في ظلِّ الفراغ الروحي المتعاظم أو الآخذ بظاهر الدِّين من دون لبِّه وجوهره الحقيقي، لا بُدَّ لـ “مجلة الضُحى” من لعب دور أساسي في ثقافة التوحيد ومناقبه وآدابه. وكم من الناس أصبح الدِّين عندهم تعلّقاً بالأماني وجموداً في الفِكر وتقصيراً في السعي؛ وما الفراغُ الذي نعيشه اليوم إلاَّ نتيجة لابتعادنا عن ينابيع التوحيد وتقصيرنا في العمل بالآية الكريمة: “وقُل ربِّي زدني عِلماً”. ولا بُدَّ لذلك من العمل على تعريف الموحِّدين بكنوزِ الإيمان والاختبار الرُّوحي الكوني والتحقّق. هذه الكنوز الذي وصلتنا من كلِّ صوبٍ، وتؤكِّد لنا كلَّ يوم أنَّ اختبار التوحيد شامل لجميع البشر، وأنَّ الله تعالى لم ينسَ من فضل هديه ونِعَمه الرُّوحية حضارة أو شعباً، ولا بُدَّ لنا بالتالي من التطلُّع بقلوبٍ مفتوحة إلى منابع التوحيد وقيمه ومسالكه، خصوصاً في محيطنا والتراث الهائل لشركائنا في الإيمان والإسلام.
إنَّها الرسالة المستمرِّة منذ أن وُجِدَ البشر. إنَّها رسالة الموحِّدين السابقين في كلِّ زمان، رسالة فيثاغوروس وسقراط وأفلاطون ورسالة هرمس الهرامسة وشعيب التوراة ويسوع الحقّ وحوارييه والإسلام الحنيف وكتاب الله المعجز والرسول الكريم وسيرته والصحابة الكرام وشمائلهم والأركان وشمس سلمان الفارسي التي لا تغيب، إلى عصر النور والحياة. وهو الدور الفاطمي والقاهرة المعزية، ونجومها الزاهرة، ودار الحِكمة، والمليون مُجلَّد في ذاك الزمان، واكتمال بدر التوحيد ورسالته الخالدة.
هؤلاء هم الموحِّدون الدروز، المسلمون المؤمنون، وهذا هو تراثهم، فأين نحن اليوم من هذا التراث؟ وهل يمكن لمن هم من أشرف الخلق أن يسيروا في هذه الحياة على غير هُدى، غير مُدركين لحقيقتهم وللرسالة التي كُلِّفوا بها، بل شرفوا بها وبحملها؟ وما الذي يعرفه موحِّدو هذه الفترة الصعبة من أسرار وحقيقة مسلك التوحيد الذي كان في أصل وجودنا وتقاليدنا، كما كان دوماً ميزان أعمالنا والقوَّة الدَّافعة عند المُلمَّات في صراعنا. وكم ناضل السابقون مِنَّا وكم من الأثمان الغالية دفعوا حفظاً لهذه الكنوز ولهذا المسلك الشريف والسامي في الحياة؟
إنَّه التوحيد، الذي استعصى سرَّه على أعظم العقول وفق قول أحد الحُكماء:
“إذا تناهــَــــــــــــــت عقــــــــــولُ العُقـــــــــــــــــلاء فـــــــــــــي التوحيــــــــــدِ، تناهَــــــــــت إلــــــــــى الحيــــــــــرةِ”
أو كقول أحد حُكماء المسلك، بأنَّ التوحيد إسقاطُ ألياءات، أيّ لا تقول لي، وبي ومني وإليَّ، بل جاهد لمحو الثُنائيَّة حتَّى لا يبقى إلاَّ الواحد. والغائصُ في بحار التوحيد لا يزداد على مرِّ الأوقاتِ إلاَّ عطشاً. وهل أجمل من وصف البسطامي حالةَ القلق والعطش والفناء عن الذَّات، والاحتراق في لهب المحبَّة والوَجدِ حيث يقول :
عجبـــــــتُ لِمـــــــن يقـــــــولُ ذكـــــــرتُ إلفـــــــي وهــَـــــل أَنسَـــــــى فأذكُـــــــر مـــــــا نسيـــــــتُ
أمـــــــوتُ إذا ذكـــــــرتــُكَ ثُـــــــــــــمَّ أحيَــــــــــــا فكـــــــم أحيـــَــــا عليـــــــكَ وكـــــــم أمــــــــوتُ
شربـــــــتُ الحُـــــــبَّ كأســــــــاً بعــــد كــــــــأسِ فمـــــــا نَفَـــــــدَ الشـــــــرابُ ومـــــــا رويـــــــتُ
“إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأنَّ لهم الجنَّة”؛ والجنَّةُ في حقيقتها تتجاوز أنهار اللبن والعسل الرمزيَّة إلى تجلِّي الحقيقة في نفوس المُستعلين والمُتطهِّرين، في رحابِ الدعوة الإلهية الهادية المهدية. وقد قال فيهم جعفر بن محمد:
“إنَّمــــــــــا المؤمنــــــــــون أُخــــــــــوةٌ أبوهـُـــــــــمُ النُّـــــــــورُ أيّ العقـــــــــل وأُمُّهـــــم الرَّحمـــــة أيّ النَـــفس”
هذه لمحاتٌ في معنى التوحيد نرجو أن نُقدِّمها في هذا الباب إلى السَّالكين والشباب، وهذا الجيل الجديد الذي انجذب معظمه، ويا للأسف، إلى كلِّ ماديٍّ محسوس، والسعيد من جعل الحِكمَة إلى قلبهِ مسكناً، وجعل طلبها عنده أزكى مغنماً، فيغمر ذاته الشريفة عندها شعور الغبطة الناجم عن معرفة النَفْسِ، ومن عَرَفَ نَفْسَه فقد عَرَفَ ربَّه.
عليـــــــكَ بالنَّـــــــفْسِ تستكمِــــــل فضـــــــائِلها فأنـــــــت بالنفـــــــس لا بالجســـــــم إنســـان
أو كقول جلال الدِّين الرُّومي :
وتزعـَــــــم أنَّـــــــــــــكَ جُـــــــــرمٌ صغيــــــــــــــــــرٌ وفيــــــــــــكَ انطَـــــــوَى العالـــــــــمُ الأكبـــــــــرُ
أو كصرخة الحلاَّج في معراج شهادته وأمام مرآة كينونته الإلهية:
وأيُّ الأرضِ تَخْــــــــــــلُو مِنْــــــــــــكَ حتَّــــــــــــــى تعالـــــــوا يطلبونــــَــــــكَ فــــــي السَّـمـــــــــــــاءِ
تراهُـــــــــــــم ينظــــــرُونَ إليـــــــكَ جَهْـــــــــــــراً وهــُــــم لا يُبصِــــــرُونَـكَ مِــــــــن عمـــــــــــــاءِ
وختــاماً،
إنَّه نداءٌ من القلب لتعودوا إلى الينابيع، إلى مصادر الحِكمة، إلى رسائل العقل وتقبُّل النَفْسِ وانبثاق الكلمة، إلى حيث اليقظة والصحائف البيض وتجدُّد الحياة، بنعمةِ العقيدة الشريفة لمُستحقيها. فعلى من اصطفاه المَولَى بشيراً ونذيراً وهادياً ورسولاً، وعلى إخوانه الأطهار الأخيار ألف صلاةٍ وسلام، وإلى كلِّ العارفين والمُريدين والعاملين تحيَّة التوحيد.