انتصار المماليك الساحق
مهد لطرد التتار ثم الصليبيين
تحتل معركة عين جالوت التي دحر فيها العالم الإسلامي لأول مرة جحافل التتار وأوقع بالجيوش التي أرعبت العالم هزيمة ماحقة أبيدت فيها كل فيالقهم وقتل فيها بعض أعظم قادتهم، محطة خالدة فعلاً في تاريخ المسلمين إذ ترتب على تلك المعركة الظافرة التي قادها أحد أعظم سلاطين المماليك وقادتهم العسكريين، مظفر الدين قطز، نتائج تاريخية كان منها طرد التتار من كل المنطقة ثم تحرير بلاد الشام وفلسطين من كافة الحاميات والمستعمرات الصليبية التي كانت صمدت لهجمات الأيوبيين بما في ذلك تحرير عكا الحصينة بعد أكثر من 190 عاماً من الحكم الصليبي، كما كان من نتائجه قيام دولة المماليك التي دام حكمها أكثر من 270 عاماً.
لكن الأهمية الحقيقية لهذه المعركة العظيمة في تاريخ العرب والمسلمين تنبع من كونها جاءت في عز تقهقر الممالك الإسلامية وسقوطها واحدة تلو الأخرى أمام جحافل التتار، كما أنها جاءت في ظروف صعبة في المشرق تميّزت بالصراع بين دولة المماليك الناشئة وبقايا الأمراء الأيوبيين في دمشق كما تميزت بحالة الاضطراب التي عمت مصر نفسها بعد مقتل الملك عز الدين أيبك ثم زوجته شجرة الدر التي اتهمت بقتله، وهذا فضلاً عن العداء والتنافر بين فرق المماليك أنفسهم.
التتار يتهيأون لغزو مصر
باختصار كان الوضع مهيئاً فعلاً لكي يكمل التتار غزواتهم للمنطقة باجتياح مصر لولا أن قيض للمصريين وللمسلمين صعود قائد عظيم إلى سدة الحكم في مصر هو مظفر الدين قطز، وقد كان قائداً عسكرياً فذاً وملكاً شجاعاً محنكاً وورعاً في الوقت نفسه. وقد تمكن قطز بحنكته وقوة شخصيته من توحيد مصر تحت رايته ثم مهادنة الأمراء الأيوبيين بل ذهب حتى مهادنة الحامية الصليبية في عكا بهدف تحييدها عن المعركة المقبلة مع التتار. والملفت أن هذا القائد تمكّن من استكمال استعداداته لمواجهة التتار في مدة قصيرة لم تتجاوز سنتين بحيث كان فعلاً قد حقق جهوزية لا بأس بها عندما بدأ التتار بدق أبواب مصر.
قبل ذلك كان التتار بقيادة هولاكو قد اجتاحوا معظم الممالك الأسيوية بما فيها روسيا ووسط أسيا وخوارزم وفارس ودمروا الخلافة العباسية واجتاحوا البلاد الشامية.
وجاءت اللحظة العصيبة للسلطان مظفر الدين قطز عندما أرسل هولاكو بعثة ضمت أربعين من رسله وبعض أعيان التتار مع رسالة إنذار شديدة إلى قطز ينذره فيها بتسليم البلاد والاستسلام للجيوش القادمة.
في هذه الأثناء كان قطز قد وصل على قناعة راسخة بفضيلة التصدي للتتار مهما كلف الأمر بدلاً من الاستسلام لهم لا سيما وأن استسلام الممالك التي وقعت في يدهم لم يوفر عليهم أعمال القتل والمذابح والنهب والسبي، وقد كان أفعال التتار أينما حلوا تميزت دوماً بالتوحش والشراسة وعدم الرأفة لا بصغير ولا بكبير.
رسالة إنذار من هولاكو
وقد جاءت رسالة الإنذار التي بعث بها ملك التتار هولاكو إلى السلطان مظفر الدين قطز مؤيدة لهذه الصورة وللمخاوف التي كانت تعتري هذا القائد العظيم. وقد حاول هولاكو في الرسالة استخدام المهابة والصورة المرعبة التي كانت قد تكونت عن التتار في كل أنحاء القديم بهدف دفع المسلمين للاستسلام كما فعل العديد غيرهم. وجاء في تلك الرسالة المليئة بالاحتقار والعجرفة :
قرار خطير من مظفر الدين قطز“من ملك الملوك شرقاً وغرباً القائد الأعظم..اتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع”، وأضاف هولاكو منذراً:” من طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، كبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى”. كان ذلك في سنة 658هجرية الموافق مطلع سنة 1260ميلادية.
على هذه الرسالة رد مظفر الدين قطز بتحركين أساسيين:
التحرك الأول كان بإعلان النفير العام وبدء التعبئة الشاملة للحرب مع التتار بمساعدة أركانه وعلماء المسلمين وخطباء الجوامع، وهو كان مهد لذلك بترتيب البيت قبل سنوات وتدعيم موارد وعتاد الدولة وتهيئة الجيوش. وقد توّج تلك الحملة بخطبة شهيرة قال فيها مخاطباً أعيان البلاد وقادتها بالقول: “يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال)”..وتابع قطز خطابه التعبوي حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول:
“يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن”..
ووقعت كلمات قطز القوية في قلوب الأمراء.. فضجوا جميعاً بالبكاء وساهمت الروح القيادية للقائد المملوكي في جمع كلمة القادة والأمراء على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن، ونجح قطز بذلك في خطوة هي من أصعب خطوات حياته وهي دفع مصر لإعلان الحرب على التتار.
التحرك الثاني الذي قام به قطز كان مكملاً للتحرك الأول وإن كان من طبيعة مختلفة. وقد كان هذا السلطان المحنك مدركاً أن قلوب الأمراء وافقت على الجهاد تحت تأثير القدوة وقوة الحجة واستثار الحمية خصوصاً لجهة حماية الأعراض والأرواح والتذكير بأن الله مطلع على المتخلفين والمتخاذلين. لكن من الممكن لتلك القلوب أن تنكص على أعقابها وأن تخاف عندما يقترب الخطر. لذلك أراد قطز أن يحدث أمراً جللاً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، فلا يبقى أمامهم غير خيار القتال مهما كلف ذلك من ثمن. وهو قرر بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعين الذين أرسلهم إليه هولاكو برسالة التهديد على أبواب المدينة وأن يعلّق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الناس. وكان قطز يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلاناً للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلباً على التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد كما أنه يقطع التفكير في أي حل سلمي للقضية ويفرض الاستعداد الكامل للجهاد لأن التتار بعد قتل رسلهم لن يقبلوا باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون..
كان هذا هو اجتهاد قطز وإن كان العديد من فقهاء المسلمين تحفظوا بقوة على هذا العمل باعتبار أن الرسل في الإسلام لا تقتل بينما تغاضى البعض الآخر عن عمل قطز مبرراً إياه بأفعال التتار وبمبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات.
قطز يقرر ملاقاة التتار خارج مصر
في الوقت نفسه، قرر مظفر الدين قطز عدم انتظار التتار في مصر بل استباق الحملة التتارية وملاقاتها قبل وصولها إلى مصر. وتمكن الجيش المملوكي من مفاجأة الحامية التتارية في غزة وقضى عليها ثم تابع مسيره حتى وصل إلى سهل عين جالوت والتلال المحيطة به وقدر بحنكته العسكرية أن هذا الموقع هو الأفضل لملاقاة التتار ووضع خطته المحكمة لمنازلة الجيوش الغازية التي أرعبت الدنيا.
وجاء جيش كتبغا التتاري وهو في حالة من التعبئة والغضب للإهانة التي وجهها قطز لملك المغول عبر قتل رسله وتعليق رؤوسهم على الأعواد ومرت الجيوش التتارية غرب بيسان ثم انحدرت جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتاري..
قبل الموقعة الكبرى بيوم حصل قطز على عون اعتبره من السماء واستبشر به إذ جاءه ألوف المتطوعين من أهل فلسطين، والذين تم تكليفهم على الفور بمهمات خدمة الجيش من خدمات نقل العتاد والطعام ونقل الجرحى وغير ذلك وهو ما مكنه من تحرير عدد إضافي من الجنود للمهمات القتالية. كما جاءه أيضاً رجل قال إنه رسول من قبل “صارم الدين أيبك”. وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو عند غزوه بلاد الشام، ثم قبل الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت حيث قرر أن يخدم جيش المسلمين. وقد أرسل صارم الدين أيبك ذلك الرسول إلى قطز ليخبره ببعض المعلومات المهمة جداً عن جيش التتار..
رسول ما قبل المعركة
وقد نقل هذا الرسول إلى قطز أن جيش التتار ليس بقوته المعهودة بعد أن أخذ هولاكو معه عدداً من القادة والجند (وذلك عند ذهابه إلى تبريز في فارس) وأن الجيش التتاري لم يعد على الهيئة نفسها التي دخل بها إلى الشام، فلا تخافوهم. كما لفت الرسول إلى أن ميمنة التتار أقوى من ميسرتهم، مما يعني أن على جيش المسلمين أن يقوي جداً من ميسرته، والتي ستقابل ميمنة التتار.. كما أسر الرسول بأن الأشرف الأيوبي أمير حمص سيكون في جيش التتار بفرقته، ومعه صارم الدين أيبك، ولكنهم سوف ينهزمون بين يدي المسلمين وينقلبون على الجيش الغازي. وقضى المسلمون ومعهم قائدهم قطز ذلك الليل الطويل الذي سبق الملحمة الكبرى في القيام والابتهال والدعاء والرجاء..
بعد ذلك وفي صبيحة يوم 2 سبتمبر 1260 كان وقت المواجهة حان فعلاً فصلى المسلمون ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات حتى أشرقت الشمس ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار الذي كان قد اقترب من سهل عين جالوت في عدده الرهيب وعدته الهائلة…
على العكس من ذلك، فقد تمّ إخفاء القسم الأعظم من جيوش المسلمين خلف التلال باستثناء مقدمة الجيش بقيادة ركن الدين بيبرس، والتي التي أشار لها قطز رحمه الله بأن تنزل من فوق التلال للوقوف على باب السهل لقتال الجيش التتاري. ولم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل وكان لكل فرقة ألوانها المميزة وتنظيمها البديع وتوالى نزول فرق المقدمة إلى السهل بصورة أذهلت التتار وقائدهم كتبغا الذي اعتاد على رؤية جيوش الخصم متفرقة ومنهزمة أمام الزحف التتاري.
وكل هذه الفرق كانت مقدمة جيش المسلمين فقط، لكنها كانت أقل بكثير من جيش التتار لأن قطز احتفظ بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك هذه في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات التتار..
غرور القوة يوقع التتار في فخ المسلمين
وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تقرع طبولها وتنفخ في أبواقها وتضرب صنوجها النحاسية.. لقد كانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر وتتواصل عن طريق تلك النغمات. وكانت هناك نغمات خاصة لكل تحرك، وبذلك يستطيع القائد قطز أن يقود المعركة عن بعد، وعلى مساحة شاسعة من الأرض من خلال الاستخدام المدروس لتلك الآلات الموسيقية الضخمة..
ولما كان كتبغا اعتقد أن مقدمة القوات الإسلامية كانت كل الجيش المملوكي فقد قرر أن يحسم المعركة في وقت قصير مستخدماً كامل قوة وعنف الجيش التتاري.
في المقابل، كانت الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة التتارية الأولى، وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابقة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك قبل عشر سنوات، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب.
وقد ثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى الإلقاء بكامل قواته من دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتاري. وكان الجزء الثاني من خطة قطز يقضي بإظهار التراجع واستدراج قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت بحيث تقع هذه ضمن الكمين وتتم محاصرتها من قوات الجيش التي كانت تنتظر إشارة النزول إلى الساحة.
مصرع كاتبغا وانهيار التتار
وبالفعل وقع كتبغا، القائد المملوكي المحنك، في الفخ المملوكي وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق للقوات الاحتياطية بدخول المعركة. ونزلت الكتائب الإسلامية الهائلة من خلف التلال إلى من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك وفي دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار وسدت عليهم طريق الفرار. وبعد صراع طاحن بدأت الكفة تميل لصالح المسلمين.وتعاظم الضغط على جيش التتار الذين بدأوا يسقطون بأعداد كبيرة تحت ضربات الجيش المملوكي. ووسط هذه المعمعة تقدم أحد أمراء المماليك واخترق الصفوف التتارية حتى وصل في اختراقه إلى كتبغا وضربه بسيفه ضربة أطاحت برأسه. وبمقتل كتبغا انهارت معنويات جيش التتار،وانطلق المسلمون خلف فلولهم يطاردوهم يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً . وأعاد التتار تجميع قواتهم في سهل بيسان الذي يقع على مسافة عشرين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من عين جالوت، ووقعت هناك معركة طاحنة ثانية تمكن فيها المسلمون من القضاء على فلول جيوش التتار حتى أبادوها عن بكرة أبيها.
آثار عين جالوت
مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد إلا أن آثارها فاقت بقوتها كل تصور من حيث حجمها واتساع تداعياتها. وهذه الآثار يمكن إيجازها بالتالي:
أولا: وضع المسلمون في عين جالوت خاتمة مجيدة للهزيمة النفسية البشعة التي كانوا يعانون منها بعد أن اجتاحت جحافل التتار العالم الإسلامي لمدة 40 عاماً تقريباً حتى بات السلوك الطبيعي للممالك والملوك هو تسليم رقابهم للغزاة وفتح المدن أمامهم من دون قتال ليعملوا فيها ذبحاً وقتلاً ونهباً.
ثانيا: عادت الهيبة للأمة الإسلامية بعد أفول دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات العزة والسيادة، وذلك بعد انتصارَيْ حطين في المشرق في فلسطين والأرك في المغرب وقد ألقت عين جالوت الجلال والمهابة مجدداً على عالم الإسلام حتى إن هولاكو الذي كان استقر في تبريز في فارس لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام ثانية متجنباً دفع جيشه إلى مهلكة جديدة.
رابعاً: عادت الوحدة العظيمة بين مصر والشام، وكونا معاً التحالف الاستراتيجي الصَّلب الذي يمثل حاجزاً لصد الهجمات الأجنبية، وبينت تجربة دولة المماليك أن اتحاد مصر مع الشام يمثل عامل أمان كبيراً لكل المنطقة، كما أنه يقلل كثيراً من أطماع الطامعين.ثالثاً: تعتبر موقعة عين جالوت شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، التي حملت راية الإسلام لمدة تقترب من ثلاثة قرون (مائتان وسبعون سنة). ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية أكبر على وجودها حيث استضافت أبناء خلفاء بنى العباس في القاهرة بعد عين جالوت مباشرة وفي عهد الظاهر بيبرس، إلا أن هذه الدولة لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي ضمت مصر والشام وبعض الحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا. أما بقية العالم الإسلامي فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين تقريباً إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة.
خامساً: اختفى من على الساحة الإسلامية كل الأمراء الأيوبيين الذين فرّط معظمهم في الأمانة الثقيلة التي خلَّفها لهم جدُّهم العظيم صلاح الدين الأيوبي وانشغلوا بالصراع على السلطة والمال ومقاومة الحكم المملوكي في مصر إلى حد التعاون مع الصليبيين لإسقاطه، وهذا إلى أن حدثت موقعة عين جالوت، فكان من آثارها المباشرة سقوط تلك الزعامات الوهمية.
سادساً: انصرف سلاطين الدولة المملوكية الفتية من دون تأخير إلى تطهير بلاد الشام وفلسطين من بقايا الإمارات والحصون الصليبية والتي لم يتمكن الأيوبيون من فتحها أو أعادها بعض أمرائهم إلى الصليبيين في سياق تحالفات وصفقات سياسية مشينة، وتم تحرير المدينة الحصينة عكا الحصينة في سنة 690 هجرية بعد قرابة قرنين من الاحتلال الصليبي، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية وانتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام وذلك بعد اثنتين وثلاثين سنة فقط من عين جالوت، مما يجعل هذا التحرير من النتائج المباشرة لتلك الموقعة المجيدة.
سابعاً: ارتفعت مكانة مدينة القاهرة المصرية ارتفاعاً بالغاً، بعد انتصار عين جالوت وقيام دولة المماليك، وخاصة بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة 656 هجرية على أيدي التتار، وسقوط قرطبة قبلها في سنة 636 هجرية في أيدي الصليبيين الأسبان..وأصبحت القاهرة قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً، وعظم دور الأزهر الشريف.
ثامناً: من أعجب آثار معركة عين جالوت غير المتوقعة وأعظمها كانت أن العديد من التتار بدأوا بالدخول أفواجاً في دين الإسلام فهم بعد أن تعرفوا إليه وقرأوا في أصوله وقواعده وقوانينه، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه. أعجبوا به إعجاباً شديداً، وخاصة أنهم كانوا يعانون من فراغ ديني، ثم حصل تطور خطير عندما قرر أحد زعماء القبيلة الذهبية – أحد الفروع الكبرى في قبائل التتار وابن عم هولاكو مباشرة اعتناق الإسلام وتسمى باسم “بركة” قبل توليه زعامة القبيلة الذهبية بعدها بسنتين وأصبح اسمه “بركة خان”، وكانت هذه القبيلة شبه مستقلة عن دولة التتار، وتحكم المنطقة التي تقع شمال بحر قزوين وهي تقع الآن في روسيا، وبإسلام هذا الزعيم دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، علماً أن دخول كل هؤلاء في الإسلام كان قبل عين جالوت.
ومن آثار موقعة عين جالوت العظيمة أن تزايد عدد المسلمين جداً في القبيلة الذهبية حتى أصبح كل أهلها تقريباً من المسلمين، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو. ومازالت بقايا القبيلة الذهبية موجودة، ومكونة لبعض الإمارات الإسلامية مثل إمارة قازان وإمارة القرم وإمارة استراخان وإمارة النوغاي وإمارة خوارزم وغيرها.