السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

د. عادل إسماعيل

[su_accordion][su_spoiler title=”د. عادل إسماعيل الرجـــــل الـــذي أعـــاد الاحترام إلى مهنة التأريخ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يعتبر المؤرخ الراحل عادل إسماعيل أبرز المؤرخين الذين ساهموا ليس فقط في تأريخ المراحل الأكثر دقة وحساسية في تاريخ لبنان، بل يعود له الفضل الأول ربما في إعادة الاحترام والصدقية إلى مهنة التأريخ، التي ابتليت لفترة بسيطرة الأهواء ونزعات التلفيق حتى كاد تاريخ لبنان يتحول إلى مجموعة أساطير لا هدف لها إلا خدمة الأجندة السياسية لأصحابها.
لم يكن عادل إسماعيل سياسياً، وهو الإداري المثالي الذي تربى في المدرسة الإصلاحية الشهابية وكان أحد أبرز أركانها، لكن هذا المؤرخ اللامع خريج جامعة السوربون في باريس كان رجل استقامة فكرية ورجل عمل يحرص على إتقان عمله وإخراجه وفق أفضل معايير الدقة والموضوعية. لذلك فإنه عندما اصطدم بما أسماه لاحقاً “مجلس الوصاية” المتحكم بأسلوب رواية تاريخ لبنان والتنظير له، فإن ذلك لم يحصل بسبب انحيازه إلى قومه أو تبنيه لروايات مغلوطة، بل لأنه بكل بساطة أراد أن يقدم الرواية الحقيقية، وبالتالي تصحيح الأخطاء والاختلاقات الكثيرة التي خالطت رواية تاريخ لبنان.
كان ابن دلهون البار العصامي هادئاً بطبعه وشديد التهذيب، لكنه أثبت أنه وخلف تلك الدماثة تقف شخصية شجاعة وشديدة الصلابة في الحق، وقد استفز تشويه التاريخ عادل إسماعيل إلى العمل بكل نشاط، واستثار عزيمته ثم هدته منهجيته العلمية إلى كنز الوثائق التي بدأ يجمعها وينقب في أكداسها ليبني على هذا الجهد المهني تاريخ لبنان الحقيقي ويدحض الروايات الملفقة التي كادت أن تصبح صنواً للحقيقة لكثرة تردادها وترويجها.
من أهم إنجازاته ولا شك إماطته اللثام عن الأسباب الحقيقية للأحداث الطائفية للفترة ما بين 1845 و1860، وقد أظهر هذا المؤرخ المنصف العوامل المعقدة الكثيرة التي كانت وراء اندلاع تلك الفتنة الطائفية الخطيرة، وخصوصاً مطامع الأوروبيين وطموحات بعض القوى المتعصبة التي سعت الى إحداث تغيير سياسي بل وديمغرافي في الجبل مستفيدة من ضعف الدولة العثمانية، التي كانت السند التقليدي للموحدين الدروز. وقد برّأ عادل إسماعيل ساحة الموحدين، الدروز من كل الافتراءات التي سيقت ضدهم ومهدت للحملة الانتقامية الفرنسية بقيادة بوفور. وأحدث الكتاب المهم الذي خصصه لتلك الفترة، والذي بني على وثائق ووقائع دامغة، صدمة حقيقية، وقوبل باستهجان واتهامات بمجرد نشره في مطلع سبعينات القرن الماضي. لكن عادل إسماعيل لم يتوقف عند ذلك بل خصص قسماً كبيراً من حياته المهنية لجمع الوثائق الدبلوماسية المحفوظة في عواصم أوروبا وتصنيفها وفهرستها ونشرها بحيث تصبح تلك المادة الأساس الموضوعي لأي كتابة تاريخية، وبحيث يصعب بعدها تلفيق تاريخ خاص سعى البعض الى إنتاجه في غفلة من الزمن.
إن مجلة “الضحى” تفخر بتخصيص هذا الملف التكريمي الخاص إحياء لذكرى الدكتور عادل إسماعيل واعترافاً بفضله في مضمار تصحيح تاريخ لبنان بما يخدم الحقيقة ووحدة البلد، وفي الوقت نفسه رفع إرث الضغائن والأفكار المسبقة وتشويه الحقائق عن كاهل أجيال لبنان.
يتضمن هذا الملف الخاص مقالاً بقلم الدكتور طارق قاسم حول سيرة المؤرخ الكبير، ومقالاً أعدّه المؤرخ الدكتور حسن أمين البعيني يعرض فيه لحجم مساهمة الدكتور عادل إسماعيل في تصحيح تاريخ لبنان.

الدكتور عادل إسماعيل

الدبلوماسي الراقي والمؤرخ والعالم الكبير

برع في توثيق الأحداث التاريخية بأمانة وتجرد
وكان من أول الذين عرفوا فضل الوثيقة واهتموا بجمعها

د.-عادل-إسماعيل-في-شبابه-scan
د.-عادل-إسماعيل-في-شبابه-

إنه عمل مميز وجميل من مجلة “الضحى” التي لها عندنا كل تقدير واحترام، أن يُفرَد ملف خاص للدبلوماسي الراقي والمؤرخ الخلاّق المغفور له الدكتور عادل إسماعيل الذي جمع بين الدبلوماسية وكتابة التاريخ، وهو وفاء من إدارة مجلة “الضحى” لهذا الرجل الكبير، لكي تتذكر الأجيال الحاضرة والمقبلة هؤلاء الرجال الأفذاذ، وما قدموه للأمة وللحقيقة من خدمات وتضحيات.
تمكّن من أن يكشف بالوثائق حجم التحيّز في أعمال بعض المؤرخين الذي بدوا مهتمين بخدمة قضيتهم السياسية أكثر من اهتمامهم بإنتاج تاريخ يسجل مسار الأحداث.

ولادته وحياته
ولد الدكتور عادل عمر إسماعيل في 18 كانون الثاني 1928، الموافق 4 رجب 1347هـ في قرية دلهون الوادعة من ناحية إقليم الخرّوب في قضاء الشوف، وكان طوال طفولته عليل الصحة، ضعيف البنية، وقد أعيا الأطباء في بيروت وصيدا، لما كانت تنتابه عوارض صحية لم يجدوا لها علاجاً، حيث يئس والداه من شفائه فسلما أمره لله. فما كان من والدته إلا الدعاء له بالشفاء بعد الصلاة وزيارة أضرحة الأولياء الصالحين في إقليم الخروب وصيدا. وكان اسمه منذ ولادته “رجباً” تكنياً بشهر الولادة (وكانت تسمية الأولاد في التقويم الهجري القمري شائعة في ذلك الوقت، وما زالت في بعض المناطق حتى الآن). وبناءً على اقتراح شقيق الوالدة أحمد نصر الدين، وبموافقة الوالد عمر إسماعيل، أبدل إسم رجب بعادل تكنياً وإعجاباً بصديقهما الأمير عادل ارسلان.
بدأ عادل إسماعيل دروسه الأولى في مدرسة القرية وفي مسجدها، كما كانت العادة آنذاك، وكانت تنحصر بدراسة القرآن الكريم وحفظه غيباً، وتعلم قواعد اللغة والحساب، وحفظ بعض أبيات الشعر العربي، واتقان الكتابة بأنواع الخطوط العربية، وقد اكتسب عادل إسماعيل هذه العلوم واتقنها على يد الشيخ حسن حمام، ثم انتقل مع والده إلى الجنوب حيث عيّن مدرساً في مدرسة “شحور الرسمية” في قضاء صور في لبنان الجنوبي فتعلم طيلة ثلاث سنوات في مدرستها. وبعد إقفال مدرسة شحور الرسمية عادت العائلة إلى قرية دلهون فالتحق عادل إسماعيل بمدرستها طيلة أربع سنوات، ومع انتقال الوالد إلى بيروت للعمل، إلتحق عادل إسماعيل بمدرسة حوض الولاية الرسمية لمتابعة دراسته.
كان يحلم بأن يصبح، بعد الانتهاء من دراسته الثانوية، مهندساً كيماوياً، ولكن ظروف الحرب العالمية الثانية حملت الجامعات في لبنان على وقف هذا التخصص، فاضطرَّ إلى دراسة الحقوق على أمل الانخراط في ما بعد في سلك القضاء.
وفي سنة 1947، نشرت الصحف إعلاناً لوزارة العدل اللبنانية بإجراء مباراة لتعيين مئة وخمسين مساعداً قضائياً، فشارك في تلك المباراة، وكان الأول من الناجحين، ولكن أسقط اسمه من بين الأسماء الناجحة نتيجة مداخلات سياسية، وإرضاءً لهذا وذاك من أصحاب النفوذ. كان لهذه الحادثة وقع مؤلم في نفسه، وقد كان يومئذ في مطلع الشباب يتطلع إلى المستقبل بمثالية ويؤمن كل الإيمان أن لبنان المستقل سيقوم على دولة القانون، وعلى القانون وحده. وكانت خيبة أمله كبيرة فقرر بالاتفاق مع والده السفر إلى باريس في أواخر 1949، بعد إنهاء دراسة الحقوق للتخصص في التاريخ.

دراساته العليا وشهاداته
مكث عادل إسماعيل في العاصمة الفرنسية حوالي سبع سنوات نال في أثنائها دكتوراه دولة في التاريخ من جامعة السوربون. عاد إلى لبنان سنة 1957 وعيّن مفتشاً للتعليم، بدعم من الدكتور نجيب صدقه الذي كان يشغل يومئذ منصب المدير العام لوزارة التربية، والذي كان عادل إسماعيل قد تعرّف عليه يوم كان مستشاراً للسفارة اللبنانية في باريس.
وبعد أحداث سنة 1958، قرّرت الحكومة الرباعية التي ألفت في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب أن تجري إصلاحاً إدارياً في البلاد. فعيّن الدكتور عادل إسماعيل مقرراً للجنة الإصلاح في وزارة التربية الوطنية. وبعد نجاحه الكبير في تحديث وزارة التربية الوطنية، طرح إسمه مديراً عاماً لها إلا أن الحسابات الطائفية والمناطقية منعت الدكتور عادل إسماعيل من تولي منصب المدير العام، وهذا ما أحرج الحاج حسين العويني، الذي كان أحد أعضاء الوزارة الرباعية التي تشكلت بعد أحداث 1958، فطلب من الدكتور عادل إسماعيل اختيار مركز آخر، فكان التمني إلحاقه بالسلك الدبلوماسي اللبناني. وبعد أسبوع من لقائه بالحاج حسين العويني، اتصل به الدكتور بشير بيلاني القاضي في ديوان المحاسبة يومئذ، وكان قد استدعي إلى القصر الجمهوري لمراجعة قانونية لمراسم التشكيلات في الإدارة العامة، وأبلغ الدكتور عادل إسماعيل أن مجلس الوزراء قرر تعيينه مستشاراً في السلك الدبلوماسي اللبناني.

الشهادات التي يحملها
دكتوراه دولة في التاريخ (جامعة السوربون- باريس)
دبلوم الدراسات العليا في التاريخ (السوربون)
إجازة في الأدب (السوربون)
إجازة في الحقوق (جامعة ليون)
دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي
(جامعة القديس يوسف- بيروت).

المناصب الإدارية والدبلوماسية
بعد فترة قصيرة من عودة الدكتور عادل إسماعيل من فرنسا سنة 1957 عيّن مفتشاً للتعليم، واستمر في هذا المنصب حتى نهاية سنة 1958، حيث تقلّد في العام المذكور منصب مقرر لجنة إصلاح وزارة التربية الوطنية، واعتبر من الرجال الكبار في الإصلاح الإداري في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وبعد ترشيحه لمنصب المدير العام لوزارة التربية، والذي لم يتحقق، حيث تم تعيينه في العام المذكور في السلك الدبلوماسي، استمر في هذا السلك حتى نهاية خدمته سنة 1992.
وهذه هي المناصب الدبلوماسية التي تبوّأها:
مستشار سفارة وقائم بالأعمال في مدريد 1960 – 1963.
مستشار سفارة في روما 1963 – 1967.
قنصل عام في ميلانو 1964 – 1967.
سفير لبنان في الخرطوم وأديس أبابا 1967 – 1969.
سفير لبنان في جدة 1969 – 1971.
مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية والمغتربين
1971 – 1978.
سفير لبنان في الرباط 1978 – 1985.
سفير لبنان لدى منظمة الأونيسكو 1985 – 1990.
سفير لبنان لدى وكالة التعاون التقني والثقافي التابعة للدول الفرنكوفونية في باريس 1985 – 1992.

وكذلك ترأس عدداً من الوفود اللبنانية إلى مؤتمرات جامعة الدول العربية، ومؤتمرات دول عدم الانحياز، والمؤتمر الإسلامي، كما شارك في معظم المؤتمرات العربية والإسلامية والدولية المتعلقة بالأزمة اللبنانية.
وقد شغل أيضاً منصب أمين عام مشروع “أرابيا” لدى منظمة الأونيسكو لنشر الثقافة العربية ما بين 1991 – 1996، كما ترأس الجمعية اللبنانية للدراسات والبحوث التاريخية، هذا بالإضافة إلى مشاركته في العديد من الجمعيات العلمية والأكاديمية في لبنان والعالم.
ويعتبر الدكتور عادل إسماعيل أن المرحلة الكبرى من مهمته في وزارة الخارجية اللبنانية تمت في إطار العمل الدبلوماسي الثنائي، حيث كان معتمداً لدى عدد من الدول العربية والأجنبية، أما عمله في المنظمات الدولية فانحصر بمنظمة الأونيسكو، وهي كما نعلم منظمة تعنى بالشؤون الثقافية والعلمية، وقد استمرت مهمته فيها مدة خمس سنوات ونصف السنة من منتصف 1985 إلى أواخر سنة 1990.
تجربته في الأونيسكو كانت واسعة الآفاق وغنية في شؤون التراث والعمل الفكري، ذلك أن هذه المنظمة تضم أكثر من 185 دولة، ممثلة بكبار أعلام الفكر فيها، الذين ينتمون الى حضارات وثقافات إنسانية غنية متعددة. وقد أثبت الدكتور عادل إسماعيل، وبشهادة زملائه السفراء والحكومة اللبنانية، دوره الريادي وتأثيره وأهميته في المنظمات الدولية، ورغم موقع لبنان في هذه المنظمات الذي لا يتعلق بقوته وغناه المادي وقدرته العسكرية، وإنما بكفاءات ممثليه، فهناك دول صغيرة أثبت سفراؤها في ندوات الأونيسكو ومؤتمراتها حصافة في الرأي، وقدرة في إقناع الأعضاء بوجهات نظرهم، وبتبني آرائهم من قبل المجتمع الدولي، بينما هناك سفراء لدول كبرى لم يكونوا في المستوى الثقافي والعلمي المطلوب، وفشلوا في الحصول على تقبّل وجهات نظر بلادهم في تلك الندوات والمؤتمرات.
وقد تمكّن الدكتور عادل إسماعيل طوال عمله في الأونيسكو، ولدى وكالة التعاون الثقافي والتقني لدى الدول الفرنكوفونية من الحصول في أثناء الحرب على عشرات المنح الدراسية للطلاب اللبنانيين، كما عمل على إنشاء صندوق للبنان في هذه الوكالة بمعاونة الدول الصديقة، بلغت قيمة المبالغ التي جمعت فيه ملايين الفرنكات الفرنسية، وزعت على المؤسسات الثقافية والاجتماعية في لبنان.

ايام الدراسة في باريس:

مؤلفاته ودراساته
لم يخرج الدكتور عادل إسماعيل في مؤلفاته عن الخط الذي رسمه لنفسه منذ انتهاء دراسته الجامعية في السوربون سنة 1956، وتنحصر هذه المؤلفات في حقلي التاريخ والسياسة، وهذان الحقلان متلازمان يتمم الواحد منهما الآخر. فمؤلفاته تتعلق بمعظمها بتاريخ لبنان، وتاريخ البلاد العربية، والسياسة في الشرق العربي، وغيرها من المواضيع العامة. أما عدد هذه المؤلفات فبلغ 85 مؤلفاً باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
أبرزها كما هو معلوم موسوعة “الوثائق الدبلوماسية والقنصلية” التي بلغت 50 مجلداً تشمل المحررات القنصلية والمحررات السياسية والمحررات الاقتصادية وهي مجموعة من محررات لندن المحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وكذلك محررات بطرسبورغ، وفيينا وبرلين وروما وغيرها من العواصم الكبرى.
المؤلفات التي نشرها باللغة العربية:
السياسة الدولية في الشرق العربي، 5 أجزاء، بالمشاركة مع السفير الأستاذ أميل خوري 1958 – 1973.
تاريخ لبنان الحديث، بالمشاركة مع الدكتور منير إسماعيل 1990.
الصراع الدولي في الشرق العربي، بالمشاركة مع الدكتور منير إسماعيل 1990.
الجديد في التاريخ، 8 أجزاء، 1956 – 1958.
لبنان في تاريخه وتراثه، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان، جزءان- مؤسسة الحريري 1993.
في الحوار والحياة المشتركة بين الطوائف والأديان، النموذج اللبناني، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان- مؤسسة الحريري 1996.
التنشئة الوطنية ومقومات الدولة، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان.
أزمة الفكر اللبناني، بالمشاركة مع السفير نصري سلهب والدكتور منير إسماعيل بيروت 1997.
المردائيون (المردة) من هم؟ من أين جاؤوا؟ وما هي علاقتهم بالجراجمة والموارنة، بيروت 2000.
إنقلاب على الماضي، لما أدخل على تاريخ لبنان من الأساطير والخرافات والأوهام والأحداث التي لا أساس تاريخياً لها. هل آن الأوان كي يطّلع اللبنانيون على الحقيقة في تاريخ بلادهم؟ بيروت 2003 م.
مناهج الكمال في أسمى الخصال، مع دراسة لغوية وأبحاث في فلسفة الحياة وركائز المجتمع المدني – بيروت 2002.
مساوئ التقسيم، ومخاطر إنشاء الدويلات الطائفية، ونظام شكيب أفندي (1845 – 1860).
مأساة جنوب لبنان، في تردد المواقف العربية، وفي متاهات السياسة الدولية. إلى أين آلت الاستراتيجية العربية الشاملة لحماية جنوب لبنان؟
ثمانون، ذكريات في ما وراء جدار الصمت.
المؤلفات التي نشرها باللغة الفرنسية:
Documents diplomatiques et consulaires relatifs à l’histoire du Liban (50 vol. 1975 – 2000).
Histoire du Liban du XVIIème siècle à nos jours (2 vol. 1955 – 1958).
Le Liban Histoire d’un peuple 1963.
L’histoire des pays arabes dans lesarchives diplomatiques françaises + thèmes et références 1535 – 1945.
Les pays du proche – Orient (2 vol. 1992).
Les pays du grand Maghreb (1 vol. 2000).
L’Islam et les Musulmans dans le Monde (5 vol.).
Ouvrages Collectifs Europe, Asie (2 vol).
Afriques. Amérique.
Texte français (5 vol).
Texte anglais (5 vol).
المؤلفات التي نشرها باللغة الإنكليزية:
Lebanon: History of a people.
هذا بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات السياسية والتاريخية والفكرية، التي نشرت في الصحف العربية والأجنبية، والمحاضرات التي ألقيت في لبنان وفي النوادي العربية والدولية.

مع المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1970
مع المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1970

منهجه في تدوين التاريخ:
ترك الدكتور عادل إسماعيل مكتبة عامرة تأليفاً وتحقيقاً وتوثيقاً وترجمة تناولت صنوف المعارف في ميادين التاريخ والشؤون السياسية اللبنانية والعربية والدولية، وهو موقف دقيق الرصد للأحداث الوطنية وعرض الوقائع التاريخية بتجرد ودقة فساهم بذلك في كشف حجم التحيّز والاختلاق الذي شاب أعمال بعض المؤرخين الذين بدوا مهتمين بخدمة قضيتهم السياسية أكثر من اهتمامهم بإنتاج تاريخ يسجل مسار الأحداث بموضوعية. وقد ساعده في ذلك استحواذه على كم ٍّ هائل من الوثائق الديبلوماسية ومراسلات القناصل والمنشورات السياسية وقنصلية وغيرها مما أعطى صورة حقيقية لتاريخ لبنان القديم والمعاصر الذي كان دوماً نقطة تقاطع للمصالح الدولية الكبرى والسياسات المحلية والإقليمية والدولية.
يقوم أسلوب الدكتور عادل إسماعيل في كتابة التاريخ على أساس ضبط الأحداث التاريخية وتوثيقها وإحكام الربط بينها وبين الأشخاص الذين لعبوا دوراً في صنع تلك الأحداث، وكان يتعامل مع الحوادث بموضوعية وأمانة وتجرد، بارزاً الحقيقة التاريخية في جميع كتاباته فكان من المؤرخين اللبنانيين الرواد الذين عرفوا فضل الوثيقة واهتموا بجمعها والحرص على استخدامها والإحاطة بمضامينها. ومكتبة الدكتور عادل إسماعيل لا تزال تضم مجموعة كبيرة من رسائل ومعلومات ووثائق سياسية ودبلوماسية يعزّ وجودها بهذه الوفرة في مكان واحد. ولم تقتصر كتابات الدكتور عادل إسماعيل على التاريخ اللبناني، وإنما نجده يهتم بتاريخ المشرق العربي وعبر منه إلى السياسة الدولية. وتدل كتاباته التي أنجزها خلال الستين عاماً من حياته الثقافية على مدى حيوية هذا المؤرخ وتأثيره في الحياة السياسية والثقافية.
حثّ الدكتور عادل إسماعيل الباحثين والمؤرخين على أن يعتمدوا تحقيق النصوص التاريخية ويربطوا بينها ويدققوا في ما عداها من مصادر وروايات بما يجعل كتابة التأريخ عملية خالية من التحريف وملتزمة بالأصول العلمية والتي حدّد أصولها وتطبيقها في ما يلي:
1. وجوب توخي الدقة في التعبير والتحلي بالتفكير العقلاني البعيد عن الأهواءء الطائفية والعقائدية والحذر من متاهات الأساطير والخرافات ومزالق الأوهام والأحقاد في تقييم الأحداث ودراسة أسبابها وتطورها.
2. وجوب التحلّي أيضاً بالتسامي الفكري والاعتناء بكتابة أحداث متحرك الماضي بأمانة بحيث يمكن فهم مغزاها والتعلم منها. أما التأريخ المتحرك بدافع الهوى أو الغرض السياسي فلا يعتبر تأريخاً بل عملاً منحازاً في خدمة فريق أو قضية.
3. من شروط كتابة التاريخ والنقد التاريخي أن ينفتح المؤرخ على التيارات الفكرية والمحلية والإقليمية والعالمية فلا يرفضها دون تقييم متجرد، وعليه بالتالي الابتعاد عن التقوقع أو السلبية الجامحة التي تعطل التفكير السليم، وتجعل المؤرخ أسير عقد نفسية طائفية أو قومية، وضحية مواقف يدحضها العلم ويرفضها المنطق.
4. يجب على المؤرخ المهني احترام كرامة الآخرين والابتعاد عن التجني عليهم والتشهير بهم، فالتحقير وتلفيق الأحكام الظالمة ليست من العمل التاريخي وهي تفقد المؤرخ الصدقية وتعبر عن ضعف الحجة لديه، وعن عواطف مشحونة يترفع عنها ويأنفها رجال الفكر وأهل العلم.
5. العمل على التحديث المستمر لكتابة التاريخ وذلك عن طريق البحث الدؤوب ومقارنة الوثائق واستخلاص ما قد قد يحتاج المؤرخ لاستخلاصه في ضوء الوثائق الإضافية أو أي عنصر جديد يظهر في موضوع البحث.
6. هذه بعض من أبرز القواعد العامة التي يراها الدكتور عادل إسماعيل، والتي تتبع في جميع بلدان العالم، ويؤكد على جميع المؤرخين التقيّد بها لأصولية كتابة التاريخ.

مع إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسيه عام 1968 أثناء تقديم أوراق اعتماده
مع إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسيه عام 1968 أثناء تقديم أوراق اعتماده

أبرز إنجازاته موسوعة “الوثائق الدبلوماسية والقنصلية التي جمعها في 50 مجلداً من المحفوظات الدبلوماسية في لندن وباريس بطرسبورغ، وفيينا وبرلين وروما وغيرها من العواصم الدولية

الجوائز والأوسمة
في 29 تشرين الثاني سنة 1996 أقيمت في الجامعة اللبنانية- قسم التاريخ ندوة علمية لتقييم مؤلفات الدكتور عادل إسماعيل التاريخية والسياسية، وقد نشرت في ما بعد في كتاب قيّم بعنوان” عادل إسماعيل، المؤرخ، الباحث، الدبلوماسي”. وقد قال فيه الأستاذ “فيدريكو مايور”، المدير العام السابق لمنظمة الأونيسكو: “الدكتور عادل إسماعيل قد بلغ أهداف التقدّم من السبق والتمييز في العلم والخلق والعطاء، فأغنى المكتبة اللبنانية والمكتبة العربية بإنجازات اكسبتها معنى خاصاً، والفكر العربي انفتاحاً وإبداعاً، فكانت خبرته تجديداً وغنى أضافت إلى خبراته الأكاديمية والفكرية طابعاً إقليمياً ودولياً معترفاً به. فالدكتور عادل إسماعيل موضع تقدير المفكرين والأدباء والمربين، عرباً وأجانب، وموضوع تقديرنا جميعاً… فمكانته فوق كل مكانة، إنه الرجل المفكر والدبلوماسي الذي استطاع أن يمثل بلاده في الأونيسكو بفكره وعطائه، فكان مثالاً لمفكر عربي جمع بين الفكر والسياسة، ومثالاً لمفكر معاصر كرَّس حياته لإخراج ما يزيد على 85 كتاباً هي ثروة هذا العصر، وذخيرته لمن سيخطون خطاه في الفكر والسياسة…”.
وقد نال الدكتور عادل إسماعيل الجوائز والأوسمة التالية:
الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية 1989.
جائزة جمعية المؤلفين باللغة الفرنسية 1980.
جائزة ريشيلو من الأكاديمية الفرنسية 1956.
ميدالية ابن سينا الذهبية التي تمنحها الأونيسكو لرؤساء الدول ولكبار الشخصيات الفكرية في العالم.
ميدالية المؤرخ العربي التي يمنحها اتحاد المؤرخين العرب.
وسام الأرز الوطني برتبة كومندور.
الوشاح الأكبر العلوي (المملكة المغربية).
وسام ضابط أكبر (إيطاليا).
وسام ضابط أكبر (رومانيا).
وسام جوقة الشرف برتبة ضابط (فرنسا).
ميدالية الجامعة اللبنانية.
ميدالية مؤسسة الحريري.
ميدالية رابطة اللبنانيين من خريجي الجامعات الفرنسية.
يقول الدكتور خطار شبلي: “الدكتور عادل إسماعيل مجموعة قيم، بل مجموعة رجال في رجل، هذا الدبلوماسي البارع الذي مثّل لبنان في مختلف عواصم العالم، وفي مختلف المحافل الدولية محاضراً ومحاوراً، وهو المؤرخ العالم في الشؤون اللبنانية والعربية والإسلامية، تحتوي كتبه على ثروة من الوثائق والمستندات القيّمة وعلى تحليل علمي وموضوعي لها. وهو الإنسان الذي يتميز بالنبل والأخلاق السامية. يقدره ويحترمه كل من يتعامل معه من هيئات رسمية واجتماعية، وهو الصديق الصدوق الذي يتحلى بالإخلاص والوفاء، وما أصعب أن تطلق على إنسان كلمة صديق…”.
وبعد هذا نرى أن الدكتور عادل إسماعيل قد وهب حياته إلى البحث العلمي، وقدّم للمكتبة العربية العديد من الدراسات التاريخية والسياسية والتراثية والفكرية.
مع هذا المشوار الطويل، وبعد عمر ناهز الثمانين عاماً، انتقل إلى جوار ربه في صبيحة نهار الخميس 24 حزيران 2010 في فرنسا ودفن في بلدته دلهون يوم الخميس 1 تموز من العام نفسه، وقد خلّف رحيله أسىً موجعاً في قلوب كل محبيه ممن عرفوه أو قرأوه، أولئك الذين افتقدوا فيه الدبلوماسي الراقي والمؤرخ والعالم الكبير، وليس لنا إلا أن نقول “سلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً”.
رحم الله الدكتور عادل إسماعيل وأثابه عما قدم من خدمات جلى
لكتابة التاريخ ولا سيما تاريخ لبنان المعاصر.

 [/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عادل إسماعيل وتصحيح تاريخ لبنان ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الدكتور حسن أمين البعيني

تميّز بتحرّيه الدؤوب للحقائق الموثقة بجهد متواصل
فكسر احتكار كتابة التاريخ وكشف التحريف الواسع فيه

أبرز إضافاته دحض أسطورة علاقة المردة والجراجمة بالموارنة
مثبتاً أن الشعوب الثلاثة مختلفة تماماً تاريخاً ولغةً ومعتقداً

دخل مكتبة الفاتيكان بقصد تحرّي وثائق خاصة بتاريخ لبنان
فسأله الراهب اللبناني: هل تاريخ لبنان يعنيك؟ وما هي علاقتك به؟

المسلمون لم يهتموا بكتابة تاريخ لبنان فأخلوا الساحة لغيرهم
وبعض المتزمتين منهم أنكروا على إسماعيل الكتابة بالفرنسية

الدكتور عادل إسماعيل بحّاثة ومؤّرخ كبير ورائد في مضمار جمع الوثائق ونشرها، فتناول شخصيته وسيرته ومؤلفاته، لا تكفيه مقالة أو بحث قصير، لذا سنتحدث عنه من خلال نقاط محددة تحت عنوان كتابة تاريخ لبنان.

التحوّل من دراسة القانون إلى دراسة التاريخ
بعد أن أنهى عادل إسماعيل الدراسة الثانوية إلتحق بكلية الحقوق التابعة لجامعة القديس يوسف في بيروت (اليسوعية). وكان كسائر أبناء منطقته (إقليم الخرّوب)، الفقيرة والمهملة والمحرومة، يطمح لدخول مجال الوظيفة العامة كباب لتأمين الاكتفاء المادي، لذا قَبل نصيحة والده، حين كان في السنة الثانية من دراسته الجامعية، أن يشترك في مباراة حُدّدت لأخذ 150 مساعداً‏ قضائياً في وزارة العدل، لكنه، بعد صدور النتيجة، وظهوره الأول بين المتبارين، لم ينزل عند رأي والده اللجوء إلى واسطة زعيم، أو موظف كبير، أو مسؤول سياسي، لدعم وصوله إلى الوظيفة المطلوبة، إعتقاداً منه أن حيازته المرتبة الأولى كفيلة وحدها بإيصاله إلى الوظيفة، وأنه إذا حصل تلاعب في المرتبات وتعديل بالأسماء، سيقفان عند حدود المرتبة الأولى ولن يلغيا إسمه. ولم يصح ما توقّعه، وصُدم عند صدور النتيجة، وإيراد أسماء الناجحين في الصحف، بأن إسمه ليس من بينها. وصُدم أكثر حين علم أن الأشخاص الناجحين لم يتقدّم أحدهم إلى الإمتحان، بل عُيّنوا جميعاً تعييناً نتيجة الوساطات التي قاموا بها لدى أصحاب النفوذ وأولي الأمر من الزعماء والبكوات والمشايخ.
جرى ذلك في مطلع عهد الإستقلال، أيام كان اللبنانيون يعملون لبناء أسس الدولة بعد أن نالوا إستقلال الدولة على الصعيد الدستوري ونجحوا في تحرير الدستور من المواد المتعلّقة بالإنتداب الفرنسي، في تشرين الثاني 1943، وعلى الصعيد الإقتصادي بتسلّم المصالح الخاصة بلبنان والمصالح المشتركة مع سوريا، وعلى صعيد جلاء الجيوش الأجنبية بجلاء آخر جندي فرنسي في 31 كانون الأول 1946.
لقد حزّ في نفس عادل إسماعيل أن تجري عملية التوظيف في لبنان، بعد إستقلاله، وفق المحسوبية والوساطة، وألاّ يتحرّر المواطنون من التبعية والمحسوبية والإقطاع السياسي، مع الإشارة إلى أن تجاوز القانون، بالشكل الذي جرى فيه وأدّى إلى حرمان عادل إسماعيل، لم يشهد عهد الإنتداب له مثيلاً بنسبته العالية من تجاهل الأصول والضوابط. لقد آلمه كثيراً أن يتلقى هذه الصدمة الكبيرة في مقتبل عمره، وفي بداية بناء دولة الإستقلال، وأدرك خطورة المسلك الذي سار عليه رجال السياسة في لبنان، وأنه، في حال إستمرارهم فيه، سيؤول حتماً إلى تقويض كيان الدولة، وإلى ترحّم اللبنانيين على عهد الإنتداب.
حين أنهى عادل إسماعيل دراسته في الجامعة اليسوعية، بنيل الإجازة في الحقوق، تحوّل إلى إختصاص آخر، وقرّر السفر إلى باريس للإلتحاق بجامعة السوربون في علوم التاريخ، وبهذا عزم أن ينتقل من مجال القانون، الذي لم يؤمّن له وظيفة تقدّم لها، إلى مجال التاريخ الذي أمل الإبداع فيه، فخرج بهذا من الحاضر إلى أصوله وامتداداته في الماضي، لا ليعيش الماضي بأحداثه ويدوّنها فحسب، بل ليساهم في إعطاء العبر منه، وفي فهم الحاضر، وفي بناء مستقبل لبنان، تبعاً لمفهوم التاريخ وفوائده، بحيث يصبح لبنان وطن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

النهج
إن حرمان الإدارة اللبنانية، وتحديداً وزارة العدل، من موظف صالح كفوء، أكسب مجال التأريخ مؤرّخاً ثقةً كفوءاً، أغنى المكتبات بأفضل الكتب وأعظمها فائدة، وبأوسع الموسوعات الوثائقية، تميّز بتجرّده، وأسلوبه العلمي، وتحرّيه للحقائق، وكشفه للأخطاء، بحيث ساهم ما أمكنه في تصحيح تاريخ طاله الكثير من التحريف، كما ساهم في محاولات وضع الأسس لبناء دولة مختلف على هويتها وعلى قواعد بنائها، وعلى كيفية توحيد مواطنيها، من خلال المعرفة الحقيقية والفهم العميق لتاريخ لبنان.

دير-القمر-في-القرن-التاسع-عشر
دير-القمر-في-القرن-التاسع-عشر

عرف عادل إسماعيل دور التاريخ والمؤرّخ في عملية بناء الوطن، وإيجاد التفاعل والتكامل بين الشعوب. فالتاريخ “ليس عملية ترديد للأحداث كما ترويها كتب الآخرين دون مراجعة أو نقد، وإنما هو دراسة وتحليل وتوضيح عوالم ومقوّمات المجتمع الذي نشأت فيه تلك الأحداث وتطوّرت” وكتابة التاريخ لا تقوم على معلومات سطحية، ومدوّنات مضلّلة، وإنما تقوم على إعتماد المراجع القيمة لأعلام المؤرّخين السابقين والمعاصرين، والعودة إلى الأصول المخطوطة والوثائق غير المنشورة، ومنها ملايين الوثائق الموجودة في مكتبات العواصم والمدن الكبرى التي نشر بعضها عادل إسماعيل، كما سنرى لاحقاً، والتي تنتظر الكثيرين غيره لنشر ما تبقى منها وما سيستجد مع الأيام. أما المؤرّخ، فهو عند عادل إسماعيل الساعي إلى التفتيش عن الحقيقة. ” لكن ما من مؤرّخ رصين يجيز لنفسه القول إنه يملك الحقيقة بكاملها. وهل في العمل التأريخي حقيقة نهائية. فالحقيقة التاريخية هي أمر نسبي في تصوّراتنا، وهي معرّضة في كل وقت للتبدّل كلما زاد الأثريون في إكتشافاتهم، وفي إبراز معالم الحضارات الكثيرة التي عاشت وازدهرت على هذا الكوكب ولا تزال دفينة في الأرض، وكلما توسّع البحث وازداد عمقاً في ذخائر المحفوظات التي لم تطلها بعد يد الإنسان”
أولى نجاحات عادل إسماعيل في الكتابة التاريخية، كانت عندما رغب استاذه البروفسور بيكار، أحد كبار الأساتذة والمؤرّخين في فرنسا، من تلاميذه الثلاثمائة تحضير بحث من عشر صفحات حول الموضوع التالي: “تأثير الحضارات الشرقية القديمة في الحضارتين الهللينية والهللينستية”. فأعد عادل إسماعيل بحثه في ضوء مطالعته لعدد كبير من الكتب الموجودة في مكتبة جامعة السوربون، ومكتبة Sainte Genevieve، التي تطرّقت إلى هذا الموضوع. وبعد أن إطّلع البروفسور بيكار على الأبحاث، وأعادها إلى تلاميذه مع ذكر ملاحظاته عليها، نوّه فقط بعادل إسماعيل، ولأنه وضع دراسة قيّمة في موضوع شائك، لا يتعلق أصلاً بالثقافة العربية الأصيلة، لأنه كتب بلغة فرنسية صحيحة ورجاه أن يستمر في المستقبل في النهج القويم الذي اعتمده.
لقد كان نهج عادل إسماعيل لاحقاً هو النهج القويم الذي هنّأه عليه البروفسور بيكار، وهو سيزداد وضوحاً ورسوخاً في أسسه ومظاهره مع الأيام. إنه نهج الإعتماد على المصادر والأصول، أو التركيز عليها في حال الإعتماد أيضاً على المراجع، فالمصادر هي أساس التاريخ الأول والأصول اذا ضاعت ضاع التاريخ. ونهج عادل إسماعيل هو الموضوعية والأسلوب العلمي، والبعد عن الهوى والتغرّض، وهو نهج الأسلوب الشيّق، واللغة السليمة، والمعاني الواضحة، واعتماد الفهارس والإيضاحات المفصّلة على النص، إضافة إلى الجداول والخرائط والصور.

تاريخ مشحون بالأهواء الفئوية
وجد عادل إسماعيل تاريخاً للبنان محرفاً ومختلفاً عليه، نتيجة لإختلافات الإتجاهات الفكرية والإيديولوجية، ونتيجة للإنقسامات الفئوية، الطائفية والمذهبية، ولاحظ أن من أسباب الإختلافات في كتابات المؤرّخين ضآلة المصادر التاريخية التي يعتمدون عليها، وكثرة إعتمادهم على الروايات المحلية المتناقلة دون سند حقيقي، والمراجع المتضمنة للكثير من الأخطاء، وعلامات الجهل بالحقائق، أو المثقلة بسوء تفسير الأمور، والغرّض السياسي، فقرر سدّ هذه الثغرات الكبيرة عبر انتهاج طريق المؤرخ الرصين والجاد وهو طريق البحث والتنقيب في الوثائق غير المنشورة مثل المراسلات والتقارير الدبلوماسية المحفوظة في إرشيف وزارات الخارجية والحكومات أو في مكتبات العواصم والمدن الأوروبية، وفي الأرشيف العثماني في اسطنبول، وهذه الوثائق كتبت في حينها لتنوير حكومات المبعوثين الدبلوماسيين أو القناصل بما يجري وتزويدها بكل شاردة وواردة مما يتيح لها رسم سياساتها ومواقفها. (ولهذا السرية في وقتها) هي أقرب ما يكون إلى وصف الواقع التاريخي آنذاك دون أن يعني ذلك أنها دقيقة لأن للدبلوماسيين أهواءَهم أيضاً. لكن بصورة عامة، فإن الوثائق التي قرر عادل إسماعيل التنقيب في غياهبها ليست فقط مرجعاً صالحاً لتصويب الأخطاء، وتخفيف الإختلافات، بل هي وسيلة لإغناء الأبحاث، والإضاءة على الفصول الغامضة أو المجهولة، وبالتالي توضيح الصورة الحقيقية لمراحل حساسة ودقيقة من تاريخ لبنان والمنطقة. وما كان عادل إسماعيل يهدف من إعتماد هذا النهج، ومن ترويجه، إختراع تاريخ جديد للبنان، وإنما كان يهدف إلى تصحيح ما فيه من أخطاء والوصول به إلى أعلى نسبة من الحقيقة، كي يؤدي الفائدة المرجوة منه. وفي ما يلي بعض وجوه نشاطه وبعض الإشارة إلى مؤلفاته.

كسر إحتكار كتابة التاريخ
لم يستطع الدكتور عادل إسماعيل الوصول إلى وظيفة مساعد قضائي، لأن أرباب النفوذ والوجاهة والسلطة في لبنان إحتكروا حق التوظيف، وحق إيصال الوظائف والمنافع إلى الناس حتى صارت تسري إلى المواطنين من خلال قنواتهم، وتمرُّ عبر بواباتهم. ثم لم يستطع في ما بعد تسلّم وظيفة مدير عام وزارة التربية، حين طرح اسمه الحاج حسين العويني وكان يومها وزير الخارجية والمغتربين والعدلية والتصميم العام في الحكومة الرباعية التي شكّلها الرئيس رشيد كرامي في 14/10/1958، وذلك لأن مسلمي بيروت إعترضوا عليه فأرسل مفتي الجمهورية اللبنانية وفداً إلى الرئيس الحاج حسين العويني يطلب منه التراجع عن ترشيح عادل إسماعيل، بحجة أنه من جبل لبنان ومن إقليم الخرّوب” وأن إسلامه كأبناء منطقته إسلام فاتر”، وبحجة ثانية هي أهم بالنسبة إلى موضوع كتابة التاريخ، الذي نحن بصدده، وهي أن عادل إسماعيل كتب عن تاريخ لبنان باللغة الفرنسية كتاباً نشرته في باريس دار النشر العالمية Maison neuve سنة 1955، ووضع مقدّمته البروفسور شارل ساماران. وعلّق الدكتور المرافق للوفد الإسلامي، الذي تذرّع بهذه الحجة، قائلاً: “هل يكون مسلماً هذا الذي يكتب تاريخ لبنان باللغة الفرنسية”.
فإنتفض الحاج حسين العويني لدى سماعه ذلك، وقال: وهل من حصّل العلم في جامعة السوربون في فرنسا يخسر هويته الدينية؟ وقد قال الرسول الأعظم: “أطلبوا العلم ولو في الصين” واضاف: وهل الكتابة في تاريخ لبنان أصبحت في نظركم جريمة يعاقب عليها، وتريدون أن تتركوا تاريخ بلدكم في يد الآخرين ليرووه ويدوّنوه على هواهم”.‏
وفي ما إعتبر بعض المسلمين عادل إسماعيل ذا إسلام فاتر، لأنه من أهالي إقليم الخرّوب من الجبل، ولأنه خرج عن إطار التأليف المتبع باللغة العربية، فألف كتاباً باللغة الفرنسية، إعتبره بعض المطارنة مسلماً متعصّباً، وقابلوا الرئيس فؤاد شهاب، ورفضوا تولّيه المديرية العامة لوزارة التربية، وأعلنوا عزمهم على عدم التعاون معه في خطة الإصلاح المنوي القيام بها في هذه الوزارة أسوة بسائر الوزارات، وكانت حجتهم في ذلك الحجة نفسها التي تذرّع به مسلمو بيروت، وإنما بمفهوم مختلف عبّروا عنه بالقول: “إن عادل إسماعيل، بتأليفه كتاباً في تاريخ لبنان، ينسف بأسلوب علمي، وبحجج مقنعة للكثيرين، المعطيات الأساسية لتاريخ لبنان، التي نعتبرها ثوابت لا تمس، وهو بالتالي خطر على مفهومنا للتاريخ”.

المؤرخ فيليب حتي
المؤرخ فيليب حتي

المسلمون أهملوا تاريخ لبنان
المسألة هنا مزدوجة ذات وجهين: أولهما هو عدم اهتمام المسلمين بكتابة تاريخ لبنان، الأمر الذي أشرع الساحة لغيرهم، ثم موقف بعض ضيقي الأفق منهم الذين “أفتوا” بأن من شاء كتابة التاريخ فليكن باللغة العربية فقط، وفي هذا تنازل طوعي عن الإطّلاع على المصادر المكتوبة باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية واللاتينية واليونانية، وهي التي تغني الكتابات التاريخية لإحتوائها على الكثير من المعلومات والحقائق، ولا سيما تلك التي دوّنها البحاثة والمستشرقون والرحّالة الذين حفظوا لنا الكثير من الوقائع والحوادث ووجوه النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، التي لم يدوّنها الكتّاب المحليون، أو دوّنوا بعضها لكنه ضاع ولم يُستفد منه. كما أن الكتابة باللغات الأجنبية هي أكثر من ضرورة، وذلك ليطّلع الأجانب على تاريخنا بلغاتهم، لأنه لا يتيسّر إلا للقلّة منهم فهم اللغة العربية وقراءتها وكتابتها، وبهذا يطّلعون على ما لم يرد في المدوّنات المكتوبة بلغاتهم، فتكتمل الصورة عن تاريخ لبنان، ويحصل التفاعل الثقافي الحضاري المنشود، علماً أن من بديهيات الأمور إمكان تعريب أي عمل يصدر باللغات الأجنبية إلى لغة الضاد، وهذا جارٍ كل يوم في جميع ميادين التأليف ولم تكن لغة الكتاب الأصلية في أي وقت عائقاً أمام وضعه في تصرف قرّاء العربية.
أما الوجه الثاني، فهو أن المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، كانوا أسبق من سائر اللبنانيين إلى الانفتاح على حضارة الغرب ولاسيما الحضارة الفرنسية واللاتينية، وبالتالي تعلّم اللغات الأجنبية، والنهل من الثقافات الأجنبية، وهذا إضافة إلى سبقهم نتيجة دعم الدول الأوروبية في مجالات الاقتصاد والمال والقانون وغيرها، وقد أدت هيمنة بعض المؤرخين إلى تشكّل ما يمكن اعتباره “إقطاعاً ثقافياً” احتكر كتابة تاريخ لبنان بفضل الموقع المتميز لبعض المؤرخين وجدِّهم واجتهادهم، ونتيجة لإهمال سواهم، إلا أن البعض من هؤلاء اغتنم فرصة تفرده بالساحة وغياب الرؤية المقابلة لتسخير التاريخ بما يخدم الأغراض الفئوية، ولترتيب الشؤون السياسية بشكل يضمن استمرارية نفوذ فئة من اللبنانيين وهيمنتها في مختلف المجالات. وقد كان أحد أبرز أهداف المؤرخين أولئك ولا شك توفير أساس تاريخي زائف أو محوّر يثبت الهوية اللبنانية الخاصة الملتصقة بالحضارة الفرنسية والغربية المسيحية والمنقطعة عن جذورها الحقيقية المشرقية العربية ومحيطها الأوسع الذي تميز تاريخياً بالتسامح والتنوع الديني والثقافي في ظل تسامح الإسلام.
حين يُذكر الدكتور عادل إسماعيل تُذكر معه الوثائق الدبلوماسية التي جمعها ونشرها، والتي أثرت المكتبات العامة والخاصة، وساهمت في تصحيح الحقائق ونقض الكثير من الادعاءات والروايات المضللة لتاريخ لبنان الحديث. وحين تُذكر الموسوعات الوثائقية يُذكر أولاً عادل إسماعيل. وقد كانت بداية مشروعه في جمع الوثائق في سنة 1951. في هذه السنة إقترح البروفسور لويس ماسينيون عليه مشروع جمع المحفوظات الفرنسية، فعرض الأمر على صديقه الدكتور الفرد خوري فشجّعه على ذلك منبّهاً إياه إلى المعارضة الشديدة التي سيلقاها إبّان تنفيذه لهذا المشروع “من قبل الذين يعدّون تاريخ لبنان حكراً عليهم”، وأضاف قائلاً: “إنه سيكون أول مسلم لبناني يقتحم القلعة الموصدة لتاريخ لبنان”.

وثائق نادرة جمعها من المحفوظات الفرنسية والإسبانية والإيطالية إختفت من خزائن المتحف الوطني أثناء الحرب اللبنانية وسبق ذلك سرقة الميكرو فيلم الذي يتضمن الوثائق التي نشرها في كتبه عن تاريخ لبنان

مشروع إصدار الوثائق الخاصة بلبنان
أخذ عادل إسماعيل موافقة الأمير موريس شهاب، مدير المتحف الوطني في لبنان (المديرية العامة للآثار في ما بعد) فشجّعه الأمير على ذلك، وقدّم له العديد من التسهيلات والمساعدات. وبعد جمع الوثائق ونقلها إلى ميكرو فيلم، ووضعها في المتحف الوطني، جرى توقيع إتفاق بين وزارة السياحة (المديرية العامة للآثار) والدكتور عادل إسماعيل بتاريخ 25 كانون الثاني 1974 على كيفية نشر هذه الوثائق. ثم جرى أخذ موافقة المراجع الفرنسية واللبنانية المختصة. وحين انتشر خبر ذلك، قوبل بإستحسان الكثيرين من المؤرّخين والباحثين، وقوبل في الوقت نفسه بمعارضة عدد من رجال الاكليروس والمقرّبين منهم، “لأنه لا يسعهم القبول بأن يتولى تنفيذه أحد المسلمين، وأكّدوا للأمير موريس شهاب أن مصلحة لبنان تقضي بأن يبقى هذا المشروع بين أيدي الباحثين والمؤرّخين الموارنة، أو الرهبان منهم على الأخص، لأنهم أحرص من غيرهم على وجه لبنان الثقافي الصحيح حسب رأيهم”.
قبل ذلك بسنوات، وبحسب ما يذكر الدكتور عادل إسماعيل، رغب إليه صديقه السفير إميل خوري أن يزور مكتبة الڤاتيكان، وسهّل له ذلك، وكلّف راهباً لبنانياً بتسهيل زيارته ومرافقته. وكانت بغيته الاطّلاع على الوثائق غير المنشورة، لا على الكتب، وحين أوضح ذلك للراهب، وأنه ينوي كتابة تاريخ لبنان في ضوء وثائق الڤاتيكان كما في ضوء وثائق وزارات خارجية الدول الأوروبية، التي اطّلع عليها، أجابه الراهب: “وماذا يعنيك تاريخ لبنان، وما هي علاقتك بتاريخ لبنان”. فوجد أن الراهب يعرف تاريخ لبنان، أو ينظر إليه من منظار خاص، ويعتقد بأنه ملك لفئة من اللبنانيين من دون غيرها، وليس لأحد الحق في الإهتمام بهذا التاريخ، فودّعه وغادر المكتبة.
ومقابل ما ذكره عادل إسماعيل من عقبات وإعتراضات لقيها من بعض رجال الإكليروس الماروني، وبعض المؤرّخين، قضت الأمانة التي اتصف بها، أن يذكر الذين سهّلوا مهمته وساعدوه فسمّى منهم الأخوين، السفير إميل خوري والدكتور الفرد خوري، والأمير موريس شهاب، ورئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية. وبفضل هذه المساعدة من مسيحيين لبنانيين، وبفضل إصراره على إكمال عمله، وجهوده الجبّارة، تمكّن من دخول ما سمّاه صديقه الفرد خوري “القلعة الموصدة في تاريخ لبنان”، وإختراق ما سمّاه إحتكار كتابته، فصدرت له الكتب العديدة عن تاريخ لبنان، إعتماداً على الوثائق التي جمعها، ثم أصدر هذه الوثائق باللغة الفرنسية في سلسلة من 50 مجلداً بعنوان “Documents diplomatiques et consulaires” غلافها جيد، وورقها ممتاز، مزوّدة بالفهارس والجداول والبيانات والصور، ثم ترجم معظمها الى العربية ليسهّل إطّلاع الجميع عليها، لإصدارها في سلسلتين، الأولى تاريخ لبنان الحديث في 15 جزءاً، والثانية الصراع الدولي حول المشرق العربي 1700 – 1985 في 15 جزءاً. وهذه الوثائق تتعلق بسياسة الدول الكبرى الأوروبية: فرنسا وبريطانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وبروسيا، إضافة إلى السلطنة العثمانية، حول قضايا لبنان السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
أما الوثائق النادرة التي جمعها الدكتور عادل إسماعيل من المحفوظات الفرنسية والإسبانية والإيطالية، فقد إختفت من خزائن المتحف الوطني في أثناء الحرب اللبنانية ما بين العامين 1975 و 1990، وكان سبق ذلك سرقة الميكرو فيلم الذي يتضمن الوثائق التي نشرها عادل إسماعيل، إعتقاداً من الفاعلين أنهم حصلوا على الوثائق، وما عادت هناك إمكانية لنشرها، ولم يدروا أنها طبعت على الآلة الكاتبة. وفي الوثائق الفرنسية والإيطالية والإسبانية المسروقة، وخصوصاً وثائق آل مديتشي في فلورنسا، ما يتعلّق بعهد الأمير فخر الدين المعني الثاني. وقد كتب عادل إسماعيل عنها “أنها تحدّد بوضوح شخصية فخر الدين، وتصحّح الكثير من التفسيرات الخاطئة التي ذُكرت عن مسيرته السياسية وعلاقته بتوسكانا والكرسي الرسولي طوال مدة إقامته منفياً في إيطاليا ( 1613 – 1618) أو بعد عودته منها إلى بلاده. وخلافاً لما قيل، ليس في تلك المحفوظات ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي. وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”.
بالإضافة إلى ما واجهه الدكتور عادل إسماعيل من معارضات لوقف عمله، واجه صعوبات عديدة في قيامه به طوال 23 سنة، من سنة 1951 إلى سنة 1974، منها إختيار ما رآه ضرورياً من مئات آلاف الوثائق، لأن نشرها كلها يتطلّب ألف جزء بمعدل 500 صفحة لكل جزء، فإختار منها ما يفيد ونقله بخط يده، وحذف ما لا يفيد القارئ، ويثير الحساسيات والإشكالات والنعرات الطائفية، وما هو متعلق بحياة اللبنانيين الخاصة. وقال عمن انتقدوه لعدم نشر كل الوثائق وكامل نصوص ما نشره منها، إنهم كانوا سينتقدونه ويهاجمونه لو نشر كل شيء. ومن الإنصاف القول بناء على المبرّرات التي ذكرها حول إختياره للبعض لا للكل إنه كان موضوعياً في إختياره، محايداً يتطلّع إلى الأحداث من فوق، من دون هوى وتغرّض.
أشاد الدكتور عادل إسماعيل بمن تعرّضوا لعمله بالنقد الإيجابي، وتصدّى لمن رآهم مفترين عليه، ومسيئين إليه، وركّز في ردوده على من سمّاهم “مجلس الوصاية غير المنظور المكلّف مراقبة الفكر اللبناني وكتابة تاريخ لبنان وتوثيقه” ، وقال إن هذا المجلس ليس مجلساً منظماً علنياً قائماً في الواقع مرخصاً، له ميثاق خاص ونظام معلن، لكنه مجلس موجود بالفعل، ممثّل ببعض المتطرّفين من اللبنانيين الذين “يعتبرون أنفسهم أوصياء وقيّمين على الفكر اللبناني وعلى تاريخ لبنان بصورة خاصة”، مهمتهم مراقبة الشؤون الثقافية، وتوجيهها بما يتلاءم مع أغراضهم الفئوية. وهم تبعاً لذلك ولإلتقائهم في الأفكار “أبقوا تاريخ لبنان خلال قرون عدة قلعة موصودة الأبواب لا يدخلها إلاّ أعضاء هذا النادي”.

عمر-باشا-النمساوي-الذي-سعى-لإعادة-الحكم-العثماني-المباشر-لجبل-لبنان----2
عمر-باشا-النمساوي-الذي-سعى-لإعادة-الحكم-العثماني-المباشر-لجبل-لبنان—-2

مجلس وصاية ثقافي
ما كان أعضاء مجلس الوصاية، بحسب ما ذكر عادل إسماعيل، يتوّرعون عن الضرب بيد من حديد على كل من يحيد عن الخط الذي رسموه، وعن إعتماد الارهاب الفكري. وأعطى أمثلة عن ذلك، هي التصدّي للمعلم بطرس البستاني، لأنه لم يسمح بمراقبة مؤلفاته، وللمطران يوسف دريان، لأنه لم يوافق من قالوا بأن الموارنة هم المردة، والإستهانة والاستهزاء والعبث بتراث جبران خليل جبران، لأفكاره الجريئة. ووصفهم عادل إسماعيل بالجمود وبرفض التجديد في تاريخ لبنان.
يمكن الربط هنا بين الهيمنة الثقافية والهيمنة السياسية على لبنان. لقد صار للمسيحيين بعد نهاية الإمارة المعنية الدرزية، النفوذ الأول في جبل لبنان في عهد الامارة الشهابية، وعهد المتصرفية. وظل لهم النفوذ الأول في دولة لبنان الكبير في ظل الفرنسيين وبتسهيل منهم. وكان لا بد من تعزيز الهيمنة السياسية بهيمنة إقتصادية، وهيمنة ثقافية، وهذه كان أحد مظاهرها كتابة تاريخ لبنان بنهج يخدم المصالح الفئوية. وكان الموارنة، وهم أقوى الطوائف المسيحية وغير المسيحية، يعتبرون أنفسهم مميّزين عن سائر الطوائف، وأنهم أساس لبنان فيما الآخرون وفدوا عليه بعدهم. وقد عبّر البطريرك الماروني انطوان عريضة عن ذلك حين قال لمبعوث الجنرال كاترو، مندوب حكومة فرنسا الحرّة في سوريا ولبنان، ما يلي: “إن الطائفة المارونية في لبنان هي الأساس، وأما بقية الطوائف فضيوف عليها”.
في ما يتعلّق بكتابة التاريخ – وهذا ما نحن بصدده الآن فقط – يمكن القول إن ما سمّاه الدكتور عادل إسماعيل إحتكاراً من فئة لكتابة تاريخ لبنان هو بالفعل تفوّق ثقافي، ليس ناتجاً فقط من نشاط مؤرّخين منحازين ومدعومين بإمكانيات مادية، وتسهيلات لقيامهم بالأبحاث ولنشرها، بل هو ناتج أيضاً من تقصير المسلمين، على إختلاف مذاهبهم، في كتابة التاريخ، مما أوجد فراغاً في جوانب عدة منه، ملأه غيرهم، وكاد يكون لهم الفضل كاملاً في ملء هذا الفراغ لو لم يتحامل بعضهم ويكتب عن هوى، ويلجأ إلى التحريف والتلفيق، وما كتبوه عن الحوادث الطائفية بين الدروز والنصارى خير مثال عن ذلك، وعن تجنيهم على الدروز إلى حد كبير.
وعلى إفتراض أنه كان من الصعب على المسلمين الوصول إلى أرشيف العواصم والمدن الأوروبية، فقد كان بإمكانهم الكتابة في ضوء التاريخ العربي والاسلامي الذي أدرجوا تاريخ لبنان فيه، أو في ضوء ما نُشر من وثائق أجنبية، وما لديهم من مدوّنات منشورة وغير منشورة، كما أن هناك مجالاً متاحاً لهم للإطّلاع على نصوص المحفوظات الملكية المصرية، التي إكتفى المؤرخ أسد رستم بنشر عناوينها في 5 مجلدات، كما أن هناك ايضاً مجالاً متاحاً للوصول إلى الأرشيف العثماني الغني الذي يحتوي على مئات آلاف الوثائق عن لبنان ومحيطه طوال أربعة قرون ونيّف من الإدارة العثمانية، مما يشكّل مواداً لمئات الأبحاث. وهنا لا بدّ من الإشارة

حملة-الجنرال-بوفور-الفرنسية-على-لبنان-في-عين-فنان-فرنسي---حماية-للأبرياء-وليس-خدمة-لمصالح-استعمارية
حملة-الجنرال-بوفور-الفرنسية-على-لبنان-في-عين-فنان-فرنسي—حماية-للأبرياء-وليس-خدمة-لمصالح-استعمارية

معالجة الإشكاليات التاريخية
في تاريخ لبنان الكثير من الفصول الغامضة، والكثير من الإشكاليات الناتجة من الهوى السياسي، ومن الإختلاف في كتابة المؤرّخين عن الحوادث والوقائع. وقد تطرّق الدكتور عادل إسماعيل إلى قضايا مختلف عليها، وروايات مختلقة جرّاء تسخير التاريخ لمصالح فئوية معينة، فأطلق على هذه القضايا أسماء عدة، هي أسطورة، خرافة، وهم، إختلاق، ثغرة، تفسير خاطئ، تحريف للنصوص. وأسباب ذلك هي الكتابة عن غرض وهوى وخلفية سياسية أو دينية، والإقتباس الأعمى، وأخذ ما يرد في المدوّنات على عواهنه من دون إخضاعه للمناقشة، ووضعه تحت مجهر العقل والمنطق، وإعتبار كل ما وصل إلينا من الماضي صحيحاً وجزءاً من التراث لا يجوز تعديله.
إنبرى عادل إسماعيل لتوضيح الغوامض، وحلّ الإشكاليات، وتحطيم الأساطير، وتبديد الأوهام. وعالج 42 ثغرة، أو إشكالية، في كتاب سمّاه: “إنقلاب على الماضي لما أُدخل على تاريخ لبنان من الأساطير والخرافات والأوهام والأحداث التي لا أساس تاريخياً لها. هل آن الأوان لأن يطّلع اللبنانيون على الحقيقة في تاريخ بلادهم”. ونظراً إلى ضيق المجال سنكتفي فقط بالإشارة إلى هذا الكتاب، وإلى ثغرات أربع، هي اختلاق رهبان المدرسة المارونية في روما أسطورة أن الدروز احفاد الكونت الفرنسي دي درو، وإختلاق غيرهم رواية هدم زحلة بكاملها في حزيران 1850، واختلاق رواية هدم ديري مشموشة والمخلّص في أحداث 1860، واختلاق رواية إبادة المسيحيين في فتنة 1860. وقد رأى عادل اسماعيل أن المغالاة في كتابة تاريخ لبنان، ولا سيما الحوادث التي جرت بين بنيه “على غاية من الخطورة لما يسببه الحديث عنها من أثر سيئ في نفوس النشء اللبناني الطالع”.
أخذت إشكالية “المردة والجراجمة والموارنة” حيّزاً كبيراً في كتابات المؤرخين عموماً، والموارنة خصوصاً، إذ هناك اختلاف حول لغة اسم “المردة”، وحول أصلهم، وما إذا كانوا والجراجمة والموارنة شعباً واحداً أم شعوباً عدة. وقد إعتبر أكثر المؤرخين الموارنة أن الفئات الثلاث شعب واحد هو الموارنة، وأن لفظة المردة صفة أُطلقت على هذا الشعب لتمرّده على الحكم العربي الأموي. لذا، ظل الإسم “المردة” رمزاً في تاريخ الموارنة، وصار إسماً لتنظيم عسكري ماروني في الحرب اللبنانية ما بين العامين 1975 و 1990، تطوّر إلى تنظيم سياسي.
جرت معالجة إشكالية المردة والجراجمة والموارنة في عشرات الأبحاث والمقالات وحظيت أكثر من سائر الاشكاليات بوفرة الأحاديث عنها. وقد عالجها عادل إسماعيل في كتاب خاص شرح فيه بالتفصيل أصل المردة ومواطنهم الأولى، ولغتهم، وكيفية إنتقالهم من وسط آسيا وقدومهم إلى لبنان وتركهم له. وتوصّل إلى الحقائق التالية في المقابلة بينهم وبين الموارنة والجراجمة، التي تظهر أنهم مختلفون عن بعضهم لغةً وعرقاً ومذهباً ومساراً تاريخياً:
1. قدوم المردة إلى لبنان قبل الفتح العربي، ومجيء الموارنة على دفعات بعد هذا الفتح.
2. اشتقاق كلمة “المردة” من لفظة مردائيتاي” اليونانية.
3. لا علاقة بين المردة والجراجمة، فهما شعبان متباينان في العرق والمذهب واللغة.
4. لا تطابق بين المردة والموارنة، لأن المردة من أصل فارسي ميدي، ويتكلمون اللغة الفارسية والميدية والإغريقية، وهم وثنيون تنصّروا واعتنقوا مذاهب نصرانية مختلفة، فيما الموارنة من أصل عربي أو أرامي سرياني، ويتكلمون اللغة السريانية والعربية، وهم خلقيدونيون كاثوليك.
5. كان الموارنة على علاقة سيئة مع الدولة البيزنطية فيما المردة كانوا جنوداً لها.
6. تركُ المردة لبنان في أواخر النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، إلا أقلية ضئيلة منهم إنخرط معظمها مع الروم الأرثوذكس، وبقاء الموارنة في لبنان.
7. نظرة المؤرّخين الإغريق واللاتين لا تنم عن إحترام للمردة، إذ هم في نظرهم، مرتزقة وقتلة وقاطعو طرق، فيما هذه الصفات غير موجودة في الموارنة.
وخلص عادل إسماعيل إلى القول إن المردة والجراجمة والموارنة شعوب مختلفة لغةً وعرقاً ومذهباً.

[/su_spoiler][/su_accordion]

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading