الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

النّبي أيّـوب “عليه السلام”

النبي أيّـوب(ع)، هـو من أنبياء اللـه الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة النساء وذكر نبوّتهم بقوله: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وعيسى وأيوب…). فقـد كان تقيّاً ورعاً رحيماً بالمساكين، يدعو قومه إلى عبادة اللـه الواحد الأحد. فقـد ارتبطت سيرة النبي أيوب بالصبر على البـلاء، وضُربت به الأمثال في كل الأديان، لمـا لحـق بـه مـن ابتلاء وصبره على هـذا الابتلاء. فقد اختبره الله سبحانه وتعالى في صحّتـه وفي أهله وفي رزقه. ولم يكن نبي الله أيّـوب إلاّ أن يصبـر على كل تلك الابتلاءات، حتى رزقـه اللـه بعـد ذلك الفـرج في كل أمـر قـد ابتلي به. والنبي أيّـوب هو الشخصية الرئيسة في كتاب التوراة (الكتاب المقدّس – العهد القديم- سِفر أيوب). ويُعتبر أيـوب أحـد أنبياء الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام.

قصّـة النبي أيّـوب(ع)

كان أيوب رجلاً كاملاً ومستقيماً، يتّقـي اللـه ويحيـد عن الشـرّ. وُلِـد له سبعة بنيـن وثلاث بنـات. كان غنيّاً وكانت مواشيه سبعة آلاف مـن الغنـم وثلاثة آلاف جمـل، وخمسمئة فـدّان بقـر. وخمسمئة أُتـن، وعبيـد وخـدم، والأراضي المتسعة من أرض البثنيّة المجاورة لحوران والجولان من بلاد الشام. وكان هـذا الرجل أعظم بني المشـرق. وبعـد أن عاش سبعين عاما بالعـزّ والجـاه. حسـده إبليس اللعين، فسلّطه اللـه على بنيه ومواشيه فسُلِـبَ منـه جميـع ما يملك، وابتُلي بأمـراض في جسـده، ولـم يبـقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكـر اللـه بهما. والبلاء الذي أصيب به والصبر الذي أبداه يفوق طاقة البشر. فسجـد على الأرض وقال: «عـرياناً خرجت من بطن أمّي وعرياناً أعـود إلى هناك، الرّب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً».

وطال مـرض النبي أيّـوب، حتى عافـه الجليس وأُوحش منه الأنيـس، وانقطع عنـه الناس وأُخـرج من بلـده، وابتعـد عنه قومـه لأنهم اعتبروا أن الأنبياء يجب أن لا يصابوا بتلك الأمراض. ولم يبـقَ أحـد يحنو عليه سـوى زوجته «رحمـه» التي كانت تخـدم الناس بالأجر لتقوم بأوْده، وهي صابرة معـه على ما حـلّ بهمـا من فـراق المال والولـد.

فلمّا علم أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشـّر الذي أتى عليه. حضر كل واحد من مكانه. اليفاز التيماني وبلـدد الشوحي وصوفر النعماني، وتواعـدوا على أن يأتوا إليه ليرْثوا لـه ويعـزّوه. وعندما نظروا إليه من بعيد لم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم ومـزّق كل واحد جبّته، وقعـدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليالٍ. ولـم يكلمه أحـد بكلمة، لأنهم رأوْا أن كآبته كانت عظيمة جـدّاً.(1)
عانى نبي اللـه أيّـوب كثيرا من الأمراض التي أصيب بها، ومكث في بلـواه مـدّة سبع سنوات، وقيل أكثر من ذلك. وكان أيـوب يستحيي أن يطلب من اللـه ما قـد يكون خلاف إرادته واختياره. ويستحيي من الدعاء لتفـريج الكَـرب. لأنه كان يعلم أن اللـة سبحانه وتعالى يبتلي عبـده، ليس جزاء وعقاباً، بل اختباراً لصبره وإيمانـه. فقالت لـه زوجته: «أنت متمسكٌ بعـدُ بكمالك، بارك الله، ومـتّ». فقـال لها: «تتكلمين كلاماً كإحـدى الجاهلات، أألخيرَ نقبلُ من عنـد اللـه والشّرَّ لا نقبـل؟». وقـد اشتـد عليه المـرض. فـدعا النبي أيّـوب ربّـه أن يـزيل عنه الضُـرّ وتسلّط الشيطان. وقـد جـاء في القرآن الكريم، في سورة الأنبياء: «وأيّوب إذ نادى ربّه، إني مسّني الضُرّ وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا لـه، فكشفنا ما به من ضُرّ، وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين».

وجـاء في القرآن الكريم أيضاً وفي سورة (ص): «وأذكرْ عبدنا أيوب إذ نادى ربّه إني مسّني الشيطان بنُصُبٍ وعـذاب، اركضْ برجلك هـذا مُغْتَسل باردٌ وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لأولي الألباب، وخـذ بيدك ضِغثاً فاضرب بـه ولا تحنث، إنّا وجـدناه صابراً، نعـم العبدُ إنه أوّاب».

فقـد استجاب الله سبحانه وتعالى لعبـده الصبور أيوب، وأوحى إليه بالعلاج من الأمراض التي ابتُلي بها. فأمره «أركض برجلك»، أي أضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أُمِـر به. فأنبع اللـه له عيناً باردة من الماء، وأمره أن يشرب من مائها ويغتسل. فأَذهب الله عنـه ما كان بـه من الألـم والسّقم والمرض والأذى. فتـمّ شفاؤه وعاد إلى كامل صحته، ومنحه اللـه بعـد ذلك صحّة ظاهرة وباطنة وجمالاً ومالاً كثيراً ورزقاً مضاعفاً. وكانت زوجته من الصابرين. وقـد غابت عنـه فترة، وعندما عادت رأته نَضِراً كما لم يكن سقيماً من قبل. فحمـدت اللـه على ما أنعم عليهما.

عاش النبي أيّـوب في أرض عَوْص وهي أرض البثنيّة المجاورة لبلاد حوران والجولان ما وراء الأردن. وقيل أنه عاش أيضا في أرض آدوم، التي هي الاسم القديم للبلاد الواقعة بين جنوب فلسطين وخليج العقبة. وجاء في بعض المراجع أن النبي أيوب عنـدما توفّي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة. لكن جاء في كتاب التوراة في سفر أيوب: «عاش أيوب بعد هـذا مئة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال».(2)

النبي أيّوب(ع) عاش التحدّي للمحن والبلايا في كل أشكالها وصورها، وما وهنت عزيمته، فكانت لديه قوة العقيدة والإيمان وعزيمة الثبات. فقـد اختبره اللـه سبحانه وتعالى اختبارات قاسية، فنجح وفاز فوزاً عظيماً جليلاً. فهنيئاً له بهذا الفوز وهنيئاً بشهادة اللـه بقوله تعالى: «إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب». فهي شهادة في الصبر والرجوع إلى اللـه سبحانه في الشدة والرخاء والرضى والتسليم والتسبيح والتمجيد. وكانت عقيدته حاضرة ولم يضعف، لأنه كان قويّاً في إيمانه ويقينه. وبقيت نفسه صافية نقيّـة، لا تحمل ضغينة أو كراهية على أحـد. فاستحق بجدارة أن يكون مثلاً أعلى وقـدوة صالحة في عنوان الصبر.(3)

سـِفـر أيّــوب

سـِفـر أيّـوب هـو أحـد أسفار العهد القديم من كتاب التوراة حـول ( سنة 400 ق.م). يحتوي على 42 إصحاحاً في خمسة فصول. يذكر الفصل الأول تقوى أيوب وصفاته وأقاربه وأملاكه. ويتضمن الفصل الثاني ما جرى بينه وبين أصحابه الثلاثة من جدال. ويشير الفصل الثالث إلى ما نطق به أصحابه من حكمة. ويبين الفصل الرابع مخاطبة اللـه له. فيما ينص الفصل الخامس على الخضوع لإرادة اللـه وتعويض ما فاته من الأهل والمال. قصة النبي أيوب تعرض مشكلة الشر في العالم، ولا يجـد لها حـلاّ إلاّ في الخضوع للـه سبحانه وتعالى. والكتاب من آيـات الأدب الشرقي وأغناها شاعـرية، وأعمقها معرفـة بالإنسان(4).

وعن سفر أيّوب قال كارليل ما يلي: «وأنا أقول عنه إنّه أعظم ما خُطّ بالقلم. فهو كتاب نبيل وكتاب الناس أجمعين. وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها – مشكلة مصير الإنسان وتصرّف الإنسان معه على هذه الأرض. وأن لا شيء في التوراة أو في غير التوراة يضارعه في قيمته الأدبية. وقامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هـذه الدنيا. لأن الجنّة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة. فقد كان من الواجب أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم. وإلاّ لم يكن لها ثواب على الإطلاق. وكثيراً ما يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأنّ أشـدّ الآلام قد اختُصّ بها خيار الناس»(5).

بـلاد عـوص وحوران

ينتسب الآراميون إلى آرام بن سام بن نوح، وكان لآرام من الولد (عـوص وحُـول وجاثر وماش وأدمت)، وقـد أقاموا في دمشق وأنحائها ولا سيّما سوريا المجوّفة. سكن عـوص بلاد اللجا في حوران، وهي التي ذكرها الكتاب أنها أرض أيّوب الصدّيق. وهي المسمّاة «أرجوب وتراخوتينس» وذكرت الآثار المصرية اسم شعب (عوصو) في حوران واللّجا. ويقال أنّ عوص هـذا بنى مدينـة دمشـق(6).

مقام النبي أيّـوب

يقع مقام النبي أيّوب(ع) على تلّة مشرفة فوق بلدة نيحا الشوف، في مكان رائع الجمال وغني بالمناظر الطبيعية وكثافة الأشجار الحرجيّة وبخاصة أشجار السنديان المعمّـرة. يعلـو عـن سطح البحر 1400 متر، وعن بلـدة نيحا 300 متر. يقوم البناء على قناطر حجرية عالية بنيت بالحجر الأبيض المنحوت. يتألّف من ساحة رئيسة مُحاطة بعشرين غرفة من جميع جهاتها، وفي أعلاها غرفة المقام، عالية السقف ومكسوة أرضها وجدرانها بالسجاد. يدخلها الزائر بعد خلع الحذاء في الخارج. والنبي أيّوب هو من الأنبياء المكرّمين لدى طائفة الموحدين الدروز، يزورون مقامه هـذا للتبرّك. ويُقال أنّ النبي أيوب، عندما ابتلاه اللـه بأمراضه وفقره تجربة وامتحاناً لصبره وإيمـانه، نقلته زوجته «رحمـه» إلى هـذا الموقع، ثم نزلت إلى بلدة نيحا تطلب خبزاً. ربما كان ذلك حقيقة لأنّ النبي أيوب عاش في أرض عوص المجاورة لبلاد حوران والجولان. وتبعد عن بلدة نيحا الشوف مسافة 12 ساعة سيراً على الأقدام(7).

ليس لدينا ما يشير إلى تاريخ بناء المقام فوق بلدة نيحا، والذي يزيد في غموض تاريخ بنائه، خلو الوصايا التي تعود إلى نحو مئتي سنة من ذكر المقام. ففي وصيّة الشيخ أسد بن زين الدين يقظان من قرية بعذران، المؤرخة سنة 1220هـ/ 1805م، فقـد أوصى بما يزيد على خمسين حسنة نقدية لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص، بحسب العادة التي كانت متبعة آنـذاك في تحرير الوصايا. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. ووصية الشيخ حسون الدبيسي من قرية مرستي المؤرخة سنة 1226هـ/ 1811م. فقد أوصى أيضاً بما يزيد على ثلاثين حسنة نقدية، لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. لكن الدكتور شاكر الخوري يُعتبر أول كاتب يشير إلى مقام النبي أيوب، والذي زار المقام في العام 1858 برفقـة سعيد بك جنبلاط. والدكتور شاكر كان طالبا يتابع دراسته في مدرسة المختارة التي أنشأها سعيد بـك. ويذكر الدكتور شاكر أنه في سنة 1858م، توجه مع البيك (سعيد بك جنبلاط) وأولاده وباقي حاشيته إلى نيحا ومكثوا مـدّة شهرين، وكان البيك يسكن الصواوين ويتوجه كل يوم صباحا مع الصيادين لصيد الحجال. وفي أحد الأيام أراد البيك أن يزور مقام النبي أيوب، فتوجه الدكتور شاكر وسعيد بك وأولاده وجميع أفراد الحاشية للزيارة، وبعد تناول طعام الغداء عادوا جميعهم إلى بلدة نيحا(8). وهـذا ما يشير إلى أن بناء المقام ربّـما قـد تم خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وللنبي أيوب(ع) مقام أيضا في بلدة قنوات في سوريا، محافظة السويداء. ويوجد أيضا مقام وضريح للنبي أيوب في بلدة صلالة من بلاد عُمـان، فـوق قمّـة جبل أتين العالي(9).

زيارة مقام النبي ايّوب السنويّة

مـن أجل إحياء ذكرى النبي أيوب «ع»، تتـم زيارة سنوية للمقام في يوم محدد من بداية شهر أيلول من كل عام، من قبل عدد غفيـر من الشيوخ الموحدين وبالتنسيق مع مقام مشيخة العقل. للصلاة والمذاكرة الدينية والتباحث بأمور عامة تتعلّق بشؤون الطائفة الدرزية. وكانت الزيارة تتـم عادة في المساء، ويطلق عليها «سهرة النبي أيّوب». لكن مع بداية الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، أصبحت الزيارة تتم في وضح النهار. ومنـذ سنوات عـدّة عمـل الشيخ محمّد أبو شقرا (1910- 1991)، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، على تكريس يوم الواحد والثلاثين من شهر آب من كل عام عيداً سنويّاً للنبي أيوب، حيث يُقام احتفال في مبنى المقام فوق بلدة نيحا، بحضور ممثل عن كل من رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي النواب والوزراء، ووزراء ونواب وسفراء وسياسيين وشخصيات مختلفة. وتُلقى الخطب بهـذه المناسبة تؤكّد على الرّمز الذي يجسّـده النبي أيوب وفضائله(10).

عندما تولى سماحة الشيخ نعيم حسن مسؤولية مشيخة العقل كان رئيس الجمهورية العماد اميل لحود مقاطعاً لقانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز وبالتالي حصل الشغور الرئاسي ونتيجة للظروف السياسية التي كانت سائدة توقفت تلك الاجتماعات واكتفى مشايخ الشوف الاعلى بإقامة سهرات دينية شهرية خلال فترتي الربيع والصيف.

أربعـاء أيّــوب

يوم الأربعاء الأخير من شهر نيسان من كل عام يطلق على هـذا اليوم «أربعاء أيّوب»، وفي اللغة العامّية «أربعة أيّوب». هـذه المناسبة هي طقس شعبي عربي للإستشفاء بمياه البحر. ومن العادات والتقاليد الشعبية والأعياد المتصلة بفصل الربيع. كأعياد الفصح والنيروز وشم النسيم. والتي يُحتَفل بها في بداية شهر نيسان من كل سنة مع قـدوم فصل الربيع. وتردد العامّة «في نيسان بتصير الدني عروس وبيخف الغطا والملبوس». ويحتفل عدد كبير من المسلمين والمسيحيين في هذا اليوم في لبنان وسوريا ومصر. وذلك بالنزول إلى البحر والاغتسال بمائه. وفي الماثورات الشعبية أنّ النبي أيوب عثـر في بلواه على عشـبة يطلقون عليها «حشيشة أيّوب»، وهي عشبة العرعر المعروفة بفوائدها الطبية. فقد بلّها بالماء زمنا ثم استحمّ بنقيعها، فشُفي من الأمراض السبعة التي ابتُلي بها.

في هـذه المناسبة «أربعاء أيّوب» أو «أربعة أيوب»، كما يسمّونها. يحيي البيارتة «أهالي مدينة بيروت»، هـذا اليوم كتجسيد يؤكـد التصاقهم بتراث يقـدّم نموذجا عن قيم ترتكز على المحبّة والتلاقي في سبيل الخيـر. فقد اعتاد البيارتة الاحتفال بتلك الـذكرى على شاطئ البحر، في محلّـة تلال وشاطئ الرملة البيضاء وصخور الروشة وميناء الداليه في محلة شوران. تكريما للنبي أيوب لاحتماله وصبره على المصاعب والأمراض التي ابتُلي بها. كانت التحضيرات تبدأ قبل أسبوعين، فيقوم الشباب بتنظيف رمال الشاطئ ونصب الخيام والعرازيل وتوزيعها وفق المناطق والعائلات. وفي اليوم المحـدد تنطلق عند الفجر مواكب النساء والأولاد من كل الأحياء، وعند وصولهم تُمَـد الحُصُر والبُسط وتُصَف الكراسي والطبليات الخشبية، ويُحضرون معهم مأكولاتهم المتنوعة، وفي طليعتها حلوى «المفتّقـة»، وهي حلوى بيروتية تصنع من الأرز الناعم والسكر وطحينة السمسم ومسحوق الكُركم «العقدة الصفراء» ويحتاج طهيها إلى صبر وتقنيّـة. ويتساعدون في تحريكها، وتُهدى أطباق منها إلى الأهل والأقارب والجيران. ولا تعتبر الطبخة ناجحة إلا إذا بان «السـيرج» زيت السمسم على سطحها. وذلك للمشاركة وفقا لعادات وتقاليد توارثوها عن السلف، ويسعَون لنقلها إلى أبنائهم وأحفادهم، كبادرة تعيـد إلى الأذهان تقليـداً عايشـه الكبار ويحاولون نقله إلى الأجيال الشابّـة. ويتخـلّل المناسبة معـرض تراثي للأشغال الحرفية واليدويــة. حيث يقـدّم البعض أغاني ورقصات شعبية فولكلورية، ويطيّر الفتيان والصبية في الجـو طائرات ورقية تُصنع من الورق الملوّن وترتفع عالية في الفضاء وتُحرّك من الأرض بواسطة بكرة من الخيطان. ويمارس الشبان لعبة شـد الحبال. وينتشر بائعو الكعك واللوز والترمس وغزل البنات والتفاح المغلف بالمعلل، والنمورة والصفوف والسمسمية وغزل البنات. وعندما يحين موعد الاغتسال، تتجمع العائلات ويضرب الشبان طوقاً بشريّاً لمنع مرور الغرباء، وتنزل بعض النساء والفتيات بفساتينهن إلى الماء وتغطس كل واحدة سبع غطسات للتبارك، أو وفاء لنذر أو رجاءً أو طلباً للشفاء اقتداء بما فعله النبي أيوب. والبعض يغسل عيونه بماء البحر. ومنهم من يجمع زهوراً (حشيشة أيوب)، وهي حشيشة العرعر المعروفة، يبلّها في الماء ليلة الأربعاء المعهودة تحت الندى، وفي صباح يوم الأربعاء تُغسل وجوه الأولاد بمائها، وتُرش بهذا الماء لفك عقـدة إبليس من بين العيون. والبعض يمارس عادات وتقاليد، مثل: (أوّل قصّة شعر للمولود تتم في مياه البحر لنوال البركة – شرب سبع غبّات من ماء البحر أو الاغتسال بسبع موجات متتابعة تزيل مفعول السحر والربط – وتلجأ العاقر إلى البحر بأن تملأ فمها زيتا وتدخل البحر ثم تلفظ الزيت في مائه. ثـمّ تبدأ جلسات تدخين النرجيلة ولعب الورق والدومينو. وتُقَدَّم أقداح الشاي وفناجين القهوة والفواكه والمرطبات(11).

وفي بعض القرى اللبنانية، يطلقون على يوم (أربعاء أيوب) تسمية «أربعاء البراقطة» أو «أربعة البراقطة»، حيث تمشّط المرأة شعرها في الظلام فيكسبه لمعاناً وبريقاً. ويستعملون الاكتحال اعتقادا منهم أنّ وضع الكحل على العيون في هذا اليوم يقوّي النظر ويزيـد من صفاء العين وبريقها. ويستعمل بعض الرجال والنساء الكحل أيضاً على العيون، اعتقاداً أنّ ذلك يمنعهم من مشاهدة الأفاعي أثناء العمل في الحقول في فصل الصيف، على أن يتـم الاكتحال في الصباح وقبل شروق الشمس(12).

الكنيسة المارونيّة وأربعاء أيوب

في يوم أربعاء أيوب، تتأمّل الكنيسة المارونية «بأيّـوب» الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. نسمعه يقول: «عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود، الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً». في هذا اليوم تقيم الكنيسة رتبة القنديل، وتبارك الزيت وتمسح بـه جباه المرضى والمؤمنين. هـذه الرتبة في الأساس كانت سرّ مسحة المرض. يُمسح المؤمنون بالزيت الذي يرمز إلى الشفاء. والمسح بالزيت هو علامة حبّ الربّ للمتألّم والمعذَّب والخاطئ. نصلّي لنعرف كيف نسكب من المسيح النور، أنواراً في قلوب الحزانى وفي جلجلة كل مريض(13).
وذكر البطريرك الماروني في تأمّل قداس أربعاء أيوب ورتبة القنديل، أنّ الكنيسة تذكر في هـذا اليوم من أسبوع الآلام أيوب البار الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. فكل عطية صالحة هي من جودة اللـه. أمّا الألم فله معناه التكفيري عن الخطيئة الموجودة في العالم، في الفرد وفي الجماعة(14).

مقـامات ومزارات عـديدة

ليس مقام النبي أيّوب وحيداً على المرتفعات الجنوبية من بـلاد الشام. بل هناك مقامات ومزارات دينيّـة عـديدة، منها:
– مقام النبي صافي فوق بلدة جباع الحلاوي، على جبل صافي.
– مقام سجـد قرب بلـدة سجـد في منطقة جبل الريحان. وهذا المقام عليه قبّة، يـؤمه اليهود للزيارة.
– مقام النبي يعقوب في بلدة روم قضاء جزين، وهو المسمّى «مشهـد محيبيـب»، ويقال أنّ فيه قبـر بنيامين بن يعقوب.
– مقام النبي عازر قرب بلدة عازور في قضاء جزين.
– مشهد هارون في بلدة الخرطوم الواقعة في بلاد الشومر في ساحل صيدا، ينسب إلى هارون أخي موسى، كان يزوره اليهود.
– مقام النبي ميشا قرب قرية بنواتي في قضاء جزين.
– مقام النبي حنانيا فوق قرية بحنّين أيضاً(15).


المراجع:

1- الكتاب المقدس- العهد القديم- سفر أيوب -الإصحاح الأول ، ص 543
2- الكتاب المقدس- العهد القديم – سفر أيوب_ الإصحاح الثاني والأربعون
3- تأملات في سيرة النبي أيوب (ع)، المصلحة الدينية والتربوية في المجلس المذهبي، بيروت، 2012
4- المُنجـد في الأعلام، طبعة ثامنة ص 103
5- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ط 3 – 1965 ص391.
6- عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ البقاع وسوريا المجوفة، دار الفارابين بيروت، ج1 ص 233
7- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ الأرض والسكان، طبع المجلس البلدي في نيحا ط 2 سنة 2018 ص 189
8- شاكر الخوري، مجمع المسرّات، تقديم الياس القطار، دار لحد خاطر، ط 2 – 1985 ص 30
9- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ، م س ، ص 192
10- صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، 1994ص 244
11- عبد اللطيف فاخوري، مقال في مجلة الأفكار، العدد 407 تاريخ 7/5/1990 – زياد سامي عيتاني، مقال في جريدة الأنباء، 24/4/2019
12- أنيس فريحة، القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال، دار المكتبة الأهلية، ص 274
13- موقع القديسة رفقا على الإنترنت
14- جريدة النهار بتاريخ 8/4/2020
15- رياض غنام، م،س، ص 193

جسر القاضي

جسر القاضي أقدم الجسور اللّبنانية وأكثرها شهرةً.
القاضي عماد الدين التّنوخي أوّل من بناه والأمير زين الدين التنوخي أعاد ترميمه.
المتصرف واصا باشا شيّد الجسر القديم والوزير وليد جنبلاط بنى الجسر الجديد.
أهميته التاريخية والاسترتيجية، أنّه نقطة وصل بين الساحل والجبل وملتقى لأقضية الشوف وعاليه وبعبدا.
أهميته السياحية أنّه محطة جذب سياحي فريد من نوعه في لبنان
أهميته الاجتماعية أنّه عنوان للتعايش الدرزي – المسيحي
تحوّل الجسر إلى قرية صغيرة في العام 1966 بقانون صادر عن مجلس النواب يحمل الرقم 25 على 66
كادت حكومة فيشي أن تفجّره إبان الحرب العالمية الثانية سنة 1943 ولكن الهدنة أنقذته.

جسر القاضي هو بين الجسور اللّبنانية المهمة والتاريخية الواقعة فوق مجاري الأنهر، وفي الأودية السحيقة – وما أكثرها في لبنان نظراً لطبيعة تكوينه الجغرافي. وفوق ذلك، هو الجسر الوحيد الذي يحمل اسم الأمير الذي شيده في بداية القرن الرابع عشر الميلادي.

شكل جسر القاضي على مدى العصور والأزمنة نقطة وصل بين منطقتي الشوف وعاليه، أو بما كان مُتعارف عليه في ذلك الوقت منطقتي المناصف والشحار الغربي، لوقوعه في نقطة تلاقي الأنهر التي تنساب إليه من نبعَي الصفا والغابون المشهورَين ومن الينابيع الأخرى التي تُشكل بعد أن تلتقي فيه نهرَ الدامور.

يكتسب جسر القاضي أهميتين:

الأولى جماليّة، لوجوده في أجمل بقعة جغرافية في محافظة جبل لبنان الجنوبي، لتكتمل جماليته الطبيعية، وسحرها الآسر، عند مُلتقى النهرين الشهير أسفل الوادي القريب من الدامور، مشكلاً محميّة طبيعية فريدة من نوعها.

والثانية، تاريخية وجغرافية معاً، إذ إنّه يربط الساحل والشحار الغربي بالجبل والبقاع ووادي التيم منذ زمن الإمارة التنوخية والمعنية ومن ثم الشهابية وصولاً إلى المتصرفية، إلى ما بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920. فالقوافل كانت تأتي إليه قديماً محمّلة بالغلال من وادي التيم عبر سهل البقاع مروراً بثغرة مرستي إلى ما كان يُعرف بطريق البلاد المتدرّجة من المختارة وسهل بقعاتا وبيت الدين، ودير القمر وصولاً إلى جسر القاضي حيث كانت تقوم مطاحن مائية وخانات للاستراحة؛ ومن هناك عَبر قبر شمون ودرَج عيناب فعين عنوب، فإلى بعبدا مركز المتصرفية وبيروت. ولا تزال معالم تلك الطريق ماثلة للعيان وخاصة في مناطق عين السمقانية، وادي بيت الدين، المنشية في دير القمر، ودرج عيناب وادي شحرور بعبدا.

يتفرع من جسر القاضي عدة طرق رئيسة هي: جسر القاضي، دير كوشة، الكنَيْسة، عمِّيق كفر قطرة، دير القمر. كذلك، جسر القاضي، بشتفين، كفرفاقود، دير بابا، بيدر الرمل، كفرحيم، بعقلين، وكفرحيم دير القمر. وإلى ناحية الشمال الشرقي، جسر القاضي، سلفايا، عين تراز، رشميّا، الغابون، عاليه.
جسر القاضي، رمحالا، مجدليا، بيصور.
جسر القاضي، قبر شمون، عيناب، شملان، سوق الغرب عاليه.
جسر القاضي، قبر شمون، كفرمتى، عبيه.
جسر القاضي، قبر شمون، البساتين، عرمون، الشويفات، خلدة.
جسر القاضي، عين كسور، عبيه، بعورته، الدامور.

تاريخ بناء الجسر

باني جسر القاضي هو الأمير عماد الدين حسن بن القاضي جمال الدين أبي الجيش البيصوري، بن القاضي عز الدين أبي العز أبي اليقضان خطّاب من قرية كفر زبد الواقعة بين البنيّه وقبر شمون. فلما قلَ الناس فيها انتقلوا إلى بيصور وعمّروا فيها عمايرهم المعروفة. قال ابن سْباط: كان عماد الدين حسن التنوخي جليل القدر فاق سلفه بالسيادة، ولم ينشأ بينهم مثله، ولم يسلك أحد منهم طريقه، مع أنّ سلفه كانوا أجواداً أمجاداً. جنح إلى عمل الخير، وكان كثير الصّدقة، وكان يفصّل كل سنة قماشاً ويوزّعه على فقهاء بلاده وأعيانها، ممّا يفوق على ألف ذراع، واثنتي عشرة غرارة قمح خارجاً عن الخبز. كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. وافر الحُرمة صغير النَّفس ذا كرم ومروءة وهو الذي عمّر الجسر بين الغرب والشوف الذي بات يعرف باسم «جسر القاضي». والسبب المباشر لبنائه الجسر المذكور، كما يُروى، هو أنَّ بعض النسوة كن يجتزن النهر في تلك المحلّة فرفعن أثوابهن قليلاَ كي لا تتبلل بالماء فتوجهت أنظار العمال الذين يعملون عنده نحوهن فأمر القاضي بالتوقّف عن بناء المطاحن وأصر على بناء الجسر المذكور أوَّلاً. وكانت وفاته رحمه الله سنة ثماني وستون وسبعماية للهجرة، ثم أعاد ترميمه القاضي جمال الدين يوسف بن القاضي زين الدين عبد الوهاب؛ وكان ربّاه جدّه الأميرجمال الدين عبد الله بن سليمان خال والدته، فأصلح الجسر الذي بناه جد أبيه القاضي عماد الدين حسن بعدما كانت المياه قد اقتلعت مدماكين من ظهره وخشي عليه، فأصلحه من ماله الخاص للأجر، وهو شقيق الست نفيسة. ويذكر ابن سباط أنه في سنة 909 للهجرة جاء سيل عظيم ومطر غزير عمّ الأقطار واستمر نحو 27 يوماً وذكر أنّ المياه ارتفعت فوق الجسر المنسوب إلى القاضي ما ينوف على القامة.

وفي حقيقة الأمر وبحسب ما جاء في كتاب «الأُسر في جبل لبنان» للمحامي سليمان تقي الدين ومشاركة الباحث نائل أبو شقرا: «أنه وبعد مئتين وخمس سنوات على إنشائه أي في العام 963هجري الموافق 1556 ميلادي قدّر فيه السميع العليم والمولى الكريم والرب الغفور الرحيم أنْ أجرى سحاباً عظيماً وسيلاً جزيلاً، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا خبّر المخبّرون على سيل جارف مثله ولا ما يشبهه في كل ما فعل، حتى أن الأنهار الشتوية التي هي عبارة عن مجاري وسواقي وجداول غمرتها جميعها مياه السيول الجارفة؛ منها نهر الحوايب المتصل بنهر الصفا فأتى على أملاك مثمرة وغيرها ما لا أحد يحصيه، وأخذ طاحون الشيخ زين الدين القاضي بن الشيخ بدر الدين القاضي العنداري، وبعد مسيره إلى نهر الصفا جرف طاحون الشيخ بدر الدين العنداري التنوخي من بيصور، وكان يسكن عين دارا، والطاحون التي فوقا بيت الواحد والبيت الآخر حتى كادت الطاحون تخرب. كما جرف أيضاً طاحون الشيخ أمين الدين، وطاحون حرفيش جرفها من أساسها حتى وصلت إلى فوق الجسر الذي كان على بعد مسافة أمامها سالمة كما هي، ولدى ارتطامها انفلشت وبقيت كل حجرة لوحدها. أما طاحون الشيخ بدر الدين التحتا فامتلأت بالتراب والحصى وكادت تخرب واحدة أخرى في أرض القسيس المسيحي المغروسة توت وعريش وجوز وشجر جوي وبري. ولم وصل تحت البصيّه المعروف اليوم بالبصَّيْل قور تحت الشقيف الأزلي حتى تفسّخ وتفسخت معه الحارات التي على جنب الشقيف حتى أخليت من ساكنيها ومن هناك إلى ملتقى الأنهر في جسر القاضي وأخذ من البساتين والأشجار والحجارة الثقيلة والعظيمة ما لا أحد يقدر عليه. وأما نهر شمليخ فقد أخذ أشجاراً لا تحصى، حتى قيل أن بعضهم أخذ من التوت ماية رطل، وبعضهم أكثر من ذلك، وبعضهم أقل، وجرف الجسر القائم على درب شمليخ، وأحدث النهر فوق الجسر زلزلة في أرض جلاب، ومرج وشُقفان شيلة قوس عرض وطول، حتى تقطعت الشقفان العظام كما تقطع بالبولاد، وأخذ هذا النهر من الحجارة الكبيرة شيء كثير من بينها صخرة لو دار حولها مئة رجل لم يديروها إلّا بالحيلة أخذها من أرض شمليخ الواقعة تحت العزّونية. وأما الحجارة العظيمة التي لا سبيل لقلعها من الأرض، بل إلى ديرانها، قلعها ودارها رأساً على عقب. ولدى مروره بأرض العزونية وأرض شارون وأرض المشرفة اتصل بنهر بتاريح فخرّب بأرض هذه القرايا خراباً لا يُحصى ونزل بعض جماعة من شارون يتفرجون على الطوفان فوقفوا على الطريق عند عين المسن، وأخذ رجل منهم تحت العين وبدأ يغرف بيده من ماء النهر، ومثل ذلك الموضع كثيراً، وأما الطواحين فتعطلت جميعها. وأما نهر بتاريح الذي أصله من عين صوفر، ما كان أحد من المخلوقين يخطر بباله أن يفعل كما فعل هذه المرة، لأنه عبارة عن ساقية لا عبرة لها، وكان على هذا النهر جسر ما أحد يعلم مدته فجرفه وجرف طاحون مجدل بعنا، وكان رجل يحدل على سطح الطاحون ساعة الطوفان ولما ارتطمت المياه بالطاحون قفز عن سطحها وتاه ولما التفت وراءه كانت المياه اقتلعت الطاحون لدرجة أنّ بعضهم شكك بوجودها في هذا المكان. ولدى مروره بأرض مجدل بعنا وأرض بدغان والمشرفة فعل ما فعله نهر شمليخ بل أكثر، لأن على جانبيه أملاك كثيرة ولما التقيا في معصريتي شكلا نهراً واحداً وبقيا عبرة للمعتبرين وفرجة للمتفرجين ورزيَّة للمتملِّكين، حتى أن بعضهم لم يبقَ له شيء يزيد عن درهمين بزر قز وفعل هذان النهران ما لا فعلاه في مبداهم إلى أن التقيا بنهر الصفا المذكور وبقيا كالبحر الطامي، وأخذ بساتين المغيثا، وقيل أنهم لما اصطدموا ببعضهم البعض انحسرت المياه حتى وصلت إلى حائط طاحون عمِّيق فخربت معظم الأراضي من حوله، وكان على هذا النهر جسر يدعى جسر نزهة من النزهات وطرفة من الطّرفات وفرحة من الفرحات، وقيل إن الذي عمَّره عزم عليه أكثر من مئتي سلطاني فجرفه أيضاً، وقيل أنّ الذي هدمه هو النهر الكبير فرماه إلى فوق لأن بعض الناس كان يراه وفعل هذا النهر ما فعلته الأنهر التي تقدم ذكرها. وكان عند هذا النهر الكبير شجرة خروب كبيرة غمرتها المياه، ما بقي منها فوق بسط الغربال وكان بقربها طا حون كبيرة فجرفها ووصلت ماء هذا النهر إلى تحت جسر القاضي فوصل أرتفاع المياه عنده إلى ستة وثمانين شبراً، أربعون شبراً تحت الجسر وستة أربعين فوقه، وأمّا عمق المياه فيزيد عن ألفي شبر. وأخذت المياه من تحت هذا الجسركل المطاحن الواقعة على جانبي النهر ومنها طاحونة الغوارسنة التي يعود تاريخها الى أكثر من الف ومئتي سنة وقيل إن المياه جرفت إلى مكانها صخرة طولها بقياس ثلاث بيوت وعرضها أربعين شبراً. وقيل إن برّاكها وجدوه في الدامور على شاطىء البحر سليما معافى من أية خدوج كما وجدوا هناك بعض حجارة الطواحين سالمات ووُجدت في الدامور من الأشجار والأخشاب المقطعة بما يوازي حمل خمسة آلاف جمل ولا يستطيع الجمل أن يحمل منها أكثر من عود واحد نظراً لضخامتها وطولها. وما حصل في الدامور حصل شبيهاً له في بيروت بسبب فيضانات أنهار المتن وبلاد الغرب حيث ضاق ميناء بيروت بالأشجار والتقوضات مع ما تفرق على شاطىء البحر يميناً وشمالاً وأمّا نهر الباروك فقد فعل مثل هذه الأنهر بل أعظم حتى إنّه ما ترك غير اليسير من الطواحين والجسور عمّا أخذ من الأشجار المعظمة الكثيرة حتى قيل إنه ملأ مرج بسري أتربة وحجارة».

أهمية جسر القاضي والدافع الأساس لبنائه

يربط الأستاذ عدنان أمين الدبيسي مختار جسر القاضي مؤلف كتاب «جسر القاضي تاريخ ورجال»، تاريخ الجسر بتاريخ وجود المطاحن المائية في تلك المنطقة وهي قديمة العهد. فالجسر القديم بُني في الممر الوحيد الذي كان يعبر عليه سكان الشحّار ومنطقة الغرب والساحل إلى منطقة المناصف ومنها إلى الشوف والجُرد والبقاع. ولقد بنى هذا الجسر الأمير عماد الدين حسن التنوخي الملقب بالقاضي المتوفي سنة 786 هجرية الموافق سنة 1357 ميلادية، منذ مطلع القرن الرابع عشر الميلادي. وعُرف هذا الجسر باسم القاضي وسمِّيت القرية باسمه. لم يكن لقرية جسر القاضي خراج عقاري خاص بها، فأراضيها كانت تابعة عقاريًّا لبلدة البنيَّه من الجهة الغربية للنهر، وبلدة دير كوشة من الجهة الشرقية. كما أنّه لم يكن لها سجل نفوس خاص بها. فسكانها كانوا مسجّلين في القرى التي قدموا منها حتى كانت سنة 1966 حين تقدم آل الدبيسي وبقية العائلات المقيمة في الجسر بطلب إلى الحكومة اللبنانية لإنشاء قرية جديدة باسم جسر القاضي، حيث صدر قانون بذلك يحمل الرقم 66 على 25 بتاريخ 31 أيار 1966.

اشتُهرت قرية جسر القاضي بصناعة الفخار التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى. هذه الصناعة التي يعود تاريخها لأيام الفينيقيين. إلى ذلك فقد عُرفت القرية بإنشاء معمل لصناعة الحرير حيث كان يعمل فيه عدد كبير من أبناء المنطقة. أمّا بشأن الزراعة ونظراً لموقعها الجغرافي على ضفتي النهر فقد نشطت زراعة الفواكه على اختلاف أنواعها، وهي التي تزينها غابات من الأشجار الحرجية، ومن الصنوبر وغيرها. أمّا طريق جسر القاضي فقد شُقَّت أيام العثمانيين في عهد المتصرف واصا باشا لتكون صلة وصل بين بعبدا مركز المتصرفية وبيت الدين وبعقلين مركز القائمقامية. عُرفت هذه الطريق بتعرجاتها الخطيرة التي شقّت بالأصل لتسهيل سير العربات التي كانت تجرها الخيول صعوداً باتجاه قبرشمون غرباً ودير القمر شرقاً. وأقيمت في جسر القاضي خانات مؤلفة من عدة أبنية عقد لاستراحة الخيول وغُرف لاستراحة المارّة. أمّا سكان القرية فهم من الدروز والمسيحيين، كانوا ولا يزالون يحافظون على التقاليد والعادات التي تجمع فيما بينهم كسائر أبناء الجبل. عدد سكان جسر القاضي اليوم لايتجاوز 120 نسمة معظمهم مقيم خارج البلدة؛ أمّا عائلة الشيخ الجليل أبو أمين سليم الدبيسي الذي توفي عن عمر 106 سنوات، كان رحمه الله من وجهاء المنطقة، فهو في الأصل من مواليد المختارة ومن السكان الأوائل في جسر القاضي منذ أكثر من مئة سنة، وهو من الرجال القلائل في طائفة الموحدين الدروز الذي يجمع في شخصه الدين والأمور الزمنية كما يؤكد عارفوه. كان حلاّل مشاكل من الطراز الرفيع وكان منزله في جسر القاضي محطة لكل الزوار من الشرق والغرب.

الموقع والتسمية

تقع قرية جسر القاضي على مجرى نهر الصفا المعروف بنهر الدامور الذي يفصل بين قضائي عاليه والشوف، القسم الأكبر من القرية يقع في الجهة الغربية التابعة لقضاء عاليه يحيط بها من جهة الشرق قرى المناصف، ومن الغرب قرى الشحَّار الغربي، ومن الشمال سلفايا وعين تراز، ومن الجنوب مجرى النهرالذي يفصل بين المناصف والشحار باتجاه الدامور. ترتفع عن سطح البحر 300 م.

جسر القاضي قرية هادئة في واد فسيح حفرته الطبيعة عبر ملايين السنين فاتخذ النهر منه مجرى ذوَّب الصخور وصقلها مرايا فإذا وقفت على الجسر ليلاً وتأملت النجوم في السماء المتمازجة بين نور الكهرباء في القرى وعلى التلال المجاورة، خلت نفسك تعانق السماء. أما النهر الذي ينبعث منه خرير ناعم يشكل مع حفيف أوراق الأشجار على ضفتيه والمياه المنسابة بينهما فيشكّل أروع سمفونية طبيعية. في هذا الوادي البديع يتجلَّى سحر الطبيعة وتروق الجلسة على ضفافه كصفاء مائه، وقد غمرته أحلام التاريخ، حتى كأنك تقرأ على صفحاته وحواشيه تقلب الأزمان ومسار الأيام ما يدل على أن الوادي من عمر الزمان.

وكثيراً ما كان هذا الجسر عرضة سنوياً لأن تغمره المياه أبتداء من منتصف فصل الخريف ولغاية الشهر الأول من فصل الربيع نظراً لقلة ارتفاعه وغزارة المياه الهاطلة ما يؤدي إلى إلحاق الضرر به. وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي قام الأمير زين الدين التنوخي بترميمه بعد أن خربت قسماً منه مياه النهر. ما يعني أن تاريخ بناء الجسر مرتبط بوجود المطاحن المائية وهي قديمة العهد ولم يُعرف بالضبط تاريخ إنشائها لأنّ الجسر الذي بُني بالقرب منها كان يعبر عليه سكان الشحار الغربي والساحل إلى منطقة المناصف والشوف والبقاع وكان الجسر لأكثر من ستين سنة خلت تقريباَ مطروقاً من أهالي المنطقة لطحن الحبوب، لا سيما القمح، والطاحونة الوحيدة التي استمرت لفترة قريبة، هي طاحونة القناطر الشهيرة التي كانت تعمل على خمسة أحجار للطحن دفعة واحدة ولكن بعد إنشاء المطاحن التي تعمل على الكهرباء تراجع زمن المطاحن على الماء فأصبح غابراً.

بناء الجسور

شهدت منطقة جسر القاضي بناء ثلاثة جسور
– الجسر الأول: هو الذي بناه القاضي عماد الدين التنوخي سنة 786 هجرية الموافق سنة 1357 ميلادية. وقد بنى هذا الجسر في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وعُرِف باسم جسر القاضي وهو بطول 25 متراً وعرض مترين ونصف المتر، وارتفاع أربعة أمتار وقد بُني من الحجارة المغموسة بالزَّيت والكلس.

– الجسر الثاني: بُني سنة 1885 ميلاديّة في عهد المتصرف واصا باشا، ويقع شمالي الجسر الأول وكان أوسع منه وأكثر طولاً وارتفاعاَ. كان ذلك بعد أن شُقَّت الطريق بين بعبدا وبيت الدين. يقوم الجسر على ثلاث قناطر واحدة كبيرة في الوسط واثنتان على الجانبين أصغر من الأولى. يبلغ ارتفاع القنطرة الكبيرة ثمانية أمتار وعرض الجسر خمسة أمتار وطوله 25 متراً وقد بُني من الحجر المقصوب. وقد أقيم بالقرب منه عدد من الخانات لاستراحة العابرين بين المنطقتين واستراحة خيولهم ودوابهم. وما زالت بقايا هذه الخانات قائمة.
وقال فيه إبراهيم بك الأسود، تكريماً لـ واصا باشا وإشادة بعمله:

وجعلت ذا الجسرَ الجديدَ يقول في
تاريخه إني بفضلك أشهد
وقال فيه شعراء الزجل الأبيات التالية:
يا جسر من بين الجسور بتنعرَف
بفضل قاضي العُمرك الدهر اعترَف
من أجل حُرْمي النهر بلّل ثوبها
عمَّرو حتى يحافظ عا لشرف
شحرور الوادي
ياجسر كم لكْ عَ الجسورَة سيطرة
نشَّقتني نسمة هواك معطّرة
لو كان بالإمكان يوم العمروك
لوضعت قلبي بدل قفل القنطرة
علي الحاج
ياجسر قلبي للتلاقي ناطرك
دوّبت جسمي عند كلمة بخاطرك
مهما على الشلال بتقب الصفا
بمر حاني الراس تحت قْناطرك
وديع الشرتوني
جسر القاضي وآثارو
من عُمْر بعلبك صارو
حَرْدَب تيخلِّي الأجيال
تُمرق من فوق حجارو
خليل روكز
خمسة من العهد الماضي
أمضى من السيف الماضي
بعلبك وجعيتا والأرز
وصنِّين وجسر القاضي
زين شعيب

– الجسر الثالث: بُني هذا الجسر إبّان الحرب الأهلية عام 1984، قام بتشييده معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط حيث كان يتولّى وزارة الأشغال العامة في حينه، شمال الجسر الثاني؛ وتم بناؤه بتصميم حديث: واسعاً ومتيناً يتحمل مرور الآليات الثقيلة وهو بطول 48 متراً وعرض 12 متر وارتفاعه حوالي عشرة أمتار.

المطاحن

في جسر القاضي ثلاث مطاحن مائية:

  • مطحنة الجسر: وهي من أقدم المطاحن، تعود لأيام التنوخيين، وقد بُنيت في أواخر القرن الرابع عشر للميلاد، أي بعد بناء الجسر ببضع سنين لأنها تحمل اسمه وهي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، ويظهر فيها حجران لطحن الحبوب، ومطروف لعصر الزيتون.
  • مطحنة القناطر: وهي أكبر المطاحن المائية في جسر القاضي، يوجد فيها خمسة أحجار للطحن، أربعة منها للطحن ومطروف واحد لعصر الزيتون. وقد جُرَّت المياه إلى هذه المطحنة من النهر على مسافة كيلو متر، تتميّز مطحنة القناطر بارتفاع مصبات مياهها وهي تقع في الضفة الشرقية للنهر لناحية الشوف في ملك آل حمدان، ويعود بناؤها إلى أواسط الحكم العثماني. وقد توقفت عن العمل بحدود سنة 1950 بعد أن خف الإقبال عليها بسبب انتشار المطاحن التي تعمل على الكهرباء.
  • المطحنة الجديدة: وتقع شمال شرق مطحنة القناطر، واسمها يدل على أن بناءها حديث وليست قديمة العهد.
مصانع الفخار

مصانع الفخار في المنطقة قديمة العهد ويمكن أن تكون منتشرة منذ أيام الفينيقيين حيث يستدلُّ من ذلك تسمية قرية دير وكوشة. فكلمة كوشة تعني (ياتون الفخار). أمّا في جسر القاضي فكان يوجد خمسة مصانع فخّار، بقيت تعمل حتى اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 تعود ملكيتها إلى كل من الشيخ أمين الدبيسي وكامل أندراوس وأمين القادر، ولم يبق في جسر القاضي بعد انتهاء الحرب الأهلية إلّا واحدة، وهي فاخورة الشيخ أمين الدبيسي التي أُنشئت في العام 1924 وكانت في البداية تنتج الفخار التقليدي، أي القدور والصحون على أنواعها، بالإضافة الى أحواض الزهور ومقالي البيض وغيرها وقد راجت هذه الصناعة في بداية الحرب العالمية الثانية وكانت تصدر إلى سورية وفلسطين والأردن.

في العام 1962 عَرفت هذه الصناعة نقلة نوعية لافتة لجهة إدخال الألوان إليها وتحسين الأشكال وصناعة أواني الطبخ على أنواعها وبشكل مُتقَن، الأمر الذي اجتذب الزوار والسواح على اختلاف مشاربهم، وخصوصاً الأجانب المقيمين في لبنان على مدار السنة، حيث يشاهدون بأم العين كيف تتم صناعة الفخار على الدولاب وباليد (الصناعة اليدوية) وليس بواسطة القوالب.

وبالإضافة إلى السيّاح والأجانب كانت طبقة من اللبنانيين تأتي لشراء هذه الأواني إلى بيوتهم في الجبل أو للشاليهات على البحر. وقد استمر الإقبال على شراء هذه الأواني إلى ما بعد الحرب الأهلية عام 1975 إلى أن توقفت نهائياً بسبب الاجتياح الإسرائيلي والحصار الذي كان مفروضاً على الجبل.

في تسعينيّات القرن الماضي وبعد توقف الحرب الأهلية وحفاظاً على التراث أعيد تشغيل فاخورة الدبيسي ولو بشكل جزئي ومحدود في ظل أوضاع ليست مستقرة في غالب الأحيان.

طريقة صناعة الفخار

بداية يُستخرج الطين من التربة الدلغانية الموجودة داخل طبقات الأرض، ويوضع في بركة خاصة حيث تُضاف إليها المياه. يقوم العمال بتحريكها بواسطة مجرفة خاصة لتصبح لزجة كـ اللبن، بعدها تُنقل الى بركة أخرى بواسطة قناة صغيرة، وتترك لفترة إلى حين ركود الطين في أسفل البركة، ثم يتم سحب الماء منه. وأخيراً يُنقل الطين إلى الفاخورة حيث يتم دمجه بالرمل وعجنه جيداً، وبعدها يُقطّع كُتلاً بحسب الحجم المطلوب. يضع الفاخوري الكتل على دولاب يدعى «سِندان» ليصنع منها الأشكال المناسبة. كان « السندان» قديماً يدار بواسطة الأرجل، ثم أصبح يُدار بواسطة «زند» خاص من قبل الفاخوري، ومع تطور الأيام أصبح يدار بمحرّك كهربائي.

بعد الانتهاء من صنع الأواني على اختلاف أشكالها، توضع على ألواح خشبية مستطيلة مُعدّة لهذه الغاية حتى تجف، ثم تُطلى بالدهان وتوضع في فرن خاص يسمى « ياتون» يُصار بعدها لشي الفخار بواسطة الحطب أو المازوت بحرارة إلى 800 درجة مئوية، وبعد ثلاثة أيام يتم استخراج الفخار منه ويصبح جاهزاً للبيع.

طريق جسر القاضي

شُقَّت الطريق إلى جسر القاضي منذ عهد المتصرفية، وبالتحديد في أيام المتصرف واصا باشا لتكون صلة وصل بين بعبدا ومركز المصرفية شتاء وبيت الدين المركز الصيفي. في البداية كانت الطريق بين بعبدا وبيت الدين مخصصة للمشاة والدواب والخيول ثم تحولت في عهد المتصرفية إلى طريق للعربات. وكانت تتميز بكثرة تعرّجاتها ومنعطفاتها الممتدة من قبر شمون الى جسر القاضي، بما يزيد عن 32 كوع وذلك لتسهيل سير العربات عليها التي كانت تُجَر بواسطة الخيول تحاشياً قدر الإمكان من الصعود الحاد. ولم تختلف هذه الطريق حتى الآن صعوداً باتجاه قرى المناصف وصولاً إلى دير القمر. وبفضل وجود الخانات في جسر القاضي المُخصّصة لاستراحة الخيول الآتية من الغرب والساحل قبل صعودها إلى دير القمر وبيت الدين، كانت تجري عملية تبديل الخيول على الجسر لتتمكن من الاندفاع صعوداً، كما أقيم في المكان عدد من الحوانيت الصغيرة والمطاعم البدائية لسد حاجات العابرين، وخصوصاً أنّ حركة المرور في تلك المرحلة شهدت نشاطاً ملحوظاً، باعتبار أنّ الجسر كان المعبر الوحيد بين عاليه وبعبدا إلى الشوف باستثناء معبر عين زحلتا.

بعد الاستقلال وبحكم العلاقة التي كانت تربط الشيخ أبو أمين سليم الدبيسي بالرئيس بشارة الخوري، وبعد المراجعات الحثيثة التي قام بها الشيخ أبو أمين جرى شق الطريق من قبر شمون باتجاه جسر القاضي وتأهيلها والحد من المنعطفات والتعرجات التي كانت قائمة عليها. لكن لسوء الحظ لم يُستكمل المشروع فقد أُنجز حتى مستديرة رمحالا، لأن الرئيس بشارة الخوري لم يكمل ولايته، وبعد استقالته في العام 1952 توقف العمل بشق الطريق. ولم يُستكمل طيلة عهد الرئيس كميل شمعون رغم المراجعات المتكررة بهذا الشأن. ويروي المعمرون نقلاً عن الذين عاصروا تلك الحقبة إنّ هذا الطريق إبان الحكم العثماني والانتداب الفرنسي كان مرتعاً لقطاع الطرق. وقد كانت المنطقة التي تسمَّى دكان الشحار، في مستديرة رمحالا مخبأ للصوص وقطاع الطرق حيث يتم سلب وتشليح المارّة ما جعل جماعة المكارية الذين يسلكون هذه الطريق لطحن الحبوب في مطاحن الجسر يضطرون لسلوكها جماعات معاً خوفاً من تعرضهم للسلب.

تجدر الإشارة أنّ أول سيارة كبيرة «بوسطة» لنقل الركاب سلكت طريق جسر القاضي من المناصف إلى بيروت كان يملكها ويقودها نسيب فياض من بلدة بشتفين. كما اشترى الشيخ أمين الدبيسي من جسر القاضي أول سيارة فورد بودعسة.
لقد تم تعبيد طريق جسر القاضي لأوّل مرة سنة 1964 ثم جرى توسيعها وتعبيدها سنة 1985 أيام تولي وليد بك جنبلاط وزارة الأشغال العامة. وفي العام نفسه تم إنشاء الجسر الجديد.

وبسبب من أحداث الحرب الأهلية بدءاً من سنة 1975 أصبحت طريق جسر القاضي الشريان الوحيد الرابط بين بيروت والشوف، والجنوب والبقاع، بخاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للجبل ولبنان سنة 1983، إلى أن أعيد فتحها سنة 1985 بعد انكفاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجبل وعودة أهالي الشحار الغربي إلى قراهم.

جسر القاضي قرية صغيرة بمرسوم جمهوري

لم تكن قرية جسر القاضي ذات كيان خاص بل كانت ضمن خراج البنيّه، وكانت هذه المحلّة تقتصر في البداية على المطاحن فقط. وبعد أن بنى العثمانيون الجسر الثاني وأقاموا الخانات وبسبب هذا التطور الذي حصل، رأى بعض الذين قدموا إلى هذا المكان واعتبروه مكسباً للعيش لا يُستهان به فأقاموا فيه بعض الدكاكين والمطاعم البسيطة تأميناً لحاجة المارين والمكارية وعربات الخيل الذين كانوا يبيتون ليلتهم هناك قبل أنتقالهم شرقاً أو غرباً. اشترى بعض أصحاب هذه المتاجر والخانات أراضي في جسر القاضي من آل أمان الدين، وآل حمدان دون أن يبنوا منازل لهم. وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأ الشيخ سليم الدبيسي بشراء الأراضي في تلك المحلّة وأنشأ دكاناً للحدادة العربية قرب الجسر، وفي بداية القرن العشرين أقام أول مسكن له في جسر القاضي فكان بذلك أول السكان الفعليين في المحلة، وكان بعض الأخوة المسيحيين من قرى الجوار قد تملكوا أراض أيضاً زرعوها بمختلف أنواع الأشجار المثمرة كـ الزيتون والكرمة معتمدين على مياه النهر التي تغذي الأراضي بواسطة أقنية متفرعة من أقنية المطاحن المائية.

جسر القاضي اليوم قرية صغيرة أُنشئت بموجب قانون في مجلس النواب تحت رقم 25 على 66 بتاريخ 31 – 5 – 1966 وأصبح لها كيان خاص يتولّى المختار عدنان الدبيسي إدارة شؤونها المحلية خلفاً لشيقيقه الأستاذ كمال الدبيسي ووالده الشيخ أمين الدبيسي.

عدد سكان جسر القاضي ما يقارب 120 نسمة يعيش معظمهم خارج البلدة، وتقتصر إقامتهم على أيام الأعياد وعطلة نهاية الأسبوع وقضاء فصل الصيف.
تعلو قرية جسر القاضي عن سطح البحر حوالي 300 م، وتبعد عن بيروت 32 كلم عن طريق خلدة – عرمون، و36 كلم عن طريق عاليه – بيروت

الطرق التي ترتبط بجسر القاضي هي:
جسر القاضي – قبر شمون.
جسر القاضي – المناصف – كفرحيم.
جسر القاضي – بخشتيه – عاليه.
جسر القاضي – كفرمتى – عبيه وهذه الطريق شُقّت من قبل المرحوم كمال بك جنبلاط سنة 1975.
في العام 1943 إبّان الحرب العالمية الثانية حيث كانت قوّات حكومة فيشي تحتل لبنان، قام الأسطول الإنكليزي بمهاجمة تلك القوات وقصفها من البحر، فعمد الفرنسيون إلى تلغيم الجسر ووضْع أكثر من طنّين من الديناميت بجانب ركائزه الأربع لتفجيره عند قدوم القوات البريطانية من جهة الدامور ولحسن الحظ نجا الجسر من التهديم بحلول الهدنة عام 1944.

فيضان النهر

باستثناء الطوفان الكبير الذي جرى سنة 1556 ميلادية، لم تشر المراجع التاريخية إلى طوفان غيره، إلّا طوفان 1942. حيث غمرت المياه قنطرة الجسر الكبيرة بالكامل فتعرضت المطاحن المجاورة لمجرى النهر لأضرار جسيمة.

جسر القاضي نقطة أمنية

بالنظر إلى موقع جسر القاضي الجغرافي كنقطة وصل بين منطقتي الغرب والشوف فقد أقيمت عليه في فترات متباعدة ومتقاربة عدة حواجز ومخافر أمنية نذكر منها:
في أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي أقيم مخفر ثابت للدرك على الجسر.
في العام 1975 مع بداية الحرب الأهلية أقيم حاجز لقوى الأمن الداخلي، ومن ثم حاجز للجيش اللبناني.
حاجز الجيش اللبناني من العام 1991 حتى العام 2006.

نهر الدامور

إنّ النهر الذي يمر بقرية جسر القاضي المعروف بنهر الدامور ينبع من نبع الصفا شمالي عين زحلتا وينحدر من هناك إلى وادي معصريتي رشميّا حيث أقام الفرنسيون عليه في عهد الانتداب معملاً صغيراً لتوليد الكهرباء في وادي رشميا لا يزال سليماً إلى اليوم، ومن نبع الغابون فيلتقيان في جسر القاضي ويشكلان نهر الدامور.

لم تقتصر أهمية النهر الاقتصادية على إقامة المطاحن المائية كما ذكرنا بل أتاح للأهالي أن يستثمروا الأراضي على جانبيه بالزراعات المختلفة كالسفرجل والحمضيات والدراق والتفاح والليمون. وذلك من خلال أقنية الري التي تتفرع من المطاحن. أما زراعة التوت فقد كانت من الزراعات الأساسية الرائجة في مطلع القرن التاسع عشر في لبنان وفي جسر القاضي بالذات، حيث أنشأ معملاً لصناعة الحرير يعرف بالكرخانة، وكان يعمل فيها عشرات العمال كانوا يفدون إليها من القرى المجاورة وقد نتج عن ذلك حركة كبيرة على الجسر، أحيت المنطقة وأنعشتها. أما زراعة الزيتون فهي قليلة لكون الأراضي في محيط الجسر «شحّارية» لذلك زُرعت كل الأراضي غرب النهر بالصنوبر، وأكثرها اليوم يندرج في ملكية الوقف الدرزي الذي كانت نواته في الأصل الأملاك التي وهبها الشيخ أحمد أمان الدين من عبيه إلى وقف الدروز.

مقاهي النهر

في جسر القاضي عدد من المقاهي أبرزها:
– مقهى الجسر الكائن بالقرب من الجسر العثماني.
– مقهى القناطر وهو موجود في مطحنة القناطر.
– مقهى الجسر الجديد وهوبين الجسرين القديم والجديد.
– مقهى ملتقى النهرين وهو بالقرب من جسر نهر الغابون.

المحيط الحيوي

– يكتسب جسر القاضي أهمية جمالية كبيرة قد لا يضاهيها أي مكان في لبنان، ليس فقط لأنَّه صلة الوصل بين مناطق الشوف وعاليه وبعبدا، بل لأنه يقع كذلك على امتداد جغرافي فريد من نوعه بالنظر لتعرجاته وللطبيعة الخلّابة المحيطة به، والقرى المشرفة على واديه الساحرالمنتشرة على جانيه، حيث تشكل من حوله حزامأ عمرانياً من القرى الفائقة الجمال قلّ نظيرها.

– وأنّى أتجهت من النبع إلى المصب في وادي جسر القاضي يأسرك سحر الطبيعة وجمالية المكان، فمن عين زحلتا والصفا شرقاً إلى قرى الحرف والكنيسة ودير كوشة وبشتفين وكفرفاقود ودير بابا وكفرحيم ودميت فملتقى النهرين بالقرب من الدامور. يقابلك من الغرب قرى وبلدات كفرمتى والبنيه وقبر شمون ورمحالا والغابون وسلفايا وبوزريدة وصولاً إلى رشميّا ومعصريتي والرملية ووادي بدغان، حيث تنتشر قرى عامرة تضج فيها الحياة وتشكل المدى الأخضر لجسر القاضي، فتخالها جنائن معلقة أو قناديل مشعة بين السماء والأرض فيأخذك سحر المكان، كما لو كنت في جنة الله على أرضه……

.

سيّدات معروفيّات مُبْدِعات

سيتابع قارئ الضحى بدءاً من هذا العدد (36) قصة النجاح الشخصي والعلمي لسيّدات معروفيّات تمكنّ، بالجهد الشخصي والمثابرة والتشجيع من أسرهنّ ومجتمهنّ، أن يصلنَ بعلومهنَّ إلى الدرجة القصوى المتعارف عليها أكاديمياً (أي الدكتوراه في الاختصاص).

نقدّم في العدد هذا أربعة من الأخوات اللواتي أنجزن شهادة الدكتوراه اللبنانية في الاختصاص (فئة أولى)، ونلن أعلى العلامات والتقدير على ما أنجزنه، على أن تلي في أعداد لاحقة تجارب أخرى من التفوق والإبداع.
وإذا كان من كلمة أخيرة في الموضوع، نقول إحقاقاً للحق وطلباً للموضوعية، أن النجاحات «النسوية» تلك ما كان لها أن تتحقق باليسر والتشجيع اللذين لاقتهما لولا المُناخ الإيجابي حيال العلم والتعليم بكل صوره الذي ما انفك المجتمع التوحيدي يظهره عملاً بالتقليد الإسلامي المعروفي الذي لطالما حثّ على طلب العلم «ولو في الصين»، والذي شجع من دون تردد، وبتوصية مباشرة من الأمير السيّد(ق) على الأخذ بيد من يريد (أو تريد) اختبار طريق العلم الصحيح، واعتباره حلية أخرى تنضاف إلى حليتَيّ الإيمان والأخلاق- ميّزتا كلّ موحّد وموّحدة.

الدكتورة أمل بو غنّام حمزة : تعريف بالإطروحة تحت عنوان: اليابان بين الحربين العالميتين دراسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي (1918-1945)

إطلالة على تاريخ اليابان بين الحربيين العالميتين

تُعَدُّ دراسة تجارب الأمم والشعوب إحدى أهم ميادين الدراسات التاريخية، للاستفادة من تجاربهم، «فالتاريخ علم التغيير»، كيف إذا كان يبحث في الديناميكية التي تميزت بها اليابان، والقدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات، في محاولة لكشف أسرار نجاح اليابان في دخول نادي الدول الامبريالية الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام عام (1919)، والدولة الآسيوية الوحيدة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنع تمدد الشيوعية، لتصبح دولة استعمارية في الحرب العالمية الثانية.

بحثت هذه الدراسة في تاريخ اليابان ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوصلت لنتائج عديدة للتغييرات التي شهدتها؛ وتفاعُل الأفكار الليبرالية والاشتراكية داخل مجتمعاتها التي ساهمت في نمو الأحزاب وظهور الحركات الاجتماعية فعرفت تلك الفترة بديمقراطية تايشو. كما بحثت الدراسة في العلاقات بين الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية في اليابان، ودور الدين والعادات وغيرها في حماية البلاد من الوقوع في التشرذم والفوضى المتأتية من تفاعل الأفكار الرأسمالية والشيوعية وثورة العمال وغيرها من القضايا.

ونجاح اليابان في تبنِّي التقدم والتطورالصناعي والاقتصادي، واعتبرت أنّ ظهور التكنولوجيا والعلوم شكّل انتصاراً لطريق الامبراطور، ودعت إلى ربط الإقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، وأصبحت شريكة للدول الأوروبية في تقاسم النفوذ في الصين؛ فتقاطعت المصالح بين اليابان وأميركا في كوريا والفيليبين، وتوترت العلاقات بينهما على أثر إعلان قانون الهجرة (1924)، القاضي بالحدّ من الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة وأثارت قضية التمييز العرقي.

ساهمت الأزمة الاقتصادية بداية ثلاثينيات القرن العشرين في البحث عن سبل لمعالجة تداعياتها. فشجعت على الهجرة إلى الصين بعد أن شهدت زيادة سكانية كبيرة من أجل الحصول على مصادر للطاقة لصناعاتها. وتدهورت علاقاتها مع الدول الغربية على خلفية حادثة منشوريا في عام (1931)، ما حمل اليابان على الانسحاب من عصبة الأمم عام (1933). وسعت إلى تأسيس كتلة الينّ اليابان- منشوكو- الصين وتوسعت لتشمل مجال ازدهار مشترك لشرق آسيا العظيم، حيث أخفقت في حساباتها حين أرادت أن تفرض إرادتها على الشعوب شرقي وجنوبي آسيا بحجة تحضيرها، فانحرفت إلى الشوفينية الفاشية طمعاً في إيجاد نظام عالمي جديد في شرق آسيا، وتطبيق مبدأ آسيا للأسيويين، بعد أن أخفق النظام الحالي في بناء السلام العالمي. فتبنت نظام العسكريتارية، وسخّرت الروح العلمية اليابانية في تنفيذ سياستها التوسعية القارية، وفرضت التجنيد الإجباري والتعبئة الإقتصادية في اليابان والأراضي التي سيطرت عليها، بهدف تحقيق ازدهار مجال شرق آسيا العظيم، وتبنت نزعة قومية متشددة، نقلتها من مرحلة المهادنة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة، متخذة من العائلة الامبراطورية مصدر إلهام للشعب الياباني .
وسارعت إلى تحقيق مذهب عموم آسيا وفرض شروط جديدة عالمية، إذ اعتبرت أنّ العالم أمام منعطف تاريخي جديد، وقدَّر الامبراطور الياباني أخلاقياً أن يصبح زعيم العالم؛ فانضمت اليابان إلى دول المحور، وأُطلقت يد اليابان في آسيا التي انحرفت عن هدفها في توحيد دول شرق آسيا لخلق اليابان العظمى. وقد استخدمت اليابان العنف تجاه الدول الآسيوية لإرهاب الشعوب الآسيوية وتحقيق مشروعها التوسعي؛ فيما أُطلقت يد ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والمستعمرات…

شكل هذا الأمر تحدّياً للولايات المتحدة التي بدورها حاولت كبح جماح اليابان، في حين استمرت المحادثات بين البلدين من أجل تفادي الحرب. وتزامناً، أعلنت اليابان التعبئة العسكرية العامة وتحالفت القوى الاقتصادية مع القوى العسكرية وتحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية، بعد إحياء الدين الحقيقي الجامع لأبناء اليابان، في مواجهة الثقافة السياسية والمصالح الاقتصادية الأنجلو-أميركية.

أمام هذا الانقسام، فرضت الولايات المتحدة حظراً على تصدير النفط إلى اليابان التي تعتمد عليه بنسبة (80%)، للضغط عليها وفصلها عن دول المحور، فقطعت اليابان محادثاتها مع الولايات المتحدة بهجوم مفاجئ وعنيف على بيرل هاربور في (7 كانون الأول 1941). بينما كانت أميركا تجري التجارب على السلاح النووي الحديث، دخلت الحرب الحتمية واستمرت حتى استسلام ألمانيا، وبات حسم الحرب وردع اليابان أمراً ضرورياً؛ فاستخدمت الولايات المتحدة السلاح الجديد على هيروشيما وناكازاكي، لانتزاع الاستسلام من اليابان، وإجبار اليابان على التخلّي عن مقارعة الغرب، ويكون الرادع لعدم تكرار الحروب العالمية.

وقَعت اليابان تحت احتلال قوات الحلفاء، وفُرضت عليها تغييرات جذرية لتحويلها إلى دولة مسالمة، مقابل احتفاظها بوحدة أراضيها وهويتها الوطنية، وتخلّي الامبراطور عن صفة الإلوهية، وإلغاء جميع أشكال عسكرة النظام ودمقرطته. وأُجبرت على تفكيك شركات زايباتسو الاقتصادية التي موّلت الحرب. واستجابت اليابان للضغوط التي فرضتها قوات التحالف، وأدركت أن عليها استعادة ثقة المجتمع الدولي وانتهاج سياسة المسالمة تجاه دول القرار في النظام العالمي، لاستعادة موقعها العالمي في المجال الاقتصادي.

استطاعت اليابان أن تبتدع «ثنائية: الإنجاز – الاستمرارية الحركية»، التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ وهي سرّ من أسرار التفوق الاقتصادي المُذهل الّذي ربطها بفلسفة «الاعتماد على الذات»؛ والعمل الدائم على أن تكون شريكة في القرارات الدولية وفهم السياسة العالمية دون الانغلاق على الذات؛ ترافق ذلك مع النشاط الإنساني المنفتح والحذر على العالم الخارجي، أو التكيّف الإيجابي.


كيف اخترت موضوعي لأطروحة الدكتوراه؟

مِنْ: ندى أمين حسن (فياض) حائزة على شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ سنة 2015.

إنّ فكرة اختياري لموضوع إعداد أُطروحة الدكتوراه، يرتبط بالمكان والزمان اللّذين ترعرعت فيهما. فقد وُلِدت في بيت متواضع، رسم ربُّه على عتبته شعارَيِّ «العلم والأخلاق»، اللّذين بقيا زاداً أحمله من عائلتي الأم أينما ساقت بيَ الحياة، لتنمو هذه المبادئ مع زوج شغوف باقتناء الكتب وقراءتها.

مارستُ مهنة التعليم، وعملت في الإدارة العامة، وأنا أتساءل عن ماهية الوظيفة، عن حقوق الموظف، وعن واجباته، وعن كيفية تقديره ومحاسبته، عن كيفية بناء روح المواطنية لدى تلاميذي، وأخيراً عن دوري في إعدادهم كبُناة للوطن؟

تساءلت كثيراً عن مدى تأثير موقع السكن لأي مواطن على مسار حياته، في بلد يتوجب أن تتساوى فيه كل الفرص بين مواطنيه؟ حين حُرِمت من إكمال دراستي الجامعية كعقاب لي على إقامتي في منطقة لا تبعد عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات، ولم أحظَ بهذه الفرصة سوى بعد خمسة عشر عاماً على نَيلي شهادة الثانوية العامة. كان لهذه السنين الفضل في نُضج أفكاري وتحديد تساؤلاتي واختيار موضوع رسالة الماجستير للإجابة عنها من خلال عملي كباحثة، فكانت تحت عنوان «تجربة فؤاد شهاب في بناء الدولة المدنية في لبنان بين عامي 1958 و 1964».

صمّمت أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراة مُتَمّماً لموضوع رسالة الماجستير، حين يبحث عن مصير هذه الدولة بعد نهاية حرب لبنان (1975-1990)، ولكن للأسف ولأسباب لا مجال لذكرها، لم أحظَ بهذه الفرصة، فقرّرت السير بقراري، واختيار موضوع يتطرّق إلى هذه الدولة من خلال رؤيتها لِلّامركزية الإدارية عبر أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي جسّدت البيئة الحاضنة لمفهوم التنمية، محددة قضاء الشوف كأنموذج لذلك، فأتت الأطروحة تحت عنوان «البلديات ودورها التنموي في قضاء الشوف بين 1943 و2010»، والتي نِلت على أساسها شهادة الدكتوراة في التاريخ، سنة 2015.

ارتبطت البلديات بعلاقة راسخة بمفهوم الديمقراطية؛ فقد كانت مهمة الدولة الأساسية المحافظة على الأمن، لتتطور مهامها وتشمل تأمين الخدمات، خدمة لعملية التنمية في مجتمعاتها، حتى أنّ الشرعية الديمقراطية لهذه الدولة بدأت تأخذ مفهوماً جديداً يشمل فعالية السلطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الديموقراطية المقنّعة، بمعادلة طائفية راسخة، تظَهرُ في لبنان من خلال اللامركزية الإدارية، وبالتحديد في أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي نشأت في لبنان قبل الجمهورية، وتنامت معها حتى يومنا هذا.

لم يكن نشوء البلدية ابتكاراً خاصّاً بالّلبنانيين، لكنّهم احتضنوا هذا الإنجاز، وعملوا على التشريع له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاَ. وحين تناحروا، لم يجدوا بديلاً عنه، فعادوا إليه بعد تجربة إدارات الأمر الواقع، في مختلف المناطق اللبنانية خلال حرب لبنان.

وعى اللبنانيون فكرة التنمية، ونقلوا مبادئها النظرية من منظِّريها، وأيقنوا مدى الحاجة إليها في بلدهم، فعقدوا العزم على أن تكون البلدية، البيئة الحاضنة لها.

اخترت قضاء الشوف مجالاً جغرافيّاً لبحثي، لأنّه يتميز بتنوعه الجغرافي والديمغرافي، وشعرت بذلك أنه نموذج مصغّر عن لبنان، واخترت أن تكون دراستي عن موضوع البلديات فيه، مثالاً عن كل مناطق الجمهورية اللبنانية.

اعتبرت إشكاليّة البحث، «البلدية نواة الديمقراطية الأولى»، كما تطرقت إلى علاقتها بالمواطنين وقدرتها على معرفة قضاياهم ومشاكلهم، إذ تُنتخَب مباشرة منهم، وتعمل على تحقيق كلّ عمل ذي طابع ومنفعة عامين لهم.

تضمّنت الفرضيات؛ ملاءمة بيئة قضاء الشوف لتكون مجالاً لدراسة تجربة البلديات ودورها التنموي، كما تطور العمل البلدي في هذا القضاء وبخاصة بعد انتخابات سنة 1998 البلدية والاختيارية، مع لحظ مراعاة المواطنين للمعايير العائلية والطائفية عند اختيار أعضاء مجالسهم البلدية، وإظهار دور الاتحادات البلدية في تنشيط العمل البلدي وتحقيق أهدافه الإنمائية، وأخيراً عرض الصعوبات المُعيقة للعمل البلدي وكيفية معالجتها.

عالجت دراستي هذه المجموعة من الفرضيات، بكلّ تفاصيلها، ممّا سمح لي في ختامها أن أتوصل إلى معطيات إيجابية منها وسلبية، مبنية على براهين تستند إلى معايير البحث العلمي، ليكتمل بحثي بعرض رؤى مستقبلية تتعلق بالعمل البلدي وتحقيق دوره التنموي.

تناوَلت اقتراحاتي المستقبلية عدة مجالات، توزّعت بين أدوار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأخير دور المجالس والاتّحادات البلدية نفسها.

جعلتُ دراستي الجامعية نواة كتاب أصدرتُه سنة 2017، تحت عنوان «قضاء الشوف بلدات وبلديات 1860-2016»، بعد أن أكّدت خلال دراستي الجامعية أنّ سنة 1860 هي تاريخ تأسيس أول بلدية في لبنان أي بلدية دير القمر في قضاء الشوف، وأنه من الواجب دراسة هذه الفترة الزمنية لإعطاء مفهوم العمل البلدي حقّه الوافي في لبنان، وصولاً إلى سنة 2016 تاريخ إجراء آخر انتخابات بلدية واختيارية.


علّمتني الفلسفة

دكتورة عفّة محمّد محمود.

علّمتني الفلسفةُ أنّ العمرَ مهما بلغ، لا يقفُ حائلاً بين الإنسان وطموحه، ومرشدنا في ذلك أفلاطون الحكيم الذي أحبَّ الموسيقى وتعلّمها وهو في الثمانين من العمر. لذا عدت إلى مقاعد الجامعة بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد ،وكانت فرحتي بإكمال علمي توازي فرحتي بإنجاب الأولاد. فإذا كانت ثمرة الحياة الدنيا البنات والبنون، فإنّ ثمرة الفكر العلم والتأليف والكتابة ،وبالتالي نيل الشهادات العليا.

بدأت رحلتي مع الفلسفة وحب الحكمة والحكماء، منذ الصغر وتبلورَت بشكل جليّ مع المعلم كمال جنبلاط والمطالعة الدؤوبة والمستمرة في كتبه الجمّة، حتى شعرت وكأنّ ميلادي الثاني، ميلادي الروحي قد تفتح على فلسفته وروحانيته، فكانت رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عنه وعن فكره النيّر الخصب ،حيث حملت الرسالة عنوان: «الروحانيات والتصوُّف في فكر كمال جنبلاط».
دفعني الشغف العلمي، وحبي للمعرفة لإكمال مسيرتي ونيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية، الجامعة الأم التي نعتز ونفخر بمستواها الأكاديمي، لكنْ هذه المرحلة لم تكن سهلةً إذ واجهتني صعوبات جمّة ،منها البحث عن المشرف الذي يأخذ بيد الطالب ليصل به إلى برّ الأمان، والبحث عن موضوع جديد غير مسبوق.

عملت على أطروحتي طوال خمس سنوات ،تحت عنوان «فلسفة القِيم في النص الصوفي، نموذج محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي»، ونلت عليها تقدير «جيّد جداً»، طبعاً وبكل تأكيد ما من عملٍ ناجحٍ إلّا ويحتاج إلى جهدٍ كبير ومعاناة ،وملاحقة أصغر التفاصيل، ليظهر العمل أقرب ما يكون للكمال. وهنا تكمن أهمية المثابرة والمتابعة عند الطالب، وأيضاً التشجيع والتحفيز من المحيطين والمهتمين لنجاح هذا العمل، ومن الصعوبات التي رافقت عملي أيضاً، تجميع المعلومات والتقميش وضبط كل هذا بشكل متسلسل ومنظم، لتتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي ،وجلال الدين الرومي.

تتألف الأطروحة من ثلاثة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول. عرضت في الباب الأول موضوع القيمة والقيم. فالقيم من أهم موضوعات الفلسفة وأصعبها، إذ إنّه حتى اليوم لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد موحَّد لها.فالبعض كالفلاسفة الماديين يعتبرون موضوع القيم موضوع متحوّل، ويتغير بتغير الزمان والمكان، بينما يعتبر الفلاسفة المثاليين مثل سقراط أنّ القيم العليا من الحقائق الثابتة ولا تخضع للتغيير: «وبأن السعادة تقوم في سيطرة العقل على دوافع الشهوة، ورد الإنسان الى حياة الاعتدال، ومتى عرف الإنسان ماهيته وأدرك خيره أتاه لا محالة، لأن الفضيلة وليدة المعرفة ،فمتى عرفتَ الخير حرصتَ على فعله، ومتى أدركت الشر توخيت أن تتجنبه…».(توفيق الطويل ،فلسفة الأخلاق، ص 33).

تتعدد مصادر القيم، والدين أحد هذه المصادر المهمة، فمنها قيم اعتقادية، وقيم خُلقية، وقيم عملية، حيث حرص كل من ابن عربي وجلال الدين الرومي على تثبيتها وترسيخها في الذات، والالتزام بكل الفرائض والواجبات كما وردت في النصوص القرآنية. يقول ابن عربي: «إنّ التقيد الصارم بالشريعة، وهو بالطبع الشرط للنجاح، واكتساب مكارم الأخلاق مثل الدماثة أو الحلم والتواضع والكرم والفتوة، وهي أمور ضرورية للترقي الروحي»، (كلود عداس ،ابن عربي ،ص265).

وهذا ما أكده الرومي بإيمانه بالله وعشقه للصورة الأزلية حيث يقول: «أيّها الملك! أطفئ حرصنا بماء رحمتك ،واسقِ أرواح المشتاقين شراب وحدتك ونورك، وأضئ ضمائر قلوبنا بأنوار معرفتك، وشرّف وكرّم أشراك أملنا التي نصبناها في صحراء سِعَة رحمتك بأطيار السعادة وصيود الكرامة» (الرومي، المجالس السبعة، ص 16).

في الفصل الثالث من الأبواب الثاني والثالث، حرصت على أن تتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وذلك يتم بمراقبة الجسد وضبط الحواس، ثم ضبط النفس الأمّارة بالسوء التي تدفع بالإنسان إلى الغرائز والشهوات بالقوة العاقلة والتمييز السليم، والتحلّي بالفضائل الإلهية، والابتعاد عن الرذائل لتصبح النفس حرَّة مُعْتَقة من رقِّ الجهالة.
أمّا أعلى مرتبة يشدد عليها الصوفية فهي مرتبة القلب، والذي اعتبروه أعلى من القوة العقلية في الإنسان، يقول ابن عربي: «فاعلموا أنّ القلب مرآة مصقولة كلّها وجه، لا تصدأ أبداً، وإن صَدأت لقوله عليه السلام: «إن القلوب لتصدأ كالحديد وجلاؤها يكون بذكر الله تعالى والقرآن..، فكأن تعلّقه بغير الله صدأ على قلبه لأنه مانع من تجلّي الحق إلى هذا القلب» (الفتوحات المكية ج3،ص103).
وهذا ما يقوله الرومي عن القلب أيضا: «إلّا الأصوات في صدور الأولياء والأعزاء، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصورة أنفاسهم! فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن، وفناؤهم هو الذي استُمِدَّ وجودُنا منه، إنَّ الوليّ نور الفكر، وكلُّ صوت فيه هو لذة الإلهام والوحي والأسرار». (الرومي ،المثنوي ج1، ص268)

وأخيراً نصل إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ العودة إلى تراث الأقدمين العارفين، والتحلّي بأخلاقهم الحميدة، الفاضلة تخرجنا من الفساد والمفسدين، وتنير ضمائرنا وعقولنا بالعمل الصالح السليم الذي فيه خيرنا وخير مجتمعاتنا كافة. لو عاد الإنسان إلى حقيقته، وسأل نفسه عمّا يريده من هذه الحياة بوعي وحكمة، لأجاب: مطلبي السلام، السلام الداخلي، والأمان والسلام في العالم ككل، وإذا كان مطلبه الارتقاء العقلي والصفاء في جنانه، لتطول سعادته، فما عليه إلّا بالتوحيد الحقيقي مسلكاً، أي بعرفان الحكمة، عرفان الصوفية الأتقياء، الأنقياء، والاقتداء بأخلاقهم الفاضلة الحميدة.

أخيراً الشكر كل الشكر لكل القيّمين على مجلّة الضحى، ونخصّ بالشكر رئيس تحريرها، العميد الدكتور محمّد شيا على التفاتته الكريمة.


الهَيدونيّة في الفِكر الغربيّ: مآلاتُها، الأفلاطونيّة عند ميشال أونفراي

نَغم كمال شاهين

«ماذا يجب عليّ أن أفعل؟» هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم، ينطق بلسان حال كلّ إنسان، معبّراً عن هواجسه الأخلاقيّة – المَعرِفيّة المَعيشة. هذه الهواجس حملت البشر على استقراء ما يحيط بهم من ثقافات وحضارات تلوّنت بمختلف ألوان الإجابات: دينيّة أوّلاً، ثمّ فلسفيّة؛ وصولاً إلى العلميّة والوضعيّة. هذه الإجابات على تنوّعها واختلافها تشبّعت بالهيدونيّة، ذلك أن الإنسان سعى ولا يزال إلى تحقيق سعادته من خلال اختراع واكتشاف لَذّات ومُتعٍ تبدأ عند حدود الجسد ولا تنتهي عند الفكر والروح.

وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال كانط السالف الذكر، قاربت هذه الأطروحة التي تحمل العنوان أعلاه والمُخصّصة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، فكرَ كلّ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الموسوم خطأً وزورًا بمعاداة الهيدونيّة واحتقار الجسد، والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي « أبو الهيدونيّة في القرن الواحد والعشرين» ومؤسس «الجامعة الشعبيّة».
انطلق البحث من الإشكاليّات الآتية:
1- كيف يقارب أفلاطون مفهوم الهيدونيّة؟ هل هي هيدونيّة مثاليّة – متعالية، أم واقعيّة – جسديّة؟.
2- كيف يقارب ميشال أونفراي مفهوم الهيدونيّة؟.
3- بماذا تختلف مقاربة أفلاطون الهيدونيّة عن مقاربة ميشال أونفراي؟.
4- على أيّة مقاييس تُبنى الأخلاق؟ هل تُبنى على الغنى والتّرف والجَشع أم هناك أخلاق لا بُدّ من إعادة صياغتها لتَرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيّة الحقيقيّة؟.

رامَ البحث إلى تحقيق الهدفين الآتيين:
أوّلاً: إثبات أنّ الهيدونيّة متغلغلة في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولها عنده معنى إيجابي، فهي مرتبطة بالفضيلة بشكلٍ عامّ والعدالة بشكلٍ خاصّ، لما يتفرّع عنها من لذّات وسعادة جسديّة وروحيّة على حدٍّ سواء. فاللذّة من حيث هي وعي، تستلزم بُعدًا فيزيولوجيًّا تظهر من خلاله.

ثانيًا: توضيح العلائق التي تُسهم في نسج بناء النَّسق الهيدوني عند ميشال أونفراي، من مكوّنات الفكر الهيدوني المادّي، والرؤية التي ينظر بها الهيدونيّ المعاصر المتمثّل بأونفراي إلى العالم، والهدف الذي يطمح إليه في إعادة الاعتبار للإنسان واحترام الجسد، ما يستلزم إعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي الديني والمعرفي والسياسي، ليُصار إلى تحديد هذا المنحى الفكري للنزعة الهيدونيّة، في كُلّ أبعادها عند كُلّ من أفلاطون وأونفراي.
ولتحقيق هذين الهدفين كان لزامًا أن تُقسم الأطروحة إلى قسمين:
– قسم أوّل عَرضت فيه الباحثة مكامن وجود الهيدونيّة في مقاربة أفلاطون في تكوين الأفراد، فلحظت العلاقة بين الهيدونيّة وبين الفضائل، مُنطلقةً من مقاربته الفضيلةَ نفسَها، مُستخدمةً مصطلح هيدونيّة وما يُرادفها أي لذّة بمعناها الجسديّ والروحيّ، فالصحّة والجمال والمواهب هي خيرات؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى العدل والاعتدال والشّجاعة، علمًا أنّ هذا المُصطلح لا يعني عند أفلاطون الشّعور الناتج من الانغماس في الشّهوات، بل الناتج من فضيلة الاعتدال، من ثمّ تتبّعت الأبعاد الفيزيولوجيّة والنفسيّة والابستيمولوجيّة والاجتماعيّة – السياسيّة والتربويّة والفنيّة للهيدونيّة، كما قاربها أفلاطون. كذلك قامت بمحاولة تفكيك العلاقات المتشابكة بين الهيدونيّة ومفاهيم السعادة واللذّة والحُبّ والخير، من ثمّ تتبّعت مآلات الهيدونيّة الأفلاطونيّة عند كُلّ من أرسطو وأبيقور، لكونهما ساهما في تكوين الفكر الغربي منذ اليونان حتى يومنا هذا.

– قسمٌ ثانٍ توقّفت فيه الباحثة عند خصوصيّة الهيدونيّة الماديّة عند أونفراي، من حيث معناها ومن حيثُ هي نظام أخلاقي يُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجسد ويجعله مصدرًا ومرجعًا للقيم الأخلاقيّة. كذلك عرضت في هذا القسم للإلحاد الذي جعله أونفراي أحد شروط الحياة الهيدونيّة لكونه يحرّر الإنسان من كلّ الضغوطات التي تُمارَس عليه باسم كائن ميتافيزيقي (الله). وقاربت أيضًا موقف أونفراي من الأديان التوحيديّة وثورته المعرفيّة، مضيئةً على بعض أبرز المفكّرين الذين تركوا أثرًا بالغًا على فكر ميشال أونفراي. كذلك عرضت موقف أونفراي السياسي الرافض للفلسفات الدوغمائيّة – الفوضويّة الغربيّة وأسباب تبنّيه الاشتراكيّة التحرّريّة كنظام سياسي من شأنه تحقيق هيدونيّة الجماعة، ومن ثمَّ قدّمت موقف أونفراي من الفنّ المُعاصِر. وفي نهاية هذا القسم، توقّفت الباحثة عند أبرز الانتقادات التي تناولت طروحات أونفراي.

وقد خلصت الباحثة بعد مُقاربة الهيدونيّة من منظورَي أفلاطون وأونفراي، أنّه يُمكن الخروج بفلسفة الأخلاق من المجال النظريّ البحت إلى الواقع المعيش، آخذين بالحسبان صعوبة تطبيق هذه الفلسفات الأخلاقيّة، فالفيلسوف هو ابن بيئته، وإذا ما اكتشف في هذه البيئة انحرافًا على مستوى القيم الأخلاقيّة، سعى بالوسائل المُتاحة أمامه لتقويم هذا الانحراف. أوَليس هذا ما حاول فعله كُلّ من أفلاطون وأونفراي؟ أما هذا هو حال فلاسفة الأخلاق جميعًا، في كُلّ زمانٍ ومكان؟

لا للوجود

لو أوجدوا سكاكينَ

من وردٍ وعطرٍ مميز
لو صنعوا أسلحة ترش الكون

عطرَ ورد
ورائحة ريحان
لو صنعوا مسدسات

ترش الفكر في كل مكان
لو صنعوا قذائف من مسك وعنبر
يشتمها كل كائن فيصبح إنسان
لكان عالمنا أفضل . . .
فهنا مُتَّسع للجميع إذا أسميناه إنسان

*  *  *

لو صنعوا مسدّساً واحداً

لا يحمله سوى السلطان
وقيدوا يداه بمشاعر البسطاء
ورفعوا من حوله حدائق معلقة
وحجبوه عن الناس
وجعلوا في العالم شبعاً واحداً
يُلْغِي الحَاجَة للمال، للناس، للسلطان
لَبَقِيَ الكون سالماً
لا يعتري الفكر سوى النضج والخير

والعفوية ومحبة الرحمن…

*  *  *

قلْ لي ماذا أفعل يا ولدي ويولد في العالم
إنسان لا يشبه الإنسان
طماع جشع مريب
لا يفهم سوى لغة الموت

والآخرة والشهداء…
يقدس المكان والحجر

يقدس الموت

ولا يفهم سوى لغة قطع الأعناق
والاغتصاب…
هل من أجل هذا وُلدنا
أم من أجل رغد الحياة
ومتسع الفكر

وأفق التسامي لمحبة الإنسان

بِتُّ يا ولدي لا أفهم
فلا تقف في سبيل الجهلاء
وقف حتى لو كنت وحيداً
مع فكرك وقلبك النابض

بمحبة الإنسان محبة الإخوان

والرحيم الرحمن…

*  *  *

أُعيذُ ذُرى حورانَ من وقع صدمةٍ

أُعيذُ ذُرى حورانَ من وقع صدمةٍ
رويداً أبا منصور هذي منازلٌ
أتتركُها في كَرْبةٍ من زمانها
وأنت الذي مازلتَ غَوثاً لأهلِها
حملتَ همومَ الناس طبعاً وخَصلةًهنا صلخدُ العَليا ويَبكيك أهلُها
هنا جبلُ الريان حزنٌ مُخيِّمٌ
وهذي السُّويدا في عظيم مُصابها

زمانٌ تهاوى القومُ فيه كأنّهم
جسومٌ بلا رأسٍ يسوسُ ضَياعَها

أناجيكَ من دنيا يزول نعيمُها
وقد كنتَ فيها الكفَّ يسخو مُواسياً
فكَم في طِلابِ العلم وفّرتَ فرصةً
وغالبتَ ذا السّرطانَ مشفًى وعُدّةً
زرعتَ المكرُماتِ كلّ أرضٍ حَللتَها

ومن تَعَسِ الدنيا افتقاد ُ أماثلٍ
ستذكرُك الأزمانُ يا أنورَ النَّدى
تَغمّدَك الباري بما قد زرعتَهُ

ويجمعُها مع طَودِ لبنان جامعُ
على ساحة التاريخ منها وقائعُ
يحيطُ بها غازٍ وغاوٍ وطامعُ
على سَكَراتِ الموت والموتُ والِعُ
اذا عسَرَت حالٌ فأنت المُدافعُقلوبٌ هنا تَدمى وتهمي مدامعُ
يفيض على ما حولِه وهو خاشعُ
تهون لديها الصادماتُ الفواجع

بقيّةُ جيشٍ بعثرتهُ المعامعُ
وقد سادَ فيه المُفسدون الصنائعُ

كظلّ سحابٍ مزّعته الزوابعُ
لكلّ مريضٍ ضيَّمتهُ المواجعُ
لطلّابِ علمٍ اعجزتهم موانعُ
فِعالٌ لوجه الله والله شافعُ
لك البصَماتُ البيِّناتُ السواطعُ

غيابُهُمُ خُسرٌ مُبينٌ وفاجعُ
كريماً نبيلاً وأهباً لا يُضارَعُ
لانكَ راعي الخيرِ نِعْمَ المُزارعُ

 

ياهذا الوجْدُ البدويُّ ألا أوْقِدْ

ياهذا الوجْدُ البدويُّ ألا أوْقِدْ
ناركَ في برْدِ الليلِ
في غفوة هذا الرّملِ
في هذي العشيّهْ
وابحثْ عن جملٍ يأويك إلى حُلُمٍ
أنبئني كيف ينوء الرّمل بقطرةِ ماءٍ عربيّهْ
الرّمل مضتْ
وأحبّكَ…كلّ سياط البحر
وأحبّكَ… يغدو البحرُ قرنفلةَ الرّيحِ
برّ الرّوحِ
مرساةَ الأشواق المذعورهْ
وأحبّكَ… يغدو الرّمل قوافل عشقٍ تصحو في كفٍّ مقهورهْ
ناصرْ
جرّةُ حزنٍ عربيّهْ
تحملها خولَهْ
تسقي عشق الأزهار البرّيّهْ
تسقي عطَش الماءْ
تفصح للجرح الأبكم قَوْلَهْ
تزرعُ في عُنُقِ الصحراءْ
شامةَ فرَحٍ أبديّهْ
ناصرْ
جرّةُ حُزنٍ عربيّهْ
تحملها خَوْلَهْ
مثْلَ صوفيٍّ يُتعب نولَهْ
وتعانق في وضَحِ العتمِ سبايا
قيل مرايا
قيل امرأة تدعى رابعة العدويّهْ
تحرثنا الأرضُ
ما أخصبنا
تمتم صوفيٌّ خبّأ مِنْجَلَهُ
قال: قرونُ الأرض قد امتدّتْ بين اللهِ وبيني
فلماذا أحملُ عَيْني؟
تحملها كي تبصر كيف قرون الأرض هوتْ
كيف المحراثُ يصلّي
«سبحاني ما أعظم شاني»
كيف الماءُ ينادي: أين الجبّةُ؟ أين أنا؟
كيف الجبّة تَخلع لابِسَها
وسرابُ العشقِ يُخادعنا
آهٍ ما أصْعَبَنا
نحن البدويّينْ
من صِفّين إلى حطّينْ
ذاكرةٌ
لم يتعبها هجرٌ ورحيلْ
غيمةُ قهرٍ
تمطر في نهْرٍ
سمَّوْهُ النّيلْ!

هي عبــرَ القرونِ كُشوفُ نورٍ

هي عبــرَ القرونِ كُشوفُ نورٍ
ولــولا أنتَ شيخُ العقلِ قـِــدْماً
فُطِـرْتَ نـزاهةً ووُهِبْـتَ عقلاً
وبـالعلـم ارتقيــت إلى مَــراقٍ
بـك اتّســمت فعـالٌ ســامياتٌ
ثقافـتُــك الأصـيــلةُ مُبْتَنـــاها
ويشهد بابُــك المفـتوحُ دومــاً
إذا الشُّبُهات طالت بعضَ قومٍ
سَــمَوْتَ عـن المطامعِ باقتدارٍ
وزكَّيْــتَ الحِوار لنَـهج عقــٍل
فَسِـفْـرُك شــاهدٌ ودليــلُ فِعْــل
لئـــنْ حكامُ هــذا الكون دانوا
يقـولُ العقـل أن هبُّــــو إليــه

ألا يـــا شيخَ ســــامي أنـتَ سـامٍ
فحقَّــــاً أنـت شـــيـخُ العقـلِ زاكٍ
يضيـقُ مَدى العبارةِ عن مــزايا

وإرشــادٌ إلـى مــن يستـطيــعُ
لَمــا جاءتك عــن شَوْق تُطيعُ
وعِــرفــانـاً لـه دانَ الجـميـــعُ
لهــا فــي عالم العقل السطوعُ
عــلى التـــوحــيد مبنـاها رفيعُ
طبـــاعُ العقلِ عاطرةٌ تضوعُ
بــأنّـك نُصـــرةُ العاني، يُذيـــعُ
فــأنت مُبَـــرَّأٌ مـنـــها مـَنــــــيعُ
فلـم يُـغْرِرْكَ مــن بـاعوا وبيعوا
بـــه الأديـــانُ للحُسْــنى تطــــوعُ
ونـــورٌ تستضيئً بـــه الجـموعُ
بما تــــدعـو إليــه فلـــن يَضيعوا
وإلّا قـــد يســــوؤكــم الـــصّنيــعُ

بـك التَّــوحيدُ تَحضُنهُ الـــرّبـوعُ
بــك احْتَفَتِ المنــــابرُ والشّـمـوع
حَـبـــاكَ اللهُ خــــــلّاقٌ بـــديـــــــعُ

 

أَتَيْتَ على نهجِ الأُلى سائراً

أَتَيْتَ على نهجِ الأُلى سائراً
عَلَوْتَ مقاماً أنتَ أهلٌ له
جَمَعْتَ إلى التَوْحِيدِ إِحْسَانَهُ
وَعَقْلُكَ مطبوعٌ على حِكْمَةٍ
بَرَزْتَ أديباً، شاعراً مُبدعاً
رَفَعْتَ لواءَ العدلِ صوناً له
رَصَفْتَ طريقاً لم يزل قائماً:
زَرَعْتَ سلاماً حيثما ينبغي
وإنك شيخٌ عالمٌ صالحٌ

وليس بخافٍ… للهدى حاملُ
وما لك مِثْلٌ بالتُقى نائلُ
وداعةَ نَفْسٍ ضوؤُها كاملُ
ومَعْرِفَةٍ مفهومُها شاملُ
وقدرُكَ في عين الورى شائل
ودورُك فيه ناصعٌ، ماثلُ
معاهدَ عِلْمٍ نورُها طائلُ
وخُلْقُكَ مفتاحُ الصفا فاعلُ
أُعِدَّ لِفَضْلٍ عَوْدُهُ هائلُ

 

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى
شيخُ عَقْلٍ حَسْبُهُ أَعْمَالُهُ
ناصراً للحقِّ دَوْماً، دِرْعَهُ
ثَابتَ القلبِ على نَهْجِ الأُلَى
في تَعَاطِيهِ، خَلُوقٌ، صادقٌ
إذ نوى أمراً، فَعَدْلاً مُنْجزاً
شيخُ قَوْمٍ عَزَّ لبنانُ بِهِمْ
هُمْ سُيُوفُ العُرْبِ، سَلْ تاريخَهُمْ
هم بنو معروفَ، هذا دأبُهُمْ
عَاشَرُوا دَوْماً بِإحْسانٍ، ولم
قد صَفَوا عِرْقاً، وسَامَوا مَحتِداً
شخصُهُم حُرٌّ، شجاعٌ، صادقٌ
حَرَّموا في الشِرْكِ فعلاً مُنكراً
في وَصَايَاهُمْ تَجِدْ حِفْظَ الوَفَا

رَمْزُنا في الدين والدُنيا مَعَا
ما أَتى منها لخيرٍ أو سَعَى
راسخاً فِكْراً وفِقْهاً، مَرْجِعَا
كرَّسُوا التوحيدَ دِيناً رائِعا
لَم يَكُنْ يَوْماً لِغَيْرٍ تابِعا
واجداً فيهِ صلاحاً جامِعَا
فيه كانوا شارياً لا بائعا
مَا رَضَوا ذلاً، وَرَدُّوا طامِعا
يُؤثِرونَ العَقْلَ نَهْجاً وادِعا
يَعْتدوا يوماً، وكانوا الجامِعا(1)
وارتَقَوا بالخُلْقِ حدّاً ناصِعا
مثلما يَقْضي نُهَاهُم(2) طائعا
والزِنا والقَتْلَ نَهْياً قاطِعا
شيمةً فيهم وَفْضلاً ذائعا

شروحات:

(1): العاملون للوحدة الوطنية.
(2):العقل عندهم سيد الأحكام.

مَجلِس الشّيوخ اللبناني: مقاربة دستورية – سياسية لإدارة التنوع والتعددية

ذهب العديد من الباحثين في الفكر السياسي والاجتماعي حول نمط الاجتماع في لبنان بعيداً في تقدير أهمية وخطورة تعدد فئات المجتمع اللبناني وانتماءاتها وولاءاتها، ومن دون أن يبذلوا بعض العناء للتدقيق في مدى صحة المعايير المستخدمة لتحديد «الطوائف الدينية» ومدى تناقض الفئات المكوّنة لهذا المجتمع بعضها مع بعض، فوقَعوا في شرك فهم الماضي على مقاييس الحاضر ومعطياته، آخذين مجرد الصراعات الدموية التي كانت تظهر إلى سطح العلاقات لتبرير أقوالهم وكمؤشر وحيد لدراساتهم من دون التدقيق أحيانا فيما إذا كانت هذه الصراعات تتخطى هذا السطح إلى الجوهر أم أنها كانت تمكث فيه. فلذلك تتكرر في العديد من الأبحاث مفاهيم تصف المجتمع اللبناني بأنه «مجتمع الفسيفساء» و«الفسيفساء الطائفية» و «وعاء الأقليات الدينية والقومية» والكلام عن «المشاريع والآمال المتناقضة للطوائف والمذاهب المختلفة» وصولاً إلى ما بات يشاع حول «التعددية الحضارية» و«الأصول الحضارية المتعددة» و«الخصوصيات المذهبية» وغيرها من المفاهيم التي لنا أن نشك في أسباب رواجها وفي غايات مروّجيها.

فما من «طائفة» أو «مذهب» نزعت جماعته، وتحديداً بعد اتفاق الطائف، باتجاه الانفصال عن المجتمع كليّة، وعملت على بلورة مشروعها الانفصالي بالانعزال والتقوقع، وحدّدت لنفسها المجال الجغرافي الخاص الذي يصبح الدفاع عنه وحمايته دفاعاً عن قيمها ومبادئها وخصوصياتها. أي أنّ ما من فئة تخطّت التمايز «الإيديولوجي» عن باقي الفئات باتجاه التحوّل إلى «أمّة» أو «وطن». فقد كانت كل العناوين التي تحملها الطوائف اللبنانية منتشرة في كل المناطق، وشبكة الولاءات والانتماءات قابلة للتبدل بشكل دائم وأحياناً على نطاق واسع. مما جعل كل فئة من فئات المجتمع اللبناني تلتقي مع الفئات الأخرى في قواسم مشتركة، بالقدر ذاته الذي تختلف جماعات كل فئة بداخلها. وبذلك تصبح الطوائف الدينية برمّتها مجموعة من الوحدات المتداخلة التي يصعب فصم عراها على أي أساس من أسس التمايز، تتفاعل فيما بينها، مع الاعتراف لكل منها بخصوصية معينة والتي تميّزها عن غيرها، دون أن تؤهلها بالطبع لممارسة الانغلاق على نفسها أو حتى الانعزال عن بقية الطوائف.

وبناء على ذلك، يمكن القول بأنّ المسألة الطائفية في لبنان ليست مشكلة أديان ومذاهب إذ لا يضر لبنان شيء إن كثر عدد طوائفه ومذاهبه أو قلّ. ذلك أن الديانتين المسيحية والإسلامية تقومان على الخير والمحبة والأخوّة والتسامح بين البشر، فهما بهذه القيم السامية إغناء للمجتمع، مهما تعددت طوائفهما ومذاهبهما. لكن الخطر في الأمر انخراط أربابهما في العمل السياسي وإعطاء الطائفية، عبر الدساتير والقوانين المتلاحقة، شخصية معنوية تُعنى بالشأن العام، باسم الدين الذي انبثقت أصلاً منه، في أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وهذا ما أدى إلى ضياعها بين دورها الروحي الإنساني السامي والممارسات الزمنية التي تقوم بها في شتى المجالات وعلى مختلف المستويات. فضلاً عن استغلال المشاركة الطوائفية في السلطة لتقوية مواقع النفوذ وتحقيق المكاسب على حساب الصالح العام من خلال استنفار العصبيات الطائفية، وتحويل الطائفة إلى جماعة تقيم حواجز نفسية واجتماعية بينها وبين الطوائف الأُخرى المتحصنة أيضا بخصوصياتها وذلك بهدف تجذير الانقسامات الطائفية وتعزيز الزبائنية السياسية التي هي تبعية تتميز عن الطائفية وإن كانت تتلبّس بها كتمويه (1)، من خلال أسياد وزبائن وشبكة الأسياد والزبائن المتداخلة من كل الطوائف والمذاهب، متحالفين ومتنافسين في آن معاً على المنافع وحماية المستفيدين من المنافع والهدر(2).

وربما يكون المؤسس الدستوري عام 1998 قد انطلق من هذه النقطة عند الأخذ بنظام المجلسين، في محاولة منه معالجة المسألة الطائفية، حيث كانت عبقرية في فهمها للتوازن المنشود بين الحد المقبول من الطائفية والحد المطلوب من المواطنة، هي صيغة مجلسي النواب والشيوخ، وهي الصيغة التي يُفترض أن تولد فوراً من بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، في إطار سلّة الإجراءات والخطوات والخطط التي تقرّها الهيئة ويتلقاها مجلس النواب والوزراء لتحويلها إلى قوانين ومراسيم.

فدستور الطائف 1990 وإن كان قد كرّس الاعتراف بالطوائف الدينية كركيزة أساسية للمنتظم السياسي اللبناني، فالعرف القاضي بتوزيع الرئاسات الثلاث أبقى عليه، كما أن المواد 9 و10 من الدستور المتعلقة بالطوائف وحقوقها لم يطرا أي تعديل عليها. إضافة إلى ذلك منح التعديل الدستوري في المادة 19 رؤساء الطوائف المعترف بها قانونا حق مراجعة المجلس الدستوري فيما يختص بدستورية القوانين في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، إلاّ أنه وعد بالمقابل بإقامة نظام المجلسين وتخطي الطائفية السياسية، وبالتالي إلغاء الفيتويات الفئوية المعطّلة، والزبائنية السياسية، والمحاصصة الطائفية، والاستئثار المذهبي، فيكون مجلس الشيوخ الهيئة التي تؤمن الضمانات الأساسية للطوائف وإطار مشاركتها في الدولة كمجموعات طائفية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.

وإذا كان بالإمكان القول أن مجالس الشيوخ قد حلّت بعض القضايا الحساسة في بعض الأنظمة البرلمانية التعددية حيث تلعب هذه المجالس دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على وحدة تلك البلدان، وتأمين استقرار النظام، والاستمرارية في الحكم، وبناء الديموقراطية، وعصرنة النظام السياسي، واستيعاب التبدلات التي تحصل على مستوى الجماعات والولايات، وتأمين حضورها السياسي، وبوصفها كابحة لطغيان الأغلبية العددية، فربما ينطبق الأمر نفسه في لبنان، إلا أن ذلك يستلزم بعض الشروط لما يتمتع به لبنان من وضع خاص لجهة التركيبة الاجتماعية – السياسية وحتى تداخل أزمات أزماته الداخلية مع بعض الأزمات الخارجية.

ولكن بصرف النظر عمّا يمكن أن يحققه نظام المجلسين في بلد كلبنان الذي يساوي نظامه السياسي بين الطوائف الدينية وبين المواطنين الأفراد في آن معاً، فضلاً عن محاكاته للطبيعة الثنائية عند المواطن الذي ولّد عنده شخصية مزدوجة، بين إنسان يعيش مواطنة في التشريع لممارسة الحياة بأشكالها المختلفة من جهة، وبين إنسان طائفي ينتمي إلى جماعة لها خاصيتها والتي تختلف بالضرورة عن خاصيات المواطنة من جهة أخرى. فإن نجاحه مرتبط بقدرته على التوفيق بين مشكلتين: مشكلة التمثيل النيابي الشعبي من جهة، ومن جهة أخرى مشكلة المشاركة الطائفية في القضايا المصيرية من جهة أخرى، الأمر الذي تؤكد عليه المادة 22 من الدستور من خلال إطلاقها مشروع تخطي الطائفية السياسية مقابل تثبيت المحاصصة الطائفية في مجلس الشيوخ وليس إلغاءها.

إن الجدل القائم بشأن مجلس الشيوخ، أو بعبارة أخرى حول الجدوى من وجود غرفة ثانية في البرلمان اللبناني ليس جديداً، ولا خاصاً فقط بلبنان، بل يندرج ضمن فلسفة وتاريخ الحركة البرلمانية، التي انقسمت بين مؤيّد لنظام الغرفتين من جهة، وبين متمسك بنظام الغرفة الواحدة، غير أن المطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ في لبنان لم تشهد عبر التاريخ ضوابط معينة تجعله مطلباً ملحاً وثابتاً في برامج الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.

وبينما يرى البعض، أن مجلس الشيوخ يمكن أن يشكل المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة المذهبية التي تقيده وتدفع الناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لاطائفية عند صندوق الاقتراع. وهذا من شأنه أن يحقق المساواة الكاملة بين اللبنانيين من خلال القضاء على المحاصصة السياسية، وتالياً الدفع في اتجاه دولة المواطنة. أمّا المكان الصحيح للطائفية السياسية، فهو مجلس الشيوخ حيث تنتخب الطوائف والمذاهب ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده ويتولون النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديته، الأمر الذي يتيح لها القدرة على تثبيت الضمانات والاطمئنان إلى أن وجه لبنان لن يتغير، من خلال إعطاء هذا المجلس صلاحية المناقشة والبت في الأمور والقضايا المصيرية المطروحة على مستوى الوطن.

بالمقابل، يخشى البعض الآخر، أن يتم تنظيم مجلس الشيوخ مع ضرب روحية الميثاق اللبناني، إذ ينتخب المقترعون من الطوائف المتعددة ممثلين لهم من أبناء طائفتهم ومذاهبهم مما سيؤدي إلى فرز اللبنانيين، وهذا يُعَدّ مخالفاً تماماً لمبدأ الهيئة الانتخابية الموحدة، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال الاندماج في العلاقات اليومية والتواصلية.

ولكن، كيف يمكن لوثيقة الطائف استحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني في ظل وجود شرطين أساسين يرتبطان بإنشاء مجلس الشيوخ: الأول يتعلق بآلية انتخاب الأعضاء وعددهم، والتحديد الدقيق لمفهوم «القضايا المصيرية» الذي لايزال يكتنفه غموض كبير. أما الشرط الثاني فهو مرتبط بضرورة التثبيت النهائي لطائفة رئيس مجلس الشيوخ، حيث أنّ هذه النقطة ما تزال مادة خلافية بين فريق يرى أنّها يجب أن تُعطى للمسيحيين وتحديداً للروم الأرثوذكس حفاظاً على المناصفة والعدالة في التمثيل الحقيقي لكل الطوائف، إذ لا يجوز وجود ثلاث رئاسات إسلامية مقابل واحدة مسيحية فيما يصر فريق آخر على «درزية» هذا الرئيس بالاستناد إلى المداولات في اجتماعات الطائف وما بعدها، وعلى اعتبار أن الطائفة الدرزية لا تشغل منصباً سياسياً رسمياً كبيراً على غرار الطوائف المسيحية والإسلامية الأخرى.

وفي حين أن الرئاسات ثلاث في لبنان، واحدة للموارنة واثنتان للمسلمين، لكن المؤسسات الدستورية تشمل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي الاجتماعي اللذين تعود رئاستهما للمسيحيين، وهذا يعني أن من بين 5 رئاسات هناك ثلاث للمسيحيين واثنتان للمسلمين، هذا إذا استثنينا حاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى وقيادة الجيش.

لكن في مطلق الأحوال فإن هذه المطالب الفئوية تتنافى وحقيقة مجلس الشيوخ المقترح الذي لا ينشأ حسب وثيقة الطائف قبل انتخاب مجلس نواب «على أساس وطني غير طائفي»، وهذا يعني بأن رئاسة مجلس الشيوخ لن تكون محفوظة لأيّة طائفة معينة من الطوائف اللبنانية، إلّا في حال تحويل الرئاسات الثلاث وبنص دستوري غير موجود، إلى تحديد طائفي، بدلاً من الحالة العرفية القائمة، وهذا لا يستقيم بالطبع مع مشروع تخطي الطائفية السياسية.

إنّ هذين الشرطين لا يمكن العثور عليهما في النص وهما أساسيان لوجود هذا المجلس. ولكن من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن نسخة 1926 من الدستور قد فصلت هذه الشروط من خلال النص الموجود (نصف أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية)، وهذا يدل على غياب صارخ للدقة والوضوح في نص المادة 22 الجديدة من الدستور التي لا تقدّم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، دون التطرق لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد القضايا التي تنطبق عليها صفة «المصيرية» وقضايا أخرى، الأمر الذي يدفع برأي البعض – وفي حال أردنا تفعيل هذا المجلس – إلى طرح تعديل للدستور، خاصة وأن المادة 22 التي تقول بإنشاء مجلس الشيوخ هي من باب النص الانشائي وليست نصّاً ناظماً، أي إنها أنشأت مجلس الشيوخ كفكرة أو أسست لإنشائه لكنها لم تضع التفاصيل وتأثيراته على مجلس النواب، وبالتالي يجب إعادة النظر في كل ذلك ما يقتضي إجراء تعديل دستوري لتفعيل مجلس الشيوخ.

يضاف إلى ذلك، أنّ وثيقة الطائف لم تحدد مهلة زمنية لكيفية العبور من المجتمع الطوائفي إلى المجتمع الوطني من خلال تخطي الطائفية في تركيبة مجلس النواب، وإنما اكتفت بتحديد آلية غير مرتبطة بأجل معيّن حيث نصت الفقرة (ز) من بند الإصلاحات السياسية على تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية لاقتراح الطرق الكفيلة بتخطي الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية مما جعل هذا المجلس لا يبصر النور حتى يومنا هذا.

وإذا كان هناك من يعتقد أن مفهوم الطائفية السياسية المطلوب معالجته منفصل عن الحق الذي تعطيه المادة 19 من الدستور لرؤساء الطوائف بمراجعة المجلس الدستوري، إلاّ أنّ أي مراقب محايد لوثيقة الطائف لا يمكنه إلاّ أن يتساءل عن مدى الانسجام بين النصّين: من جهة هنالك مادة تثّبت حق رؤساء الطوائف، ومن جهة ثانية مادة أخرى تنص عل مبدأ تخطي الطائفية السياسية. لذلك فإن أي اقتراح يؤدي إلى تخطي الطائفية السياسية كما جاء في المادة 95 من الدستور، قد يعترض طريقه رؤساء الطوائف أمام المجلس الدستوري، مشكلين معاً حاجزاً منيعاً للتقدم والتغيير وصولاً إلى مبدأ المواطنة والمساواة، بدلاً من الحالة المذهبية والطائفية.

بالطبع إنّ مثل هذه المسائل تحتاج الدخول في تفاصيلها لكي نعرف ما إذا كانت طبيعة تكوين الاجتماع اللبناني الذي يتألف من مجموعات من الطوائف والمذاهب الدينيّة، لا يستقيم نظامه السياسي إلّا بوجود نوعين من المؤسسات التمثيلية، يعبّر الأول منها عن وحدة أبنائه في مجلس وطني، والثاني عن تنوعهم في مجلس توافقي متوازن، فضلاً عن الانقسام الحاصل بين اللبنانيين حول مسألة تخطّي الطائفية السياسية والتي ارتبط إنشاء مجلس الشيوخ بتخطيها.
وفي حين يمثل مطلب تخطي الطائفية السياسية في مقدمة الدستور بوصفه هدفاً وطنياً أساسيّاً يقتضي العمل على تحقيقه، إلاّ أن مسألة الطائفية السياسية نراها تراوح بين مُؤيِّد مطالب بالإسراع في تخطيها، ومُستنكر مُذكّر، أو بالأحرى ملوّح، بالخطر المتربص بلبنان في حال الإبقاء عليها من جهة، ومن جهة أخرى بين من يعتبر أنه وفي ظل المجتمع اللبناني التعددي يصعب تخطي الطائفية السياسية نظراً لعدم وجود تمثيل سياسي على أساس وطني غير طائفي.

انطلاقاً من ذلك، كيف لنا أن نستولد من هذه المسائل الشاقة سياقًا لتخطي الطائفية السياسية عملياً؟
مرّة أخرى نعود إلى صيغة نظام المجلسين المقترحة في وثيقة الطائف بغية استيلاد مواطنية تزاوج بين ولاءين متناقضين مثلما تنأى عن مواطنة تمضي إلى الذوبان الكامل في بحور طوائفها ومذاهبها.

إنّ من صفات صيغة نظام المجلسين في لبنان، أنها تأخذ بسبيل الوصول إلى المواطنية الفاعلة، أي التي تدفع بالمواطنة إلى واقع ممكن التحقيق. إذ بينما تعترف هذه الصيغة بالمواطنة المركّبة كحالة موضوعية للبنان ترسخّت على امتداد زمن طويل من الحروب والتسويات والعقود السياسية، تروح تحفر مجراها المغاير للمألوف الطائفي، فإذا كانت القوانين والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام الطائفي، فإنّ تبديلها بقوانين وأعراف مدنية لاطائفية سيولِّد سيرورة جديدة من الآمال بوطن موحّد ومواطنية جامعة.

إن مستهل الطريق إلى مواطنية بهذا التوصيف تستلزم تثمير التسويات التي عادة ما تعقب النزاعات والحروب الأهلية. كأن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانين والمواثيق الجديدة، تطلق سيرورة من الخطوط والعمليات السلمية على قاعدة فك الاشتباك المزمن بين الطائفي والوطني، كعاملين منتجين لازدواجية الانتماء والولاء في البيئة التاريخية اللبنانية.

وإذا كانت المطالبة بإجراءات إصلاحية في قانون الانتخاب، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس وطني لا طائفي تدخل في هذا السياق، فإن تربية المواطن على حضوره كفاعل في فضاء الوطن هي أساس العملية التغييرية المنشودة.

ذلك أنّ المواطنية الفاعلة هي التي تنتج المواطن المتواصل مع نظيره في الوطن، لا على أساس التقابل الطائفي، وإنّما على أرض الولاء لعقيدة أساسها المصلحة الوطنية العليا.

هذا ما أضاء عليه كثيرون من المفكرين، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين اللبنانيين، حين وجدوا أنّ العنف الأهلي مصدره الاستبداد بالرأي، وأنّ من استبد برأيه كان مآله الهلاك، وأن الطغيان يبتدئ – حسب جون لوك – حيث تنتهي سلطة القانون، وتُنتهَكُ حُرمة الآخرين.
مستهل الرحلة باتجاه مواطنية الولاء، هو تظهير مكامن الفطرة الخيّرة في نفوس اللبنانيين، وترجيح العام الوطني على الخاص الطائفي، وكل ذلك بعقلانية مسدّدة بالأخلاق حتى يرجع اللبنانيون إلى بيت الحكمة. ولبيت الحكمة منازل كثيرة كما في مأثور القديس يوحنا في إنجيله. فإذا ما تم تنظيف السقوف اللبنانية بالمعاسف إذ يجب أن يتم تنظيفها مما عُلّق فيها على مرّ الزمان من نسيج العنكبوت فستكون هنالك طرق لا متناهية يمكن من خلالها إعادة النظر في تاريخ لبنان، وصياغته على نشأة الإدراك لحقيقة الوطن والمواطنة.

ونحن وإن كنا لا ننكر ما لصيغة المجلسين من حسنات وفضائل، فإننا نعترف أنها كغيرها من الصيغ الأخرى تبقى بالنسبة إلى نجاحها أو فشلها، رهن الظروف الموضوعية والأساليب التطبيقية، فقيمة أي صيغة لا تكمن في المواد الدستورية التي تتكون منها، وإنما في الإرادة المصممة على تطبيقها والرغبة الصادقة في رعايتها واحترامها والتوافق الشامل على وجوب إقرارها ووضعها موضع التنفيذ.

وعليه، يُطرح السؤال: هل يمكن إنشاء مجلس شيوخ وفق ما هو مطروح في صيغة الطائف؟ أم أن الطائفية هي قدَر اللبنانيين، وأن مسألة التصدي لها لا تزال تحتاج إلى القول الشجاع والموقف الحاسم؟

لقد دلّت التجارب العالمية على أن نظام المجلسين يشكل في بلد متعدد الطوائف كلبنان توفيقاً بين مسألة التمثيل النيابي الشعبي ومسألة مشاركة الطوائف في القضايا المصيرية، مع ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية كما هو الحال في التجربة الفرنسية، خاصة وأن اللامركزية الإدارية واللامركزية الإنمائية تشكلان في الدولة الحديثة قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية والمشاركة الشعبية في تسيير الأمور الحياتية وتسهيلها. كما أن الإنماء المتوازن يعتبر أحد أوجه العدالة الاجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الطبقية داخل المجتمع.

ولكن أي بحث حول إلغاء « الطائفية « أو تخطيها أو معالجتها أو في قاعدة الكوتا، تطبيقاً أو تغييراً أو تعديلاً، لا فاعلية علمية له قبل البت بموضوع الهيئة الوطنية المنوي إنشاؤها بموجب المادة 95 الجديدة من الدستور التي توكِل إلى هيئة وطنية عليا وضع خطة لتخطي الممارسات الطائفية تجنُّباً لطرح هذا الموضوع في السوق السياسية للتحريض والتفجير وتغذية النزاعات (3).

وبالتالي فإن قضية مجلس الشيوخ مرتبطة إلى حد كبير بالهيئة الوطنية التي تتمتع بدور هام في مقاربة مسألة تخطي الطائفية من ناحية تحديد العلاقة بين الدولة والطوائف (4)، وضرورة تحديد مهل لهذا الموضوع تترافق مع لحظ ديناميكية اجتماعية وسياسية في التغيير، إذ إنّ قضايا التغيير السياسي في لبنان لا تُطرح في أجواء تحريضية وبهدف الفتنة السياسية (5). كما أن المهل القانونية المحض هي بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء(6).

من هنا تبدو أهمية قانون الانتخابات على أساس النسبية والذي يشكل نقلة إصلاحية نوعية قادرة على تحسين التمثيل السياسي، وعلى استيعاب جانب من تعقيدات الواقع الطائفي، وتوسيع خيارات الناخبين، والتخفيف من هيمنة الطوائف على مجرى العملية الانتخابية، مما يقرّبنا بالتالي من تطبيق اتفاق الطائف الذي يتحدث عن تخطي الطائفية السياسية كهدف وطني، وأنْ «لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك»، وأن الانصهار الوطني يتحقق في سياق إعادة النظر بالدوائر الانتخابية.لكن هل يعني هذا الكلام أن لبنان سيظل دون مجلس للشيوخ إلى حين تخطي الطائفية السياسية؟ ألا يمكن الاستئناس في هذا الخصوص، بالطرح الذي قدّمه رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي دعا فيه إلى إنشاء مجلس شيوخ لا يترافق مع تخطي الطائفية السياسية، وإشارته إلى أن تعبير «مجلس نواب وطني لا طائفي» الوارد في المادة 22 من الدستور يعني المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وبالتالي يجوز تفسير كلمة «وطني» على قاعدة المناصفة تلك؟

إنَّ اللبنانيين على مر العهود، ولاسيما في مراحل عهد الاستقلال لم يعتمدوا الوسائل الكفيلة بمعالجة مسألة الطائفية ومن خلال رؤية واضحة وتحليل علمي دقيق، وخلق وعي عام ثقافي وفكري وسياسي وخلق إرادة حقيقية في التغيير. فكل التسويات التي تحققت بعد الحروب التي اندلعت في البلد خلال عمره القصير، إنما حصلت على أسس طائفية، ولم يكن ممكنا أن تكون غير ذلك، طالما أن الحروب ذاتها تم خوضها تحت شعارات وبأزياء طائفية أدت إلى ترسيخ الكيان الطائفي والمفهوم الطائفي في النظام اللبناني، على كافة الصعد السياسية والإدارية والانتخابية، ما يجعل مطلب تخطي الطائفية السياسية أمراً متعذّراً في المدى القريب، خاصة وأن لهذه الطائفية جذوراً عميقة، تعود في بنيتها الفكرية والاجتماعية إلى عصور مديدة في الزمن. فبعد أن كانت سداسية الرؤوس في نظامي القائمقاميتين والمتصرفية (ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، درزي)، أينعت في عهد الانتداب الفرنسي فبلغت سبع عشرة طائفة معترفاً بها رسمياً في قرار المفوض السامي رقم 60 تاريخ 13 آذار/ مارس 1936، ليرتفع هذا العدد إلى ثماني عشرة طائفة بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وقد أصبحت جزءاً من الممارسة اليومية في لبنان.

بناء على ذلك، يمكن القول إنّ الممارسة الطائفية منذ تطبيق اتفاق الطائف زادت حدّة واتسع نطاقها، وقد ساعدت على ذلك المتغيرات الديمغرافية، وتأثيرها على القيم العامة الثقافية والسياسية، وانعكاسها على القوى الموجودة في مواقع القرار، مثل المجلس النيابي والحكومة والإدارات العامة. كما أنه لا يمكن أن ننكر أن التنافس والصراع على السلطة بين الطوائف هو جزء لا يتجزّأ من التاريخ السياسي للبنان منذ زمن بعيد. وإذا كنا نشهد ما نشهده من صراع طائفي ومذهبي حول التعيينات الإدارية والوظائف العامة وتحديداً تلك التي نصّ اتفاق الطائف صراحة على إلغاء ارتباطها بالتمثيل الطائفي، فكيف سيكون الحال عندما يصل المعنيون إلى إلغاء الطائفية كليّاً من التمثيل النيابي؟

ومادام هناك من لا يرضى بمعالجة مسألة الطائفية أو حتى بمجرد طرحها في الوقت الحاضر، فهذا يعني أن موضوع مجلس الشيوخ حسب صيغة اتفاق الطائف أمر مؤجّل، إلاّ في حالة واحدة وهي تعديل الدستور والنص على إنشاء مجلس شيوخ مع الإبقاء على مجلس نواب طائفي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وعندها يُطرح السؤال عن مبرر إنشاء مجلسين طائفيين في البرلمان اللبناني؟
ولئن يكن قيام مجلس الشيوخ وارتباطه بتخطي الطائفية السياسية عملية بالغة التعقيد، كمن يقول بأن الثلج لا يصلح وقوداً للنار ولا النار وعاء للثلج، إلّا أن ذلك لا يعفينا من الالتزام بنظام المجلسين. فالمطلوب هو إصلاح نظام المجلسين، وليس إلغاء نظام المجلسين. وبالتالي يجب البحث منذ الآن عن مقاربة استثنائية وقراءة واقعية لطبيعة ما نرمي إليه، حيث إنّ مسألة استحداث مجلس للشيوخ، على مركزيتها وأهميتها، يجب أن تكون مقاربتها مبنية على قاعدة وطنية تؤمّن تمثيل اللبنانيين على مستوى الأفراد والجماعات، وفي إطار المجتمع اللبناني الضامن للوحدة والتعددية. وذلك بهدف تحرير مجلس النواب في وقت لاحق من القيود الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيدا عن الحساسيات الضّيقة والمناكفات الفئوية. حيث يمكن للبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتورات) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، بشكل يؤمن حماية حقوق المواطن والطوائف والمذهب في آن معا.

وإذا كان التمثيل المتساوي لجميع الطوائف حلّاً مرضياً للطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة، الشيعة، السُنّة)، إلّا أن تمثيلاً لكل طائفة ومذهب يبقى أمراً أساسياً لتمكين مجلس الشيوخ من القيام بدوره كضامن لتمثيل الطوائف والمذاهب، ويمكن في هذا المضمار العودة إلى الحل العادل الذي اعتمده «الاتفاق الثلاثي» الآنف الذكر، للطوائف في المرحلة الانتقالية، أي المُثالثة ضمن المناصفة (أي التمثيل المتساوي للطوائف الرئيسية الثلاث مع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين). أما فيما يختصّ بأصول انتخاب هذا المجلس فتبدو الضمانة الطائفية أكثر إلحاحاً، ولئن تكن الهيئة الانتخابية المختلطة طائفياً، كما يلاحظ «بيار روندو» بحق، تدفع نحو الاعتدال الطائفي في ظل المجلس الواحد، فهي أسهمت في إضعاف فعالية هذا المجلس ولا سيما في الفترات العصيبة وحملت الطوائف على البحث عن وسائل ومؤسسات أخرى للتعبير عن حقيقة آرائها ومصالحها، كان أهمها المؤسسات الدينية.
وعلى أيّة حال ليس هناك من ضابط للشهوات الفالتة إلّا التمثيل الصحيح والأمين «للعائلات الروحية» في مجلس الشيوخ، باعتباره المانع الأساسي، في الظروف الراهنة، لتحوّل السباق بين الطوائف والمذاهب إلى اقتتال. وليس عيباً، برأينا، إذا كان لبنان كما وصفه سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر بلد التعايش الإسلامي المسيحي وهو ما يجعله ثروة يجب التمسك بها أو كما نظر إليه الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وأوصى بالحفاظ عليه تجربة حضارية وإنسانية لا مثيل لها في هذا الشرق، بل العيب أن نظلّ نكذب على أنفسنا وعلى اللبنانيين جميعا بأنّ كل الحق على ممارسة الحكم بالتراضي، أو كما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية» التي قليلا ما تشبه، التجارب التوافقية التي اعتمدتها بلدان أخرى أو أن نضع كلّ اللوم على الطائفية السياسية مما يستدعي إلغاءها، كما لو أن بهذا الإلغاء تزول المخاوف والشهوات وتستوي موازين العدالة والمساواة، ويزول بزوالها التعايش الهشّ بين اللبنانيين والمشوب بالشك والحذر. إنّه كلام يقال منذ فترة الاستقلال، بل منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير عام 1920، حتى غدا أشبه بترهيب لكل من يرى العكس.

كما أنّ مقاربة مسألة « الطائفية» ذات المضامين الواردة في ست مواد أساسية من الدستور اللبناني ( 9-10-19-49-65-95)، يعتبره قانونيون ودستوريون وكأنه قانون مشوّه، droit perverti، ويعتبره أخصائيون في العلوم الانسانية عامة وكأنه علم اجتماع فاسد، في حين أن مجرد ورود نصوص في الدستور يعني بداهة أن «الطائفية» حتى في أسوأ مظاهرها هي خاضعة لمعايير وقواعد حقوقية وليست خارج القانون(7). فالنظام الذي نسميه طائفياً هو عملياً غير مطبّق في لبنان – قانونياً – في كل مُندرجاته حيث إنّ قاعدة الكوتا تخضع لشروط إدارية وقانونية وليس إلى علاقات نفوذ زبائنية، وحيث إنّ المادة 9 من الدستور تنص على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة»، مما يوجب عدم إجبار أي شخص في الانتماء إلى طائفة واعتماد نظام منفتح في الأحوال الشخصية(8).

وعليه، فإن الثنائية البرلمانية التي تقوم كمرحلة انتقالية على إنشاء مجلس للشيوخ دون إلغاء الطائفية السياسية من جهة، إلى جانب مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، هي ثنائية نموذجية برأينا، ينبغي التركيز على إصلاحها، وعلى تنفيذها، لتحقّق غاياتها المرجوّة منها، كما هي ليست ثنائية الضرورة، هي ثنائية الاختيار، وهي ثنائية مناسبة لطبيعة لبنان، لأنها توافق وتحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدّم والازدهار، وتعزيز الثقة والاندماج بين جميع مكونات الشعب. وهي ثنائية لا تلغي التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي اللبناني، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على الاعتراف بحقوق الطوائف والمذاهب، وعلى احترام التنوع وليس على نفيه، حتى يشعر جميع اللبنانيين أفراداً وجماعات بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة. وهي ثنائية تمكّن الطوائف الدينية من التخلي تدريجيا عن الرعاية والحماية الخارجية، مقابل ضمانات من شركائها في الوطن.

لذلك، فإن مفهوم هذه الثنائية البرلمانية لا يكتمل على الصعيد الواقعي في لبنان، إلّا بتعزيز دولة الإنسان اللبناني تلك الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأفكار مواطنيها، بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله الطائفية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثّل في النهاية مجموع إرادات الأفراد والجماعات المكوّنة لها، وتؤمن الأمن والطمأنينة لكل المواطنين.

لسنا هنا بصدد محاكاة أحلام خيالية، فكما أنّ العداوات والحروب صار تركيبها على أيدي اللبنانيين فيما تولّت العوامل الاجتماعية والثقافية تقديسها، كذلك يمكن استئصالها من ذاكرتنا. ليس مستحيلاً، بل وليس صعباً، أن يعاد تكوين الولاءات المجتمعية في لبنان. فالمجتمع، متى تسنّت له قيادات حكيمة وأنتلجنسيا تتمتع بخطاب لا يثير القرف من كثرة ما استُهلك حول «الطائفية» و «الطائفية السياسية» و «العلمنة» وما إلى ذلك من الكلمات القذائف(9)، فعندها يمكن للبنان أن يشكل في إدارته العقلانية للتنوع أمثولة لدول عربية تتحكم فيها طائفية من لون واحد ويتقوقع فيها المواطن في الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.
إنّه التحدي والمصير الأكبر الذي ينتظر بلداً جَعَلْنا منه دولة ولكن لم نعرف كيف نرفعه إلى مرتبة وطن.


المراجع:

1- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 208.
2- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص: 207.
3- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص:155.
4- المرجع السابق، ص: 336.
5- المرجع نفسه، ص:155.
6- المرجع نفسه، ص:94.
7- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 404.
8- المرجع السابق، ص: 429-430.
9- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سابق، ص: 356.

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات
أولًا: أسباب أخذ الأنظمة الديمقراطية بنظام المجلس في النظم البرلمانية بالعالم:

توجد قاعدتان بالنسبة إلى تكوين السلطة التشريعية.

القاعدة الأولى: أن يأخذ النظام البرلماني، بفكرة المجلس الواحد كما هو الحال في لبنان وفق منطوق المادة 16 من الدستور.

القاعدة الثانية: أن يأخذ النظام البرلماني بفكرة المجلسين. وهذان المجلسان يسميان بأسماء مختلفة. مثلًا في بريطانيا مجلس العموم (وهو يمثل نواب الأمة) ومجلس اللوردات (كان يوصف في السابق بأنه مجلس الأعيان).

أما في الولايات المتحدة فيوجد مجلس نواب يقابله مجلس شيوخ. وعلى رغم تعدد التسميات إلا أن السلطة التشريعية بمجلسيها(النواب والشيوخ) إذا اجتمعا مع بعضيهما البعض يطلق عليهما اسم (البرلمان).

بعد هذا السرد الموجز نطرح السؤال التالي: لماذا تأخذ بعض الأنظمة البرلمانية بنظام المجلسين؟
ليس الهدف هنا اتباع نمط محدد في تكوين السلطة التشريعية ولكن هنالك أسباب واقعية متصلة مباشرة بالتشريع وأخرى هي المغايرة في التكوين وهي:

أـ أسباب متصلة بالتشريع:

1. كبح جماح مجلس النواب في التشريع:
لا نقصد البتة أن كبح جماح مجلس النواب بالتشريع يعني عرقلة عمله، لكن يجب أن نعرف أن مجلس النواب بكونه يمثل الشعب بعمومه. وهو أشد اتصالًا بموجب ذلك بالشعب، لذلك يحاول الأخير تلبية المطالب الشعبية، التي تصل إليه إما من محتجين على تصرف حكومي أو متظاهرين ضد سلوك اعتبروه خروجاً عن الأصول المتعارَف عليها أو أحيانًا ترتقي الاحتجاجات إلى مستوى ثورة شعبية.
وتحت وطأة كل هذا يُصدر مجلس النواب قانون يلبي مطالب الجماهير. ولكن يتوجب وجود جهة أخرى تتصدى لمجلس النواب، وذلك بالاعتراض، وهذا ما يفعله مجلس الشيوخ.

2. عقلنة التشريع:
نلاحظ في بعض التشريعات في لبنان، وجود ثغرات قانونية، وصيغ غير واضحة، وأحيانًا يقر المجلس قانون يناقض في بعض جزئياته قوانين أخرى مما يؤدي إلى فوضى تشريعية. لكن في ظل وجود مجلس شيوخ مثل هذا التناقض والتضارب بين القوانين لا يمكن أن يحدث. حيث إنّ مجلس الشيوخ سوف يناقش القوانين ويسعى إلى عقلنتها، وجعلها منسجمة مع بعضها البعض ضمن المنظومة القانونية للدولة.

3. التروّي في التشريع:
قد يكون مجلس النواب صائباً في ما أقرّه لقانون ما. كَوْن ذلك القانون يعتبر كبارقة علاج وخلاص حتمية في المجتمع لكن المصلحة العليا للبلاد ومصلحة المجتمع تقضيان بعدم إقراره في تلك الفترة بالذات (حرب ـ ثورة ـ عدوان خارجي) فيكون من واجب مجلس الشيوخ، التصدي لما يقره مجلس النواب. فيتريث إلى حين تسمح الظروف إقرار ذلك القانون. لهذا كله تأخذ بعض الأنظمة الديموقراطية بنظام المجلسين.

ب ـ أسباب متصلة في المغايرة بالتكوين:

1. بالنسبة للسن: ترغب بعض الدول أن يكون سن العضو في مجلس الشيوخ أكبر من سن العضو في مجلس النواب وذلك كون الكبار يملكون الحكمة والتروي والعمل والدراية في الشأن العام لذلك ترفع الدول سن عضو مجلس الشيوخ.

2. المغايرة في التكوين: فقد يكون مجلس الشيوخ هو مجلس يمثل أقاليم الدولة حيث يكون لكل إقليم عدد مساوٍ لغيره من أقاليم الدولة.

3. المغايرة في العدد: دائمًا عدد مجلس الشيوخ أقل من عدد مجلس النواب.

4. المغايرة في بعض الصلاحيات: بعض القوانين لا تدخل في صلاحية مجلس الشيوخ فهي متروكة لمجلس النواب. أما بعض القوانين الهامة فيُعقد الاختصاص بها لمجلس الشيوخ.

5. المغايرة في الانتخاب: حيث يكون لمجلس الشيوخ أسبابه في انتخاب أعضائه تتماشى مع هدف من يمثّل (المقاطعات ـ الاقليات ـ الطوائف).
بعد كل هذا نسأل هل لبنان بإمكانه أن يأخذ بنظام المجلسين وهل هنالك نصوص حالية تشير إلى الأخذ بنظام المجلسين؟

ثانيًا: مجلس الشيوخ في لبنان بين النشأة والإلغاء الأول:

أـ نشأة مجلس الشيوخ اللبناني:
1.إنشاء ثم إلغاء لمجلس الشيوخ

الأمير فؤاد أرسلان

بعد الاحتلال الفرنسي المباشر الذي استمر من عام 1920 حتى عام 1926 وابتداءً من أول أيلول سنة 1926، تغير اسم البلاد من دولة لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية دون أي تبديل أو تعديل آخر.

وبذلك أبصر النظام الجمهوري في لبنان نور الوجود وسبق إعلان الجمهورية إعلان وضع الدستور في 23/أيار 1926 وهذا الدستور نص في مادته 16 على أن «يتولّى السلطة التشريعية هيئتان، مجلس الشيوخ ومجلس النواب».

حتى أن الدستور نص على أكثر من ذلك تحديدًا في المادة 22 « يؤلَّف مجلس الشيوخ من ستة عشر عضوًا يعيّن رئيس الحكومة سبعة منهم بعد استطلاع رأي الوزراء ويُنتخب الباقون وتكون مدة ولاية عضو مجلس الشيوخ ست سنوات ويمكن أن يعاد انتخاب الشيوخ الذين انتهت مدة ولايتهم وأن يُحدَّد تعيينهم على التوالي».

من هنا نستنتج أن المشرِّع حزم أمره، بالإعلان وبموجب المادة 16 من الدستور أن «يتولى السلطة التشريعية هيئتان مجلس الشيوخ ومجلس النواب». بل إنَّ المادة 22 من الدستور بينت عدد مجلس الشيوخ وكيفية انتخابهم وتعيينهم ومدة ولايتهم ومدى التجديد لهم.

وبالفعل أجريت انتخابات نيابية، ومثّل الطائفة الدرزية في مجلس الشيوخ الأمير فؤاد أرسلان ولكن وفي قرار مفاجئ، ألغى المفوض السامي النصوص الناظمة لوجود مجلس الشيوخ.

ب ـ أسباب إلغاء مجلس الشيوخ
1ـ الأسباب التمثيلية: خَلْق نظام مَجلِسي يمثل الطوائف وتمثيل المقاطعات والاختصاصات.

2ـ الأسباب التشريعية: وُضعت صلاحيات دستورية عدة لمجلس الشيوخ منها حق إحالة أي قانون إليه من مجلس النواب والبت في الموازنة وإبداء الرأي في شكل وعدد أعضاء الحكومة وغيرها من الصلاحيات.
أسباب دفع المشرّع إلى إلغاء مجلس الشيوخ:
ـ البطء في إقرار التشريعات
ـ عرقلة عمل الحكومة ورئيس الجمهورية.
ـ عرقلة تأليف الحكومة: حيث حصل أن أعلن مجلس الشيوخ صراحة أنه غير مستعد للتعامل مع حكومة يزيد عددها عن ثلاثة وزراء لأن البلاد ليست بحاجة لأكثر من هذا العدد.

3ـ الأسباب السياسية والاستعمارية:
أـ الأسباب السياسية:
ـ رأت بعض الأوساط السياسية، أن مجلس الشيوخ يشل عمل السلطة التشريعية. وفي الحقيقة هدفها الخفي، حرمان من هو من نفس طائفتها من التمثيل في مجلس الشيوخ، خصوصًا أنها أي تلك الأوساط ممثلة في مجلس النواب، ويمنع عليها الدستور أن تمثل في مجلس الشيوخ.
ـ عرقلة عمل الحكومة من خلال الاعتراض على مشاريع القوانين.

ب ـ الأسباب الاستعمارية:
ـ رغبة المستعمر الفرنسي في العمل السياسي السريع، فالتروِّي يزعزع وجوده ويحد من قدرته على التغيير السريع. فهو يريد إصدار القوانين بأقصى سرعة. لذلك وجدنا معظم قوانين لبنان قرارات صادرة عن المفوض السامي. وهذه السرعة مقصودة لأغراض استعمارية مثل تمرير المعاهدات والقوانين التي تخدم الوجود الفرنسي في لبنان.
ـ الثورة السورية الكبرى: تلك الثورة التي أشعلت سوريا ولبنان في بعض مناطق (جبل عامل ـ حاصبيا ـ راشيا) وقادها سلطان باشا الاطرش. وفهمت فرنسا الرسالة، وأرادت إقصاء دروز لبنان عن لعب أي دور محوري، وخصوصًا بدا أن رئاسة مجلس الشيوخ، قد تؤول إلى الطائفة الدرزية. رغم عدم البدء في تلك الفترة، في ترسيخ الأعراف الدستورية. فالدستور عمره حينها عام، وكان من المحتمل أن تؤول تلك الرئاسة للدروز، لذلك وعقابًا لهم ولثورتهم عليها، أعلنت فرنسا ممثلة بالمفوض السامي إلغاء مجلس الشيوخ.

ثالثًا: مجلس الشيوخ في لبنان وفق نصوص الطائف:

لحظت وثيقة الوفاق الوطني الموقعة بالطائف، ضرورة تعديل النظام السياسي في لبنان وبموجب القانون 18 لعام 1991، أقرت تعديلات الطائف في مدينة القليعات البقاعية ولكن السؤال هنا، لماذا لم ينشأ مجلس الشيوخ في لبنان بعد إقراره مند ثلاثين عاماً؟

هل السبب نصوص دستورية؟ أم السبب سياسي؟
في النصوص الدستورية وتحليلها:
أول نص في الدستور اللبناني بعد الطائف، يشير إلى إنشاء مجلس الشيوخ، هو نص المادة 22 «الذي ينص: مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
ولما كان هذا النص يشير إلى المرحلة التي يجب استحداث مجلس للشيوخ وإلى صلاحياته ومكوناته. جاء نص المادة 95 من الدستور ليشير، إلى أبعد من ذلك فهو يوجب «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».

مهمة الهيئة الوطنية هي دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

وبذلك يكون نص المادة 22 من الدستور، أعلن إعادة اعتناق النظام البرلماني اللبناني فكرة نظام المجلسين في السلطة التشريعية. ولكن وقع إنشاء مجلس الشيوخ بشرك التعجيز والاستحالة بموجب نصوص إنشائه. فما هي أخطار التعجيز والاستحالة في إنشاء مجلس الشيوخ؟ وما هي الحلول المقترحة لإنهائهما؟

1ـ بالنسبة لنص المادة 95 من الدستور:
لقد أرست هذه المادة قاعدة التمثيل النيابي مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وبالفعل انتُخبت عدة مجالس نيابية على أساس المناصفة فمنذ عام 1992 حتى يومنا هذا. وبذلك حُلّت أول العقد أمام إنشاء مجلس للشيوخ. خصوصًا أنّ المادة 95 أضافت ضرورة «اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية» وأضافت» مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».

لكن هذه المادة حددت المسار القانوني لإلغاء الطائفية وهي:
ـ اتخاذ الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية:
لم تحدد تلك المادة ما هي الإجراءات الملائمة. هل هي قوانين؟ أم هل هي تهيئة سياسية واجتماعية وفكرية مترافقة مع حملة إعلامية وطنية واسعة تبين أهمية إلغاء الطائفية في لبنان؟
فكان حَريِاً بالمشرع توضيح هذه النقطة بما لا يقبل الشك.
ـ الخطة المرحلية / إن الإجراءات التي تشير إليها المادة 95 هي « خطة مرحلية « وهنا وقع المشرع في صياغة غير واضحة ولا يسعفه نص المادة 22 من الدستور في تحديد نهايتها ولا حتى في بداية العمل بالخطة المرحلية.

على أن كل ما سبق، أي الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية والخطة المرحلية رغم صعوبة تحديدهما، إلّا أنهما مرتبطان تمامًا وفق نص المادة 95 بـ « تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».
وكما سبق الذكر فإنّ مهمة الهيئة هي دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية.

نستنتج من ذلك أن الهيئة شرط أساسي لإلغاء الطائفية السياسية وما التوسع في تشكيلها إلا أمر ضروري بموافقة الجميع، بل إن ما من دراسة إلّا ستكون عبر الهيئة الوطنية ولها وحدها، حق تقديم الدراسة إلى مجلسي النواب والوزراء، إذاً فمظاهر الاستحالة هنا واضحة في الدراسة لإلغاء الطائفية. وفي المرحلة الانتقالية وفي تكوين الهيئة الوطنية المشروطة بدراسة مستحيلة التحقق، وإنّ عدم وجود تلك الهيئة يعني عدم القدرة على متابعة الخطة المرحلية كون تلك الهيئة دون سواها، لها متابعة الخطة المرحلية وبذلك أفرغت الصيغ القانونية المادة 95 من معناها لجهة إلغاء الطائفية السياسية.

2ـ بالنسبة لنص المادة 22 من الدستور:
على أن الصيغ المستحيلة التي فرضتها المادة 95 بلغت ذروتها في نص المادة 22 من الدستور. سواء لجهة استحداث مجلس للشيوخ، أم لجهة الصلاحيات المنوي إعطاؤها لهذا المجلس. فنصّت « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستَحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

فبعد آليات إلغاء الطائفية المستحيلة وفق نص المادة 95 من الدستور أتت المادة 22 منه لتقرن تلك الاستحالة باستحالة جديدة، مرتبطة كل الارتباط بإلغاء الطائفية السياسية وهي « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ».
وهذا النص أغلق الباب نهائيًا على البحث في إنشاء مجلس للشيوخ. والأخير لا يمكن الوصول إليه دون تطبيق نص المادة 95 الذي دونه عقبات سبق شرحها.
إضافة إلى حصر مهام المجلس في قضايا مصيرية وهو معنى واسع يحتمل الكثير من التفسيرات.

3ـ الحلول المقترحة:
لجهة النصوص الهادفة لإنشاء مجلس الشيوخ، سواء كان نص المادة 22 أو 95 من الدستور نجد ضرورة الاستغناء عنهما، ووضع نص واضح مثل:
« يُنشأ مجلس للشيوخ، ويُحدَّد عدد أعضائه وفق قانون الانتخاب المَرعي الإجراء وتنحصر صلاحياته بما يلي:
تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، إقرار الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو الغاؤها، الموازنة العامة، تعيين موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، قانون الانتخاب، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، اطلاعه من خلال رئيسه على نتائج الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة، المصادقة على البيان الوزاري بعد إقراره في مجلس النواب فإذا استغنى المشرع عن نص المادة 22 و 95 من الدستور، فقط في الصيغ المتعلقة بإنشاء مجلس للشيوخ، يكون قد سعى حقيقة لإنشاء غرفة ثانية في البرلمان اسمها مجلس الشيوخ.
رابعًا: الأسباب الموجبة لإسناد رئاسة مجلس الشيوخ للطائفة الدرزية.
هنالك عدة أسباب توجب تولي الطائفة الدرزية رئاسة مجلس الشيوخ منها:
أـ الأسباب التاريخية والسياسية:
لقد حكم الدروز لبنان منذ عام 758 ميلادية حتى عام 1861 أي قرابة ألف عام لم يستطع غازٍ إنهاء سيطرتهم وحمايتهم للبنان، وبهم وبأمرائهم تكوّن لبنان السياسي. فهم أول من تمتع في الخلافة العباسية بالاستقلال الذاتي عن بغداد، وهم أول الفرق الإسلامية التي صدت الغزو الصليبي عن الشرق وانتصرت في معارك ضدهم في عهد الأمراء التنوخيين.

وبعد انقراض السلالة التنوخية، تابع الأمراء المعنيين بناء لبنان السياسي، ولكن بسمات استقلالية أوسع وأوضح وأثبت من ذي قبل، كلّفتهم الكثير من إبعاد واعتقال وإعدام بالجملة لأسرة الامير فخر الدين المعني الثاني الذي وصفه المؤرخون بـ أبو الاستقلال الوطني الأول. حيث تمكّن من بناء دولة مستقلة.

تابع الأمراء الشهابيون – انسباء الأمراء المعنيين – صناعة لبنان المستقل لكن انتهى حكمهم ومعه حكم الدروز للبنان. لهذه الأسباب كلها توجب إعادة الاعتبار السياسي للدروز في مجلس الشيوخ، لدورهم التاريخي والسياسي في قيادة هذه البلاد وحمايتها.

الأمير فخر الدين

ب- الأسباب الواقعية والقانونية
لقد وُزِّعت الرئاسات الثلاث فنال المسيحيون رأس الهرم (رئاسة الجمهورية) ونال المسلمون الشيعة الرئاسة الثانية، والمسلمون السنة الرئاسة الثالثة، ونالت الطوائف المسيحية منصبَي (نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء) وهذا التوزيع الطائفي ليس فيه خلل فالكل حصل على موقعه لكن واقعيًا تعداد سكان لبنان كشف عن أن نسبة المسيحيين من مجمل عدد سكان لبنان تساوي الثلث أو أكثر بقليل مما دفعنا إلى القول إنّ رئاسة مجلس الشيوخ يجب أن تكون من حصة المسلمين الدروز. خصوصًا إن كل طائفة إسلامية حازت على رئاسة إلا المسلمون الموحدون الدروز.

ج ـ المساواة التي يطالب بها الدستور:
نصت المادة رقم 7 من الدستور على «كل اللبنانيين سَواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم».

وهذه الصيغة تتبعها صيغة نص المادة 95 التي تطالب «وفي المرحلة الانتقالية:
أـ تُمثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة من هنا الدستور يلتزم بعدم التمييز بين المواطنين وبأنهم سواء أمام القانون وفق المادة 7 منه وتؤكد المادة 95 وفي المرحلة الانتقالية تُشَكل الوزارة بصورة عادلة وهذا ما حصل في تشكيل الحكومات. ولكن السؤال هنا؟ هل إنْ طَلبَ اللبنانيون العدالة في التمثيل بالسلطة التنفيذية، سيقابله أيضاً المطالبة بالعدالة في السلطة التشريعية، والحال كذلك، أفلا يعني ذلك أن على الدروز طلب العدالة لأنفسهم من خلال حصولهم على رئاسة مجلس الشيوخ؟
نعم يحق للدروز بالرئاسة الرابعة في البلاد للأسباب السابقة التي عرضناها، مع أنّ الأمر سيبقى رهناً بالتجاذبات السياسية في هذ البلد.

خلاصات مرحلة مثمرة

استخدمَ الأميرُ السيِّدُ مصطلح «سياسة» في معرِض توضيح واجبات الَّذي يُولَّى – لثباتِه في الفضل – مسؤوليَّة الحفاظ على السَّالكِين في مدارج الطَّاعة وفق شروط سلوكٍ من شأنه أن يُثمِرَ في الرُّوح اتّزاناً لطبائع الخيْر. وهذا الاتّزانُ هو «بيتُ الدِّين» ولا بيت للدِّين سواه.

ينطبقُ القصدُ الرّوحاني للمفهُوم على التّفسير اللغويّ ل»السّياسة» وهو: القيامُ على الشَّيءِ بما يُصلحُه. وإصلاحُ «الأخْيار» يوجبُ معرفةً تُحقِّقُ في ذاتِ القائم بالأمر الاتِّزان اللطيف، وإلَّا كيف لمن لم يفلِح في إضاءةِ سراج قلبه أن يضيءَ قلبَ ساعٍ في الخيْر إلى نبْع النُّور!

يُـنـبِّهُ الأميرُ السيِّدُ على وجود «تفرُّعات» في أنواع السّياسة، وهذا مردّهُ إلى تنوُّعِ «أهل الإجابة بمقدار القوى والاستطاعات». وهذا أمرٌ بالغ الدقَّة، وخطير، بحيثُ لا يُمكنُ مقاربة الكُلّ في المستوى الواحد من «السّياسة»، لذلك بيَّن الأميرُ الجليل أنَّ للسياسةِ «أشراط» وامتداداً للفروع من أصُولها.

ينعكسُ المعنى الجوهريّ لفِعلِ «القيام على الشَّيءِ بما يُصلحُه» على المعنى العام لـ «السّياسة» التي يتوجَّب على «مشيخةِ العقل» أن تنتهجها. لقد وجدنا أنفسَنا، منذ خمس عشرة سنة، في دارٍ تذوَّقت مرارة التّعطيل طوال نحو ثلاثين عاما من أثر الحرب وتعذُّر الاتّفاق على كيفيَّة إعادة النهوض بمؤسَّسات «البيت الدّاخلي». وكان قانون عام 2006 القائم على مبدأ انتخاب النُّخَب والفعاليَّات الاجتماعيَّة في كلّ الحقول، والمرتبط بالقوانين الماليَّة الرسميَّة لجهة التنظيم مع استقلال تام بالشؤون الداخليَّة.

كانت المهمَّة الأساس، بدعمٍ من القيادة السياسيَّة الرّشيدة، وعدد من الأفاضل وذوي المروءة، متعلّقة بمسألة النّهوض عبر الإشراف على تثبيت أركان التنظيم العام للجسم الوظيفي، ولجان المجلس وأنظمتها الداخليَّة، وتوحيد الأوقاف عبر إعادة تنظيم الملفَّات، واستحداث القاعدة المعلوماتيَّة، والخوض في دعاوى قانونيَّة لمسائل شائكة عالقة منذ عقود، والتمهيد لإنجاز ما يجدر إنجازه على قاعدة التخطيط والدرس وتحقيق المصلحة والنّفع العام.

وفي أقلّ من سنة، باتت الدّار مقصدَ قادة روحيّين وسياسيّين وفعاليَّات إجتماعيَّة من كافّة الأرجاء ومن بلاد الاغتراب، وسفراء دول ورؤساء مؤسَّسات إسلاميَّة ودوليَّة. وكانت مدار الأحاديث في الوضع الداخلي اللبناني والاقليمي بشكلٍ عام، وبالطبع أسئلة عن المعروفيّين في إطار ثقافي لائق، وعن موقف المشيخة والدروز عموماً في هذا الأمر الرّاهن او ذاك.

لذلك، كان للمشيخة أن تقف على أسُس ثابتة في «السّياسة» بمعناها السّليم من دون خوضٍ على الاطلاق في يوميَّاتها السّجاليَّة، بل ثباتٌ مترسّخ على المبادئ والقيَم الوطنيَّة المستمدَّة من عمق التّاريخ ومن ثوابت بني معروف وأصالتهم وأخلاقهم وأعرافهم، ومن الخطوط الأساسيَّة المتَّفق عليها بين القادة الروحيّين حفاظاً على العيش الواحد في الوطن الواحد. وهذا يتطلَّب ثقافة الحوار والتفاهُم وحسن الاستماع والحرص البالغ على تجنُّب الانزلاق في الأمور العرَضيَّة والمسائل التي لا يجب أن تدخُل في «مشاغل» المشيخة.

يبقى شأنُ «البيت الداخلي» الَّذي يتطلَّب «سياسةً» قائمة على ما ذكره الأمير السيِّد استمداداً من الأصول، وهي باختصار قائمة على قواعد «المسالمة والتآلف…» والانكباب في السّعي إلى نيْل الفضائل، والحرص الزائد على اجتناب كلّ ما من شأنه أن يُفسدَ الودّ. والحِلمُ، الَّذي هو قاعدة جوهريَّة في نظام النّـفس العاقلة، يسع الكلّ في كنف العائلة الواحدة التي يجب أن تضعَ المسائل الكبرى للمصلحة العامَّة خارج إطار الاختلافات العرَضيَّة في واقع «السياسة» بمعناها المتداول يوميّا امتثالًا للتحذير الحيوي القائل بأنَّ «الاختلاف يورث الفشل».

يا حبَّذا لو أنَّ كلَّ المسائل المذكورة تخضع لحوار عقلانيّ هادئ، في إطار نُخبة عاقلة مثـقّـفة تضع أمامها التراكُم الموثَّق الذي تمّ إنجازه خلال السنوات الماضية، فضلا عمّا هو موثَّق في المراحل السابقة في الماضي القريب والبعيد، لأنَّها مسائل لا يمكن معالجتها بالمواقف الآنـيَّة، بل بقدرة العقل الحكيم على إيفاء الأمور حقّها بحسن التّدبير و»حسن السّياسة»، وهو بالمناسبة تعبير ذكره الأمير السيّد في أشرف قصد.

﴿ وَقُـلِ اعْـمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤمِنُون﴾، صدق الله العليّ العظيم.

2021