر من الصناعات التاريخية
التي ما زالت تحافظ عليها.
زراعة الخضار والفواكه حيث يتم استغلال مياه الحاصباني
لتنشيط الحركة الزراعية.
بالإضافة إلى تميُّز هذه البلدة بزراعة الزيتون بحيث جعل منها
إمارة خضراء تدرّ ذهباً سائلاً من خلال معاصر الزيت التي تُنتج زيتاً هو الأجود في لبنان.
وتبقى الروح الوطنية الجامعة، والروابط الاجتماعية الوثيقة
بين عائلات البلدة الروحية والاجتماعية هي ثروة حاصبيا الكبرى والتي تصلح مثالاً للوطن.
تمتاز بلدة حاصبيا بأنها مركز للقضاء، وتوجد فيها دائرة
نفوس تخدم سكان 15 بلدة.
تشتهر حاصبيا بزراعة الزيتون، واستخراج الزيت وصناعة
الصابون يُشكّلان 80% من إنتاجها، وتعتمد أيضاً تربية النحل، كما استحدثت فيها زراعة الليمون والرمان في العديد من المناطق.
مبنى البلدية في حاصبيا هو اليوم إدارة رسمية يقصدها
المواطنون في جميع المجالات، وهي دار صلح ووفاق، وهي المرجعية الرسمية والقانونية في بلدة عرفت العيش المشترك والتمدُّن والإسهام الإيجابي منذ تكوين فكرة لبنان. وفي حاصبيا أحزاب عدّة من اتجاهات متعدّدة يجمعهم مطلب خدمة أبناء حاصبيا وتقدُّم الوطن.

خلوات البياضة
خلوات البياضة

شخصيات بارزة من حاصبيا
قدّمت حاصبيا إلى الوطن وإلى العالم العربي، كما للمغتربات، عدداً من الشخصيات السياسية والروحية والأدبية والمِهَنية والاغترابية والنسائية، فيما يلي بعضهم فقط (على أن تقوم في وقتٍ لاحق بنشر ثبت كامل بهذه الشخصيات يكون جزءاً من تحقيقٍ شامل عن بلدة حاصبيا وجوارها):
فارس الخوري: رئيس وزراء سوريا، 1944-1945، ثم 1954-1958.
الرئيس خالد شهاب: رئيس الحكومة الأولى في عهد الرئيس
كميل شمعون.
الوزير والنائب أنور الخليل: نائب عن المقعد الدرزي في دائرة
حاصبيا مرجعيون منذ العام 1991
الشيخ سليم خير الدين: رجل أعمال، ورئيس “مؤسّسة التراث
الدرزي” في لندن.
الوزير السابق مروان خير الدين: وزير سابق في حكومة الرئيس
نجيب ميقاتي الثانية، وهو قيادي في “الحزب الديمقراطي اللبناني”، ورئيس مجلس إدارة “بنك الموارد”.
الدكتور أسعد قطيط : رئيس سابق لمنظمة الطيران المدني العالمية.
الدكتور مايكل دبغي: أشهر طبيب قلب في العالم، بل رائد
جراحة القلب.
الأمير طارق شهاب: رئيس “المؤتمر الوطني لدعم الجنوب”،
ونائب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” لفترة طويلة، وسامي شمس، وحسين قيس، وإسكندر غبريل، ونسيب غبريل.
فارس نمر باشا: مؤسّس جريدتَي “المقتطف” و”المقطم” في
مصر مع يعقوب الصروف.
لور مغيزل: المحامية والأديبة الناشطة في حقوق المرأة، وزوجة
المحامي الدستوري اللامع المرحوم جوزيف مغيزل.
الأميرة زينة خير الدين إرسلان: زوجة عطوفة النائب الأمير
طلال إرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني.
أم علي نايفة جنبلاط: والدة سليم شمس وجدّة نجيب شمس،
كان لها أواسط القرن التاسع عشر حضور سياسي فاعل، وكانت واسطة اجتماع ووحدة حين نجح التركي والغربي في تمزيق وحدة النسيج اللبناني.
وإلى رئيس المجلس البلدي وأعضائه الخمسة عشر، في حاصبيا ثمانية مخاتير هم: شريف الحمرا، وسيم جبر، نعيم اللحام، أمين زويهد، جمال بوصالح، وهيب أبو حمد، حاتم خير، سامي ملي.

ومن الناحية الدينية، في حاصبيا خلوات البياضة، المركز الروحي المهم لدى طائفة الموحدين الدروز، والذي عاش فيه أو تخرّج منه بعض أبرز علمائهم وشخصياتهم الروحية المميّزة التي تركت أجمل وأطيب سِيَر الصالحين لدى طائفة الموحدين الدروز.

أبرز الجمعيات في حاصبيا
جمعية حاصبيا الخيرية: التي سعت مؤخراً من أجل بناء بيت
حاصبيا الذي أصبح على طريق الإنجاز بفضل الخيِّرين من أهالي حاصبيا.
نادي الجبل الرياضي: النادي الرياضي المميّز في منطقة
حاصبيا والقلب النابض بالنشاطات.
مكتب الأستاذ النائب أنور الخليل للخدمات والرعاية والدعم:
وفيه نشاط بارز في منطقة حاصبيا.
مركز الرعاية الصحية: الذي أُقيم من قِبل بلدية حاصبيا
بالتعاون مع وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية.
مركز الصليب الأحمر المركزي في حاصبيا: الذي يغطّي
بخدماته معظم المنطقة، أكثر من 15 بلدة.
جمعيات كشفية وبيئية وجمعيات خيرية تنشط في بلدة حاصبيا
والجوار.

نهر الحاصباني: معنى العطاء
نهر الحاصباني: معنى العطاء

أهم المعالم السياحية
سرايا حاصبيا الشهابي الأثري: يرتبط وثيقاً بتاريخ المنطقة
ولبنان وكان مركزاً للأمراء الشهابيين واستخدمه السلطان صلاح الدين الأيوبي كقلعة له ومحطة على الطريق إلى القدس وأخيراً الأمير بشير الشهابي الثاني.
نهر الحاصباني: الذي اشتهر بعذوبته وغزارته واصطفاف
عدد من المطاعم والمنتزهات حوله ما سمح بكثير من النشاط السياحي، وبعض أهم النشاطات واللقاءات والاحتفالات.
دار حاصبيا الجديد: الذي أقيم على أرض حاصبيا برعاية
الأستاذ أنور الخليل والذي يمتاز بفخامته وتجهيزاته واستخدامه في العديد من اللقاءات والمناسبات.
تُعتبر بلدة حاصبيا بلدة جامعة وتجسّد العيش الواحد لجميع الطوائف اللبنانية داخل أحيائها ومؤسّساتها وأنشطتها، وتمتاز بالتبادل الاجتماعي الدائم.
سوق الخان: السوق الشعبي التاريخي، بُني عام 1467، وفيه
قُتل الأمير على ابن فخرالدين الثاني في معركة مع القوات العثمانية، وهو مركز للتجارة والتبادل ومركز للسكن والاستراحة منذ أكثر من 500 سنة. هو سوق الخان المميز الذي يقام به كلّ أسبوع سوق شعبي للخضار والفواكه والملابس وسائر أشكال التجارة الشعبية، ويُقام فيه أيضاً “ماراثون حرمون السنوي الكبير”، وعدد من الاحتفالات الشعبية التي تنعش شوارع حاصبيا وتجارتها. وفي معركة سوق الخان مع القوات العثمانية، قتل الأمير علي إبن فخر الدين الثاني، حاكم جبل لبنان نهاية القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر.
جامع تاريخي، سبع كنائس للطوائف المسيحية، وكنيس يهودي
أثري قديم.
منطقة رأس النبع: متنزّه مميّز ملك البلدية، وهو مقصد سكان
حاصبيا والجوار للترفيه عن النفس.
المكتبة العامة: الذي يجري تطويرها بدعم من البلدية وفتح
أبوابها للمواطنين من جديد.

دار حاصبيا الجديد يمتاز بفخامته وتجهيزاته واستخدامه في العديد من اللقاءات والمناسبات.
دار حاصبيا الجديد
يمتاز بفخامته وتجهيزاته واستخدامه في العديد من اللقاءات والمناسبات.
يندر أن تجمع بلدة واحدة ما اجتمع في حاصبيا من تاريخ
يندر أن تجمع بلدة واحدة ما اجتمع في حاصبيا من تاريخ
ماراثون حرمون السنوي الكبير ينطلق من سوق الخان
ماراثون حرمون السنوي الكبير
ينطلق من سوق الخان

بلدية حاصبيا
حارسة المكان
وعين على المستقبل

من مقابلة مع رئيس بلدية حاصبيا الأستاذ لبيب محمود الحمرا، ومسؤول الإعلام في البلدية عضو البلدية الشيخ شوقي بو ترابي، أمكننا الإضاءة على بعض من تاريخ البلدية وإنجازاتها البادية للعيان، وبعضها باختصار:

تأسّست بلدية حاصبيا سنة 1870، أيام الدولة العثمانية، وهي
تعتبر ثاني بلدية في تاريخ لبنان.
مساحة حاصبيا 22 كيلومتراً مربعاً. عدد سكانها ما يقارب 16
ألف نسمة. يضم مجلسها البلدي 15 عضواً، وفيها ثمانية مخاتير.
تمكّنت بلدية حاصبيا، رغم عمرها القصير من تحقيق إنجازات
في الكثير من المجالات الخدماتية، بحيث تبدو حاصبيا اليوم ورشة عمل دائمة. وتمكنت من تأمين الكهرباء 24\24 ساعة، وهو هاجس اللبنانيين الأسوأ في معظم المناطق. كما تبدأ قريباً أعمال محطة تكرير للصرف الصحي من تنفيذ مجلس المشاريع الكبرى.
مبنى البلدية في حاصبيا هو اليوم إدارة رسمية يقصدها
المواطنون في جميع المجالات، وهي دار صلح ووفاق، وهي المرجعية الرسمية والقانونية في بلدة عرفت العيش المشترك والتمدُّن والإسهام الإيجابي منذ تكوين فكرة لبنان. وفي حاصبيا أحزاب عدّة من اتجاهات متعدّدة يجمعهم مطلب خدمة أبناء حاصبيا وتقدُّم الوطن.
وللبلدية مشروع مكتبة عامة للبلدة والجوار، تخدم طلاب
العلم في مدارس البلدة ومعاهدها كما لمحبّي المطالعة والثقافة في المنطقة بأسرها.
ولأنّ حاصبيا تفتقر اليوم إلى مبنى سرايا حكومي جامع، فقد
وضع حجر الأساس لمركز البلدية الجديد العصري والمميّز في 21/10/2017، والذي يضم مركز البلدية ومكتبة عامة ومركزاً للشرطة، ويؤمل أن يعزز من الخدمات البلدية في حاصبيا.

السراي الشهابية
السراي الشهابية

مميزات بلدية حاصبيا
تمتاز بلدية حاصبيا الحديثة بالمكننة والتعاون المباشر مع
الأهالي، حيث تقوم بالتواصل مع الأهالي عبر لقاءات دورية ومنفردة بين الأحياء من أجل تكوين فكرة شاملة عن مخطّط العمل للبلدية وتأمين إنماء متوازن وحاجات الأهالي ومطاليبهم.
إنشاء موقع إلكتروني خاص بالبلدية يعرض نشاطاتها
وإنجازاتها ويتواصل مع المواطنين بشفافية وانفتاح وكذلك من أجل التواصل مع المغترب الحصباني.
إنارة الشوارع على مدار الساعة بفضل جهود بلدية حاصبيا
وجوارها، وذلك من خلال تنفيذ مشروع “إنارة حاصبيا 24/24” الذي تجاوزت كلفته المليون ونصف المليون دولار أميركي حيث قامت البلدية باستدانة المبلغ وتنفيذ المشروع على عاتقها الخاص.
تقديم أكثر من 150 مساعدة للعائلات المحتاجة بشكلٍ دوري
وعلى مدار السنة.
توظيف أكثر من 65 موظفاً داخل مركز البلدية إضافة إلى
توظيف 10 اشخاص في جهاز الشرطة والحرس.

أهداف مستقبلية لبلدية حاصبيا
بناء مدينة حِرَفية بالتعاون مع “برنامج الأمم المتحدة للتنمية”
(يو.أن.دي.بي) من أجل بناء منطقة حِرفية تستجيب لمطالب الناس وتدخل في إطار تنمية حاصبيا.
إقامة حديقة عامة كبيرة ومميزة، وخاصة بعد حملة التشجير
التي وصلت إلى حدود خمسة وستين ألف متر من شجر الصنوبر المثمر بالتعاون مع كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية.
بالتعاون مع مدير مجلس الإنماء والإعمار سيتم إقامة
شبكة صرف صحي للبلدة وجوارها، وشق طريق جديدة بعيدة عن الطريق الرئيسية التي ستصبح طريق عام سريعة تُخفّف من معانات المواطنين.
معمل فرز النفايات، مشروع مقدم وقيد الدرس مع اتحاد
بلديات الحصباني (ثماني بلدات، حاصبيا، شويا، عين قنيا، الخلوات، ميمس، الكفير، كوكبا، مرج الزهور).

وأخيراً، نغادر حاصبيا التاريخ والحاضر، ونتطلّع إلى المستقبل بثقة بوجود أناس مخلصين لحاصبيا وللوطن، من أمثال رئيس بلدية حاصبيا، الأستاذ لبيب الحمرا، وزملائه في المجلس البلدي، وسيكون لنا لاحقاً تحقيق موسّع عن حاصبيا، ومن حاصبيا، بمعيّة الذين كتبوا عن تاريخ حاصبيا الغني، وحاضرها النشط، ومستقبلها الواعد؛ علماً أن كانت قد أعدت ونشرت ملفاً خاصاً بـ ’خلوات البيّاضة’، والدور الروحي والعلمي الجليل الذي قام به مشايخها وعلماؤها في ترسيخ مكانة العلم والدين والأخلاق، كما العيش الواحد الذي تحياه حاصبيا والجوار، والذي يصلح أن يكون نموذجاً للوطن. تحية لحاصبيا وأطيب التمنيات.

خلوات البياضة
خلوات البياضة

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاة الأمير شكيب أرسلان

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاة الأمير شكيب أرسلان
«كلّ نهضة لا يكون ظهيرها العلم، ما هي إلا لحظة وتضمحل»

تمهيد
لم أجد تعريفاً بالأمير شكيب أفضل مما ذكره أديب مقدسي كتب في جريدة الشورى المصرية، عدد 6 آب، 1926، ونقله الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه “شكيب أرسلان، داعية العروبة والإسلام”، الصادر سنة 1963، عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر، قال:
“[كان طه حسين قد كتب] ….من الأدباء مَن يسبق الحوادث، ومنهم مَن يعيش معها، ومنهم مَن يجيء بعدها، وشكيب يجمع بين الأحوال الثلاث.” (الشرباصي، شكيب أرسلان، ص 297-298)
هذا نزر بسيط جداً من بحر ما قيل في شكيب، إطراء ومديحاً يستحق كل حرف منهما، لكني اخترت البدء بهذا النص لأظهر معايشة شكيب لأحداث أمته في عصره، ولتداعيات الأحداث تلك، ولتحوله من ثمة إلى عارف متبصر بأحوال أمته، بأمراضها وعللها، أولاً، وبأدوائها وسبل مداواة الأمراض تلك ثانياً. فماذا عساه يقول في حاجة أمته إلى النهضة، وفي ماهية النهضة، وفي مستلزماتها وشروطها أولاً وأخيراً؟ وهذه بعض مرتكزات تفكير الأمير شكيب في هذه المسألة:

1- قدرة العرب والمسلمين على التقدُّم
هو الأصل والقاعدة
أفاض الأمير شكيب في عشرات المؤلفات والمقالات والنصوص في تبيان الغنى الثقافي والروحي اللذين بعثهما الإسلام في ماضي الأمتين العربية والإسلامية. كما أحصى على وجه الخصوص مظاهر التقدم العلمي والتقني والحضاري الذي تحقق للعرب في ذروة تقدُّمهم، في مشرقهم ومغربهم، وبخاصة في الأندلس الذي كان بوابة لنهضة أوروبا بعد ذلك. (راجع على وجه الخصوص المقالة الرائعة الموثّقة “الحضارة الإسلامية ورقي العرب الفكري في القرون الوسطى”في حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 106-117). والمقالة “المدنية العربية” المرجع نفسه، ص 128-136، وأيضاً “الحركة العلمية في الحضارة العربية…”، ص 137-155، وهي لشكيب أو مما علّق عليه فأفاض وزاد عن الأصل.
وقد أحصى الأمير مظاهر الريادة والإضافة التي كان للعرب فضل السبق فيها، من مثل نقل تراث اليونان وحفظه وإيصاله من ثمة ومن طريقهم إلى بواكير النهضة الأوروبية. وكان الأمير كذلك محققاً علمياً دقيقاً حين أشار إلى الدور الذي لعبته مدرسة الإسكندرية على وجه الخصوص، وليس اليونان فقط، في نهضة العرب وأوروبا بالتالي. كذلك التجديد البارز الذي كان لهم في الكثير من المجالات العلمية والتقنية، وقد لفتني إظهاره التجديد العربي الأصيل في موضوع العلوم التجريبية – ناهيك عن عشرات المجالات الأخرى – فلنقرأ في “حاضر العالم الإسلامي”:
“وأما تفوقهم في العلوم فقد كان بالطريقة التي تلقوها عن يونان الإسكندرية، وذلك أنهم أدركوا أن مجرد التأمل بعيد عن أن يبلغ بالإنسان الغاية المقصودة، وأن هذه الغاية لا تنال إلا بمراقبة الأمور واختبار الأشياء أي بالطريقة التجريبية. وكانوا يرون الجبر والرياضيات آلات للمنطق، ويلحظ من تآليفهم الكثيرة في جر الأثقال (الميكانيك) وعلم موازين السوائل (الهيدروستاتيك) وعلم البصريات، وأن حلهم للمسائل العلمية كان دائماً بطريقة الاختبار المباشر أو بالمراقبة الآلية. وهذا هو السبب في وضع العرب لعلم الكيمياء، واختراعهم عدة آلات للتقطير والتصعيد والتذويب والتصفية. كذلك هو السبب في استعمالهم في مراقبة الفلك الآلات المدرّجة كالربوع المجيّبة والاسطرلابات. وقد استخدموا في الكيمياء الميزان الذي اتقنوا معرفة قاعدته وأنشأوا جداول للثقل النوعي. ولهم الزيجات الفلكية الشهيرة مثل زيجات بغداد، وقرطبة، وسمرقند، وكان ذلك من أعظم وسائل نجاحهم في الهندسة والمثلثات وتوصلهم إلى ابتكار علم الجبر واتخاذ طريقة الرقم الهندي، وذلك كله نتيجة اتباع العرب مذهب أرسطو في الفلسفة دون مذهب أفلاطون لأن الأول تفصيلي والثاني إجمالي…”
مدهشة معرفة شكيب التي ظهرت في هذا النص من حاضر العالم الإسلامي والذي أضاف إليه ما أضاف، وقد اخترته من نصوص كثيرة مباشرة أظهرت شكيباً مؤرخ العلوم الواثق الدقيق المتقن، وفيلسوف العلوم المدرك دقائق الأمور وأسبابها، وإلى ذلك كالبحر يفاجئك في كل لحظة بما تعرفه وبالكثير مما لا تعرفه.

2- لكن تأخُّر العرب والمسلمين
هو الواقع منذ حين
مع ذلك، لا يختلف اثنان في أن البلاد العربية والإسلامية هي (في زمن شكيب، وفي أيامنا أيضاً وإلى حد كبير) أقرب إلى التأخر منها إلى التقدُّم، وإلى الضعف منها إلى القوة والمنعة، وبمعايير التقدم العلمي والمادي. هذا ما يسجله الأمير شكيب أرسلان، بادئ ذي بدء، في مطلع كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟” – رسالته الجوابية في الأصل لنخب “جاوة” في أندونيسيا سنة 1925 الذين سألوه عن سبب تأخر المسلمين قياساً بتقدم اليابان والفرنجة. يبدأ الأمير شكيب رسالته الجوابية بتسجيل حال التأخر ذاك قائلاً:
“إنّ الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب، لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في درجاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطراً. وبالإجمال، حالة المسلمين الحاضرة، لا سيما مسلمي القرن القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح، لا ترضي أشد الناس تحمساً بالإسلام وفرحاً به، فضلاً عن غير الأحمسي من أهله. إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، لا من جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنون فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار، ولم أعلم من المسلمين من ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلاّ …”. (لماذا تأخر المسلمون..، ص 43-44) (التشديد من الباحث وليس من المؤلف)
ويعيد الأمير تأكيد صحة هذه الملاحظة – المقدمة في أعمال أخرى لاحقة، وبخاصة في بعض مقالات مجلدي “حاضر العالم الإسلامي”. بيّن شكيب في مقالاته تلك حال العالم العربي والإسلامي بالتفصيل في المناحي العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعض مظاهر التقدم أو التمدّن، أو حتى الحضاري إلى حد ما.
ورغم ترسّخ فكرة أن “الإسلام راق بنفسه” وفق تعبير الأمير، إلا أن الغنى الروحي والثقافي اللذين بعثهما الإسلام ليسا كافيين في ظروف المسلمين التي استجدت إما لتبدل في المكان أو لتقدم في الزمان، فهو إذاً، وعلى غير منهج معظم السلفيين، لا يقف عند ذلك و لا يكتفي به. وهولا يعتقد تحديداً أن في وسع الشعوب العربية والإسلامية أن تجاري المتقدّمين، وأن تباريهم في مناحي الحضارة كافة، إن لم تأخذ بأسباب تقدّم الأمم التي سبقتنا، وبأسباب قوتها، في المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية عموماً، وبخاصة في ميدان تقدم العلوم – ومن دون أن نقطع الصلة بماضينا الروحي والثقافي والديني تحديداً. ولعلي لا أجانب الحقيقة إذا لاحظت مع سواي أن ما كتبه شكيب أو أضافه في التاريخ الوضعي، والشرط السياسي، والشرط الاقتصادي، والتقدم الحضاري (بل المادي) للشعوب الإسلامية (وبخاصة العربية) يفوق حجماً ما كتبه في الموضوعات العقائدية أو الكلامية أو الفقهية. وفي ذلك دليل واضح على أولوية مسألة التقدم العلمي والمادي والحضاري في فكر الأمير. أكثر من ذلك، فإن شكيباً لم يكن يقصد بالإسلام في حقيقة الأمر الجانب الديني أو الكلامي أو الفقهي فيه حصراً، بل الجانب السياسي والثقافي، ومما لا شك فيه أنه كان يعني بالإسلام الشرقيين المستعمرين والمستضعفين عموماً، على ما سنفصّل الأمر بعد قليل.

3- الشرط السياسي للنهوض والتقدم
شكّل العامل السياسي والوعي بذلك الشرط أحد المعالم السباقة الرائدة في فكر شكيب. وهو تجاوز واضح لمقولة شكيب الإسلامي التقليدي حصراً. وأحد المظاهر البارزة في فكر شكيب أرسلان النهضوي، هو اعتباره أن السمة الرئيسية لمعظم بلاد المسلمين هي أنها محتلة، وأن الاحتلال ذاك هو أحد أكبر عوامل تأخرها. وأن المسلمين هم الشرقيون المستضعفون، مسلمين وغير مسلمين، هم موضوع احتلال المستعمر ونهبه واستهدافاته السياسية والاقتصادية والثقافية. وهل من إشارة أقوى من تلك التي ترد في حاضر العالم الإسلامي في قوله:
“فليست إذاً الرابطة الإسلامية وحدها هي التي تجمع قلوب الجزائريين والتوانسة والمراكشة وغيرهم إلى قلوب أهالي الأناضول، بل هناك رابطة المستضعفين بعضهم مع بعض، ورابطة الأخ الذي هو تحت نير العبودية مع أخيه الذي تمكن من رفع ذلك النير عن عنقه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 329-330)
وقد دعا أكثر من ذلك إلى وحدة المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة الهندوس في الهند، لرد غائلة دسائس المستعمر وتمتين الوحدة الداخلية في مواجهته. وهو في مواضع كثيرة لم يميّز على الإطلاق بين نضالات الأعراق والأديان المختلفة، مسلمين وغير مسلمين، في مواجهة الاحتلالات والدسائس الغربية. فلنقرأ من شكيب هذا النص، يقول:
” يموت المغربي حتى تنتصر فرنسا على ألمانيا مثلاً، ويموت الهندي حتى تتغلب إنجلترا على عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسيا، والحال أنه بانتصار فرنسا على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلماً وابتزازاً لأملاك المسلمين وهدراً لحقوقهم.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 37)
تلك إشارة فقط إلى أولوية السياسي، لا الديني، في فكر الأمير شكيب. ووعيه لحال التأخر في أمته، كما وعيه للتقدم الجاري في الغرب أو اليابان في الشرق الأقصى، وعي سياسي بالدرجة الأولى.

4- الشرط الاقتصادي – الاجتماعي
للنهوض والتقدم
وإلى هذا الشرط السياسي، هناك شرط آخر لا يقل أهمية، هو الشرط الاقتصادي لكل تقدّم. وقد أفاض شكيب في مباحث “حاضر العالم الإسلامي”، كتابة أو تعليقاً، كما في كتب ومقالات ورسائل أخرى، في تفصيل الأوضاع الاقتصادية لكل قطر عربي وإسلامي، مبيّنا بالأرقام النهب الاقتصادي للثروات والموارد الطبيعية الذي تمارسه البلدان الغربية وشركاتها في البلدان الإسلامية المستعمرة. واقترح شكيب من ثمة ضرورة وجود “جامعة إسلامية اقتصادية” تعزز الجامعة الإسلامية السياسية (ومعناها استقلال البلدان العربية والإسلامية واتحادها)، وننقل من حاضر العالم الإسلامي:
“فما هي غاية الجامعة الإسلامية الاقتصادية؟ إنما هي ثروة المسلمين للمسلمين، وثمرات التجارة والصناعة في جميع المعمور الإسلامي هي لهم يتنعمون بها…. وليست للغرب… وهي [كذلك] نفض اليد من رؤوس الأموال الغربية والاستعاضة عنها برؤوس مال إسلامية. وفوق ذلك تحطيم نواجذ أوروبا، تلك النواجذ العاضة على موارد الثروة الطبيعية في بلاد المسلمين، وذلك بعدم تجديد الامتيازات في الأرضين والمعادن والغابات وقطر الحديد والجمارك، العقود التي ما دامت خارجة من أيدي العالم الإسلامي فهو يظل عالة على الغرب.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 328)
ومن المرجع نفسه أيضاً:
“الثروة في الشرق [وبعد تفصيل حال البلدان الإسلامية لحظة وصول الفتح الغربي، يكمل].. زد على هذا أن التزاحم الغربي جاء فانتشر فزلزل الحياة الاقتصادية الشرقية زلزالاً هائلاً، إذ إنّ فتح أوروبا للعالم الإسلامي الفتح السياسي كان يماشيه الفتح الاقتصادي جنباً إلى جنب، وربما كان هذا الأخير أتمّ نظاماً وأكمل عدة، فبات كل صقع شرقي في طوف من البضاعات والحاج البخسة الأثمان، المنقولة من أوروبة، ووراء ذلك رؤوس الأموال الغربية متدفقة لا تحصى، تتسرب في البلاد وتنتشر بأخدع الصور، وأملق الأساليب، كالقروض، والامتيازات التي من شأنها ما عقدت أن تكون تمهيداً لاستقرار السيطرة السياسية الغربية.” (نفسه، ص 326).

الاستقلال الاقتصادي إذاً هو المدخل للاستقلال السياسي وللتقدم الحضاري عموماً للبلدان الإسلامية. وفي وسعنا أن نلحظ تحديداً إشارته إلى رؤوس الأموال الغربية وضرورة استبدالها برأس مال إسلامي طريقاً للتقدم. وهي مسألة لا تزال إلى الآن مطروحة وبكثير من الأولوية.
تلك هي بعض ريادة فكر الأمير شكيب أرسلان وراهنيته في آن معاً.
مباحث الأمير شكيب أو مشاركاته في الموضوع الاجتماعي، وخطورته، وأولويته لدى كل باحث عن أسباب الاضطراب السياسي والاقتصادي مدهشة في حداثتها حتى الآن، من موضوع تحديد النسل، إلى الأسر “الزراعية” إلى وجهات نظر الغربيين والشرقيين والدين في كل ذلك، وهي تستحق دراسات تحليلية لاستكناه ما فيها من عمق وحكمة لم تذهب بهما السنوات المئة ألا قليلاً التي انقضت على تحبيرها وكتابتها، وبما تفوق به من بلاغة واختصار واقتصاد في القول.
لا تسمح المناسبة بأكثر من هذه الإشارات البليغة والرائدة، وفي وسع من يرغب، وبخاصة من الباحثين الشباب، العودة إلى نصوص الأمير شكيب والتوسع فيها.

الأمير شكيب ارسلان في أوائل كهولته
الأمير شكيب ارسلان في أوائل كهولته

5- الشرط العلمي والتربوي
كل التفصيل اللاحق في السبل والمسالك التي يجب أن تتخذها النهضة العربية والإسلامية، إنما استند إلى الاعتراف إذاً بواقع التأخر القائم، عربياً وإسلامياً في لحظة شكيب. ولا يفيد في شيء التنكّر له. أما الزعم أن امتلاكنا الغنى الديني أو الروحي أو الصوفي أو ما تقادم إلينا من بضعة عقود من الازدهار الحضاري عاشته الأمة في حقب معينة من تاريخها، وتكرار ذلك في كل مناسبة، فلم يعد فيه من نفع أو فائدة تذكر. يعترف شكيب إذاً، وبخلاف”الجامدين”، كما أسماهم في رسالته “لماذا تأخر المسلمون..” أننا قد تأخرنا كثيراً في الميزان المادي والعلمي والحضاري عموماً، وأن علينا الابتكار وإيجاد السبُل الصحيحة للالتحاق بركب المتقدمين، وبخاصة الغربيين.
أما أول السبُل أو المسالك، بعد الاعتراف بحقيقة التأخر كما رأينا، فهو الأخذ بناصية العلم، العلم الوضعي والتجريبي والتقني، وحتى بالمعنى الغربي للكلمة. وقد رأينا قوله الفصل بل القانون الذي أرساه لكل تقدّم منشود عندنا، من لا يتخذ العلم ظهيراً مصيره الزوال، قال: “كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعة وتضمحلّ.” (النهضة العربية، ص 24)
والسبيل الثاني المتصل بالأول، هو التربية والتعليم. وقد أولى شكيب في محاضراته ومقالاته أهمية خاصة للتعليم النظامي الحديث، وعدم الاكتفاء بالكتّاب أو الزوايا أو المسجد أو المنزل، بيئة للتعليم الحديث، بل رأيناه عملياً يحث ملوك العرب على ضرورة فتح المدارس في بلدانهم، وكان ذلك جلياً في بلاد نجد والحجاز وعُمان واليمن، إذ ربما كان شكيب أول من حدّث إمامها بضرورة الانفتاح وتأسيس المدارس. والقارئ لمحاضرته المعنونة “النهضة العربية” سيجد ما يقرب العد للمؤسسات التربوية المبشّرة ببواكير نهضوية في كل قطر عربي.
وفي مقالاته الكثيرة في غير مجلة وجريدة والتي تعود إلى عشرينات القرن العشرين (الشورى، الفتح، الأهرام، مجلة المجمع العلمي، وسواها) رأى شكيب النهضة العلمية شرطاً لازباً لكل نهوض وتقدم. يقول من على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي:
“لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية إلخ، آخذاً بعضها برقاب بعض.” (مجلد 15، ص 416)
وكان شكيب من الوعي العلمي والتاريخي بحيث نصح العرب والمسلمين أن يأخذوا من علوم الغرب ما وسعهم، وأن لا يخشوا منها شراً يطال هوياتهم وشخصياته. لقد كان دفاعاً مستنيراً عن العلم والتقدم العلمي والتقني وإبعاداً لهما عن أية مضامين أو أبعاد أيديولوجية أو عرقية. يقول:
“أنصح للمغاربة أن يقتبسوا العلوم الأوروبية مع المحافظة على معتقداتهم ومشخصاتهم، وأنا لا اعتقد أن هناك علماً أوروبياً وعلماً شرقياً، فالعلم مشاع بين البشر أجمعين، واليابانيون أخذوا عن الغرب ما نفعهم، وحافظوا على شخصيتهم ودينهم….” ( مجلة الفتح، عدد شهر جمادي الأول، 1349 )
وفي مطلع محاضرته “النهضة العربية في العصر الحاضر” التي ألقاها في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937 – في زيارته القصيرة لسوريا يومذاك بعد توقيع الكتلة الوطنية مع فرنسا سنة 1936 والتي لم تدم طويلاً إذ سرعان ما تنكرت فرنسا لها – يضع شكيب ما يصح أن يكون قانوناً تاريخياً للنهضة، كل نهضة، يقول:
“نحن نتكلم الآن عن نهضة العرب العلمية، التي هي في الواقع أساس النهضة السياسية”، (نفسه، ص 23).
ويعمم الأمير شرط النهضة ذاك أكثر ليتجاوز النهضة السياسية إلى كل نهضة على الإطلاق فيقول:
“لا حاجة بنا إلى القول بأن أجلى مجالي هذه النهضة كان في العلم … وعندي أن لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية…” (نفسه، ص 24)
ويخلص الأمير شكيب من ذلك، ومن سواه، إلى قانون يختصر فيه – وكما كل قانون – أغلب الوقائع إن لم يكن كلها، فيصوغ قانونه الصلب على النحو الذي عرضناه قبل هنيهة:
“كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعةٌ وتضمحل.” (نفسه، ص 24)
تلك هي إشكالية التأخر والتقدّم عندنا كما تصدى لها شكيب في معظم أعماله: كيفية توفير شروط النهضة والتقدم.
لم يتوان شكيب في الحض والدعوة إلى الأخذ بالعلوم الغربية وطرائق البحث المتصلة بها، كما رأينا، ولم ينظر إليها باعتبارها غربية.
أما في مسألة التربية والتعليم فقد كان أكثر حذراً في موضوع الاقتباس عن الغرب.
هو في المبدأ لا يرى أن التعليم الشرقي التقليدي في العالم الإسلامي قاطبة، على ما انتهى إليه في القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر، بات نافعاً في شيء. بل هو مظهر من مظاهر تخلف المسلمين، والشرق عموماً (حتى في الهند كما يقول).
مع ذلك فشكيب لا يأمن التربية الغربية كل الأمان، بخلاف رأيه في العلم الغربي. وقد بيّن في غير مكان أن سبب نهضة أوروبا هو أخذها بأسباب العلم والتعليم والتربية. إلا أن ما يريده الغربي من تربيته ليس هو بالضرورة أو تماماً ما يريد الشرقي. فمنظومة قيمنا، الدينية وغير الدينية، ليست هي نفسها منظومة قيم المجتمعات الغربية كما انتهى بها الأمر في العصر الحديث. وليس من سبب يدعونا للتخلي عن النقاط المضيئة في أخلاقنا وتراثنا وثقافتنا. فقيمنا ليست مسؤولة عن التأخر الذي حدث لمجتمعاتنا. ومن الممكن بالتالي المزاوجة بين التعليم الحديث والاحتفاظ بمنظومة قيمنا وما هو جيّد في تراثنا.
التحليل السريع للمسألة، سيكشف أنها مسألة إشكالية من الدرجة الأولى، بل لعلها الأكثر أهمية وإحراجاً، في الماضي كما في الحاضر، وبسبب ما تنطوي عليه مسألة التأخر والتقدّم من علاقة بالتراث المحلي؟ هل التراث ذاك عامل تأخر معيق للنهضة الحضارية ويجب اجتثاثه ليتحقق التقدّم بالتالي؟ أما أن له اعتبارات أخرى ليست بالضرورة مخالفة للتقدم أو مانعة له؟
نكتفي اختصاراً، وفي هذه العجالة، بنص متميز من شكيب، يظهر فيه عقله الجدلي المركّب، إذ يعلن فيه الانتماء كلياً إلى ثقافة العصر ركناً للتقدم المنشود، ولكن من دون شطط أو مبالغة أو أخذ بالمزاعم الغربية في الموضوع على وجه التحديد. يقول الأمير:
“أظنّ أن ثقافة العرب المستقبلة ستكون ثقافة عصرية، آخذة من التجدد بأوفى نصيب، لكن مع الاحتفاظ بالطابع العربي.” (نفسه، ص 39-40)
هذا هو الميزان الذي يضعه شكيب للتقدم والنهوض بالأمة العربية والأمم الإسلامية. ويضيف شكيب أن هذا الجمع بين المعاصرة والأصالة هو ما صنعه بنجاح العرب في حقب ازدهارهم العلمي والمادي والحضاري، ويضيف:
“هذا أشبه بما سبق للثقافة العربية في زمن بني العبّاس، وفي زمن بني أمية بالأندلس، حينما نقل العرب حكمة اليونان إلى لغتهم، واطلعوا على علوم فارس والهند، فجعلوا من هذه الثقافات الثلاث، ومن الثقافة العربية الأصلية، ثقافة جديدة عالية كانت أرقى ثقافة في القرون الوسطى… وهكذا ستكون ثقافة العرب بعد اليوم، لن تكون جامدة على القديم الذي ثبت للعرب المحدثين وجوب التعديل فيه والإضافة إليه، ولن تكون منسلخة من القديم، جاحدة في التبرؤ منه…”
ويخلص شكيب من ذلك إلى القول تفصيلاً وتحديداً في آن:
“ستكون ثقافة جامعة بين القديم والجديد، مختارة من كل شيء أحسنه، مع بقاء الصيغة العربية التامة غير المفارقة للعرب، وذلك على النحو الذي نحاه اليابانيون الذين اقتبسوا جميع علوم الأوروبيين ولم يغب عنهم منها شيء، ولا فاتهم من صناعات أوروبا دقيق ولا جليل، ولبثوا مع ذلك يابانيين أصلاء في لغتهم، وأدبهم، وطربهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع مناحي حياتهم. وحسب العرب قدوة للاقتداء، ومثالاً للاحتذاء، هذه الأمةُ اليابانية العظيمة التي لا يوجد أشد منها رجوعاً إلى قديم، ولا أخذاً منها بحديث. والآمال معقودة بأنه ستكون في الشرق الأدنى نهضة عربية علمية تضاهي النهضة العلمية التي رأيناها في الشرق الأقصى.” (ص 40)
هذا هو القانون الموضوعي الذي يرسمه شكيب للنهضة العربية المنشودة (كانت ولا تزال). لا يصحّ في شروط النهضة التبسيط، ولا أخذ عامل واحد على وجه الإطلاق شرطاً للنهضة والتقدّم. لقد كان عقل شكيب من العمق والتعقيد والموضوعية بالقدر الذي يؤسس لنهضة تكون جديدة تماماً (قول شكيب)، تأخذ بناصية كل جديد ضروري ونافع، ولكنها تكون أيضاً عربية وشرقية كذلك، لجهة اللغة والأدب ومناحي الحياة الشرقية التي أحصاها شكيب (ولاحظ معي مثلاً أنه لم يجعل من الاحتفاظ بالزي أو الملبس القديم شرطاً، وهو أمر يتقدّم فيه شكيب على الكثير من التقليديين في عصره كما اليوم).

6- الشرط النفسي أو الروحي
هو شرط حيوي آخر لم يملّ شكيب من التنبيه إلى خطورته وأهميته في مشروع النهوض والتقدّم. فالنهضة ليست فقط مجموع شروط تجتمع فتحدث النقلة إلى أمام أو التقدّم الحضاري. بل إرادة التقدّم والنهوض هي التي تجعل المشروع النهضوي ممكناً. فالشعب القانع الخانع الكسول لا يرى من حاجة للتقدّم ولا يمتلك الإرادة ليتقدم، بل الروح الوثّابة الطموحة هي التي تدفع دفعاً إلى البحث عن شروط التقدم، وتوفيرها، وتكون ذلك اللبنة الأولى أو الشرط الأول الذي إن لم يتوفر فلا معنى لتوفر الشروط الأخرى. هذا هو الشرط الأساسي الذي امتلكه العرب والمسلمون في أثناء فترات صعود دولتهم وحضارتهم وتقدمهم في الماضي، وهو أيضاً الشرط الذي فاتهم في أعصر انحطاطهم وتراجعهم في ميزان التقدم الحضاري.
في رسالته لأهل جاوة بإندونيسيا، كما في أعمال أخرى، لا يتردّد شكيب في جعل الانحطاط الذي حل بالروح الإسلامية سبباً في الانحطاط المادي والاقتصادي والسياسي اللاحق. فقد حل القعود عن العمل بديلاً للعمل المضني والشاق الذي كان للعرب والمسلمين في أعصر ازدهار دولهم. والقعود عن الجهاد أيضاً وحيث يجب سمح للفتح الغربي أن يحلّ هيناً في معظم حواضر العالم الإسلامي. فلا نزاع بالتالي في أن من أسباب القوة والمنعة، والنهوض بالدرجة الأولى، أن يتسلح المسلمون من جديد بالروح الوثّابة والإصرار والمثابرة على نيل استقلالهم وتحقيق نهضتهم وتقدمهم، وكذلك بالإيمان الحار ولكن من دون غلو أو تطرف أو مبالغة، فالقاعدة التي أرساها شكيب لا تزال صالحة: أعداء الإسلام اثنان، الجامد والجاحد، الأول الذي لا يرى ضرورة التغيير والتطور والنهوض والتقدّم، والثاني الذي لا يرى في الإسلام أية حسنة ولا له أي فضل. يقول شكيب:
“من أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم بدون النظر في ما هو ضار منه ونافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغيّر شيئاً ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي ظنّاً منهم بأن الاقتداء بالكفّار كفر وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفّار.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 77 )

ونكتفي هنا بنص واحد أخير من أعمال شكيب يختصر موقفه ورأيه في مسألة أهمية الشرط المعنوي والروحي، يقول:
“إن الإسلام لم ينتشر إلا بالقرآن وعمارة الصدور به إلى أن بلغ قراؤه من القوة المعنوية الدرجة القصوى التي مكنتهم من نواحي الأمم… فكل ما يقال من أن سبب الفتوحات الإسلامية هو مراس العرب للقتال أو حب البدو للغزو وغرامهم بالغنائم أو ملل الأمم المجاورة من ملكة حكامها، فهذا تضييع للمعنى الحقيقي وزيغ عن شاكلة الرمية. وإنما أمكنت هذه الفتوحات الخارقة للعادة بكلام منزل هو خارق للعادة، وبقوة معنوية أحدثها في النفوس خارقة للعادة أيضاً. ولقد كان العرب أهل حرب من قديم الزمان، وكان الأعراب مغرمين بالنهب والكسب من أيام الجاهلية، فلماذا لم يفتتحوا البلدان إلا بعد بعثة محمد؟” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 28)

7- التأخر والتقدم موضوعان
لا علاقة لهما بالدين
أما الموضوع الذي توقف عنده شكيب ملياً فهو ما قيل دائماً في وجه الإسلام والمسلمين من أن الدين الإسلامي حجر عثرة في وجه طموحات التقدم لدى الشعوب العربية والإسلامية، وما يقال بالتالي من اشتراط فصل الدين عن الدولة كشرط للتقدم السياسي والحضاري عموما.ً
بيّن شكيب في الموضوع الأول أن الإسلام لم يكن يوماً دين تأخر بل هو “دين راق بذاته”، وقد كان عاملاً مساعداً للتمدن الإسلامي في ذروة تقدم العرب في المشرق، كما في الأندلس، المكان الآخر الذي أضيئت فيه مشاعل التقدم الفكري والمادي العربي والإسلامي.
مع ذلك، وبخلاف ما يشاع عن فكر شكيب بعامة ومن دون تدقيق، فهو لا يقف موقفاً سلبياً حاداً من مسألة فصل الدين عن الدولة في الشؤون المتعلقة بالحياة الإدارية والتنظيمية العامة، يقول بوضوح:
“أما أن تنفصل الأمور الدينية عن الأمور الدنيوية فذلك ضروري لا نزاع فيه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 357)
إلا أن الفصل يجب أن لا يتجاوز ذلك، كأن يحاول انتزاع الإيمان الديني من روح المواطنين، كما حاول أن يفعل مصطفى كمال في تركيا الكمالية، وقد انتهت محاولته إلى ازدياد تعلق الأتراك بالدين الإسلامي. لكن شكيباً كان من الوعي التاريخي العميق بحيث جعل المسائل في مواقعها الصحيحة، فالتأخر لا يكون فقط مادياً، وليس الجهل وحده قاطرة الانحطاط، بل إن فساد الأخلاق، بل “فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص.. وظنّ هؤلاء أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون” (حاضر العالم الإسلامي، ص 268) هو عامل آخر حاسم في جلب اليأس إلى روح الأمة والانحطاط إلى أحوالها المادية وغير المادية.
وفي كل الأحوال، فالتحدي الحقيقي هو كيفية تحقيق النهوض الحضاري والتقدم العلمي والمادي من دون خسارة روحنا الشرقية، العربية والإسلامية. يقول شكيب:
“بقي علينا أن ننظر كيف يكون اتجاه الأمة العربية في المستقبل من جهة الثقافة! أتأخذ بالثقافة الغربية ولوازمها ومتمماتها إلى النهاية، أما تبقى معتصمة بثقافتها الشرقية الأصيلة، لا تبغي بها بدلاً، ولا عنها حولاً؟ أم تأخذ من الثقافتين معاً وتجعل من ذلك ثقافة خاصة لا شرقية ولا غربية؟” (النهضة العربية، ص 39)

نؤكد من جديد، إذاً، ومن خلال فكر الأمير شكيب أرسلان، أن الأخذ بشروط التقدّم والنهضة لا يعني الالتحاق بالغرب؛ لكنه لا يعني في شيء معاداة الدين، كل دين، والإسلام تحديداً رداً على مزاعم بعض المستشرقين والمغرّبين الذين روّجوا، ولا يزالون، أن الإسلام لا يتناسب ومجاري الحضارة الحديثة. لا تناقض بين الأخذ بأركان الإسلام ومستلزماته، والأخذ بأسباب النهضة ومستلزماتها، تلك هي توليفة شكيب أرسلان الحضارية. ويبرز شكيب في معالجته للمسألة جانبين مترابطين، واحد خبيث يروّج له الغرب، وآخر واقعي وعلمي وصحيح وقد مارسته أمم عدة في سياق نهوضها.

8- الاتحاد العربي السياسي والاقتصادي
هو المفتاح الأول لكل تقدم ومنعة
مع أهمية كل عناصر القوة التي ذكرناها، لكن أقواها على الإطلاق هو الاتحاد العربي، بل وحدتهم إذا تمكنوا. ذلك هو مفتاح قوتهم. يقول شكيب:
“وأما أسباب استخفاف الإنجليز بالعرب فيرجع إلى أمور كثيرة يطول شرحها، وإنما نجتزئ منها بذكر ما تراه إنجلترا بين العرب من النزاع الدائم والخصام المستمر، فهي تجد أمة شديدة البأس متوقدة الذكاء، إلا أنها مع كثرة عديدها مفككة الأجزاء مقطعة الأوصال…” (من مقالة له في الشورى المصرية في 20 أغسطس 1925)
ونقتطف من محاضرته عن الوحدة العربية في النادي العربي بدمشق في 20 سبتمبر 1937 قوله:
“لم يعد ممكناً إذاً أن يعيش العرب آمنين في أوطانهم، ما داموا مليوناً في هذا القطر، ومليونين في ذاك القطر، وثلاثة ملايين في ذلك القطر… وكل منهم لا يربطه بالآخر غير النطق بالضاد…لا أمل في ثبات العرب أمام دول كهذه [الدول الأوروبية الاستعمارية] إلا إذا كانوا متحدين جبهة واحدة في وجه الأجنبي الطامح”
ورأى تفصيلاً أنّ وحدة العرب لا تحدث دفعة واحدة، بل تدريجاً؛ وهي لا تتناقض مع الاستقلال الذاتي لكل قطر عربي. بل هو الطريق لمساعدة قويهم ضعيفهم فيستوي العرب اقتصادياً واجتماعياً؛ فما يجعل الشرط الاجتماعي مهماً لنهضة العرب إسوة بالشرط السياسي والاقتصادي، بل فصّل ذلك تفصيلاً في رسالة له إلى أكرم زعيتر. (راجع كتابنا “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي”)
لذلك عبّر شكيب في غير مقالة ومناسبة عن فرحته بنشأة جامعة الدول العربية ورأى إليها باعتبارها خطوة عقلانية نحو الوحدة. ويرى عدد كبير من الباحثين أن شكيباً ربما كان أول من دعا إلى كيان عربي جامع ومحتفظ بالخصوصيات في الآن نفسه، ومنذ سنة 1923، ثم في أزمنة أخرى لاحقة.
هذا هو، باختصار شديد، بعض إسهام الأمير شكيب أرسلان النظري والفكري والعملي في مسائل النهوض والتقدم وشروطهما ومستلزماتهما، إسهام جعل من شكيب مرجعاً تصبّ إسهامات من سبقه عنده، كما تصبّ الروافد في نهر عظيم، يستوعبها كلها ثم يُخرجها جديدة، في حلة قشيبة لها بيان الأدب حيناً وواقعية العلم وقوة المنطق في كل حين.
أما عن دور الأمير شخصياً في إطلاق نوازع النهضة، والدعوة لها، وفي التدليل على محاسنها، وتبيان شروطها، فلا تسلْ؟ وتكفي جملة واحدة استللتها من محاضرته “النهضة العربية” الذي ألقاها في المجمع العلمي بدمشق قبل نحو من ثمانين عاماً كافية لتختصر عظيم إسهام هذا المفكر المجاهد العالم الأديب الارفع المنقطع النظير لتصف بلباقة وموضوعية الجزء الشخصي من إسهام الأمير، يقول:
“… على أن النهضة الشرقية العربية، وإن كان قد ذرّ قرنها منذ قرن وأكثر، فهي لم تسر السير الحثيث إلا في الخمسين سنة الأخيرة التي شهدها كاتب هذه الأحرف بجميع صفحاتها… فلي الحق بأن أدّعي معرفة تاريخ هذه النهضة، وما دخلت فيه من التطورات، على قدر ما يستطيع خادمٌ أمينٌ للعلم زاول عمله في مكافحة الجهل طوال خمسين سنة دون أن يتخلّف يوماً واحداً!” (ص 12)
لله درّك يا شكيب، أميراً للبيان، وأقرأوا معي مفرداته: “خادم أمين للعلم” (وفي كل مفردة من المفردات الثلاث ما فيها من المعنى الدقيق)، ثم “زاول عمله في مكافحة الجهل” (وفي ذلك ما فيه أيضاً)، وذروة البيان والبلاغة والصدق أخيراً قوله: “دون أن يتخلف يوماً واحداً !” وفيه ما يكفي بياناً ولا يحتاج إلى شرح.

خاتمة
لا أجد ما أختم به مقالتي القصيرة هذه، أفضل ما ختمت به كتابي عن شكيب “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي” (طبعة أولى، بيروت، 1983، ثم ثانية، 1989، وثالثة، الدار التقدمية، 2008، ثم رابعة، الجزائر، 2013):
“عاش شكيب نصف عمره منفياً، وعاش عمره كله مجاهداً مناضلاً في سبيل ما اعتقده صحيحاً وحقاً مشروعاً… كان على الدوام صادقاً مخلصاً وأميناً…انجلت في أواخر أيامه كل سحابة، فحطّ رحال مسيرته الطويلة، واستقبل النعمى كما أراد بدار السلام، وفق رثاء شاعر القطرين خليل مطران له، في قصيدة طويلة مطلعها:
العـــالمُ العربـــيُ من أطرافـــــه بادي الوجوم منكس الأعلام
يبكي أميـر بيانــه يبكــي فتــى فتيانِه في الكرّ والإقدام
أشكيبُ حسبَ المجد ما بلغّته شرقاً وغرباً من جليلِ مقام
في كلّ قطر للعروبــة خُلّــدت ذكراكَ بالإكبار والإعظام
كانت حياتك دار حرب جزتَها فاستقبل النُعمى بدار سلامِ !

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاته، رحم الله شكيباً، وطيّب ثراه، وستبقى ذكراه خالدة ما احتاجت أمتنا إلى رجال من وزنه، وإلى إخلاص في مثل إخلاصه، وإلى إسهامات فكرية وعلمية عميقة وغنية من نوع الإسهامات التي ملأ زمانه بها، فجعلته في العالم العربي والإسلامي، وعلى حد تعبير أمير شرق الأردن يومذاك، الأمير عبدالله، في يافا سنة 1947، “فوق كل فوق”!

الأخلاق التوحيدية الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

الأخلاق التوحيدية
الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

في أهمية الأخلاق
لم يخطء أمير الشعراء، أحمد شوقي، حين قال:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الأفراد، كما الجماعات والمجتمعات، إنما تُختصر في أخلاقها. هي أفضلُ الحلي ليتزيّن بها المرء، لا تشترى بمال وإنما بالأعمال الصالحات، وقبل ذلك بالنية الحسنة والقصد الموقوف على عمل الخير. لا يذهب بها فقر أو مرض، ولا يزيدها مال ولا غنى. فالأخلاقُ مع الفقر أو المرض حسنةٌ يُحسبُ لها حساب وأجر، وهي بعض الصبر الذي كان عليه المتقدّمون في الدين والتقوى والنضال الشريف بكل ألوانه. والأخلاق مع المال والغنى مكرمةٌ وخلقٌ وحليةٌ وبخاصة إذا رافقها ما يناسب من التواضع وأدب المعشر وعمل الخير والالتزام بما أمر به الإنسان من معروف وما نُهي عنه من مُنكر.
والحضارات نفسها عبر التاريخ الطويل إنما قويت واشتد عودها وزاد بأسها وعظم قدرها بما توفر لبنيها من أخلاق ولمجتمعاتها من إيمان ولأحكامها من عدالة ولحكّامها من شجاعة وحلم وحكمة، وكلها عناوين أخلاقية. وبالمقابل، فالحضارات التي ذوت واضمحلّت، أو في الطريق لذلك، هي تلك التي ساء حاكمها وفسُد حكمه وفقد رجال حكمه النزاهة والشجاعة والسمعة الحسنة، فتراجع مجتمعها، وتقاعس أفراده، وتنازعوا بدل أن يتراصّوا، فضعفت لذلك شوكتها وباتت ضعيفة أمام كلّ عارض وتحدٍ، وأزفت بالتالي ساعة غروب شمسها.
هوذا ديدنُ حضارات عظمى (وفي مقدّمها الحضارة العربية الإسلامية التي بسطت شمسها وفي فترة قصيرة جداً من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب المعروف يومذاك) فهي إنما قامت وتوحّدت ونهضت وسادت بالتالي بما توفر في روحها وسلوكها من إيمان وشجاعة وإخلاص، ومن تراصّ بين أبنائها وطبقاتها، ومن تفانٍ واقتدار لدى قادتها وحكامها. وغياب أو فقدان الخصال الأخلاقية تلك هو ما يذهب بالحضارة نفسها أو بسواها، حيث لا يكفي مال أو عدد أو مدد وحده، وما من شيء في وسعه أن يعوّض غياب العنصر الأكثر قوة في بناء الحضارات: الأخلاق.
وحتى في الدين نفسه، فالأخلاق شرط الإيمان، بل هي الوجه الخارجي الملموس للإيمان الداخلي، ولا يعتدّ في زعم من يزعم أن لا صلة راسخة ضرورية بين الإيمان والأخلاق. الأخلاق في كلّ الأديان، وبخاصة في الأديان التوحيدية، ثمرة طيبة من ثمار الإيمان، والمؤمن يُعرفُ بأفعاله قبل أقواله، وبتقواه وسلوكه الحسن وسمعته العطرة كما يُعرفُ بما يعرِف، يحفظ ويذاكر. وقد كان الدين الاسلامي الحنيف حاسماً في ربطه الإيمان بالأخلاق، وأولُ ذلك حين خاطب الله رسوله قائلاً: ﴿…وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، أو حين قال الرسول الأكرم في ما يشبه العنوان لبعثته النبوية المشرّفة: “إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق”، أو في قوله في مكان آخر: “أحبّكم إلي أحسَنكم أخلاقاً”. وحتى على مستوى الأخلاق “التطبيقية”، كان القرآن الكريم حاسماً في ربطه النيّات بالأفعال والإيمان بالأعمال، فلم ينِ يردد في عشرات الأمكنة، وعلى نحو لم يسبقه إليه دين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…﴾، أي هو جعل عمل الصالحات في مرتبة الإيمان أو تليها مباشرة. وفي ذلك ما يكفي للدلالة على أولوية الأخلاق، لدى الفرد، كما في التاريخ والحضارات، ومن باب أولى في الدين نفسه، وهو ما رفع الفعل الأخلاقي والأخلاق بعامة إلى مرتبة الصدارة فلم تعد فعل اختيار بل فعل ضرورة واضطرار لا يتقدّم عليها منطقياً إلا الإيمان بالله والرسّل، إذ لا نفع في أخلاق، بل لا تقوم أخلاق، إن لم يكن في إس تكوينها الإيمان بالخالق وبواسع حكمته ورحمته وسداد أحكام رسالاته السماوية، وبخاصة مبدأ الثواب والعقاب والحساب واليوم الآخِر.

في الأخلاق عموماً
نبدأ، كما نفعل غالباً، بالتعريف، تعريف الأخلاق. الأخلاق، كمبحث نظري أو ما نسميه بـ “الأخلاق النظرية”، هي العلم الذي نعيّن به الخير، ونميّزه بالتالي عمّا هو شر. أي هو بمعنى ما علم التمييز بين ما هو خير وما هو شر. أما الأخلاق كمجال عملي، أو ما نسميه بـ “الأخلاق التطبيقية” فهي الحثّ على طلب الخير والعمل به وتجنّب الشر ومهاويه.
لكن الأخلاق، وفي كلّ الأحوال، ليست بالأمر المثالي أو المجرد فقط، بل هي في صلب التكوين الفردي (الضمير والعقل)، والاجتماعي (القوانين والشرائع الوضعية) ومسرح تجلّي الحكمة الإلهية الكونية وعلى أحسن صورة متخيّلة. وعليه، فإذا انتبه المرء من غفلته لدقائق، لا أكثر، فسيكتشف أن الإنسان السويّ وحده قد اختصّه الله بمجال “الأخلاق” وأحكامها. وحده الإنسان، لا الملائكة ولا الحيوان، هو موضوع علم الأخلاق، ومحل أحكامه ونواهيه. الملائكة لا تحتاح علم الأخلاق، لأنها عقول/أرواح خالصة، وخير خالص بالتالي؛ والحيوان خارج حقل أحكام الأخلاق لأنه بدن أو جسد محض محكوم بالغريزة الحيوانية، الآلية، وخالٍ (عموماً) من العقل الذي له وحده أن يميّز بين الخير والشر. وكيما يكون إنسان سويٌ ما خارج الأخلاق يتوجب أن يكون: إما آلة ميكانيكية صمّاء، أو ملاكاً (بدون جسد) أو حيواناً (بدون عقل). لكن الإنسان السوي ليس كذلك على الإطلاق: هو ليس آلة ميكانيكية صمّاء، ليس ملاكاً، ولا حيواناً.
هوذا مبعث الإشكالية الكبرى في علم الأخلاق: لماذا الإنسان وحده موضوع علم الأخلاق؟ ويقود السؤال إلى حقيقة أخرى، وهي احتواء الإنسان (وحده) على جوهرين متصلين مترابطين: المادة (أي الجسد)، من جهة، والعقل/الروح (أي النفس) من جهة مقابلة. ما نعرفه عن كيفيات هذه الصلة أو العلاقة قليل جداً، ولكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن الإنسان واقع تحت ضغط الجوهرين المتقابلين: حاجات الجسد من جهة ونواهي العقل/الروح من جهة مقابلة. كيف يحدث الاتصال بين الجوهرين؟ وأين؟ سؤالان ليس هناك إجماع على الإجابة عليهما، ولا فائدة من الدخول في نزاع حول من له اليد الطولى أو النفوذ الأعظم في الآخر: الجسد أو العقل. ما نعرفه حقيقة هو أن الجسد والعقل/الروح قائمان بحق، وأنهما يتبادلان التأثر والتأثير، وأن شخصية الإنسان ثم سلوكه هما مسرح الصراع (وأحياناً الوفاق) بين حاجات الجسد وأحكام العقل. يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحوّل حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة، فيعود الإنسان القهقرى نحو غريزته وحيوانيته، أو حين تتحوّل حدود العقل/الروح عن فضيلة الاعتدال نحو الغلو والتطرّف.
وعليه، فالتكليف الأخلاقي أعلاه الذي اختص به الإنسان ليس فعل مصادفة، أو بالأمر العارض؛ وإنما لحكمة سامية وكجزء حيوي من النظام الكوني، وليس الاجتماعي فحسب، الذي أراده الله لخلقه. فالمجتمع لا ينتظم، والنظم الكوني لا يستوي، إلا على قاعدة العدل: العدل في التكليف والعدل في الحساب. وفق الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، أو قوله في آية أخرى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الله لا يمكن أن يكون ظالماً – ومن صفاته وأسمائه الرحمة والمغفرة والإحسان. لكن الله أيضاً عادل، والعدل مبدأ وأصل. فكيف تتحقق العدالة – وهي الترجمة العملية لمبدأ العدل – ومن دون أن ننزلق إلى الظل، والله ليس ظالماً ولا يحب الظالمين؟ الجواب هو ببساطة، ولحكمة إلهية ومنطقية فإن مبدأ التكليف الأخلاقي القائم (وكيما يكون عادلاً ولا يعتوره شبهة ظلم) فيجب أن يتوفر له مرتكز أساسي: مرتكز المسؤولية، مسؤولية الفرد الواعي والحرّ عن أفعاله الإرادية:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الوعي والحرية هما شرطا المسؤولية، والمسؤولية شرط التكليف الأخلاقي للفرد.
حين تتوفر المسؤولية الفردية القائمة بدورها على الوعي (لا الغريزة) والحرية (لا القسر) يتحقق شرط العدالة، ويتحقق جوهر التكليف الأخلاقي والغاية منه، ولكن بمضمون أعلى متسام ومختلف. فبتحقق العدالة القائمة على المسؤولية والحرية يتحوّل التكليف الأخلاقي من إلزام خارجي قسري (كما هو الحال في الشرائع الوضعية) إلى خيار داخلي طوعي، يجري التعبير عنه بالعقل أو بالضمير، وكلاهما واحد في المجال الأخلاقي (كما هو الحال بامتياز في العقائد الدينية وفي بعض الفلسفات، لا جميعها). في العقائد الدينية، الالتزام الأخلاقي الفردي الطوعي (أو الضمير في الفرد) هو نتاج الثقة بالحكمة الإلهية والطاعة لنواهيها بالتالي (مبدأ الرضى والتسليم). وهو في الفلسفات العقلانية والمثالية (وكلها بدأت بفيثاغوراس وأفلاطون) نتاج الثقة بالعقل وبمنطقه وأحكامه، حيث الخير (والفضيلة) نتاج المعرفة العقلانية الصحيحة، بينما الشر (والرذيلة) نتاج الجهل أو غياب المعرفة العقلانية الصحيحة ومضاددة العقل. في الفعل الإنساني الأخلاقي الطوعي يلتقي العقل بالضمير، والدين بالفلسفة، وتغدو الأحكام الأخلاقية موضع قبول، بل وإجماع تقريباً، بضمانة الوحي الإلهي والاعتبار العقلاني في آن. ويزول من ثمة التناقض المفتعل بين العقل والدين، كما يظن بعض ضيّقي التفكير، فإذا الحكمة الإلهية الكونية أفق مشرق لامع جاذب أنّى جئته، أكان من جانب الدين أو من جانب العقل. فهما مستويان في رؤية الحقيقة الواحدة نفسها، ولكن من زاويتين مختلفتين، أو من موقعين مختلفين.

يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحول حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة

مبادئ الأخلاق التوحيدية
تُشتقُ مبادئ الأخلاق التوحيدية من الإطار القرآني الواسع والحديث النبوي الشريف، ومن مرتكزات مسلك التوحيد، وأخيراً من أعمال السادة العلماء والمشايخ العارفين ومن السير العطرة للأنبياء والصحابة وكبار المتعبّدين والزهّاد والأتقياء الصالحين؛ وفي مقدّم هؤلاء عند الموحدين الدروز أعمال العالمَين العلَمَين التقيَين الأمير السيّد عبد الله التنوخي والشيخ الفاضل.
ترسي آيات القرآن الكريم، ومعها الحديث النبوي الشريف، المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية بعامة، وللأخلاق التوحيدية على وجه الخصوص، موضوع هذه المقالة. فعلى قاعدة أركان الإسلام الخمسة المعروفة، يحضّ القرآن الكريم المؤمن (بين الأمر الصريح حيناً والحث حيناً آخر) على التمسُّك بالفرائض والعبادات والنواهي التي تضمنها الشرع والتي تبدأ مما هو مبدأي وأساسي ومفصلي ولتنتهي بما يتصل بكيفية سلوك المؤمن المتعبد في حياته الدنيا.
وفي الجانب الثاني (وهو موضوع الأخلاق التطبيقية) حضّ القرآن الكريم والحديث الشريف على: 1) ترك غواية الدنيا وإغراءاتها الملتبسة والزائلة، والتمسك بدلاً من ذلك بموجبات اليقين الذي لا يعتوره شك؛ و 2) ترك ما يزول ويموت ويفنى ويفسد من غايات وأغراض، والتمسك بدلاً من ذلك بما لا يفنى ولا يزول ولا يفسد، أي ترك ما هو شر وفساد أو ما هو أقرب إلى الشر والفساد وطلب ما هو خير خالص أو أقرب إلى الخير، في الأفعال كافة، وفي النيّات مع الأفعال أو ربما قبل ذلك. ومنطق هذه القاعدة بسيط ومتين: الدنيا “دار فناء”، فيما المبادئ والقِيم ومن ثمة الآخرة “دار بقاء”، وعليه فالعاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، لهذا السبب أو ذاك، بل وزائلة في النهاية، غداً أو بعد غد، أي في يوم ما. وبالمنطق نفسه، وفي باب الأخلاق التطبيقية، فما نفعله في هذه الدنيا يزول مع هذه الدنيا، إلا الرصيد الإيماني والأخلاقي الذي وفّرناه للحساب الأخير على أبواب دار البقاء. في الحياة الدنيا نحن مجرد آلة نحمل فيها ما هبّ ودبّ، ومعظمه ما لا حاجة لنا إليه، أما القليل الذي نفعله لدار البقاء فكله لنا، بل وأجره ليتضاعف ويزيد لأن الله جلّ جلاله مُحب ورحيم وغفور فيلاقي عبده المتجه إليه في منتصف الطريق، يمدّ له يد العون والرحمة، فيمنحه دفء الإيمان ورضى الواصلين، ما يملأ عقله باليقين التام وقلبه بالفرح الغامر. ولذلك فأنت لترى العارفين الأتقياء الواصلين، أو من اقتربوا من الوصول، أشدّ الناس سعادة وفرحاً وحبّاً، يغمرهم نور في وسع من امتلك بعضه أن يراه بوضوح فتكون له إشارات مشجعة ومطمئنة ودافعة له في طريق التقوى والخلاص.

مرتكزات الأخلاق التوحيدية يمكن تلخيصها بثلاثة:
1- التوحيد التام لله تعالى وترك سائر ما عداه، أي اليقين الثابت
لا يخالطه أو يعتوره شك،
2- الصدق،
3- الرضا والتسليم بما قدّره أو يقدّره الله تعالى.
على هذه المرتكزات تقوم محاور الأخلاق التوحيدية ومطالبها، في أوامرها كما في نواهيها.
مبدأ الأخلاق التوحيدية ومصدرها الأساس التوحيد لله تعالى لا يخالطه شك أو التباس أو شبهة، وتنزيهه عمّا عداه من صفات ولواحق وأسماء وتشبيه. حين يملأ التوحيد عقل المؤمن وقلبه، يتشكّل هذا المؤمن من جديد، ويتشكّل عالمه الخارجي، كما نواياه ومقاصده، من جديد أيضاً. حين نقرع الباب ويملكنا الخالق لا شيء أدنى منه يبقى معه أو يليق أن يسكن معه. حين تقيم مع الله، ويقيم الله معك، حين تملك الحق أو يملكك الحق، فلا مكان بعد ذلك لدنيا زائلة خادعة غير حقيقية. لا مكان ساعتذاك، لا في النوايا ولا في الأعمال، لشيء، لا للمادة وفسادها وطغيانها، ولا للنفس ونوازعها. لا مكان للدنيا الفانية وغرائزها – عدا ما هو ضروري وكاف للعيش واستمرار الحياة. ولا مكان، قبل ذلك كله، لـ “الأنا” وشيطنتها و”أبلستها” في تعبير المرحوم الدكتور سامي مكارم. فالمسافة دون الآخر، ودون الله، إنما تصطنعها “الأنا”. أما حين نتحرّر من الأنا، فالآخر هو أنا، الوجه الخارجي مني، تماماً كما “أنا” هي الوجه الخارجي منه. حين نتحرّر من “الأنا” نتحرر ربما من ثلاثة أرباع مفاسد الدنيا وسقطاتها، إن لم يكن كلها. فالشرور وفي طليعتها الجشع والطمع والغرور والكبر وغيرها كلّها من نتاج “الأنا” الفردية البشعة. وحين نتحرّر من “الأنا” الفردية تسقط الحُجُب التي حجبت الحقيقة عنا، وتنفتح فرصة السفر في الاتجاه الصحيح صوب الحقيقة والحق، الله تعالى. نقول فرصة، إذا لا تسقط الحجب تلقائيا بل يحتاج الوجه السالب الأولي ذاك إلى وجه موجب يستكمله وذلك بالعلم والسعي والبذل والمجاهدة وغيره مما يحتاجه المريد في طريق الخلاص.
والصدق ثاني مرتكزات الأخلاق التوحيدية. الصدق، كما قال العارفون، هو كمال التوحيد. وننقل عن الدكتور سامي مكارم قوله: “من هنا قول مسلك التوحيد: إن مثل الصدق من الدين كمثل الرأس من بقية الجسد، وأن الصدق هو كمال التوحيد، فالمقامات التوحيدية كلها تكون باطلة من دون صدق في السريرة واللسان، وتصديق بالجنان” (العرفان في مسلك التوحيد، 126). بالصدق نفتتح صفحة المعرفة الصحيحة والخير والأعمال الصالحات وكل ما يشتق منها أو يعود إليها. تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة نقيضة تماماً، صفحة الشر والوهم والفساد والجهل. بالصدق نفتتح صفحة الحق، تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة العدم. وشتّان ما بين الحق والباطل، الخير والشر، الحقيقة والعدم.
والرضى والتسليم ثالث مرتكزات أخلاق التوحيد. إذا كان التوحيد هو بلوغ الحقيقة، والصدق هو كمال العمل بموجبها، فالرضى والتسليم هما كمال ديمومتها، ديمومة التوحيد، أو الحقيقة، التماهي فيهما، وعيشهما في كلّ لحظة من لحظات حياتنا ومندرجاتها؛ في نهارها وليلها، حلوها ومرّها، يسرها وعسرها، بأسها وبؤسها، قوتها وضعفها، غناها وفقرها، إلى سائر ما يعرض لنا أو يصيبنا في حياتنا الدنيا. ومن بلغ التوحيد والحقيقة فماذا ينقصه؟ وإلامَ يحتاج بعد ذلك؟ هذا هو مبدأ الرضى والتسليم. حين نبلغ الحق، ويمتلكنا الحق، وحيث لا شيء فوق الحق، أو قبله، حق للنفس أن ترضى أي أن تطمئن. وهو ما يجعل المؤمن يشعر بطمأنينة عجيبة، راسخ التوحيد رسوخ الجبال، وثابت الجنان ثبات الجلمود، (تنأى الحوادثُ عنه وهو ملمومُ). والمؤمن في ذلك كله عارف ما يفعل، مدركُ مآل رضاه وتسليمه، وهو الرضوان التام الذي ينتظره وفق الآية الكريمة: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ (التوبة 21). أما التسليم فخطوة مكملة على طريق الحقيقة. فإذا كان الرضى هو القبول فالتسليم هو الفعل: لقد أسلمت نفسي وما لي وما أملك للحق والحقيقة، بعدما ارتضيت التوحيد مذهباً، والصدق مسلكاً. التسليم هو الغاية القصوى للمؤمن. بالتسليم يكتمل التوحيد. فنُسلٍم الدنيا إلى مالكها، والأنا إلى باريها، والدار إلى صاحبها، فلا يبقى إلا الحق والحقيقة، أو وفق ما قال كمال جنبلاط في واحدة من قصائده العرفانية “ليس في الدار إلاّ صاحبها”.
يمكن على قاعدة الأسس الأولى أعلاه التقدّم أخيراً لتعيين آداب السلوك والقواعد العملية التفصيلية، أو الأكثر وضوحاً بينها، والتي يحتاج المؤمن معرفتها أولاً والعمل بها ثانياً في مسلكه اليومي.
وفق العالم الجليل الشيخ الفاضل(ر)، فإنّ أهم الآداب والقواعد هي التالية (كما نقلها الصديق الدكتور أسعد البتديني في أطروحته للدكتوراه “فلسفة الأخلاق عند الموحدين الدروز، الشيخ الفاضل نموذجاً”، 2007):

العاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، بل وزائلة في النهاية

أولاً: تقوى الله سرّاً وعلانية. أي معرفة الله، والثقة به، والإخلاص له، في السر والعلانية. وهذه مقدمة أولى ضرورية، إذ لا تقوم أخلاق، من دون تقوى الله، أو خارج الله.

ثانياَ: الاجتهاد في العلم والعمل. المعرفة هي الخير، والمعرفة الصحيحة هي الخير كله. ولكن العلم من دون عمل يبقى ناقصاً، فالعمل الصالح هو كمال العلم الصحيح الخيّر الذي ينتفع به.

ثالثاً: القيام بالفرائض الإلهية والواجبات الدينية. فمن لا يقوم بالأصول، حسب الشيخ الفاضل، لا يعرف الفروع. والفرائض الإلهية هي أصل الدين. والموحّد هو من قام بالواجبات الدينية المعروفة وعلى قاعدة الفرائض الإلهية أعلاه.

رابعاً: حُسنُ المعاملة. حسن المعاملة في كل شيء (في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في القرض والوفاء، وسواها) هي أيضاً تطبيق مباشر لأصل الدين وفروعه، وقد قال رسول الله: “الدين معاملة، وأحاديث أخرى كثيرة تدعو إلى الحديث اللطيف، والدعوة اللطيفة، وأخذ الناس باللين”.

خامساً: حُسن الأخلاق، وطيبُ الصحبة والمعشر، ونفي الطيش والغلاظة. كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آل عمران 159). وإذا كان اللين مطلوباً في الدين نفسه، فكيف في الأسرة، والحياة الاجتماعية؟

سادساَ: ترك الدعاء بالسوء بالكلية، سواء على إنسان أو حيوان. فالدعاء بالسوء إشارة إلى خبث النوايا وسوء المقاصد، وهو ما لا يتوافق وسريرة المؤمن الموحّد الموقوفة للخير الخالص ولرب العالمين.

سابعاً: ترك المباهاة والزهو والخيلاء والريا والزينة لأنها كلها وسائل لطلب الجاه في هذه الدنيا، وكلها بقايا من “أنا” واهمة يجب أن لا يبالغ المؤمن في امتلاكها، أو إظهارها، لأنها منازعة لله تعالى في ملكه، ولله الأرض والسماء والكون وما فيه، فضلاً عن كونها حجاباً يحول بين المرء وبلوغ الحقيقة والخلاص.

ثامناً: ترك الكبر والعجَب. فالكبر وفق الشيخ الفاضل(ر) هو استعظام النفس برؤية قدرها فوق قدر الآخرين. أما العجب فهو أن يعجب المرء بنفسه وعلمه وعمله ورأيه، فلا يرى علم غيره وعمله ورأيه. أي أن يرى نفسه أفضل من غيره، وهو مرة أخرى من فعل “الأنا” النافية للآخر، والمنافية لجوهر التوحيد.

تاسعاً: ترك الحسد. فالحسد جحد للحق، وتعريض بالمحسود، وبعث للضغينة والكراهية، وإشارة إلى الجشع والطمع والعداوة، وقبل كل ذلك تعظيم ما في الدنيا الفانية؛ أو هو في كلمات الشيخ الفاضل(ر)، ظالم في صورة مظلوم.

عاشراً: صون النفس عن حب المجد والجاه وطلب الرئاسة. وحب المجد والجاه مذموم، بحسب الشيخ الفاضل، لأن المرء إذا شُغل بذلك فسيجانب الصدق لصالح الكذب والتودّد والرياء، وهو باب للنفاق والفساد. ومن جديد فذاك مرض من أمراض الأنا المتكبرة التي تنافق في الظاهر بغية تحقيق المآرب. وهو في كل الأحوال هوى في النفس يخرجها عن جادة الإيمان والإخلاص لله تعالى والاستغراق في عبادته.

حادي عشر: ترك الغِيبة، لأنّ الغِيبة كما يقول الشيخ الفاضل من علامات عدم الأمانة، وعدم الأمانة كذب وبهتان. وفي الغيبة، إلى ذلك، ظلم للغائب، والله لا يحب الظالمين.

ثاني عشر: ترك النميمة. في النميمة شيء من الغيبة؛ ولكن فيها إلى ذلك إيغار للصدور، وهي باب للعداوة والبغضاء. والنميمة تذهب بالود بين الناس، وتفرّق بينهم، فيما الآية الكريمة تحث على الوحدة والتعاون على البر والتقوى.
ثالث عشر: مداومة الصلاة. الصلاة فرض عين، لأنها الصلة بين القلوب، وبين المتعبّد والخالق. وهي فرصة لاستذكار الحقيقة، ودوام ذكر الله، والوعد بطاعته، والعمل بموجبات الطاعة تلك.

رابع عشر: الاحتشام في الملبس والمظهر. والاحتشام بحسب الشيخ الفاضل سترة عظيمة ودرع مانع وحصن حصين ووقاية للجسد وجمال ظاهر وكمال في المروءة وشدة في الحياء. والاحتشام باب آخر من أبواب الفضيلة. وهو استشعار وحياء أمام الخالق قبل المخلوق، واحترام أولاً وأخيراً لقدسية الإنسان وتعبير عن الورع والتسامي عن البدن ومتعلقاته. هو تعليق لحضور الجسد كيما تتمكن الروح/العقل من أن تتفرغ لصورها ومُثُلها الكلية والثابتة.

خامس عشر: الحرص على الطهارة. والطهارة نوعان، طهارة الظاهر وطهارة الباطن. والجانبان متلازمان، فبمقدار ما تحمي طهارة الظاهر صحة الجسد وكرامته وجماله، تحمي طهارة الباطن صحة النفس وكرامتها من طغيان “الأنا”. بالطهارة تتحقق الفضيلة، وتكتمل حلقات التوحيد في ترك ما يجب تركه كي تتفرغ النفس للعلم والمعرفة والصلاة والمجاهدة وما تقتضيه رحلة طلب الحقيقة والاستغراق فيها.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

خلاصة:
يتضح من القواعد والشروط الخمس عشرة التي فصّلها الشيخ الفاضل (وفق الدكتور أسعد البتديني) أنها بدأت بما بالأصول وانتهت في الفروع، وبدأت بالنظر الذي لا بد منه وانتهت بالعمل التطبيقي في أدق تفاصيل السلوك الذي لا بد للمؤمن والمؤمنة من أن يأخذا به في تجنُّب الدنيا الفانية وإغراءاتها وأفخاخها، (وهو جانب السلب أو النفي)، ليتمكنا بعد ذلك من بناء أخلاق الموحّد العارف المتجّه بكليته ناحية الحقيقة والحق والسعي للتوحد بهما والتخلّق بما يتناسب والمقام ذاك.
أما إذا حللنا القواعد والوصايا أعلاه فسنجد أنها تبدأ بما تتطلّبه الحياة الاجتماعية السوية (ترك النميمة والحسد والغيبة وحُسن المعاملة والاحتشام وسواها)، إلى ما نص عليه الشرع (من مداومة الصلاة وترك المباهاة والجاه) وأخيراً إلى ما ألزم به أهل الزهد والعرفان أنفسهم من موجبات التوحيد الخالص والعبادة التامة وعدم إشراك ما عدا الله في عبادة الله ويتضح ذلك في التقوى والعلم والعمل بوجب الفرائض الإلهية.
وفي الحقيقة، فالقواعد والوصايا تلك هي في صلب الأخلاق الإسلامية كما بلغتنا من سيرة صحابة الرسول عليه السلام، و”أهل الصفاء” إلى جانبه، مروراً بأهل المعرفة والبرهان من حكماء وفلاسفة، (راجع مثلاً المدينة الفاضلة للفارابي)، وصولاً إلى أهل الحقيقة والعرفان، وجميعهم يعودون إلى منظومة القِيم والأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم، وإلى سيرة الرسول (الفقير الأمين الزاهد) والأحاديث النبوية الشريفة. بل في وسعي القول بثقة أن وحدة تفكير المسلمين والفرق الإسلامية (على اختلاف اجتهاداتهم) لتتضح، في الغالب، أكثر ما تتضح في باب الأصول والفروع والقِيم والقواعد الأخلاقية والمسلكية التي يتوجب على المسلم المؤمن الأخذ بها، كما تلك التي يتوجب عليه تركها واجتنابها.
ونعود في الخاتمة فنكرّر أنّ الأخلاق ليست فرعاً، بل هي من الأصول، في الدين كما في الدنيا، وأنّ كلّ جسر موّدة نمدّه بالخير بيننا وبين الآخر، إنما هو أيضاً جسرٌ بيننا وبين الله الذي لا يريد بنا إلا يسراً، في داخل ذواتنا، في أسرتنا، مع جيراننا، كما مع الآخر، كلّ آخر، كلّ إنسان: وكل الناس إنسان واحد، فإن أسأت إلى إنسان أسأت إلى كلّ الناس. قال الله في كتابه العزيز:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ… فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة، 32).

قصّة نجاح من السويداء مستثمرون وطنيّون أوفياء

البساط الأخضر
مصنع رائد وناجح في مجال الاستثمار الزراعي في محافظة السويداء

في معمعان الأزمة التي تواجهها سورية وفي سنوات الدماء والخراب اللَّذين يعمّان الوطن هناك مستثمرون أوفياء لمجتمعهم أقدموا على وضع أموالهم قيد الاستثمار في سورية، وفي السويداء، ومن هؤلاء الأوفياء الأستاذ منصور حسن الصّفَدي وشريكه الأستاذ غسّان نسيب البريحي يقول الاستاذ الصفدي: “السيد غسان البريحي شريك لي، ومدير عام في مصنع البساط الأخضر وفي مزرعة عرى، وهو رجل جاد وصاحب خبرة لا يجاريه أحد في مجال عمله ويتمتع بخلق وأمانة لا تتوفر إلا في أفاضل الناس”، وانطلاقًا من اهتمامات الضّحى بهؤلاء النّخبة من رجالات بني معروف الذين اختاروا العمل في ميدان النّشاط الإنتاجي كان اللّقاء التالي مع الأستاذ منصور الصّفَدي:
من منصور الصّفدي في عين نفسه؟
أنا هو، منصور الصّفدي، من مواليد بلدة الغارية عام 1956، تخرّجت من الثانوية الفنّية الزراعية في السويداء عام 1975. منذ ذلك العام عرفت الاغتراب مُكْرَهًا خارج الوطن، عملت في ليبيا مدة ثلاثة عشر شهرًا في قطاع البناء. هناك تعلّمت تركيب السيراميك والرخام والصحيّة ونجارة الباطون، انتقلت بعدها إلى الأردنّ، وعملت في مدينة الزرقاء في المجال نفسه مدّة سبعة أشهر، وفي 3/8/ 1977 توجهت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. هناك واجهت صعوبة في التكيّف مع عوامل المناخ كارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، وانخفاض مستوى الدخل بشكل لا يكاد يفي بمتطلبات العيش، ولم يكن أمامي بدائل، عملت على تلك الحال أحد عشر عامًا دون الخروج من دولة الإمارات أو العودة إلى سورية ولو يومًا واحدًا، في تلك الظروف عملت على مضض، وشاءت الأقدار أن تؤول إليّ ملكيّة الشركة التي كنت مديرها بسبب سفر مالكها الذي تركها في وضع ماليّ سيّئ … كانت مغامرة فيها مجازفة، وكان يحفزني على الاستمرار فيها قول الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود:
فإمّا حياة تسرُّ الصّديق وإمّا ممات يغيض العدى


عملت بمثابرة، ووصلت ليلي بنهاري، فتمكّنت من إنقاذ الشركة والانطلاق بها لتوسيع الأعمال وتأسيس نشاطات جديدة أثمرت نجاحًا يتلوه نجاح، فلديّ حاليًّا شركة لتجارة مواد البناء لها ستّة فروع في دولة الإمارات، منها شركة لأعمال الأصباغ وشركة لكافة أنواع العزل ولي مشاركة في مصنع للبوليسترين (الفلّين الأبيض)، ومشاركة في شركة ديكور وفي شركة صيانة عامّة وفي شركة مقاولات عامة وفي شركة مبان عقاريّة أخرى، ومشاركة في اثنين من المتاجر. ولديّ طموح لتوسعة نشاطنا في إمارات أخرى لم ندخلها بعد.

وعلى الرغم من الظروف الداخلية والخارجية التي تواجه سورية فقد تمكنّا من إنجاز هذا المشروع خلال فترة لا تتجاوز الستّة أشهر

متى توجهتم بنشاطكم للاستثمار في سورية؟
منذ العام 1988 أخذ وضعنا المادي في الإمارات بالتحسّن ومنذئذ بدأنا بالاستثمار في سورية إذ تشكّل لديّ فائض من الدخل فتوجّهت لفتح مصالح في سورية في مجالات زراعية وتجارية وصناعية وعقارية تحت اسم “مجموعة منصور الصّفدي”. كانت رحلة كفاح توَّجَها الجهد والمثابرة للوصول إلى النجاح، فربّ ضارّة نافعة. بدأت بالاستثمار في قطاع النقل على خط دمشق السويداء، اشتريت حافلة ركاب كبيرة (سكانيا) وشاحنة مرسيدس قلّاب لنقل مواد البناء ومعدات أُخرى لم تزل قيد العمل بحمد الله، كما اشتريت:
1- 1500 دونم من الأراضي الزراعية موزّعة بين بساتين ومزارع
ومحاصيل حقلية لزراعة الحبوب.
2- صيدلية زراعية لدعم نشاطنا الزّراعي.
3- أنشأت معمل البساط الأخضر للكونسروة (موضوع بحثنا).
4- محل لبيع حديد التصنيع بالجملة.
5- محل لتسويق إطارات هانكوك (دواليب) للسيارات في المنطقة
الجنوبية من سورية.
6- معمل بيتون لتصنيع أحجار البناء.
7- منشر (معمل) لقص الحجر البازلتي وتسويقه في المنطقة
الصناعية غرب السويداء على طريق بلدة الثعلة.
8- ورشة تصليح غواصات الأبار الجوفية.
9- محل بيع قطع غيار وسيور (قشط) مراوح ومحركات ومكيفات
السيارات أو طرمبة المياه لتبريد المحركات..
10- مشاريع عقارية…
11- محل مخرطة معادن.

المبنى الرئيسي للمعملالمبنى الرئيسي للمعمل

 

فاكيوم إعداد مربى البندورة

فاكيوم إعداد مربى البندورة

وهكذا تناول نشاطنا عدّة مجالات تجارية وصناعية وعقارية، ومازلت أمارس نشاطاتي تلك بنجاح، يساعدني على ذلك نجاحي في مناخ الاستثمار العصري الذي تتمتع به دولة الإمارات حيث يتوفر جوّ الطموح لتحقيق الأفضل في كافة المجالات وهو قرار اتّخذته القيادات المعنيّة في الإمارات وقد التزم به قطاع الأعمال في كافة مجالات العمل. حقًّا إنَّ النجاح عدوى إيجابية.
ما النشاط الاستثماري الذي تقومون به في لبنان؟
في عام 2014 اتّخذتُ قرارا بالاستثمار في لبنان للربط بين أعمالي في الإمارات وأعمالي الكثيرة في سورية في مجال النشاط العقاري. شاركت في الشوف مع رجل أعمال لبنانيّ هو رائد زهير غنّام، بنشاط تجاري يتعلّق بالبناء (عمارة من 9 شقق) والاتجار في مواد بناء وخردوات وكهربائيات وأعمال مقاولات ومعرض لتجارة الحجر، مصادره من الداخل اللبناني ومن سورية ومصر… والعمل الذي نمارسه يبشّر بمستقبل جيد إن شاء الله، وما زالت قصة النّجاح مستمرة يرافقها إصراري على تخرّج كافة أبنائي الثّمانية (ثلاثة أبناء وخمس بنات) بشهادات جامعية، فقد تخرّج منهم أربعة، والأربعة الباقون مازالوا يواصلون الدّراسة دون المرحلة الجامعية. لديّ قاعدة في الحياة تقضي بأنّه على كل شاب وفتاة أن يحصل على شهادة جامعية على أقل تقدير… والحياة لا تعتمد على توفّر المادّة فقط، ولكن مع توفّر العلم والأخلاق فإنّ المادّة تصبح تحصيل حاصل…
ما المبدأ الذي تعملون عليه في نشاطكم الاقتصادي؟
إنني أعتبر أنّ الصدق في عملي هو الأساس الذي أرْتَكزُ عليه في مجال التعامل مع الآخرين، وأُشبّه النشاط الإنتاجي كَكَوْمة من القمح في بيدر؛ بحيث لا يمكنك زيادة ارتفاع كومة القمح دون أن تزيد من اتّساعها في القاعدة، ولئن أصبت خيرا فإنّك لا تستطيع زيادته دون أن تجعله يعمّ على من حولك، والأقربون أولى بالمعروف.

ما الدافع الذي حفزكم للعمل في مجال التّصنيع الزّراعي؟
إنّ مسألة الاستثمار في الزّراعة حاجة ضروريّة في مجتمعنا، إذ يمكننا عبرها تشغيل أعداد من الأيدي العاملة التي لا تحتاج إلى تدريب عالٍ، ثم إنّ المواد الأوّلية؛ من تربة مناسبة وماء وشمس؛ كل ذلك متوفر بحمد الله.

متى أسّستم شركتكم؛ مصنع البساط الأخضر؟
كان ذلك بتاريخ 16/ 12/ 2012 وعلى الرغم من فترة تصاعد المحنة السورية، فقد انطلقنا في عملنا الإنتاجي بشركة تضم الشّريكين؛ أنا، منصور حسن الصفدي، وصديقي غسان نسيب البريحي، وقد تم تأسيس الشّركة بناء على قرار رسمي رقم (312 /م. س)، بسجلّ تجاري رقم 1986، وسجل صناعي رقم 2.
وقد أسّسنا هذه الشركة لتواكب المتطلّبات الاقتصادية انطلاقًا من إيماننا المطلق باستثمار الموارد الطبيعية والبشرية المتاحة لتوظيفها في الوطن ومن أجل خدمة المواطن. وتبلغ مساحة العقار المشاد عليه المعمل 7000م2، أمّا مساحة البناء فتبلغ 3000م. وعلى الرغم من كل الظروف الداخلية والخارجية التي تواجه سورية فقد تمكنّا من إنجاز هذا المشروع بدءًا من رحلة التأسيس والبناء، وحتى مرحلة الإنتاج الفعلي والعمل الإنتاجي خلال فترة زمنية قياسية لا تتجاوز الستّة أشهر.

كيف تحصلون على الخضار والفواكه التي تصنّعونها؟
تمتلك شركتنا بستانًا مساحته 25000م2 من الأرض الزّراعية الخصبة قرب المعمل تروى من بئر جوفي بعمق 260م، بالإضافة إلى مزرعة قريبة من المعمل غرب بلدة (عرى)مساحتها 500 دونم تروى بالتنقيط بواسطة 3 آبار ارتوازية على عمق 500 م. فيها 30000 شجرة درّاق طلياني، ونكتارين ومشمش وخوخ (نوع جوهرة)، ورمّان فرنسي… ويعمل في المزرعة مئة عامل من محافظتيّ الحسكة ودير الزّور يقيمون مع أسرهم في المزرعة، كما نربّي في المزرعة أغنامًا وماعز وطيورًا متنوّعة من دجاج بأنواعه محلّي وفرعوني وبَراهمي وطواويس وإوز وبط وكروان وراماج والعاشق والمعشوق والفرّي والراماج وطيور الجن وحجل وحمام.

ما حجم الرأسمال الذي بدأتم العمل به ؟
بدأت الشركة برأسمال قدره 50 مليون ليرة سورية، أي ما كان يساوي نحو مليون ومئة ألف دولار حينذاك.

ما المجالات التي عمدتم إلى الاستثمار فيها؟
– كان ولم يزل هدفنا الاستثمار في مجال الخيرات الزراعية إذ قام عملنا على إنتاج وتعليب معجون الطّماطم (البندورة) وكافة أنواع الكونسروة من خضار وفواكه، وتعليب الطَّحينة والحلاوة الطّحينية.
ــ تبلغ الطاقة الإنتاجية السنوية لمعجون البندورة 1000طن
ــ كونسروة الخضار (حمّص، فول، بازيلّا) 300 طن
ــ كونسروة الفواكه 300طن
ــ الحلاوة الطحينية 125 طن
ــ الطحينة 50 طن

في المختبر
في المختبر
في المستودع
في المستودع

ما عدد العاملين في شركتكم؟ وهل حققتم الهدف الإنتاجي الذي خططتم له؟
ــ عدد العمال لدينا: 32 عاملًا، يعملون على ثلاث وارديات، الإداريون والمهندسون والفنيون عددهم 15، وفي فترة الذروة من موسم الإنتاج يصل عدد العاملين لدينا إلى 70 عاملًا.
وقد حققت شركتنا الطاقة الإنتاجية المخطّط لها خلال الموسم الثاني من انطلاقتها، ويتم تسويق إنتاجنا سنويَّا، ونعزو هذا لجودته من حيث كونه يتمّ حسب المواصفات السورية الصحّية والمعترف بها دوليًّا ممّا يتسبب بجديّة الطلب عليه.
كما قامت شركتنا بفتح أسواق لها في أكثر من دولة مجاورة، العراق ولبنان والأردن، وقبرص وحدها تستورد (56 طنًّا من المعلّبات)، هذا بالإضافة إلى جميع المحافظات السورية بمنتجات منافسة من حيث الجودة والمواصفات ومن حيث السعر أيضًا ، وهذا يتم في ظروف متقطعة تتأثر بالوضع الأمني للطرقات بسبب الأحداث المأساوية التي تعيشها البلد..
ولم نتوقّف عند هذه الحدود بل هناك العديد من التّصورات والخطط الاستراتيجية المستقبلية فيما يصبّ في مصلحة الشركة والعاملين فيها، ومصلحة الوطن على حد سواء ومن أمثلة ذلك:
1- السعي إلى تحسين خطوط الإنتاج بخطوط إنتاج عالمية
ذات كفاءة عالية تساهم في العملية الإنتاجية من حيث التسريع والاستثمار في الوقت المتاح، وتقليص الوقت الضائع والهدر غير الطبيعي، وتحسين المنتج بمواصفاته الفنية والشكلية.
2- فتح أسواق جديدة ونشر المنتج فيها وفي جميع أرجاء العالم،
وفرض الحالة التنافسية مع المنتجات العالمية المماثلة من حيث:
أ- الوصول إلى أعلى درجات الجودة (أيزو)، والحصول على
الامتيازات والتقديرات العالية.
ب- فتح منافذ تسويق إلكتروني وتحقيق متطلّبات الزبائن.
ج- ابتكار منتجات جديدة ترضي أذواق كافة المستهلكين.
د- إحداث طرق صناعية غير مسبوقة في المنتجات التقليديَّة.

اللجنة الاجتماعية تقيم حفل عشائها الخيري السنوي

اللجنة الاجتماعية
تقيم حفل عشائها الخيري السنوي

أقامت اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، حفل عشائها الخيري السنوي في فندق فينيسيا بيروت، بحضور ممثل رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب هاني قبيسي، ممثل رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، وزير التربية مروان حمادة، الأستاذ تيمور جنبلاط وعقيلته ديانا، ممثل سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، رئيس لجنة الاغتراب في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين، وزير الشؤون الاجتماعية بيار أبو عاصي، وزير الدولة لشؤون حقوق الإنسان أيمن شقير، ممثل الوزير طلال إرسلان أكرم مشرفية، النائبان، أنطوان سعد، وفؤاد السعد، وممثل للنائب نعمة طعمة، وعدد من النواب السابقين، ورئيس مؤسسة العرفان التوحيدية الشيخ علي زين الدين، وحشد من الفعاليات والمدراء العامين والهيئات النقابية والروحية.

بعد تقديم من الأستاذ ياسر غازي، تحدّثت رئيسة اللجنة الاجتماعية المحامية غادة جنبلاط، فقالت: “عام بعد عام يتجدد اللقاء، ويعود ‘الأمل’ مُترافقاً مع دعواتٍ بأن يُطيلَ الإقامةَ عندنا. لكنّ مجتمعا يزخر بمثل قاماتكم لا بدّ من أن يركُن إلى حاضره ولا يخشى مستقبله”، وتابعت: “ليس من السهل أن يحيا المرء في مثل هذه الظروف، في هذا الوقت بالذات. جراحنا، فاضت عن العام المنصرم، ورقعة التحديات اتسعت. يومياً نُحاط بأخبار الجريمة. يومياً نصاب بمدخولنا الشهري، ونبقى يومياً على أهبة الخسارة، كأننا أحياء بالصدفة، قادمون من حروب متواصلة، ماضون إلى حروب متوقعة. أزماتنا هنا تتعمق. واقعنا الاقتصادي متعثر، الإداري شاغر ومنهك بالفساد، المالي نازف بالمديونية. البطالة مستفحلة والعدالة الاجتماعية شبه مفقودة”.

وقالت جنبلاط: “معَ عدمِ كفاية الدور الرعائي للدولة، شعارنا المُوجّه في اللجنة الاجتماعية: شمعة نضيئها خير من لعنة الظلام، وهدفنا الأسمى احتضان الإنسان اللبناني عبر تأمين مقومات صموده. وكما ظهر في الوثائقي القصير على الشاشة قبل قليل، حاولنا عبر برامجنا الصحية، التربوية، الاجتماعية والتوعوية بلسمة الجراح، والتشبّث بالصمود. وقد بلغ مجموع المساعدات التي قدّمت في البرامج الثلاثة منذ العام 2013 حتى 2016 نحو 10,333 (عشرة آلاف وثلاثماية وثلاثة وثلاثين) مساعدة”.

ثم كلمة سماحة شيخ العقل، ألقاها رئيس لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين، قال: “اسمحوا لي بدايةً أن أنقلَ إليكم تحيات سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن، وقد شرّفني بتمثيله في هذا اللقاء الاجتماعي الخيري الذي يضمَّ وجوهاً كريمة من المجتمع اللبناني الواحد المتنوّع، وعلى الأخص أخوانَنا الموحدين الدروز الذين يقعُ عليهِم جزءٌ كبيرٌ من مسؤولية النهوض بمؤسسات الطائفة ورعاية المحتاجينَ من أبنائها. إنَّ عمل اللجنة الاجتماعية صاحبةِ الدعوة إلى هذا العشاء الخيري، والنابع من توجُّهِ المجلس المذهبي؛ رئاسةً ومجلسَ إدارة وهيئةً عامة، يصبُّ في خدمة أهلِنا وأبناء مجتمعنا الذين يُعانون من الفَقرِ والحاجة، ويتطلعون بأملٍ ورجاءٍ وثقة إلى مؤسسات الخير والعطاء، للوقوف إلى جانبهم ومدّ يد العون لهم، لتمكينهم من مواجهة الصِّعاب وتأمين أبسط الحقوق الإنسانية التي يجب أن تكونَ متوفرةً لهم في الطبابة والتعليم والعيش الكريم”.
وتابع سري الدين: “لقد حاولت اللجنةُ الاجتماعية، بشعورها الإنسانيِّ النبيل، وما زالت تحاول، رئيسةً وأعضاء، ملامسةَ حاجة الناس وشحذَ الهمّة للوقوف إلى جانبهم بمحبةٍ وإخلاص، مُستعينةً بموازنةٍ متواضعة من المجلس المذهبي ومداخيلِ الأوقاف، وبدعمٍ كريمٍ من أهل الجود والكرم أمثالِكم، وحقُّها علينا وعليكم أن لا نبخلَ عليها، وأن نستثمرَ بعضَ ما نملكُ في عمل الخير والإحسان، وهو أفضلُ استثمار لمن أرادَ رضى الله سبحانه وتعالى وراحةَ الضمير. إن المسؤولية تزداد على المجتمع المدني وعلى المؤسسات الأهلية وعلى الخيِّرين، في ظلِّ تقاعسِ الدولة عن تغطية حاجات الناس، وهذا ليس مِنَّةً منّا عليهِم، فهو واجبٌ أصلاً على أهل البيت الواحد والمجتمع الواحد والوطن الواحد، لكي يَشدُّوا أزرَ بعضِهم بعضاً، مقيمينَ ومغتربين، إذ كيف يَصلُحُ المجتمعُ إذا تمتّعَ الغنيُّ بمالِ الفقير، أو إذا نام الإنسانُ مُتخَماً وجارُه جائع. إنها العدالةُ والشجاعةُ والمحبةُ والرحمةُ والإنسانيةُ تقتضي أن نزكِّيَ من أموالنا بقناعةٍ وسخاء، وأن نحدِّثَ بنعمةِ الله، بالفعل لا بالكلام وحسب، ترسيخاً للقاعدة التوحيديةِ في حفظ الإخوان، وتأكيداً لقولِه تعالى: “وأمّا اليتيمَ فلا تَقهَر، وأمّا السائلَ فلا تَنهَر، وأمّا بنعمةِ ربِّك فَحدِّثْ”.
وقال سري الدين: “إننا نعيش معاً في ظلِّ دولة لبنانية يُفترَضُ أن تكونَ عادلةً وقادرة، وفي وطنٍ واحدٍ موحَّد، وقد كنّا في أساس تكوينِه منذ قرون، وما كنّا أبداً إلّا دعاةَ محبةٍ وعيشٍ مشترك وما كنّا إلّا قدوةً في احترام الحقِّ والدستور، وعلى هذا الأساس يجبُ أن نُعامَلَ تقديراً لموقعِنا وتاريخنا ودورِنا الوطني والقومي، وقد حرِصتْ القيادةُ السياسية على الالتزام بهذا الدور المحوري الجامع، ووضعتْ مصلحةَ الوطن وبناءَ الدولةِ فوق كلِّ اعتبار، فهل يُنصِفُ المسؤولونَ في إعطاء الموحّدينَ حقوقَهم أسوةً بغيرِهم، وهم قلبُ الوطن وأساسُ وجودِه؟ أم يكون التعاملُ على أساس أكثريةٍ وأقلية بعيداً عن منطق المساواة والعدالة الاجتماعية؟ وكم من الفرص تضيعُ على الشبابِ في غياب الحريةِ والمساواة، فيفقدون الأملَ بهذا الوطن؟ إننا نتطلَّعُ إلى هذا العهد الميمون لعلَّه يُحقِّقُ أملَ اللبنانيينَ، فيقطعُ دابرَ الفساد المتنقّلِ الذي يَنخرُ جس الْبَلَد ومؤسساته، ويحقِّقُ الإصلاحاتِ المنشودة، ويؤمِّنُ فرصَ العمل والمشاركة للشباب، وكم هي كثيرةٌ تلك الثغراتُ والمساوئُ في الإدارة وفي البيئةِ والطرقات والمرافقِ العامّة وفي فوضى انتشار السلاح والمخدرات؟ لقد آن الأوانُ لأن نُزيلَ العقباتِ المصطنَعة ونُوحِّدَ الجهودَ ونتطلَّعَ إلى المستقبل بوعيٍ ومسؤوليةٍ، من أجل الحفاظ على أبنائنا، وتحقيق طموح شبابِنا وشابّاتِنا، وزرع الأمل في قلوبهم وتأمين حقِّهم في وطنٍ أكثرَ أماناً وعدلاً”.
وختم سري الدين: “إنّنا، إذ نتطلَّعُ إلى غدٍ مشرِقٍ واعد على صعيد الطائفة والوطن، مقِّدرينَ عملَ اللجنة الاجتماعية ولجانِ المجلس المذهبي كافةً، فإننا من موقعنا، في لجنة شؤون الاغتراب، ومن موقعي كرئيسٍ لهذه اللجنة، أشكرُ أخواني المغتربين والميسورين، السبَّاقينَ دائماً للبذل والعطاء، والذين يُدركونَ أنَّ قيمةَ المرءِ ما يُحسنُه لا ما يَجمعُه، وأدعوهم إلى المزيد من الدعم المادي والمعنوي من أجل رعايةِ المجتمع ونهضة المؤسساتِ، وكلُّنا أملٌ بأن يزدادَ العددُ ويتضاعفَ العطاء معَ ازديادِ التحديات وتضاعُفِ الأزمات. أثابكم الله وإلى اللقاء دائماً على دروب الخير والمحبة، عِشتُم أهلاً للخير والمعروفِ وعاش لبنان”.

حفل تكريم
في دار الطائفة

كرّمت مشيخة العقل والمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز عدداً من المتبرعين الذين قدّموا مساهمات مادية وعينية لتأهيل مبنى دار الطائفة في بيروت بالإضافة إلى مجلس أمناء مجلة ومساهمات مختلفة لدار الطائفة وتأهيل مقام السيد الأمير(ق) في عبيه؛ وذلك بحضور سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن؛ ورؤساء اللجان وأعضاء المجلس المذهبي.
كما حضر حفل التكريم في دار الطائفة ممثل الاستاذ تيمور جنبلاط؛ الدكتور ناصر زيدان؛ النائب أنور الخليل؛ الوزير السابق محمود عبد الخالق؛ الوزير السابق عادل حميه؛ ممثل الوزير السابق مروان خير الدين الاستاذ أكرم العربي، أمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي ظافر ناصر؛ مدير عام وزارة شؤون المهجرين الأستاذ أحمد محمود؛ مدير عام تعاونية موظفي الدولة الدكتور يحيا خميس؛ مفوض الحكومة في مجلس الإنماء والإعمار الدكتور وليد صافي؛ المراقب المالي العام في مجلس الجنوب ياسر ذبيان؛ قائد الشرطة القضائية العميد ناجي المصري؛ مستشار وزير التربية أنور ضو؛ مفوضو الإعلام والداخلية والشباب في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريس وهادي بو الحسن وصالح حديفه؛ مدير عام المجلس المذهبي مازن فياض ورؤساء المصالح والمديريات؛ بالإضافة إلى مجلس أمناء مجلة ورئيس تحريرها السابق رشيد حسن؛ وعدد كبير من الشخصيات ورجال الدين وقضاة المذهب الدرزي.
قدّم اللقاء رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الشيخ سامي أبي المنى؛ حيث قال: “هذا اللقاء التكريميِّ الذي اخترناه محطةَ وفاءٍ وتقديرٍ واحترام، لكوكبةٍ من الرجال الأكارم الذين تكرَّموا بإعادة تأهيل دار طائفة الموحدين الدروز، بمبادرةٍ من رئيس لجنة شؤون الاغتراب الأستاذ كميل سريّ الدين وبمساهمةٍ سخيّةٍ منه ومن نخبةٍ خيِّرة من رجال الأعمال الأفاضل، ولسادةٍ كرامٍ من أهل المروءة والغِيرة والرؤية الثاقبة ممّن شكَّلوا على مدى سنواتٍ مجلسَ أمناءٍ لمجلة الضُّحى الصادرة عن المجلس المذهبي، ولرئيس تحريرها الأستاذ رشيد حسن الذين يستحقُّون منَّا جميعاً جزيلَ الشكر والتقدير، لِما أعطَوه من مثلٍ يُحتذى به في الحميَّة والأريحية وعمل الخير.
لقد رأت لجنة شؤون الاغتراب والمجلس المذهبي مجتمِعاً، برئاسة صاحب السماحة، أنَّ دار الطائفة التي بناها أسلافُنا المعروفيون الأبرار بهمَّةٍ عالية من سماحة شيخ العقل المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا ورعايةٍ كريمةٍ من قيادات الطائفة وفعالياتها، والتي افتُتحَت بمشاركة رسميةٍ رفيعة، لم تعُد لائقةً بمركز الطائفة ومشيخة العقل والمجلس المذهبي، ولا بأبناء الطائفة وأصدقائها وزوَّارها، بعد أن استهلكت معظمَها السنون، فانبرت تلك النخبةُ المميَّزة من رجال الأعمال لإعادة تأهيلِها، وأثبتوا مرةً أخرى وبكلِّ جدارةٍ أن الاندفاعَ ما زال موجوداً، وسجيَّةَ العطاءِ ما زالت مِيزةَ الرجال، والانتماءَ الوطني، كما الحسُّ الإنساني، ما زال حيَّاً في مجتمعِنا التوحيدي؛ لعلَّهم بعملِهم هذا يُوقظون من السُّبات بعضَ الغائبينَ عن ساحة العمل الخيري والحضورِ الاجتماعي والوطني، ويُحيونَ تلك الروحَ الأخوية بين الناس وفي المجتمع، ونحن نعرفُ أنَّ هناك الكثيرين ممَّن يبذلونَ في سبيل الفقراء والمرضى والمساكين وطالبي العلم وبناء المؤسسات، ولكنَّ مثلَ هذه المبادرات مطلوبٌ على مستوى الطائفة وعلى مستوى الوطن، إذ فيه نهوضُ المجتمع وتقدُّمُ الوطن وتأكيدُ الانتماء”.
ثم ألقى سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن كلمة قال فيها: “ان نفوس الناس كمعادن الارض، وفي ذلك قالوا: “الشيء من معدنه لا يستغرب” اذ انه كما يكتنف التراب فِلْزّات الأرض، ولا يعرف منها المعدن النفيس من المعدن الرخيص، كذلك تبقى معادن النفوس مخبوءة ما بقيت مكتنفة بالجهل. معادن الأرض نفتش عنها، أما معادن النفوس فتبقى في الضمائر لا تُعرف الا بالمعاملة أو إذا قدمها المرء بنفسه”.
وأضاف الشيخ حسن: “أعمال الخير والبر والزكاة والصدقة، كلّها أعمال تنحو للمشاركة مع الآخَرين في كلِّ ما يُعزِّزُ معاني المروءةِ والنخْوة والأصالة والتضامن الاجتماعيّ خدمةً للخير العام. وهذه الأعمال لا تبرز إلّا عن نفوسٍ ومعادن كريمة. مناسبتنا اليوم وان تفرعت فهي فرصة للشهادة على شجاعة الرجال ونبل مزاياهم ورفعة إخلاصهم للأصالة وللقيم التي طالما ميّزت المعروفين عبر التاريخ وهذا ما أعاد لدار الطائفة وجهها المُشّع، بما يليق بحضور الأفاضل والأكارم بعد مُضي أكثر من خمسين عاماً على افتتاح هذه الدار. هذه الدار الوطنية التي بُنِيَت في غيرة وتعاضد ومحبة لتبقى رمزاً من رموز وجود الطائفة في العاصمة وعنواناً بارزاً من عناوينها، وستحافظ هذه الدار بإذنه تَعَالىَ على معلمها لتبقى صرحاً أثرياً للأجيال القادمة، وبمثابة القلب الحاضن لأبنائها”.
وتابع سماحته: “إنَّ الصّيغة التي أنجز بها قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين عام 2006 هي صيغة متقدّمة وحيويَّة، وعلى قواعد توزيع المهام والصلاحيات وما تعلمون. ولا بدَّ لي في هذه المناسبة من أن أحيي رمزنا الوطني معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط على إنجاز هذا القانون برؤية نهضويَّة لجعله مرتكِزاً على قاعدة الانتخابِ التي تسمح بتمثيل كافَّة شرائح المجتمع. فضلاً عن أنه أعاد تصحيح العديد من مواد القانون السابق وأهمهما مراعاة المفهوم القانوني للشروط الوقفية، كما نحيّيه على دعمه المتواصِل في كافَّة الشؤون، ومنها البذل السخيّ الذي صبَّ في مصلحة الأوقاف وتعزيز أصولها. وتبقى المسيرة مستمرة مع تيمور بك بإذنه تَعَالَى”.
وأكمل الشيخ حسن: “أحيّيه على سياسته الحكيمة التي ترتقي في مستواها الوطني إلى ذروة عليا من المسؤوليَّة حفاظاً على كيان لبنان ووحدة شعبه. وسوف تُسجِّل صفحات التاريخ أنَّ وليد بك جنبلاط بقيَ في أحلك الظروف، وفي أكثر المراحل التاريخية صعوبةً وتعقيداً التي يمرّ بها الوضع اللبناني، بقيَ ثابتاً على إخلاصه للروح الميثاقيَّة الجامعة، وليس له أولويَّة سوى الحفاظ على الوطن وعلى سلامة العيش المشترك فيه، من دون أن يتزحزحَ عن إخلاصِه للقضايا الوطنيَّة الكبرى في العالم العربيّ، ولا عن تمسُّكِه بالمبادئ الإنسانيَّة في زمنٍ يتباهى فيه آخرون بالعنصريَّة والطائفيَّة”. وتابع سماحته: “نعود إلى مهمتنا في مسيرة المجلس المذهبي، وقدرُنا أن نواجهَ امتحانَ إعادة البناء في كثيرٍ من المجالات المتعلِّقة بالغايةِ من تشكيله خصوصاً في الشأن الاجتماعي والأوقاف وفعالية المؤسَّسة الجامعة في طائفتنا الكريمة. ولا يُمكن لنا أن نستسلمَ أمام صعوبة الظروف التي واجهتنا، بل الانطلاق مجدداً باندفاعةٍ قويَّة تمضي بنا وبمجتمعنا قدُمًا إلى الأمام. لقد أحدثنا فرقًا كبيرًا، وبنينا اللّبِنات الأولى على قاعدةٍ راسخة، وحقّقنا الكثير من الأمور الهامَّة التي وضعت سبُل العمل المؤسّساتي على جادةٍ مستقيمة، فلا يجوز لنا أن نراوحَ في المكان إزاء طموحاتنا الكبيرة التي تتخطّى الواقع بأشواط”.
أضاف: “إنَّنا نتطلَّع اليوم إلى المزيد من إنجازات الأوقاف والبدء في مشاريع الاستثمار لتنتج موارد تغذي صندوق اللجنة الاجتماعية وما تتكفّله من مساعدات مرضية وتعليمية للمحتاجين. وإنجاز المشروع الشامل لاستكمال دار الطائفة لتكون في خدمة المعروفيِّين بما يليقُ بهم. وفي هذا اللقاء التكريمي للمتبرعين في إعادة تأهيل دار الطائفة في الوقت نفسه نودّ ان نكرم كوكبة أخرى من الاخوان الذين يساهمون في تأهيل البشر عبر مجلس أمناء مجلة التي اخذت طابعا فكرياً وثقافيا في حلتها الجديدة فإليهم أيضا الشكر والثناء والتشجيع على المضي برسالتهم رسالة التوعية والتوحيد لاطلاع المجتمع بكافة اطيافه على تراث ولا اغنى، ومحطات ولا أثرى، كما التحية والتقدير لرئيس التحرير على ما بذل من جهود”.
كما خص سماحته بالشكر رئيس تحرير رشيد حسن الذي انتهت ولاية مهامه؛ مشيداً بعمله المتفاني في سبيل استمرارية ورفعة المجلة؛ متطلعاً الى استمرار هذا النهج مع الدكتور محمد شيا الذي سيتولى هذه المهمة.
وختم الشيخ حسن: “أردنا هذا اللقاء ليكون مناسبةً نعبِّرُ فيها باسم الهيئة العامَّة للمجلس المذهبيّ، وباسم ما نـمثِّلُه في خدمةِ القيَم الرُّوحيَّة والإنسانيَّة، وباسم طائفتنا العزيزة، عن خالص تقديرِنا ومودَّتنا وشكرنا لأشخاصكِم الكريمة، آملِين أن تكونَ هذه المبادرة إشارة وفاءٍ واحترام للشيَم المعروفيَّة الأصيلة، سائلين الله تعالى أن يوفيَكُم عنَّا وعن كلِّ المعروفيّين جزيل الثواب، وأن يحفظَكُم ويبارك لكُم في كلِّ مساعي الخير، ولا يضيع عند الله تعالى مثقال ذرَّةٍ من العمل الصالح، إنَّه هو الكريمُ الحليم”.
وبعد ذلك سلّم سماحته والى جانبه أمين سر المجلس المحامي نزار البراضعي ورئيس لجنة الأوقاف القاضي عباس الحلبي ورئيس اللجنة الإدارية رامي الريس الميداليات والدروع التقديرية للمكرمين؛ وهم الأستاذ تيمور بك جنبلاط، النائب الأستاذ انور الخليل، رئيس لجنة الاغتراب في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين، الاستاذ جمال الجوهري، الأستاذ مروان عساف ممثلاً الأستاذة رندة عساف- الأستاذ وليد عساف- الأستاذ غسان عساف. الوزير السابق مروان خير الدين، الأستاذ ماجد ابو مطر عن نفسه وممثلاً الشيخ أنور الجرمقاني، الشيخ انور ابو الحسن عن والده المرحوم الشيخ اديب أبو الحسن، الأستاذ جهاد هاني، السيد ياسر غرز الدين، الأستاذ عادل مكارم عن نفسه وممثلاً الأستاذ عصام مكارم، السيد أرسطو حاطوم، السيد محمود إبراهيم.
وتغيّب بعذر المتبرعين الكرام: الشيخ وجدي أبو حمزة – الأستاذ غسان العريضي والأستاذ فايز رسامني، الأستاذ شاكر صعب والسيدة وفاء صعب، الأستاذ مروان العريضي، الأستاذ أسامة النجار، الأستاذ زياد خطار وعدد من المساهمين.
كما تمّ تكريم:
الأستاذ عدنان الحلبي (المساهم في تأهيل مقام السيد الأمير في عبيه).
الشيخ فريد صعب (لمساهمته في معهد السيد الأمير في عبيه).
الأستاذ عماد المصري، الأستاذ جناح مكارم، العميد ناجي المصري. (مساهمات قيّمة مختلفة).
المشرفون على اعمال الـتأهيل: الأستاذ بشير ابي عكر- الأستاذ فادي فارس، الأستاذ نديم نمور- الأستاذ سامر الخوند.
الأستاذ عادل القاضي (عن جمعية التضامن الخيري الدرزي سابقاً)، الشيخ حاتم ضو، والأستاذ رئبال ابو غنّام.
وتخلل الحفل تقدير أعضاء مجلس أمناء لمساهمتهم ودعمهم: الأستاذ رافع أبو الحسن، الشيخ علي عبد اللطيف، الأستاذ سليم عابد، الأستاذ توفيق الشعار، الأستاذ سميح ضو، الأستاذ رامي ضو، الأستاذ غازي دمج، ورئيس تحرير مجلة الأستاذ رشيد حسن، والأستاذ مثقال عطا الله من أصدقاء .
وفي الختام، أزيحت الستارة عن اللوحة التذكارية وأقيم حفل كوكتيل بالمناسبة.

بيان
المجلس المذهبي
تاريخ 12/12/2017

ترأس سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن اجتماع مجلس إدارة المجلس المذهبي في دار الطائفة في بيروت، حيث كان عرض وبحث في الأوضاع العامة وشؤون وأعمال المجلس ولجانه، وعقب الاجتماع تلا أمين سر المجلس المحامي نزار البراضعي البيان الصادر عنه، وجاء فيه: ‏

أولاً: يعرب المجلس عن شجبه وإدانته للقرار الأميركي القاضي
بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مؤكداً تمسكه بالقدس كمدينة جامعة لها خصوصيتها الروحانية الخاصة وصفتها التمثيلية للديانات السماوية، رافضاً مصادرتها من أي طرف كان لاسيما من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويحذر من التداعيات الناجمة عن مثل هذه القرارات، داعياً إلى تحرك عربي عاجل يكون على مستوى هذا التحدي الخطير الذي يطال المسلمين والمسيحيين على السواء.

ثانياً: يدعو المجلس الشعب الفلسطيني بكل قواه الحية والفاعلة
إلى استعادة زمام المبادرة والتحرك في كلّ المجالات وبكلّ الأطر المشروعة لاكتساب حقوقه وأهمها حق العودة وحق قيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ويشدد على أهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية في هذه اللحظة السياسية الحرجة التي تتطلب التعالي فوق كلّ الخلافات والتجاذبات والانصراف حصراً لمواجهة الاحتلال ومشاريعه الخطيرة.

ثالثاً: يعبّر المجلس عن ارتياحه لعودة الرئيس سعد الحريري عن
استقالته مثمناً دوره على المستوى الوطني والخط الاعتدالي الذي يمثله، ويتطلع إلى تجدد العمل في مختلف المؤسسات الدستورية ضمن إطار تثبيت مبدأ النأي بلبنان عن كل الصراعات المحيطة وترسيخ علاقته التاريخية بالدول العربية؛ وتحصين السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ووقف الهدر والمكافحة الفعلية للفساد ومعالجة القضايا الحياتية الملحّة، ومن أبرزها ملفي الكهرباء والنفايات.

رابعاً: يتوجه المجلس من اللبنانيين عموماً، ومن المسيحيين
خصوصاً بالمعايدة والتهنئة بعيدي ميلاد السيد المسيح عليه السلام ورأس السنة الميلادية، راجياً أن تحمل الأعياد نفحة خير للبنان وشعوب المنطقة العربية، وبارقة أمل باستعادة القدس.
بيروت في:12/12/2017.

سماحة شيخ العقل مستقبلاً الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات

سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن مستقبلاً في دار الطائفة في بيروت الأمين العام لـ “مركز الملك عبد الله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات” الأستاذ فيصل بن معمر على رأس وفد من المركز يرافقه أمين عام “لجنة الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان” الأستاذ محمد السماك، بحضور رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الشيخ سامي أبي المنى وقاضي المذهب الدرزي الشيخ غاندي مكارم والمستشار الشيخ غسان الحلبي.

سماحة شيخ العقل مشاركاً في القمة الروحية في بكركي

أكد سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في القمة الروحية في بكركي أنّ “المكان الذي تستقر فيه القدس هو ضمائر وقلوب المؤمنين”، مؤكِداً أنّ “القوة الغاشمة مهما طغت فليس لها من سلطان على قلب أي مؤمن صادق”. وشدّد على أنّ “فلسطين أرض عربية والقدس روحها بكلّ ما تعنيها في الذاكرة والتاريخ والمستقبل”. وختم قائلاً: “كلمة الحق أنّ الشعب الفلسطيني له الحق في أرضه وفي قدسه ودولته ورسالتنا أن القدس مدينة السلام لا الحروب”.

إفتتاحية رئيس التحرير

ثوابت مجلة … مستمرّة

هوذا العدد 22 من الغرّاء، الزاهرة دائماً، بإذن الله.
يتوجب علي بداءةً، منطقياً وأخلاقياً، وفي مفتتح العدد الجديد (العدد 22)، التعبيرعن خالص تقديري للذين أولوني، أواخر العام الفائت، شرف رئاسة تحرير ، أخصّ بالذكر سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن – الوافر الاحترام – وإخوانه أعضاء مجلس الإدارة واللجنة الادارية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز. ومن الطبيعي، بل المُلزم، بالتالي، أن أبادلهم ثقتهم الغالية بالعمل الدؤوب، في كل المجالات، وبوضع ما أملك من إمكانات ومعرفة وخبرة في خدمة الغرّاء لتستمر أمينة على الرسالة الثقافية والروحية والوطنية والأخلاقية التي وُجدت من أجلها، بل لتزداد رسوخاً في رسالتها السامية، وتألقاً في صورتها البهية، كما في سعيها لاستقطاب أوسع جمهور يجتمع بفرح حول صفحاتها وموضوعاتها وكتّابها، تملأه الثقة التامة بأهمية ما يقرأ، وبعلمية وموضوعية من يقرأ لهم، أولئك الذين نقّبوا وبحثوا وكتبوا ونشروا في . و معنيةٌ، أولاً وأخيراً، باهتمامات جمهورها، وأسئلته، وإذا شاء بنقده وملاحظاته أيضاً.
نقول هي معنية باهتمامات جمهورها، وتلك هي أكثر الصيغ بساطة في التعريف بـ وهويتها وماهيتها. فـ في الأصل ليست مطبوعة أخرى تنضاف إلى ما هو موجود من مطبوعات، ولا هي مجرد مجلة فصلية ثقافية رصينة تنافس ما هو قائم من مجلات ثقافية أخرى.
في الحقيقة أكثر من ذلك. هي، بتعبير دقيق، مجلة ثقافية ملتزمة، وذات مرجعية فكرية واضحة. لذلك فهي تتوجه إلى مجتمعها، ووطنها، وأمتها بأهداف عامة متميّزة وبرسالة اجتماعية محددة.
فعلى صعيد الأهداف العامة، تلتزم من دون تردد المرتكزات الروحية والعقلانية والأخلاقية والوطنية الجامعة هوّية لها، وعلى قاعدة توجهها الثقافي والفكري الأساسي. وأولى مرتكزاتها الفكرية قناعتها الثابتة الراسخة أنْه من غير المنطقي، أو المقبول، النظر إلى الكون وما فيه كما لو كان تجميعاً للمصادفات والأسباب المادية الآلية وغير الآلية لا أكثر. وقناعتها أيضاً أنه من غير المنطقي أو القبول اعتبار حياة البشر فوضى من دون قاعدة أو مسرحاً للتوحش من دون حساب تطغى فيه القوة والشر والفساد على ما هو حق وخير وفضيلة، ومن دون حساب أو محاسب، ولا رقيب أو مراقب.
لا ترى ذلك البتة. الكون هو بخلاف ذلك تماماً، والمجتمع أيضاً. فالكون بما فيه، ومن فيه، من تنوع عجيب مدهش في الكائنات، ومن تكامل وانتظام يفوقان الوصف، إنما يدلّان بجلاء إلى فعل الخلق العظيم وما انطوى عليه من خير ورحمة وغاية وجمال، وإلى الخالق من ثمة، بعيداً عن غطرسة وغرور هذا أو جهل وتجاهل ذاك.
أما في المجتمع، فرسالة تقوم في الحض على الأخذ بالعلم والعقل والثقافة، وبأسباب النهوض والتقدم والوحدة بين المواطنين؛ وعلى اعتبار الآخر أخاً في الإيمان بالله والرسُل والملائكة واليوم الأخِر، وفي فعل الخير والأعمال الصالحات؛ وهو أخٌ أيضاً في المواطنة، في القرية والحي والبلدة والمدينة والوطن، كما في الأخلاق الحميدة. الأخلاق والمواطنة حقلان محددان يلتقي فيهما، وعلى أهدافهما، المواطنون، كلّ المواطنين، تحت سلطة القانون ووازع الآداب العامة.
بهذه المعاني، الروحية والأخلاقية والوطنية، تتوجّه وكتّابها إلى جمهورها: تدعوهم أولاً إلى القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وتخاطب، ثانياً، ما انطووا عليه من قوى وطاقات خيّرة، ما يسهم بالتأكيد في تنمية مواقفهم الإيجابية، وطرائق تواصلهم، وحوارهم، واجتماعهم الذي يجب أن يكون على البر والخير، وعلى إعلاء المصلحة العامة والشأن العام والأخلاق، وتحكيم العقل – لا الغرائز أو العصبيات – في حياتنا الفردية والاجتماعية والوطنية.
مع رئيس تحريرها الجديد ستبقى كما كانت دائماً: أمينة على أهدافها الروحية والأخلاقية والوطنية، كما على رسالتها الاجتماعية أعلاه. وكما كانت في السابق، ستستمر في المستقبل منفتحة على كل رأي، ترحب بكل مساهمة أو اجتهاد لا يتناقضان وهويتها وماهيتها وأهدافها الجامعة. لا مكان في ، لا سابقاً ولا في المستقبل، للسياسة بالمعنى اليومي المباشر، ولا لكل ما يشقّ الصف الوطني الواحد، ولا ما يجزّئ أو يقسّم أو يحرّض أو يستفز. هي مجلة الوحدة الوطنية في الوطن، اللبناني والعربي؛ هي مجلة التجديد الفكري والنهضوي والاجتماعي؛ وهي أخيراً مجلة الوحدة الدينية الروحية في الإطار الإسلامي المنفتح الواسع، تماماً كما هي مجلة قبول الآخر، المختلف.
هذه هي ، على مستوى الهوية والأهداف، في العدد الجديد وما سليه، وكما كانت في كل أعدادها السابقة.
لكن تعدُ أيضاً بالتجديد والتطور، وهما سمتا الكائنات الحيّة، سمة كل ما هو مخلوق وحيّ. فالسنوات الثماني التي تلت إعادة إطلاق أظهرت بطرائق مختلفة ما هو ثابت وضروري ومطلوب من أبوابها، ويجب الاحتفاظ به، وما يحتاج إلى تعديل لجهة الحجم والمساحة والموضوعات، ويجب تعديله، وما هو جديد ونافع وضروري، فيجب الأخذ به وإضافته. وستظهر هذه التغييرات تدريجاً بدءاً من هذه العدد، وبما يخدم أولاً وأخيراً رسالة ومصلحة جمهورها واهتماماته.
باختصار،
، مجلة الوحدة في زمن التمزق، بل التشظّي والتذرر. لقد أراد أعداء أوطاننا وأمتنا العربية الإجهاز على ما تبقى من وحدة سياسية لبلداننا، ومن وحدة اجتماعية بين مكوناتها. وللرد على ذلك، بات علينا في كل عمل أو خطاب نسوقه تجنّب زيادة التوتر والتمزّق، والحضّ بالعكس على كلّ ما يسهم في استعادة وحدة أوطاننا ومجتمعاتنا والسلم الأهلي فيها.
مجلة العقل والعقلانية في زمن الجنون، واللامعقول الذي لم ترَ مثله عين أو تسمع به إذن، أو يخطر ببال، حتى في أكثر الأزمنة السابقة جهلاً وسواداً. لقد فشى الجهل وطغى خطاب الغرائز والعصبيات حتى بات عنواناً مع الأسف للمرحلة هذه، و معنية بقدر ما تستطيع في إعلاء خطاب العقل لا الغرائز.
مجلة التنوع الثقافي والروحي في مجتمعاتنا العربية وباعتباره عامل إغناء لهذه المجتمعات وإظهاراً لإسلامنا المنفتح المتسامح الذي جذب حتى اليهود إلى مجتمعه السمح، ناهيك بالمسيحيين المشرقيين وهم شركاء المسلمين في كل حلٍّ وترحال، في انتصاراتهم كما في هزائمهم، وما الموقف الأخير لرؤساء الطوائف المسيحية من مؤامرة الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني غير برهان آخر على تمسكهم، كما شركاؤهم في الوطن، بالثوابت الوطنية القومية الجامعة.
مجلة المسؤولية في ممارسة الحرية، أيّاً كان مجالها؛ فالحريات التي تمارس اليوم في بعض جوانب المجال الإعلامي، وبخاصة المرئي منه، باتت لا تمت بصلة لا الإخلاق المعروفة فقط، وإنما للثوابت والبدهيات الاجتماعية المسلّم بها. لقد غدا الانحراف هو السائد والقاعدة وعلى حساب الأسس والقواعد الأخلاقية التي نطقت بها أدياننا، أو بلغتنا من التراث الناصع لأسلافنا. ولن تتوانى في الدفاع عن المسألة الأخلاقية واعتبارها واسطة العقد في حياتنا الاجتماعية، من البيت والأسرة، إلى المدرسة، إلى المجتمع في مجاله الأوسع.
و، إلى ذلك، هي الذاكرة الثقافية لمجتمعنا ووطننا وأمتنا. فالجماعات لا تعيش من دون ذاكرة. وقد قدّمت جماعتنا التوحيدية لأوطانها، كما لمحيطها العربي والإسلامي، رجالاً أفذاذاً تركوا بصمات عميقة الأثر في صفحات أزمنتهم، بل أمسكوا أحياناً بناصية أهم القرارات التاريخية، فما اختاروا إلا ما فيه مصلحة عليا لوطنهم وأمتّهم، متناسين ما يتطلبه ذلك من تضحيات تجرّعوا علقمها عن طيب خاطر. وفي العدد 22 هذا نتوقف عند علمين من بين أولئك الرجال: كمال جنبلاط – الإنسان والمثقف والمعلّم – نحتفل بمئوية مولده بملف خاص تفتتحه بالمناسبة، والأمير شكيب ارسلان.
و، أخيراً وباختصار، هي مجلة الاعتدال. وإذا كان الاعتدال هو رمز الحكمة والعدل في كل زمن، فهو في زمن الغلو والتطرف الذي نعيشه أكثر إلحاحاً وأولوية، وكما قال سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن في تقديمه لأحد أعداد السابقة. فسماحته يدفع، وعن حق، بفضيلة الاعتدال إلى المقدمة، وذلك بجعلها ركناً من أركان ممارسة التوحيد، حين يقول: «…يجب التنبّه إلى إلى أخلاق الموحّد هي اعتدال الميزان في عقله وقلبه…والتوحيد إما أن يكون ثمرة الاعتدال، وإما أنه لن يتحقق بالطريقة التي يستشعر فيها الإنسان غبطة الداخل التي سمّاها السلف الصالح “فضيلة الذات”. والاعتدال في يعني، عملياً، نوع الموضوعات التي ننتقي الكتابة فيها، ثم شكل الكتابة نفسها، فتأتي علمية، موضوعية، موثقة، وخلواً مما يحيل او بستثير إلى عاطفة أو غريزة أو عصبية. الغرائز والعنصبيات لا مكان لهما في خطاب مجلة .
هي ذي بعض ثوابت أحببنا التذكير بها، تذكير أنفسنا كما الآخرين، لنؤوب دائماً إلى سواء السبيل، في قولنا وخطابنا كما في أفعالنا وبخاصة تلك التي تتحول بدورها إلى قاعدة وسابقة يقتدى بها، ولطالما كانت سِيرُ أهل التوحيد مضرب المثل في صدق النية كما في حُسنِ القول والمسلك، وخطاب سيكون في خط الثوابت التوحيدية الغرّاء تلك.
وبعد
يقتضي الواجب التنويه بالمساعدة الإدارية والتقنية التي لقيتها من أمانة سرّ المجلس، ومن الفريق التقني فيه، في خلال الفترة القصيرة التي تسلّمت فيها مسؤولية تحضير هذا العدد. كما أنوّه بالجهود الصادقة المخلصة التي بذلها رئيس التحرير السابق، الصديق الأستاذ رشيد حسن، في إعلاء كلمة وإيصال رسالتها الخيّرة والنبيلة إلى أوسع جمهور ممكن.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
القدس
والإسلام «السمْح»

تمثلُ القدس للديانات الابراهيميَّة أرضاً مباركة، ومكانةً لها دلالاتها الإيمانيَّة في الذاكرة التاريخيَّة، وبالتالي الوجدانيَّة، لكلٍّ منها. وفي التاريخ العام، من صدر الإسلام إلى العام 1967، أي طيلة ما ينيف عن أربعة عشر قرناً من الزمان، كانت “مدينة السلام” إسلاميَّة عربيَّة ما خلا عقود عديدة حاول فيها “الصليبيُّون” الاستيطان في المنطقة فما فلحوا، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح.
وإن أنصف المرءُ في النظر إلى سياق التاريخ، لوجد أن الأحياء الكبرى التي تكوّنُ واقع المدينة وهي: اليهودي والمسيحي والأرمني والعربي، فضلا عن امتداد مساحة المسجد المذكور في القرآن الكريم، والذي منه أسرى الله سبحانه وتعالى بعبده رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما جاء في الآية الكريمة، إزاء تلك الأحياء، بشكلٍ مميَّز مشهود يدمغُ المدينة، مع الصروح الدينيَّة الأخرى، بطابع حضاريّ لا مثيل له، لوجدَ إذًا، أن تلك المكوّنات نشأت ونمَت وتعايشت طيلة قرون، في ظلّ الحكم الإسلامي (العربي ثم العثماني)، من دون أن تزلزلَ أساسات وجودها عواصف الأزمات والنزاعات.
هذا عائدٌ إلى المقاربة العامَّة لإسلامٍ “سَمْح” تجاه مكوّنات النسيج الاجتماعي في أيّ بلادٍ انتشر فيها الإسلام. والمقصود هنا هو النهج العام الذي مكَّن من حفظ الكثير من الموروثات الحضاريَّة لكثير من الشعوب والأمم (قياساً إلى ما فعله الأوروبيون في القارة الأميركية بعد اكتشافها)، بالرغم من التعرُّض لأخطار الصراعات الناشبة بين المتنازعين عبر تعدُّد الحِقَب والمراحل التاريخية، وبالرغم من التعرُّض أيضاً في بعض الأوقات لمِحن سبَّبتها ظروفٍ عصيبة وقاسية.
هكذا، بقيت “القدس” ملاذًا إيمانياً ذا منزلةٍ سامية، بعيداً عن عواصم “السلطان” سواء أكانت في دمشق أم في بغداد أم في القاهرة. وهو ملاذ كرّسه نهج عمر، خليفة رسول الله، الذي أعطى لسكّان المدينة ما سُمِّي “العهدة العمريّة” بعد وصول المسلمين إليها، وقال: “يا أهل إيلياء، لكُم ما لنا، وعليكم ما علينا”، واستدرك بحكمةٍ راقية أمْرَ صلاته حين أدركه وقتها وهو يتفقّد كنيسة القيامة مع البطريرك صفرونيوس قائلا: ” ما كان لعمر أن يصلّي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلَّى عمر ويبنون عليه مسجدا.”
يجسِّدُ هذا الموقف الحضاري بامتياز، معنى “السماحة” في الاسلام، وهو موقف يرقى إلى مستوى “ثوابت الضمير والوجدان” لدى كلّ المؤمنين، وذلك بقوَّةِ صحَّة الموروث “الإيماني” الأثيل.
إنَّ القرار الأميركي الأخير بشأن “القدس”، يناقض بشكله وبمضمونه وبروحه وبمقاربته محمولَ التاريخ الذي هو، بكلِّ حال، في ذاكرة المدينة وحقائق تاريخها. وليس على المرء أن يسترسلَ في وصف “مساوئ” القرار المذكور، وآفاق نتائجه الوخيمة، وانحجاب الرؤية فيه عن كلِّ معنى حضاريّ شامل، وانحيازه التام لمقولةِ فئةٍ تحاولُ بمفهوم القوَّة أن تفرضَ سلطتها عبر العمل المحموم لتغيير هويَّة المدينة بكلّ الأشكال المتاحة لها.
إنَّ نتائج التصويت الأخير حول القرار المذكور في هيئة الأمم تكرِّسُ الدلالات التي طالما مثّلها الإسلام “السمح” كما مرَّ آنفاً. وهي نتائج تبيِّنُ مدى وضوح الحقّ الفلسطيني والإسلامي والعربي أمام العالم قاطبة. وعلينا أن نواصل النضال متسلّحين بالقيَم وبالمبادئ التي حملها تراثنا العريق، بل والتي تمثّل وجه الإنسانيَّة الحضاريّ إزاء كلّ محاولات تزوير التاريخ، وإهمال كلّ التراكم الذي مثله يوماً “المشروع الأممي” الذي يهدمه في عصرنا الحالي “الحق التعسّفي بالنقض” للدول العظمى. وليس لنا إلا أن نؤكِّد إيماننا الوطيد الراسخ، بأنَّ ربَّ الحقّ هو العظيم القدير، وبأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه.
وإذا كانت رسالتنا اليوم القدس. فلا بدّ من أن نعرب عن تمنياتنا بالتوفيق لرئيس التحرير الجديد الدكتور محمد شيّا والمدير المسؤول الأستاذ نجيب البعيني في مهامهما. كما نتوجه بالشكر لرئيس التحرير السابق الأستاذ رشيد حسن على جهوده في إعادة انطلاق الضحى.

هذا العدد

هذا العدد

يصل العدد الجديد من (رقم 22، كانون الثاني، 2018) إلى القرّاء، إن شاء الله، وهو في صحبة ثلاثة متغيرات، بل تجديدات؛ أوّلها، العام الميلادي الجديد (2018) نرجوه لقرّاء وأصدقائها، بعامة، أكثر أمناً وطمأنينة وتحقيقاً للآمال المشروعة؛ وثانيها، تسلّم رئيس تحرير جديد للـ ،(كاتب هذه السطور)، مسؤولية التحرير والإدارة فيها من زميل صديق هو الأستاذ رشيد حسن الذي لم يبخل طيلة ثماني سنوات في بذل كل جهد مطلوب لدفع نحو ما هو أفضل وأعلى؛ وثالثها، التجديد الذي سيلمسه القارئ في بعض أبواب المجلة القائمة، أو في أبواب جديدة مستحدثة.

سيجد قارئ العدد الجديد هذا بعض الأبواب الجديدة ومنها،
الأنشطة الأكثر راهنية للدار والمجلس المذهبي ولجانه المختلفة،
الأنشطة الثقافية الأكثر أهمية التي سبقت صدور العدد بأسابيع أو أيام،
المشكلات الاجتماعية الأكثر إلحاحاً التي تقلق المواطن وتشكّل عبئاً على كاهله، وقد بدأنا بمشكلة المدرسة الرسمية (الابتدائية والمتوسطة)، وكانت أيضاً مناسبة تكريم رمزي لبعض التربويين الروّاد الذين تقاعدوا الآن، وتتوجب الإفادة من خبراتهم الواسعة في مضمار التربية.

سيجد القارئ أيضاً ملفّين مكتنزين، الأول فرضته وقائع الأيام التي سبقت صدور العدد 22 والذي لا تستطيع مطبوعة عربية أن تتجاهل خطورته، وهو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وقد واكبنا الحدث بملف تاريخي وقانوني وإعلامي، وفي حدود ما تستطيع مجلة فصلية أن تقدّمه. والملف الثاني، وهو استكمال رسالة في الإضاءة على كبار الشخصيات التي لعبت أدواراً تاريخية محلية أو عربية بارزة ، فكان الاحتفاء بمئوية مولد ” كمال جنبلاط، الإنسان والمثقف والمعلّم”، فأسهمت في الملف اثنتا عشرة شخصية وطنية وأدبية وإعلامية وأكاديمية.
وإلى ذلك، تستمر في فتح صفحاتها لـ “رسالة جبل العرب”، جسراً للتواصل المعروفي والعربي وبما يوثّق أواصر الخير والمحبة بين الجميع.

وفي العدد أيضاً تحقيق تناول مع رئيس بلدية حاصبيا، العريقة في التاريخ، إنجازات البلدية الراهنة وخططها المستقبلية الواعدة.
وفي العدد كذلك، مقالات علمية تناولت على نحو واف بعض أهم الشخصيات اللبنانية والعربية الوطنية والثقافية والتربوية، الأمير شكيب أرسلان، عارف أبو شقرا، عباس نصرالله.

هذا بعض ما تضمنّه العدد الجديد من (العدد 22، كانون الثاني 2018)، آملين أن يقع لدى القرّاء الاعزاء الموقع الحسن، ويسعدُ إدارة أن تقف دائماً عند ملاحظات قرّائها واقتراحاتهم، بل وإسهاماتهم الكتابية أيضاً.

والله، دائماً، وليّ التوفيق.

كمال جنبلاط

مئوية كمال جنبلاط

الإنسان
والمثقف، والمعلّم
(1917 – 2017)

[su_accordion]

[su_spoiler title=”  مقدمة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نفتتح ملف مئوية مولد كمال جنبلاط (1917-2017)، وقد جعلناه تحت عنوان “اثنتا عشرة باقة ورد في مئوية مولد كمال جنبلاط، الإنسان والمثقّف والمعلّم”.
يسهم في الملف نخبة من الكتّاب عارفي المعّلم، ومن قادري علمه وثقافته، ومقدار ما أضافه للسياسة كما للثقافة في لبنان والعالم العربي في خلال عمره القصير.
وعندنا، وقبل أن نقرأ تحيّات الكتّاب والمثقفين الذين أسهموا في الملف، فلعلّ أهم ما أضافه كمال جنبلاط، وعلى كثير إضافاته التي وسمت بميسمها عصراً بكامله، إنما كان في مجال الأخلاق. فقد رأى جنبلاط إلى الأخلاق باعتبارها في أساس أي عمل نقوم به، وفي أصل كل  غاية نسعى إليها، في السياسة كما في الاجتماع أو الاقتصاد، أو سواها. وفي باب الأخلاق، نتوقف عند ثلاث إشارات بل عناوين كانت حاضرة في عمله الثقافي والإنساني:
1- أولوية الإنسان، فكل عمل بالنسبة له يقدّس أو يُلعن بمقدار
اقترابه أو ابتعاده عن الإنسان؛
2- أولوية الضمير الأخلاقي على كل ما عداه، فباطلٌ عنده، أيّاً
يكن، حين يتعارض مع الضمير، ومستلزمات الضمير؛
3- وأخيراً، أولوية الأدوات والوسائل، وفي أهمية الغايات
والأهداف، بل أكثر. فلا يمكن، عنده، أن تقوم الغايات النبيلة، في السياسة أو في الاجتماع، على وسائل أو أدوات شريرة.
وكمال جنبلاط في ذلك، إنما ينسج على خطى يسوع ابن الناصرة (الفلسطينية العربية)، وتلامذته، وعلى خطى الرسول الأكرم  محمد (ص) وصحابته الأكرمين، وحديثاً على خطى غاندي في الهند، الذي جعل من حياته (المتواضعة الزاهدة المتقشفة) إنجيل حياة للأتقياء والأنقياء جميعاً، على اتساع المسافات؛ ثم جعل من استشهاده على يد أبناء جلدته دفاعاً عن حق الآخر في الوجود والعيش بكرامة والحرية في التعبير أنموذجاً نادر المثال.
يستحيل اختزال موسوعة من عشرة الآف صفحة في بضع صفحات. ويستحيل، بالمنطق نفسه تماماً، اختزال سيرة كمال جنبلاط، الرقم الصعب، بل المثير، في الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية لأكثر من ثلث قرن في مقالتين أو ثلاث أو عشر. ورغم غنى الحياة الوطنية والسياسية لصاحب هذا الملف، ورغم شوق غالبية القرّاء، وبخاصة الأجيال الجديدة لمعرفة أدق تفاصيل الحياة المثيرة تلك، إلا أن   ستحتفل بذكرى مئوية مولد هذا الرجل المعروفي العشيرة، الموحّد المعتقد، العروبي المحتد، الاشتراكي النزعة، الموسوعي الثقافة، والإنسان العظيم أولاً وقبل أي توصيف إضافي، على طريقتها المعروفية التوحيدية الثقافية بما يتناسب واستثنائية المناسبة من جهة، وطبيعة المجلة من جهة ثانية. وعليه تفتح ملف مئوية كمال جنبلاط لتستضيف فيه شهادات من مثقفين كبار رافقوا وعاصروا الرجل/الأسطورة (وفق تيموفييف، كاتب سيرته) أو كتبوا ونشروا أعمالاً عدة حول جوانب معينة في شخصية الرجل الاستثنائي أو في سيرته.
وإذ تكتفي  في المناسبة بالجانب الفكري والثقافي من كمال جنبلاط، فهي إنما تكون وفية لتراث الرجل الفكري، ولعلاقته الخاصة الحميمة بالكتاب والمكتبات وبالصحافة المكتوبة. كيف لا وكمال جنبلاط الشاب العشريني آخر من يغادر مكتبة السوربون ليلاً رغم شتاء باريس القاسي جداً وذلك في أثناء دراسته في باريس، وظلّ على علاقته الوثيقة جداً وباستمرار بالكتب وبأهل العلم والثقافة. وخطابه الافتتاحي لـ “مؤتمر كتّاب آسيا وإفريقيا” في بيروت، سنة 1971، والذي جعله حول “الحرية”، وثيقة فكرية نادرة تختصر موقفه من الإنسان باعتباره هدفاً مطلقاً، وتمييزه بين الحريات الحقيقية والحريات الواهمة.
نفتتح الملف بالسيرة الفكرية لكمال جنبلاط، في أبرز محطاتها لا أكثر، وطلباً للاختصار.
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا

 

السيرة الفكرية…باختصار شديد
6-12-1917- ولادة كمال جنبلاط في المختارة (الشوف، لبنان)
1921 – اغتيال والده فؤاد جنبلاط
1926 – بدء دراسته في معهد عينطورة، كسروان، لبنان
1936 – النجاح في شهادة البكالوريا، اللبنانية والفرنسية
1937 – النجاح في “شهادة الفلسفة”، والسفر إلى باريس
للدراسة الجامعية.
1938 أيار – نال دبلوم في علم الاجتماع وعلم الأخلاق من السوربون.
1940 – نال إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت
1942 – تعيينه محامياً للدولة اللبنانية
1943 – نائباً في البرلمان بعد وفاة عمّه حكمت جنبلاط
1945 – تأسيسه “نادي القلم”، مع ألبير أديب وكميل بو صوّان وآخرين.
1946 – كمال جنبلاط محاضراً في “الندوة اللبنانية”، “رسالتي كنائب”
1946 – وزيراً للمرة الأولى للاقتصاد والزراعة والشؤون الاجتماعية.
1947 – استقالته من الوزارة احتجاجاً على تزوير انتخابات 1947
1948 – زواجه من مي شكيب أرسلان
1949 – إعلانه مع مثقفين ونقابيين تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”
1951 – بدعوة منه، انعقاد المؤتمر الأول للأحزاب الاشتراكية العربية في بيروت
1951 – زيارته الأولى للهند بدعوة من الحزب الاشتراكي الهندي
1952 – جنبلاط يطرح مشروع “الضمان الصحي” تحت شعار “الدواء للجميع”
9/3/1958 – جنبلاط في دمشق مهنئاً بالوحدة ومقترحاً برنامجاً لها بحضور عبد الناصر
1960 – جنبلاط يقترح مشروع إشراك العمال في أرباح المؤسسات
1960 – جنبلاط يقترح إنشاء حرس وطني للوقوف في وجه الاعتداءات الاسرائيلية وصهر الشباب في “بوتقة وطنية واحدة”.
1960 – وزيراً للتربية الوطنية
1965 – (أيلول) مهرجان بتخنيه (المتن الأعلى) احتجاجاً على عدم تصريف التفّاح
1972 – تشكيل “الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية” وجنبلاط أميناً عاماً لها
1972 – تقليده جائزة لينين للسلام والصداقة بين الشعوب (أرفع وسام سوفيياتي يومذاك)
1973 – جنبلاط يقود شخصياً تظاهرة مزارعي التبغ رفضاً لسياسة الدولة حيالهم
1973 – جنبلاط يشجب توقيف غسان تويني ويدعو لتحرك واسع دفاعاً عن الحريات العامة
13 نيسان 1975 – بدء الحرب اللبنانية “المشؤومة”، وسعيه أكثر من مرة، ومع كل الجهات، لوقف قطار الحرب الأهلية الذي انطلق ولم يتوقف إلا في كانون أول 1976
16 آذار 1977 – جنبلاط شهيداً مظلوماً، دفاعاً عن لبنان والقضية الفلسطينية والتقدّم والحرية.

المؤلفات والأعمال الفكرية المنشورة
(علماً أن عشرات المخطوطات الأخرى وفي عدد من المجالات لم تأخذ طريقها بعد إلى النشر، إضافة إلى أعمال فنية تركها ولم تنشر بعد كذلك).
رغم عمره القصير نسبياً (أقل من ستين سنة)، أدهش كمال جنبلاط معاصريه، ثم قارئيه بعد استشهاده، (الخصوم قبل الحلفاء)، بثقافته الواسعة، والتي استقاها من مصادر دينية (توحيدية، نصرانية وإسلامية)، وما قبل توحيدية (مصرية قديمة، هندوسية، وبوذية)، وفلسفية (يونانية وإسلامية وغربية وماركسية)، ومن دراساته الحقوقية والسياسية الأكاديمية المتخصّصة في السوربون وجامعة القديس يوسف في بيروت، ومن اتصاله المباشر بأهم شخصيات عصره الفكرية والسياسية (المهاتما غاندي، سنغور، تيتو، عبد الناصر، وغيرهم)، إلى صداقته وزمالته وتواصله المستمر بكبار المثقفين اللبنانيين والعرب والعالميين، والتي أثمرت من خلال إبداعه الشخصي المنقطع النظير تراثاً فكرياً مثيراً في وحدته، كما في تنوّعه، وباللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية. وليس أدلّ على ضخامة التراث الفكري الذي أنجزه جنبلاط من مراجعة قصيرة جداً، وبالأرقام، لأهم عناوين التراث ذاك:
الافتتاحيات التي كتبها في الصحافة اللبنانية، عددها 1133
المؤلفات المنشورة وعددها 63
الدراسات والتحقيقات وعددها 464
المحاضرات والندوات وعددها 888
البيانات، التصريحات، المقابلات، وعددها 1270
الخطب وعددها 301
بيانات الرئاسة السنوية وعددها 15
قطع أدبية مختلفة وعددها 107
وثائق وعددها 97
شهادات وعددها 111
مواد تاريخية وعددها 87
حول الحزب والأحزاب الأخرى، وعددها 129
المجموع: 4715 أثراً منشوراً، عدا تلك التي يستمر توثيقها ونشرها وغير المشمولة بهذا الثبت.
هوذا ما صنع في خمس وثلاثين سنة تقريباً الصيت المنقطع النظير لكمال جنبلاط المثقف الموسوعي والفيلسوف، إلى مجاهداته الروحية والتي كرّسته باعتباره “المعلم”، وقبل ذلك وبعده، كمال جنبلاط الإنسان، في أدق معاني الكلمة وما تحمله من محمولات ومضامين: في وهبه أراض كثيرة جداً كان يملكها إلى الفلاحين الذين يعملون فيها، إلى دفاعه عن الحريات في لبنان والعالم العربي، إلى مناصرته حركات التحرر والاستقلال في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى تصدّره شخصياً كلّ نشاط ممكن دفاعاً عن القضية الفلسطينية، إلى حمله نائباً وزيراً ورئيس حزب قضايا الطبقات الوسطى والفقيرة ومطالبها، إلى نقده دون هوادة أخيراً مظاهر التسليع والاستهلاك المفرط في الحضارة الغربية التقنية المهيمنة وما صاحب انتشارها من انحدار في القِيم السائدة، وإعلاء للمادية الفجّة على حساب الروح والأديان، ومن تفلّت أخلاقي غربي أطاح بتماسك العائلة والمجتمع والوطن، بل والإنسانية بعامة.
لهذه الأسباب مجتمعة تبدو الإضاءة، كما قلنا، على سيرة كمال جنبلاط، ومؤلفاته، من خلال شهادات عدد محدود جداً من الكتّاب والمثقفين والسياسيين، ضرورية كيما تبقى شعلة القيم الإنسانية والروحية التي دافع عنها كمال جنبلاط طويلاً مضاءة وعصية على الإلغاء رغم تيارات الهدم والتحريف والتزوير التي انطوت عليها العولمة التجارية الاستهلاكية العنفية الآحادية القطب والمهيمنة على العالم (ومنها بلداننا) منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن. بغياب كمال جنبلاط (سنة 1977) كان عصر من التوازن المعقول ينطوي، ولينفتح الباب أمام عصر جديد ملؤه الفوضى، وانهيار القِيم، وسيطرة التقنية العمياء، وسيطرة الجشع بلا حدود، وانفلات الغرائز كما لم يحدث في أزمنة الوثنيات؛ وباختصار: بغياب الإنسان وعلى حسابه.
ألف شكر للكتّاب ولكلّ الذين أسهموا في هذا الملف، وتحية لروح كمال جنبلاط “الإنسان، والمثقف، والمعلّم” غداة ذكرى مولده.

بيروت، 6 كانون أول، 2017
رئيس تحريرالضحى

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مقابلة صحفية مع معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف
رفيق المرحوم المعلم كمال جنبلاط منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

اثنتا عشرة باقة ورد
اثنتا عشرة باقة ورد

معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف، كنتم شديدي القرب من المعلّم كمال جنبلاط منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، ما الأمر الذي تكشف عنه للمرّة الأولى من شخصية المعلّم كمال جنبلاط؟
كنت في مطلع شبابي، وعلى مقاعد الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، عندما أصبح اسم كمال جنبلاط في بيروت وسائر أنحاء لبنان على كل شفة ولسان. كان ذلك في خريف العام 1952، وكان كمال جنبلاط قد ملأ الدنيا بأخباره: استقال من الحكومة سنة 1947 احتجاجاً على التزوير الذي شاب الإنتخابات النيابية. شنّ حملة شعواء على الفساد السياسي والإداري، والمحسوبية والزبائنية. أسّس حزباً تقدّمياً اشتراكياً بمفاهيم جديدة لأول مرّة في منطقة الشرق الأوسط. شكّل وقاد الجبهة الاشتراكية الوطنية التي أعلنت الثورة البيضاء على نظام الحكم القائم، وتعهّدت في مؤتمر دير القمر بأن تسقط النظام وتقيم على أنقاضه دولة الحداثة على أسس التقدّمية والاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاسبة مرتكبي الفساد في الدولة.
هذه المبادىء وجدت صدى لديّ كشاب يحلم بمستقبل أفضل لجيله ووطنه، وبما أنّ شخصية كمال جنبلاط المميّزة وصدقه وجرأته شهدت له بفرادته بين الزعماء السياسيين، إلى جانب أفكاره الداعية للتطوير والحداثة والعدالة، أثارت إعجابي ورسّخت قناعاتي، فقرّرت الانضمام إلى حزبه، والوقوف إلى جانبه في مسيرته ونضاله، وهكذا، توثقت الرفقة واستمرّت حتى استشهاده في 16 آذار 1977.

كيف بدأ كمال جنبلاط المثقف الاستثنائي في ميثاق الحزب الذي أسّسه مع مثقفين آخرين مثل الشيخ عبد الله العلايلي وآخرين؟
إذا عدنا إلى ميثاق الحزب التقدّمي الاشتراكي، نلاحظ وجود نص وضعه كمال جنبلاط تحت عنوان: “لمحة في تكوين الحزب” جاء فيه: “إنّ الحزب التقدّمي الاشتراكي هو ثمرة تنقيب وبحث مشترك، التمست فيه ملتمسات شتى، بعضها: العلم والخبرة والتمرّس بالواقع الاجتماعي والإنساني الإقليمي والعالمي. فكلّ من المؤسّسين وضع فيه زبدة حياته، وهي مجموعة اختبارات وتجارب، وزبدة تفكيره، وهي مجموعة مستمدات عقلية ومعطيات شخصية، ساكباً فوقها نزعاته الصافية نحو الخير والمحبة والجمال”.
فمن هذا النص وما تلاه من شروحات عن اسم الحزب وتقدّميته، واتجاهات التطوّر نحو الوعي والحرية والتجمُّع البشري، والتكوّر الإنساني، واشتراكية الحزب الإنسانية، يمكن الاستخلاص بسهولة أنّ هذه المضامين هي من صلب أفكار كمال جنبلاط ومواقفه.

ما الجديد الذي أضافه جنبلاط إلى السياسة اللبنانية منذ دخوله الندوة النيابية سنة 1942؟
بداية تصويب زمني، فكمال جنبلاط أصبح نائباً لأول مرة في انتخابات 1943 التي انتخبت المجلس الاستقلالي. وأما عن الجديد الذي أضافه كمال جنبلاط عن النائب ودوره، فكبير جداً: ففي ندوة أولى له في 18 تشرين الثاني 1946، افتتحت بها “مؤسّسة الندوة اللبنانية” محاضراتها، حملت عنوان: “رسالتي كنائب” شرح فيها مفاهيم الديمقراطية وروحها ونزعاتها، وعبّر عما يرجوه ويأمله لوطنه لبنان، وحدّد الدور الذي على النائب القيام به. وختم محاضرته بهذه الكلمات: “نريد للبنان أن يكون مركز تطوّر وتوجيه وهدي في العالم العربي والعالم المشرقي ليصح فينا القول: “إننا هنا في لبنان لا يسيطر علينا إلا حكم القانون”. ويطيب لي أن أنقل عن مؤسّس الندوة اللبنانية الأستاذ ميشال أسمر، هذا التعليق عن المحاضرة: “لقد امتازت هذه المحاضرة، إلى جانب الثقافة الشاملة والدرس العلمي الدقيق، بصوفية كان لها أطيب الوقع في نفوس جميع المحاضرين، فألهبت قلوبهم، فصفقوا طويلاً لنائب جبل لبنان الشاب، واضعين كلّ آمالهم في حركته الإصلاحية وفي رسالته كممثل لأمانيهم الطيبة”. وحرص كمال جنبلاط طيلة مدة نيابته على العمل من أجل المحاسبة ومكافحة الفساد، وتقديم مشاريع الإصلاح من أجل لبنان حديث يسوده حكم القانون وتتحقّق فيه العدالة الاجتماعية والوحدة. ومن أبرز المشاريع التي اقترحها للإصلاح نذكر: إعطاء المرأة حقوقها السياسية وعلى رأسها حق الانتخاب، الزواج المدني الذي اعتبره سبيلاً للخروج من القيد الطائفي، الضمانات الصحية والاجتماعية، نشر التعليم، إلغاء نظام الطائفية السياسية والعمل لتحقيق النظام المدني العلماني في لبنان.

من المعروف أن جنبلاط قام بتوزيع الأراضي التي يملكها في سِبلين والمختارة وسواها على الفلاحين، كيف تجاوب الفلاحون مع هذه الإجراءات؟
رغم أنه سليل عائلة عريقة لعبت ولا تزال تلعب دوراً أساسياً في تاريخ لبنان والمنطقة العربية، نهج كمال جنبلاط في حياته، منذ نعومة أظفاره، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد العام، نهجاً مميزاً، وفريداً من نوعه في لبنان. وقد تأكدت من خلال المواكبة المشتركة، كم كانت حياته بسيطة، وكيف كان يتعامل مع الآخرين تعامل الندّ للندّ، يتقاسم معهم ما يحصل عليه من مال وغذاء وأحياناً كساء. ورغم الممانعة العائلية الحريصة على الإرث العائلي، أصرّ على توزيع قسم من الأراضي التي تملكها العائلة على الفلاحين الذين يعملون فيها. وهذا يعني أن كمال جنبلاط تصرّف كمتمرّد على الوضع، وكمُصلح اجتماعي في منطقة الشوف في الأربعينات من القرن الماضي من خلال وقائع لاقت الاستحسان والترحيب من جمهور المجتمع العاديين نذكر منها:
– تخصيص ريع المطحنة في قصر المختارة لفقراء المختارة ومعوزيها.
– تأسيس ورش عمل لتشغيل العاطلين عن العمل.
– تنظيم تأمين الحبوب لأهل الشوف من فلسطين وحوران، وإعداد مشروع لتحسين زراعة الحبوب في الشوف.
– توزيع مائة هكتار على فلاحي قرية سِبلين مثلاً، بموجب عقود بيع قانونية مقابل ليرة لبنانية واحدة لكلّ قطعة أرض من مالكها الجديد.
وفيما بعد، توسعت مشاريعه الإصلاحية لتشمل كل لبنان نظاماً وإدارة وقضاء وتربية ومجتمعاً.

معروف أن كمال جنبلاط هو محامي الحريات في النظام السياسي اللبناني، حتى عن خصومه، كما في حالة أنطون سعادة، هل هي نتاج جنبلاط المثقف الغربي، إلى حد ما، بخلاف العقل الشرقي الاستبدادي؟
فعلاً كان كمال جنبلاط محامي الحريّات التي كان ينتهكها النظام السياسي القائم في لبنان. وكان يمارس هذا الدور بقطع النظر عن الأشخاص وأفكارهم وانتماءاتهم. وأصدق برهان على ذلك أنه الوحيد الذي انتقد الأحكام الظالمة بحق أنطون سعادة، وأعلن أنه بموقفه من هذه القضية إنما يدافع عن معتقده الإنساني في الفكر وفي الحياة. أعتقد أنّ كمال جنبلاط اكتسب هذه المعتقدات من قراءاته وصداقاته التي نسجها في باريس مع مفكّرين تقدّميين متنورين، تلاقت أفكارهم مع ما كان يرسم في فكره حول إنسانية الإنسان.

شكّلت الديمقراطية لجنبلاط محوراً مركزياً في نضاله السياسي وفي إرثه الثقافي، لكنه كان ينتقد نمط الديمقراطية الغربية، أو ما يُسمّى بدور النخب هل هو أمر جديد أيضاً وإضافة أصيلة إلى نظرية الديمقراطية؟
من المؤكد أنّ كمال جنبلاط، بما تكوّن لديه من رؤية مستقبلية للأنظمة، استخلص مفاهيم جديدة للديمقراطية وكيفية ممارستها. عبّر عنها منذ العام 1945، في محاضرة له حول الديمقراطية الجديدة التي قال عنها: “إنها تتكامل، وتصبح فعلاً في خدمة الإنسان والمجتمع، عندما تستكمل الديمقراطية السياسية بديمقراطية اقتصادية وديمقراطية اجتماعية. وكان رأيه المميّز أنّ “النظام” أي نظام يحمد أو ينتقد بمقدار ما يحقّقه من كفايات للإنسان والمجتمع”.

وأما عن النخبة وعلاقتها بالديمقراطية وممارستها، فأذكر أن كمال جنبلاط هو الذي قال عنها، في مقالة له بتاريخ 21/3/1975 ما يلي: :يحدّد كثيرون في الغرب أن الديمقراطية السياسية هي حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب، ويتوهمون أنّ وسيلة الانتخابات كلّ عدة سنوات تكفي لترسيخ مفاعيل هذه المقولة. ولكن التجارب في الغرب أثبتت أنّ هكذا نظام لا يوصل إلى سدّة الأحكام وإلى المجالس التمثيلية إلا مَن هم في صف الوسط من النباهة والمعرفة والخلق وأحياناً حتى البلهاء. والسبب أنّ هذا النهج مغاير لشرعة الطبيعة والتطور التي تنزع دوماً إلى بقاء الأفضل وإلى فرز الأقوى في قدرته على التكيّف، وإلى تجلية العقل في مرقى ظهوره وهيمنته التدريجية من مستوى المادة إلى منطلق الإنسان، وهذه الشرعة تتلخّص بأن تحكمنا النخبة وبأن نتمكّن من جعل المجتمع يفرز هذه النخبة يستعلي بها فوق رقابة وعادية تفكيره وتصوره. الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم الشعب بواسطة النخبة لمصلحة الشعب الحقيقية”.

هل من شيء آخر ترغب بإضافته؟
بالطبع، هناك ما أضيفه، فبمناسبة مرور مائة عام على ولادته وأربعين عاماً على استشهاده، أقول لكمال جنبلاط حيث هو في عليائه، إنه حاضر دائماً في فكري ونهجي في الحياة، وسوف أبقى وفياً لفكره ورسالته ما حييت، ولهذا الهدف كانت “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط” في سعيها للسير على خطى المعلّم، والعمل على إيصال فكره والإضاءة على سيرته ومسيرته النضالية المميّزة للأجيال الشابة لتغرف من مناهل فكره وإصلاحاته في نضالها، من أجل غدٍ أفضل ومجتمعٍ أرقى وأكثر عدالة إنسانية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  في مئويته
كمال جنبلاط… سرمدية الإيمان بالإنسان
النائب السابق أ. فيصل الصايغ
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

في حضرة الغائب- الحاضر الكبير، لم يعد مجدياً طرح السؤال بالصيغة المعهودة: لماذا استشهد كمال جنبلاط؟ وإنما الباقي دائماً هو أن نضع السؤال بالصيغة التالية: لماذا وُلد كمال جنبلاط؟

تلك الومضة من سادس يومٍ في كانون الأول من العام 1917، أذّنت بولادة إنسانٍ قُدّر له أن يحمل في فكره ووعيه وروحه وأحلامه وشِعره وتنسُّكه ونضاله هموم أخيه الإنسان، في كلّ زمانٍ ومكان، وأن ينذر حياته وكل ما امتلك فيها للارتقاء بذلك المخلوق الإنساني في داخله أولاً، لتحرير ذاته من مغريات الدنيا – وما أكثرها لمَن كان مثله – منطلقاً بالتالي إلى تحرير الإنسان في كلّ أصقاع العالم، متجاوزاً الحدود بمختلف أشكالها، الطائفية والطبقية والمناطقية والجغرافية، مصوّباً نحو تحقيق هدفه الأسمى، ألا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية لكلّ الناس الذين تجمعهم الحياة فوق هذه الأرض، وهو القائل “الحبّ الإنساني الشامل يجعل الإنسان يتجلّى في كلّ إنسان”، فعاش عمره وخاض معترك السياسة وغمار الحياة مهجوساً به، وملتزماً السعي الحثيث إلى تحقيقه.
هذه النزعة الإنسانية-الفلسفية اتخذت عند كمال جنبلاط أكثر من تشكيلٍ، تبعاً لمراحل حياته ونضجه وترقّيه في مدارج العمر، وغَرْفِه من خوابي الفكر الإنساني العالمي، واطلاعه على تجارب الحكم ونماذجه في شتى أنحاء الأرض، وغوصه في تقييم جيّدها من سيئها، فرأيناه متنسكاً توحيدياً زاهداً، وكاتباً ومفكراً وشاعراً، كما رأيناه سياسياً وطليعياً قائداً، مؤسّساً حزباً رأى فيه الوسيلة العملانية لترجمة أحلامه وما يؤمن به، وهذا ما تجسّد في تشكيلة الرعيل الأول من المؤسسين، حيث اجتمع كبار المشهود لهم بالعلم والعمل، والديمقراطيون والمؤمنون بجوهر الإيمان، والمثقفون والصحافيون والتغييريون، من شتى المشارب الروحية والمدارس الفكرية، ليلتفوا حوله ويلتقوا وإياه بأبناء الطبقة الكادحة، من فلاحين وعمّال وأجراء وأناس بسطاء، شكلوا طليعة الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي حرص في ترسيم مبادئه على مقاربة جوهر الإنسان الذي هو الغاية الأسمى عنده، وتكريسه المبتدى والمنتهى، وهو القائل “الانتصار هو انتصار النفس القوية الجميلة فينا، انتصار الإنسانية فينا، انتصار التطور على الرجعية، انتصار الحياة”… كما رأيناه منتفضاً على النظام الطائفي الحارم غالبية أبناء لبنان من مواطنتهم الحقّة، ورأيناه لاحقاً يتصدى لمسؤولية قيادة الحركة الوطنية، بأحزابها اليسارية العقائدية، جامعاً في ذلك بين همّين عنده: الأول والدائم هو انتصاره للقضية الفلسطينية، ومؤازرتها في مجابهة مشاريع التهويد ومحو حقّ الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، والثاني هو النأي بالصراع الذي فرضته الحرب على لبنان من كونه صراعاً طائفياً أو مذهبياً، إلى كونه صراعاً بين معسكرين ومشروعين، بين يسار ويمين، بين رجعية وتقدّم، بين مشروع تفتيت وانعزال، ومشروع وطنٍ عربيّ موحّد، بين قمع الحريات وفضاء الديمقراطية، ولا ريب في أن يكون هذا أحد الدوافع وراء الاستعجال باغتياله.

بعد مئة عام انقضت على ولادته، وأربعة عقــودٍ على استشهاده، يستمرّ كمــال جنبلاط معلّماً ملهماً ومرشداً دائماً، وهامةً فكرية عربية عالمية استثنائية، ورمزاً لسمو الجهـاد في السياسة والنضال والعلم والفكــر والإنسان، كما يستمرّ إرثه الأكبر في ما رسمه للأجيال والمستقبل في كلّ العالم من دروبٍ مضيئة تودي بمن يسلكها إلى رحاب المعرفة والانفتاح والسلم والإيمان، وفي ما تركه للبشرية من إبداعاتٍ فكـرية استبقت عصرها وتخطت المكان والزمان، مكرّساً في مسلكه وشخصيته وصدقه وثورته وأسلوبه، سعيه الأزليّ إلى عقلنة الإنسان وتحريره من التقوقع والتخلف ومن أسر التعصب والانقسام، وترسيخ الديمرقراطية والرأي الحــرّ المنفتح على رحــاب الحــرية التي اعتبــرها الحجــر الأساس في كلّ تطــور اجتمــاعي واعٍ ومسؤول، وليس أدلّ على ما نستمر نعاني منه في غيابه أكثر من قوله “نحلم بالمسؤول الفريد الذي يتجرأ على توقيف كلّ لبناني يقوم بدعايةٍ طائفية”!!
كما أنه- في غمرة انغماسه بالصراعات الفكرية والإنسانية الكبرى- لم يغفل أن يولي وطنه الصغير العناية والاهتمام، وأن يقدّم نماذج في محاربة الفساد والمفسدين، وفي ترسيم كيف ينبغي لأهل الحكم أن يكونوا في خدمة الشعب، وليس العكس، وفي الانتفاضة على السجون التي تأسر الإنسان في العالم عموماً، وفي الوطن العربي خصوصاً وهو الذي لم يتردّد في اختيار الموت بحرّية، على طريقة سقراط لدى الاغريق أو غاندي في الهند وغيرهما، قدّموا جميعاً، كما كمال جنبلاط، أرواحهم قرابين وشهادة للحياة والكرامة الإنسانية ومشاعل هداية على طريق الحقيقة والحق والخلاص.
كمال جنبلاط الاستثنائي، التقدّميّ الطليعي، الدمقراطي الحرّ، سابق عصره بفكره ورؤاه وأخلاقه يستمرّ لنا القدوة في كيف ينبغي للنضال أن يكون، وكيف ينبغي أن نضع نصب أعيننا كرامة الإنسان وحقه بالحياة الحرّة الكريمة… والوفاء له يكون بخير العمل على تحقيق ما عاش حياته وكرّس فكره ونضاله وعمق شخصيته وفلسفته له، وقدّم حياته على مذبح الإيمان به: الشعب الحرّ في الوطن السعيد.

كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات
كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” في مئويتك،
تحية…
الأستاذ رامي الريس
رئيس تحرير الأنباء الإلكترونية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف
الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف

في كل مرة أمسك فيها قلمي لأكتب عن كمال جنبلاط، أتهيّب الموقف.
فالرجل الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف شكّل، في تاريخ لبنان المعاصر، علامة فارقة في السياسة والاقتصاد، في الفكر والفلسفة، في العلم والمعرفة.

والأصعب أن ما كُتب عن كمال جنبلاط كثير ووفير، ومع ذلك لا تزال شخصية ودور ومسيرة المعلم ومؤلفاته تستحق القراءة تلو القراءة، وفي كل قراءة، تكتشف الأبعاد الجديدة من علمه الواسع.
سنة 2017 حملت ذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاده، وقد توجّ محبو المعلم وفاءهم له في يوم تاريخي في المختارة (19 آذار) شهد تقاطر الآلاف من اللبنانيين من مختلف المناطق حاملين رايات الولاء، ولبسوا كوفية فلسطين… الوصية والهوية والقضية.

كما أن سنة 2017 هي ذكرى مئوية الولادة، فكانت الرمزية السنوية بوضع زهرة على الضريح أبلغ من عشرات الخطب والمقالات. إنها الرمزية التي يمكن من خلالها الوقوف للحظة للتأمل والتفكير بكمال جنبلاط القائد والشهيد.

ولكن كمال جنبلاط الذي أكد على إعادة الأخلاق إلى السياسة والسياسة إلى الأخلاق يُفتقد اليوم بشكلٍ عميق. فالسياسة والأخلاق في عالمنا الراهن أصبحا على طرفي نقيض وهو ما يفسر الكثير من الظواهر الغربية التي فرضت نفسها على مجتمعاتنا، من الإرهاب والمخدرات والدعارة فضلاً عن ما سمّي بالثورة التكنولوجية، التي تبقى رغم إيجابياتها، تُشكّل منعطفاً كبيراً في طبيعة العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
مع كمال جنبلاط إلى الأصالة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى العدالة الاجتماعية، إلى الحرية، إلى الكرامة الإنسانية.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الوعي، إلى المسؤولية الوطنية، إلى العروبة المتحرّرة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الديمقراطية، والمساواة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى ذواتنا التي تنجرف أحياناً في رمال ومستنقعات اليوميات الممّلة، إلى الصفاء خروجاً من الاضطراب، وإلى الهدوء هرباً من الضوضاء.
في مئويتك، تحية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
مدخل إلى المكوِّنات الثقافيَّة الأولى
غسان الحلبي
مستشار مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

دخل “البيك النّضِر” مدرسة عينطورة وهو في بدايات السنة التاسعة من عمره. كان قد تلقّى تعليماً خاصّاً في دار المختارة التي كانت في رعاية والدته “الستّ نظيرة”، السيِّدة المَهيبة التي استطاعت، بحنكةٍ فريدة ووقار مشهود، أن تحمل حِمل رجال كبار بعد أن اغتيل زوجها فؤاد تاركاً في عهدتها طفليهما، “كمال” ذا الأربع سنوات وأخته “ليندا”، وبالطبع، مسؤوليَّة جسيمة كبرى هي ولاية شؤون دار يسكن فيها التاريخ، ماضياً وحاضراً، فرداً من أفراد العائلة.
إنَّ طبائع المكان، بأرضه وناسه، بتقاليده وأسراره، بذاكرته الذاخرة بالأحداث الجسام والشخصيَّات التي لا تخلو المرويَّات عن بعضها من بُعدٍ شبه أسطوريّ، وبحاضره المظلَّل من جهةٍ بمأساة، ومن جهةٍ ثانية بإرادةٍ من “روح الفولاذ” هي إرادةُ سيِّدةٍ عرفت عطف الأمومة، وحكمة التصرُّف، وهيبة الحضور بحيث لم تخْلُ سدَّة الزعامة، بتدبيرها، من فعاليَّة القيادة التي ارتقت بأدائها إلى مستوى تاريخيّ تذكرهُ الأجيال؛ كلُّ هذا، لا شكّ، انغرس في روح “الصبيّ” وشكَّل مكوِّنات وعي تكاد تكون “فطريَّة” فيه، لأنّ الكثير منها بقي من “الثوابت” لديه عبر حياةٍ فائضة بالمتغيِّرات.
كان اليسوعيّون قد أسّسوا إرسالية القدّيس يوسف في عينطورة عام 1657 “في جوف وادٍ صغير عند أسفل غابة صنوبريَّة” على ارتفاع سبعمئة متر عن سطح البحر. وفي العام 1834 تسلَّم الدير الآباء اللعازاريّون بعد تفاقم المشاكل بين اليسوعيين ومرجعيّاتهم في الخارج. وما لبث مريدو القديس فنسان دو بول أن حوَّلوا المقرّ إلى معهد تربويّ بناء على إلحاح الموفد الرسولي.
كان للعازاريّين قناعة وطيدة بالتربية التي يُبنى بها الإنسان، وهي قناعة وليدة من السلوك الذي انتهجه مؤسّس جمعيَّتهم التبشيريَّة “دو بول” المذكور (1581 – 1660). وترسَّخت قواعد النظام التربويّ في معهدهم في لبنان حين تولَّى إدارته الأب ألفونس سالييج، حيث حصل تطوُّر كبير في بنائه وأنظمته برعاية فرنسا ودعمها بحيث اكتسب سمعة عالية باعتباره صرحاً مساهِماً بقيام “نهضة حقيقيَّة في جبل لبنان” ولُقِّب بـ “أمّ المدارس”. (الكثير من أخباره في مذكرات نخب من القادة والمسؤولين ورجال الفكر والأدب).
حين دخل كمال المعهدَ تلميذاً في بداية العام الدراسي 1926، كان بإدارة الأب إرنست سارلوت ذي الشخصية القويَّة الهادئة “بهيبة متورّع، وحضور عالِم ونظرة فيلسوف” يردِّد أمام تلاميذه قولاً لفيرجيل يحثّهم به على الاستغراق الجاد في العمل: “Labor Omnia vincint improbus” ويعني: “العمل الشاق يتغلَّب على كلِّ شيء”، ومُسدياً إليهم على الدوام نصائح في غاية من “العِلم والذكاء والإدراك”.
يذكر “تيموفييف” أجواء المعهد الخاضعة لنظام “ثابت تسيرُ عليه دائماً وأبداً… من نهوض باكر في الخامسة صباحاً، إلى صلاة الصبح والتزام اللغة الفرنسيَّة حتّى فترة ما بعد الظهر المخصَّصة للعربيَّة، وفترة المساء للإنجليزية حتَّى صلاة الغروب.” وهو “نظام يومي صارم يتطلَّبُ حدّاً أقصى من التركيز والانضباط”. بالطبع، ما لبثت روحُ كمال أن أنست، لاحقاً، هدوء المكان، وواجبات الالتزام بالدرس والتحصيل، وبالتأمُّل وتلمُّس آفاق المعرفة. وكان المنهج التعليمي مرتبطاً بالبرامج الفرنسيَّة المتقدّمة، وزاخراً بمواد مكثّفة.
من المؤثِّرات العميقة التي يمكن أن تُعزى إلى الأب سارلوت هو دأبه على أن “يغرس في نفوس تلاميذه موقفاً أخلاقياً من العمل”، ومقاربته البالغة الأهميَّة في ضرورة تحقيق “التوفيق الأمثل بين المواد الطبيعيَّة (العلوم البحتة من خلال التطبيقات المختبريَّة)، وبين المواد الإنسانيَّة. وإيماناً منه بأهميَّة هذه المعادلة سعى إلى افتتاح “مختبرات ممتازة التجهيز في المدرسة لإجراء التجارب الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، وأيضاً إيجاد متحف للعلوم…”.
“وجد كمال في هذا الجوّ مرتعاً خصباً جعله لا يكتفي بما يحصل عليه من دروس بل يكبّ على المطالعة كلما وجد متّسعاً من الوقت… حتى غدت شغفاً يلازمه مدى الحياة ويغني مفرداته، ويوسع أفقه، ويعلّمه التفكير والتأمّل والتحليل والمقارنة… وتكوّنت آنذاك الملامح العامَّة لشخصيته وطباعه والتي ميَّزته عن الآخَرين مدى العمر” (تيموفييف). وقبل الوصول إلى المرحلة الجامعية، كان “الشاب الموهوب يعيش حياة فكرية وروحيَّة في منتهى التعقيد والكثافة.”
كان لمقاربة كمال الشاب نحو المعرفة طابع الشمول المتدرِّج، وكان سرُّها أنّه لم يكن في ذاته العميقة ساعياً في استثمار العِلم لغايات المصلحة وإنَّما في شغفِ البحث عن الحقيقة. وإن كانت المراحل الأولى في تعليمه تميَّزت بالتنوُّع العريض في مواضيع المطالعة والنشاط العملي، فقد برزت، في المرحلة الأخيرة له في عينطورة، اتّجاهات نحو التعمُّق في حقول بعينها انجذاباً لما في طبائعه من ميولٍ نحو الإبحار في الآفاق البعيدة. ويُذكر في سيرته أنه أبدى “اهتماماً معمَّقاً بتاريخ المسيحيَّة… وأنه درس بعمق مؤلّفات القديس فنسنت دي بول…” التي كان لها أعمق “الأثر في نفسه وكذلك رعايته للفقراء والمساكين والأحداث…”. ولا شكَّ أنه قرأ أيضاً بالفرنسية كتاب “فضائل القديس فنسنت ومذهبه الروحي” الذي قال فيه مطران باريس إنه يعبِّرُ “عن الرُّوح الحقيقيَّة للمسيحيَّة”. والكتاب إبحارٌ في معنى الحبّ الإلهي لدى دو بول، وحضوره الحيّ في الوجود… وصولاً إلى جوهريَّة السجايا الإنسانيَّة في التواضع والطاعة والحكمة والعدل والتعفُّف والانعتاق من كلِّ تعلُّقٍ دنيويّ بزخاريف الدنيا.
(كتاب L»Abbé Maynard).
في العام الدراسي 1935 (كان كمال قد بلغ الثامنة عشرة من عمره)، قدم إلى عينطورة الأب دالميه Dalmais معلّماً للفلسفة. عُرف عنه بعد ذلك تأثّره وإخلاصه لتعليم الراهب واللاهوتي البيزنطي القدّيس “مكسيم المعترف”، الأمر الذي قاده إلى التعمّق بعلم تأويل الأسرار (mystagogie) عن طريق الفهم العميق لطقوس القربان المقدّس (Liturgie). ووجد دالميه أنه من الضروريّ تعميق مفهوم الأسرار ومقابلها الآرامي عبر مساءلة اليونان القديم وفقاً لانعكاس ذلك في إرث الأوّلين (كتاب Kalongisa Munina). ويعلمُ الله وحده ماهية المدى البعيد الذي ذهبت فيه العلاقة الفكرية والروحية-المعرفية بين الشابّيْن: الأستاذ وتلميذه الفريد (كان دالميه في الثانية والعشرين)، خصوصاً في اللاهوت المسيحي بدلالة أنَّ دالميه دعا كمال مباشرة إلى اعتناق العقيدة المسيحيَّة، وردَّ جنبلاط معتذراً حيث سيتبيَّن لاحقاً إيغال فكره في جدليَّةٍ خصبةٍ لا يمكن معها الرسوّ فوق الشاطىء، وإنَّما هي تدفعُ به على الدوام، وبقوَّةٍ لا تهدأ نحو أعالي بحار المعارف شوقاً إلى تلمُّس حقائق الأشياء في حضورها الحي الدينامي وليس السكونيّ وحسب.
كان حاضراً في عقل كمال آنذاك، عبر قراءاته، ما كان يحاولُ فعله أحد الآباء اليسوعيّين من الذين وحَّدوا في الرؤية اللاهوتيَّة بين الإيمان والعِلم البحت، ومن الذين قاربوا المسيحيَّة مقاربة غير تقليديَّة إلى حدّ منعه عن التعليم، هو الراهب وعالِم الإحاثة والمتحجّرات بيار تيار دو شاردان. وكان حاضراً أيضاً غاندي وتعليمه بأنَّ “الحقيقة الأولى هي أن الحبَّ هو نقطة الدائرة ومحورها في آن واحد. فكيف تتلاقى وتتجاذب ذرات المادة، وتترفّع وتتوالى في تراكيبها، وكيف تتآلف الخلايا الحيَّة في النبات والحيوان وفي الإنسان، وكيف يتوافر ارتباط العلاقات في المجتمع، إذا كان الحبّ غائباً عنها.” فالحبّ هو “طاقة كونيَّة شاملة لحركة التكوين” (من محاضرة عن غاندي لكمال جنبلاط).

يتوجَّبُ أن يُفهمَ الحبّ هنا من حيث هو إيمان عميق بالوحدة التي هي سرّ الوجود، ومن حيث هو الطاقة الحيَّة في الكائنات جميعها. وليس الأديان وحدها رسائل للتعبير عن هذه الوحدة، بل هو الوجود بكلّ عظمتة من المجرَّات إلى ذرة التراب. كان هذا أمراً طاغياً على عمل دو شاردان في صحارى الصّين وغيرها، وعلى عمل غاندي في مقاربته السياسيَّة غير المألوفة لأنها ترتكزُ على بساطة الحقيقة الإنسانيَّة وأصالتها وصلتها “بالطبيعة الأحديَّة التي لا اثنينية فيها على الإطلاق”. وقد ذهب بعد ذلك كمال، بحكم الظرف القاهر، إلى باريس لدراسة الحقوق في حين كان يحلمُ بأن يكون طبيباً يخدم الفقراء في إفريقيا. لكن أبواب المعرفة ظلَّت، بالطبع، مفتوحة أمامه، فتعمَّق في فهم باسكال (العلم والترهّب والفكر الذي هو ميزتنا الكلية)، وبرغسون (الحقيقة بالحدس)، وكثرة من كبار المفكّرين. وتردَّد هناك إلى روجيه غوديل المشغوف باليونان وأفلاطون خصوصاً، وبالهند. وهذه علاقة معرفية قادته إلى كريشنا مينون ومن ثمَّ لاحقاً إلى رحلات إلى بلادٍ (الهند) يؤمن حكماؤها بأنَّ الطاقة الكونيَّة هي الوعي المطلق، وبأن التطوُّر الإنساني الحق مرتبط بهذه الغاية. وبأنَّ التقدُّم، في ذات الفرد وفي صيرورة المجتمع (التقدمية)، هو بالسعي والنضال من أجل تحقيق غايات مثلى صوناً للإنسانيَّة من السقوط في هاوية الجهل والتقاتل وصراع الحضارات.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  نِعـمَ الكتـابُ،
تعـدَّى الحرفَ كاتبُـه الشيخ د.
سامي أبي المنى
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

هو الزعيمُ الكبيرُ، اللهُ واهبُهُ
تقدُّميٌّ، أبيٌّ، قائدٌ، عَلَمٌ
للِّدينِ، للحقِّ، للإنسانِ، ثورتُه
بساعِدِ الجِدِّ أثرى الأرضَ مِعوَلُه
وريشةُ الفكرِ أهدت للملا كتباً
قد كان يَخشى على الإنسانِ من زمنٍ
وأصبحَ المرءُ رقماً فيه مُحتَقَراً
وسطوةُ المالِ والأعمالِ ضاربةٌ
والشرُّ يهدُمُ ما في الكونِ من نُظُمٍ
هذا الكمالُ ارتقى نحو الكمالِ وفيفراحَ يُبحرُ نحو الحقِّ مُنشغِلاً
يتوقُ عيشاً صُراحاً حيثُ يَسكُنُهُ
يَغفو على لَهَفٍ، يَصحو على شَغَفٍ
يراهُ في كلِّ خَلقِ اللهِ، في نِعَمٍ
يراهُ في بيئةٍ خضراءَ دانيةٍ
صفراءَ راقيةٍ، زرقاءَ ناقيةٍ
وكان صوتاً رقيقاً صارخاً ألماً
لا تعبَثوا بنظامِ الخَلقِ واحترموا
يا ثاقبَ الرأي والرؤيا، لَكَم صدقتْ
يا سابقَ العصرِ، كم أهديتَنا عِظةً
يا ليتَنا ما ربحناها رفاهيةً
يا ليتَنا قد جعلنا العقلَ مُنطَلَقاً
يا ليتَنا ما خسِرنا العيشَ في كنَفِ الـ
ولو أقمنا على عدلٍ توازُنَنا
يا ليتَنا لم نُغادرْ، في تعامُلِنا،
لو لم نُبالغْ ونشطحْ في تَجاهُلِنا
كم نحن نحتاجُ إنسانيةً فُقِدَتْ
كم نحنُ نحتاجُ عُشبَ القمحِ، أنبَتَهُ
نحياهُ ذِكرى سمَتْ نحيا بها مئو
نسمو اعتزازاً بأنْ غُصْنا على دُرَرٍ
منها اكتفينا وعُدنا كي نوزِّعَها
لكنّنا مُذ عَرفنا أنَّه قمرٌ
وسار فينا، وصارَ النُّورُ يَغمُرُنا
نقولُ فيهِ، ومنه القولُ أشرعةٌ
قال المعلِّمُ، حقَّاً قالَ، فانتبهوا

طابتْ منابعُه، طافتْ مواهبُهُ
العلمُ والحِلمُ والتقوى أقاربُهُ
في عالمٍ أدمتِ الدنيا مَخالبُهُ
مُذ راحَ يَكدَحُ كي تَحيا مساكبُهُ
نِعمَ الكتابُ، تعدَّى الحرفَ كاتبُهُ
نامتْ نواطيرُه، قامتْ ثعالبُهُ
وهْو المُكرَّمُ من ربٍّ يُخاطِبُهُ
والعنفُ في الدينِ والدنيا مصائبُهُ
والبيئةُ الأُمُّ تُؤذيها عقاربُهُ
صوامعِ الروحِ والنجوى مآربُهُ
عن السياسةِ، شقَّ الموجَ قاربُهُ
طيفُ الحبيبِ الذي شعَّت كواكبُهُ
والحقُّ في ذا وذا تبدو غرائبُهُ
تَفيضُ دوماً، كما فاضتْ سحائبُهُ
حمراءَ قانيةٍ، فيها ملاعبُهُ
بيضاءَ تَصفو كما تَصفو مشاربُهُ
أنِ احفظوا الكونَ تَحفظْكم مراكبُهُ
سرَّ الوجودِ، فرَبُّ الكونِ واجبُهُ
رؤياكَ، مثلَ نبيٍّ، عزَّ جانبُهُ
والكونُ ينهارُ، والحُمَّى تُصاحبُهُ
وضاع منَّا جمالٌ فرَّ ناهبُهُ
والعقلُ يعقِلُ لو كنَّا نُقاربُهُ
طبيعةِ البِكرِ، إذ رُحنا نُحاربُهُ
وما سكَبنا شراباً ماتَ شاربُهُ
بساطةَ العيشِ، مُذ جُنَّتْ مطالبُهُ
لَمَا شَقِينا وأدمَتنا عواقبُهُ
من عالَمٍ ضلَّ وازدادتْ متاعبُهُ!
لنا المعلِّمُ، كم تُشفي تجاربُهُ!
يـةً وقد حاكتِ النَّجوى عجائبُهُ
في ذلكَ اليمِّ، أغرتنا حقائبُهُ
فما كَفَينا، ومَن فينا يُواكبُهُ؟
به افتُتِنَّا، وأمْسينا نُراقبُهُ
والفكرُ كالعينِ، والإيمانُ حاجِبُهُ
مَنْ يتبَعِ القولَ ما تاهتْ مراكبُهُ
فالحقُّ يُحيي ويَحيا فيه طالبُهُ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” إلى المعلّم الشهيد
كمال جنبلاط
العميد د. محمّد توفيق أبو علي
العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا

آتٍ مع الفجر خلِّ الرّيحَ في صخبِ
بَوْحُ الأقاحي خطاهُ، موعدُ السُّحُبِ
آتٍ غدًا لجفون الشمس يزرعها
نورًا، ويوقظ منها هجْعةَ الهدُبِ
آتٍ، فيا واحةَ العشّاقِ لا تهِني
محبوبُكِ الصَّبُّ لم يهرمْ، ولمْ يغبِ
لكنّه في زمان الوعد محتشدٌ
عند الينابيع، يروي جذوة اللّهبِ
يسقي دَواليَ عشقٍ سُكْرَ خَمْرَتِها
حتّى ترنّح فيها ساكنُ الحَبَبِ
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
خُبزًا يقينا الدّجى في غائلِ السَّغَبِ
معلّمي نُضْرَةُ الحلمِ البهيّ رنا
إليّ أنت إلى وُسْعِ المَدى الرّحِبِ
فكيف يُغْلَقُ دون العين بارقةٌ
وأنت صبوتها نحو المنى النُّجُبِ
وكيف يُغرِق موجُ اليمّ ساريةً
وأنت رائدها… يا نجمة القُطُبِ
القدس يشكو أساها عُقْمُ نَخلَتِنا
هُزَّ الجذوعَ وأرشدنا إلى الرُّطَبِ
والمِحْجَرُ الصَّلْدُ يروي سقمَ دمعتِه
فاشفِ السِّقامَ بوجدٍ منكَ منسكبِ
والمحجرُ الصَّلدُ يشكو حَجْبَ شَكْوتِه
فاهطِلْ بِوجْدِكَ يُمْزَقْ ساترُ الحجبِ
واطلب الى الدمعِ أن يطلق أعنَّتَهُ
رِيًّا لنارِ القِرى في جمرنا الرَّطِبِ
ازرعْ محاجرَنا عَصْفَ الدُّموعِ لظًى
توقًا لقدسٍ تُقِيتُ النور في الشّهبِ
معلّمي، إنْ غفتْ أحلامُنا، ومضتْ
نَثْرَ الهباء، فلا تسألْ عنِ السببِ
مَنْ غيّبوكَ همُ مَنْ يدفنونَ سنًا
يقول: يا وعْدُ عُدْ، واهطلْ على العربِ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط…
المفكر البيئي قبل سبعين سنة
د.عصام الجوهري
رئيس رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تخطّى المعلم كمال جنبلاط منذ العام 1948، وربما قبل ذلك، الموقف السطحي الذي كان سائداً حيال البيئة، فإذا به يضع في “الميثاق” عام 1948، الآتي: “إن من بين التدابير التي يرمي إليها الحزب، المحافظة على العنصر البشري وتنقيته والتخلُّص من بعض الظروف والأحوال الضارة التي أوجدتها المدنية التقنية” (ص. 2) وفي مكان آخر: “القضية الأساسية تهيئة الجو الملائم للكائن البشري ونموه ولتفتح قدراته، وذلك باعتماد الأساليب والعادات الاجتماعية التي تتلاءم مع أغشيته ونفسيته. فيجدر مثلاً تنقية جو المعمل والمحترف وإزالة الصخب والضجيج والجلبة من المدينة وإذا لم يكن من بد، هدم المدن وإعادة تخطيطها وبنائها بشكلٍ يتلاءم أكثر فأكثر مع متطلّبات الفرد وراحته بحيث تتوفّر له المتعة النفسية والجسدية في أجواء فسيحة من الحدائق والغابات، ويجدر تنقية جو الصحافة والملاهي والاحتفالات والاجتماعات الشعبية كي يتوفّر للفرد الاطّلاع على أكبر قسم ممكن من الفنون والعلوم … إلخ” (الميثاق: ص. 21).
هذه المطروحات التي انقضى عليها أكثر من حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمن تتخطّى كلّ ما عداها من خطط واقتراحات بيئية ماضية وحاضرة، من حيث عمقها شمولها لكلّ ما يمس الإنسان جسدا وعقلاً، والإنسان يحتل الصدارة في فكر كمال جنبلاط، والغاية لكلّ ما كتب، ومن هنا أصبحت أفكار الميثاق البيئية برنامجاً بيئياً وسياسياً للمستقبل القريب والبعيد للجمعيات والمؤتمرات والأبحاث المهتمة بهذا الشأن.
شكلت البيئة عند كمال جنبلاط المؤسس مساحة كبيرة في نسيج فكره الشامل والمتنوع. البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني، فأقدم على معالجتها من الجذور وبكلّ ما يرتبط بهذا الوجود من مشاكل تُعيق تطوّر البشري السليم.

كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال
كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال

يتحدّث كمال جنبلاط عن تلوّث السمع: “ومن أدب السماع أن تبتعد عن كل ما يؤدّي من صخب المدينة وضجيج الحضارة، وصرير الآلات، وانفعالات هذه الموسيقى الحديثة التي تقلق النفس وتسبل على سامعيها الاضطراب النفسي والتشويش والتي تخرج عن وتيرة الطبيعة وطبيعة الإنسان” (أدب الحياة، ص. 56).
حذّر جنبلاط من العبث بالطبيعة، وما ينتج عنه من آثار مدمّرة على المسار البشري: “إنسان اليوم، إنسان العالم الحديث الذي أخذ يتدخّل في شرعة التكوين بواسطة بعض الأدوية الزراعية والأدوية البشرية القاتلة للآفات وأضدادها وضوابطها في آن واحد، لا يعلم أي خلل يدخله وأي انحراف يفتعله، وأي إجرام يأتي به ويقضي على هذا التوازن والانسجام في حياة الكائنات وفي وجود الأكوان” (المصدر نفسه ص. 56)، يشغل هذا الموضوع قطاعاً واسعاً من العلماء الزراعيين في معظم البلدان حيث يدري العمل على إنشاء مزارع نموذجة تعتمد على المصادر العضوية في الزراعة ومكافحة الأدوية الزراعية. وهو اتجاه محدّد لزراعات المستقبل؛ كما أصدرت الكثير من الدول قوانين للحذر من استخدام أنواع معينة من الأدوية الزراعية.
أولى جنبلاط اهتمامه للأبحاث والمؤلفات حول البيئة فأقدم على ترجمة بعضها ومن بينها كتاب “نكون أو لا نكون” لـ إيفان روسكي عرّبه وقدّم له: “أنّ على الإنسان أن يحترم نواميس الطبيعة التي تحيط به وتدخل في كل حين في تكوين جسده وفي الأفعال بأعصابه وبحواسه وفي الهيمنة على مارات الأغذية والسوائل في أغشيته على حياة خلاياه وإلا فَقَد الإنسان القدرة على العيش، ضعفت فيه مكنات نجوته وقوى الكيف واختلت احتمالات التوازن الداخلي القائمة على ما يدعمها ويقابلها في البيئة الخارجية فإذا به يُشرف على الانحطاط التدريجي وثم على الهلاك كما حصل لعدد من الأجناس الحيوانية والبشرية السابقة” (“نكون أو لا نكون”، المقدمة ص 80). ويتساءل كمال جنبلاط محذراً: “ماذا؟ البشرية؟ إلى أين تتّجه؟ ماذا سيكون مصيرها؟ يشهد القرن العشرين بأننا نمر في مرحلة من نصف الجنون الجماعي والفردي؟ هل يمكن أن يكون الإنسان في مجرى التطوّر الكوني الشامل يلعب دور كائن فاشل أو نتائج عديمة الفائدة مرشّح للزوال؟ ويجب القول إنّ هذه التصفية تسير بخطى سريعة”. (المصدر السابق نفسه ص 13).
ويستدرك جنبلاط أثر تلوث الهواء في المدن على مصير الإنسان: “للهواء الذي نستنشقه أهمية خاصة فيجب أن يكون نقياً صافياً وليس كهذا الهواء الذي ينتشر فوق المدينة الحديثة، الذي أوضح ضرره وشره على الجسد الدكتور سلمانوف في قوله: إنّ كلّ حركة تنفُّس تدخل الجسم خاصة عند سكان المدن الكبرى يُدخل بضع مليارات من الجراثيم. ففي العودة إلى الحياة الطبيعية ونهجها الوسيلة الحقيقية لضمان الصحة وسلامة الأعضاء وبقاء الكائن البشري على مناعاته وحيويته” (“أدب الحياة”، ص 103).
وفي التعاطي مع الطبيعة الخارجية، يقول في “أدب الحياة”: “إنك لا تستطيع أن تُحرّك زهرة دون أن تهتز إحدى النجوم” (“أدب الحياة”، ص 99).
وعن التلوث يقول: “تلوث الأنهار والبحيرات والسماء بهذا الشكل المتواصل يهدّد بتحويل الأنهر والبحيرات والبحار ذاتها الى أنهر وبحيرات وبحار ميتة، لا يقطنها شيء كما حدث فعلاً لبعض الأنهر ولبعض البحيرات في الولايات المتحدة وفي أوروبا. ويرتقب بعض العلماء أن يصبح مثلاً البحر المتوسط بعد سنوات قليلة مهدّداً بهذا التلوث الشامل وأنّ كوكبنا بأسره مهدد على الأقل إلى فترة طويلة بأن يتحوّل إلى كوكب ميت” (المصدر السابق، ص 106).
لقد أضحى النزول إلى البحر المتوسط والاستحمام فيه أمنية لسكان شواطئه ومخاطرة المغامرين ومصيراً حتمياً للفقراء يُضاف إلى ذلك فعل الصيد في تهشيم الطبيعة، وفي تقتيل الطيور – وكل حيوان وطير يتغذّى من هذا الكائن أو من هذا اللون من الحشرات أو الأعشاب – كائناً أمام مجزرة حقيقة يقوم بها هذا الإنسان المتوحش…

البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني
البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني

(م. ن. 108).
لن نتمكّن بهذه المقالة الإحاطة بكلّ الطروحات البيئية لكمال جنبلاط المعلّم إنما أشرنا إلى بعض الأفكار بغية العودة إليها من جديد قراءةً وبحثاً وتطبيقاً. ولا يسعنا إلا أن نجزم بأنه كان من روّاد البيئة بامتياز، ولم يُهمل المسألة البيئية حتى في أحلك الظروف التي عاشها لبنان، حيث أولت الإدارة المدنية التي أنشأها الحزب في منطقة الجبل أثناء الحرب الأهلية اهتماماً خاصاً في هذا السياق، فهي حرمت قطع الاشجار وصيد الطيور ومنعت رعي الماعز حيث ابتاعت الماعز من أصحابها مقابل أسعار عادلة وودعتها في أماكن مغلقة. كما شجعت التشجير واعتنت بغابات الأرز فمنعت الدخول إليها، وجعلتها مَحميَة عملت على مكافحة الآفات والأمراض المنتشرة فيها، كما نظّم “مكتب الإرشاد والتوجيه” في الجيش الشعبي ندوات ومحاضرات جوّالة في مئات القرى والبلدات حماية للبيئة.
لقد كانت طروحات كمال جنبلاط الحضارية المتقدّمة في الموضوع البيئي سبباً لجعل الحفاظ على البيئة جزءاً من كل بيان وزاري وسبباً للكثير من القوانين البيئية التي صدرت عن المجلس النيابي اللبناني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مئوية العدل الاقتصادي
في ميزان الفكر الإصلاحي
د. وليد أبو خير” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة
أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة

كان اختيار كمال جنبلاط الأول من أيار/مايو من العام 1949 موعداً لإطلاق حزبه إشارة رمزية لموقفه من قضايا العمّال والفلاحين والفقراء عموماً، باعتباره: “…يوماً مباركاً، يوم العمّال والفلاحين والصنّاع ويوم ذكرى التعاسة والبؤس والإرهاق بسبب عدم عدل الإنسان لأخيه…”.
شكّل هذا المنعطف من تاريخ لبنان الحديث، دليلاً واضحاً على أنّ فكر كمال جنبلاط حمل هموم المجتمع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي عندما فصّل وشرح بإسهاب المبادىء والنُّظم التي ترتقي بالبشرية إلى المجتمع الاقتصادي الاشتراكي، خصوصاً وأنّ أدبيات المفكّر جنبلاط قد ارتسمت حول دفاعه عن الطبقات الفقيرة والكادحة.
إن الواقع المعيشي والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد حينذاك، أوقدت مشاعر النبل والمسؤولية لدى كمال جنبلاط، والتي شهدت مرحلة ما قبل تأسيس الحزب وتحديداً ما بين العامين 1943 و 1946 مطالبته الدولة اللبنانية العمل على الحدّ من البطالة ومكافحة جنون غلاء الأسعار، كما ومطالبته إياها تشجيع الصناعات المحلية وإنعاش التجارة والزراعة والصناعة والسياحة. وهو في ذلك، إنما كان يعبّر عن برنامجه للحزب الذي سيولد بعد سنوات قليلة.
تجلّت أدبيات الفكر الاقتصادي عند المفكّر الإصلاحي كمال جنبلاط، من أنه فكر قائم على ثقافة تطوير القوانين الاقتصادية وبحسب تقدّم مراحل التطور التاريخي. ذلك أن أسس الاشتراكية في ميزان فكر جنبلاط إنما بُنيت على ركائز الانفتاح والتطوّر، وبالتالي الارتقاء بها إلى مرحلة العدل الاقتصادي المجتمعي. فمن المُعيب – وبنظر المفكّر جنبلاط – أن ينوجد في المجتمع من هم بحالة من الفقر المدقع فيما هناك آخرون يتمتعون بملذات العيش الرغيد مما قد توارثوه عن أسلافهم من ثروات طائلة، أو من جراء تملّكهم الوسائل الإنتاجية سواء بالصناعة أو التجارة..، والتي تدرّ عليهم الأرباح الخيالية. (نظرية التقدمية الاشتراكية.. إدمون نعيم، ص 36 و37) فالحقوق الاقتصادية التي بنى عليها جنبلاط مبادىء الحزب التقدمي الاشتراكي، إنما تستند إلى مبدأ العدالة المجتمعية، وبالتالي إلى المساواة بين أفراد المجتمع، وذلك بحقّ كل فرد فيه أن يتمتع بنصيب من الثروة توازي متطلبات عيشه بكرامة الإنسان الحر وبما يكفل تطوره ونموه.

ذهب المفكّر كمال جنبلاط بالفكر الاقتصادي للحزب التقدمي الاشتراكي إلى حدود التعبير عنه من كونه وجهة نظر للحياة بأكملها. فهو بذلك جمع في محطات ومفاصل الحياة برمّتها فكراً تندمج فيه مثاقفة كل من الاجتماع والاقتصاد في سبيل تطوّر الحياة المجتمعية على النحو الذي يرقى فيها أبناؤها إلى حياةٍ سعيدة بمعانيها المادّية والمعنوية والنفسية، ليَضحى هذا الفكر فكراً ثورياً يتجه بمناحيه نحو التطوّرية.

وبمرور ذكرى عزيزة على قلوبنا وهي السادس من كانون، ذكرى مئوية هذا المفكّر الإصلاحي، نقف ونقول وبعيداً عمّا نكنّه ونختزنه في نفوسنا من عاطفةٍ دفينة، أنه لا بدّ من العودة وقراءة مؤلفاته وكتبه بغية استحضار آرائه وأفكاره الإصلاحية والتي تؤلّف في مجموعها مواقفه النضالية العتيدة، كما والدعوة إلى الوقوف أمام المحطات الفكرية للمصلح كمال جنبلاط للتقرّب أكثر من فكره ومن نهجه، وإلى التعرّف على نوافذ اشتراكيته الأكثر إنسانية. هذا المنهاج الذي أرسى مدرسة ذهبت في اللاحدودها عبر التاريخ، وتخطّت وقائع الجغرافيا لتضحي تاريخ وطن وأمة.

في الذكرى المئوية للرجل الرجل، نقف بجلالةٍ وإنحناء وفي عقولنا غرسات متجذّرة من الكِبَر بفعل نورانية المنهج الذي تناول فيه الكثير من أمراض العصر في سعيه إلى الإصلاح بكل ما يحمله هذا التعبير من محاججة. هذا المنهج الذي جال بخواطر جنبلاط ليعبّر عن واقع لبنان ومرتجاه في نواحي السياسة والاجتماع والاقتصاد..، مجاهدًا بالفكر والقول والعمل، محاولًا تصويبها لتكون مدارك وأسساً في خدمة مجتمع العمّال والكادحين كما الشباب والمثقفين.
حمل هموم المجتمع في نواحي ترشيد الطبابة، وفي حوكمة الضمانات الاجتماعية وتعميمهما في سعيه لترسيخ صنوّ العدالة الاجتماعية.
حمل هموم ومشكلات الأجيال الطالعة في وضعه معايير رشيدة للثقافة والتعليم، وهموم الناس في تأطير الزراعة والصناعة المحليتَين بأطر ومعاني التقدمية، وفي دمقرطة الضرائب بما تعنيه معاني الاشتراكية وبعدالة شعارها “لكل حسب طاقته” ما يؤسّس إلى تحقيق مبدأ العدل المالي، كما وجعله عاملًا للتوجيه الاقتصادي، وبالتالي أداة استقرار وعدل اجتماعي.
نفح في المجتمع روح ثقافية الشعار “لكل حسب حاجته” في سبيل رشادة الإنتاج والاستهلاك لتوجّسه من أن يضحى مجتمعاً استهلاكياً لا مجتمعاً منتجاً، موقدًا فيه سياسات توجيه الإنتاج التي تهدف إلى تلبية حاجات المجتمع، لا أن يكون الهدف الأساسي من الإنتاج هو زيادة الأرباح ونماء ثقافة الاستهلاك.
في مئوية المفكّر كمال جنبلاط نتوجّه بدعوة صادقة إلى أهل الشأن في لبنان، إلى العودة لتحليل وفلسفة منظومته الفكرية الجامعة لنواحي الاقتصاد والاجتماع وتحويلها إلى موادٍّ علمية تغتني بها المناهج التعليمية، لما تختزنه من إضافاتٍ جديدة تضاف إلى العِلم.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”كمال جنبلاط
وموضوع التربية والتعلّم والمعرفة
د. رياض سليم
أستاذ في الجامعة اللبنانية   ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

غاية العلم هي معرفة الحقيقة
غاية العلم هي معرفة الحقيقة

ذكرى ميلاد كمال جنبلاط، تعني في قاموسنا ولادة المعرفة والنور، وفي هذه المناسبة نقول:
أشرقت كلماته فرحاً، وتعالت موجات الضياء من روحه سعادة، وسطعت الإشعاعات من فكره نوراً، عندما بدأتْ كلماتي تحفر طريقها في صخور الماضي وأمواج الحاضر وآفاق المستقبل. وكأنّي به اليوم يقول: لا يزال فكري يزهر عطاءً، ويموج بيادر خيرٍ، ويعطي ثمرات وعيٍ ومعرفة، مع تلميذ ٍ من تلامذتي، بعد مئة عام على ولادتي.

كم أتمنّى، مع المفكرين والعارفين، أن أحصل على هذه النعمة، وأن تلامس كلماتي بعض إشعاعات فكره العظيم، وأن يسكب حبري الجاف بعضاً من وحيه وهدايته. إشعاعات نور شمسه الجوهرية في محيط فكره الهادر، هي المرجع والمصدر والمنارة، ولستُ في محاولتي هذه سوى قَبَس من نوره، وهو القائل: ومَن ذا الذي يزعم أن شعلة النور تضيق بمَن يعطيها نوراً، بمن يعطيها قَبَسأ يزيد في أنها شعلة.
نغرف من ثروة فكره وتراثه، لنعطي ونبحث ونكتب، لكي نهتدي ونهدي أجيالنا إلى مرجعية كمال جنبلاط، في زمن عزّت فيه المرجعية، وضاعت أو تكاد معالم حضارة شرقية أصيلة، غرف منها المعلّم حتى الارتواء. رسالتنا الاستمرار في الكتابة بحروف نافرة على وجه الزمن، طالما رسالة المعرفة والعارفين: إنّه حبة القمح نغرسها في عقولنا ونفوسنا لتنبت سبع سنبلات ملأى.
الثروة التي تركها لنا كمال جنبلاط كبيرة وثمينة ومتنوعة، في مختلف المجالات والميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والصوفية. ومن الصعب، لا بل المستحيل، أن نتحدّث عنها كلها، لذا سيقتصر حديثنا عن بعض الجوانب العلمية والتربوية عند المعلّم. وخير ما يعبّر عن ذلك كمال جنبلاط نفسه في كتبه ومؤلفاته، وخاصة في الوثيقة المكتوبة بخط يده تحت عنوان: التربية والتعلّم والمعرفة، وممّا جاء فيها: “التربية إنما تعني في نظرنا تفاعل نهجين تربويين: – أحدهما يهدف إلى صقل العقل وتنظيمه وشحنه بالمعلومات اللازمة. في هذا الحقل تنظيم العقل وتدريبه وتفتحه وصهره في اتجاه الانتظام والقَيم هو أهمّ من تعبئته بما يرد في كتب العلم والأدب والفلسفة والتاريخ. – والثاني : يقصد تهذيب العاطفة والتصرّف… والإنسان لا يكتمل – وقلة هم الذين ينعمون طبعاً بهذا الاكتمال – أو بالحري لا يتجه المرء نحو الاكتمال إلاّ إذا وقع الانسجام الباطني والظاهري بين العقل والقلب. إذ أنه لا يستطيع أحد أن يرتفع في سلّم الإنسانية، ولا أن يتحقق في معراج المعرفة الحقيقية وتكوين الفردية الزاخرة بالنشاط وبالاستيعاب وبالقوة وبالحكمة إلا إذا حصل هذا التوافق الأصيل بين عقلانية الفكر وتسلسل عقده وقلاداته وبين اندفاع العاطفة وتوقها وشوقها الملهف نحو الحق والخير والجمال”. (صورة الوثيقة وغيرها من الوثائق موجودة في كتابي: التقاطع المعرفي بين ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط، ص 45).
هذه الوثيقة من أدبيات كمال جنبلاط، وهناك وثائق أخرى ومن بينها وثيقة عن “قضايا التربية والثقافة”. عندما يقول قضايا ومفردها قضية يعني هناك مشكلة بحاجة للحل، لأن، وحسب التعريف العلمي، “القضية بين خصمين، الأمر له أو عليه، وأوجبه وألزمه به. قول القضية يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، الذي يقبل به أهل العلم من القضايا أو المقدمات التي لا تتطلب برهاناً خاصاً”. التعريف يطرح أسئلة تستحق البحث: من هما الخصمان؟ ومن الذي ألزمنا بمنهجية الثقافة والتربية السائدة عندنا؟ هل هو قول صادق أم لا؟ هل القضية لا تتطلب برهاناً خاصاً ليقبل به أهل العلم؟”. هذه الأسئلة وغيرها، وإعلان كمال جنبلاط، في وثيقته، عن وجود قضية لا بل قضايا، يدفعنا للبحث في التربية والثقافة والتعلّم. تعتمد التربية في مرحلة ما قبل سن الرشد (قاعدة الشخصية الأساسية)، لكن عملية التربية دائمة ومستمرة مدى الحياة. قبل سن الرشد المعلّم هو الراشد، أو الأب والأم أو المدرّس في المدرسة، وبعدها الإنسان تلميذ دائم في مدرسة الحياة، حسب مفهوم كمال جنبلاط. التربية والتعليم يسمّيها التربية والتعلّم، لأنّ في التعلّم ما يفوق ويوحي بأكثر من الإسقاط أو ارتهان الصغار من قبل الكبار.

كمال جنبلاط ليس فقط معلم التربية والتعلّم والمعرفة، إنما أيضاً هو معلم الحكمة الرفيعة العالية، كما يقول عنه المستشرق الفرنسي جاك كولون، وكما يقول جنبلاط نفسه “غاية العلم هي معرفة الحقيقة، معرفة الحقيقة الأخيرة للوجود”، إذا تجاوزنا العلم الظاهري ومبتكراته إلى العلم على أنه وليد العقل واستنباط شرائعه ويطلب وحدة الجوهر. وهنا يظهر التمييز بين العلم والمعرفة الحقيقية من خلال طرح جنبلاط “إننا وصلنا إلى ما يسمى “عصر الآلة‘، الآلة التي كان الهدف منها خدمة الإنسان، أي أنها وسيلة والإنسان غاية. لكن في غياب المعرفة الحقيقية والتقهقر في المجال الروحي، أصبحت القاعدة معكوسة، أي الإنسان وسيلة والآلة غاية”.
على العلم أن يتوجّه إلى الإنسان وتحقيق إنسانيته، لأنه، حسب مرجعيتنا، “إذا اقتصر على الوجه التطبيقي فقط يكون خطراً على الإنسان وعلى الجماعة وعلى الحضارة.. وهذا العلم السطحي الخاطىء شرّ من الجهل”. لقد أدرك غاية العلم الأساسية والمعرفة الحقيقية، حيث يقول: “أن نكتشف أي أن نعرف الأصل الذي منه تتفرّع سائر الأغصان والمصدر الذي تعود إليه ومنه تنبثق جميع الأسباب والعلل والمصادر.. العلم يطلب وحدة الجوهر، ويسلك إلى ذلك معارج علوم المادة، ولكن أي جوهر مادي هذا الذي يتبخّر أمامنا ويصبح طاقة لطيفة”.

هذا الحديث المختصر في موضوع التربية والتعلّم والمعرفة يؤكد لنا مرجعية كمال جنبلاط ومعرفته الحقيقية، علّنا نجد طاقة نور تنير أيامنا وتعرُّجاتنا الحاضرة والمستقبلية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خلوة الشاوي
وحي وإلهام – تصوف ويوغا
صبحي الدبيسي  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قد تكون الرحلات المتكررة التي قام بها المعلم كمال جنبلاط إلى الهند، وإعجابه بقدرة المهاتما غاندي على الجمع بين واقعية رجل السياسة المحنك ومثالية المفكر الديني الزاهد. وأسلوب المعلم سري أتمانندا بمقاربته لتفسير سر الوجود بمنطق وحكمة مبسطة. وتقديره مشاركة المثقفين الهنود إلى جانب العمّال والمستخدمين في القطاعات التي يعملون بها بموجب المرسوم الذي أصدره رئيس الوزراء جلال نهرو بعدم تسليم شهادة التخرّج للذين ينهون دراستهم الثانوية إلا بعد عام من العمل التطبيقي في الريف. كانت هي الدافع لاختياره منطقة الشاوي الجبلية الكائنة ضمن خراج بلدة مرستي في أعالي الشوف كي يشيّد فيها صومعته، أو خلوته الشهيرة التي عرفت فيما بعد بـ “خلوة الشاوي” في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. في وقت لم تكن الطريق المعبدة قد وصلت بعد إلى تلك المحلة، ولا إلى القرى المجاورة لها. فقد كان عليه في بداية الأمر أن يمضي ساعتين من الوقت سيراً على الأقدام كي يصل إلى خلوته مصطحباً معه مرافقه الخاص لمساعدته في حمل ما يحتاجه من أمتعة ومستلزمات المدة التي سيمضيها في أحضان الطبيعة، وما تتطلبه من غذاء وكساء وكتب وملفات. من دون أن ينسى قنينة الكاز لإضاءة قنديل النمرة أربعة رفيق سهره وقراءاته وأبحاثه التي لا تنتهي.
المشوار الى الشاوي كان يبدأه المعلم كل نهار خميس عصراً، بعيد وصوله الى المختارة. وكان عليه أن يقطع المسافة من المختارة إلى مرستي سيراً على الأقدام. وفي منتصف الخمسينيات وبعد تعبيد الطريق إلى بعذران أصبحت السيارة تقله من المختارة مروراً بـ عين قني وعماطور فبعذران وصولاً إلى الخريبة، فيترجّل منها هناك ويأمر سائقه بالعودة الى حيث أتى، على أن يوافيه إلى الخريبة مساء يوم الجمعة. ثم يقطع المسافة الى خلوته ممارساً بذلك رياضة المشي التي كان يميل إليها في كل تحركاته. وبقي على هذه الحال الى أن وصلت الطريق إلى مرستي في العام 1957. هذه المسافة التي كان على المعلم أن يقطعها بين أحضان الطبيعة وعلى الدروب الجبلية، زادته تعلقاً بالأرض، وتحسساً بتعب الإنسان البسيط العامل في حقله، يكدح ويشقى لتحصيل قوته وقوت عياله، في الزراعة والحراثة، وفي الحصاد وجني الغلال فانجذب إليه بدافع إنساني قل مثيله، جعله المحور ونقطة الدائرة في أدبياته الفكرية والسياسية. فمن رائحة الزعتر والقصعين والنعناع والياسمين، والورد الجوري، وزهر اللوز والوزال والقندول، وأشجار الصنوبر والشربين التي تملأ الطبيعية وتحيط بخلوته وبستانه المغروس بأشجار الكرز، وكل أنواع الفاكهة. هذه الروائح الطيبة والعطرة لونت أيام المعلم ولياليه، ورسمت لمقلتيه الناعستين اللتين تشعّان ذكاء وفطنة حدوداً لها بين السماء والأرض، مستلهماً من قمم الباروك العظمة والمجد، ومن أرزه الخالد العزة والعنفوان. تلك المناظر الخلابة هي التي منحته الصفاء النفسي والهدوء الطبعي والإنساني، بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها رغم ميله الشديد لها وتوقه الدائم للتغيير من أجل الإنسان، فجعلته أكثر التصاقاً بها لدرجة أنه لم ينقطع عن المجيء الى الشاوي إلاّ في أوقات الضرورة ولدى وجوده خارج البلاد. هذا التناغم الروحي مع الطبيعة، عرف المعلم كيف يوفق بينه وبين السياسة وانشغالاتها طوال الأسبوع. فشكلت الشاوي وما يحيط بها من جبال وتلال ووهاد، بالنسبة له مادتين للعشق السرمدي اللامتناهي، تمثلت الأولى بحبه للأرض التي شوهد أكثر من مرة يتلمس ترابها موزّعاً قسماً من خيراتها على الفقراء والمعوزين. الثانية: حبه للإنسان الذي خصّ له ثورة في عالمه الملموس والمحسوس رافقته حتى الرمق الأخير. ومن دون شك فإن مواظبة المعلم على الحضور إلى الشاوي كانت لها رمزيتها الفريدة التي يمكن استخلاصها من خلال شغفه في ممارسة هواياته من الرياضات الروحية والفلسفية والفكرية المتعددة في هدأة الطبيعة وسكونها، وهذا الأمر لا يتأمن إلا في مكان هادئ مثل الشاوي. فهي كانت تحرره من كل شيء وتفتح لمخيلته آفاقاً جديدة مكّنته من سبر أغوار فلسفات الشعوب قديمها وجديدها.
لدى وصول المعلم الى الشاوي كان يستريح قليلاً قبل أن يبدأ برياضته الروحية التي كان يصرف جزءاً منها بالتأمل لحل ما كان مستعصياً لديه من ترسبات سياسية ومشاكل اجتماعية. وقبل مغيب الشمس صيفاً كان يخرج الى شرفة الخلوة لتناول وجبة العشاء التي كانت بسيطة جداً. فالمعروف عن المعلم كان يأكل فقط لسّد الرمق، وكان نباتياً من الدرجة الأولى. وفي الخريف والشتاء كان يتناول وجباته داخل خلوته. أما غذاؤه الروحي فهو من المخزون الروحي الذي جمعه من الخواص العلمية والفلسفية التي استنبطها من الأديان السماوية فسهلت عليه، كما يقول الشيوخ العقلاء الذي كان يلتقيهم ويأنس إلى حديثهم الولوج إلى معارج الذات الإلهية. فمن هنا كنا نجد ميله إلى الهدوء والروية وعدم الانفعالية بخلاف غيره من السياسيين الذين أتوا من قبله ومن بعده.
مارس المعلم في الشاوي كل أنواع اليوغا الهندية، فصقلت مخيلته الى حدود الصفاء الذهني والفكري. ملزماً نفسه الصوم طيلة نهار الجمعة. وغالباً ما كان يستقبل وفوداً من الحكماء والفلاسفة والمشايخ الضالعين في العلوم الدينية للتباحث معهم في الماورائيات، ونظرتهم الفلسفية لهذا الوجود.
في تنقلاته بين التلال والآكام وصعوده المستمر إلى أعالي الجبال في ساعات الفجر كان المعلم يجمع كل ما يصادفه في طريقه من النباتات التي تصلح لتكون طعاماً أو دواء يشفي من كل داء. وغالباً ما كان يصفها للناس. في إحدى جلساته إلى المائدة وحوله رهط من العلماء زحفت إلى المكان أفعى من نوع الصل، فارتعب منها كل مَن كان حاضراً، فأمرهم بالهدوء وصار يحدّثها ثم قدّم لها قطعة خبز مدهونة باللبنة فالتهمتها كما يلتهم القط الخبز وعادت من حيث أتت. ما يعني أن علاقة المعلم مع البيئة والطبيعة وما عليها معروفة ومشهود له بها.
في خلوة الشاوي كتب المعلم معظم مقالاته السياسية والفكرية والفلسفية والروحية والشعرية. فكما أن المهاتما غاندي قبل وفاته بيوم واحد رمى بكسرة المرآة التي كان يستعين بها لحلاقة ذقنه. فإن المعلم أنهى كتاب هذه وصيتي بجملته الشهيرة “أللهم أشهد إني قد بلّغت” وغادر الشاوي وذهب إلى قَدَره ولعله يراها من عليائه حيث هو..

خلوة الشاوي في مرستي الشوف حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها
خلوة الشاوي في مرستي الشوف
حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” اعتذار من كمال جنبلاط، مكتشفاً
من جديد
يقظان التقي ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كمال جنبلاط من كبار الكتٌاب، وصولاً إلى التأملات اللاهوتية والمقاربات الفلسفية والأدبية والسياسية النقدية.
لا بدّ من الاعتذار من كمال جنبلاط، لأنه شخصية تحتاج دائماً إلى إعادة القراءة وعلى مستويات مختلفة ومتطوّرة. فهو من الذين يمثلون الاتجاهات النيوكلاسيكية وبالنزعة التقديمية، التي لا تجافي الاتجاهات والمدارس الفكرية والفلسفية على اختلافها، سواء التي سادت في القرن العشرين، أو تلك التي تمثل الاتجاهات المادية والروحية والتاريخية.
مع ذلك، كمال جنبلاط أمامنا، شخصية من الواقع، ويعيش فينا في اتجاهات عدّة، ننتظرها أن تأتي من ستينات القرن الماضي، من عمق التجربة، ومع كلّ التعاطف مع شخصيتة، وهو من الكبار. فهو لبناني وعربي وعالمي، “كوسموبوليتكي”، بقِيم العالمية الإنسانية والاشتراكية، مؤمن بالعمق، وممارس للسياسة بدواعي الحرية والكرامة الإنسانية، وحرية الشخص في المضامين الروحية النبيلة للعملية السياسة.
لم يبتعد عنا كثيراً، تبرز رؤاه ورسائله التي نشرها، وتُقرأ اليوم بكامل نضارتها، مباشرة، من دون إقناع أيديولوجي، أو حزبي، ولا “وعظ”، ولا نرجسية سياسية، ولا تصنُّع، وبردّ فعل من الـتأمل، أو النقد؛ لأنها تمثل الجوانب التي يفترض أن تحتل المساحة الحزبية النقدية والفكرية والفلسفية والسياسية واليسارية. ثم هي ليست مجرد وسائل تعبير، بل أكثر من ذلك، هي تمثل الاتجاهات التي سادت قبل استشهاده وتصنع أكثر من مرحلة، وهو الذي دفع ثمن رؤاه الاستراتيجية على مستوى شخصيته، التزاماته، لمعانه، طروحاته، رسائله، ثقته بالمنطق والعقل لدرجة أنه مارس السياسة أحيانا بطريقة لاهوتية!
كمال جنبلاط يضع أمامنا أفكاراً “كبيرة”، أفكار لا تعقيد فيها، ولا مصطلحات جافة، بل حاضنة للاتجاهات الجديدة، وتشكّل رسائل إلى الجيل الجديد، وتصلح مادة بنيوية وتحليلية تفكّك كليشيات ونظريات أيديولوجية تسقط على الواقع، وتفجّر مراحل سياسية مهمة. وتكتشف إبداعية كمال جنبلاط السياسية التي تأتي من القلب إلى القلب، من جبهة أفكار مفتوحة على كل هذا الجديد وبقدرات فكرية تتفوق على سواها، بعكس كثيرين تشوشت عليهم القضايا الكبرى والمآزق التاريخية، وأوضاع الشعوب المقهورة.
رسم كمال جنبلاط عالمه وعالمنا الفكري والسياسي والثقافي المفتوح، والتقدمي في مجمل نزعاته، ويبدو اليوم أكثر من الأمس مبدعاً في كتاباته، ويحتل تلك المساحة المرموقة ومن كبارها.
عمارة فكرية وإنسانية كبرى، كمال جنبلاط، وكم تبدو ضحلة الحياة السياسية في غيابه، لا تخرج عن الأفقية والاستهلاكية. كأنها ديمقراطية السوق!
وكم تبدو واسعة تلك الآفاق التي فتحها لكلّ النقاشات السياسية، نتلّمس في ظلها الطريق. ويبقى لنتاجه قدرة نادرة على التوغل في الضمير الإنساني.
نحتاج لقراءته، وذلك لا يستقيم إلا بقراءة الماضي ومع ثقافة لا تتوقف ولا تنتهي، ولا تنتجها الذات للذات، في عصر النرجسية السياسية، بل تذهب إلى الآخر.
كمال جنبلاط كان يقرأ كثيراً، ويتحوّل الكتاب بين يديه إلى الكتاب “السحري المشع”، إلى كل ما يصنع مسرح الحياة؛ السهل الممتنع؛ وكل ما فيه من أفكار “كبيرة”. ممتعةٌ قراءة نتاج هذا المثقف الظاهرة التي ما تزال تحتل المساحة النقدية والفكرية والسياسية المهمة، خارج منطق العولمة وهو الذي انفتح على كلّ جديد في المسرح السياسي الحديث، والفكر، والبيئة، والأدب، والشعر الحديث.. وبقي مع ذلك خارج الانخراط، لجهة تكريس ثقافة الاستهلاك والسوق على حساب حرّية الإنسان وكرامته وفي مواجهة عودة الأجوبة الماضوية، التي لا تقدّم أفكاراً جديدة، وخارج محاكاة الآخر.
الرجوع إلى كمال جنبلاط مُلِحّ، سيّما في ظل هذا الفراغ الذي هو كلّ شيء إلا السياسة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
«المفكر الديني»
أ.د.محمّد شيّا
عميد سابق في الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يفتتح ماركس رسالته إلى أنجلز بالتساؤل “لماذا يبدو تاريخ الشرق على الدوام تاريخ أديان فحسب؟” (Basic writings, Collins, p. 462). لماذا يستحيل فهم هذا التاريخ خارج الدين والديني؟ ولماذا أخفقت محاولات إقصاء الدين “بالقوة” من ديناميات الحياة الاجتماعية في البلدان الشرقية والمشرقية؟ بل لماذا تحوّلت مجتمعات البلدان تلك الأكثر إقصاء للدين إلى مسرح صارخ لأكثر صور تظهير المشهد الديني والطائفي بشاعة – أي من النقيض إلى النقيض؟ ومن الأمثلة المعاصرة، بل الراهنة جداً ما يكفي، ولا حاجة لتعدادها.
“الشكوى الماركسية” هي في الواقع نتاج منطقي لكل تفسير مادي للوجود والمجتمع والحياة بعامة. والذين أصرّوا من المحدثين العرب على هذا التفسير حكموا على نتائج تحليلاتهم – وكما أثبتت الوقائع الملموسة – بالإغراق في التجريد واللاواقعية، وبهامشية تأثيرهم من ثمة في محيطهم ومجتمعاتهم. لقد أهمل أولئك جذرية “فكرة” الدين، والتسامي الإلهي في العمق الروحي للبشر وفي كل مجتمع دون استثناء، ولطالما أكّد علماء الأنثربولوجيا أن ما من جماعة بشرية على الإطلاق، ومهما تدنّى حجمها، إلا وكان لها “حياتها” الدينية.
لا يعني ما نقوله أن حياة المجتمعات الشرقية هي حياة دينية فحسب. فأفكار البشر ورؤاهم، حتى الدينية، تتنوع بتنوع ظروف حياتهم وأنماط إنتاجهم وطبيعة حاجاتهم وأشكال مصالحهم وعلاقاتهم بالتالي. وعليه، فمستويات الإنسان (والبشرية بعامة) تتدرج، طبيعياً وتاريخياً، من الأدنى إلى الأعلى: من الاكتفاء بمجرد تلبية الحاجات المادية (مستوى الحواس والمادة والجسد) إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والمجتمعية (مستوى الآخر والعائلة والجماعة) وأخيراً إلى تلبية ما هو أكثر من المادة والحواس والآخر المباشر (مستوى المعرفة والتفكير والقيم والشوق والحكمة والفضيلة) أي مستوى الروح و/أو العقل، وفق التحديد الهيجلي، وهما مسرح حركة العقل والدين والفلسفة و”الشوق” الأبدي للخلاص البشري.
هذا هو جوهر فلسفة كمال جنبلاط الدينية. كل “الأجزاء” التي عرضنا لها، هي مجرد لحظات متعاقبة في مسيرة العقل/الروح من أدنى تجلياته المادية والحسية (وهي حقيقية تماماً وبخلاف ما ذهب إليه المثاليون) وصولاً إلى أعلى تجلياته العقلية وأشواقه الروحية على طريق انكشاف العقل/الروح لمريديه وباعتباره الآن عقلاً/روحاً خالصاُ وليس أي شيء أقل من ذلك. ودعْكَ من التفاصيل والتناقضات الظاهرة، فهي مجرد مستويات ولحظات وإشارات في طريق الخلاص الذي استشعره الإنسان (في أولى أشكال حياته) ولا يزال يعبّر عنه وفق مستوى حياته وفهمه وتفكيره وصولاً إلى انعتاقه في نهاية رحلته من ربقة المادة (وربقة الشرّ أيضاً) والتحقق في جوهر العقل/الروح كما هو تماماً، وهي لحظة الحقيقة واليقين الكلي والخير المطلق التي ما انفك الإنسان يطلبها ويسعى إليها في حياته وأفكاره وعلومه وأنماط حضارته، كما في أحاسيسه وأشواقه الأكثر عمقاً وأصالة واشتراكاً بين البشر، والمعبّر عنها – في حدود ما يسمح التعبير – بحكمة الفلاسفة الكبار وتقوى المتدينين وعشق العارفين.
والدين في الحقيقة هو كل ذلك وفي آن معاً – وهو ما أدهش عقل ماركس المادي.
يرى جنبلاط أن الدين للإنسان هو حاجة وضرورة، ولذلك فـ “هو باقٍ ما بقي الإنسان”. وذهب جنبلاط بعيداً في ترجمة ذلك، على نحو ملموس، فاعتبر أنّ الدين إسّ جوهري من أسس المجتمع الشرقي، والإنساني بعامة، “اعتبار الدين إسّاً جوهرياً في قيام المجتمع الأسمى”، وأضاف، “والترحيب بعمل رجاله في نشر مبادئ الكمال الإنساني”. تلك هي الوظيفة الحقيقية للدين، ولرجل الدين، ولا شيء كما تبيّن يباري الدين أو يفوقه في الوظيفة تلك. وليس بالأمر العرضي بالتالي أن يدعو كمال جنبلاط في ميثاق حزبه، كما في محاولاته في أثناء تولّيه وزارة التربية، لتعميم التعليم الديني الموحّد في المدارس الخاصة والعامة. فتلك وسيلة لا بدّ منها لتهذيب وترقية مشاعر الناشئة وتعزيز البذرة الإلهية في نفوسهم وعقولهم وشخصياتهم المستقبلية في وجه التسليع الاستهلاكي التجاري الذي باتت عليه نظرة الحضارة الغربية المادية إلى الإنسان. وهو في رأي جنبلاط مكمن عجز الحضارة الغربية كما الفلسفات الغربية بعامة، يقول جنبلاط في نص من ستينات القرن الماضي:
“لقد تحوّل الغرب عن الأديان وأبدل المعتقدات بالفلسفة – فلسفة هيجل وكانت وفيتشه والتومائي وماركس وغيرهم وغيرهم ممن لا يعدّون ولا يحصون، وفلسفة أنبياء القومية والدولية والوجودية والطبقية على السواء – فإذا بالغرب، وبعد جهد المحاولة وتحقيق الرغبة يتطلّع إلى نفسه فيجد ذاته حيث كان: لم يتقدّم خطوة ولم يتأخر خطوة من وجهة حلّ معضلته الأساسية مع ذاته: معضلة المعرفة، ومعضلة السعادة…” (ثورة في عالم الإنسان، 319-320)
لكن جنبلاط بالمقابل، ومن ناحية مختلفة تماماً، كان يدرك تماماً مخاطر انحراف التديّن، ورجل الدين، عن وظيفتيهما الثابتتين الساميتين، نحو وظائف جديدة فرضتها مصالح وعصبيات وتوظيفات جديدة للدين والديني في سياقات فئوية أو عصبية أو أيديولوجية، أي طائفية بالتعبير السوسيولوجي الراهن، أو في لغة جنبلاط:
“الخطر كل الخطر في الدين إذ ينزل إلى مستوى التجمع الطائفي الطقسي، أي في الحقيقة إلى مستوى التعصّب السياسي، فلا يعودُ ديناً بل حزباً!” (321)
ومن المؤسف حقاً – وإلى درجة المأساة – أن يذهب مشروع كمال جنبلاط نفسه، الاجتماعي الإصلاحي الخلاصي وحتى درجة التسامي، ضحية التجييش الطائفي الذي هو أقرب، في الحقيقة، إلى ثقافة الوثنيين وعصبياتهم ومصالحهم المادية والسياسية منه إلى ثقافة الدين، كل دين، في جوهره وفي حضّه البشر للتخلص من أنانياتهم وفئوياتهم ومصالحهم الصغيرة على طريق وحدتهم الجوهرية واشتراكهم في مطلب الخلاص من أخطائهم وخطاياهم وآثامهم – وأولها عبادتهم للأنا فيهم على حساب وحدتهم وخيرهم الواحد وخلاصهم كأفراد وكبشر. تلك هي مأساة الذين لم يفهموا الدعوة المحمدية، أو الدعوة الناصرية، حق المعرفة، أو الذين فهموهما ولكنهم غلّبوا المصالح الفئوية والآنية المفرّقة على ما يجمّع ويوحّد – جوهر دعوتي الرسول العربي ويسوع الناصري في آن، يقول جنبلاط:
“لنصغِ إلى صوت محمّد في لغة العرب الصافية التي تتجلى بالآيات، على حد تعبير ماسينيون، دائماً وأبداً: من كان له فضل ظهر فليعد به من لا ظهر له، ومن يكن له فضل زاد فليعد به من لا زاد له…، ومن كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، بخامس…. أو قوله: ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع، وهو يعلم….. ومن أروع الأحاديث: إن ما لك ما أكلتَ وأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأبقيت، وما دون ذلك فلغيرك” (153).
ويضيف:
“وهذا صوت الناصري من قبل، يوصي بالعدل والرحمة وبالمحبة التي لا تطلب لها ثواباً أو مقابلاً، يرجم أغنياء الأرض الذين تعلّقوا بالمال كما يربطُ المرء حجر الطاحون في عنقه، ولم يقوموا بما يتوجب عليهم في بناء مجتمع العدالة والأخوّة والتضامن والتعاضد والتكافؤ في فرص العيش والتنمية لكل فرد” (153).
في هذا البُعد الاجتماعي السامي تقوم أهمية الدين واختبارته ووظائفه، وفق كمال جنبلاط. وهي تلتقي كذلك في المعراج المعرفي/الخلاصي الأسمى، حيث التوحيد جذر مشترك وجوهر جامع للنصرانية والإسلام، كما لكلّ مسلك عرفاني. في التوحيد الجامع ذاك نختم هذه المقالة في كمال جنبلاط “المفكّر الديني” إذ يقول، وبكثير من التفاؤل:
“الموحّدون من كلّ أمة ومن كلّ دين أخوة في ما بينهم، أمة روحية واحدة مهما اختلفت العقائد والمذاهب وتباينت المسالك وتعدّدت السلالم والمعارج. هذا هو إنجيل الجيل الجديد، وهذا هو روح العالم الجديد” (12).

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

2018