الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الطّلاق؛ واقعُه وأسبابه وآثاره على المرأة المُطلَّقة في المجتمع الدّرزي

يحاول هذا البحث الوصول إلى الإحاطة بالعوامل والمحدِّدات النفسيّة والاجتماعية الداخلة في انحلال الرابطة الزوجية، فالرّهان المطروح في إطار هذا العمل، هو محاولة الكشف عن الأسباب التي تهدّد استقرار وتماسك الأسرة والوصول إلى انفصال الأفراد الممثلين لكيانها وغياب الجو الأُسري وأثر الطلاق على الصحة النفسية للمرأة، حيث تتداخل الأسباب والعوامل المؤدية إلى انحلال الزواج، فمنها ما هو تابع لجوانب نفسـية واجتماعية، ومنها ما هو مرتبط بجوانب اقتصادية وثقافية. إذ تهدف هذه الدراسة إلى استنباط الأسباب وإدراك العلاقة والتداخل الموجود فيما بينها، ووضع التفسيرات السببيّة عن طريق الوصف والتحليل بالإضافة إلى السعي لوضع تفسير نفسي اجتماعي لظاهرة الطلاق والبحث عن الأسباب الحقيقية بطريقة علمية، والتطلع إلى انعكاسات هذه الظاهرة على الصحّة النفسية لدى أفراد الأسر التي تضرّرت من ظاهرة انحلال الرابطة الزوجية، وخاصة الزوجة المطلقة. ومن أجل ذلك قمنا باستخدام تقنيات التحقيق في الميدان، تمثلت في استمارة لجمع المعلومات، طُبّقت على 30 حالة طلاق تم توزيعها على عيّنة من النساء المطلقات في مختلف القرى والمناطق الدرزية وذلك باستخدام المنهج الوصفي التحليلي الذي يعتني بتمحيص الوقائع وإخضاعها لتفسيرات سببية وإلى المقارنات واختبار صحة الفروض ويركز على إيضاح مكونات الظاهرة المدروسة من حيث جوهرها وخصائصها. وتأتي أهمية هذه الدراسة في الكشف عن المُتغيرات الاجتماعية والثقافية وكذلك الاقتصادية التي عملت على رفع نسب الطلاق في المجتمع الدرزي وقد اخترنا قضاء الشوف(1) كإطار جغرافي للبحث. وفي هذا السياق لا بدّ من البحث عن الإجابة للسؤال التالي: هل من علاقة بين المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على واقع المرأة الدرزية وازدياد نِسَب الطلاق (قضاء الشوف كنموذج)؟ وعليه فإنّ هناك إمكانية كبيرة أن يكون هناك علاقة مباشرة بين (عمل المرأة ومستواها التعليمي وعدد أولادها والدخل الشهري) وازدياد نسب الطّلاق بشكل ملحوظ في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على اعتبار أن الطلاق هو مشكلة اجتماعية تطال تأثيراتها السلبية المجتمع عموماً والمرأة المطلقة خصوصاً وهذا ما سيأتي طرحه بالتفصيل خلال هذا البحث.

أولًا: ارتفاع نسب الطلاق، ناقوس خطر يُنذر العائلات الدرزية بالتفكّك في القرن الواحد والعشرين

بدايةً، استطعنا الحصول على بعض البيانات المتعلّقة بحالات الطّلاق(2) من محكمة الأحوال الشخصية – في بعقلين (قضاء الشوف) وأجرينا بعض المقابلات مع بعض الشخصيات للحصول على معلومات عن موضوع الطلاق في الملحق رقم (4) المرفق بالبحث: وبعد الاطلاع على النتائج تبيّن أن عقود الزواج عام 2000 كانت 541 عقداً في حين كانت أحكام الطلاق 77 حكما ليسجل معدل الطلاق نسبة 14% في العام نفسه في المقابل شهد العقد الثاني من القرن الحدي والعشرين (2010 حتى 2018) انخفاضاً ملحوظاً في عقود الزواج خلال السنوات الثلاث الأخيرة لتصل إلى 437 عقداً في عام 2018 في حين ارتفعت أحكام الطلاق في العام نفسه بشكل ملحوظ وسريع لتصل إلى 132 حكماً وهو رقمٌ مرتفعٌ واستثنائيّ لم يشهد مثله القرن الحادي والعشرين لتصل معدّلات الطلاق إلى 30 %(3) وهو أعلى مستوى لها منذ 20 سنة. ولكن إذا أمعنّا النظر ودقّقنا الفحص في هذه المعادلة التي تقيس معدّل الطلاق نسبة إلى عقود الزواج نجد أن ارتفاع نسب الطلاق بين السنوات (2015 حتى 2018) لا يعود إلى ارتفاع أحكام الطلاق فقط بل إلى انخفاض عقود الزواج أيضاً التي ساهمت العديد من العوامل في انخفاضها، منه تأخّر سن زواج المرأة فضلاً عن تدهور الوضع الاقتصادي الذي يؤثر سلباً على عدد الشباب الجديد المقبل على الزواج من جهة ويزيد من حدة الخلافات بين الأزواج بسبب تدهور الوضع المعيشي للأسرة من جهة ثانية. وذلك حسب ما أفادنا به رئيس قلم محكمة بعقلين الشيخ مجدي الحسنيّة استناداً إلى ملفات عقود الزواج والطلاق المسجلة في أرشيف المحكمة. كما أضافت ريما سليم(4) المعاونة القضائية في المحكمة أنَّ عام 2014 شكل نقطة تحوُّل جذرية في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إذ ارتفع معدل الطلاق بوتيرة سريعة وغير مسبوقة من 19% في هذا العام ليبلغ ذروته ويسجل 30% في عام 2018 أي ازدادت معدلات الطلاق بنسبة 11% ما بين عامي 2014 و2018. إذ تشير المعطيات كذلك إلى أنه من بين 10 حالات زواج تُسَجّل رسمياً في المحكمة المذهبية الدرزية في بعقلين، تُسَجَّل 3 حالات طلاق وهي نسبة عالية تثير التساؤل وتدعونا للبحث عن أسبابها وهذا ما سنأتي على تفصيله في هذا البحث.

ثانيًا: خصائص أفراد العينة (النساء المطلقات): حسب المعيار (العمر – الفترة التي استمر بها الزواج الوضع المهني – المستوى التعليمي – عدد الأولاد).

تبين من الجدول رقم (15)(5) أنّ معظم المطلقات تقع أعمارهن بين 20 وال 25 سنة بنسبة مئوية قدرها50% استناداً إلى نتائج الإحصاءات التي توصلنا لها في الاستمارة(6) التي تم توزيعها على عينة من النساء المطلقات ثم تليها الفترة العمرية التي تقع بين 25 و 35 سنة بنسبة مئوية قدرها 40% بينما تناقصت النسبة المئوية للمطلقات التي تتراوح أعمارهن أكثر من 35 سنة بنسبة مئوية قدرها 10% ويعني ذلك أن أغلب المطلقات من فئة الشابات التي تفتقر إلى النضج العاطفي ونتيجة لضعف تدريب وتحسين وتوعية المقبلين على الزواج من جانب الأسر التي لا تهتم بواجبات وأعباء الزواج. في هذه الحالة لا يقوم الزواج على أسس واضحة تسمح باستمرار العلاقة الزوجية وغالبا ما يكون الدافع للزواج مبني على أَسس هشّة وغير سليمة وتقاطع في المصالح وينتهي بانتهاء المصلحة، أو إخلال أحد الطرفين بالشروط المتفق عليها قبل الزواج وتشير أيضا هذه النتائج إلى أن الطلاق غالبا ما يحدث بعد وقت قصير من الزواج إذ إنّ 60 % من المطلقات اللواتي شملهن استطلاع الرأي حصلن على الطلاق بعد سنتين من الزواج، بينما لم تتعدَّ الفترة التي استمر خلاها الزواج مدة الخمس سنوات نسبة 20% من النساء المطلّقات في المقابل انحصرت نسبة النساء اللواتي استمر زواجهن أكثر من خمس سنوات بنسبة مقدارها 10% فقط. وذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى تقصير الأسرة في تدريب أبنائها على الاستقلالية وتحمل المسؤولية وتقبل الاختلاف في الطرف الآخر وإلى ضرورة التعاطي العاقل والواعي مع المشاكل والصبر والتروِّي في اتخاذ القرارات وأهمها قرار الزواج أوّلاً لأن الاختيار الصائب للشريك الذي يقوم على أسس متينة وواضحة كفيل ببناء أسرة متماسكة على عكس ما يحدث في يومنا هذا من التعارف السريع على مواقع التوصل الاجتماعي وبناء علاقات وهمية تنتهي بالزواج الفاشل. خلاصة القول إنَّ معظم حالات الطلاق تحدث بسبب ضعف تأهيل الشاب والشابّة إلى مرحلة الزواج وهذا الضعف تعود أسبابه بحسب ما ذكرت لنا المعاونة القضائية في المحكمة إلى أنَّ حالة الزواج في السنوات الأولى تكون معرّضة للفشل بنسبة كبيرة لأدنى ولأتفه الأسباب، ويعود ذلك لقلة خبرة الزوجين أو أحدهما بهذه المرحلة.

يبين الجدول رقم (16)(7) أن معظم المطلقات يقع مستواهن التعليمي بين المستوى الثانوي والجامعي بنسبة 80% فيما انحصرت نسبة 20% في من هنَّ في الصفوف المتوسطة والجدير بالذكر أنه لم يكن هناك بين النساء المطلقات غير متعلمات من المستوى الابتدائي أو ممّن يقتصر مستواها المعرفي على القراءة والكتابة.

من ناحية أخرى اتضح لنا أن 60% من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي ليس لديهن أولاد(8). أما 30 % منهن كان لديهن من بين ولد وثلاثة أولاد بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي لديهن أكثر من ثلاث أولاد الـ 10%. وهذا يدل على أنّ النساء التي ليس لديها أولاد أقدر من النساء التي لديها أطفال في طلب الطلاق.

في المقابل تبين لنا أن 70 % من النساء المطلقات موظَّفات(9) أي لديهن استقلالية ماديّة ولا يقتصر عملهن على العمل المنزلي بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي هن ربات البيوت الـ 30%. أمّا بالنسبة للدخل الشهري فقد عبّرت 60% من النساء أن دخل أسرتهن الشهري لم يتجاوز مليون ليرة لبنانية(10) بينما اعترفت 40% منهن أن المدخول تراوح بين المليون و3 مليون ليرة لبنانية في المقابل لم يكن هناك بين النساء ممن يتجاوز دخل أسرتهن الـ 3 مليون ليرة في الاستمارة التي وُزِّعت عليهن. هذا يدل أنَّ معظم النساء واجهن مشكلة انخفاض المداخيل في الأسرة.

ثالثًا: الطلاق حسب قانون الأحوال الشخصية عند الدروز:

الطلاق أو كما يسميه قانون الأحوال الشخصية (المفارقات): «هو إنهاء عقد الزواج ووضع حد فاصل له إذ بعده تترك المرأة البيت الزوجي لتعيش حياة جديدة ومنفصلة ومستقلة عن زوجها بكل ما للكلمة من معنى(11) «هذا هو مفهوم الطلاق عند الدروز، إذ بعد المفارقة لا يعود من الجائز شرعاً أن يلتقي الرجل بمطلقته أو أن يعقد معها زواجا جديداً كما نصت المادة 38 من هذا القانون: «لا تحلُّ للرجل مطلقته أبداً بعد صدور حكم القاضي». فقد أقر قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية وأناط صلاحية الحكم به بقاضي المذهب الدرزي الذي له وحده الحكم بالتفريق وفسخ عقد الزواج وإبطاله. وقد نصّت على ذلك أحكام المادة 37 من القانون المذكور.(12)

وبالرغم من صراحة النص فلا يزال البعض يعتقدون بأن الطلاق بيد الرجل وليس للمرأة حق طلب الطلاق من زوجها. غير أن قانون الأحوال الشخصية ساوى بين الرجل والمرأة في حق طلب الطلاق من القاضي وذلك عند توافر بعض الأسباب واستحالة الحياة الزوجية بين الزوجين. وأنه استناداً إلى ما ورد أعلاه وتأكيداً على أن للمرأة الدرزية كما للرجل حق في طلب الطلاق فقد نصت المادة 47 من القانون على ما يلي(13): «إذا وقع نزاع أو شقاق بين الزوجين وراجع أحدهما القاضي يعيّن القاضي حَكَماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة. وإن لم يكن بين أهلهما من توافرت فيه أوصاف الحكم اختار القاضي حكَماً من غير أهلهما». وقد نصت أيضا المادة 48 من القانون نفسه على ما يلي(14): «على الحَكَمين أن يتعرّفا أسباب الشقاق بين الزوجين وأن يجتهدا في إصلاح ذات البين وإن لم يتمكّن من التوفيق بينهما وكان القصور والإصرار من جهة الزوج يفرِّق القاضي بينهما ويحكم للزوجة بكامل المهر المؤجل أو ببعضه. وإذا كان من جهة الزوجة يحكم القاضي بإسقاط المهر المؤجل كُلًّاً أو بعضاً وللقاضي أن يحكم في كلا الحالتين على غير المُحِق من الزوجين بما يستحق الآخر من عطل وضرر» وقد تبين لنا أن 90% من النساء المطلقات أخذن المبادرة بالطلاق استناداً إلى النتائج الإحصائية(15) التي توصلنا إليها بعد توزيعنا استمارات على 30 امرأة مطلقة من مختلف القرى والمناطق الدرزية.

وقد أكد لنا رئيس قلم محكمة بعقلين أنه بالإجراءات القانونية ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة عند التقدم بطلب تفريق في المحكمة وطبعاً لا ينحل عقد الزواج إلّا بحكم قاضي المذهب. ممّا يثبت أن لا وجود لما يُعرف بالعصمة. إذ لا يمكن للرجل التحكّم بمصير المرأة حتى لو رفضَ دعوى الطلاق كل ما يمكنه هو المماطلة في الإمضاء على ورقة الطلاق، وعدم حضور جلسات المحكمة ولكن ضمن فترة زمنية أقصاها سنتين تُعطى كمهلة قانونية له للمثول أمام القضاء ومحاولة حل الأمور بين الطرفين عن طريق التراضي هذا في حال أخذ الطلاق منحى النزاع. أمّا في حال كان الطلاق رضائياً فالمسار القانوني للدعوى يستغرق أربعة أشهر من حين تقدم الطرفين بدعوى الطلاق بحسب ما أفادنا به رئيس القلم في المحكمة عند سؤالنا له عن الفترة الزمنية التي تستغرقها دعوى الطلاق.

وفي هذا الإطار أفادنا رئيس قلم محكمة بعقلين أن 90 % من دعاوى الطلاق في محكمة بعقلين تنحلّ رضائياً بين الأزواج والدليل أنّ عام 2018 سجّل 124 حكما للطلاق عن طريق التراضي(16) مقابل 22 حكما للطلاق عبر النزاع. ولكن المفارقة الغريبة زيادة عدد دعاوى النزاع في السنوات الثلاث الأخيرة (2016 حتى 2018) مقارنة بالأعوام الماضية فقد كانت دعاوى النزاع 4 أحكام فقط عام 2014 في المقابل ارتفعت في عام 2018 لتسجل 22 دعوى طلاق بالنزاع.

أما بالنسبة لموضوع ارتفاع عدد دعاوى النزاع في السنوات الأخيرة على الرغم من غلبة أحكام الطلاق بالتراضي فذلك يعود بحسب ما ذكر رئيس قلم المحكمة لعدد من الأسباب أبرزها رغبة كل فريق بتحصيل مكاسب مادية إضافية كالمطالبة بعطل وضرر أو اعتبار المرأة ناشزاً(17) وكذلك سعي البعض إلى تحقيق مكسب معنوي أمام الرأي العام في مجتمعة. هذا بالإضافة إلى أن هنالك عوامل أخرى كالخلاف على حضانة الأولاد ومحاولة كل فريق إثبات عدم أهلية الفريق الآخر في الاهتمام بالأطفال وتربيتهم على أسس سليمة وصحيحة. وفي هذا الإطار أكّدت 40% من النساء التي وُزِّعت عليهن الاستمارة أنهن تنازلن عن مهرهن المؤجل للتحرر من قيد الزواج(18) في المقابل أكدت 56.6% من النساء أنهن لم يتنازلن عن شيء مقابل الحصول على الطلاق بينما اضطرت امرأة واحدة فقط غير عاملة إلى التنازل عن حضانة أطفالها وذلك راجع إلى 3 أسباب إما لعدم قدرة المرأة على تحمل مسؤولية تأمين معيشة لائقة بهم من كافة النواحي الطبية والتعليمية وغيرها خصوصاً إذا كانت نفقة الزوج لا تغطي كافة متطلبات الأولاد من رفاهية الحياة بالإضافة إلى الضغط الذي تتحمله المرأة من أهلها الذين يرفضون رجوعها إلى منزلهم مع أولادها خصوصاً إذا لم يكن للمرأة منزل خاص ملكاً لها يمكنها الإقامة فيه بالإضافة إلى عامل آخر لا يمكننا إغفاله وهو رغبة بعض النساء في الزواج مرة أخرى ما يدفعها إلى التنازل عن أولادها مع الاكتفاء بحق مشاهدتهم في أوقات معينة وذلك من أجل تمكنها من البدء بحياة جديدة مع الزوج الجديد الذي لا يتقبل أن يتزوج غالباً من امرأة لديها أطفال. ولا يمكننا إغفال حقيقة أنّ هذه العوامل التي ذكرناها تنطبق حُكماً على الأحكام المستأنفة مع وجود عامل إضافي هو محاولة كسب وقت أطول والسعي إلى المماطلة في فسخ عقد الزواج. وفي هذا السياق عبرت 20% فقط من النساء عن حدوث مشاكل مع أزواجهن أثناء الإجراءات القانونية لإتمام عملية الطلاق(19) خصوصاً في موضوع خلافهن حول حقوقهن المادية في المقابل أكدت 10% من النساء أنهن واجهن مشاكل مع أزواجهن في موضوع حضانة الأطفال بينما لم تواجه أي من النساء مشاكل قانونية متعلقة برفض الزوج للطلاق. من ناحية أخرى أكدت غالبية النساء أي 70% منهنّ أنهن لم يواجهن أي من المشاكل السابق ذكرها. وهذا راجع لكون غالبية النساء أي (80%) من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي تم طلاقهن بالتراضي(20) مع الزوج أي لم يحدث مشاكل قانونية بين الزوجين تعيق المسار القانوني لدعوى الطلاق بينما لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي حصلن على الطلاق بالنزاع نسبة الـ 20%..

ولا بد لنا أن ننوّه في هذا الصدد أنّ هناك ما يقارب 80% من دعاوى النزاع التي تعود وتنحل بالتراضي والدليل أنه من بين 22 دعوى طلاق بالنزاع تم تسجيل 20 حالة مصالحة بين الأزواج عام 2018 استناداً إلى إحصاءات دعاوى الطلاق بين عامي 2014 و 2018 في محكمة بعقلين(21). وذلك راجع بحسب ما ذكرت لنا المعاونة القضائية في المحكمة إلى السعي الدائم لفضيلة قاضي المذهب الشيخ فؤاد البعيني في تقريب وجهات النظر بين الأزواج المتخاصمين بالإضافة إلى الدور الفعال للمرشدة الاجتماعية في المحكمة وأحيانا دور بعض المحامين في حال توصلهم لتسوية ترضي الطرفين بموضوع الحقوق الزوجية.

وعند سؤالنا فضيلة القاضي الشيخ فؤاد يونس عن أبرز المواضيع التي تبين إنصاف قانون الأحوال الشخصية عند الطائفة الدرزية للمرأة الدرزية في موضوع المفارقات. فإنّه أكد لنا أن هذا القانون هو الأكثر إنصافا بحق المرأة اللبنانية مقارنة بغيره من قوانين الأحوال الشخصية عند الطوائف الأخرى أولاً: من جهة إعطاء الحق للمرأة بتقديم طلب الطلاق(التفريق). وثانياً بحصر موضوع عقد الزواج بيد قاضي المذهب ممّا يعني أن الرجل لا يستطيع أن يطلّق زوجته ساعة يشاء ومتى يريد وأن يتحكّم بمصير عقد الزواج. ومن ناحية ثانية هو يعطي المرأة الحق في حضانة أولادها لحين بلوغ الصبي 12 سنة والفتاة 14 سنة مع إلزام الزوج بدفع نفقتهم ومصاريفهم كافة. وفي حال تزوجت المطلقة بغير محرم تنتقل الحضانة بداية إلى والدتها أي لجهة الأم ومن بعدها الجدة لجهة الأب ثم المحارم الأقرب بالأقرب وفي كل الأحوال لا يسقط حق المشاهدة. وحتى أنّ المحاكم المذهبية لم تحرم المرأة الزانية من حق مشاهدة أولادها ولو لبضع ساعات وهذا يُعتبر خطوة متقدمة جداً في مجال حقوق المرأة. ومن ناحية أخرى يعطي القانون المرأة أيضاً الحق في حضانة أولادها والوصاية عليهم مع جدهم أو عمهم أو منفردة في حال تنازلهم لها عند وفاة الوالد – الولي بطبيعة الحال على أولاده.

رابعًا: أسباب الطلاق عند الدروز في القرن الحادي والعشرين

الطلاق مشكلة اجتماعية تنبع من المجتمع وتنجم عن فشل الزوجين في الانسجام والتفاهم، وإمكانية التعايش تحت سقف واحد يضمها ضمن مسمّى الأسرة. ويترتب عليها أمور عدّة أهمها تحطيم الزواج والأسرة والروابط الأساسية للمجتمع وهو ثمن للزواج غير المرغوب فيه ويعدّ النقيض التعيس للزواج(22).والطلاق يتم عادة بعد فترة لا بأس بها من الزمن، أيَ بعد محاولة التعايش بطرق وأساليب متعددة، عسى أنْ يتم التوصل لحل هذه الخلافات وتجاوزها، وإلّا فالانفصال هو الحل. أمَّا اليوم في المجتمع الدرزي فقد بتنا نرى ونسمع عن حالات مستعجلة ومبكرة من الطلاق بعد زواج لم يتجاوز الأشهر أو حتى أياماً معدودة، وهذه ظاهرة جديدة ومخيفة طرأت على زيجات الدروز عموماً لأنَّها تعّبر عن خللٍ ما في نظرة الشباب من الجنسين لبعضهما، ولطبيعة العلاقة الواهية التي يقوم على أساسها هذا الارتباط المُسمى الزواج.

الطلاق لا يحدث نتيجة عامل واحد وإنّما هناك عدة عوامل متداخلة تؤدي إلـى حـدوث الطلاق فمنها النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومنها فتور الحياة العاطفية ممّا يؤدي إلى صراع في الأسرة، عدم توفر الموارد الاقتصادية الكافية للأسرة، وعدم وجود تعاون بين الزوجين فـي النواحي الحياتية وغيرها من الأسباب سنأتي على تفصيلها في هذا البحث إلخ….

كان الشبان والشابات في المجتمع الدرزي قديماً يتريثون قبل الإقدام على الطلاق تجنباً للمشاكل السلبية التي تنبثق عنه، أمّا حديثاً، فإننا نجد تحوّل قِيَمي واجتماعي كبير من حيث تبدل للعادات والتقاليد تجاه هذه المسألة، ونجد سهولة وقوع الطلاق لأسباب مباشرة وغير مباشرة والدليل أن 80 % من النساء اللواتي وُزعت الاستمارة عليهن اعتبرن الطلاق الحل الأمثل لحل المشكلات الزوجية(23). هذا يدل أن المرأة في أيامنا هذه لا تتردّد كثيراً في اتخاذ قرار الانفصال عن زوجها خصوصاً إذا كانت تعاني من جو أسري غير مريح لها وأن معظم النساء متعلّمات ويعلمن جيداً مصلحتهن، خصوصاً بعد تطوير التشريع القانوني المتعلق بإباحة حق طلب الطلاق للزوجة طالما أنها لا تستطيع الاستمرار في حياتها الزوجية وغيرها من القوانين المعدّلة في قانون الأحوال الشخصية والتي تعطي المرأة الكثير من الحقوق والتي سبق وتطرقنا لها في مستهل بحثنا.

اسباب الطلاق في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (2010 حتّى 2018)

وقد تبين من خلال النتائج الإحصائية التي توصّلنا إليها في الجدول الإحصائي رقم (1)(24) اختلاف اختيار العينات لأسباب الطلاق ومنهم من اختار أكثر من سبب وكانت أكثر الأسباب اختياراً مُحتَسَبة بالنسب المئوية على التوالي (استقلال المرأة المادي 40% – الاستعمال الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي 20% – الدخل المنخفض للزوج 13.3%). بينما اعتبرت 6.6% من النساء أنّ تدخّل الأهل في الحياة الزوجية كان سبباً رئيسياً في طلاقهن في حين تساوت النسب المئوية بين كل من العوامل التالية: (اختلاف المستوى التعليمي والثقافي بين الزوجين – الاختيار الخاطئ للشريك – سن الزواج المبكر للمرأة – الخيانة الزوجية – تعرض الزوجة للعنف الجسدي واللفظي) بنسبة قدرها 3.3%.
عمل المرأة واستقلالها اقتصادياً السبب الرئيسي في حدوث الطلاق في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين
في أيامنا هذه لم يعد العمل مجرد مسألة حاجة مادية بل أصبح من أولويات حياة المرأة، خاصة بعد التخرج من الجامعة. وخلال زيارتنا للمحكمة وأثناء لقائنا المعاونة القضائية هناك أشارت أنه بالاستناد إلى ملفات أحكام الطلاق فإن نسبة 50 % من حالات الطلاق المدونة في أرشيف المحكمة يشكل عمل المرأة سبباً أساسياً ومباشراً في حدوثها. وذلك حين تعطي بعض الزوجات لعملهن الاهتمام الأكبر على حساب علاقتهن بأزواجهن وأبنائهن، وهذا أمرٌ يستدعي في أحيان كثيرة أنْ يلجأ الزوج لطلب الطلاق.وبغض النظر عن المستوى التعليمي أو الثقافي أو الاجتماعي للمرأة، إلّا أنَّ الاستقلال الاقتصادي يُعد العامل الحاسم في قرار الانفصال عن الزوج وتعدّ استقلالية المرأة المادية واحدة من أسباب الطلاق في مجتمعنا الدرزي بحسب الاستمارة التي تم توزيعها على عدد من النساء المطلقات في مختلف المناطق الدرزية لمعرفة الأسباب الرئيسة لطلاقهن فقد تبين لنا من خلال النتائج الإحصائية التي توصّلنا لها أن 70% من النساء هنّ موظفات بينما نسبة ربات البيوت قُدرت بنحو 30% فقط(25). بناء عليه يمكننا القول إن المرأة العاملة التي تعتمد على نفسها أقدر من غيرها على طلب الطلاق فهي لا تضطر إلى الصبر على زوج يؤذيها ويهينها. لذا فقد ازدادت ظاهرة الطلاق بعد خروج المرأة الدرزية إلى العمل خارج المنزل وأجابت 20 امرأة مطلقة في استطلاع الرأي الذي أجريناه معهن أن عملهن خارجاً واستقلالهن الاقتصادي كان عاملاً أساسيّاً في طلاقهن أي ما يعادل نسبة 40% من النساء اللواتي شملهن الاستطلاع وأضفن أن هذا يعود إلى عدم تقبل الرجل الشرقي خروج المرأة للعمل بسبب العادات والتقاليد هذا الأمر قد يصل إلى تعقد الحياة وعدم استمرارها وبالتالي حصول الطلاق. بناء عليه يمكننا أن نستدرك أن نسب الطلاق ترتفع بين المتعلمات مقارنة بغير المتعلمات والدليل أن 70% ممن شملهن استطلاع الرأي هن من حمَلة الشهادة الثانوية والجامعية بالتالي يكون لديهن القدرة على إدراك مصلحتهن بشكل أفضل.

وفي هذا الإطار عبّرت لنا المعاونة القضائية عن رأيها بالقول: «كانت المرأة المتزوجة قديماً تتحمل المنغصات، لكن كثيراً من النساء المستقلّات اقتصادياً يقرّرْن الآن الانفصال حين لا يكنَّ سعيدات، ولم يعد الطلاق من المحظورات، كما أن الزواج لم يعد أولوية لخريجات الجامعات، لأنهن قادرات على إيجاد فرص عمل، وإن تزوجن فإنَّ الطلاق سيكون أيسر إذا واجهن مشاكل في زيجاتهن كما يمكنهن الاعتماد على أنفسهن مالياً بسهولة. لذا فقد سجلت السنوات الأخيرة من القرن الحادي والعشرين (2015 حتى 2018) معدلات مرتفعة من حالات الطلاق سنوياً، بسبب وعي المرأة بحقوقها وقضاياها، وهذا شجّع المتضررات من زواج فاشل للإقدام على خطوة الطلاق».

يمكننا أن نستخلص أنّ عمل المرأة وزيادة نسبة تحصيلها العلمي سيف ذو حدين ففي حال اجتهدت المرأة على خلق توازن بين عملها ومنزلها سوف تحقق نجاحات في الجهتين وهذا سينعكس إيجاباً على عائلتها ومستقبل أولادها لأن الأولاد سيكون لديهم حافز أكبر على كسب العلم والتطلّع لتحقيق ذاتهم ومستقبلهم العلمي والمهني والاجتماعي. ولكن لضمان نجاح المرأة بهذه الطريقة لا بدّ من تفهّم ومساعدة الرجل فالمسؤولية تقع على عاتق الزوجين عندما يكون التفاهم سيد الموقف بين الزوجين يتحقق التناغم والتكافل بينهما وينتج عن كل هذا نجاح المرأة في الفصل بين حياتها المهنية وحياتها العائلية وتحقيق النجاح المطلوب. والعكس صحيح إذا حاربها الزوج لسببين العقلية الذكورية، والغَيرة فإنها بالتأكيد سوف تفشل في خلق التوازن المطلوب. بالإضافة إلى أنه في بعض الحالات يكون الرجل اتّكالياً ويتهرب من تحمل المسؤولية ويرى عمل المرأة خارجا متنفساً له ليلقي على عاتقها كافة متطلبات المنزل واحتياجات الأبناء ما يفوق قدرة المرأة على التحمل ويخلق مشاكل كثيرة مع شريكها وتكون نهايتها الحتمية الانفصال، وعليه يمكننا القول أن معيار تعليم المرأة وعملها خارج المنزل يؤثر على الحياة الزوجية سلباً أو إيجاباً حسب ذهنية الزوج وطريقة مقاربته للأمور وللحياة الزوجية ونظرته تجاه المرأة بشكل عام فإما أن يعتبرها شريكاً له في كافة الأمور وصاحبة شخصية مستقلة وقرار أو اعتبارها كائناً غير مستقل وتابع له وغير مؤهلة لأخذ القرار أو المساهمة فيه وحصر دورها في العمل المنزلي، وتلبية رغبات الزوج ومتطلباته والتفرغ دائما لخدمته. من ناحية أخرى لا يمكننا تجاهل أسلوب المرأة المنتجة في التعامل مع زوجها. هل تستمر بمعاملته كشريك أم تحاول في بعض الأحيان فرض سيطرتها عليه ومصادرة دوره؟! الوعي الاجتماعي لدى الفريقين وحده الكفيل بحسم الأمور.

خامساً: الآثار الاجتماعية والنفسية للطلاق على المرأة المطلقة

-أ- الآثار الاجتماعية:
-1- الضغوطات الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد في المجتمع
يُنظر إلى المرأة المطلقة من الناحية الاجتماعية نظرة فيها ريبٌ وشك في سلوكها وتصرفاتها مما تشعر معه بالذنب والفشل العاطفي وخيبة الأمل والإحباط، مما يزيدها تعقيداً ويؤخر تكيفها مع واقعها الحالي بحسب رأي الأخصائية الاجتماعية «رِوَى أبو الحسن»(26) التي تحدّثت عند سؤالنا إياها عن نظرة المجتمع نحو المرأة المطلقة. وأضافت: «المرأة المطلقة تعود لبيت أهلها وهي تحمل معها جراحها وآلامها ودموعها كونها الجنس الأضـعف فـي مجتمعنـا التقليدي، فهي وبحكم التنشئة الاجتماعية واقتناعها بأن الزواج لا بد منه مرتبطا بمعنى «السترة» فإنه بهذا الطلاق تفقد هذا الغطاء الواقي لها لتصـبح عرضـة لأطمـاع الناس واتهامهم لها بالانحراف الأخلاقي» والدليل أن 60% من النساء اللواتي وُزِّعت عليهن الاستمارة أجبن أنَّ الإشاعات وكثرة الأسئلة عن أسباب طلاقهن واتهامهن بالضياع الأخلاقي كانت من أكثر المشكلات الاجتماعية التي تعرضن لها بعد الطلاق(27). فالمرأة المطلقة قد تعاني العديد من الصعوبات والمشكلات الاجتماعية المرتبطة بنظرة أسرتها إليها بعد الطلاق ثم نظرة المجتمع ككل على اعتبار أنهـا هـي المسؤول الأول والرئيسي في أغلب الأحيان عن وقوع مشكلة الطلاق. فالمطلقة تعاني من الشعور بالتشاؤم والانهزامية نتيجة فقدانها للمركز الاجتماعي التي حصلت عليه من خلال الزواج، وتحوُّل دورها إلى دور هامشي وجـانبي، بمهاجمة العادات والتقاليد المجتمعية لها، والنبذ والإهانة اللتين تتعرض لهما من عائلتها أي إنّ الزواج في مجتمعنا عبارة عن حماية أو غطاء يمنع تعرّض المرأة على وجه الخصوص للكثيـر مـن الأزمـات والصراعات. والدليل الواضح على كل ما ورد ذكره أن 70% من النساء المطلقات اللواتي وُزِّعت عليهن الاستمارات أشرن أنَّ أكثر المخاوف التي كانت تمنعهن من اتخاذ قرار الطلاق هو خوفهن من عدم تقبل المجتمع الشرقي فكرة طلاقهن(28). في حين أجابت 20% من النساء أنهن ترددن في اتّخاذ قرار الطلاق خوفاً على الأولاد من الضياع والتفكك الأسري بينما لم يشكل الخوف من عدم وجود مورد مادي أو وجود معيل في حياة المرأة سوى على نسبة 10% من النساء المطلقات وهي نسبة ضئيلة جداً وذلك لأن معظم النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي متعلِّمات ولديهن وظيفة.

-2- قلة الفرص المتوفرة لدى المرأة في الزواج مرّة ثانية:
مرّة أخرى لاعتبارات اجتماعية متوارثة من جيل إلى آخر، حيث تكون فرصتها الوحيدة في الزواج من رجل أرمل أو مطلّق أو مسنّ، وبناءً عليه، فإن مستقبلها غير واضح. هذا ما أكدته لنا 33.3% من النساء المطلقات بعد سؤالهن في الاستمارة التي وُزعت عليهن عن أكثر المشاكل الاجتماعية التي اضطررن إلى مواجهتها بعد الطلاق ولقد احتلت هذه المشكلة من وجهة نظرهن المرتبة الثانية من حيث أهميتها بعد مشكلة الإشاعات وكثرة الأسئلة عن طلاقهن فيما لم تواجه النساء المطلقات مشكلة إيجاد فرص عمل لأنه كما ذكرنا سابقاً فإن معظمهن موظفات وقد اعترفت 83.3% منهن أنهن أمَّنَّ الاكتفاء المادي لهن ولأولادهن من خلال العمل خارج المنزل بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي حصلن على الدعم المادي من الأهل الـ 10% في حين اقتصرت نسبة النساء اللواتي حصلن على النفقة المنتظمة من أزواجهن الـ 6.6% وهذا يدل أن عمل المرأة خارج المنزل يؤمِّن لها العيش بكرامة لها ولأولادها ويجنبها الحاجة والعوز وتحميل عبء معيشتها لأهلها خصوصا إذا كان لديها أولاد.

-ب- الآثار النفسية:
-1-الشعور بالإحباط والاكتئاب والوحدة والانطواء على الذات:
يُعدُّ الطلاق تجربة قاسية جداً على المرأة إذ يحدث تغيراً جوهرياً في حياتها نتيجة رفع الطلاق لغطاء التقدير والاحترام والمكانة الاجتماعية، هذا الأمر الذي قـد يجعلهـا عرضة للشفقة أو التشفي من طرف الآخرين إضافة إلى أنه لحظة شعورها بالفشل فإن تقديرها لذاتها ينخفض وتهتـز ثقتها بنفسها وتصبح أكثر عرضة للاكتئاب بحسب ما أكدته المعالجة النفسية الدكتورة «رودينا المهتار» أثناء المقابلة التي جريناها معها وسؤالنا عن أكثر المشاكل النفسية التي تواجهها المرأة بعد الطلاق.

واضافت قائلة: «إن المطلقة تعاني بشكل كبير من الناحية النفسية من الطلاق انطلاقاً من النظرة السلبية للمجتمـع إليها، ممّا ينتج عنه شرخ كبير في نفسيتها وما يصاحبه من مشاعر الحزن، والإحباط، والخـوف، كمـا تسـيطر علـى تفكيرها الأفكار السوداوية والأوهام، مما يُشعرها بعدم الاطمئنان والاستقرار العاطفي والاضطراب النفسـي، والفشـل وعدم القدرة على تحمُّل المسؤولية». وفي هذا الإطار عبّرت 40% من النساء المطلقات في الاستمارة التي وزعت عليهن عن شعورهن بالتعاسة والاكتئاب(29) واللافت أنّ هذه النتيجة تساوت مع نسبة النساء اللواتي شعرن بالوحدة والنبذ الاجتماعي بينما لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي شعرن بالرضى والراحة النفسية بعد طلاقهن سوى 20%. وهذا يدل على الانعكاسات السلبية للطلاق في أغلب الأحيان على الصحة النفسية للمرأة المطلقة في مجتمعنا. واستناداً إلى ما تقدم ذكره يمكننا القول إن تجربة الطلاق هي أمر يشكل حاجزاً بين المرأة المطلقة وإحساسها وشعورها بأهميتها وقيمتها ورضـاها عن نفسها وعن كل ما تنجزه، وأن ذلك إنما يبدأ انطلاقا -كما أشير سابقا- من خوفها مما سوف يقوله الآخرون عنهـا بعد فشل تجربتها الزواجية، وأنه حتى بالرغم من التزايد الكبير في نسب الطلاق في المجتمع الدرزي، لا تزال المـرأة محـلّ الشك والريبة والنظرة السلبية من طرف أفراد المجتمع، وحتى من أسرتها أحياناً لأنها ومن وجهة نظرهم هي من عليها المحافظة على أسرتها واستمرارها وبقاء زواجها بدليل أنّ 50% من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي عبَّرن عن رفض أهلهنَّ موضوع الطلاق(30) وإلقاء الملامة عليهن بينما لم تتخطَّ نسبة النساء اللواتي تعاطف أهلهن معهن عندما قررن الانفصال عن أزواجهن الـ 33.3%. في حين لم يستحوذ خيار توسط الأهل بين النساء وأزواجهن لتقريب وجهات النظر بينهم سوى على نسبة 5% وهي نسبة ضئيلة جداً تدل على غياب دور الأهل الحكيم والأساسي في حياة أبنائهم في أيامنا هذه وتقلُّص دورهم الاجتماعي الذي كان سائداً قديما في لعب دور الوساطة وحل النزاع بين الأزواج المتخاصمين.

-2- تشويه صورة الذات والجسد وانعدام الثقة بالنفس:
لقد شددت الدكتورة «رودينا» على النظرة المشوهة التي تكوّنها المرأة عن نفسها وعن صورة جسدها بعد الطلاق معبرة عن ذلك بقولها: «قلّما نجد مطلقة تنظر لنفسها نظرة قوية وتمدح نفسها فلا تعطي لنفسها فرصة للاهتمام بأنوثتها مرّة أخرى للدرجة التي قد تدفع بعض المطلقات إلى النظر لأنفسهن في المرآة وهن يشعرن بالقبح على الرغم من جمالهن». وفي هذا السياق أكدت أن المرأة المطلقة تنظر إلى نفسها نظرة قاسية جداً وكأنها امرأة ينقصها شيء أصبحت تحمل هذا اللقب مما يقلل من درجة ثقتها بنفسها.

-3- تشويه الصورة التي تأخذها المرأة المطلقة عن الرجل بشكل عام:
هذا مـا أكدتـه لنا أيضا الأخصائية في علم النفس والعلاقات الأسرية الدكتورة «رودينا» أثناء سؤالنا لها عن المعاناة النفسية التي تعيشها المرأة المطلقة فأشارت إلى أن المرأة المطلقة تُستبعد من عائلتها ومجتمعها لأنها وحسب معتقـداتهم قامـت بأمر مخالف وبالتالي فهي غير مسموح لها بالبقاء معهم وبالتالي عزلها. مما يخلق لهـا مشـاعر الكراهيـة والحرمـان والإحساس بالوحدة والاكتئاب والانطواء والعزلة وكراهية الجنس الآخر «الرجل» لأنه هو من جعلها في هذه الحالة، فتعمم تجربتها على أن كل الرجال لا يقدرون المرأة، وتحرم نفسها من أن تعيش حياتها مثل باقي النساء خوفاً من الوقوع مرّة أخرى في تجربة فاشلة. هذه المشاعر والأحاسيس التي تتولد لدى المرأة عقب الطلاق والتي تسهم بدرجة ما في إعادة تقييمهـا لحياتهـا وإدراكها بشكل عام للموقف الراهن الذي وجدت نفسها فيه، أكدته كذلك الدكتورة رودينا موضحة أن المـرأة المطلقة تعاني من عدة تأثيرات بعد الطلاق أبرزها القلق، والاكتئاب، والضغط النفسي، وعدم التوازن العـاطفي والمـزاج السَّيِّئ.

من هنا يتضح أنّ لبِّ المعاناة النفسـية التـي تتخـذ شـتى المظاهر، هي انعدام وقلة الاعتبار من الآخرين وأن هذا من أهم عوامل التمتع بالصحة النفسية. بالتالي فإنَّ ضمان تمتع المرأة في المجتمع الدرزي بالصحة النفسية بأوسع معانيها إنما يكون برد الاعتبار لها عبر تغير جـذري فـي نظرة المجتمع لها ونظرة الرجل وحتى نظرتها لنفسها. لأن تقييم المرأة لذاتها إنما ينطلق من نظرة وتقييم الآخرين لها، وربما هذا ما يزيد الأمـر تعقيـدا وتأزّمـاً بالنسبة للمرأة في حال الطلاق ممّا قد يغير الكثير في تصوراتها وإدراكها لحياتها، ومدى تحقيقها من عدمه لسـعادتها ورفاهيتها، والتي كانت ترتبط بالنسبة لها بوجود شخص تتقاسم معه تفاصيل الحياة بكل ما فيها والدليل أن 66.6% من النساء التي وزعت عليهن الاستمارة اعترفن أن الشعور بالانتماء العائلي هو بالتحديد ما تفتقده المرأة بعد الطلاق(31) بينما عبرت 33.3% فقط من النساء عن افتقادهن للأمان العاطفي والملفت أنه لم تفتقد أي من النساء الشعور بالاستقلالية بعد الطلاق وذلك راجع لكون معظمهن موظفات أي فاعلات اجتماعياً ولهن حياتهن الخاصة. وبالتـالي فـإن مشـكلة الطلاق تخلق للمرأة المطلقة أزمة حقيقية لأنها تحرمها من حاجات نفسية أساسية. وعليه فإننا نستنتج أن الطلاق تجربة قاسية جداً على المرأة بدليل أن أكثرية النساء المطلقات (66.6%) من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي اعتبرن الطلاق تجربة فاشلة فيما صرحت 33.3% منهن فقط أن الطلاق درس لحياة أفضل(32). فالطلاق إذاً مشكلة اجتماعية تتحكم بها ثلاثة عوامل: قوة الشخصية، وإرادة المرأة، ومساندة المجتمع المحيط لها. وفي هذا الإطار أضافت النساء المطلقات أنهن لم يستطعن تخطي مشاكلهن النفسية بمفردهن(33) بدليل أنهن احتجن إلى مساعدة أطراف مختلفة في المجتمع وقد تباينت الآراء بين أفراد العينة ولكن معظمهن طلبن مساعدة أصدقائهن بنسبة 50% بينما اعترفت 33.3% منهن أنهن لجأن إلى أخصائي نفسي ولا بد أن ننوه هنا بجرأة النساء اللواتي اعترفن بهذا الأمر خصوصا في مجتمع تكثر فيه الأقاويل والأفكار المغلوطة حول مفهوم العلاج النفسي. في حين لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي ساعدهن أقربائهن في تخطي مشاكلهن النفسية نسبة 16.6% وهذا أكبر دليل أن أكثرية النساء المطلقات لا تتلقّى الدعم الكافي من أقربائها وأهلها لذا فهي تلجأ إلى الأخصائي النفسي وأصدقائها لتتمكن من الخروج أزمتها النفسية.

سادسًا: التدخل الاجتماعي خطوة متقدمة لتقليص ظاهرة الطلاق:

بحسب ما أفادتنا به الأخصائية الاجتماعية في محكمة عالية «روى أبو الحسن» في المقابلة التي أجريناها معها وسؤالنا إياها عن الدور الذي يلعبه الأخصائي الاجتماعي في المحكمة، فعبّرت بقولها: «إنه المُحكَّم في أمور الطلاق أو إصلاح ذات البين.»(34) وأضافت: إنه يقوم بتقديم المساعدة لكلا الزوجين أثناء وقوع الاختلاف الأسري وذلك من خلال تقصي أسباب المشكلة وجوانبها ودفعهما إلى معالجة المشاكل بينهما، عبر رؤية العلاقات والتفاعلات الأسرية الذي يعيشها الطرفان ضمن أسرتهما، وتقصّي جذور المشكلة وتبعيتها وخلفيتها الأساسية ثم تدوين إجابتهم ورفعها إلى فضيلة القاضي في تقرير مفصل عن الحالة وبناءً على نتائج التقرير يأخذ القاضي القرار المناسب الذي يخدم مصلحة الطرفين وفي هذا الإطار أضافت رِوى بسبب دور الأخصائي الاجتماعي الفعال في هذا الميدان فقد طالبت نقابة الأخصائيين الاجتماعيين الحكومة اللبنانية في مستهل عام 2019 بوضع قانون ينص على إلزامية وجود أخصائي اجتماعي في المحاكم المذهبية ولا بد أن ننوّه بأن الطائفة الدرزية هي الطائفة الوحيدة من بين كل الطوائف في لبنان التي لبت النداء وطبقت هذا القانون وهذا يدل على وعي وتحضر وقوننة الأمور المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية في موضوع المفارقات.

سابعًا: التوصيات

1- إدخال مُقرَّر دراسي في المدارس الثانوية يشمل موضوع أصول الحياة الأسرية للطلبة والطالبات يتضمن توضيح أسس الحياة الزوجية وتكوين الأسرة منذ اختيار شريك الحياة والخطوبة وانتهاءً بالواجبات والحقوق الزوجية حتى تكون لهما فكرة واضحة عن الزواج تساعدهم على بناء أُسر سليمة.

2- العمل على عقد الندوات والمؤتمرات من خلال المؤسسات الإعلامية والدينية واللجنة الاجتماعية للمجلس المذهبي وذلك من خلال تخصيص دورة للمُقبلين على الزواج تُعنى بالثقافة الزوجية، والحقوق والواجبات، والتأهيل الأسري وتعاليم الشرع في الأحوال الشخصية، وسُبُل الحياة الزوجية والمجتمعية، وآليات الاتصال والتواصل بين الزوجين، وكيفية مواجهة التحديات والصعوبات والمشاكل الأسرية، وكيفية مواجهتها بالصبر والحكمة والتروِّي.

3- ضرورة إقامة وحدات للإرشاد الأسري في مراكز الأحياء التي تُعنى بالشؤون الأسرية، يعمل بها اختصاصيون أكفّاء، ويكون من أهم واجباتها دراسة المشكلات الزوجية، وحالات الرغبة في الطلاق قبل وقوعها وقبل وصولها إلى المحاكم.

4- العمل على دمج المطلقات في المجتمع بتشجيعهنَّ على إكمال دراستهنَّ وممارسة حياتهنَّ بشكل طبيعي وتوفير العمل للراغبات فيه، والانخراط في المجتمع من جديد ما يساعدهن في تخطي أزمتهن النفسية.

ثامنًا: الاستنتاجات

كشفت الدراسة مُعطيات عدَّة إذ يلاحظ من خلال النتائج التي توصلنا إليها ما يلي:
– هناك ضغط نفسي أكبر بالنسبة للمرأة التي لها أولاد مقارنة بالمرأة التي طُلِّقت من دون أولاد، وهذا بسبب المسؤولية التي في غالب الأحيان تتحملها لوحدها فالمرأة التي ليس لديها أطفال لا تتردد في طلب الطلاق مقارنة بالمرأة التي لديها أطفال.
– إن معظم حالات الطلاق سُجِّلت في الخمس سنوات الأولى للزواج، بحيث يظهر عدم التوافق، ويكون الانفصال، وفي الحالات التي عرضناها، هناك 20 حالة كان الطلاق في الخمس سنوات الأولى من الزواج.
– هناك علاقة عكسية بين مستوى الدخل الأسري وازدياد نسب الطلاق فكلما انخفض الدخل ازدادت نسب الطلاق والعكس صحيح – يُلاحظ أن أعلى نسبة للنساء المطلقات مقارنة مع الدخل الشهري كانت للنساء ذوات الدخل المحدود أقل من (مليون ليرة لبنانية).
– ارتفاع نسب الطلاق في الفئات العمرية الفتية (21-25) سنة.
– إن أهم المشكلات التي تواجه المرأة الدرزية بعد الطلاق افتقادها لاحتضان وتقبل المجتمع لها، وبخاصة على صعيد إعادة اندماجها فيه مرة أخرى، فهو يرفض زواج الشباب الذين لم يسبق لهم الزواج منها، وذلك يعمق شعورها بالوحدة.
– هناك علاقة إيجابية بين المستوى التعليمي وحالات الطلاق إذ يلاحَظ من خلال التركيب التعليمي أن أغلب المطلقات من حملة الشهادة الثانوية والجامعية.
– إن استقلالية المرأة اقتصاديا وعملها خارج المنزل هو من أهم أسباب حدوث ظاهرة الطلاق في المجتمع الدرزي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالاستقلال الاقتصادي الذي تعيشه المرأة منحها الحصانة، حيث ما عاد يربكها الانفصال والطلاق، إذ باتت على قناعة بأنها يمكنها أن تتدبر أمورها واحتياجاتها بدون زوج وأب للأولاد. ولكن في المقابل فإنّ عملها أمّن لها الاكتفاء المادي وأبعد عنها الحاجة ومنحها الشعور بالاستقلالية.
– إن الطلاق هو مشكلة اجتماعية وليس حلَّاً صائباً للمشاكل الزوجية لما له من آثار سلبية على المرأة لأن المجتمع يحملها مسئولية أكثر من الرجل في الطلاق، كما أنّ الطلاق يحدُّ مـن تفاعلهـا الاجتمـاعي ويجعلها تميل إلى العزلة والوحدة، والخوف من تكرار تجربة الزواج مرة أُخرى. كما أنها تعـاني مـن مكانة اجتماعية أقل من غيرها ما يؤدي إلى إصابتها بالاكتئاب والحـزن والقلـق وضعف الثقة بنفسها وبالآخرين.
-إن مختلف الأسباب المؤدية إلى الطلاق متداخلة وتكمّل بعضها البعض وإنَّ حصر الأسباب بموضوع واحد وتعميم النتائج على كل حالات الطلاق في المجتمع الدرزي غير دقيق لأن دراسة ظاهرة الطلاق التي تنتمي إلى العلوم الاجتماعية تخضع معاييرها إلى ما يسمى بالعلوم الإنسانية التي لا يمكن تقييم نتائجها إلّا من خلال النسبية، وعليه فكل حالة طلاق تختلف عن حالات أُخرى في المجتمع باختلاف أسبابها.
– أن الطلاق في حد ذاته عامل كاف لإحداث القلق والاكتئاب والشعور بالوحدة والتعاسة عند المرأة بغض النظر عن أي متغيرات أخرى.
وفي الأخير يمكن القول إن فرضيات الدراسة قد تحققت، إذ تخضع ظاهرة فك الرابطة الزوجية إلى عوامل متداخلة في جوانب نفسية اجتماعية واقتصادية وثقافية، إضافة إلى التأثير السلبي للظاهرة على مستوى الصحة لنفسية لدى المرأة المطلقة.

تاسعًا: الطلاق مشكلة وليس حلّاً لمشكلة

«إنّ الشراكة الزوجية ما عادت مبنية على المرجعية والشريعة الدينية أو العادات والتقاليد التي كان من خلالها يتم احتواء المشاكل وحلّها، بل إن المرجعية الآن أضحت المنطلقات الشخصية للزوج أو الزوجة مع جهل بالحقوق والواجبات لكل طرف منهما يتمسك بمواقفه ولا يعرف أن يقدم تنازلات هذا ما قاله القاضي «فؤاد يونس» عندما سألناه عن رأيه في الأسباب المؤدية إلى ارتفاع نسب الطلاق في السنوات الأخيرة من القرن الحادي والعشربن. وختم بالقول إن قضايا الأحوال الشخصية عند الدروز تواجه الكثير من التحديات في ظل غياب التربية للقيم العائلية والمجتمعية، فإلى جانب التعاليم الدينية والشرعية التي يجب تنميتها لدى أفراد المجتمع بكل ما يتعلق بالنكاح ومكافحة الطلاق، لا بدّ أيضا من مواكبة المتغيرات والبيئة المحيطة بدمج علوم الاجتماع والسلوك لتأهيل الأزواج وتمكينهم من مواجهة الصعوبات الحياتية وتغييب خيار الطلاق عن الحياة الزوجية لأن الإسلام منع الطلاق وحرمه وفي الأحاديث النبوية الشريفة خير بينة على ذلك ومن بينها: «وما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» – «تزوجوا ولا تطلِّقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن».(35)

وأكدت على هذا الأمر المعاونة القضائية في محكمة بعقلين بأن المجتمع الدرزي يعاني في يومنا هذا من اضطرابات وخللٍ في مكوناته البنيوية وفي العلاقات والتواصل داخله، ويعاني من غياب تقاسم الأدوار بين الأب والأم وحتى الأولاد، وعدم استعداد أي طرف للتحمل والمعاناة والصبر وتقديم التنازلات من أجل الحفاظ على استمرارية العائلة، إذ يُلاحَظ اتساع ظاهرة الطلاق حتى لدى العائلات التي تضم أولاداً.

وأضافت: «لقد بات السائد في العلاقات الأسرية تفضيل الفردانية والمصلحة الشخصية على المصلحة الأسرية العامة، كما يلاحَظ تعزيز الأنانية لدى الفرد، سواء الزوج أو الزوجة، وتفضيل تحقيق الذاتية والمصلحة الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الأسرة عامة والأولاد، ويُلاحظ عدم التفاني أو الاستعداد للتضحية في سبيل الاستقرار وتجاوز الخلافات من أجل الحفاظ على إطار العائلة».

بناء عليه يمكننا اعتبار الطلاق من أخطر المشاكل التي تهدد كيان الأسرة وما يثيره من مشاكل واضطرابات عاطفية لدى أفراد الأسرة جميعا ً، ولعل تعديل الخلفية الثقافية الاجتماعية للبيئة تجاه النظرة للمطلقة هو الدور الأهم والبالغ الصعوبة؛ إلا أننا نختم هنا، بحتمية استعادة التكامل الأسري، للمجتمع الدرزي بتدخل دور الأهل في التقليل والتخفيف من وطأة هذه المعاناة القاسية، من خلال مساندة المطلّقة معنوياً ومادياً،، مع ضرورة احتوائها نفسياً وعاطفياً بالتفاهم والحنان والحب حتى تتمكن من إعادة ترتيب أوراقها، وهو الأساس الذي تحتاجه لتنهض من جديد أشد قوة وأمضى عزماً، إضافةً إلى ضرورة تفهُّم الوالدين والأسرة لابنتهم المطلقة، ومعاونتها لتعيد صياغة حياتها من خلال الدراسة أو العمل مباشرة في حياة أبنائهم عند وقوع أي خلاف أسري، يمكن أن يتسبب بحدوث الطلاق، كون مهما كان الطلاق حلاً جذرياً، فإن المشاكل تبقى هي الأصعب لكلا الطرفين، من هنا فإن التشتت والضياع يشكل حالة إنسانية يصعب تجاوزها، ولا سيما على الأبناء في حال وجودهم .وننوِّه بالاختيار الجاد القائم على العقل والقلب في آن ٍ معاً، قبل إقدام الشاب أو الشابة على الزواج، إذ إنَّ الاختيار الصحيح هو أول حجرة أساس لبناء أسرة متماسكة، لما يساهم بالتفاهم والحوار والاحترام بين الطرفين، وهذه المبادئ تشكل عوامل هامة لاستمرارية الزواج رغم الخلافات الزوجية التي لا بد من حدوثها بشتى الوسائل.


المراجع:

1- هو أحد أقضية محافظة جبل لبنان الستّة، يشكل مجرى نهر الدامور حدوده الشمالية، ومجرى نهر الأوّلي
حدوده الجنوبية.2- حنانيا المنير، الدُّر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1984، ص
30.
2- أنظر الملحق رقم (1): تابع ملخص بعقود الزواج والطلاق منذ 7/11/ 1967لغاية 31/12/2018.
3- معدل الطلاق بالنسبة للزواج = عدد حالات الطلاق في سنة ما / عدد حالات الزواج في نفس السنة × 100.
4- موظفة في أمانة سر المحكمة في بعقلين.
5- أنظر الملحق رقم (3).
6- أنظر الملحق رقم (2) الاستمارة.
7- أنظر الملحق (3).
8- انظر الملحق (3) الجدول رقم (19).
9- نظر الملحق (3) الجدول رقم (17).
10- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (18).
11- قانون أحوال شخصية الجامعة اللبنانية، التشريعات – شوهد بتاريخ 29-6-2019. موقع مركز الأبحاث والدراسات في المعلوماتية القانونية على الرابط: http://www.legallaw.ul.edu.lb/Law.aspx?lawId=258196
12- المصدر نفسه قانون الأحوال الشخصية.
13- أنظر سجيع الأعور- الاحوال الشخصية الإسلامية والمسيحية د.ط الجزء1أيار 2016 ص 144.
14- أنظر سجيع الأعور مرجع سابق ص 144.
15- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (2).
16- أنظر الملحق رقم (3) الجدول رقم(14).
17- النشوز: لفظ يعبَّر عنه شرعاً عن امتناع الزوجة عن القيام بحق زوجها وطاعته في غير معصية الله
كأن تخرج من بيت زوجها دون إذنه لإسقاط حقها بالمهر المؤجل…).
18- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (13).
19- أنظر الملحق (3) الجدول رقم: 12.
20- أنظر الملحق (3) الجدول رقم : 7.
21- أنظر الملحق (3) الجدول الإحصائي رقم (14) قرارات الطلاق بين 2014 و2018 في محكمة بعقلين.
22- – د. أميرة أحمد حسن قرشي / د. محمّد أمين أحمد الأمين. الطلاق وآثاره النفسية والاجتماعية على الرابط: شوهد بتاريخ 1-7-2019 على الرابط: tasil.uofq.edu.sd/wp-content/uploads/2017/…/الطلاق-وآثاره-النفسية-والاجتماعية.pdf
23- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (10).
24- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (1).
25- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (17).
26- مرشدة إجتماعية في المحكمة المذهبية في عاليه.
27- أنظر الملحق 3 الجدول رقم( 5).
28- أنظر الملحق (3): الجدول رقم( 4).
29- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (8).
30- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (6).
31- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (9).
32- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (3).
33- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (11).
34- البيِّن: شرعاً: الخطأ.
35- سجيع الأعور مرجع سابق ص 142.

اللُّبنانيّون في قلب الجَحيم الاجتماعي

عند حافّة الرّصيف في أحد شوارع العاصمة بيروت، يتّكئ رجلٌ ستّينيٌّ، باحثًا عن ظلّ يقيه أشعة الشمس الحارقة، ريثما يحين دوره لتعبئة سيارته بالوقود بعد طول انتظار. ومن صيدليةٍ إلى أخرى يتنقّل أبٌ محروقٌ على دواءٍ يُضمّد وجعَ ابنه، تلاقيه والدةٌ تلهث خلف علبة دواءٍ تبلسم جراح ابنتها، ليلقيا الجواب ذاته: «مقطوع وما في بديل».

وفي المقلب الآخر، حرقةُ أمّ على طفلٍ علا صراخه طلبًا للحليب، بعد أن بات «مادةً دسمة» دخلت بازار الاحتكار والبيع بأسعارٍ خياليّة يحدّدها سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء، ليُحرَم معها مئات الأطفال والرضّع من غذائهم الوحيد.

هي تفاصيل حياةٍ يوميّة، يقاسيها اللبنانيّون منذ ما يقارب العامين، من دون أيّ أفقٍ أو انفراجاتٍ تُذكر، ناهيك عمّا خلّفته جائحة كورونا من تداعياتٍ سلبية. فمنذ أواخر العام ٢٠١٩ والأزمات تتوالى لتشدّ معها خناق اللبنانيّين، منذرةً بالأسوأ، لا سيّما بعد رفع الدعم عن أكثر من سلعةٍ حيويّة.من أزمة الدولار إلى انقطاع أدويةٍ أساسيّة ومعداتٍ وأجهزةٍ طبية وفقدان المواد الغذائية والاستهلاكية بمعظمها، مرورًا بطوابير البنزين والأفران أو ما يُعرف بـ»طوابير الذلّ» وعمليّات التهريب، كما بتعطّل خدمات الإنترنت لساعاتٍ وانقطاع الكهرباء والمازوت وما قد يترتّب عنهما من انهيارٍ في شبكة المياه، وصولًا إلى الغلاء الفاحش الذي رافق الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار والانهيار الكارثي للعملة اللبنانية.

فما كان يخطر ببال اللبنانيّين أن يتحوّل راتبهم إلى بضع ليراتٍ، بالكاد تكفي لشراء كميةٍ محدودةٍ من الطحين والأرز والسكر والملح وغيرها من المواد الغذائية الأساسية. ليراتٌ فقدت قيمتها بشكلٍ كليّ، ممّا قوّض أحلام المواطنين…

ففي عزّ الحروب والأزمات وعلى مرّ العقود والأعوام، لم يحدث أن صُنِّف لبنان ضمن الدول الأدنى أجرًا والأكثر مأساةً، بعد أن سجّل معدّلاتٍ مرتفعة من الفقر والبطالة. وطن الأرز الذي عُرف يومًا بـ «لبنان الرسالة»، لطالما كان مهد الحضارات والثقافات ونبراسًا للحقوق والحرّيات، كما مقصدًا للعِلم والاستشفاء، ووجهةً دائمة للسوّاح والمغتربين.
أمّا اليوم، فأين لبناننا؟ ما حال المسنّين والمرضى؟ كيف يقاوم آباؤنا وأمّهاتنا؟ كيف يصمد كلّ من شبابنا وشابّاتنا؟ كيف يعيش أطفالنا؟ أين نحن من حياةٍ تتعدّى غفوةً على رصيف الشارع، أو عند محطة الوقود؟ أين نحن من أمنياتٍ تتجاوز رغيف الخبز وكفاف يومنا، لتقفز بأحلامنا وطموحاتنا بما دون النجوم؟ أيُّ مستقبلٍ ينتظرنا وقلبنا يتوقّف مع كلّ دقيقةٍ وثانيةٍ، لندخل معه غرفة إنعاشٍ، معدّاتها معطّلة أو مفقودة، فتخذلنا لدى المحاولة الأولى.

يبقى الأمل بأن يصحو شعبنا يومًا على دولةٍ تقارب تطلّعاته وأهدافه، تحارب لأجل بقائه وخلاصه، تضمن له ولأبنائه مستقبلًا مشرقًا واعدًا، تكفل له منظومةً صحيّة اجتماعية متكاملة، وتضع مصلحته العليا فوق كل اعتبار. دولةٌ تكرّس جهودها لـ «سعادة المواطن»، «معالي الشعب» و»فخامة الوطن».

المدرسة الداوديّة / اعبَيْه

هي إحدى أقدم المدارس «الحديثة» في لبنان، سُمّيت بـ «الداودية» نسبة إلى المُتصرِّف العثماني الأوّل على جبل لبنان، وكان تأسيسها استجابة لطلب الوجهاء من الدروز، وفي مُقدّمهم الشيخ سعيد تلحوق (الذي كان وكيلاً للدروز لدى المتصرفية) عرضوا فيه افتقار بني معروف إلى صرح تربوي، فجَرت الاستجابة للطلب بعدما قدّم الشيخ أحمد أمين الدين الأرض للمشروع ذلك. صدر الترخيص بتاريخ 17 رجب 1387ه، الموافق 14 كانون ثان 1862، تحت رقم 134، وتضمّن محضر خاص قوله: «مما يضاعف رغبتي في نصوبها وتقدّمها هو أنها سميّت باسمي». ومع الحصول على الترخيص رقم 134 فتحت المدرسة أبوابها في 14 نيسان 1862، وجرى احتفال تكريمي تضمن إظهار مراحل التأسيس ونظامها الأساسي. وفي 16 نيسان 1863 حضر المتصرف داوود باشا برفقة حاكم المقاطعة الذي أصبح فيما بعد القائمقام الأمير ملحم أرسلان ومشايخ العقل وأعضاء المجلس، وألقى كلمة قال فيها: «إنني أهنّئ النفس باجتماعي وأرى الوقت الذي أصرفه كان مفيداً جداً من أجل زرع راية المشعل التربوي. كنت أسمع وكثيراً ما طرق مسامعي أن الدروز لا يقبلون التعلّم والتعليم فكتبت ضد هذا الكلام جملة وتفصيلاً ولسان هذا الحفل يبرهن صدق كلامي، ولي أمل أنّ هذا الصرح سيكون وسيلة كبرى برفعه اسم الموحدين الدروز». وأردف قائلاً: كما أن الماء ضروري للحياة، أرى أنّ الداودية بالنسبة لطائفة الموحدين كالماء للحياة. إنّ جميع أوقاف المدرسة تحت نظارة مأمورية مخصوصة مؤلفة من مدير الدروز أو قائمقام – وكيل الدروز – شيخ العقل. وبناء عليه أوجب تشكيل النظارة الأولى لمدرسة الداودية وكانت على النحو الآتي:

ملحم حيدر أرسلان – مدير طائفة الموحدين أو القائمقام – رئيساً، سعيد بيك تلحوق – وكيل الدروز – الشيخ حسين طليع، الشيخ حسن عبد الصمد شيخا عقل طائفة الموحدين.

واختير حسن أفندي سليم ناظراً للمدرسة. وبقي من العام 1863 إلى العام 1873. وفي العام 1880 في عهد رستم باشا جرى تعديل القانون لتغيير اسم الداودية إلى المدرسة الدرزية، أو الكليّة الدرزية اللبنانية. وفي تلك الحقبة 1873-1883 تم تشكيل النظارة على النحو الآتي:

الأمير مصطفى أرسلان مدير الدروز قائمقام رئيساً، الشيخ محمّد حمادة، الشيخ محمّد طليع شيخا عقل طائفة الموحدين الدروز، وعيّن بدلاً من الشيخ حسن أفندي سليم الشيخ أمين الدين سنة 1890 ناظراً للمدرسة؛ ولقد أُجريت بعض التعديلات على نظام المدرسة وأصبحت عمدة المدرسة 12 عضواً، وتألّفت على النحو التالي:
الأمير مصطفى أرسلان قائمقام الشوف رئيساً – نجيب بيك جنبلاط – قاسم بيك العماد – سليم بيك نكد – الشيخ حسين محمّد تلحوق – ناصر الدين عبد الملك – الشيخ فارس العيد – الشيخ سعيد تقي الدين – حسن بيك حمادة – حسن بيك شقير – نعمان فندي بوغنّام.

أما الذين توالَوْا على نظارة المدرسة الداودية فهم:
حسن أفندي سليم، الشيخ مجيد تلحوق، الشيخ حسين عبد الصمد، الشيخ مصطفى دويك، الشيخ أحمد أمين الدين، الشيخ ملحم تقي الدين، الشيخ حمد المصفي، أمين بيك خضر.

أما في عهد المتصرف نعوم باشا 1892-1902، كان الأمير مصطفى أرسلان قد كُلّف ثانية قائمقاماً للشوف، فلم يَعِر المتصرفون بين 1902 و1910 اهتمامهم للصرح التربوي، فأقفلت الداودية أبوابها وكانت الحرب العالمية الأولى، فتحوّلت المدرسة إلى ثُكنة عسكرية أيام العثمانيين ثم أيام الفرنسيين.

بعد نهاية الحرب، بدأت سنة 1921 المساعي لإحياء الصرح العلمي، وضبط أوقاف الدروز، وقد بدأ الأمير فؤاد أرسلان وعلي بيك جنبلاط مساعيهما لإعادة العمل بهذا الصرح، لكن دون جدوى. ثم قام المناضل سامي سليم، المفكر والمجاهد، وأحد روّاد الفكر القومي العربي، وصاحب الرؤى في أهمية الإصلاح الاجتماعي ودور التربية للخروج من الجهل والانحطاط إلى التقدم والرقي، فكان صوته مدوياً لإحياء الداودية وقام بمحاولات بين 1922 و1925 لم يُكتب لها النجاح. وفي العام 1928 دعا أحد مؤسسي جمعية المعارف الدرزية سليمان بيك بو عزالدين لإعادة إحياء الصرح، لكنّ مساعيه فشلت فاضطُرّ للتخلّي عن مهمته مختاراً في 19 آيار 1928، وفي هذا اليوم صدر مرسوم يحمل الرقم 3307 عن رئيس الجمهورية شارل دباس، ورئيس مجلس الوزراء بشارة خليل الخوري، عُدِّلت فيه المادة الأولى بموجب القرار رقم 3323 تاريخ 4 تشرين أول 1925 وتألَّفت لجنة إدارية برئاسة وزير التربية والفنون الجميلة.

في العام 1929 تسلّم المناضل العروبي الأستاذ عارف بيك النكدي الداودية فرمّمها وبدأ التدريس بها سنة 1930 وأضاف غُرفاً جديدة إلى الصرح.
وفي العام 1932 كُلِّف عارف النكدي بإدارة الأوقاف العامة وأعاد فتح الداودية بصورة منتظمة، وأعتُبرت هذه الفترة الذهبية للداودية بين 1932 و 1992. تميّزت الحقبة هذه بانجازات إدارية وعمرانية تعليمية عربية، وذلك بالتعاون مع جمهورية مصر العربية التي أوفدت لجنة علمية للمساعدة في رفع مستوى التعليم والمساعدة في سدّ النفقات المترتبة على الإدارة… كذلك لم يقصّر المغتربون الدروز في دعم الداودية وتطويرها، فأمكنها تحقيقق نجاحات بارزة وارتفع عدد طلابها من اللبنانيين والعرب.

في الحقبة تلك تم إنشاء 30 مدرسة ابتدائية ومتوسطة فروعاً للمدرسة الأم في مختلف القرى اللبنانية، وكان للمغفور له الأستاذ شكيب النكدي اليد الطولى في متابعة إنشاء هذا المركز، وهو المشرف والمربي المتفاني في عمله، وقد تسلّمها بعده الأستاذ فندي الشعّار المفتش التربوي للداودية وفروعها.

في العام 1992 انتقلت جميع الصلاحيات والإشراف للأوقاف بموجب القانون الذي أقرّه المجلس النيابي، وتعاقب على إدارتها العديد من المديرين والمدرسين والتربويين.

في العام 1996، عَيّن المجلس المذهبي مديراً عاماً للأوقاف المقدم المتقاعد محمود أبو خزام الذي استقال بعد 3 سنوات، وكُلّف مديراً عاماً جديداً المقدّم الأستاذ محمود صعب ثم استقال، فتسلّمها المجلس المذهبي وتم تعيين خالد بك جنبلاط مديراً عاماً للأوقاف وفي عهده تشكل مجلس أمناء للمؤسسات الدرزية لإعادة الصرح إلى سابق عهده، صرحاً لبنانياً عربياً وليس لطائفة الموحدين الدروز فحسب. فالداودية كانت إلى جانب رسالتها التربوية مقرّاً وطنياً عروبياً خرّجت فيه المناضلين والأبطال الذين انضموا إلى معارك البطولة والتحرير على امتداد الوطن العربي بدءاً من الثورة العربية الكبرى، إلى الثورة السوريّة الكبرى سنة 1925، إلى معارك التحرير في فلسطين، وكان للجبل فيها صولات وجولات في تقديم الأبطال والاستشهاد في سبيل عروبة فلسطين.

وبعد توقف لسنوات بسبب من أحداث لبنان والجبل والشحّار الغربي على وجه الخصوص، نشأت الجمعية التي أخذت على عاتقها إحياء الداودية وتطويرها تحت علم وخبر رقم 390/ أ د /20/9/1999، مركزها اعْبَيْه، وتشكّلت هيئتها الإدارية في 21 كانون أول 2003 على النحو الآتي، عادل الشعار رئيساً، رياض اللحام نائباً للرئيس، ذوقان مطر أميناً للصندوق، نديم حمزة أميناً للسر محاسب، حافظ الصايغ ممثلاً لدى الحكومة، د. عصام الجوهري وأحمد غيث مستشاران، فانطلقت مسيرة الداوودية من جديد في زمن بالغ الصعوبة.

ثم جرى انتخاب هيئة إدارية جديدة، بناء لنصوص النظام الداخلي، بتاريخ 11/3/2007، وتشكّلت على النحو الآتي:
غازي صعب رئيساً، د. عصام الجوهري نائباً للرئيس، سمير شمس الدين أميناً للسر عاطف حمزة أميناً للصندوق، رجا جابر ونزيه خداج مستشاران، فاستمرّ العمل وكانت الأنشطة والندوات واللقاءات. تابعت الهيئة الجديدة عملها وتقدمت من المجلس المذهبي بمجموعة من التصورات. في إثر ذلك، عقد المجلس المذهبي اجتماعه بتاريخ 14/11/2007، بحضور: الشيخ علي زين الدين رئيس اللجنة الدينية، القاضي عباس الحلبي رئيس لجنة الأوقاف، الشيخ سامي أبي المُنى رئيس اللجنة الثقافية، الأستاذ منير حمزة مقرِّراً وأمينا للسر. وفي جلسة 27/11/2007 أقرّ المجلس المذهبي في جلسته العامة اعتبار الداوودية صرحاً معروفياً واتخذ الخطوات التالية:
– ترميم البناء وإعداده.
– الاتفاق مع الجامعة اللبنانية على جعله مقرّاً لفرع من المعهد الجامعي للتكنولوجيا.
-إقامة مركز للدراسات التوحيدية.
فعادت الداودية منارة معروفية وباتت منذ العام الجامعي 2009/2010 تستقبل الطلاب الجامعيين من الجبل ولبنان قاطبة.

المناهجُ التربوية نظرَة تقويمية

التربية هي عملية شاملة لكل مُندرَجات المجتمع ومعظم قطاعاته الاقتصادية، والاجتماعية، وكما التربية يكون المجتمع. فالمناهج تهدف في الجوهر والأساس، تهيئة الشخصية الإنسانية لمواجهة الحياة.

على أن تكون قابلة للتطبيق وأن تهيئ الجهاز التعليمي القادر على إيصالها وتطبيقها، وأن تخضع باستمرار للتقويم والتعديل.

كانت لي ملاحظات أساسية على المناهج التربوية أثناء وبعد وضعها حيّز التطبيق، بصفتي عضواً في لجنة المناهج، فهي تختلف عن مناهج العالم في تعاملها مع اللغة العربية، انطلاقا من أنها لغة الأم والتاريخ والثقافة وصانع وحدة الشعب وكيانهم بل استمرارهم، فهي تحلّ ضيفاً غير مرغوب فيه على المناهج بحيث تحتل نسبة ضئيلة فيها، بينما تحتل اللغة الأجنبية الحيّز الأكبر والأرفع والأجمل. والأجنبية لغة أساسية وبها تُدَرَّس مُعظم المواد الأخرى في بعض المدارس كلها، حيث تسود حرية التعليم، وهكذا تنشأ أمَّة متناقضة لا متعددة، كما أضيفت لغة ثانية على المناهج، اعتماداً على نظرية بأن معرفة الأجنبي يجب أن تتمَّ بلغته. ولكن نرى أنه ليس بالضرورة أن يفرض على الجميع معرفتها، إنما يدرسها من يحتاج إليها في معهد خاص.

١- يشكّل هذا الكم الكبير من مواد المناهج عبئاً على الطلاب، ويبقَون عاجزين عن إنهاء البرنامج، ممّا يُضطر المسؤولون إلى إهمال مواد وحذف أُخرى لا صفية هي الأجمل، تنمّي ذوق الطلاب ورغباتهم لاختيار اختصاصات نخبويّة .

عندما نتناول تثقيل المناهج بالأجنبي فإننا لا نقلل من أهمية اللغة الأجنبية، التي يجب أن تُدرّس كلغة أجنبية وحسب، بينما الواقع أنّ اللغة العربية الأم أضحت لغة بدون أم.

يَدرُس الطالب في لبنان لغة أجنبية وتوابعها ما يزيد على ١٢ سنة، لكنه عامة، بالكاد يحصل على علامة نجاح في امتحان الدخول، لا في العربيّة ولا في اللغة الأجنبية، عدا نخبة ضئيلة تُوفَّر لها ظروف استثنائية للنجاح.

من حيث توقيت المناهج أي ساعات التدريس فهي لا تنسجم مع المناهج ولا أوقات العمل، مما ينعكس سلباً على وتيرة الحياة وصعوبة التطبيق. وساعات العمل في القطاع العام هي ٨ _ ١٥ بينما في القطاع الخاص حتى الرابعة أو السادسة، بينما الدوام في المدارس ينتهي عند الثانية والنصف عامة، ماذا يفعل الأهل العاملون. لقد اقترحنا آنذاك أن يبقى الطلاب في المدارس إلى ما بعد الدوام وأن ينهوا الواجبات المدرسية بإشراف الأساتذة، ممّا يُريح الأهل من شر مساعدة أبنائهم بعد ساعات عمل طويلة، تكون مُضنية للطرفين، بخاصة وأنّ الأهل غير مُعَدِّين بيداغوجياً للتدريس،( طرق التدريس) من معايير فشل المناهج، إنّ المادة لا تصل إلى التلميذ دون مساعدة طرف ثالث، دروس خصوصية، الأهل تقوم على الدروس الخصوصية، عمارات شاهقة من المعاهد الخاصة، الليليّة أو النهارية، بالإضافة إلى مدرّسين يأتون إلى المنازل أو يذهب الطلاب إليهم يعتاشون على طحالب المناهج. وكثير من المدارس الفاشلة تُلزم الأهل الاستعانة بمساعدة خارجية لعجزها عن إيضاح المواد وتفهيمها لطلابها. حيث يواجه الطلّاب معضلة جديدة. مُعظم الأهل ومعاهد الدروس الخصوصية والمدرسين الخصوصيين غير معدين منهجيّاً للتدريس. والمدرّس يجب أن يكون خرِّيجاً من كليّات التربية أو معاهد إعداد المعلمين كشرط أساسي للتدريس، وهذا ما تشترطه المناهج أيضاً. إنّ مناهج مناسبة وهيئة تعليمية مُعَدّة للتدريس كفيلة في إيصال المناهج للطلاب بدون أيّة مساعدة خارجية. كما أن المناهج في وضعها الراهن تتسبب في تسرب إعداد كبيرة من الطلاب المحرومين من إمكانات المساعدة الخصوصية. وهكذا تتمظهر المناهج وكأنها مُعَدّة لفئة محددة تتمكن من إنهاء تعليمها والانتقال إلى التحصيل العالي، وهذا هو الواقع، فالمناهج الشاملة لمنهج عربي وأجنبي ومواد أخرى لاصفية تحتاج إلى إمكانات وأجواء خاصة لترجمتها يمكن أن توفرها فئة معينة فقط،.ومن هنا نكتشف الأيديولوجية التي تقف وراء المناهج، وتضخيمها بالأجنبية وتقليل العربية، لغة الناس. لنأخذ مادة ما يسمى بيولوجيا، وفي العربية دروس أشياء والرياضيات وكان اسمها مادة الحساب، وكانت موجودة في المناهج القديمة، تم إلغاؤها والآن تُدرَّس بالأجنبية، الفرنسية أو إنكليزية. يُدرَس جسم الإنسان فقط بلغة أجنبية، فالرأس هو بالإنكليزية:Head والعين Eye لنفترض أنَّ مدرِّس المادة هو إنكليزي، كيف ستُعرِّف الطالب على جسمه بالعربية، وفي الرياضيات، المعروف أنّ معظم الطلّاب لا يعرفون الأرقام العربية، على الدكنجي أن يتعلم الإنكليزية أو الفرنسية كي يبيع ويشتري. وعلى هذا المنوال ينسى المواطن ،مع الزمن لغته، وثقافته، ينسى ماضيه وحضارته، ربّما من أجل شرق أوسط جديد.

التّعليم عن بعد، تحت المُجْهِر

ما نكتبه اليوم له وقعٌ خاص ومُمَيَّز مع تبوُّءِ أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية الدكتور الشيخ سامي أبي المُنى منصب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، وهو الذي رافق مسيرة العرفان لأكثر من أربعة عقود من الزمن تميزت بالعطاء والتضحية والوفاء والإخلاص ستظلُّ في ذاكرتنا جميعاً، فتهانينا القلبية لسماحته والدّعاء له بالتوفيق الدائم لما فيه مصلحة الطائفة والوطن.

وإنها لَمناسبة أيضاً لنضيء على مسيرة سماحة الشيخ نعيم حسن المليئة بالحكمة والتعقّل، والغنية بالإنجازات، وهو شيخ التواضع والتسامح والإنسانية، ويا لها من مفارقة أن يكون صاحبا السماحة من بيئة تربوية تعليمية تذكرها الأجيال المتعاقبة وتعتز بها.

أمّا مقالتنا اليوم فتأتي تتويجاً لأهداف العرفان ورؤيتها تجاه أبناء مجتمعها أينما كانوا.

فانسجاماً مع رؤيتها ورسالتها، واستكمالًا لدورها التربوي، الاجتماعي والديني في خدمة المجتمع التوحيدي داخل لبنان وخارجه في بلاد الاغتراب كافة، وإيمانًا منها بأن مدَّ جسور التواصل الهادف والفعَّال بين أبناء الطائفة المعروفية أينما كانوا، واجبٌ ديني وضرورة إنسانية؛ تفخر إدارة مؤسّسة العرفان التوحيدية بأنْ تُطلق برنامجها الجديد: «التربية التوحيدية لشـباب الطائفة المعروفية في بلاد الاغتراب» والذي يتضمّن:

أ‌- دروسًا رقَمية تفاعلية، صُمِّمَت وحُضِّرت بعناية لتحقيق الأهداف المرجوَّة.
ب‌- لقاءات وندوات دورية تتناول قصصًا ومواضيع ثقافية ودينية من التراث المعروفي.
ج‌- أنشطة تربوية وترفيهية هادفة تُسهم في توطيد العلاقات، بين أبناء الطائفة المغتربين وإخوانهم الذين يعيشون في قرى لبنان ومدنه.

أهدافه:

1) نشر الوعي وتعزيز الثقافة الأخلاقيّة والتوحيديّة بين أبناء المجتمع المعروفي كافة.
2) تثبيت القيم والأعراف والعادات التوحيدية في نفوس الناشئة.
3) تعزيز التواصل وبناء العلاقات بين أبناء الطائفة المعروفية الموزعين في بلاد الاغتراب كافة، والمساهمة في تعميق جذورهم بقراهم وبيئتهم الأصل وضمان انصهارهم في مجتمعاتهم التوحيدية رغم بعد المسافات.

الفئات المستهدَفة:

الفتيان والفتيات في الطائفة المعروفية من عمر 6 سنوات حتى 18 سنة، وفق مناهج وبرامج تلائم كل فئة عمرية.

آلية تقديم المحتوى التعليمي الرقمي عن بُعد:
1) التعليم – التعلّم غير التزامني، حيث يستطيع المتعلّم الاطِّلاع على الدروس التفاعلية والفيديوهات الإيضاحية عبْر منصة العرفان الإلكترونية، وتحميلها على جهازه ساعة يشاء.
2) التعليم-التعلم التزامني، عبْر تطبيق زوم أو غيره من التطبيقات التي تسمح بالتواصل والشرح المباشر، وذلك وفق مواعيد تَضمن تمكُّن جميع المتعلمين من المشاركة.

إن إدارة مؤسسة العرفان التوحيدية تؤكّد على الوقوف دائمًا إلى جانب أبناء الطائفة المغتربين، وتُقدِّم لأطفالهم ما يساهم في بناء شخصيتهم وتكاملها من النواحي الفكرية، والجسدية، والنفسية والاجتماعية كافة، إضافة إلى احتضانهم أثناء وجودهم في وطنهم خلال فترة الصيف، وإشراكهم في برنامج خاص يحتوي على العديد من الأنشطة التربوية والرياضية والترفيهية الهادفة، التي تقوِّي معارفهم وتعزِّز مهاراتهم، وتحفزهم على بناء صداقات جديدة وتوطيدها في مجتمعهم الأصلي.

شكيب أَحمَد تَقِيِّ الدّين

شاعرٌ مِهجريٌّ، تألَّقَ في النَّظم باكراً، واستقامت له القريحةُ الشعريّة، فأعطى من نفسه وفكره ما طابت له موهبته، على غرار كبار الشعراء في بلاد الاغتراب. هو ابن قاضي الشعراء، وشاعر القضاة، الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين، من رعيل بناة عصر النهضة اللبنانية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، وابن عمٍّ لأبيه أمين تقي الدين، المُتَميز، والخالد في الشعر والأدب، إلى كوكبةٍ أُخرى بارزة، دخلت بدورها، وبعبقريتها وعلائقها صميم الإبداع الأدبي.

شكيب أحمد تقي الدين

وليس بغريبٍ على شكيب.. أن يترسَّمَ خُطى آبائه وأجداده، فالإنسان غالباً، ابنُ بَجْدَتِهِ، وصورةٌ عن تراثِهِ، وثقافتِهِ التي اكتسبها متأثراً بمحيطه، وتجاربه الاجتماعيةِ، والإنسانية، ولا سيما إذا اقتضت الظروف أن يبتعد عن وطنه، وأماكن عيشه الأولى، ومرابع طفولته، فتطغى عليه، وتغيّر من خط حياته، بشؤون وشجون، عُرِف بالصبر والحكمة، والانكباب على تثقيف نفسه، وكيف يجعل منها حافزاً لذات إنسانية حضارية، ما لبثت أن تفجَّرتْ شعراً أخّاذاً جميلاً أدّى إلى علاقات متينة مع كتَّابِ وشعراءِ المهجر، ما خلَّف إرثاً شعرياً ضخماً في البرازيل. وكما يقول الأديب الراحل نجيب البعيني: «كان شعره بين أدباء المهجر، وأمام العرب المغتربين، نبراساً ينير الطريق أمام الأجيال الصاعدة، ويبعث فيهم النّخوة العربية، والوعي القومي» وهل رسالة الأديب، في مجتمعه أينما كان وأينما حلَّ إلّا إيقاظ أبناء قومه وحثّهم على الرّقي؟

لم يَحَرْ شكيب بشعره ونثره، في أن يكون أصيلاً على خُطى الكبار من آل تقي الدين أسلافه، وهم كثرٌ في العَدِّ، أصحاب إبداعٍ وعطاء وعلم، وشهرة. فكان له كما جاء في المواثيق والمأثورات آنذاك يدٌ طولى في تأسيس غير جمعية أدبية، وإقامة الندوات الثقافية، وعقد الاجتماعات التي عززت من دور الشعر والأدب، وقد آل ذلك إلى إنشائه مع عدد من شعراء البرازيل رابطة أدبيةً أطلق عليها اسم «جامعة القلم» بعد أفول «العصبة الأندلُسية» الذائعة الصيت، ثم أسّس في سنة 1979 مع شعراء وأدباء «عصبة الأدب العربي» أربى عددهم على الأربعين. وما عَتَّمَ أن ترأس هذه العصبة، سنوات بحكم تميُّزه الأدبي ونشاطه الفكري، ويضم هذا الكتاب الذي نسلّط الضّوء عليه اليوم عدداً من القصائد، وبعض المقطوعات التي تميَّزت بالصدق في النظم، وبالإيمان، والحس والوجدان، إذ كان يرى في أمة العرب المُرتجى والمجد والتاريخ العريق، والأمل والطموح فقال مفتخراً:

لنا فيك يا قلب العروبة شافعُ
ومجدٌ وتاريخٌ وحُلْمٌ وواقعُ
وتحضرني نُعمى من الأمس بالذي
أُحسُّ، وتحدوني إليها دوافعُ
لنا فيك إيمانٌ كبيرٌ نُقيمُهُ
صَلاةً قد ارتاحتْ إليه الشرائعُ
حروف معانيها إذا ما تناحرت
لها شَبَواتُ في الزمان قواطعُ

ومن شيم الإيمان أنَّ حُماتَهُ
جبالٌ على قلب العدوِّ ضواجعُ

هكذا وبهذا السبك الشعري المتين راح ينثر حروف معانيه قوافي، تتلبس روحه السمحة، وإيمانه القوي الراسخ بقومه ومِنْعَة بلاده، قلب العروبة، معتزاً بماضيها وبجبالها التي كانت على قلب الأعداء موانَعُ وضواجعُ…

أدبٌ رفيع المستوى، جديرٌ بالدراسة بعمق، فهو على الصعيد الفني، يحفل بالصور، والأخيلة، والومضات الإنسانية، علاوة على ما به من طلاوة، ورؤىً تشد عقل القارئ ونفسه معاً، ففي قصيدةٍ يستحضر الحب بأوصاف وصور مختلفة:

واستحكمَ الحبُّ في حقلي، وأحصدُهُ
وأشتري بالحَصَادِ السمنَ والعَسَلا
وأُحرزُ البعضَ من صَدفٍ ومن حَطَبٍ
وأُصلح السَقْفَ والجدرانَ والخَلَلا
وأُحكمُ البابَ في فصلِ الشتاء لكي
أباعدَ الشَرَّ والأهواءَ والعِللا
واستقرُّ على رأي وقد هَجَمتْ
هُوجُ العواصفِ أَلَّا أفقِدَ الأملا

فهل تدق عليَّ البابَ عاصفةٌ
تنام ملء ضلوعي الآن والأزلا

وما أكثر النوازع والآفاق في شعر شكيب تقي الدين، في العناوين وفي التفاصيل التي يترجم بها عن أحاسيسه التي يحولها إلى مادةٍ أو فكرة سائغة تستبق الزمن الحاضر إلى آفاق من الضوء أو الطيب الرافلَين في المبدعات، إلى المستقبل الآتي:

ومالتْ جراحي إلى حقلةٍ
يرود مداها صدى المِعْوَلِ
لها حُلُمُ الزَهْرِ في تُربةٍ
وغنوةُ أُحدوثةِ الجَدْوَلِ
فمن ثَمَرٍ طابَ في غفلةٍ
شهيٍّ وأعذب من سَلْسَلِ
تساقَطَ ليلاً على نِيَّةٍ
تقول لعين الحسود كُلي

الشعر ليس نظماً وجَرْساً وقوافيَ وحَسْب، بل معانٍ جديدة، لم يُسْبَقُ صاحبها إليها، عشرات السنين من الهجرة لم تنسه بيته في الجبل، فظلَّ يحِنُّ إليه، وإلى جلساتِهِ وغفواتِهِ في ظلال سنديانةٍ عتيقة بين وردٍ وفلٍّ، وحيث هنالك بيت جدوده الأُوَل:

الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين

أتعرِفُ بيتي بلحف الجبلْ
على جهة الشْرقِ من سنديانة
وسافرتُ في صبوتي للعملْ
ولم تُنسني الغفواتُ زمانَهْ
فزرتُ بلاداً، ولم ينتقلْ
ولمَّا يَزَلْ، رَغْمَ هَجْري مكانهْ
وأَعْرِف أين يَهُفُّ الأملْ
إذا ما جلَسْتُ إلى بيلسانه
هنالِك بيت جدودي الأُوَلْ
وَانَّى أَمَمْتُ أُرَجِّي حَنَانَهْ
ولا شيءَ يمتدُّ من هِجْرتي
إلى هجرةٍ في بياضِ الكَفَنْ
سوى من تخلَّف من أُمتي
فأَضْرَمَ في كل صَوْبٍ فِتَنْ

للشاعر شكيب تقي الدين غير كتابه هذا «خاتمة شعري» ديوان بعنوان: «ظلال العُمر» جُمِعَ وطُبع بعد وفاته.

شاعرٌ مُجدّد، كما قلنا، في إطار الموضوعات، وطريقة معالجتها، ورؤيتها بشكل فني جديد، مُتمكِّن العبارة، مشرقُها.

الحِوار عندَ المُوَحِّدين الدروز

المُقدَّمة

حين يَعتبر بابا رومه الأسبق القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1997 أنّ لبنان «رسالة سلام للعالم»، وعندما يصفه الرئيس الإيراني محمّد خاتمي سنة 2003 أنه «أرض الحرية والحوار»، تشعر كلبناني بمسؤولية عميقة نحو مفهوم الحوار، ودوره في تكريس الحرية والسلام، وليس فقط على صعيده الداخلي، بل كأنموذج يُحتذى به في العالم.

إنّ المؤسسات العاملة في مجال الحوار في لبنان متنوعة، والشخصيات التي تعاطت الحوار أيضاً متعدّدة. ولكنّ اختيار شخصية الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أتى كأنموذج لبناني للحوار، من طائفة الموحّدين الدروز، وذلك للتركيز بعمق على دوره في هذا المجال، وخاصة في الحوار الديني بين المذاهب والطوائف اللبنانية، بهدف الاستفادة من مفاعيله الإيجابية، على صعيد الامتثال بصفات هذه الشخصية ومسلكها في ممارسة هذا المفهوم.

المبادئ الأساسية للشخصية لتحديد سقف الحوار وأهدافه

وُلد الشيخ د. سامي أبي المنى سنة 1957، في قرية شانيه من قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، في عائلة تعود بجذورها إلى التنوخيين؛ عائلة ملتزمة مذهبيّاً، ورثت من أحد الأجداد (الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، ت 1272 ه)، وهو شيخ تقوى، المنزلَ والرسالة. لم يمنع التزام العائلة المذهبي الشيخ الفتى وأخاه من إتمام دراستهما في المدرسة الداوودية في عبيه ومن ثم في ثانوية بعقلين الرسمية في المرحلة الثانوية، ليكونا من أول مجموعة من الشباب المشايخ الذين يلتحقون بصرحها.

بدأ التدريس في مؤسسة العرفان التوحيدية، مساهماً بإدخال ثقافة المواطنة إلى برامجها، وكذلك «التربية التوحيدية» التي جعلت شعارها «تهذيب أخلاق الناشئة وصقل حسّها الإنساني»، مركّزةَ على القيم المشتركة بين جميع الأديان، ومنها التقوى وتوحيد الخالق وتعداد مكارم الأخلاق من كرم وشجاعة وصدق… مستشهدة بذلك بآيات قرآنية وأقوالٍ إنجيلية وعِبر من سير الأنبياء والصالحين.

انطلاقاً من صفات مسلك التوحيد «كمسلك ارتقاء ومسافرة في عالم المعرفة لبلوغ الحكمة»، عمل الشيخ على معرفة ذاته أولاً، ومسلكه التوحيدي تالياً، قبل الولوج في عملية معرفة الآخر من خلال الحوار.

معرفة الذات أصبحت لديه ثقافة ذات «سلوك ومسلك». رسم مسلكه التوحيدي من خلال ما تعلّمه من فكر إخوانه «الشيوخ الموحدين وتجاربهم»، ليحيا التزامه الروحي «مقتنعاً بأن العمل يجب أن يكون مجرّداً وهادفاً إلى إيصال الحقيقة وتقديم المعرفة الأمينة»، وعندما أنارت المعرفة طريقه، اختار تسطير كتابه «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز الخصوصية والاندماج». وضع القاضي الشيخ محمّد النُّقَّري هذا الكتاب في «قائمة المراجع الأساسية التي ستفتح لأبناء المذاهب الإسلامية ولأتباع الديانات الأخرى آفاق المعرفة الصادقة والأمينة لطائفة الموحدين الدروز». أثار هذا المؤلَّف د. نايلا طبَّارة التي اعتبرت أن «هذا الكتاب يدعو إلى الحوار على قاعدة التوازن بين الخصوصية والاندماج من خلال الحفاظ لكل طرف على حقّه بمساحته الخاصة حين يذهب بموازاة ذلك إلى المساحة العامة بصدق النيَّة وبإيمان بأهمية الشراكة والأخوّة في الوطن» مطالبة «اعتبار هذا الكتاب جزءاً من الإرث الثقافي اللبناني المشترك والجامع ليس فقط لإكمال المعرفة بطائفة الموحدين الدروز بل بالهوية اللبنانية الجامعة».

أصرّ الشيخ د. سامي على معرفة الآخر والحوار معه، فكان كتابه «الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان: رؤية الموحدين الدروز» خير معبِّرٍ عن ذلك، وقد قال فيه د.سليم دكاش «جعل من معرفة الذات من الوجهة السقراطية سبيلاً لمعرفة الآخر واحترامه لأن الصدق مع الذات يقود حكماً للصدق مع الآخر». أمّا د. أحمد حطيط فاعتبر أن الشيخ تصدّى في كتابه «لمسائل شائكة، قضّت مضاجع الحوار، فدرس ماهية هذه المسائل وعلّل أسبابها، متوقفاً عند ظروفها التاريخية وخلفياتها السياسية الداخلية والخارجية، وقارب حقائقها». أكّد د. عباس الحلبي، وهو أحد أركان الحوار الإسلامي المسيحي وأوّل من سلك هذا الطريق بجدارة، أن الكاتب كان جريئاً حين ذكر «الفتن الطائفية كمحطات مأساوية موضحاً أن لبنان لا يقوم ولا ينهض إلّا بوحدة أبنائه وبنسج علاقات راقية قائمة على الود واحترام الآخر»، ليفيد د. سهيل مطر أن الشيخ يكمل بذلك «مسيرة المصالحة بتنقية الذاكرة وبدونها تبقى حزازات الصدور كما هي»، حين عمل على إزالة المفاهيم الخاطئة عن الموحدين الدروز، وأبرز هويتهم الحوارية، وبيّن خياراتهم حول الدولة والوطن والسلام وقضية العيش المشترك والمواطنة.

ورث الشيخ موهبة الشعر عن والده، ولُقّب بـ «شاعر الجبل وخطيب الموحّدين». استغل الشيخ هذه الموهبة في تثمير منهج الحوار، والانفتاح على الآخر وقبوله، مسمياً إياه بـ «الأخ» في كل قصائده، مظهراً القيم الأرقى في الديانتين الإسلامية والمسيحية، ناشداً السلام، نابذاً التخوين والتعصّب، معتزّاً بهويته اللبنانية وبتاريخها العريق.

لم يقتصر النشاط الحواري للشيخ سامي على صعيد لبنان، بل تعداه إلى المحيط العربي والإسلامي، حين وُجّهت له دعوة شخصية لحضور مؤتمر تحت عنوان «الحرية والمواطنة،…التنوع والتكامل» بتاريخ 28 شباط والأوّل من آذار سنة 2017، في الأزهر الشريف في القاهرة بدعوة من مجلس حكماء المسلمين، إلى جانب 55 شخصية لبنانية من بين 200 شخصية عالمية تمّت دعوتها إلى هذا المؤتمر.

السعي إلى المعرفة من خلال كليّة العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف

تابع الشيخ د. سامي دراسته الجامعية في الجامعة اللبنانية؛ الإجازة والدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها، خلال فترة حرب لبنان، وبعد انتهاء تلك «الحرب المشؤومة»، وانسجاماً مع شخصيته الداعية إلى «الحوار والمصالحة»، وسعياً إلى «العلم كهدف دائم الذي لا تحدّه حدود»، وجد غايته أي «التقريب بين المسلمين والمسيحيين» في جامعة القديس يوسف وتحديداً في كلية العلوم الدينية – معهد الدراسات الإسلامية المسيحية، ليتخرج منها بشهادة دكتوراة في العلاقات الإسلامية-المسيحية، انسجاماً مع «سمات حقيقة الجبل ورسالته» مندفعاً بفرح «في مجالات الحوار والعلاقات والمصالحة مع أخيه الذي تصادم معه»، ليكون المتخرج الأول من طائفة الموحدين الدروز من هذه الكلية، مشجعاً وداعماً للعديد من إخوانه الموحدين لمتابعة هذا الاختصاص.
كتب في نشرة «في رحاب الحوار» في الجامعة ما يؤكد سعيه إلى معرفة الذات والتعريف عنها في سبيل الانطلاق إلى معرفة الآخر والحوار معه، وشارك في صياغة مقالات نُشرت في سلسلة «دراسات ووثائق إسلامية مسيحية»، ومنها على سبيل المثال، في النشرة الصادرة تحت عنوان «وجوه حوارية إشكالية ورواد كبار وتوقعات مقارنة».

قرّر «مكتب اليونسكو الإقليمي- بيروت» سنة 2008، بالتعاون مع «كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة وللحوار بين الأديان، جامعة القديس يوسف- بيروت»، إصدار كتاب «المظاهر الثقافية في الديانتين المسيحية والإسلامية». أشرفت على إعداد هذا الكتاب لجنة استشارية ضمّت الشيخ د. سامي أبي المنى الذي شارك ايضاً بالكتابة والصياغة.

دور الشخصية في الحوار من خلال مؤسسة العرفان التوحيدية

شكّلت مؤسسة العرفان التوحيدية، بصفتها المؤسسة التربوية الأولى عند الموحدين الدروز ذات الطابع الديني، والتي كما ذكرنا أن الشيخ سامي انتسب إلى عائلتها التربوية، نقطة الوصل له مع المؤسسات التربوية الأخرى، والتي فتحت له باب التعارف معها. إنّ تجربة الحرب الأهلية (1975-1989) دفعت الموحّدين الدروز إلى تبنّي فكرة الحوار، وحمّلت المؤسسة التربوية المسؤولية بمساعدة هذا التوجه العام، فكان التكامل بين شخصية الشيخ سامي والمؤسسة.

ساهم، بصفته الأمين العام لهذه المؤسسة، بتشجيع طلاب العرفان على المشاركة في نشاطات طلابية، تلاقي فكرتي الحوار والعيش المشترك، في حرم المؤسسة أو تلبية لدعوات من مؤسسات تربوية أخرى، تتبع إلى مرجعيات دينية مختلفة. وشارك الشيخ سامي، بمختلف النشاطات التي رعتها مؤسسة أديان وجمعية تصالح، عبر طلاب العرفان، تثميراً لفكرة معرفة الآخر والحوار معه لترسيخ العيش المشترك.

دور الشخصية في الحوار من خلال المجلس المذهبي للموحدين الدروز

ترأس الشيخ د. سامي أبي المنى اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي للموحدين الدروز، لثلاث دورات انتخابية. عملت هذه اللجنة على إقامة النشاطات الثقافية وساهم الشيخ سامي كرئيس لها في قِمم ولقاءات روحية، كما قامت اللجنة بتحضير لقاءات حول مواضيع حوارية متنوعة.

كلّ ذلك ساهم ببروز شخصيات عدة من الموحدين الدروز تتابع عمليات الحوار إلى جانبه. وبما أنّ «الثقافة أوسع من الدين»، عمل الشيخ على تكريم أوجه ثقافية متعددة، ساهمت في نقل المعرفة، وتوسيع ميدان الثقافة.

السعي إلى تحقيق الحوار من خلال مؤسسة أديان

بدأت علاقة الشيخ د. سامي أبي المنى مع مؤسسة أديان، من خلال تمثيله لمؤسسة العرفان التوحيدية خلال المشاركة بأنشطتها المتنوعة، والتي تنطلق من مفاهيم حوارية، ليصبح عضو شرف فيها، وأتت مشاركته في العديد من نشاطاتها، ومنها؛ مشاركته كممثل لمؤسسة العرفان التوحيدية في وثائقي «عكس السير» سنة 2011، ومواكبته مشروع «التربية على المواطنة الحاضنة للتنوع الديني»، بمراحله المتعددة.

أثمرت الشراكة بين مؤسسة أديان، ومنتدى ويلتون بارك البريطاني للحوار الاستراتيجي، ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ومقرّه في الإمارات العربية المتحدة، «انطلاق سلسلة مؤتمرات تهدف إلى الحوار بين القيادات الدينية والسياسية، حول المواطنة الحاضنة للتنوع، وكيفية تأصيل هذا المفهوم دينياً وتطبيقه عملياً، خاصة في الدول العربية». انعقد المؤتمر الأول في أبو ظبي من 12 إلى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر2018، باجتماع 50 شخصاً من القيادات الدينية وصانعي السياسات، من 18 مؤسسة إقليمية ودولية و11 بلداً مختلفاً، ومن بينهم الشيخ سامي، ليتمّ استكمال الحوار في مؤتمرات متتالية، بهدف التوصل إلى إطلاق «الشرعة العربية للمواطنة الحاضنة للتنوع»، والمتوقع التوقيع عليها في صيغتها النهائية سنة 2021.

بعد توقيع قداسة البابا فرنسيس- بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الدكتور أحمد الطيب – الإمام الأكبر للأزهر الشريف، بتاريخ 4/2/2019، على وثيقة «الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» في عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة أبو ظبي، وتعزيزاً لهذه «الحركة الإنسانية الحوارية» في لبنان، عملت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بشخص رئيسها الشيخ د. سامي أبي المنى، بالاشتراك مع مؤسسة أديان، وبالتنسيق مع السفارتين البابوية والإمارتية، على تنظيم «ندوة حوارية» حول هذه الوثيقة في مكتبة بعقلين الوطنية بتاريخ 23/3/2019.

الدور في ترسيخ مصالحة الجبل

منذ العام 2007، تحتفل مؤسسة أديان بيوم التضامن الروحي «في السبت الأخير من تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة»، بلقاء شعبي بين الأديان للاحتفاء بالقيم المشتركة فيما بينها. من بين هذه اللقاءات، تبنّى الشيخ سامي إقامة لقائين لـ«أديان» بإشرافه، أولهما جرى سنة 2012 في قرية عبيه، إحدى قرى العودة في قضاء عاليه، الذي حضر في جزء منه سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن مستقبِلاً، في ما شارك الشيخ سامي في هذا اللقاء حضوراً وتحضيراً له، بصفته رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، والثاني في قرية بريح الشوفية سنة 2016، حيث تمّ في نهاية الاحتفال تسمية الشيخ سامي عضو شرف في مؤسسة أديان تحت لقب «شاعر التضامن الروحي» لشهادته المميزة في «خدمة التنوع الديني الذي يبني الوحدة».

شارك الشيخ سامي في متابعة مصالحة الجبل في قلب المجتمع بالتعاون مع جمعيات أهلية وشبابية، من خلال مشاركته في المؤتمرات التمهيدية الأولى في بيت الدين ودير القمر، ومن خلال دعوة «لقاء أبناء الجبل» في عبيه سنة 2017، حين أُطلق على هذا اللقاء لقب «العامية» الذي انعقد تحت شعار «سوا ما منترك جبلنا…»، بمشاركة جمع من أبناء الجبل مسيحيين وموحّدين في دار مقام الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي في عبيه، والذي انبثق عنه وثيقة تضامن تاريخية لأبناء عبيه والجوار. بدعوة من لقاء أبناء الجبل أيضاً، وبمشاركة الشيخ سامي، تمّ عقد ندوة في جامعة سيدة اللويزة (NDU) تحت عنوان «دور المدرسة والجامعة في ترسيخ العيش المشترك»، وندوة أخرى في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (MUBS) في عاليه بتاريخ 5/8/2018 بعنوان «مصالحة الجبل في قلب المجتمع».

المساهمة في تأسيس كلية العلوم التوحيدية ودورها في عملية الحوار

باحتاج الموحدون الدروز إلى مؤسسة جامعية تنظّم تلقي العلوم التوحيدية لديهم، وقد كان ذلك حلماً قديماً لكمال جنبلاط كان يراه على مثال «دار الحكمة» القائم في القاهرة في زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. عمل الشيخ سامي مع القيّمين في العرفان على تنظيم مخطط تربوي لكلية جامعية بالتعاون مع الدكتور سامي مكارم والشيخ غسان الحلبي، لكنه بقي بين طيات الورق حتى نقله الشيخ سامي كعضو مجلس إدارة في المجلس المذهبي إلى مشيخة عقل الطائفة، التي تبنته في ما بعد وتابعت اللجنة الدينية تفاصيله، بتوجيه من سماحة شيخ العقل، مع الإدارات الرسمية حتى تأسيس «كلية الأمير السيد عبد الله التنوخي الجامعية للعلوم التوحيدية» سنة 2018. ينتسب إلى هذه الكلية طلاب موحدّون يسعون؛ إلى معرفة الذات من خلال اكتساب المعرفة ونقلها كأساتذة فيما بعد إلى تلاميذ المدارس التي تحتاجهم، وإلى معرفة الآخر وحمل راية الحوار حين اللقاء معه، مزوّدين بعلوم دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية متنوعة.

الحوار مع الآخر من خلال علاقته بالجنس الآخر
د. نايلة طبّارة

تميّزت شخصية الشيخ سامي، بالتوازن بين موجبات الالتزام الديني الذي يحمله، ومتطلبات الحياة المهنية والاجتماعية التي يمارسها. لم يمنع هذا الالتزام الشيخ المتديّن من التعاطي مع السيدات باحترام ووقار ونِدِّيَّة تحكمها معايير العلم والمعرفة. تراه يشارك في نشاطات ثقافية لتقييم أعمال سيدات ارتقين في المجال الأدبي، أو داعياً لأساتذته ومن بينهم النساء لنقد كتابٍ أنتجه. لم يتجنب يوماً الجلوس على منبر واحد مع سيدات يقدّمن حفلاً ثقافياً، أو يناقشن عملاً تربوياً، ولكن وفق ما تفرضه عليه ظروف وضعه الديني. تراه يشجع مدرّسات مؤسسة العرفان التوحيدية على إكمال تحصيلهنّ العلمي، ويكرمهنّ في المؤسسة حين ينلن أرقى الشهادات. تجده ينصح ويوجه ويرشد سيدات طلبن المشورة في أمور استعصت عليهنّ، دون تمييز لهنّ عن الرجال.

الخاتمـة

إنّ مسلك الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، في موضوع الحوار، جعلني أصيغ الخاتمة بما أفاد عنه عارفوه، حين تقول د. نايلة طبَّارة إنّ «الشيخ د. سامي لعب دورًا أساسيا ومِحْوَريا في الحوار، إذ كان أهم من أطلق الحوار من جانب الموحّدين الدروز مع الفئات كافة. فكان بشخصه الواضح وقيمه الثابتة ودقّته في الحوار والمفاهيم، ما ساعد إلى اطمئنان جميع الأفرقاء، مسلمين ومسيحيين من كافة الطوائف إليه. كما أن منهجيته التي تقول بوضوح ما يمكن مشاركته عن تاريخ وقيم وإيمان الموحّدين الدروز وما لا يمكن مشاركته، أيضًا ساهمت في ارتياح الجميع إليه وإلى الطائفة من خلاله. فعمل الشيخ على توضيح وإظهار صورة الموحدين الدروز، المبهمة عند الكثير من المسلمين والمسيحيين، وكان من رجال الدين الموحّدين الذي أكدوا أن الطائفة هي بالفعل مذهبٌ من مذاهب الإسلام. أراحت هذه الخطوة التعامل بين الجميع وأسهمت في تقارب إسلامي – إسلامي كما إسلامي- مسيحي من جهة الموحدين الدروز».
كما اعتبر د. أنطوان مسرَّة، أن ما يميز الشيخ د. سامي أبي المنى، هو ارتقاؤه في الحوار، لأن الحوار لديه هو «حوار إيماني أي يرتقي إلى ما فوق العقائد»، استناداً إلى مقولة إن «كل ما يرتقي يلتقي». كما التميُّز لديه في غَوْصِه في الجوانب الثقافية من خلال فكره وسلوكه، كما أنك في الحوار ترتاح إليه لأنه «لبناني أصيل، عربي أصيل، مؤمن أصيل، ومتجذِّر في التراث الوطني اللبناني».


المراجع:

  1. هذا البحث هو ملخص لدراسة أكاديمية نُشرت في مجلة «تحولات مشرقية» تحت عنوان «من رحاب الحوار إلى فلك الدولة»، في عددها الصادر في كانون الثاني 2021، بعدد من الصفحات بلغ 29 صفحة، تضمّ المصادر والمراجع التي استندت إليها الدراسة.
  2. أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية.

حَوْلَ مُعتقَد أبي العلاء المعرّي

تمهيد

قليلةٌ جدّاً الشخصيات الفكريّة والأدبيّة التي شغلت الناس والنقَّاد في دنيا العربية وهي على قيد الحياة، ثم ظلَّت تشغلهم، بالمقدار نفسه، بعد نحو ألف سنة من رحيلها. هوَ ذا حال أبي العلاء المعرّي، التَّنوخي المَحْتِد، بين أواخر القرن الرابع وأواسط القرن الخامس للهجرة.

لقد قيل في المتنبي، كعبةُ إعجابِ المعرّي ومثاله في الشعر، «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وكان ذلك حقّاً، لتفتُّق عبقريته الفكرية والفنية عن صور وأفكارٍ لم يسبق لها مثيل، باقية إلى اليوم، لا يزولُ وقعُها، ولا ينقضي ما احتوته من أفكار وصورٍ، بل ومعايير للفن الشعري الرفيع المستوى (الإغريقي المُناخ والسُّمو).

مع ذلك، فإنَّ ما عُرِضَ لشعر المتنبي من مديح ونقد، ولمعتقده من تفكّرٍ وظنّ، يبقى قليلاً قياساً بما حَظي به المعرِّي «العظيم»، في شعره، ونثره، وفي معتقداته، على وجه الخصوص، التي حيّرت كبار النقّاد من معاصريه، فتناقضوا واختلفوا في تفسيرها أيّما اختلاف. ثم تحوّلت بعد رحيله عن هذا الدنيا مصدراً لم ينضب لآراء ودراسات وكتب وأطاريح علمية بالغة الأهمية لمّا تزال تخرجُ إلى النور سنوياً، واستمرت، كما حالُ أحكامِ معاصريه، على تباينٍ شديد يصل حد التناقض الصريح – كما سنرى.
فمن هو المعرّي ذاك، «عبقري كلِّ الأزمنة»! بشهادة غير أديب
ومفكّر، قديمٍ وحديث، ووفق اعتقادي الثابت – وقد تعرّفتُ إلى أعماله الشعرية والنثرية منذ خمسين سنة، فدرستها مطوّلاً، ودرّستها مطولاً في قسمي الفلسفة واللغة العربية في كليَّات دراسية، 39 سنة جامعية عدّة.

حياة الرجل

شهدت مدينة «المعرّة»، القريبة من حلب،(شمال سوريا اليوم) ولادة المعري الطفل أحمد نهار الجمعة في الثالث من ربيع الأول 363هـ / كانون أوّل 973 م.

يعود أبو العلاء في نسبهِ لـ «تنوخ»، قبيلة عربية يمنيّة قدمت مع جيش أبي عبيدة بن الجرّاح في فتح بلاد الشام. نزلت القبيلة في معرّة النعمان، وكان فيها القضاة والشعراء والعلماء. وقد ورث أبو العلاء منهم من دون شك الكثير من ثقافته ونبوغه. وورث، كذلك، عن أخواله «بنو سبيكة»، عشيرة قدمت من حلب ونزلت المعرّة، الكثير أيضاً. وكان لكرَم أخواله وجُودِهم الفضل في اكتفاء أبي العلاء المادي، وهو يذكر فضلهم ذاك في غير مناسبة.

فقد أبو العلاء بصره في الرابعة من عمره لإصابته بمرض الجُدَري. لكن ذلك لم يحُلّ دون دراسته وتحصيله العلمي إلى أقصى حدّ في كنف أسرة اشتُهرت بالعلم وتسلُّم القضاء. كذلك لم يحُل عَماه دون تَرحاله طلباً لمزيد من العلم في المدن المجاورة، أو لِلِقاء علماء أخذ عنهم وذكرَ فضلَهم. إلّا أنّ أشهر رحلاته كانت تلك التي قصد بها بغداد، مركز الخلافة العبّاسية ومدينة العلم والعلماء والأدباء، وذلك سنة 398 أو 399 للهجرة وعاد منها سنة 400 للهجرة. لقيَ أبو العلاء في بغداد حُسن وِفادة وكثيرَ تكريم، وكان قد بات معروفاً – وهو في الخامسة والثلاثين. حضر في بغداد مجالس العلم والحكمة والمناظرات. وأشهر ما جرى له في بغداد كان في مجلس «الشريف المُرتضى»، إذ جعل هذا يهاجم المُتنبي؛ وأبو العلاء شديد الإعجاب به. فما كان من المعرّي إلّا أنْ علّق قائلا: «لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلّا قولُه: لكِ يا منازل في القلوب منازلُ، لكفاه فضلاً». فغضب المرتضى وأمرَ بإخراجه من مجلسه، وأكمل: أتدرون ماذا أراد الأعمى من القصيدة؟ يريد قول المتنبي:

وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادةُ لي بأنِّي كاملُ

عاد المعرّي إلى المعرة بعد سنة ونصف، فاختار العُزلة نهائيّاً (في سجن عماه، ومنزله، وجسده، ثلاثاً ذكرها المعري في شعره). لم يغادر المعري محبسه إلّا في النادر (كما حدث حين دفعَ عن المعرة غضب صالح بن مرداس صاحب حلب بعد حصاره لها «إكراماً للشيخ). وكان في محبسه زاهداً، متقشّفاً، لا يأكل لحم الحيوان، ولا مشتقاتها، وحتى بعض النبات؛ مكتفياً بلبدة صوف فراشاً في قرِّ الشتاء وحصيرة قشر في حرّ الصيف. لمنامه، في روايات معاصريه. ومع ذلك فهو لم يكن معتزلاً متنسِّكاً، بل كانت داره كعبةً للقاصدين، زواراً وطلاب معرفة، إلى أن توفّاه الله سنة 449 للهجرة بعد مرض لأيّام عدّة.

أمّا ميزته الثابتة فكانت ترفّعه عن مِتَع الدنيا، فلم يكن ساعياً لمجد، أو منصب، أو مال أو حتى هديَّة؛ وقد ظهر ذلك في بغداد التي كانت تعيش زمن تكسّب الشعراء ووقوفهم أمام بلاط الخلفاء والوزراء والولاة. بخلاف سمة العصر في التكسّب من خلال فن المديح، أو التقرّب من السلاطين. كان المعري نزيل منزله، بل محبسه، يتقرّب إليه الولاة، ويحجُّ إليه العلماء، ويسعى جمهوره الواسع إلى طلب النصيحة، وردّ غائلة الزمن، كما حدث غير مرّة مع أهالي معرّة النعمان، إذ منع عنهم غدر الوُلاة أكثر من مرّة «إكراماً للشيخ»، كما لو كان «حِرزاً» عليهم؛ فبات الذين يقفون على بابه، كما قيل، أكثر من الواقفين بأبواب الولاة.

ثقافته وأعماله

لا جدوى من مقارنة ثقافة المعري بأيٍّ ممّن نعرف من ثقافات سواه من العلماء والأدباء. وبسبب من اتساع معرفته وثقافته غير العاديتين، في كل باب تقريباً، فقد اختلطت الحقائق بالأساطير.
وُهِبَ الرجل، بإجماع الباحثين، عقلاً، وذكاء، وذاكرة، تظنّ أنها ليست للبشر، بل لآلهة الإغريق، على سبيل المثال.

كيف لعقل إنسان فقد بصره وهو دون الرابعة من عمره أن يتقن حتى الكمال (الممكن) ما أُتيح أو عُرض له، بل لعصره، من ثقافة في أبواب: اللغة، والأدب، (من شعر ونثر وبيان وبديع وبلاغة وفنون أُخرى)؟ أضف إلى ذلك التاريخ بمراحله السابقة كافة، والأنساب، والديانات، والفلسفة، والفكر بعامة؟ وغير بعيد عن الصحة قولة من قال، إن اللغة لتأخذ بعد القرآن الكريم من المعرّي. أو قول آخر: لا أظن العرب نطقت لفظة لا يعرفها المعرّي.

وكيف لذكاء أيٍّ كان أن يُضارع ذكاء من يعرف ضيفه إذا تحدّث، أو حاله إذا تكلّم، أو ما قصد إليه ولم يظهره من ثنايا خطابه؟ أو أن يستشعر الفروقات البسيطة بين هذه وتلك، بمجرد إحساسه بها: فيدرك أنّ ورقة كانت تحت الفراش الذي يجلس عليه فأزيلت! وكذا في ما أوردناه من مجلس الشريف المُرتضى.

كيف لذاكرة بشريٍّ أن تضاهي ذاكرة المعري الأُسطورية، ولطالما نسج المؤرخون حولها الأساطير: يزور مكتبة المدينة الفلانية أو الحاكم الفلاني، فيطلب لمرافقه أن يقرأ له ما وسعه من كتب، فتصبح في ذاكرته وعقله وكأنه رآها وقرأها غير مرّة؟ أو تمرّ القافلة في طريقه إلى بغداد سنة 399 للهجرة بشجرة تعوق العبور على الطريق، فيُطلب من العابرين، في العادة، خفض الرؤوس، فإذا به في أثناء عودته بعد سنة كاملة (400 للهجرة)، يخفض رأسه في المكان عينه وسط استغراب من معه، فالشجرة المعنية كانت قد قُطعت ولم يعد لها من وجود.

أو خذ حافظة ذاكرته أيضاً، أنّ المعري الصبي سمع شجاراً بين فلاحَيْن بالسِّريانية، (وهي شائعة في قرى شمال سورية آنذاك)، وحين ذهب الرجلان إلى القاضي ليفصل في خلافهما، طلب شهوداً، قالا له لم يكن هناك غير صبي أعمى؛ وإذ طُلِب ليشهد ردّد ما قالاه حرفيّاً وهو لا يفقه شيئاً من معناه؟

توفرّت للمعري ثقافة وعلوم عصره جميعها، وما أتيح له ممّا سبقه: اللّغوية، والأدبية، والفقهية، والفلسفية. قال فيه بعض أهل عصره: كانت معرفته باللغة معرفة تامة. (إبن الجوزي) وقال آخر: ما أظن نطقت العرب بكلمة لم يعرفها الشيخ. (البديعي) وبدا تأثير ذلك جليّاً في أعماله شعرِه، ونثرِه، كما في أعماله المبتكَرة والرائدة. بلغت أعمال المعري، حسب مؤرِّخ عصره، القفطي، خمسة وخمسين كتاباً، عدا الرسائل، وهي بالمئات. أهمُّ أعماله التي وصلتنا: «اللزوميات» في مجلدين، جعلها المعري في أبواب الحكمة والوعظ والرأي. «سِقط الزند»، هي شعر المعري، غير الفلسفي كحال اللزوميات. فيه بعض أرقّ شعره، كما قيل. «رسالة الغفران»، فيها ظاهراً شروح لمسائل لغوية وفقهية، وأعمق من ذلك نقده في غير اتجاه. اهتم المستشرقون برسالة الغفران أيّما اهتمام، فتُرجمت باكراً، بل عدّوها رائدة في بابها، نسج على منوالها بعد ذاك بعدة قرون «دانتي» وآخرون. إلى أعمال لغوية وأدبية أُخرى، حيّرت معاصريه، لغرابة بعضها، وغُنوض الكثير منها، فذهبوا في تفسير مُعتقد المعري انطلاقاً من الغموض ذاك.

معتقده

إذا كان للمؤرخين والباحثين، من زمن أبي العلاء أو في أزمنة لاحقة، أن يتنازعوا في نقطة وحيدة أيّما نزاع، فهي من دون شك تلك المتصلة بمعتقديه، الفكري والديني. والنزاع في الثاني أبعد غَوْراً وأشدّ خطراً ممّا هو في الأول. يقول أدوار البستاني في كتابه «أبو العلاء المعري، متأمّل في الظُّلمات»: «لم يختلف الرأي في عقيدة رجل كما اختُلِف في عقيدة المعري. فقد أجمع قوم على تكفيره… من أمثال أبي الوفاء بن عقيل (القرن الخامس للهجرة)… وابن الصابئ… والقاضي أبو جعفر الزوزني… وعبد السلام القزويني… (وآخرون)»ص 44-45.

في مقابل هؤلاء، نهض تلامذته، ومُريدوه، يردّون تهمة الكفر تلك، ويوضحون ما ومن قصد شيخ المعرة في نقده؛ وأنه إنما تناول مظاهر الخروج على الدين، لا الدين؛ وأن نقده اتجه للمنافقين، لا للدين، ولا للمتدينين الورعين المخلصين. وسيرى القارئ، التفسير الحقيقي، كما اعتقد، لأفكاره، وكيف رأى إليها كبار باحثي العصر الراهن، من أمثال طه حسين، والعلايلي، ومارون عبود.

نبدأ بمعتقده الفكري، غير المُنفصل كما سنرى عن معتقده الديني، وإن كان في الغالب إلماحاً لا صُراحاً، ويحتاج إلى ربط ومقايسة واستخلاص نتائج.

في معتقده الفكري (وربطاً بالديني أيضاً)، لا أظنّ أنّ مفكراً سبق أبي العلاء إلى بناء معيار في اليقين يقوم على اللايقين:

غدوتُ مريضَ العقلِ والدينِ فالقني
لتعلمَ أنباءَ الأمورِ الصحائحِ

أمّا من سبقه، أو عاصره على نحو دقيق، في بيان عجز العقل عن بيان الحقيقة، أو «الأمور الصحائح»، فهم جماعة «العِرفان»، في كل معتقد ودين ومسلك. هل قصد المعري «غدوتَ» بالفتح؟ إذا كان الأمر كذلك، لا جديد رئيسي أو حاسم. إلّا أن الأمر ليس كذلك، بل هو جزء من تورية المعري، و«باطنيّته» ومَجازاته التي استخدمها غير مرة ليدفع سامعه أو قارئه إلى حيث يكتشف معتقده الفكري والديني. ومنها مثلاً:

وليس على الحقيقة كلُّ قولي
ولكنْ فيه أصنافُ المجاز

والمجاز metaphor في قواميس اللغة هو «صرف النظر عن معناه الظاهر»، و «تجاوز ما وُضع له»، و»المعنى المجازي، هو المعنى المستعمَل في غير ما وضع له أصلاً».

هوَ ذا المجاز الذي احتاجه المعري في عصره – القرن الخامس للهجرة حيث أحكم المتشددون القبضة على الدين والسياسة. المجاز هنا هو الأداة البليغة في إيصال المعنى المقصود، غير ظاهر الكلام. وقد لجأ المعري إلى الأداة تلك المرّة تلو المرّة لإيصال أفكاره.

نعود إلى «مريض العقل والدين»، فإذا هي تعني وفق التحليل السابق (صحيح العقل والدين). ما من أحد، في ما أعرف، قبل أبي العلاء رسم هذه المعادلة غير العادية أو المألوفة، ومُختَصرُها: يجب أن تكون مريض العقل والدين «لتعلمَ أنباء الأمورِ الصحائحِ». هي تشبه منهج سقراط في ادّعاء الجهل والضعف (أي مريض العقل) كي يستخرج من خصمه في النقاش أفضل ما عنده، فيخرج من متاهات الضلال إلى نور اليقين (الصحائح). حرصتُ على استخدام تعبير أبي العلاء دقيقاً كما ورد في النص، لأنّه من الجدةِ والخطورةِ إلى أقصى الحدود، وكما لم يحدث من قبل – إلّا ربما بعض إشارات الشُّكاك الإغريق – أو من بعد، خلا ما نجده، أيضاً، عند «نيتشه»، الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، في ملاحظات تبدو متشابهة.

لا يختلف اثنان، كما أَعتقد، أن تفرّد أبي العلاء قد بلغ في بيت الشعر الأخير كل حد، ولفظ «العبقرية» لا يقدّم أو يؤخّر كثيراً، بل لعلَّه لا يفي «ثقافة» أبي العلاء حقّها.

في معتقد أبي العلاء، وفي خط البيت الأخير، ربما نجد بيتاً ثانياً يبدو قريباً إلى الأول في معناه، دون أن يكون في قوته، وهو:

إذا قلت المحال رفعتُ صوتي
وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي

ما يجمع بين البيتين، في المقام الأول، أن لا تغترّ بظاهر ما تقرأ، حتى للمعري. هذا المعري الظاهر؛ أما المعري الحقيقي ففي مكان آخر، لا سبيل لإدراكه إلّا إذا كنت «مريض العقل والدين». والمعنى الحقيقي لـ «مريض» في بيت المعري هو على عكس ما يوحي به ظاهر القول: أي «صحيح العقل والدينِ». هذا هو المعنى الضمني لمريض العقل والدين. إنه تفرّد المعري وإعجازه فلا يقدّم لنا معتقده بسهولة وعلى طبق من فضّة، وإنما عليك أن تتعرّى من الظاهر، خطوة أولى، لتلتقط الحقيقة. وإن لم تسعفكَ قدراتك في أولّ الطريق، فكيف الحال في مراحل الطريق المتقدمة، الأعلى، والأكثر تطلّباً. المبتدئون لا حظَّ لهم في الدخول إلى عالم المعرّي الغامض المليء بالإشارات والتلميحات، لا التصريحات والإيضاحات السهلة. وسبق للمعري أن نبّهَنا – منهجيّاً – في أكثر من موضع، كي لا نخطئ أو نتسرّع في أحكامنا.

لقد مدّ المعري لنا يد المساعدة حين قال بوضوح: لا تظنّوا أن كل ما أقوله ظاهراً هو الحقيقة (وليس على الحقيقة كل قولي)، وإنّما فيه ما يجب أن يؤخذ مجازاً- على اتساع ما يتضمنّه مفهوم المجاز في اللغة، كما شرحنا أعلاه.

ذهب المؤرخون والمدققون المعنيون بمعتقد المعري الفكري والديني وكلّها نظريات، في حقيقة الأمر، وتختصر في أربعة:
أوَّلُها، رأي المتشددين الذين أخذوا المعري بظاهر قوله، لإعلان فساد معتقداته.
ثانيها، نظرية التحفُّظ، بل العجز، عن إثبات معتقد نهائي ثابت للمعري.
وثالثها، أخذ المعري بقعر أفكاره القائم تحت ظاهر القول، لإعلان حقيقة معتقده. وهي أقرب إلى فلسفة اللّغة،
والنظرية الرابعة، تجزم استناداً إلى الكثير من شعره، وما رُوي عنه، أنه من «أهل التوحيد»، بل احد شيوخ مسلك التوحيد، أو فرقة التوحيد الإسلامية.
وسنفصّل يعض الشيء في الاتجاهات أو النظريات الأربعة أعلاه.

الاتجاه الأول، ولا يرقى إلى مستوى النظرية، يمثّله بعض المتشددين الذي اكتفوا بظاهر قول المعري، فتسرّعوا بالحكم عليه يمنة ويسرة. ساء هؤلاء نقد المعري لمظاهر وسلوكيات كانت قد طغت في القرن الخامس الهجري، فباتت هي الدين في حرفيته وظاهره وشكلانيته، وهو ما انتقده المعري بقسوة. ساء المعري أن تجد شارب خمرة في أثناء إداء فريضة الحج، أو منافقاً يبيع ويشتري ويقرض بالربا وهو يزعم التديّن، أو «واعظ نساء» يوغل في الحثِّ على الفضائل وهو أوّل من يهملها بل ويمارس الرذائل؛ وساءَه أن يجد مسلماً لا يطيق نصرانياً، أو العكس، بينما الدين عند الله واحد. في نقد المعري ذاك نقرأ له، (في اللزوميات) على سبيل المثال:

وما حجّي إلى أحجار بيتٍ
كؤوسُ الخمر تشرب في ذراها

بل قال أكثر محذِّراً من مكر الماكرين المخادعين:

أقيمي لا أعدّ الحجّ فرضـــاً
على عجزِ النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكّة بعض قوم
وليســـوا بالحُمــاة ولا الغيـــارى
قيامٌ يدفعون الوفـــد شفعــاً
إلى البيت الحـرامِ وهو سكارى

أو آخر «صاحب حيلة»، سِكّيرٌ، مُخادعٌ، يعظ النساء:

رويدكَ قد غُرِرْتَ وأنت حرٌّ
بصاحب حيلة يعظُ النساءَ
يحرّم فيهمُ الصهباء صبحـاً
ويشربها على عمدٍ مساءَ

أو نقده مجرّد أخذ الدين بالتقليد والوراثة، دونما تبصّر أو إيمان شخصي حقيقي:

وينشأ ناشىءُ الفتيان منّــــا
على ما كان عوّده أبوه
وما دينُ الفتى بحجىً ولكن
يعلّمه التـديّن أقربــــوه

أو قوله في المنافقين، يرجون عمل الخير، بينما يردّون الفقير؛ ويدعون للزهد في الدنيا، فيما لو قدروا على إيوان كسرى لما ترددوا:

رَجَوْا أن لا يخيب لهم دعـــاءُ
وكم سأل الفقيرُ وخيّبوهُ
ولو قدروا على إيوان كسرى
لساموه الــردى وتعقّبــوهُ

هذا بعض من نقد المعري الصريح، القاسي، للمنافقين، المخادعين، المستغلين موقعهم الديني لنشر الفساد، فيما هم من الدين الحقيقي براء.
جلبت مواقف المعري المبدئية تلك عليه حملة إمّا هي ممن قصدهم المعري في نقده، أو ممّن أخذوا المعري في ظاهر قوله لا أكثر ولم يسبروا أغوار نقده وما قصده بحق.

بين أهم أولئك الذين انتقدوا، بل كفّروا المعري، بسبب من نقده القاسي ذاك، دونما كبير بحث أو تنقيب في عمق الألفاظ وعدم الاكتفاء بظاهرها، فشككوا بصحة إيمانه من المعاصرين له أو بعده بقليل، القاضي أبو يوسف القزويني، وأبو الوفاء بن عقيل، وابن الصافي،والقاضي أبو جعفر الزوزني، وأحمد بن محمّد الأخشيتكيي (لعلَّه الأخشيدي) وآخرون…

في الاتجاه الثاني، المتحفظ ، نجد طه حسين، وآخرين، ممّن أمسكوا عن جعل المعري في معتقد محدد. وحجتهم في ذلك التباين، بل «التناقض» أحياناً، بين أقوال المعري المتضمنة آراءه في غير موضوع ومكان: في الموقف من الأنبياء، والمَعاد، والجنة والنار الماديتين، والعقل، والقياس في الدين، والإمامة، وعناوين أخرى أساسية.

ويتسلّح هؤلاء بشكوك أبداها المعري في أكثر من مكان، أمسك فيها عن إثبات أي شيء حقيقي أو نهائي. بل هو اعتبر غير مرّة أن بلوغ الحقيقة من باب المحال. فلنتأمل قولَه:
أمَّا اليقينُ فلا يقينَ وإنّما
أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا

وفي هذا الباب أيضاً، تردُّد المعري وحذرُه، وهو منتهى الأمانة، في إثبات رأي أخير في أيّة مسألة حاسمة، بل تحتمل جميعها النفي والإيجاب، يقول (في اللزوميات أيضاً):

ويعتري النفسَ إنكارٌ ومعرفةٌ
وكلّ معنى له نفيٌ وإيجابُ
وقولهُ في إطارٍ أوسع بكثير:
دينٌ وكُفرٌ وأنباءٌ تُقَصّ وفــر
قانٌ يُنَصّ وتـــوراةٌ وإنجيل
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها
فهل تفــرّد يوماً بالهدى جيلُ

سؤال المعري برسمِ تاريخ الأفكار والديانات بأسره: «هلّ تفرّد بالهدى جيلُ؟»
لا يعنينا الجواب الآن، وإنما فقط الإشارة إلى تردد المعري في إثبات أو نفي «حقائق» الدين والفكر. ويلفت هنا أنّ نقد المعري لم يقتصر على هذا الجانب دون ذاك؛ وإذا كان البعض لم يرَ إلّا نقده للتجارب الدينية، فاللزوميات تتضمن عشرات حالات النقد للقياس العقلي أيضاً، كما للفلسفة، وللتصوف، وللتفسيرات الباطنية، وللإمامة، وسواها. فلا تكاد تجد له موقفاً محدداً من مسألة معينة، حتى تجد له في المسألة نفسهاً رأياً مخالفاً. وعليه، يصعب جعل المعري في موقف أو رأي محدد، بل هو ناقد لكل شيء تقريباً، لا يجد الحقيقة الأخيرة في شيء – خلا الموت، الذي رأى فيه المعري حقيقة تعلو كل شكّ:

سألت عن الحقائقِ كلّ يومٍ
فمــا ألفيتُ إلّا حــرفَ جَحدِ
سوى أنّي أموتُ بغير شَكٍ
ففي أيِّ البلادِ يكون لحدي؟

ولكن، كي لا يُساء تفسير شكوك المعري، فهو قد أثبت في كل الأمكنة وجود إلهٍ خالقٍ حكيم؛ وتسقط بذلك دعاوى من اتهمه بالإلحاد – وفي اللزوميات عشرات أبيات الشعر المُثبِتة لإيمان المعرّي ذاك، ومنها:

أثبتُ لي خالقاً حكيماً
ولستُ من معشر النُّفاةِ

أو قوله:

يثبتنَ ربّاً قديراً لا كفاء له
وما عمدتُ لغير الله إثباتا

بل هو يدعو لتركع وتسجد وتتهجّد لإله كهذا:

إركع لربّك في نهارك واسجُدِ
ومتى أطلت تهجّداً فتهجّدِ

وقولٌ أخير له في الموضوع يُظهر إيمانه بالله حقيقة تامة تشمل الأرض والسماء، يقول:

قضى الله فينا بالــــذي هو كائنٌ
فتمّ وضاعت حكمة الحكمـاء
وهل يأبقُ الإنسانُ من ملكِ ربّهِ
ويخرجُ من أرضٍ له وسماءِ

بل يذهب طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» أبعد من ذلك في نفي أي معتقد، أو رأي نهائي، للمعري؛ فيعتبر أنّ شيخ المعرة إنّما كان يستعرض مهاراته التي لا حد لها، كنوع من «اللعب» اللغوي.

لا يذهب الكثيرون مذهب طه حسين، لا في شكّه، ولا في نظرية «اللعب اللغوي». وقد ردّ كثيرون على عميد الأدب العربي طه حسين في نظرية اللعب تلك. أكتفي بردّ الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي أصدر بعد وقت قصير من صدور كتاب طه حسين عن المعري (1946) كتاباً ردّ فيه على طه حسين مفنِّداً نظريته في أن المعري ملأ فراغ وقته بالألاعيب اللغوية. يسمي الرصّافي المعري (الإمام الأوحد فيها (علوم اللغة) بين أهل زمانه) ص 38، ويردّ بعد ذلك مباشرة على رأي طه حسين السابق مفنّداً إياه، يقول:»…إنّ أبا العلاء الذي عرفنا أخلاقه في اللزوميات أجلّ وأعلى من أن يريد من الناس إكباره والإعجاب به» (الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ص45). ويردّ عليه في نقطة أُخرى، فيقول: «كل من كتب عن أبي العلاء في هذا العصر عَزاه إلى التشاؤم، وعزا تشاؤمه إلى فقد بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة لا يرى فيها خيراً ولا يوجس منها إلّا شرّاً. ونحن لا نوافقهم على ذلك، بل نقول: إنْ كان المُراد بالتشاؤم الذي يتهمون به أبا العلاء السخط على الحياة….فإن سخطه هذا لا يُعدُّ تشاؤماً…فسخطه يؤيده العقل الصريح، والفكر النافذ والاختبار الطويل والتجربة الصادقة، ومتى كان السخط كذلك كان سخطاً علميّاً فلسفياً لا ظنّياً ولا وهمياً؛ فليس هو إذن من التشاؤم في شيء…. وأقواله في اللزوميات (تدلّ) على أنه لا يُماشي إلّا الحق ولا ينفر إلّا من الباطل ولا يتحرّى إلّا الحقيقة ولا يستنكر إلا القبيح»(51-52)

إلى ذلك، نقول أن شكّ أبي العلاء لم يكن لغواً، ولا شكاً في سبيل الشك، بل شك في سبيل الوصول إلى اليقين على قاعدة صلبة ثابتة. كذلك كان شك سقراط، والغزالي، ثم ديكارت حديثاً: الشك هو الطريق الموثوق إلى اليقين.

الشيخ عبد الله العلايلي

أما التناقضات التي نجدها في آراء فيلسوف المعرّة، وقد أخذها عليه طه حسين، فتنجلي بسهولة إذا تجاوزنا ظاهرها وبلغنا عمقها وأدركنا جوهرها. إنَّ فَهم ما قاله المعري في ستين سنة لا يمكن فصله عن سياق ما قيل، أي تاريخه وموقعه، واللزوميات لا تسعفنا إلى ذلك. وقد أشرت إلى الصعوبة تلك في بحثي الذي أسميته «المعري شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء» ضمن كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ثلاثين سنة؛ وقد أوضحت في سياق البحث أن ترتيب القصائد أو النُّتف الشعرية في اللزوميات وفق ترتيب أبجدي يأخذ بآخر حرفين في القافية (وهذه صعوبة لغوية لم يسبق المعري إليها إلا القليل)، تشهد على مدى إبداع المعري اللغوي والشعري، لكنها لا تفيد في ترتيب أفكاره: فالمطلوب، كما قلت في بحثي عن المعري، «تحقيب» شعره، أي مُراعاة الترتيب الزمني للقصائد، لنكتشف إذ ذاك الأفكار التي انتهى إليها شيخ المعرّة.
والاتجاه الثالث، للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، وفيه رأي بل نظرية متكاملة، جديدة تماماً على الباحثين في المعري جميعاً،
يذهب العلايلي إلى أن للمعري فلسفة متكاملة، فلسفة الكون – اللغوي، إذا صحّ التعبير، وهي نظرية جديدة متفرّدة للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي في فهم معتقد المعري بسَطها في كتابه: «المعرِّي ذلك المجهول» الصادر سنة 1981.

يقدّم العلاّمة العلايلي في كتابه أعلاه تصوره الخاص لملامح نظرية فلسفية متكاملة تسكن نتاج المعري الشعري. فالمعري، حسب العلايلي، هو أوَّلاً وآخراً اللُّغوي الذي لا يُبارى، وعليه فقد استخدم المنهج اللغوي «لا قصد التعبير فقط، بل قصد التعليل والإدراك الكلي أيضاً… وطريقته إلى التصور الفلسفي تُحْسَبُ أشدّ طرافة وأكثر غرابة واستهواء.» (ص 36)

وانطلاقاً من قاعدة أن اللغة العربية «التي هي اللغة التامة»، رأى العلايلي أن المعري ذهب بهذه اللغة لتعبّر عن ظاهرات الطبيعة والوجود نفسه، وعن كل مظاهر التغيير في عالم الكون والفساد، وأنّ في اللغة أشياء الحياة كلها، وفي اللغة إعلال وتصحيح وفعل وانفعال وتفاعل، وفي اللغة تضعيف وإدغام واشتراك، ويضيف: «أليس في اللغة جسم وروح كاللفظ والمعنى؟ أليس في اللغة عالم غيب وعالم شهادة في المُضمَر والمضمِر، قال:
ما زال مُلكُ الله يظهرُ دائباً
إذ آدمٌ وبنوهُ، في الإضمار

….إذاً، ففي اللغة طبيعة وحياة ومجهول، أو هي عالم كامل عن عالمنا وهي أكثر تعبيراً عن كل هذا، من عالمنا المُحجب. فلماذا لا تكون اللغة هي الجانب الناطق عن ذلك الجانب الصامت، لا سيّما وهناك من لا يشكّ في أنها توقيف أي وحي، ومن لا يشك في دلالة العدد بينما اللغة تبطنه» (37-38).

ويخلص العلايلي إلى ما يلي: «هذا شيء لم يصرّح به أبو العلاء ونحن لا ننتظر منه تصريحاً، وهو الذي يبعثر بالقصد إشارات الطرق آخذاً على الآخرين سبيل الوصول إليه، وإنما ذلك شيء نحن نستنتجه استنتاجاً من إيماءاته، وبمعاناة غير يسيرة…. كما لا يستقيمُ تفسيره بالعبث تحلية وتوشية وبالتصنّع براعة وتفوقاً، قال:

من يبغِ، عنديَ، نحواً أو يُرِد لغةً
فما يساعفُ من هذا ولا هـــذي
يكفيكَ شرّاً، من الدنيا، ومنقصـةً
أم لا يبين لك الهادي من الهاذي

كان العلايلي يَرُدّ، من دون تسمية، على طه حسين الذي اعتبر أن إبداعات المعري في اللغة كانت نحواً من العبث وإظهار البراعة والتفوق.

العلاّمة العلايلي، ومن دون أدنى شك، هو من اقترب إلى حد المضاهاة والتطابق من منهج المعري اللغوي، ولعله في التميّز والتفرّد والتبحّر الأكثر قرباً من الجميع إلى المعري. إلّا أن مجال البحث الضيّق لا يسمح الآن بأكثر من مجرد الإلماح إلى نظرية العلايلي، على أن نعود إليها في عمل أوسع قريباً.

يبقى الاتجاه الرابع، والأخير، وخيرُ من عبّر عنه هو الأديب مارون عبّود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». نظرية الأديب الكبير مارون عبود في تفسير مُعتقَد المعري تذهب في اتجاه مختلف تماماً عمّا رأيناه حتى الآن. باختصار، هي تجعل المعري أحد أتباع، بل أسياد، «مذهب التوحيد»، على طريقة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وسنشرح النظرية الأخيرة هذه، نظرية مارون عبّود، مع بعض التوسّع نظراً لفرادتها، وريادتها، وأهميتها.

الأديب مارون عبود

بذل الأديب المبدع مارون عبّود في كتابه («أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، 1946)، جهداً استثنائياً للدفاع عن نظريته في معتقد أبي العلاء المعرّي، ومؤدّاها باختصار، وبمفردات مارون عبّود: «فاطمية أبي العلاء» (ص 72). ويوغل مارون عبّود في المزيد من التعيين والتحديد لعقيدة أبي العلاء فيقول على نحو لم يسبقه إليه كاتب آخر: «وليس كتاب لزوم ما لا يلزم غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالاً وليطمئنوا في خلواتهم، فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشكَّ لحظة «بالمذهب» وما ارتدّ قط.» (ص 68) ويضيف:
«لستُ أقول أن أبا العلاء درزيٌ اسماً، فقد سمّوهم هكذا بعد. ولكني أقول أن مذهبهم مذهبه، وأنّ ما نراه اليوم عند الطبقة «المُتَنَزِّهة» من تقشفٍ وزهدٍ في الدنيا مأخوذٌ من اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريِّه، أبو العلاء المعري» (ص 68)

ويمضي مارون عبّود قُدُماً في تفسير حياة المعري، وبخاصة بعد عودته من بغداد (400 للهجرة)، وفي تفسير اللزوميات على وجه الخصوص وفق منهج مقارن دقيق يقود بجلاء إلى مطابقة أفكار المعري، ومعتقده، مع الأفكار الفاطمية، وبخاصة مع الأفكار المتفردة التي دعا إليها الخليفة الفاطمي السادس (أفكار التوحيد) باعتبارها أعلى درجات العرفان، بل الإحسان، التي أوردها القرآن الكريم في غير صورة وموضع.
ينطلق مارون عبّود من مُقَدَّمات منطقية وتاريخية في آنٍ معاً، لإثبات فكرته في أن معتقد المعري هو في خط يقين أهل التوحيد. أُولى مقدَّماته، إيمان المعري المُطلق بالعقل، يقول:
«أمّا العقل العلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بعينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضاً؛ فهو يرى كما يرى الفيثاغورويون أن الطهارة في خلاص النفس من البدن، لأن الجسد قبرٌ للنفس وهو عدوها اللدود، وفي هذا قال المعري:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عـن الخبــر النـبيثِ
لفَقدي ناظري، ولـزومِ بيــتي
وكونِ النفس في الجسد الخبيثِ

…والفيثاعورية كالمُنظَّمات الدينيّة اليوم، عاش أعضاؤها في عفَّةٍ وبساطةِ لبسٍ ومأكل، وقد حَرّمت أكل لحم الحيوان وبعض النبات – كما حرّم الحاكم أكل الملوخية مثلاً» (106-107).

بانتساب المعري إلى المنهج العقلي الصارم، بات مفهوماً تبرّمه مما يخالف العقل من أفكار جارية لم يجرِ التدقيق فيها. ومنها مثلاً نقده فكرة الإمامة واعتباره العقل وحده إماماً، حين قال:

يــرتجي النـاسُ أن يقــوم»إمامٌ
ناطقٌ» في الكتيبة الخرساء
كذبَ الظنّ لا إمام سوى العقلِ
مشيـراً في صبحه والمساءِ

وإذا قال قائلٌ أنّ المعري بنفيه الإمامة إلّا عن العقل إنما يخرج عن المذهب الفاطمي، يردّ مارون عبّود: «وهذا الظنّ منتهى الشطط لأن «الإمام» يتوارى في قمّة الدعوة الفاطمية – الدعوة التاسعة – ويحلّ محله العقل. يصير الإمام رمزاً لمعنى ليس أكثر» (106).
ويخلصُ مارون عبّود في نهاية الفصل المتعلّق بمعتقد أبي العلاء المعري إلى ما يلي:
«وإن تتبعني أيها القارئ الكريم بعد أن تتجردَ من ذاتك التقليدية فستعود من رحلتنا هذه وأنت واثقٌ مثلي أن شيخ المعرّة هو إمام المذهب الفاطمي، وكتاب «لزومياته» هو كتاب المذهب، وإنما عليك أن تقرأ ما كتبتهُ بإمعان، وتتبحَّر في عبارات «الدعوات التسع» فتدرك مثلي وتبصر» (ص 74).

هو ذا مضمون رأي مارون عبّود في معتقد أبي العلاء. ومارون عبّود ليس بالكاتب المبتدئ ليبغي شهرة من نظريته، ولا بالحدث المتهوِّر الذي يلقي برأيه جزافاً من دون تقصٍّ وبحث وأسانيد. وهو ما فعله مارون عبود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». فقد وقف الكتاب بأكمله ليثبت بالقرينة والدليل والسند والمقارنة أنَّ ما اقترحه من نظرية أو رأي مطابق كليّاً للوقائع التي أحاطت بحياة أبي العلاء، وللأفكار التي بثّها في شعره، تصريحاً في القليل القليل منه، وإلماحاً وتضميناً في عشرات القصائد أو أبيات الشعر المتناثرة – عمداً – والتي عرض لها مارون عبّود في كتابه.

حاشية أخيرة

حدود المقالة الضيّقة، كما كل مقالة، لم تسمح بالمزيد من التفاصيل والاقتباسات، في ما خصّ مُعتقد المعري تحديداً – ناهيك عن حياته، وثقافته، وأعماله، وكلٌ منها تتطلَّب مبحثاً مستقلاً. لذلك أنصح قارئي أن يعود إلى أعمال المعري نفسه وبخاصة ديواناه: سقط الزند واللزوميات؛ وأن يعود إلى كتاب الشيخ العلايلي «المعرّي ذلك المجهول»، وكتاب شيخ الأدباء مارون عبّود «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، ففيهما من التفاصيل والقرائن ما يدفع بالبحث في معتقد شيخ المعرّة، كما أعماله، أشواطاً عدة إلى أمام.

قرية وَلغا

لم تُبحث قرية «ولغا» بحثاً آثارياً جدّيّاً بعد، ويذكرها الباحث الآثاري الدكتور علي أبو عساف في كتابه الآثار في جبل حوران ص (170) على أنّها قرية قديمة حولها ينابيع ماء غزيرة تتجمع بيوتها القديمة فوق تلّة صغيرة وحولها عدّة خرب قديمة..

تبعد ولغا عن السويداء مسافة 5 كلم، إلى الشمال الغربي منها، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 886 م، ويشير اسماعيل متعب نصر في كتابه «السويداء بين الزمان والمكان» إلى أنها تتضمن آثاراً تعود إلى عهود الأنباط والرومان والبيزنطيين بقيت منها في القرية الأثرية القديمة مجموعة مبان متهدمة مُكوّمة فوق بعضها البعض ومحاطة بسور لاتزال آثاره ماثلة في الجهة الجنوبية الغربية من القرية، أمّا العمران الحديث فقد انتشر بكافة الجهات وخاصة على جانبي الطريق العام الذي يصل بين السويداء وإزرع في محافظة درعا، وتكاد ولغا أن تتصل بعمرانها الحديث بمدينة السويداء الأمر الذي يتسبب بارتفاع أسعار أراضيها بشكل كبير.

أمّا فيما يتعلق باسم القرية «ولغا» فالأرجح أن الاسم عربي، ومعناه الدَّلو الصغيرة، كناية عن كونها قرية صغيرة جوار السويداء (المنجد في اللغة والأعلام، ط 17، ص 918). وهناك من يؤسطر في الرواية، فينسب الاسم إلى أولغا، ملكة سيع في العهد الهلليني أو الروماني (الهيلّيني بين 333 و 64 قبل الميلاد، والروماني بين 64 ق. م، وحتى636 ميلادية)…

ويحد القرية من جهة الغرب أراضي بلدة المزرعة (السَّجن سابقاً) والثّعلة، ومن الشرق السويداء وعتيل وريمة حازم ومن الشمال ريمة حازم والمجدل ومن الجنوب السويداء
وأول من توطن ولغا من العائلات الدرزية كان آل الحمدان في طريق توسعهم من نجران إلى السويداء في فترة القرن الثامن عشر..

ومما كتبه الرحالة السويسري المكلَّف من قبل بريطانيا، بركهاردت، الذي زار المنطقة بتكليف من بريطانيا نستنتج أنّ ولغا كانت مسكونة عام 1810 إذ يقول في ص 7 من «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، ترجمة سلامة عبيد، «قبل أن نصل إلى إزرع التقينا بجماعة من فرسان الباشا (أي: الوالي العثماني في دمشق) يبلغ عددها حوالي ثمانين خيّالاً لقد فاجأوا في الليلة الماضية جماعة من عرب السردية وكانوا في قرية ولغا فقتلوا قائدهم عَرار وستة غيره وحملوا رؤوسهم جميعاً في كيس معهم…» ويذكر بركهاردت أن «الجنود كانوا يسرعون الخطى في عودتهم إلى دمشق خوفاً من أن يطاردهم رفاق المقتولين» وهذا يدل على أن القرية لم تكن آمنة من الغزوات البدوية قبل أن يتخذها الدروز سكناً لهم… وقد أفاد المحامي حسين الزعر (من مواطني ولغا)،أنّ عائلات من الحوارنة السنّة سبق لهم أن سكنوا القرية قبل الدروز منهم آل الخليل وآل الخطيب (منهم أحمد الخطيب الذي صار رئيساً مؤقتاً للجمهورية العربية السورية تمهيداً لرئاسة الرئيس حافظ الأسد) وآل الشُّوحة، بالإضافة إلى عائلات مسيحية منهم آل شليويط… ولكن العائلات السنية انتقلت فيما بعد إلى سهل حوران والمسيحيون انتقلوا إلى قرية الدارة القريبة من ولغا، وكان انتقالهم طوعيّاً بدون أسباب خلافية.

وتتابع قدوم العائلات الدرزية إليها بتأثير ما يدعوه المؤرخ محمّد كرد علي من انسيال الدروز إلى جبل حوران (خطط الشام جزء3 ص 101ـ102)، وذلك بسبب التمييز الديني بين المواطنين، وفساد الإدارة العثمانية، وإهمالها للنزاعات الداخلية والسياسية في جبل لبنان، بالإضافة إلى القادمين من ديار حلب وصفد من شمال فلسطين، ومن دروز غوطة دمشق للأسباب ذاتها….
ومن العائلات التي قطنت ولغا إلى جانب آل أبو عسّاف آل الزّعر وآل عامر وآل المحيثاوي والكفيري وزهر الدين ومزهر وبريك والجردي ودرغم والغضبان وأبو سرحان والريشة وكنج والعاقل وقطيني والحكيم وتقي وعائلات أخرى وافدة…

الأزمة السورية كادت أن تضاعف عدد سكان ولغا

مع نشوب الأزمة السورية لجأتْ إلى ولغا 450 أسرة وافدة من درعا في الجوار وريف دمشق وغيره من المحافظات السورية، وكان ذلك في الفترة بين عامي 2011 و 2014 أما الآن فقد غادرت تلك الأُسر إلى أماكن متفرقة، وقد رتّب هذا في حينه ضغطاً على الخدمات والمساعدات في حينه، غير أن بعض الأسر لم تزل باقية في القرية.
ويبلغ عدد سكان ولغا 2400 نسمة حالياً يعملون بالزراعة ووظائف الدولة التي لم تعد تفي بحاجات الأسر لذا فإنّ الكثيرين من أرباب الأسر والشبان يعملون في أكثر من عمل ومهنة لتوفير الحاجات الدنيا لأسرهم…

آل أبو عساف القادمون من نيحا الشوف في لبنان ومشقة التنقلات عبر قرى الجبل

يذكر يحيى حسين عمار صاحب كتاب «الأصول والأنساب» ج1 ص 20، أن أصل هذه الأسرة يعود إلى قبيلة بني تميم العربية وعلى أثر الفتح العربي ارتحلوا إلى العراق وفيما بعد استقر أجدادهم في كفتين من جبل السماق شمال غرب سورية، وفي حدود العام 1550 انتقلوا إلى جبل لبنان ليستقر بهم المقام في نيحا الشوف، ويؤكد الدكتور رياض غنّام في ص 50 من كتابه «نيحا الشوف» ما ذكره الباحث يحيى حسين عمار..

وفي كتاب الدكتور علي أبو عساف «من أوراق الشيخين فهد وسلمان أبو عساف» ص 13 ما يشير إلى أن نابليون بونابرت عندما قدم لحصار عكا عام 1799 «وجّه نداءات إلى الجبليين وإلى الأمير بشير للانضمام إليه مع وعد بتحرير سورية من طاغيتها العثماني «أحمد باشا الجزار» وكان في عهدة الشيخ حمد شاهين أبو عساف (المتوفّى عام 1915) رسالة من بونابرت كانت قد أرسلت إلى الشيخ حسين أبو عساف …» وهذا جد الأسرة التي انتقلت إلى جبل حوران فيما بعد، وكان يعمل رئيس جباة في صفد، وأن تلك الرسالة عُرضت على المربّي بولص هاشم في السويداء للاطلاع عليها غير أنها فُقدت بين أوراق كتب بولص هاشم، ويذكر آخرون أنها اختفت على يد شخص ما من الأسرة ذاتها.

أمّا الجزار فإنّه بعد نجاحه في كسر حصار بونابرت لعكا بمساعدة الأسطول البريطاني فقد «قسا على الشهابيين والزعماء الذين تلقَّوا رسائل من بونابرت وطاردهم ففرّ زعماء آل أبي عساف إلى بلدة الكفير في منطقة حاصبيّا وقرية شويّا ومنها انتقلوا إلى بيت جن حيث كانت مزرعة بيت جن من أملاكهم، وبعدها انتقلوا إلى جبل حوران تاركين بعضاً من أقاربهم في بيت جن» (وقد تحول هؤلاء فيما بعد بتأثير الضغط العثماني على الأقليات غير السنية من سكان السهول والمناطق القريبة من العواصم إلى مذهب السنة) ولم تزل علاقاتهم الوديّة متواصلة معهم لتاريخه.في زمننا هذا.

من المرجَّح أن انتقال أسرة الشيخ حسين بن يوسف أبو عساف مع والده وأقاربه إلى جبل حوران كان في مطلع القرن التاسع عشر، نحو عام 1810 .على حد تعبير الدكتور الباحث علي أبو عساف، وقد تنقّلوا بين عدة قرى في شمال الجبل آنذاك إذ سكنوا بالتتابع في قُرى خلخلة ونمرة والهيت، وعندما كان الشيخ حسين في الهيت قصده سكان قرية شقا القلائل يشكون من تعديات القبائل البدوية على محاصيلهم أثناء عبورهم من البادية غرباً باتجاه سهل حوران في موسم الحصاد، وطلبوا منه الانتقال إلى شقّا لدعمهم، فوافق، وحين حلّ موعد قدوم البدو اتّفق الشيخ حسين مع قاطني القرية القلائل أن يرفعوا المحادل الحجرية على سطوح المنازل ويغطوها بملابس رجال وينشروا المفروشات والأمتعة فوق الحيطان لإيهام البدو بكثرة ساكني القرية، وأرسل أحد رجاله ليبلغ شيخ البدو أن شيخ القرية حسين أبو عساف يناشدكم بالله أن تغادروا ولا تؤذوا مزروعاتنا، وإلاّ فالعَتب مرفوع، والقتال بيننا وبينكم، وتكونوا أنتم جنيتم على أنفسكم. وبنتيجة ذلك، عمل شيخ القبيلة على تجنب الشر مع سكان شقا، مستجيباً لطلب الشيخ أبو عساف.

ولكن الأمور لم تجرِ على ما يرام في كل المناسبات، إذ إنّ زوجة الشيخ أبو عساف التي كانت ترضع طفلها سمعت ذات ليلة صوت محاولة غرباء يحركون مزلاج البوابة الخارجية لدارتهم، وصريراً يرافق ذلك، فأيقظت زوجها الذي هبّ من نومه مستلّاً سيفه الذي كان يوسّده إلى جانبه، وانطلق باتجاه بوابة الدار فأهوى بسيفه على حافة البوبة عند موقع المزلاج الذي انفتح قليلاً مع رؤوس أصابع يد لص خلف الباب تمتد من جهة الخارج فقطع رؤوس بعض الأصابع الممسكة بحافة الباب، وعند بزوغ الفجر أعلم الشيخ عشرة من رجاله فاقتفوا آثار الدم النازف إلى أن وصلوا إلى مغارة في تل «فارة» بأرض قرية الجنينة شمال شقا، فقام الشيخ حسين بمناورة ذكيّة إذ أمر رفاقه بصوت عال منادياً كلّاً باسمه أن يأخذ مكانه إلى اليسار أو اليمين مع رجاله فظنّ المختبئون في المغارة أنهم محاصرون من قبل عدد كبير من الرجال، وحينها نادى مَن في داخل المغارة أن يخرجوا مُكَتّفين ومن يخرج غير مكتوف الأيدي يقطع رأسه، فخرج أربعة عشر رجلاً كان آخرهم أسود البشرة قوي البنية وقد ظهرت الإصابة على كفه التي نالتها ضربة السيف عند البوابة فقطع الشيخ رأسه في الحال…

وتذكر الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر ص 49 من كتابها «انتفاضات جبل الدروز..» أن حسين أبو عساف شيخ شقا حينها استغل انتقال الحمدان «إلى العاصمة السويداء اقتحم القصر (قصر مقري الوحش في نجران) وأعلن نفسه زعيماً مكانهم واستعان في ذلك بجماعة من نجران فوقف قاسم ونصر الدين أبو فخر في وجه أبو عساف بمعارضة عنيفة»، وكانت للشيخ حسين أبو عساف علاقة طيبة مع مشايخ سهل حوران إذ كان قد تمكن بقوة شخصيته ومركزه الاجتماعي ونفوذه من حماية آل الشيخ محمود الرفاعي المحكوم بالإعدام مع طائفة من شيوخ حوران وتخليصهم من سطوة دولة محمّد علي باشا وابنه إبراهيم. والشيخ الرفاعي من قرية أم ولد الحورانية إذ حماهم عنده أثناء وجوده في نجران عام 1255هـ ـ 1839م ، يشير إلى هذا الدكتور علي أبو عساف ص 30 من تاريخ آل أبي عساف، وفي هذا مثال على تعاون مجتمع جبل حوران والسهل عندما يتم الوعي للمصلحة المشتركة بين سكان الجبل وسهل حوران بهدف منع وقوع الفتنة بينهما من قبل قوى الخارج.التي تعمل بمبدأ «فرّقْ تَسُدْ».

ويذكر الدكتور الآثاري علي أبو عساف أنه بعد وفاة حسين أبو عساف في نجران انتقل آل أبو عساف إلى قرية السَّجَن (المزرعة) ذات الينابيع العديدة، ولم يلبثوا أن انتقلوا إلى قرية كفر اللحف شمال غرب السويداء، ومنها توزعوا بين قرى سليم وعتيل وولغا بتفويض من واكد الحمدان على أثر وساطة من جانب صهرهم الشيخ هزيمة هنيدي.

الشيخ سلمان أبوعساف رجل المجتمع المحنّك

وفي قرية ولغا حيث تمركز الشيخ سلمان أبو عساف، وبنتيجة العلاقة الطيبة بين آل أبي عساف مع أهالي سهل حوران تذكر بريجيت شيبلر ص 117 في كتابها «انتفاضات جبل الدروز» أنه «غالباً ما استغاثت قرى السهل الحدودية وطلبت من جيرانها الدروز حمايتها من البدو ورَفْعِ «الخُوّة» عنهم أو ضم القرية إلى حمى نفوذه وأنّه في نهاية سنة 1878 لبى الشيخ سليم محمّد أبو عساف (بل هو سلمان داود أبو عساف بشهادة العارفين من معمري أهالي ولغا) نداء قرية اِزرع على الحدود الغربية لِلّجاة وذهب مع رجاله من فرسان ولغا إلى ازرع (ومنهم سليم الزعر الذي استشهد في موقعة الدّلِي (قرية على طرف اللجاة الشمالي) أثناء ملاحقة غُزاة من البدو وقد أقام سلمان في ازرع فترة نحو أربع أو خمس سنوات ارتاح له أهالي ازرع لضبط الأمن فيها وفي جوارها، إذ اتخذها مقرّاً له واعتُرف به كمتصرف لحوران بمرتبة «شيخ اِزرع» القريبة من شيخ سعد مقر المتصرفية آنذاك»، ولكن مدحت باشا والي الشام أمر أبو عساف فيما بعد بالعودة إلى الجبل حيث قريته ولغا»، ولعلّ السياسة العثمانية تقصدت من ذلك عدم السماح بتشكيل علاقات وروابط ذات شأن بين سكان الجبل والسهل الحوراني، بل طالما هي عمدت إلى إثارة النزاعات بينهما…
وكان للشيخ سلمان فداوي مسيحي (رجل تابع له ومحل ثقته) اسمه نصار شليويط كان يرسله ليمثله في الاجتماعات العامة خارج ولغا، وذلك بعد أن كبر وتقدم به العمر.

وفي فترة من حياته الحافلة بالأحداث تعرض الشيخ سلمان لملاحقة العثمانيين، غير أن رئيس المخفر المكلف بملاحقته زوّر كتاباً ينص على منحه الأمان، ودعوته للمثول أمام الوالي في دمشق، وهناك أعلن سلمان ولاءه للسلطان عبد الحميد، فقال له الوالي «شيخ ويكذب؟»، فأخرج كتاب الأمان وقدمه للوالي الذي اكتشف أن الكتاب مزوّر، فأكبرَ رجولته وعفا عنه واستضافه مُكرّماً عند أحد رجال ديوانه من الشوام….

وذات سنة جفاف ماحلة كانت الدولة قد قررت ضرائب لم يتمكن الأهالي من دفعها، فما كان من أحد آل جمال وكان هذا شريكاً للأمير شكيب أرسلان في علاقات مالية وتجارية قرّر شراء الأرض من الدولة على أن يبقى مواطنو القرية خمّاسة لدى مالكها الجديد، فما كان من الشيخ سلمان أبو عساف إلّا أن تصدى لإفشال عملية بيع القرية واقترض المبالغ المقررة من أصدقائه بوايكية دمشق الذين يثقون به…

بقايا السور القديم الذي كان يحيط بالبلدة الأثرية

ومن طرائف مواقفه أنه نزل في إحدى زياراته لدمشق عند أصدقاء له من الشوام النافذين، فقالوا له لدينا زيارة تهنئة للوالي بمناسبة أن وُلِد طفلٌ له، فرافقهم، وعندما قدموا نقود التهنئة انتظر ليكون هو الأخير، فوضع صرّة من الليرات الذهبيّة كانت مثار إعجاب الوالي وزوجته حيث تم اعتباره شخصاً مقرّباً من الأسرة وذا كلمة مُستجابة.

ويروي الشاب جميل أبو عساف أن جده سلمان أخذ حصاناً مُعْلَماً له يلقَّب بـ «الزرنوقي» هدية للسلطان عبد الحميد في إسطنبول وعبَر به برفقة وفد من وجهاء الدروز في باخرة من لبنان إلى إسطنبول، وقد استضافهم السلطان آنذاك وكرّمهم، وفي عودتهم استضافهم في دمشق أحد أبناء الأمير عبد القادر الجزائري.

كما يذكر أنّه على أثر الحملة العثمانية التي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل في عام 1910 سَرْكَلَ العثمانيون ابن الشيخ سلمان، الشاب فندي، مع مجموعة من شبان الدروز للخدمة العسكرية لقمع الثورات في البلقان، ومن هناك هرب فندي مع رفاق له بباخرة يونانية إلى طرابلس الغرب وبينهم شاب من آل الحناوي، ومنها انتقلوا إلى القاهرة. هناك شاهدوا حفلاً تكريمياً لخديوي مصر وكان أحد ضباط حرس الخديوي درزيّاً من لبنان تعرّف عليهم، واستضافهم عنده شهراً وساعدهم بتوجيهاته على العبور إلى سيناء وتجاوزها إلى فلسطين غير أنه استبقى فندي لكونه كان يعرف والده ويكنّ له تقديراً، كما استبقى الشاب الحناوي بسبب مرضه، وبعث برسالة لذوي فندي يطمئنهم، وهؤلاء بدورهم أرسلوا شاعراً مسيحياً من آل البدين إلى فلسطين فالعريش استقبل فندي وعبر به من العريش إلى فلسطين فشرق الأردن، وأثناء عبورهم رتّبوا علاقات بنعمة مع عدة عشائر سينائية طبقاً لتقاليد ذلك الزمن.

وعلى أطراف الجبل جنوب قرية ذيبين استَقبل آل أبو عساف فندي العائد من رحلة مريرة.

الزراعة في ولغا

صُنّفت أراضي ولغا ،وهي أراضٍ خصبة مُتحَلّلة من البازلت، ضمن منطقة الاستقرار الأولى لوفرة أمطارها وتوفّر الينابيع في أراضيها ففي القرية ستة عشر ينبوعاً منتشرة في وسط وغرب القرية ومنها عين الرَّقَب وعين السّجَن وعين المَسْلق وعين الباطي وعين أبو حسن وعين البصّة… الأمر الذي يجعل من العمل في الزِّراعة يعطي مردوداً جيداً، وتتميز الأراضي شرق القرية بوعورتها بينما تميل في الغرب منها إلى السهولة لذا يدعوها سكانها بـ: ضلع جبل.

الثّروة الحيوانية

يقوم بعض المزارعين في القرية بتربية الأبقار الحلوبة ويبلغ عددها في القرية مئة رأس متوسط إنتاج الواحدة منها في فترة الحليب نحو 22 كلغ يوميّاً، وإذا اعتبرنا أن فترة إنتاج الحليب للبقرة الواحدة مدة عشرة أشهر فإن إنتاجها في السنة يكون نحو ستة أطنان في العام يضاف إلى هذا ثمن مولودها الذي يحتفظ به للتكثير إنْ كان من الإناث أو يباع للحم بسعر مُجزٍ إن كان من الذكور.

الماعز والأغنام: ويبلغ عددها في القرية 600 رأس، ويستفاد منها للحليب ومن مواليدها الإناث للتكثير ومن الذكور للتسمين والبيع للحم.

الدجاج: ويبلغ عددها في القرية نحو2000 طير وتتم تربيتها بشكل إفرادي في أقنان تابعة للمنازل.

سهيل عامر مربّي الخيول العربية الأصيلة

هو شاب من ولغا، وعضو جمعية الـ «واهو» العالمية التي أُسّست عام 1984 لدعم سلالات الخيول العربية وهي مؤسسة بريطانية ألمانية معنيّة بهذا الأمر، ويتم تلقيح الفرس بأخذ شهادة من مالك الفحل وعندما يولد المهر تأتي لجنة من المنظمة تصور المهر وتأخذ عيّنة من الـ dna إلى ألمانيا لعَمل مطابقة فرس لها إضبارة بألمانيا ويأخذ الحصان على أثرها جواز سفر عالمي.

ويقوم السيد سهيل بتربية عدد من الخيول العربية الأصيلة في القرية، ليتاجر بها ويبيع مواليدها بأسعار مُجزية وخاصة الإناث منها، ومن أنواعها لديه:
1 ـ اَلْعبيّا الشرّاكية، وهي من أفضل أنواع الخيول ولها بطاقة تعريف (هويّة) تعود بأصلها إلى خيول الشيخ دهام الهادي شيخ مشايخ قبيلة شمَّر في منطقة القامشلي من في محافظة الحسكة في الجزيرة السورية، وثمنها يعادل خمسين ألف دولار تقريباً من الليرات السورية.
2 ـ كحيلا أم عرقوب، وسُمِّيت كذلك لوجود التواء خَلقي طبيعي بعظم عرقوب الرُّكبة، وثمنها يعادل عشرين ألف دولار، وقد تم شراؤها من الشيخ رياض سعد سويدان شيخ عرب طي في منطقة شرق غوطة دمشق، …
3 ـ كحيلا نوَّاكية: وثمنها يتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف دولار،

ولسُهيل خبرة مميَّزة في تمييز الخيل بفطرته السليمة يقول «يتميز فحل الخيل بالسليقة، كتف وكَفل (قفا) عريضان، وظهر قصير ورقبة طويلة ورأس صغير، ومنخَران واسعان وعينان متباعدتان جاحظتان فيهما لمعان ورُبع المهر من مفصل الركبة لمنبت الشعر على الحافر خشن وطويل، والعَظمة من مفصل الركبة لمفصل بيت الشّْكال (بين الحافر ونهاية الساق تكون بطول 5 إلى 7 سنتمتر وكلَّما قصُرت تلك العظمة كلما كانت الفرس مرغوبة أكثر، وأفضل الأحصنة لتلقيح إناث الخيل يكون بين عمر 8 إلى 12 سنة، هو الحصان السبّاق في المباريات، ويضيف سهيل: أنا ألقِّح فرسي منه، ولا ألقّح من فرع بل من أساس (أي أصل) وهناك 53 فرعاً من أصول أرسان الخيول الخمسة وهي العبيّا والصقلاوية والشّويما وكحيلة العجوز أمّا الرسن الخامس فموضع خلاف بين رسن دَهْمات عامر والمعناقيات والحمدانيات أيُّها الفرع وأيّها الرسن…؟!.

ولغا: القرية الأثرية القديمة
الخدمات البلدية في ولغا

توجد في ولغا بلدية مشتركة تُخَدّم قريتي ولغا وريمة حازم معاً، وتبلغ مساحة البناء الطابقي للبلدية المؤلف من طابقين 440م2 وهو بناء حديث يعمل فيه عدد من الموظفين.

تبلغ مساحة المخطط التنظيمي لقرية ولغا 107 هكتار، كما تبلغ أطوال الشوارع المعبّدة 14 كيلومتراً بالإضافة إلى 18 كلم شوارع غير معبدة ويعود هذا لتوسع المخطط التنظيمي… أمّا طول شبكة الطرف الصحي المقررة في القرية فيبلغ 30 كلم المُنفّذ منها، 8 كلم وتخدّم 90 بالمئة من مساكن القرية.

شبكة مياه الشرب يبلغ طولها 14 كلم وتخدِّم كافة منازل القرية باستثناء البيوت غير المرخّصة بعد.

وتمتلك البلدية جراراً زراعياً وتريلَلا، يعمل عليه سائق و2 من العمال لترحيل النفايات يومياً.

المحلات التجارية: ويبلغ عددها مئة منشأة بين محلّات تجارية ومحلات حِرَف، منها 7 محلات حدادة أفرنجية و ثلاثة محلات نجارة موبيليا و5 صالونات حلاقة رجالية وصالونان للحلاقة النسائية ومحلّان لبيع الكهربائيات و3 محلات جزارة لحم غنم و5 محلات بيع فرّوج مذبوح ومنظّف.

المدارس: في القرية مدرسة ابتدائية واحدة بينما توجد مدرسة إعدادية مشتركة في قرية ريمة حازم المجاورة على مسافة 2 كلم من قرية ولغا.

شعبة الهلال الأحمر في ولغا: كما يوجد في القرية شعبة تابعة للهلال الأحمر تقدم مساعدات طبية مجانية للمستحقين مرة في الشهر يرافقها طبيب أطفال، وفي كل أبوع تحضر إلى القرية طبيبة نسائية مع فريق توعية نسائية ونفسية وصحيّة وتقدم 80 إلى 100 سلة غذائية للمتاجين مرة واحدة كل شهرين.

أماكن العبادة: يوجد مجلس واحد للعبادة خاص بالموحدين الدروز في ولغا، ويتميز ببساطة بنائه ومفروشاته، وهذه سمة عامة في أماكن عبادة الموحدين الدروز في سائر مناطق تواجدهم وذلك دلالة على زهد مُتديِّنيهم بمظاهر الدّنيا الزائلة.

المسارُ الإنسانيّ في شخصية المقدّم شريف فيّاض

المُقدّمة

في ذكرى وفاة المقدّم شريف فياض الخامسة، تتسابق لديّ عاطفة الفراق مع عقلانية الباحث، لاستذكار مآثر شخصية «الرجل الرجل في الأوقات التي عزّ فيها الرجال». عند قراءتي لما كتبه المقدّم فياض، ولما كُتب وقيلَ عنه، مستعينة بما اعتلمته من ذاكرة أفراد عائلته، أجد نفسي مختارةً كتابة المسار الإنساني في شخصيته، وربما أبدو بذلك غير حيادية، مستذكرة قوله في مقدمة كتابه (نار فوق روابي الجبل، 2015)، «أنا لست حيادياً فيما كتبت»، راسمةً أفكاري بين عناوين تتداخل كوريقات زهرة عطرة فوّاحة، يحملها جذع متين حُفر عليه إيمان المقدّم بقناعاته الثابتة وممارسته لها على نفسه قبل الغير، مقدّمة هذه اللوحة عربون وفاء في ذكراه.

بلدة بشتفين (تصوير ايهاب فيّاض)
إبن قرية بشتفين

وُلد شريف سليمان فياض سنة 1937، في قرية بشتفين الشوفية، المتميّزة بالحفاظ على عادات وتقاليد راسخة في ذاكرة أهل الشوف، وتربّى في منزل اعتاد على ممارسة الشأن العام حين كان والده مختار بلدته لسنوات طوال، وفي زمن كان الاعتناء بالأرض الزراعية واجباً ملزماً على جميع أفراد العائلة. بقيت معالم هذه التربية راسخة في شخصية المقدّم، حين لم تتغلب قسوة الحياة العسكرية في الجيش اللبناني أو في قيادة الجيش الشعبي، على ملامح الحس الإنساني لديه، فتراه نصير الضعيف، ومساعد المحتاج، وكفيل المظلوم، فقد «تميّز بعمله الصامت وأخلاقه الدمثة وابتسامته الودودة»، ومارس خدمة الناس وتأمين احتياجاتهم حتى وهو على فراش المرض، في مستشفى الجامعة الأميركية، حيث يشهد من رافقه من الجهاز الطبي ومن أفراد عائلته على الاتصالات الهاتفية والزيارات المتعلقة بتسيير شؤون الناس. حافظ المقدّم على العادات والتقاليد في بلدته، فتراه أول الواصلين إلى لقاء عيد الأضحى، منتظراً أفراد عائلته لينتقلوا سوياً إلى ساحة البلدة، حيث ملتقى جميع العائلات. كنت تراه مواسياً للمحزونين في مآتمهم، ومشاركاً للعرسان في أفراحهم. احترم العائلة التي انتسب إليها، وافتخر بالبلدة التي ولد فيها، فتراه يتمم أفراح أولاده في بيته في بشتفين، حين احتضن منزله قادة الوطن وسفراء الدول، واقفاً كالمارد بين أنسبائه وأهالي بلدته، على يمينه وليد جنبلاط ورفاقه في الحزب، برمزية ربما كان يرتقبها، حين احتضنت البلدة جثمانه في مأتم ضخم ضمّ قادة الوطن وسفراء الدول، ووليد جنبلاط، فيما كان المقدّم كالمارد الهامد على طريق مثواه الأخير.
طبّق المقدّم قناعاته على نفسه وعلى عائلته، فتراه يدرّب أولاده على احترام الناس وحاجاتهم، يعلّمهم فنون الاعتناء بالأرض وإدارة الوقت بالممارسة وبالاقتداء به، حين كان يرافقهم صباحاً، إلى الحقول الزراعية، ويوزّع المهام عليهم قبل الانتقال إلى عمله، فكم من رفيق رآه «يفرط» الزيتون، أو يروي الزرع… أمّن لهم المستلزمات لتحصيلهم العلمي، ولكنه لم يستغل لا منصبه ولا علاقاته لفرض خياراته عليهم، وهم بالمقابل لم يخذلوه ووصلوا إلى أعلى المراتب في هذا المجال.

احترم المرأة وآمن بقدراتها، دعم تحصيلها العلمي، شجّع نشاطات السيدات في مؤسسات الحزب ودعم اقتراحات الاتحاد النسائي التقدمي، حين اعتبرهنّ الأقرب إلى شرائح المجتمع والأدرى بحاجاته، وعلى سبيل المثال كان الراعي لـ «حملة دعم المريض» في بلدته بشتفين.

آمن بالمصلحة العامة، وانطلاقاً من بلدته شجّع وساهم ودعم بناء دارٍ جامعةً لجميع عائلاتها «دار البلدة للخدمات الاجتماعية»، في زمن كانت الدورُ في باقي القرى تُبنى على أسماء العائلات فيها، حينها عمل جاهداً مع وليد جنبلاط، وكان الوسيط لتأمين هبة الأرض وجزء من كلفة البناء لإتمامه.
كان المقدّم محباً للحياة، وكما قال وهيب فياض واجه المرض «بأسلحته الذاتية ودفاعاته الشخصية…. حتى ليتبادر إلى ذهنه أن الموت لم يغلبه… وهو يخال الموت يؤدي له التحية العسكرية قبل أن يصطحبه في رحلته الأخيرة».

اختصر المقدّم نهج حياته بنفسه قائلاً « رافقت الكبار وحاولت أن أتخلق بأخلاقهم وأن أسلك نهجهم في التواضع والتفاني والأثَرة. جنيت فيها ثروة عظيمة، هي محبة الناس وثقتهم واحترامهم»، فرثاه وليد جنبلاط قائلاً «حملت راية الحزب ولم تطلب لنفسك شيئاً عشت هانئاً متواضعاً ورحلت راضياً مرضياً».

ضابط في الجيش اللبناني
المقدم شريف فياض

سمح تحصيل شريف العلمي الراقي في حينه، انطلاقاً من المدرسة الداوودية في عبيه، مروراً بالمعهد العربي في بحمدون، وصولاً إلى نيل شهادة البكالوريا اللبنانية من مدارس المقاصد في بيروت سنة 1959، بالتقدم إلى امتحانات الدخول إلى الكلية الحربية في الجيش اللبناني، انسجاماً في حينه مع تطلعات العهد الشهابي في ضم الطاقات الشبابية الكفوءة إلى صفوف الجيش اللبناني، وجعله خير مدرسة للتربية على المواطنية.

أحبّ الضابط فياض الجيش اللبناني وآمن به لا طائفيّاً، وعلى سبيل المثال فقد حال دون استقالة أحد رفاقه من الضباط «الموارنة» قائلاً له: «إذا كان المخلصون سيستقيلون لمن سنترك البلد؟». تخرّج من المدرسة الحربية سنة 1961، وتدرّج في الرتب حتى رتبة رائد، عمل من أجل وحدته حين اندلعت حرب السنتين سنة 1975، وكُلّف بمتابعة ثكنات الجيش التي انفصلت عن القيادة المركزية. غادر مركز خدمته سنة 1976 في الفياضية وانتقل إلى منطقة الشوف حيث بدأ نشاطاً سياسياً وعسكرياً حين التقت قناعاته «مع فكر المعلم بالتمسّك بهوية لبنان العربية وباعتبار مرتكزات النظام السياسي هي الحرية والديمقراطية والمساواة كما التقت مع قناعاته بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه». قدّم استقالته سنة 1978 وتقاعد برتبة مقدّم، «حتى يكون أميناً لرسالته العسكرية… ويكون صادقاً بالتزامه تجاه الحزب التقدمي الاشتراكي». لم يُخفِ فرحته حين وجّه، في ختام حياته السياسية، تحية للجيش اللبناني وضباطه الذين تمكنوا من «إعادة بناء المؤسسة العسكرية على عقيدة وطنية عربية تؤهلها للذود عن الوطن».

القائد العسكري الاشتراكي

ساهم المقدّم في تأسيس «قوات التحرير الشعبية»، للمشاركة في حرب السنتين إلى جانب الحركة الوطنية والحزب التقدمي الاشتراكي. بعد دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط سنة 1977، كانت أولى المهمات التي تولّاها فياض تحت قيادة وليد جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي، إقامة معسكر تدريب سرّي في منطقة الشوف، لتتحول بعدها معسكرات التدريب إلى علنية، ويكلّف رئيس الحزب سنة 1978، المقدّم فياض قيادة «جيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد كمال جنبلاط»، والذي استمر بتأدية مهامه حتى انتقاله للعمل السياسي. كان القائد فياض المخطّط الحذق، والمنفذ المتابع على الأرض لأدق التفاصيل، غير المتهور، وملتزم بالتنسيق مع رئيس الحزب في كل القرارات العسكرية.

المناضل الحزبي السياسي

 

نشأ شريف فياض على إيمانه بالعروبة، تأثر بفكر ومبادئ جمال عبد الناصر، وحين التقت قناعاته مع فكر كمال جنبلاط، اعتبر نفسه «حامل قضية انخرط فيها وقاتل من أجلها حوالي نصف قرن». ناضل من أجل قضيته عسكرياً، وانتقل إلى العمل السياسي من خلال انتسابه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وتبوأ منصب أمين السر العام منذ سنة 1987 حتى سنة 2011. سخّر المقدّم منصبه برفقة نخبة من المناضلين «لإعادة بناء الحزب ومؤسساته وتلبية متطلبات الناس والوقوف على حاجاتهم»، مهتماً بالجيل الناشئ حين عمل على «تدريبه ليحسن استعمال البوصلة»، وخاصة من خلال منظمة الشباب التقدمي التي انتسب إليها نخبة من الشباب الذين اعتبروا المقدّم مثالاً وقدوة، وتبوأ عدد كبير منهم لاحقاً مناصب قيادية في الحزب أو في الحياة السياسية اللبنانية. كان المقدّم فخوراً سنة 2011 أن جهوده وجهود رفاقه بتوجيهات وليد جنبلاط «أثمرت في الجمعية العمومية مجلساً قيادياً شاباً حيوياً منتخباً»، معللاً ذلك قائلاً «أترك موقعي بقرار حزبي ديمقراطي أخذته الجمعية العامة وأبقى في المختارة بقرار شخصي حرّ واعٍ »، موجهاً التحية لهؤلاء الشباب «جيل المستقبل وهم يعبرون الجسر في الصبح خفافاً»، حين جعل أضلعه تمتد لهم «جسراً وطيد». قَرَن المقدّم القول بالفعل حين اصطحب في الأسبوع الأول بعد تركه منصب أمانة السر «حفيده ابراهيم إلى دار المختارة وكأنه يقول دون أن ينطق أنا معكم إلى ولد الولد».

عمل المقدّم على «كسر أطواق المذهبية والطائفية والمناطقية»، وتنبّه إلى «المستغلين والنفعيين الذين يسيرون في الصفوف الخلفية للمناضلين ويتربصون بالصيد الثمين كلما لاحت لهم الفرصة». استمرّ المقدّم بممارسة قناعاته، وحاول اثباتها وتعميمها حين حاضر عن لبنان ومقومات الدولة فيه، عرض المشكلة في نظام لبنان السياسي الذي لم يؤمّن «العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين»، ولكنه عرض أيضاً الحلول وبوّبها ووضعها تحت عنوان عريض هو «إعادة بناء العقد الاجتماعي بين اللبنانيين» من خلال الحوار والوصول إلى «الاتفاق على مجموعة مُثل وقيم إنسانية وأخلاقية تكون ناظماً لسلوك الأفراد والمجتمع، تنبثق من شرعة حقوق الانسان، وتؤمّن العدالة والمساواة وتضمن الحريات العامة، وتعتبر الدين شأناً شخصياً لا مكان له في الممارسة السياسية».

ساهم اعتداله وحسن إدارته الشأن العام تكليفه من رئيس الحزب الإشراف على إدارة الانتخابات اللبنانية العامة النيابية والبلدية والاختيارية، وتولي رئاسة اللجنة الانتخابية في الحزب، منذ سنة 1993 حتى سنة 2005.

حدّد المقدّم عدوّه وعدوّ لبنان أنه «إسرائيل»، ونبّه من «تسويق مخططاتها تارة بالإغراء وطوراً بالتهديد وباستخدام القوّة لفرض إرادتها كما حاولت أن تفعل من خلال احتلالها عاصمة لبنان وجزءاً من أراضيه». آمن المقدّم «بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه»، لم يبخل بعمله السياسي أو بعلاقاته الشخصية من نصرة هذه القضية، ما حدا بالسفير الفلسطيني أشرف دبور أن يصفه «برمز التضحية والعطاء وافتداء الوطن ورفض ظلم فلسطين واحتلالها مناصراً قضيتها وشعبها» معتبراً إياه «رمزاً للارتباط الأخوي اللبناني الفلسطيني». مع العلم أن هذا الالتزام لم يحجب أولويات المقدّم الوطنية.

المربي التربوي المثابر

ظهرت بوادر تعميم الثقافة منذ الصغر، حين ترأس شريف تحرير مجلة ثقافية في المدرسة الداوودية في عبيه تحت اسم «life». ساهم المقدّم فياض في إصدار برنامج التنشئة الوطنية في مدارس الجبل وأشرف على إصدار سلسلة كتب لتدريسها بالتعاون مع المكتب التربوي في الإدارة المدنية حينذاك. كُلّف عضواً في مجلس أمناء «مؤسسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية» سنة 1988، ليصبح أمين سر المؤسسة منذ سنة 1994 حتى تاريخ وفاته، حيث عمل على مأسستها وتنظيمها مع رفاق مخلصين، وتحويلها إلى مؤسسة أكاديمية. من منطلق قناعاته الراسخة، وممارستها على نفسه، كما استنهض المقدّم معارفه، لبناء شبكة علاقات مع المؤسسات الجامعية الخاصة والرسمية، لصالح آلاف الطلاب الجامعيين داخل لبنان. كلّ ذلك جعل وليد جنبلاط يختار هذا المضمار ليخلّد فيه اسم المقدّم بعد وفاته، بإطلاق «منحة شريف فياض» السنوية الموجّهة إلى الطلاب المتميزين في الدراسات العليا خارج لبنان.

رجل الحوار والمصالحة

«أكرمني الله أن أكون إلى جانب وليد جنبلاط في معركة التحوّل من العسكرة إلى السياسة، وفي الانتقال من خنادق الحرب إلى طاولات الحوار، ومن متاريس الخصام إلى لقاءات المصالحة»، بهذه الكلمات كرّم شريف فياض نفسه في حفل تكريمه سنة 2011، حين أفصح عن قناعاته الراسخة بضرورة الحوار وإتقان موجباته وصولاً للمصالحات الكبرى التي عرفها جبل لبنان. في المقابل كان وليد جنبلاط معبّراً حين رثاه بوصفه «كنت رمز الصلابة في مرحلة الحرب ورمز التسامح في مرحلة السلم، واكبت عودة المهجرين وعملت بجهد لطي صفحة الحرب المشؤومة». رأى د. قُصي الحسين في المقدّم «جسر القاضي بين رفاق تنابذوا وبين رفاق تحابوا»، فهو «جسر أهلي ووطني وحزبي وتقدمي وجنبلاطي وتاريخي متحرك». أما شهادة فؤاد أبو ناضر الآتية من موقع الخصومة السابقة، فقد شددت على الدور الذي لعبه الراحل أثناء الحرب وبعدها من أجل وضع كتاب جديد فيه طيّ لصفحات الماضي وفتح صفحات بيضاء للتعايش في الجبل ولبنان، ولا سيما الجبل بعد عودته إلى لُحمته السابقة، وقد التقت قناعاته مع المقدّم حين أكّد أن «لبنان لن يستقيم إلّا إذا اجتمعنا على البحث عن حقيقة تاريخنا الحديث لأن الحقيقة هي التي تلغي الحدود وتحوّل ساحة الوغى إلى ساحة لقاء».

اختبرت مفهوم البحث عن الحقيقة عند المقدّم بنفسي، حين زوّدني بما احتجت إليه من وثائق للكتابة عن دور الإدارة المدنية في الجبل، واقترح عليّ أن أكتب عن دور الإدارات المحلية عند الأطراف التي كانت في الجهة الأخرى من الحرب، ذُهلت حينها ولكنني تعلمتُ درساً أن الحقيقة لا تتجزأ ولا يكتمل نسج خيوطها إلّا من جميع الجهات.

كل هذه المبادئ تجدها منتشرة في صفحات كتاب المقدّم، وهي خير دليل على ممارسته قناعاته على نفسه قبل غيره، حين استضاف عائلة، في خضم الحرب، مصنّفة من «الخصوم»، مؤلفة من ستة أطفال في أسرّة أولاده وتحت رعاية زوجته، مؤكداً أن «المحبة حلّت محل الحقد في قلوبهم… يعيشون متصالحين مع أنفسهم ومع مجتمعهم» مستخلصاً أنه «من رحم المأساة تولد المحبة ومن صخب التطرّف وغباره تنقشع خيوط المصالحة ومن القناعة بالشراكة الوطنية يُبنى الوطن وتُبنى مؤسساته» مستذكراً الحوار الجدّي والمسؤول «الذي جرى في القاعات العامة في الجبل أو في الأديرة والمكتبات وكان له أثر بالغ في ترميم جسور الثقة بين الناس من مختلف المذاهب والأحزاب وسهّل التلاقي والتعاون والعودة وغسل القلوب»، مختتماً بخلاصات تشق طريق بناء الوطن حين يذكر أنه «لا يفيدنا في لبنان أن نطمس حقائق الخلاف وجذور التباين القائم ونهمل واقع التوازن الوطني المضطرب»، وحين يعتبر أن «أهم الدروس المستقاة من الحرب الأهلية اللبنانية هو درس العودة إلى الحوار الداخلي والقناعة بالتنوّع والعيش المشترك وقبول الآخر كما هو ذلك الآخر. وبغياب ذلك الحوار الجدّي المخلص وبغياب القناعة بالوطن وبالشراكة فيه ستتكرر المآسي وإن بحلل مختلفة وألوان متعددة»، وكأنه يقول امتثلوا إذا أردتم بناء لبنان.

الكاتب المؤرخ

اهتم المقدّم بالكتابة التاريخية، ولكنه لم يتناولها من نِظرة القائد العسكري، أو استغلها لعرض سيرة شخصية احتلّت أعلى المراكز، بل اتبع خطوات منهج البحث التاريخي، من حيث أهمية اختيار الموضوع؛ فقد كتب عن مرحلة دقيقة من تاريخ الجبل ومن خلاله تاريخ لبنان المعاصر، وقد حدّد إشكاليته في مقدّمة كتابه حين افترض أنّ «كلفة التسوية مهما كانت باهظة تبقى أرخص من كلفة الحرب حتى لمن ينتصر فيها». سعى إلى تأمين المصادر والمراجع، ولم تأخذه نشوة القائد كي يتفرّد بالخبر، بل تواصل مع من عايش الحدث، ونهل من محفوظات الحزب التقدمي الاشتراكي، واستعاد من الصحف اليومية ما احتاجه… فتراه في كل مفاصل كتابته، يوثّق معلومته بالاسماء، بالتواريخ، بالوقائع الحقيقية غير الافتراضية، ليتحول كتابه (نار فوق روابي الجبل) مصدراً يعتدّ به للفترة الزمنية التي غطّاها.

أراد المقدّم أن يستفيد من الكتابة التاريخية إلى أبعد حدود، فتراه يشقّ طريق المنهج الاجتماعي، حين جال في «الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة والأعراف والتقاليد والمفاهيم الضابطة لإيقاع نبض الناس في حقبة تاريخية محدّدة»، وكان جسوراً أن صاغ العبر بين طيات صفحاتها، رافضاً العنف حين خاطب أولاده «فلينشئوا أولادهم (أحفادي) على رفض العنف الذي لا يؤدي إلا إلى التراجع والانهيار»، مظهراً كلفة الحرب على المجتمع التي «نسفت أسس المجتمع ومرتكزاته»، مشيراً في أكثر من محطة إلى «العلاقات الإنسانية بين أهالي القرى قبل الحرب وبعدها علّ في ما كتبتُ درسًا من الماضي وعبرًة للمستقبل». جعل الأمثلة المحسوسة أحاجيج لتبيان قناعاته ومحاولة تعميمها، فحين أظهر قلقه وقلق وليد جنبلاط على وضع بلدة دير القمر كان يؤكد أنّ «انتشار الغرباء فوق تلالها أمر مؤقت وزائل، أما الثابت والدائم فهو التواصل الاجتماعي مع الجوار»، وحين ذكر نسيبه المهاجر من بشتفين وجد فيه «نموذج المغترب اللبناني الذي يحمل الحنين في قلبه وجواز السفر في يده والدمعة على وجنتيه»، وحين قارن وضعه واقفاً مُهدَداً بين حاجزين أحدهما سوري والآخر إسرائيلي مع «وضع لبنان على ساحة الصراع الإقليمي بين سوريا وإسرائيل وبين مصالح القوى الإقليمية وهو عاجز لا حول له ولا طول»، مختتماً للأسف كتابه باستنتاج محبط «هل أرض لبنان هبة من الله لا يستحقها شعبه؟!.»

خمس سنوات مرّت على غلبة موت المقدّم شريف فياض، «وهي خسارة مشروعة، في معركة الإنسان الأخيرة مع الموت منذ بدء الخليقة، ولمّا تزل في أذهاننا جميعاً صورة المقدّم منتصب القامة، مرفوع الهامة…».

.

مَشيخةُ عقل المُوحّدين (الدروز) في لبنان

الموحّدون (الدروز) طائفة إسلامية يقيم أبناؤها في الدول التالية من المشرق العربي: لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ويتواجد مغتربوهم في الكثير من دول العالم. لهم عبر تاريخهم قادة زمنيون هم شيوخ العشائر والمناطق، والمقدّمون، والأمراء، وغيرهم من ذوي الشأن والنفوذ. ولهم قادة أو رؤساء روحيون في كلٍّ من الدول التي ورد ذكرها باستثناء شرق الأردن، لُقّبوا بالشيوخ سابقاً، وبشيوخ العقل مؤخّراً. وإذا كان يصحُّ إعطاء صفة الزعامة للقادة الزمنيين فإنه لا يصحُّ إعطاؤها للقادة الروحيين نظراً لما تنطوي عليه من سلطة وجاه بعيدين عن مفاهيم ومبادئ مسلك التوحيد العِرفاني، التي يتمشّى عليها أتباعه وخصوصاً الكبار والأعلام، ونظراً لأن الرئاسة الروحية هي اشتقاق معنوي تقليدي لفكرة الإمامة. وقد شُبّه كبار رجال الدين عند الموحّدين (الدروز) بحِرز الطائفة، لأنهم يصونونها بالحكمة والرأي السديد ويشكّلون عناصر خير وبركة فيها، فيما شُبّه الزعماء الزمنيون بسياج الطائفة، لأنهم يصونونها بالسيف ويدافعون عن حقوقها وكرامتها ووجودها.

من شيوخ البلدان إلى شيوخ العقل

كانت المناطق أو المقاطعات، وخصوصاً تلك المفصولة عن بعضها بحدود طبيعية، تُسمّى «البلدان»، ومنها على سبيل المثال المناطق التالية من لبنان، المسكونة بالموحّدين (الدروز): المتن والجُرد والغرب والشوف، ووادي التيم، وقد سُمّي رؤساؤهم الروحيون فيها شيوخ البلدان، وعُرف أبرزهم بشيخ البلدان أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر. وأهم وأكبر شيوخ العصر هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي الملَّقب بالسيّد (000-1479هـ)، كما أنه في الوقت نفسه أشهر أولياء الموحِّدين (الدروز) وأشهر أعلامهم الدينيين، لأنه نهل الكثير من المعارف الزمنية والدينية، وفسّر تعاليم ومفاهيم مسلك التوحيد، وأصلح شؤون قومه، ووضع النهج والقواعد التي تمشّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده، فكان مُعلّماً ومدرسة لأبناء عصره والعصور التالية. ومع أنه أقدم شيوخ العصر إلاّ أنه من الخطأ اعتباره أقدم شيوخ البلدان إذ هناك سبعة شيوخ قبله من أسرته، كما جاء بعده عشرة شيوخ عصر وبلدان.

ومنذ سنة 1763 بدأ يظهر لقب «شيخ العقّال» أو شيخ رجال الدين. وأول من أُطلق عليه هذا اللقب هو الشيخ اسماعيل أبو حمزة، والعقّال جمع لفظة «عاقل» التي تعني من عقل الأمور الدينية أي فهمها وفسّرها وعمل بموجبها، وهم رجال الدين المعروفون بالأجاويد جمع جيّد وتصغيرها جويّد. لكن لفظة «العُقّال» صُحِّفت فغدت: العقل. وقد بدأ ذلك مع العمّال والموظفين الأتراك الذين استسهلوا لفظة العقل على لفظة العقّال، وعمّ استعمالها.

تولّي الرئاسة الروحية قبل عهد المتصرفية

لم يكن تولّي الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) وراثة أو توريثاً، ولا تعييناً من الحاكم، ولا انتخاباً من رجال الدين، ذلك أن من تسلّموها، سواء بلقب الشيخ أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر، تحقّق لهم هذا بفضل بروزهم كفعاليات دينية اجتماعية، وتميّزهم عن اخوانهم بالتقوى والتديّن وحفظ الكتاب العزيز وتفسيره والعمل بموجب التعاليم، وبفضل تخلّقهم بالفضائل والقيم السامية. وعندما كان يتوفّر هذا في أحد الشيوخ كان أخوانه يقرّون بتقدّمه عليهم، وتبعاً لذلك لم يكن هناك تاريخ معين لتولّي أحد الشيوخ هذه المكانة المتقدّمة، بدليل أنّ الكثيرين منهم لم يخلفوا مباشرة من سبقوهم في الرئاسة الروحية، إذ كان هناك أحياناً فترات زمنية تبلغ بضعة عقود بين تاريخ وفاة الشيخ وبروز شيخ آخر مكانه، وبدليل آخر هو أنه ليس عند الموحّدين كما عند المسيحيين نظام إكليريكي يحدّد المناصب وكيفية تسلّمها.

لم يحصل في القرون الماضية أي تدخّل من السلطة أو من الأمير الحاكم في تعيين رئيس روحي أو عزله، ولم يحصل أي تدخّل في شؤون مشيخة العقل إلّا في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عيّن الشيخ حسين عبد الصمد شيخ عقل إلى جانب الشيخ حسن تقي الدين الذي لا يوجد عند آل تقي الدين وسواهم أي مستند خطي يشير إلى تدخل الأمير بشير في توليّه. أما شيخ العقل الثالث الذي عاصر هذين الشيخين وهو الشيخ شبلي أبي المنى، فقد تسلّم المشيخة نزولاً عند رغبة أخوانه، ولم يحصل ذلك في اجتماع عام أو نتيجة انتخاب، وإنما حصل بالتشاور بين رجال الدين، وبأخذ آراء العديدين منهم، وأخذ رأي الوليّة السّت فاخرة البعيني.

تحوّل مقام مشيخة العقل إلى منصب في عهد المتصرفية

أُنشئت متصرفية جبل لبنان بموجب بروتوكول سنة 1861 المعدَّل في سنة 1864، وقُسِّم الجبل إلى سبعة أقضية، وقُسِّمت الأقضية إلى نواحي، وبات هناك إدارة محليّة أكبر موظفيها القائمقامون الذين يعيّنهم المتصرّف، ومنهم القائمقام الدرزي على قضاء الشوف، الذي هو أكبر أقضية المتصرفية، ويشمل قضاءي الشوف وعاليه الحاليين، وتحوّل مقام مشيخة العقل في عهد المتصرفية إلى منصب ديني رسمي أُعتبر «وظيفة» كبيرة كوظيفة القائمقام. وقد وردت كلمة «وظيفة» في كتاب تهنئة المتصرّف رستم باشا لشيخ العقل محمّد طليع، بتاريخ 9 آذار 1874، وفي مضبطة انتخاب الشيخ حسين حماده الموقّعة من منتخبيه، والمرسلة إلى المتصرّف أوهانس باشا بتاريخ 15 كانون الثاني 1915. وبناءً على ذلك لم يعد شيخ العقل أحد كبار رجالات الهيئة الروحية أو أكبرهم، لكنه الممثّل لهم ولسائر الموحّدين (الدروز) إزاء السلطة وإزاء الآخرين، وهذا أضاف إلى الصبغة الروحية الصرف للمشيخة صبغة زمنية سياسية، وأدى إلى اعتماد صيغة نظامية لانتخاب الشيخ وتولّيه رسمياً منصبه، هي بداية أنظمة انتخاب شيخ العقل.

انتخاب شيخ العقل بموجب الأعراف

حين صارت مشيخة العقل منصباً بات تولّيه يتمُّ عن طريق الانتخاب من قبل أعيان الدروز، يليه الاعتراف من السلطة بالشيخ المنتخب. وهذا يحصل على الشكل التالي:
– دعوة قائمقام الشوف أعيان ووجهاء الموحّدين (الدروز) إلى اجتماع لانتخاب شيخ العقل.
– اجتماع الأعيان والوجهاء – وأكثريتهم من الزمنيين – وانتخابهم شيخ العقل، وتوقيعهم على مضبطة بذلك تُرسل إلى المتصرّف.
– تهنئة المتصرّف للشيخ المنتخب، وهي بمثابة اعتراف رسمي به.

وبموجب هذه الطريقة العرفية جرى انتخاب الشيخ محمّد طليع في سنة 1879 خلفاً لوالده شيخ العقل حسن طليع، وانتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 خلفاً لأخيه الشيخ محمّد، وانتخاب الشيخ محمّد حماده في سنة 1869 خلفاً لشيخ العقل حسين عبدالصمد، وانتخاب الشيخ حسين حماده في سنة 1915 خلفاً لوالده الشيخ محمّد. وقد جرى انتخاب الشيوخ المذكورين من قبل عدد محدود من الأعيان والوجهاء، بلغ في انتخاب الشيخ حسين طليع 165، وفي انتخاب الشيخ حسين حماده 340، هو أكبر عدد. كما أنه جرى بدون مرشّحين منافسين، وفي إطار المعرفة المسبقة لاسم الشيخ الجديد الذي سيُنتخب خلفاً للشيخ القديم، بحيث كان الانتخاب أشبه بالمبايعة، ومجرد تطبيق شكلي للعرف.

انحصر انتخاب شيوخ العقل المذكورين في أسرتين هما آل طليع وآل حماده، وبخلافة الابن لأبيه، والأخ لأخيه. وجرى بموجب الأعراف بدون أية إشكالية أو أزمة، واستمر على أساسها لكن مع حصول ثلاث أزمات وذلك عند انتخاب الشيخ محمّد عبد الصمد في سنة 1946 خلفاً للشيخ حسين حماده، وانتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا في سنة 1949 خلفاً للشيخ حسين طليع، وانتخاب الشيخين علي عبد اللطيف ورشيد حماده في سنة 1954 خلفاً للشيخ محمّد عبد الصمد. وما كان سبب هذه الأزمات التجاذبات السياسية والصراع حول مشيخة العقل فقط، وإنما كان أيضاً عدم وجود نظام أو قانون ينظّم انتخابها. وهذا، مع رغبة الغيورين بتنظيم جميع شؤون طائفة الموحّدين (الدروز) أدّى إلى وضع مجموعة من التنظيمات، بدأت بوضع نظام لانتخاب شيخ العقل في سنة 1953، وانتهت بإصدار قانون شامل صدر في سنة 2006 ينظّم شؤون طائفة الموحّدين، باستثناء قانوني الأحوال الشخصية وتنظيم القضاء المذهبي الصادرين سابقاً.

نظام انتخاب شيخ العقل

يحدّد نظام انتخاب شيخ العقل الفئات التي تتكوّن منها الهيئتان الناخبتان وهما الهيئة الروحية والهيئة الزمنية، كما يحدّد كيفية الدعوة والترشّح والشروط التي يجب توفّرها في المرشّح، وإعداد الهيئة المشرفة على الانتخاب محضراً بالواقع وتبليغ رئيس الجمهورية نتيجة الانتخاب، والاستغناء عن إرساله كتاب تهنئة للشيخ هو بمثابة اعتراف به، لأن الشيخ المُنتخَب يكتسب عند ظهور النتيجة حكماً صفة شيخ العقل، وذلك من أجل تلافي ما كان يُشكى منه، وهو تأخر رئيس الجمهورية في إرسال كتاب التهنئة لانحيازه إلى فريق درزي ضد آخر كما حصل عند انتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا، إذ تأخر الرئيس بشاره الخوري في إرسال كتاب التهنئة له أربعة أشهر.

لم يُعمل بنظام انتخاب شيخ العقل عند انتخاب خلف لشيخ العقل محمّد عبد الصمد المتوفّى في 5 نيسان 1954، لأنه جرى الاتفاق بين قادة الدروز على وضع قانون بديل عنه وأفضل منه، لكنهم لم يتفقوا على مبادئه الأساسية التي من بينها توحيد مشيخة العقل فتأخّر إعداده وتأخر الانتخاب حتى أيلول 1954 حيث أدى التجاذب السياسي الحاد إلى حصول أزمة أشد من أزمتي انتخاب سنتي 1946 و 1949، وإلى انتخاب شيخي عقل إلى جانب الشيخ محمّد أبو شقرا، هما الشيخ علي عبد اللطيف والشيخ رشيد حماده، فبات هناك ثلاثية استثنائية للمشيخة بدلاً من توحيدها المنشود.

قانون انتخاب شيخ العقل

بعد ثورة سنة 1958، تجدّدت بقوة مساعي الموحِّدين (الدروز) لاستكمال تنظيم شؤونهم الذي بدأ بصدور قانون الأحوال الشخصية، فصدر في 5 آذار 1960 قانون تنظيم القضاء المذهبي، وصدر في 13 تموز 1962 قانون إنشاء المجلس المذهبي وقانون انتخاب شيخ العقل. والقانونان الأخيران مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، وعلاقة المجلس المذهبي بمشيخة العقل تظهر في الأمور التالية:
1- هيئة مشيخة العقل هي من الأعضاء الدائمين في المجلس المذهبي.
2- شيخ العقل هو رئيس المجلس المذهبي.
3- شيخ العقل هو الذي يدعو إلى انتخاب أول مجلس مذهبي.
4- المجلس المذهبي بعد تشكيله هو الذي يدعو إلى انتخاب شيخ العقل.
وقد نصَّ قانون انتخاب شيخ العقل على الشروط التي يجب توافرها في المرشّح، وعلى كيفية الانتخاب، وصحته أو بطلانه. كما نصَّ في المادة العشرين على ما يلي: «فور صدور نتيجة الانتخاب النهائية تنظّم لجنة الانتخاب محضراً بالواقع وتبلّغ على سبيل العلم اسم شيخ العقل الجديد إلى كل من مقامي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة». إلّا أنه كان من عيوبه النصُّ على ثلاثية مشيخة العقل وإنما بصورة استثنائية، والإبقاء على ثنائية مشيخة العقل، وتكريسها رسميّاً. كما من عيوبه صعوبة تطبيقه، لأنه جعل انتخاب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين لهم حق الانتخاب وفقاً لقانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي. وهذه الديمقراطية التي لم تشمل النساء تصحُّ في انتخاب النواب لكنها لا تصحُّ في انتخاب شيخ العقل، لأنها تخفض من منزلته السامية، وخصوصاً عند حصول التنافس على المشيخة. فكان هذا أحد أهم الأسباب في عدم العمل بقانون انتخاب شيخ العقل فيما عُمل بقانون إنشاء المجلس المذهبي فجرى انتخاب مجلسين على أساسه في سنة 1962 وفي سنة 1966.

توفّي شيخ العقل رشيد حماده في 14 نيسان 1970، فبات على المجلس المذهبي أن يدعو إلى انتخاب خلفٍ له بموجب قانون انتخاب شيخ العقل. لكن أعضاءه، وعلى رأسهم الزعيمان الكبيران: الأمير مجيد أرسلان وكمال بك جنبلاط، قرّرا إرجاء الانتخاب ريثما يُعاد النظر في قانوني إنشاء المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل، كما قرّرا التمديد للمجلس المذهبي نصف سنة وبعدها يُصار إلى انتخاب بديل عنه، على أساس تعديل القانونين المذكورين، أو على أساس قانونين بديلين عنهما. لكن هذين الأمرين لم يحصلا بسبب صعوبتهما وانشغال الدروز عنهما بالأوضاع العامة وتلاحق التطوّرات الخطيرة وتفاقم الأوضاع الأمنية جرّاء الحرب اللبنانية التي نشبت في سنة 1975 واستمرت حتى سنة 1990.

بعد أقل من شهرين على وفاة الشيخ رشيد حماده توفّي الشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970 فانحصرت مشيخة العقل بشخص الشيخ محمّد أبو شقرا حتى وفاته في 23 تشرين الأول 1991، وبهذا توحّدت واقعياً فيما كان هناك قانون لا يزال ساري المفعول، هو قانون انتخاب شيخ العقل الذي ينصُّ على ثنائيتها. وحين لم يُنتخب مجلس مذهبي جديد مكان المجلس المذهبي الممدَّد له نصف سنة انحصرت إدارته وإدارة الأوقاف بشخص المدير العام خالد بك جنبلاط حتى وفاته في 15 آذار 1992.

قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)

كان لا بد من التوافق بين قادة الموحِّدين، وخصوصاً نوابهم، حول اقتراحات ومشاريع القوانين والأنظمة التي تنظّم شؤونهم، لكي تصدر عن المجلس النيابي في قوانين، دون إصدار أي قانون حتى سنة 1999 حيث صدر بناءً على توافقهم القانون رقم 127 بتاريخ 25/10/1999، وهو يقضي بتشكيل مجلس أمناء أوقاف الطائفة. ثم صدر قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)، حاملاً الرقم 208 وتاريخ 26/5/2000.

قدّم الشيخ بهجت غيث إلى المجلس الدستوري طلب إبطال للقانون رقم 127، لكنه لم ينجح في إبطاله فاستمر مجلس أمناء الأوقاف الذي أنشئ بموجبه في العمل. كما قدّم الشيخ بهجت غيث مراجعة إلى المجلس الدستوري يطلب فيها إبطال القانون رقم 208، فاجتمع المجلس بتاريخ 8/6/ 2000 وأبطل تعيين الشيخ أبي علي سليمان أبو ذياب شيخ عقل على أساسه «لعلّة توقيع قرار تعيينه دون تاريخ قبل تصويت المجلس النيابي على القانون المذكور، وقبل نشره في الجريدة الرسمية». وهكذا أُبطل مفعول هذا القانون بالنسبة إلى تعيين الشيخ سليمان أبو ذياب بعد 13 يوماً من صدوره، واستمر الشيخ بهجت في منصبه. لكن معظم مواد القانون المذكور سيتضمنها القانون الذي صدر بعد 6 سنوات.

قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز)

كان من المتعذّر إذن إصدار قانون ينظّم مشيخة العقل والأوقاف دون إجماع النواب الدروز عليه. لكن الإجماع النيابي مرة ثانية تكوّن من فريق واحد هو فريق الزعيم وليد جنبلاط الذي يمثّل الأكثرية، والذي فاز في الانتخابات النيابية سنة 2005. لقد جرى بعدها تقديم اقتراح قانون لتنظيم شؤون مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف، وافق عليه المجلس النيابي في أول كانون الأول 2005، وأُحيل إلى رئيس الجمهورية إميل لحود لتوقيعه ونشره، لكنه ردّه إلى المجلس النيابي الذي درسه مجدّداً في يومي 3 و 4 أيار 2006، ووافق عليه، فصدر بتاريخ 12 حزيران 2006، وكان إنجازاً مهماً للموحِّدين على صعيد تنظيم شؤونهم الداخلية، بعد محاولاتهم المتكرّرة لمدة 36 عاماً لإيجاد بديل عن قانوني المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل الموضوعين في سنة 1962، واللذين لم يُعمل بهما في استحقاق سنة 1970.

إن قانون سنة 2006 هو القانون المنشود والضروري لتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، التي تعطّلت مسيرتها أحياناً وتعثرت أحياناً أخرى. وهو حصيلة ما تضمنّته القوانين والأنظمة الموضوعة ومشاريع القوانين المقترحة، مع سدِّ النقص وتصحيح مواطن الخلل فيها. لقد سبق لنا أن عالجنا بتوسّع مواضيع مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف في كتب ثلاثة، أولها كتاب «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015. وثانيها كتاب «الشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين (الدروز) الصادر سنة 2017. وثالثها كتاب «المجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان، الصادر سنة 2018. لذا سنتكلم هنا بإيجاز عن أبرز الإيجابيات والنقاط الجديدة الواردة في قانون سنة 2006 فيما يتعلق بمشيخة العقل.

-توحيد مشيخة العقل. ظهر الموحِّدون الدروز على صعيد التمثيل الديني بخلاف سائر الطوائف، إذ كانت مشيخة العقل عندهم ثنائية فيما هي عندها برأس واحد، وهذه الثنائية قائمة على أساس سياسي لا على أساس ديني عقائدي. وقد عمل الموحِّدون منذ أواسط القرن العشرين على توحيد المشيخة وتصحيح خطأ بدأ في سنة 1825، وكان من أهم أسبابه تدخّل الأمير بشير الشهابي الثاني في الشأن المذهبي الدرزي من قبيل الإمعان في إضعاف الموحِّدين وتفرقتهم بعد أن قضى على زعيمهم الأكبر الشيخ بشير جنبلاط، وتحقّق لهم ذلك واقعياً ودون نص قانوني منذ سنة 1970، ثم تحقّق لهم في قانون سنة 2000، لكن هذا القانون أُبطل بعد 9 أيام من صدوره بمرسوم، وبعده تحقّق لهم في قانون سنة 2006 الذي نصَّ في مادته الثانية على ما يلي:
«إنّ لطائفة الموحِّدين الدروز شيخ عقل واحد يتمتع بذات الحرمة والامتيازات والحقوق التي يتمتع بها رؤساء الطوائف اللبنانية الأخرى بلا تخصيص ولا استثناء».

إن قانون سنة 2006 ليس مثالياً وخالياً من الثغرات، مما يتطلّب إجراء تعديلات فيه، لكن مادته الثانية التي تنصّ على توحيد مشيخة العقل غير قابلة للنقاش، وغير قابلة لأي تعديل، لأن فيها مماشاة للموحِّدين لسائر الطوائف في موضوع وحدة الرئاسة الدينية، وإظهارهم كاسمهم واسم مذهبهم: مسلك التوحيد، إضافة إلى أن هذا أجدى وأكرم لهم.
-تصحيح اسم «الدروز» على صعيد رسمي. أُطلق اسم «الدروز» خطأً على أتباع مسلك التوحيد العرفاني فتداولوه اقتداءً بمُطلقيه، واستمرّوا في اعتماده وتداوله قروناً عدة، لأنهم اشتُهروا واقترن تاريخهم وأمجادهم به. لكنهم أخذوا مؤخّراً يذكرون في أدبياتهم الاسم الحقيقي: «الموحِّدين» واللقب: «بني معروف». وجاء قانون سنة 2006 يجاري هذا الاتجاه، ويكرّس الاسم الحقيقي في عنوانه ونصوص مواده، لكنه ذكر إضافة إليه اسم «الدروز» من قبيل التوضيح»، ومنعاً للالتباس. وقد نصّ على وجوب اعتماده في أي نص قانوني لاحق، إذ جاء في المادة (51) ما يلي:

«تُستَبدل عبارة «الطائفة الدرزية» بعبارة «طائفة الموحِّدين الدروز» وذلك أينما ورد النص عليها في كافة القوانين والأنظمة النافذة والمرعية الإجراء، وتعتمد هذه العبارة لاحقاً في أي نص قانوني يتم اقراره واعتماده».
وبناءً على هذه المادة أصبح شيخ عقل الدروز يُدعى شيخ عقل طائفة الموحِّدين، أو شيخ عقل الموحِّدين.

-زيادة شروط الترشح لمشيخة العقل: لم يكن هناك قبل قانون سنة 1962 شروط للترشح. لذا نصَّ هذا القانون على أن يكون المرشّح من أهل التقوى والدين، ومن ذوي العلم والمعرفة بتقاليد الطائفة، وحسن السمعة ومحمود الشيم، منزّهاً عما يمسُّ الكرامة والدين، وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة. ثم نصَّ قانون سنة 2006 على مضمون هذه الأمور، واشترط بالإضافة إليها أن يكون المرشّح من أهل الدين والتقوى لمدة لا تقلُّ عن الخمس سنوات وفق العرف السائد، كما اشترط الموافقة على ترشيحه من قبل عشرة أعضاء من المجلس المذهبي على أن يكون ثلثهم من أعضاء الهيئة الدينية. وليس وضع هذه الشروط من قبيل تعقيد الأمور وتصعيبها، وإنما هو من قبيل ألا يصل إلى منصب المشيخة السامي إلا المؤهّل له والمقبول من رجال الدين والمعروف جيداً في أوساطهم.

-جعل انتخاب شيخ العقل على درجتين: كان شيخ العقل يُنتخب بحسب الأعراف بالمبايعة في اجتماع عام من قبل الذين يلبّون الدعوة العامة لحضوره. وقد نصّ قانون سنة 1962 على أن يُنتخب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين يحق لهم انتخاب النوّاب. ونظراً لصعوبة هذه الطريقة، وعدم ملاءمتها كما وردت الإشارة إلى ذلك، جعل قانون سنة 2006 الانتخاب على درجتين وذلك بانتخاب شيخ العقل من قبل أشخاص منتخبين من الموحِّدين أو يمثّلونهم، وهم رئيس المجلس المذهبي وأعضاؤه الدائمون: نواب الطائفة الحاليون والسابقون، ووزراؤها الحاليون، وقضاة المذهب، والعضوان الدرزيان في المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى. كما هم أعضاء المجلس المذهبي المنتخبون وعددهم 68 يمثّلون أصحاب الشهادات الجامعية والمهن الحرّة والمناطق. ويكتسب شيخ العقل المنتخب حكماً وفوراً الصفة الشرعية بعد الانتهاء من فرز الأصوات، وإعلان النتيجة.

-تلافي شغور منصب شيخ العقل: لم يحدث أي شغور لمنصب شيخ العقل زمن ثنائيتها، وما حصل هو تأخّر انتخاب شيخ العقل أحياناً لبضعة شهور، وتأخّر رئيس الجمهورية في الاعتراف بالشيخ المُنتخب لفترة قصيرة، بسبب الانقسام حول مشيخة العقل، والتجاذب السياسي. وقد تلافى الشيخ محمّد أبو شقرا حصول الشغور بعد وفاته فاعتمد صيغة منصب القائم مقام شيخ العقل كما حاول الموحِّدون تلافي هذا بتضمين مشاريع قوانين تنظيم مشيخة العقل وتوحيدها منصب نائب شيخ العقل الذي يحلُّ مكان شيخ العقل في حال وفاته أو عزله. أما بالنسبة إلى قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز الصادر في سنة 2006، فقد نصَّ في المادة (31) على ما يلي:

«قبل موعد انتهاء ولاية شيخ العقل بمدة شهر على الأقل وشهرين على الأكثر يلتئم المجلس المذهبي بدعوة من رئيسه لانتخاب شيخ عقل جديد، وفي حال تخلّفه عن القيام بالدعوة المذكورة ينعقد المجلس المذهبي حكماً في أول يوم عمل يلي بدء مهلة الشهرين المبيّنة أعلاه لإعلان تاريخ الانتخاب، وفي هذه الحالة يرأس المجلس المذهبي أكبرُ الأعضاء سناً ويقوم بتحديد موعد الانتخاب والإعلان عنه خلال مدة عشرة أيام».
وتطبّق هذه المادة في حال استقالة شيخ العقل أو إعفائه من منصبه لأسباب حدّدتها المادة (30).

-تحديد مدة ولاية شيخ العقل: لم يكن تولّي مشيخة العقل مشروطاً بسن محدّدة، ولم تكن أيضاً مدّة ولاية الشيخ محدّدة بسن معينة إذ هي تستمر حتى وفاة الشيخ. فقد كانت مدتها، مثلاً، مع الشيخ محمّد حماده 46 سنة، وهي لم تنتهِ إلّا بعد اشتداد وطأة المرض عليه، حيث توفي بعد بضعة أشهر من تنازله لابنه الشيخ حسين. وكانت مدة ولاية الشيخ حسين عبد الصمد 43 سنة، ومدة ولاية الشيخ محمّد أبو شقرا 42 سنة، وكلاهما استمرّا حتى وفاتهما. إلا أن قانون سنة 1962 اشترط بلوغ المرشح للمشيخة سن الأربعين، لكنه أبقى مدة ولايتها طوال حياة الشيخ. أما قانون سنة 2006، فقد اشترط بلوغ المرشح سن الأربعين، وحدّد ولاية الشيخ بخمس عشرة سنة فقط، أو ببلوغه الخامسة والسبعين، مع جواز التجديد له بموافقة الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس المذهبي، دون أن يتخطى سن الخامسة والسبعين. كما نص في المادة (30) على ما يلي:

«لا يُعفى شيخ العقل من منصبه إلّا بناء لطلبه أو لأسباب خطيرة تهدّد كرامة الطائفة ووحدتها وكيانها أو تمسّ بسمعتها أو لأسباب صحية تمنعه من القيام بمهامه تقررها اللجنة الطبية الدائمة في بيروت، وذلك بناءً على طلب ربع أعضاء المجلس المذهبي. وفي حال عدم اعتزاله طوعاً يتم الإعفاء بقرار من الهيئة العامة للمجلس المذهبي بأكثرية ثلثي أعضائه القانونيين بناء على اقتراح ربع أعضائه على الأقل».

– إيجاد الهيئة الدينية الاستشارية: إضافةً إلى موظفي ملاك مشيخة العقل، نصّ قانون سنة 2006 على وجود هيئة استشارية لشيخ العقل يستعين بها لمساعدته في أداء مهامه الكثيرة، المحدّدة في صلاحيات واسعة. وهي تتكوّن من ستة من مشايخ الدين المعروفين بعلمهم الديني، أحدهم من خلوات البيّاضة، يعيّنهم شيخ العقل خلال مهلة شهر من تاريخ تسلّمه مهامه، وتكون مدتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وبما أن أحدهم هو من خلوات البيّاضة الموجودة في قضاء حاصبيا، فإن توزيع الخمسة المتبقين منهم يجري على أساس تمثيل المناطق الأخرى، وذلك بتعيين عضو عن كل من الأقضية أو المناطق التالية: الشوف – عاليه – المتن الجنوبي – راشيا – بيروت.

انتخاب أول شيخ عقل بموجب القانون.
نصّ قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز على مِهَل محدّدة لانتخاب المجلس المذهبي، وانتخاب شيخ العقل، وتشكيل لجان المجلس الثماني التي يتكّون منها مجلس الإدارة، وتأليف الجهاز الإداري. وكانت الخطوة الأولى في تطبيق القانون هي انتخاب أعضاء المجلس المذهبي في 24 أيلول 2006، تلاه انتخاب هؤلاء الأعضاء للقاضي نعيم حسن (قاضي المذهب في قضاء عاليه) شيخ عقل في 5 تشرين الثاني 2006. وقد انتُخب بإجماع أعضاء المجلس المذهبي، الحاضرين، ولم يكن هناك منافس له لأن طلب المرشح الثاني البروفسور سليم مراد غير مستوفي الشروط.

بدأ شيخ العقل الشيخ نعيم حسن عمله فوراً، وذلك بتسلّمه رئاسة الجلسة التي جري فيها انتخابه، من رئيس السن العضو فؤاد الريّس. ثم تولّى بالتعاون مع أعضاء المجلس مهمة التأسيس الصعبة، أو مأسسة المجلس، وذلك بوضع نظام المجلس الداخلي وسائر الأنظمة وتسلّم الأوقاف. وتعيين الجهاز الإداري والموظفين. وتابع بالتعاون مع قادة الموحّدين السياسيين المواضيع المهمة، ومثّل الطائفة خير تمثيل في شتى المناسبات وخصوصاً تلك التي تقتضي حضوره مع رؤساء الطوائف على اعتبار أنه الممثل الشرعي والرسمي للطائفة. وقد ترأس جلسات الهيئات العامة للمجالس المذهبية الثلاثة التي انتخب منها اثنان زمن ولايته، وجلسات مجلس الإدارة. كما ترأس الأكثرية الساحقة من جلسات اللجان رغبة منه في متابعة النشاطات وتسيير الأمور بما في ذلك التفصيلية بغية ضبط عمل المجلس وتفعيله.

تنتهي مدة ولاية الشيخ نعيم حكماً في 5 تشرين الثاني 2021، وبصفته رئيس المجلس المذهبي يدعو بناءً للمادة (31) من قانون سنة 2006 أعضاء المجلس إلى الاجتماع لانتخاب خلفٍ له. والآمال معقودة على اتخاذ قادة الطائفة وعقلائها من هذا الاستحقاق فرصة للاتفاق حول جميع الشؤون الداخلية، والتوحيد الكامل لمشيخة العقل غير المنقوص بأي شكل من الأشكال، وتلاقي وتضافر الجهود لمواجهة التحدّيات على كافة الصّعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، في مرحلة ملأى بالمفاجآت والتحوّلات الدراماتيكية المصيرية، حيث تتكتل فيها الجماعات حول مصالحها، وتسعى لحفظ كيانها وتثبيت وجودها.

النَّبيُّ حزقيال

وَرَدَ في التاريخ القديم ذكرُ نَبِيّين يحملان هذا الاسم الكريم وهما حزقيال الأوّل وحزقيال الثاني. أمّا حزقيال الأوّل فمدفنه بلدة بثينة كرَك نوح، كما يشير إلى ذلك صاحب كتاب عمدة العارفين.

أمّا حزقيال الثاني، والذي نحن بصدد تاريخه، فمدفنه ومزاره بلدة بلاط قضاء مرجعيون وهي من قرى وادي التيم جغرافياً وقداسة. وهو صاحب السِّفر الثالث والذي يذكرُ فيه حِكَماً طبيعيّة وفلكيّة مرموزة، وكذلك شكل البيت المقدس وأخبار ياجوج وماجوج. وحزقيال هذا كان في جملة سبايا بني إسرائيل أيام الملك نبوخذ نصر وعددهم، كما يُقال، نحو 70 ألفاً، إذ أقام بينهم وتنبّأ فيهم نحو عشرين سنة بأمر الله تعالى حيث أمرَهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فأجاب البعض وصدّقه الأقلّ وصدّ عنه وكذّبه الأكثر، فلما ألحّ عليهم بالإنذار وبالغ في النّصح ردّوا كلمته وخالفوه واقتحموا عليه، فقتلوه، ولم يتعظوا بما صار عليهم ولا خافوا الله لفعلتهم.

ومن الأقوال المنسوبة للنّبيّ حزقيال: «مَن أهانَ وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرعُ إلى نصرة عبيدي وأوليائي. وإنّ من عبادي من لا يصلحُ إيمانه إلاّ بالغنى ولو أفقرتُهُ لأفسدتُ عليه دينه. وإن من عبادي المؤمنين من لو سألني الجنة لأعطيته ولو سألني الدّنيا غلافة سوطٍ لم أعطه. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل ممّا افترضت عليه ولم يزل يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّهُ، فإذا أحببتهُ كنتُ سمعه الذي يسمعُ به وبصرهُ الذي يُبصرُ به، ولسانه الذي ينطقُ به، وقلبهُ الذي يعقلُ به، ويدهُ التي يبطشُ بها، وإن دعاني أجبتهُ وأن سألني أعطيته».

أمّا مزاره ومدفنه في بلدة بلاط فقد تداعت الدولة العثمانية إلى ترميمه أواسط القرن الثامن عشر وكان المتعهد لبنائه من آل ملاعب (جبّ حسيكة) من بلدة بيصور. وهنا ما يدعو إلى الاستغراب والاستهجان أنّه ما كان يبنيه في النّهار يُهدم في الليل إلى أن احتار من أمرهِ وفِكرهِ، وما العمل، ومن الذي يُقدم على ذلك! ممّا حمله على النّوم قرب المقام ليلاً وإذ به يسمع صوت ريحٍ قويّة ترتدّ على الحائط فترميه أرضاً.

في اليوم التالي بعد أن استشار العديد من المقيمين كانت إجاباتهم: ما لكَ سوى الأتقياء من المشايخ وخصوصاً مشايخ الأزهر الشّريف (خلوات البيّاضة). لهذا ذهب إليهم واستشارهم بعدما أبلغهم بما حدث معه وما العمل لإنجاز البناء.

المشايخ الثقات كانت إجابتهم: من أين تأخذ إيجارك لقاء البناء؟ أجاب من أموال الدولة العَليّة أي الدولة العثمانية الحاكمة آنذاك.
هنا افترّ ثغر أحد كبار المشايخ قائلاً: يا بُني ألا تعلم أن أموال السلطان ودار ضرب العملة محرّمة عند أبناء التوحيد، فكيف يكون لقاء بدل ثمن لبناء مكان مقدس لنبيّ مكرّم فذاك لا يجوز مطلقاً.

ألا تعلم كم من ظُلمٍ وتعسّفٍ وإرهاقٍ لأبناء الشّعب عند تحصيل هذه الأموال؟
ألا تعلم أنه لا يدوم ولا يصحّ سوى الأموال الحلال وأنه منها يكون ترميم وبناء دور العبادة والمقامات وحتى بيوت الصالحين والمؤمنين؟

استغفر معلّم البناء من حضرات المشايخ ثم وعدهم أنه سيبنيه دون أي مقابل، غير أنه في النهاية لربما أغوته إحدى نساء تلك القرية فتزوّج منها ثم اعتنق المذهب الشيعي وذريَّته لتاريخ اليوم لم تزل في بلدة بلاط وهم يتبادلون الزيارات مع أقاربهم في البلدة الأم بيصور. وهذا المقام يُزار حالياً من جميع المذاهب، وأنا شخصيّاً وقد أصبحت في أواخر العقد الثامن من العمر أتذكّر كيف كان أهلنا فيما مضى من بلدة الفرديس وكيف كانوا يوفون النذور إلى المقام الشريف والسعي المبرور حيث يذهب جميع أبناء البلدة سيراً على الأقدام أو ركوباً على المطايا من الدواب والخيول وينامون هناك. وكانت تُقام حلقات الذّكر أوّلاً ثم الطعام والموائد العامرة من أصحاب النذور، ثم يُعْمَدُ إلى المنذور فيعتلي فرساً ويدور الجميع معه حول المقام ثلاث دورات والرجال يرفعون عقيرتهم بالحداء وكذلك النسوة، وممّا أتذكره من الحداء :
جينا نزورك يا حزقيل بين بلاط وبين دبّين
يا ربّي تحرس مَزْيـــَــد وثبّتنا عَ المحبة واليقين

بحلول منتصف القرن الماضي تولّى إدارة المقام المرحوم الشيخ سليمان ذياب من قِبَل خلوات البياضة المشرفة عليه صيانةً وتجهيزاً وبناءً، إذ أصبح المقام المذكور وما يحيط به من باحاتٍ وحدائق ومطابخ وقاعات تليق وتتسع لأكبر عدد من الزوّار حضوراً وإقامة.

يتوسّط ذلك المقام سنديانة مُعمّرة لربما عمرها من عمر المعبد التاريخي. وممّا يلفت النظر أنّه عام 1982 عندما احتَلّت بلادنا دولة إسرائيل عمد خبراءُ الآثار والحاخامون منهم إلى نبش النواويس التي حوله ومنها ناووس لم يزل ظاهراً للجميع وهو محفور في الصخر بشكل دائري ويحتوي على ثمانِية مدافن في الصخر ذاته ولا نعلم ماذا وجدوا وكيف اهتدوا إلى ذلك، وهذا ما يرويه أبناء تلك القرية..!

(من كتاب وادي التيم أرض القداسة، قيد التأليف لمؤلّفه غالب سليقه).


المراجع:

1- كتاب عمدة العارفين.
2- كتاب تاريخ حاصبيا وما إليها.
3- كتاب مع الأنبياء.
4- أقوال بالتواتر من بعض المعمرين.

2021