في هذه الشهادة الرقيقة والقويَّة يتحدَّث الكاتب عن صديق له اختار محبَّة الأرض وبنى حياته وعقيدته وسلوكه وغبطته الداخلية على العيش في كنفها والتعرّف على أسرارها وأسرار الرزق والرزَّاق وغيب الطبيعة وأحوالها. إنَّها قصة حياة غابت أو غيَّبناها وتذكرة في زمن الغفلة لأُولي الألباب، أو قُلّ لذوي الحظوظ الذين «قالوا ربنا الله ثمَّ استقاموا» فانفتحت لهم أبواب النِعمة وباتوا من الذين «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
يقول الحق جلَّ وعلا: «أنا جليس من ذكرني» وجليسُ الأرض ذاكر للحقِّ في حلّه وترحاله لأنَّه خادم لأعظم مظاهر إبداع الحياة وعبد للنعمة وشاكر لها وراض بالعطاء، صابر على المنع.
1 –
هذه المقالة الشهادة هي عن صديق لي لن أذكر اسمه الحقيقي بل سأكتفي بتسميته “صديق الأرض”، وأعلم أنه هو ربَّما الاسم الذي يحبّ أن يُكنَّى به والذي ينطبق على الطريقة التي صاغ فيها حياته والتي بها يعيشها منذ زمن غير قصير.
كان يتحدَّث عن صفقة العمر التي اتَّخذ القرار بشأنها خلال عشر دقائق. لم يكن على استعداد، لكنَّ الأمر كان أشبه بثمرة ناضجة
تغريه بقطافِها. علَّمتْه الأرضُ نفسها أن لا يؤخر القطاف. كان يتحدَّث بفرح وانطلاق عن قطعة الأرض التي أضافها مؤخراً إلى ممتلكاته الزراعية المتواضعة؛ فهو ليس ملاَّكاً كبيراً، لكن الأرض مهما صغرت كبيرة في عقله وأحاسيسه ووجدانه. عندما قرَّر شراء الأرض لم يكن القرار تجارياً، ولم ينخرط عقلَهُ بالتالي في حساباتِ عقاريَّةٍ، لكنه علم من ظاهر الأمر أنَّ ثمنها يناهز الـ150 ألف دولار، وكان عليه بالتالي أن يجد وسيلة لتوفير هذا المهر الغالي. كان قلبُهُ جاهزاً كأنَّه تواطأ مع البستان عينه قبل الدخول في أيّ حديث. وهو لشدَّةِ رسوخ قناعته وشوقه كانت كلُّ كلمةٍ يقولُها للمالك الذي يوشكُ أن يصير مالكاً سابقاً في دقائق معدودة، بمثابة صكّ لا يحتاج إلى ورق. ربّما رتَّب مسألةَ سياق الدّفع في طريقه إلى المكان، ولمّا كان الرَّجُل يستشعر نظيرَهُ في ثوانٍ، طُوي الجدَل، وانتهَى الأمرُ من غير بنود وشرائط قانونية كثيرة، إنّما بالتراضي ثمَّ بالتوقيع “لأنَّ الدُّنيا فيها موت وحياة”.
أُضِيفَت الأرضُ المغرُوسة بالأشجار المُثمِرة إلى أراضٍ كان صديق الأرض قد تملّكها بكدِّه وعرقِ جبِينه خلال مراحل الكفاح الأولى من حياته، والتي بدأها ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين. إنَّها نتيجة باهرة وفتح حقيقي لإنسانٍ أدار وجهَه نحو الأرض في وقت يتفرَّق الناس عنها ويتركونها نهباً للشوك والغبار وحر الشمس، أو يلقون بها إلى وحش الإسمنت.
طلبتُ من صديقي، صديق الأرض، أن نمضي في بعض أرضِه تِمشاءً نتبادلُ الأسئلة الموجَزة من قِبلي، والإجابات الحرّة والعفوية من قِبلِه، ليكونَ سرُّه والأرض في نور الشَّمس. والحقيقة، كلّ أسرار الرَّجُل منضوية في عبارة ردَّدها تكراراً كاللازِمَةِ أو كالعروة الوثقى بينَ عقله وقلبه: “كلُّه مِن فضل ربِّي”.
2 –
الفقرُ الماديّ أقعَدني عن متابعة الدراسة. إنَّ أوّل ما يقفز إلى ذهني عن أيّام المدرسة هو صورة الثياب المرقّعة، وعدم القُدرة على شراء كتب التّعليم، وخصوصاً الخجل الشديد عندما أُدعى للوقوف أمام اللوح من أجل الإجابةِ على سؤال وفي قدميّ مَداس (شحّاطة) البلاستيك. هكذا، واجهتُ الحياةُ في الثالثةِ والعِشرين منعمري بلا عِلم، وكان البلدٍ ينوء تحت وطأة اجتياحٍ إسرائيليّ غاشِم. كانَ السّائدُ لدى أبناء جيلي هاجسُ السّفَر. داعبتني الفِكرةِ، وأنجزتُ الخطوةَ الأولى في هذا الدّرب، وهي الحصول على جواز سفر. كنتُ واضحاً مع نفسي: أريد أن أجمعَ مالاً، أن أخرج من دائرة العوز الذي كنت فيه. استطلعتُ أخبارَ مَن سبقَنا في خوض هذا الغِمار. وجاءت المعلومات مثيرة للقلق. الفردُ في بلادٍ غريبة ضعيف، لا يمكنه أن يختار وفق هواه بل عليه التقاط أيّ فرصة عمل سواء أكانت الخِدمة في مطعم، أو في محطّة وقود، أو البيع بالمفرّق كما فعل أصحاب “الكشّة” قديماً. سرعان ما التقطتُ الإشارة، فالأمرُ بحاجةٍ إلى بذل الذات وإفراغ الجهد، وإلى تعَبٍ وكدْحٍ لا هوادة فيهما كي يحقِّقَ المرءُ ما يوازي ما سيصرفه مِن عُمر وسنوات عزيزة. وجدتُني في نهاية المطاف اقتنع تماماً بأنَّ المكانَ الَّذي وُلِدتُ فيه أقدر على أن يمنحني الفرصة، لكن يجب أولاً أن ينعقدَ عزمي على الكِفاحِ والعمَل الدؤوب بالطاقة ذاتها التي ستتطلّبها منّي ظروفُ الغُربة. غيَّرتُ رأيي من دون تردّد. وباتَ حلمُ يقظةِ السفر بسرعة ذكرى من الماضي.
3 –
اقترضتُ من أحد أفراد عائلتي أربع أونصات ذهب، واشتريتُ بها قطعةَ أرضٍ على الفور. نويتُ البيع وتحقيق الرِّبح. كانَ هدفي العيشَ مستوراً. بِعتُ واشتريتُ ثاني وثالث. تابعتُ في هذا السّياق بوتيرةٍ متسارِعة. خلال ستين يوماً حقَّقتُ ثلاثة آلاف دولار ريعاً من هذه التِّجارة. ثمّ صرت أُخرِجُ الأرضَ التي تناسبني منَ العروض. بِعتُ منها الكثير، واحتفظت بالأكثر. لم أتعاطَ الفائدة. لم أتعامل مع المصارف. أخاف منها. هي عندي خط أحمر. طلبتُ منَ الدّنيا فأُعطِيت منها، لكن كانت تتردّد في بالي حِكمةٌ سمعتُها مراراً عنِ الأسلاف: ماذا يفيد المرء أن يربح الكَونَ ويخسَر نفسَه؟
الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا
في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”
تأهّلتُ، وكانَ يوم العُرس وَفق خاطر المشايخ. شاهدتُ بعد أيّام صورةً للجَمع العائد بابنةِ العمّ يتقدّمُهُم الشيوخُ بمهابةِ كَنفٍ عائليّ وقور. تحرَّك أمرٌ ما في قلبي وفي أعماق نفسي من أثر تصوّري للمشهد. قلتُ هذا ما أريدُه، هذا مَداري. قمتُ بعد مدَّةٍ بزيارةِ شكرٍ للأفاضِل، وكانَ ثمّة ضيوف أجواد من نظائرهم في الحِلم وغايةِ الأدب. أبصرتُ آنذاك خِياري في الحياة، وعدتُ معاهِداً روحي سرعة المبادرة إلى تقواها. وفي خِلال أيّام معدودة، بتُّ ملتزماً مسلكَ القوم.
تأصّلتْ فكرةُ العملِ مع الأرض أيضاً عبر سماعي الكثير من أخبار أعيانٍ في الفضيلةِ، جاهدوا في كسب الحلال ووسّعوا الرّزق، استصلحوا الوعرَ ولم يقطفوا الثّمار إلاّ بعد سنواتٍ طوال من الكدّ والتّعب والمُثابرة. تركوا إرثاً امتزج بالتراب والهواء، وكانوا في الأعرافِ الدّينيَّةِ قُدوة في الشّرف والطّاعة.
4 –
مَضت ثلاث سنوات في التّجارة قبل أن أبدأ العمَلَ بالغَرس. غرستُ كلَّ قطعةِ أرضٍ أبقيتُها وَفق بيئتها الملائمَة، فالدافئة تريد الزّيتون، والعالية التي يأتيها الجليدُ تريدُ التّفاح. كانت الجذورُ بدورِها تمتدّ في طبيعةِ علاقتي بالأرض. تراكمَتْ الخِبرةُ لديّ بعد تكبّدي خسارات في التّجارب. أنصب ثمّ أقتلِع. هذه الأرض لا يؤاتيها شجرُ الجَوز، فالصّقيعُ أدّى إلى يباسِها. وتلك لا يوافقُها الكرز، فأُبدِّل النَّوع بما يروق لها. ليس لديّ مهندِسٌ زراعيّ. اكتشفتُ أصول الزراعة ومعظم قواعدها من تجربتي الشخصيَّة. لم أتعلَّم مِن أحد بطريقة منهجيَّة، ولكن لا يخلو الأمرُ من سماعِ فائدة كبرى كتلك التي سمعتُها مِن أحدِهم في قرية عُرنة الشام، قال إنَّ الملِك في شجرةِ التّفاح (يعني الطَّربون الأعلى) يجذبُ النَّسغَ إليه، فيأخذ الجنى كلّه، فإذا تمّت إزالته، تدخُل الشّمسُ إلى قلبِ الشّجرة ويتوزَّعُ الخير في أرجائها. كانت ملاحظته مُحِقّة. وهذه ما اكتشفتُها من ذاتي، بل تعلّمتها.
ليس الحبُّ ما يقودني بل الشّغَف. أغنَتني الأرضُ عنِ السّوق. المازوت لا يدخل بيتي لأنّ الأرض أعطتني. الفاكهة لا أشتريها. “الصحرا” (أي الخضار البعل التي لا تحتاج إلى نظام رِيّ) تعطي العديد من أنواع الخضروات. وثمّة خيرات كثيرة تصلِح أعلافاً للمواشي وللطيور الدّاجنة التي تعلّقتُ بتربيتها أيضاً من دون اعتبارها مشروعاً بذاته. وجودها حافزٌ لي إلى زيارةِ الأرضِ يوميّاً، فضلاً عن الاستفادة من لحومها وألبانها، فإن أُطعِمتُ منها وأَطعَمت أكُن عارفاً بطِيبِ الغِذاء ونقائه بعيداً عن أيّ سموم أو مواد مضرّة أو مصنَّعة.
لا أفضِّلُ زراعةً على أُخرى. كلُّ ثمرةٍ هي الأحبّ في وقتها. أغالي في كلِّ صنف، لأنَّ الثِّمارَ لا تُقبِل سويّة. إن أتى الكرز لا يأتي الجوز. وإن أتى الزّيتون لا يأتي اللوز. إن لم يُعطِ التّفاح في هذا الموسم، يعطي غيرُه. وعند القطاف أغالي في الحبَّة الواحدة. أتكدّر إذا ما بقيت الغلَّة على الرّزق وأكلها الطَّير. بطيبة خاطري لا أقبل ذلك. هذا حلال “بَهدلتُ فيه”. قبل الشّتوة أحرثُ الأرض، أفلحها. بحيث تنام استعداداً للشتاء مشقوقة. لا أدعها بُوراً. فإذا قدم الشتاء، دخلها ماؤه. الآلة سهّلت هذا العمل. لولاها لما اقتنيت أرضاً. ستون يوماً من الفلاحة اليدويَّة اختصرتهُم الآلةُ بأيّام. أمّا المياه، فالطبيعةُ تخبِّئ لنا آباراً جوفيّة. ولديّ خزّان في كلِّ قطعة أرض. وجود المياه استمرار للحياة. الأرضُ مدرستي. وظيفتي. قيل لي دع عنك العناية ببعض الأنواع، “خلّيك متل جدودك”. أجبتُ: لديكُم وظائفكم. أنتم تجهّزون أوراقاً مطلوبة لعملِكم. أنا ما استعملتُ يوماً ورقة ليُقبَل طلبي في العمل مع الأرض. هذه الأنواع تدرّ مالاً. كسولٌ من يسعى إلى ورقة، ولا يغامر في الأرض ويضحِّي من أجلها.
5 –
الأرض تعطي، وأخالف كلّ قائل بغير ذلك. ثمّة سلف صالِح استصلحوا الوعر، وثابروا وقاسوا الشِّدَّة سنوات كي يأكلوا خيراً. باتَ رزقُهم مضرب مثَل. ردَّدوا كثيراً هذا القول: “معكن مصاري حطّوها بالأرض، تستغنوا”. كلّما ابتعتُ أرضاًَ أتخيّلهُم قُبالة عيني. أشعر أنّني أتابع المسيرة. الأرض يعني كرامة. أتشبّثُ بالبقاء هنا، “مش دغري بفلّ”. وُلِدتُ هنا، وهنا أموت كما يبدو لي. عطتني الأرضُ وجهَها من فضلِ ربِّي. أسمعُ من بعض النّاس: “الأرض دايرة وجهها”، يقصدون ضعف المواسم. لكنّني تيقّنتُ أنَّ الأرضَ لا تفعل ذلك، بل الإنسان هو الّذي يُدير وجهَه عنها. الأرضُ موجودة، فإذا ضحكتَ عليها ضحكت منك. بقدر ما تعطيها تعطيك. بقدر النزول فيها تنزل معك. الأرضُ تتكلَّمُ كثيراً، ومَن له أذنان سامعتان فليسمع. النَّصبَة تعرف أنّك أتيت، لأنها تعطش وتجوع، تريد المياه والسّماد الطبيعيّ. تريد أن يُقلَّمَ منها مَا يعوِّقُ غايتها. أعرف من لون ورقة الشّجرة مبلغ اكتفائها من كلِّ شيء. هذه تُبشِّرني بالعطاء، وتقول لي من ذاتها: “لستُ بحاجةٍ لشيء، تستطيع الغياب عنِّي شهراً، فليهدأ بالك. إذهب لغيري”. و”خِلف” الزيتون هذا يقول لي: “الأرض استقبلتني”. انظر نضارة لون الورق فيه، هذه النضارة للورد، وليست للزيتون، ليست للشجر. الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”.
ثمّة أسباب لِمن يُعامِل الأرضَ ولا يكون مُنتجاً. المُشكلةُ ليست في الأرض بل في إدارتِه، وضعف تدبيره، وعدم قبول النّصيحة الصادقة، والتكاسُل من حينٍ لآخَر. لديّ أشجار زيتون عمرها ثماني سنوات، ولدى غيري منها ما يناهز عمره ربع قرن، والغلَّة عندي أكثر. ليس الفارق في أيّ شيءٍ آخَر سوى في حُسن معاملتها. إذا غطَّى الثلجُ سطح الأرض، لا أقضِّي الوقت كلّه قرب الوُجاق، بل أذهب إلى “أرضاتي” لأخفِّف الحِمل الأبيض عن الأغصان الأقلّ متانة. ولا أمضي يوم الانتخابات في قيل وقال، بل إلى “الأرضات” أذهب وأسايِر حاجاتها. أصابني همٌّ وضِيق، فألوذ بالأرض التي تنسيني كلّ كربة. ورعيُ “الطّرش” عندي أحيانًا هو حُجّة لكي أتجنَّب حضور بعض المناسبات الحاشِدة.
مرَّت ظروف صعبة ومخيفة في أزمان الحروب، لا أذكر أنّني بوَّرتُ قطعة أرضٍ واحدة في كلّ تلك الفترات العاصفة. لديّ إصرار على المحافظة على الرّزق على الرغم من أنّ مواسم نُهِبَت آنذاك. بقي لديّ التصميم والمثابرة على الدّوام. احتجتُ في بعض الأزمات أن أنام في البريَّة أسابيع. هذا الأمر زوّدني بعلاقةٍ حميميَّة مع الأرض، بل مع الأفاضل من السَّلف الصّالح، إذ أشعر، كلّما حقَّقتُ نجاحاً في هذه الحقول، بأنّني أضيف لَبِنة فوق الأساس الصلب الَّذي وضعوه. أغتبطُ في جوّانيَّة روحي مثل فردٍ في مسيرتهم الشريفة.