السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بذور الموســــم الواحــــد وخطــر انقـــراض الأجنــــاس البلــــدية

إحدى الظواهر الملفتة في الزراعة الجبلية هي النمو المستمر عاماً بعد عام لقطاع البذور المهجنة، التي يتم استخدامها غالباً باعتبارها بذوراً محسنة ويجري بيعها بأسعار مرتفعة. معظم هذه البذور من إنتاج الشركات الأجنبية مثل «مونسانتو» و»دوبون» اللتين اتجهتا في العقد الأخير لزيادة الأبحاث في تطوير بذور زراعية معدلة وراثياً وبيعها باعتبارها نوعيات محسنة وأفضل من البذور التقليدية التي كان المزارعون يحتفظون بها من عام إلى عام عبر تجفيف الخضار التي تنتج عنها. وقد كان تجفيف الخضار بغية استخراج البذور المفيدة لزرعها في الموسم التالي كان عادة متوارثة بل كان المصدر الأهم تقريباً للبذور المستخدمة من المزارعين.

يذكر أن هذه البذور كانت تستخرج من المنتجات المحلية الموروثة من مئات السنين مما يمكن أن يوصف اليوم بالمنتجات البلدية، وعلى الرغم من أن بعض هذه البذور أو الأنواع استقدم أحياناً من الدول المجاورة أو غيرها إلا أن المهم هو أنها كانت في مجموعها منتجات طبيعية وبنت بيئتها ولم يدخل عليها أي تعديل عبر السنين.
لكن منذ مطلع التسعينات، ومع تقدم علم التعديل الوراثي للنباتات وتطور وسائل السيطرة على الجينات الوراثية، بدأت الشركات الأجنبية في أميركا وكندا وأوروبا تجرب أبحاثاً مكثفة على بذور جديدة قيل يومها أنها تساعد على مقاومة العوامل المناخية والجفاف أو مقاومة الأمراض والآفات التي تصيب المواسم، وتمّ في غضون سنوات قليلة تطوير بذور زعم أنها تمتلك تلك الصفات وأنها إضافة إلى ذلك تعطي محصولاً أفضل من البذور التقليدية. لكن من أجل حماية حقوقها التجارية قامت تلك الشركات بتعديل البذور الجديدة بحيث لا يمكن استخدامها إلا لموسم واحد، وبحيث يترتب على المزارع شراؤها كل سنة من تلك الشركات. كيف قامت الشركات بذلك؟ استخدمت علم التعديل الوراثي والتلاعب بالجينات لتحقن تلك البذور وغالباً عن طريق تعريضها مادة التتراسيكلين (وهي مضاد حيوي قوي)، بحيث تنتج ثمرة لا يمكن الاستفادة من بذورها أو تنتج بذوراً (في حالة القمح مثلاً) يمكن طحنها واستهلاكها لكن لا يمكن استخدامها كبذور لأنها عملياً عقيمة ولا يمكن أن تنبت محصولاً جديداً. هذه البذور أطلق عليها أسماء مثل البذور المحكومة بالموت أو البذور الذاتية التدمير.

ماذا وراء هذه التقنيات الجديدة؟

يعتقد الكثيرون أن شركات عملاقة، مثل مونسانتو ودوبون وغيرهما، تسعى عن طريق هذه البذور للسيطرة على القطاع الزراعي وارتهان المزارعين في العالم، لأن شيوع استخدام تلك البور يعني أن المزارعين (خصوصاً في الدول الفقيرة) سيحتاجون في كل عام لشراء البذور المهجنة من تلك الشركات لأن المحصول الذي يجمعونه كل عام لا يمكن استخدامه مجدداً كبذور، لكن مخاطر هذه التقنية على العالم الثالث لا تتوقف عند هذا الحد بل تمتد إلى النواحي المصيرية التالية:
إن البذور المهجنة معدلة وراثياً. وقد نشأت مخاوف حقيقية من أن تؤدي عملية التلاقح بين البذور المعدلة وراثياً وبين النباتات التقليدية التي قد تكون مزروعة في جوارها إلى انتقال خاصية العقم إلى النباتات المحلية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انحسار النباتات الوطنية الأصلية، وبالتالي التسبب بكوارث بيئية لا أحد يعرف مداها. وقد شبه الكثيرون من معارضي البذور المعدلة وراثياً بأسلحة الدمار الشامل واتهموا الشركات الغربية والحكومات التي تدعم تلك الشركات في الولايات المتحدة وكندا بأنها تستخدم وسائل أقرب إلى الأسلحة البيولوجية للسيطرة على العالم من خلال السيطرة على مصدر عيش الناس وخصوصاً المزارعين والفلاحين.

أوروبا وعدد كبير من البلدان تحرّم استخدام البذور المعدلة وراثياً بسبب أثرها في تلويث البيئة الزراعية وتهديد الأجناس المحلية

إن نشر البذور المهجنة والمعدلة وراثياً يمكن أن يؤدي إلى إدخال محاصيل منمطة تقضي على التنوع الزراعي والبيئي. وعلى سبيل المثال، فقد سعت شركة مونسانتو الأميركية لإدخال ثمرة الباذنجان الهندي المعدلة وراثياً، ووجهت بانتفاضة شاملة من قبل المزارعين والحكومات المحلية، الأمر الذي اضطر الحكومة الهندية في العام الماضي إلى تجميد المشروع. وقد لفت أحد الخبراء الهنود يومها إلى أن الهند تحتوي على أكثر من 300 نوع من الباذنجان الجيدة النوعية، الأمر الذي يجعل من المستغرب محاولة إدخال نوع جديد لا يعلم أبداً الأثر الذي يمكن أن يحثه على الزراعة الهندية. 

يذكر أن الأمم المتحدة كانت قد صوتت بمنع استخدام البذور المعدلة وراثياً وراثياً وذاتية التدمير Seeds with terminator genes ، وقد وعدت الشركات الأميركية يومها بتأجيل طرح هذا النوع من الحبوب في السوق. لكن الوقائع أثبتت في ما بعد أن الشركات مستمرة وبالتعاون مع الحكومة الأميركية في محاولة إدخال هذا النوع من البذور على شكل “مساعدات إنسانية” للمزارعين خصوصاً على أثر تعرض بلد معين لكوارث طبيعية. وهذا ما حدث في هايتي مؤخراً التي تعرضت إلى زلزال مدمر سارعت على أثره الحكومة الأميركية للدفع بمساعدات كبيرة كان من بينها مئات الأطنان من القمح المعدل وراثياً ولا يمكن استخدامه إلا لإنتاج محصول واحد. والملفت أن المزارعين المنكوبين في هاتي رفضوا استلام هذا القمح وهددوا بحرق الشاحنات في حال شحنها إلى بلادهم، هذا الأمر نفسه حدث مع باكستان ومع دول أفريقية فقيرة وقد رفضت كل هذه الدول إدخال هذا النوع من الحبوب الذي صوتت الأمم المتحدة على منعه، كما أن كافة الدول الأوروبية تحرم استخدامه أو استيراده إلى أراضيها.

ما الذي يعنينا في الجبل من هذا الموضوع؟

إن الضجة القائمة في العالم حول التلاعب بالجينات الوراثية للنباتات مهمة جداً لنا، لأن الشركات المهيمنة على هذا المجال تسعى لدخول كافة الأسواق لبيع منتجاتها وجعل المزارعين مضطرين لشراء بذورها سنة بعد سنة وبأسعار باهظة تبررها هذه الشركات بكون المحصول الذي توفره تلك البذور أعلى من حيث النوعية والإنتاجية من البذور التقليدية. وما ينطبق على الهند أو بلدان أفريقيا أو غيرها ينطبق أيضاً على لبنان وبلدان العرب التي تعتبر سوقاً كبيرة للبذور.
إن المحاذير التي كانت في أساس تحريم البذور المعدلة وراثياً في أوروبا وعدد كبير من البلدان ما زالت قائمة، وهي تطاول ليس فقط بذوراً إستراتيجية مثل القمح والأرز والذرة وغيرها، بل تمتد لتشمل كل ما هو معدل وراثياً من البذور بما في ذلك بذور الخضار التي باتت دائرتها تتسع عندنا سنة بعد سنة، لأن تلك النباتات تزرع أحياناً إلى جانب نباتات محلية متوارثة ولا أحد يعلم ما هو نوع التأثير التبادل عن طريق التلقيح وتطاير الخصائص الجينية لتلك المنتجات عبر الهواء إلى حقول أخرى قريبة أو بعيدة.
إن لبنان والجبل كان يحتوي على أنواع عديدة ومجربة من الخضار المحلية أو “البلدية” التي وصلت إلينا من أسلافنا وقد نعمنا بإنتاج تلك البذور من الخضار والفاكهة جيلاً بعد جيل، وكان الفلاحون يستخرجون كل عام بذوراً طبيعية ومن إبداع الله الرزاق ويخزنونها للعام التالي. أما الآن فإن البذور المهجنة أو المعدلة وراثياً بدأت تتسلل إلى الجبل سنة بعد سنة، بحيث بات من الصعب في بعض الحالات إيجاد بذور الأجناس التاريخية والبلدية التي تشكل ثروتنا الزراعية والطبيعية. وهنا يظهر الخطر الأساسي للبذور المهجنة وهي أننا وعبر تعميم استعمالها على الجميع سنة بعد سنة وقبولها كأمر واقع قد تنتهي بنا إلى اختفاء سلالات بكاملها من الخضار البلدية والمنتجات التي تعتبر في أصل الثروة الطبيعية لبلادنا، فضلاً عن ذلك فإن هذا الواقع سيعني في المستقبل بأنه ما لم نتمكن من استيراد البذور المهجنة من الشركات الأجنبية في عام معين فإننا لن نجد في الجبل بكامله بذوراً من السلالات البلدية يمكن استخدامها عند الحاجة.
إن المحاذير التي ذكرناها تتعلق بالأمن الغذائي لمنطقة الجبل، كما تتعلق بالأمن الغذائي لكافة المناطق في لبنان أو سورية أو غيرها من البلدان النامية، ولا بد بالتالي من طرحها كموضوع ملح على المختصين والتداول في محاذيرها والإجراءات الاحتياطية الضرورية لاحتواء تلك المخاطر. ولا يعتقدن أحد أن خطر انقراض سلالات وأجناس نباتية محلية بكاملها أمر افتراضي، لأن هذا الأمر سيحصل إلى حد كبير في حال استمر نمو استخدام البذور المهجنة على المنوال الحالي.
الأمر المهم هنا هو أن غذاءنا يصبح يوماً بعد يوم مرتهناً ليس بإرادتنا نحن وبعطاء الطبيعة التي أكرمتنا وتعهدت حاجاتنا عبر السنين بل بشركات أجنبية لا يعرف الإنسان ما الذي يمكن أن يحصل لها أو لسياساتها في المستقبل. وقد تختفي تلك الشركات أو يفرض عليها قيود أو سياسات جديدة تمنعها من توريد منتجاتها، أو قد يحصل من الظروف ما قد يحول دون وصل تلك البذور المهجنة إلينا فكيف سيكون حالنا في مثل تلك الظروف القاهرة؟

وما العمل في تلك الحال؟

إن الخطوة الأولى والأهم هي قيام مبادرة لإنشاء بنك لبذور المنتجات البلدية غير المهجنة، وهي التي يمكن استخراجها من المحصول وخزنها لاستخدامها ثانية في الموسم التالي. كما أنها الوسيلة الأنسب للحفاظ على ثروتنا النباتية الأجناس البلدية المتوارثة، والتي لم تعبث بها أيدي المختبرات السوداء في الشركات التي تخطط ليل نهار لجعل المزارعين رهائن لإنتاجها ومصدراً لزيادة أرباحها.
إن الخطوة التالية هي إقناع المزارعين بالتخلي عن استخدام البذور المهجنة لأن مخاطرها على مستقبلنا الزراعي حقيقية في وقت ليس واضحاً ما هي الفوائد التي تقدمها أو ما هي مصداقية الميزات العديدة التي تنسبها الشركات لها. وكلنا يذكر أن إنتاجنا البلدي كان يتميز بالقوة والخضرة والطعم اللذيذ ولم يكن هناك من الأساس أي حاجة لاستبداله بهذه البذور الممسوخة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
إننا نهيب أيضاً بالتجار والمتعاملين بالبذور أن ينضموا إلى هذا الجهد، وأن يدركوا أنهم معنيون به فلا يسعون بالتالي إلى الترويج القوي لهذا النوع من البذور بل أن يكون لديهم على الأقل البذور التقليدية إلى جانب المهجنة بحيث يكون الخيار متاحاً أمام المزارع لاستخدام أي منها.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading