يبدو أنّ ما تراه العين يصعب أحياناً أن يُترجَم بمُستندات ووثائق رسميّة تعترف بما نستنشقه من تلوّث ومواد سامة ومُسَرطنة. دخان المولدات والمصانع والسيارات في لبنان وآراء الخبراء والمُختصّين في مجال التلوّث والأمراض الصدريّة والسّرطانية والأبحاث العلميّة التي يقودونها في هذا المجال، كفيلة بنقل صورة عن نوعيّة الهواء في لبنان. عيّنة صغيرة لمنطقة واحدة في بيروت تكشف حقيقة مخيفة عمّا نشهده.
نحن على معرفة تامّة بأنّ التلوّث موجود في لبنان عامة، ولو بنسبة متفاوتة بين منطقة وأخرى، على الرّغم من غياب الأرقام الرسميّة المفروض صدورها من الجهات والوزارات المعنيّة. المبادرات الفردية التي تقوم بها المراكز والجامعات الكبيرة المشهود لها بدقّتها كالجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف، تُظهر نوعيّة الهواء الذي نتنشّقه وربما تفسّر نسبة السرطان المتزايدة في لبنان.
تتعدّد مصادر التلوث، من المصانع لى المولّدات والسيارات وغيرها من الانبعاثات السامّة ومعامل الزُّوق والجيّة وغيرها. وبعدها فقد وصلت نسبة التلوّث في بيروت إلى 3 أضعاف الحد الأقصى المسموح به وفق منظّمة الصحّة العالمية، وقد كشفت منظمة «غرينبيس» في أيلول 2018 نتائج تحليل «غير مسبوقة» لبيانات حديثة صادرة عن الأقمار الصناعية في الفترة المُمتدّة من 1 حزيران إلى 31 آب، عن تصنيف مدينة جونيه في المرتبة الـ 5 عربيّاً والـ 23 عالميّاً من حيث نسبة الغاز الملوّث «ثاني أوكسيد النيتروجين NO2» في الهواء. من جونيه إلى الحمرا، حيث أظهرت الدراسة التي أعدّتها الجامعة الأميركية نسبة الملوّثات المُسَبِّبة للسرطان الصادرة عن المولدات العاملة بالديزل في منطقة الحمرا.
قراءة هذه الوقائع والأرقام كفيلة بنقل واقع التلوّث في لبنان. لم نعد نبحث اليوم عن المسبّبات والعوامل، فكلّها باتت معروفة ومكشوفة بالعين المجرّدة. ما يهمّنا هو إيجاد خطّة عمل واستراتيجيّات للحدّ من هذا التلوث الذي يقتلنا بأمراضه ومواده المسرطنة.
لدى أستاذة مادة الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت والمتخصّصة في تلوّث الهواء ومديرة مركز حماية الطبيعة، الدكتورة نجاة عون صليبا، الكثير من المُعطيات والأرقام التي تكشف حقيقة واقع التلوث، وهي تعرف جيّداً كيف تُلخّص ذلك. الانطلاقة كانت مع الدراسة العلمية التي أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت حول الملوثات المسببة للسرطان الصادرة عن المولّدات العاملة بالديزل، وذلك بتمويل من الجامعة الأميركية وبالتعاون مع الدكتورين عصام لقّيس وآلان شحاده.
رصدت الدراسة «الملوثات الصادرة عن المولدات العاملة بالديزل في منطقة الحمرا حيث شملت نحو 588 بناية سكنية من ضمنها 50 فندقاً». وأظهرت وجود 469 مولّداً في هذه المنطقة، وهو عدد هائل، مقارنةً بمساحة المنطقة، أي ما يقارب مولّداً واحداً لكلّ مبنيين. إزاء هذا الواقع، وإذا سلّمنا جدلاً بتشغيل هذه المولدات لمدة 3 ساعات يوميّاً في الوقت ذاته، فنحن نستهلك نحو 40 طنّاً من الفيول الذي يُنْتَج منه نحو ١،٥ طن من ثاني أوكسيد النيتروجين NO2 في الهواء.
عدد الجزيئات المنتشرة في الهواء الطّلق في لبنان […] أضعاف ما هو مسموح به وفق منظمة الصحّة العالمية.
وجود هذا العدد الهائل في مساحة صغيرة، يفسّر نسبة الجزيئات الخطيرة المسببة للأمراض والسرطان، حيث تسجّل تقريباً نحو 50 ميكروغراماً في المتر المكعب عند تشغيل هذه المولدات جميعها في التوقيت نفسه لمدة 3 ساعات فقط. إذاً، «تشغيل المولدات العاملة بالديزل في بيروت، يشكّل نسبة نحو 40 بالمئة من كميّة الهيدروكربونات الأروماتية المتعدّدة الحلقات التي يتعرّض لها السكّان في منطقة الحمرا. وإن استعمال المولّدات العاملة بالديزل في بيروت، ثلاث ساعات يوميّاً، يزيد من نسبة التعرّض للمسرطنات نحو 60 بالمئة عن المستويات الطبيعية، وهي أعلى بكثير في المناطق التي تعمل فيها المولّدات 12 ساعة في اليوم».
تشير الدراسة أن «هذه ليست سوى عيّنة صغيرة من واقع أكبر، ففي قراءة تقريبيّة، قمنا بدراسة استنتاجية عن توزيع المولّدات في منطقة بيروت الكبرى استناداً إلى نتائج منطقة الحمرا. وأظهرت النتائج أنّ استهلاك المولّدات يقارب الـ 750 طناً من الفيول وإنتاج نحو 30 طناً من ثاني أوكسيد النيتروجين وطنّاً من الجزيئات. علماً أنّ عدد الجزيئات المنتشرة في الهواء الطّلق في لبنان يراوح بين 30- 25 ميكروغراماً في المتر المكعب، وهو أضعاف ما هو مسموح به وفق منظمة الصحّة العالمية».
تشدّد الدراسة عن تلوّث الهواء على أنّ «مشكلة التلوّث ليست محصورة في مدينة بيروت فقط وإنّما تشمل كل المدن اللبنانيّة، وليست محصورة في المولّدات والانبعاثات الصادرة منها، وإنّما تطال أيضاً مشكلة السيارات القديمة التي تنتج منها انبعاثات سامة أهمّها ثاني أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد النيتروجين والجزيئات وغيرها من الانبعاثات التي تؤثر في نوعية الهواء وزيادة السموم والمواد المُسَرطنة فيه». بناء عليه، تكشف دراسة تُعدّها الجامعة الأميركية في بيروت عن وجود نحو مليون و500 سيارة صغيرة بين 2005 و2006 بلغ عمرها 19 عاماً. هذا الواقع يعكس أزمة حقيقية على أرض الواقع، فهذه الانبعاثات الناتجة من السيارات القديمة، تكون سامّة كلّما طال بقاؤها وازداد عمرها. وهي تكون أعلى من السيارات الحديثة المبرمج للسيطرة على هذه الانبعاثات بفضل التكنولوجيا الصناعية. فكلّما كانت السيارة قديمة أنتجت موادَّ سامة.
لا يخفى على أحد أنه يُحكى عن أرقام كثيرة في مسألة التلوث الهوائي، سواء من المولدات والمصانع أو حتى السيارات. وفي الحديث عن حماية نوعية الهواء، أنشأت وزارة البيئة في العام 2013 خمس محطّات لرصد نوعيّة الهواء في لبنان شكّلت قاعدة أساسية وأولوية لهذا البرنامج. وفي العام 2017 الجسيمات، ومختبر قياس واحداً، وثماني محطات مستقلة لرصد الطقس.
إنّ مراقبة نوعية الهواء هي الخطوة الأولى في مكافحة تلوّث الهواء والاتجاه نحو اعتماد استراتيجية لإدارة نوعية الهواء. وعلى الرغم من إقرار مجلس النوّاب في 13/ 4/ 2018 قانون حماية نوعية الهواء رقم 78، إلّا أنّ القانون هذا لم يترافق مع أيّة خطة عمل أو إجراءات للتخفيف من مصادر التلوث. كما لم نسمع أو لم تتمَّ مشاركتنا بأيّة نتائج حول ما أظهرته محطّات رصد تلوث الهواء. وفي انتظار وضع استراتيجيات واقعية يُعمل بها على، استُكملت المرحلة الثانية التي شملت 10 محطات لرصد نوعية الهواء مجهزة بالكامل، وثلاث محطات لرصد رض الواقع. ويكشف تقرير منظمة الصحّة العالمية هول مخاطر التلوث على صحتنا، إذ بيّن أنّ أكثر من 90% من سكان العالم يتنشّقون هواء مُلوّثاً، أي أنّ هناك تسعة من كلّ 10 أشخاص في العالم يتنشقون هواء يحوي مستويات عالية من الملوثات. وبحسب بيانات المنظمة، يموت نحو سبعة ملايين شخص سنويًّا نتيجة تعرّضهم لجزيئات دقيقة تتسلل عميقاً إلى الرّئتين وفي النظام القلبي ـ الوعائي، الأمر الذي يؤدي إلى أمراض مثل الجلطات الدماغية ومشاكل القلب وسرطان الرّئة.