الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مقابلة مع المفكر

مقابلة مع المفكر الفرنسي الراحل تزفيتان تودوروف

«العيش خلف جدار يشوهك من الداخل»

الجدار الإسرائيلي إغتصب أراضي إضافية تعود إلى الفلسطينيين
وسياسة فصل الأراضي عن بعضها تذكر بجنوب أفريقيا العنصرية

الجدران الدفاعية فقدت فعاليتها بسبب إختراع المتفجرات
لكن حلّت محلها جدران معادية للمهاجرين الساعين لحياة أفضل

يعتبر تزفيتان تودوروف المفكر الفرنسي البلغاري الأصل من أبرز الكتّاب الإنسانيين الذين عاشوا في أوروبا وكان له تأثير كبير في الأوساط الأكاديمية وأوساط المثقفين كإنسان منفتح وذي نزعة علمانية.
إهتم بعلم الأنتروبولوجيا والفلسفة والنقد الأدبي وعلم الإجتماع، وشغل منصب مدير المعهد الوطني للأبحاث العلمية في باريس العام 1968 قبل أن يصبح مديراً فخرياً له. عمل كأستاذ زائر في عدد من الجامعات الدولية والأميركية منها جامعة هارفرد وييل وكولومبيا وجامعة كاليفورنيا وجامعة بركلي، نشر 21 كتاباً من بينها كتابه عن “شاعرية النثر” و”غزو أميركا”، كما نشر كتاباً حول أخلاقيات معسكرات الإعتقال النازية والستالينية وكتاباً عن “الخوف من البرابرة”: La Peur des barbares (2008) وكتاب”الأثر الإنساني” La Signature humaine (2009)، وهو عضو في هيئة تحرير مجلة Books.
ولد تودوروف في بلغاريا في العام 1939 أول آذار وتوفي مؤخراً في 7 شباط 2017 عن عمر يناهر 77 عاماً. وبهذه المناسبة نعرض هنا لمقابلة أجرتها معه مجلة Books تناولت رأيه في الحواجز المتزايدة بين الإنسانية والجدران الفاصلة وكره الأجانب. وفي ما يلي نص المقابلة كما ترجمها الأستاذ نبيل أبي صعب.

> منذ سقوط جدار برلين في عام 1989، فإن العديد من الجدران الهادفة للفصل بين السكان جرى بناؤها أو هي قيد الإنشاء في العالم. هذه الجدران ألا تشهد جميعها، بطريقة أو بأخرى، على هذا “الخوف من الأغراب” الذي هو عنوان كتابك الأخير ؟
في الواقع، لست متأكداً من أن لنا مصلحة في توحيد جميع الأسئلة التي تطرحها الجدران المختلفة التي، هنا أو هناك، تفصل السكان في ما بينهم. الأهداف المادية من الجدران تشمل وظائف متنوعة جداً. حائط برلين، إذا ما بدأنا به، ينتمي إلى فئة نادرة. فبينما كانت معظم الجدران تهدف إلى منع الأجانب من الدخول إلى البلد، كان ذلك الجدار يهدف على العكس من ذلك إلى منع سكان البلاد من الذهاب إلى الخارج. هذا الجدار كان الجزء المجسد، المحسوس من الستار الحديدي، سور سجن أقامته الحكومات الشيوعية حتى لا تتمكن شعوبها من الهرب، لم يستخدم لحماية السكان المدنيين بل لحبسهم.
فئة أخرى من الجدران، تمثلها تمثيلاً جيداً الجدران الحدودية بين البلدان التي كانت في حالة حرب، هذه هي اليوم حال الأسوار التي تفصل بين الكوريتين، وبين الهند والباكستان في كشمير، أو بين الجزءين اليوناني والتركي من قبرص. لقد توقفت المعارك، ولكن لم يتسنّ بعد إقامة السلم، فكل فريق يحتمي إذاً خلف حاجز منيع.

> جميع الجدران الأخرى، مع ذلك، ألا تعكس الخوف من الغريب، أو حتى من الآخر؟
جدران الحماية هي في الواقع أكثر انتشاراً وقد لعبت دوراً بالغ الأهمية في الماضي البعيد، في ذلك العصر حيث تدمير جدار كان عملاً صعباً. من هنا جدار هادريان الحامي للإمبراطورية الرومانية أو سور الصين العظيم، وكذلك أيضاً التحصينات المحيطة بالمدن في القرون الوسطى. هذه الجدران، التي خدمت الدفاع العسكري، هُجرت تدريجياً لأن التقدم التقني (وعلى الأخص المتفجرات) جعلها غير مجدية.
لكن ظهر نوع جديد من الجدران منذ بضعة عقود باتت السمة المميزة لعصرنا: وهذه هي الجدران المعادية للمهاجرين، المخصصة لمنع الفقراء من دخول البلدان الغنية للحصول على حياة أفضل. أضخم تلك الجدران هو ذلك المبني بين الولايات المتحدة والمكسيك فهو يقطع القارة الأميركية إلى نصفين، ثم هناك الجدار العازل حول الجيوب الإسبانية في شمال أفريقيا، حول سبتة ومليلية.
إلى هذه القائمة ينبغي إضافة جدران ذات قياسات أصغر تهدف إلى حماية حي ما، لأسباب عسكرية (كما المنطقة الخضراء في بغداد) لكن أيضاً بسبب الخوف المتولد عن القرب من حي فقير وسيىء السمعة، كما هي الحال في بادو. أسوار الحماية المقامة حول بعض المساكن الفاخرة تشكّل تبايناً مثيراً ضمن هذه الفئة الأخيرة: إنها غيتوهات ذهبية، حيث السكان أنفسهم هم من اختاروا سجن أنفسهم داخلها.

لماذا لم تذكر الجدار الذي كثيراً ما يُحكى عنه، الجدار الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية؟
ذلك لأن هذا الجدار لا يشبه أي جدار آخر، من حيث إنه يقوم بالعديد من المهام في نفس الوقت. فهو، أولاً، ورسمياً، حاجز حماية من الهجمات التي يشنّها مقاتلون قادمون من فلسطين. لا بدّ أن نأسف بالطبع لأنه لم يتم إيجاد أية وسيلة أخرى لحلّ النزاع بين الشعبين، ولكن يجب أن نقرّ أيضاً أن الهجمات انخفضت منذ إنشاء هذا الجدار بنسبة 80 %، مع ذلك، فإن دور هذا السور لا يقتصر على ذلك فهو مثلاً، لم يبنَ على الحد الفاصل بين المنطقتين، أي فوق ما يسمى “الخط الأخضر”، بل فوق أراض فلسطينية مغتصب منها في بعض الأماكن عشرات الأمتار، إلى عشرات الكيلومترات في أماكن أخرى. هذا الجدار، الذي بني من مواد صلبة، يستبدل إذاً الحدود القديمة (لا يسمح للفلسطينيين بالانتقال إلى أراضيهم في الجانب الآخر)؛ وظيفته الثانية كانت ضم جزء من الأراضي الفلسطينية، ولكنها ليست الأخيرة، لأن بناء هذا الجدار لا ينفصل عن سياسة احتلال الأراضي، التي تقوم على ربط المستعمرات التي أقيمت داخل فلسطين في إسرائيل، بواسطة الطرق المخصصة، ومناطق الفصل ومراكز المراقبة باتت الآن قطع الأرض الفلسطينية المختلفة، حيث يجد السكان الصعوبة القصوى في التواصل في ما بينهم، تشبه البانتوستانات التي تمّ إنشاؤها في عهد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ما كان من المفترض أن يكون مجرد جدار حماية أصبح في الوقت نفسه منظوراً إليه من الجانب الآخر، جداراً للفصل، وجداراً للسجن، وله بالتالي وظيفة سياسية أيضاً: جعل موضوع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وصالحة للعيش، جنباً إلى جنب مع إسرائيل، امراً غير قابل للتحقيق.

الجدار المرئي لا يكون أحياناً إلا الجزء “الصلب” من جدار غير منظور أو افتراضي. وهكذا، فإن الجدران المقامة حول الجيوب الإسبانية في سبتة ومليلية هي نقطة تثبيت لما يدعوه الأوروبيون الشرقيون “جدار شنغن”، وهو إجراء يهدف للسيطرة على الهجرة إلى أوروبا. ألا تلعب الجدران الافتراضية (أو القانونية) دوراً هاماً مثل الجدران المرئية؟
الجدران غير المرئية هي الحدود التي يُراد منها ألا تكون قابلة للإجتياز؛ وهي أطول بكثير من الجدران المبنية من الطوب أو الحجر أو المعدن. هكذا كانت الحال حول الكتلة السوفياتية قبل عام 1989: جدار برلين لم يكن إلا جزءاً صغيراً فقط من الستار الحديدي، الذي، مع أنه كان غير مرئي، لم يكن أقل قسوة. في الوقت الذي كنت أعيش في بلغاريا (حتى عام 1963)، لم يكن أيّ من السكان قادراً على اختراق الستار من دون إذن: كانت دوريات الحدود تطلق النار فوراً. جميع الأنباء الواردة من الجانب الآخر كانت تخضع للمراقبة، كان من غير الممكن تصور الاتصال بالخارج، لم يكن أحد يستطيع أن يقرأ من الصحافة الغربية إلا الشيوعية (حصراً)، أما المحطات الإذاعية الأجنبية فقد كان يتمّ التشويش عليها عندما كانت تبث باللغة البلغارية.

“موجات الهجرة الجديدة هي من أهم نتائج العولمة والفارق الهائل في الأجور بين الدول الفقيرة والغنــــيّة”

سبتة ومليلية
الجدران الصغيرة المحيطة بمدينتي سبتة ومليلية يجري إطالتها بوسائل أخرى. لماذا تبني جداراً عندما تكون أرضك يحدّها البحر؟ وبالمثل، ألا تضاعف الولايات المتحدة الجدار الحدودي مع المكسيك مع أنه يمكنها أن تعتمد على نهر ريو غراندي أو صحراء أريزونا لثني المرشحين عن الهجرة. الأفارقة الذين يسعون إلى الدخول إلى أوروبا يحاولون اليوم النزول في جزر: جزر الكناري، لامبيدوزا، مالطة. الدول الأوروبية تستثمر في أجهزة الرصد، من قوارب وطائرات، ورادارت وكاشفات بالأشعة تحت الحمراء أكثر مما تستثمر في بناء الجدران. إجراءات المراقبة الدقيقة التي تجري في مطار رواسي تشارك أيضاً في هذا الجدار غير المرئي، ولكن إذا ما أصبحت الهجرة القادمة من الشرق، عبر تركيا، وأوكرانيا، وبيلاروسيا أو روسيا، أكثر كثافة، أي من الجهة التي لا تحيط البحار بأوروبا، فمن غير المستبعد أن نشهد بناء جدران مادية جديدة ، جدران جديدة من الأسلاك الشائكة.

الجدار العازل في فلسطين - فصل عنصري وغطاء لاغتصاب الأرض
الجدار العازل في فلسطين – فصل عنصري وغطاء لاغتصاب الأرض

أليس من الغريب أن نرى إقامة هذه الجدران الحقيقية والافتراضية، في حين أننا نعيش وقت “العولمة” بإمتياز؟
من بين جميع الفئات التي تحدثنا عنها، ثمة فئة واحدة حديثة حصرياً: الجدران المناهضة للمهاجرين. والحال فإن هذه الجدران متعايشة جوهرياً مع العولمة: ولا توجد أية مفارقة هنا. في السابق، لم يكن فلاح مالي يخطط للذهاب إلى باريس، وفلاح هندوراس لم يكن يفكر في الانتقال للإقامة في لوس أنجلوس: كانا لا يعرفان أن هذه الأماكن موجودة أصلاً. اقتضى أن يحدث هذا الترابط الحالي الملحوظ بين أجزاء مختلفة من العالم من أجل أن يولد الحلم. في الوقت الحاضر، المنتجات المصنوعة في الشمال تنتقل بحرية إلى الجنوب، وأكثر من ذلك المعلومات والصور. الجدران المناهضة للمهاجرين هي ردّ فعل الأغنياء على نتائج العولمة على الفقراء. ردّ الفعل هذا، هذا “الخوف الجديد من الأغراب”، أمر مؤسف. إنه غير فعّال، لأنه يتصرف ضد الآثار من دون أن يهتم بالأسباب. . ولكن السبب واضح: إنه الفرق في أجر العمل، الذي يصل، بين الجنوب والشمال، من 1 إلى 10 أو من 1 إلى 100.
طالما سيظل هذا التفاوت قائماً، فإن الفقراء سوف يحاولون بكل الوسائل، المجيء إلى بلاد الأغنياء لأنها فرصتهم الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. وسيكونون مستعدين لتحمل كل المخاطر – السير على الأقدام لمدة أسابيع فوق رمال الصحراء الحارقة، وأن تتقاذفهم لأيام وأيام أمواج البحر في قوارب الحظ… ولأنهم يقامرون بشرفهم: فإن هؤلاء الرجال مضطرون للبحث عما يطعم نساءهم وأطفالهم الذين ظلوا في البلد. فإذا لم ينجحوا بإحدى الطرق، فسوف يبحثون عن أخرى، أكثر خطراً بالنسبة لهم ولكن أيضاً، وفي نهاية المطاف بالنسبة لنا، بسبب زيادة الإستياء الناجم عن ذلك. ينبغي إذاً أن نبذل قصارى جهدنا للمساعدة على رفع مستوى المعيشة في بلادهم، لأن ذلك من مصلحتنا: سواء أحببنا ذلك أم لا، فإننا نعيش في عالم واحد. لن يكون الأمر سهلاً (فالفساد غالباً ما يسود بين النخب الحاكمة في البلدان الفقيرة)، لكنه يستحق المحاولة. المال الذي ننفقه على مراقبة الحدود وفي تشييد الجدران سيُثمر أضعافاً مضاعفة من خلال التعاون.
وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن نحاول تغيير علاقتنا مع الأجانب في بلادنا، لأنهم إذا ما تمتعوا بحرية حركة أوسع، فإنهم ربما سيعودون في أغلب الأحيان إلى بلدهم الأصلي، ويفيدونه من معارفهم المكتسبة في أماكن أخرى. أولئك الذين يبقون لا يهددون بقاءنا: فالهوية الثقافية لشعب ما لا تظل إطلاقاً غير قابلة للتغيير، وحدها الحضارات الميتة فقط تتوقف عن التغيير. أوروبا الشائخة تحتاج إلى مدد من فئة سكانية فتية ونشطة.
عمل كبير يجب إذاً المبادرة إليه: التعاون مع الآخرين عندما يكونون في بلادهم، والتكامل عندما يستوطنون في بلادنا- لأن العولمة حركة لا رجعة فيها. ينبغي الشروع في عمل مشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي، على أمل أن تكفّ شعوبه عن الإصغاء لشعارات التخويف التي يروجها أقصى اليمين الذي يزدهر هنا أو هناك، بما في ذلك في فرنسا، كما تدلّ على ذلك وزارة الهوية الوطنية وتشريعاتها المضحكة التي تريد أن تحول إلى جريمة عدم الوشاية بالأجنبي أو إكرام وفادته.

عند قراءة التاريخ الطويل، نرى أن الجدران آيلة للسقوط، كما جدار برلين، أو سيتم الإلتفاف حولها كما حصل لخط ماجينو إبان الحرب العالمية الثانية، أو لفقد مبرر وجودها، كسور الصين. هل ترى سبباً للتفاؤل بشأن مصير الجدران الحالية؟
معرفة أن جميع الجدران آيلة للسقوط يوماً ما هو عزاء هزيل لأولئك الذين يعانون منها. ينبغي قياس أثرها بمقياس الوجود البشري، وليس بمقياس التاريخ، وأقل من ذلك بمقياس التآكل الطبيعي. سقط جدار برلين بعد أربعة وأربعين عاماً من قيام الاتحاد السوفياتي ببناء الستار الحديدي حول البلاد التي احتلها في الحرب العالمية الثانية. أربعة وأربعون عاماً من الإختناق داخل سجن بسماء مفتوحة. والحال فإن كلاً منا له حياة واحدة فقط! لا يمكن أن نتظاهر كما لو أن السجن غير موجود وأن نعيش بإنتظار التغيير- ولاسيما وأن النظام العالمي القائم مبني ليستمر قروناً وقروناً، والجدران، حتى لو كانت قابلة للسقوط، تعيش أطول بكثير من الأشــخاص.
إضافة إلى ذلك، أن تكبر وراء الجدران يشوهك من الداخل، سينتهي بك الأمر في نهاية المطاف إلى نسيان أن هناك ما هو خارج السجن؛ أو، نادراً، أن تغذي كراهية لهذا السجن لدرجة يمكن أن تجتاح كيانك وأن تفقد كل إحساس بالفروق الدقيقة وأن لا ترى في ما حولك إلا الأبيض أو الأسود. ليس هناك ما يدعوك للطمأنينة: فالجدران، حتى لو كانت قابلة للسقوط، تعيش أطول بكثير من الأشخاص.

كتاب تودوروف حول التجربة التوتاليتارية
كتاب تودوروف حول التجربة التوتاليتارية

> عند قراءة التاريخ الطويل، نرى أن الجدران آيلة للسقوط، كما جدار برلين، أو سيتم الإلتفاف حولها كما حصل لخط ماجينو إبان الحرب العالمية الثانية، أو لفقد مبرر وجودها، كسور الصين. هل ترى سبباً للتفاؤل بشأن مصير الجدران الحالية؟
معرفة أن جميع الجدران آيلة للسقوط يوماً ما هو عزاء هزيل لأولئك الذين يعانون منها. ينبغي قياس أثرها بمقياس الوجود البشري، وليس بمقياس التاريخ، وأقل من ذلك بمقياس التآكل الطبيعي. سقط جدار برلين بعد أربعة وأربعين عاماً من قيام الاتحاد السوفياتي ببناء الستار الحديدي حول البلاد التي احتلها في الحرب العالمية الثانية. أربعة وأربعون عاماً من الإختناق داخل سجن بسماء مفتوحة. والحال فإن كلاً منا له حياة واحدة فقط! لا يمكن أن نتظاهر كما لو أن السجن غير موجود وأن نعيش بإنتظار التغيير- ولاسيما وأن النظام العالمي القائم مبني ليستمر قروناً وقروناً، والجدران، حتى لو كانت قابلة للسقوط، تعيش أطول بكثير من الأشــخاص.
إضافة إلى ذلك، أن تكبر وراء الجدران يشوهك من الداخل، سينتهي بك الأمر في نهاية المطاف إلى نسيان أن هناك ما هو خارج السجن؛ أو، نادراً، أن تغذي كراهية لهذا السجن لدرجة يمكن أن تجتاح كيانك وأن تفقد كل إحساس بالفروق الدقيقة وأن لا ترى في ما حولك إلا الأبيض أو الأسود. ليس هناك ما يدعوك للطمأنينة: فالجدران، حتى لو كانت قابلة للسقوط، تعيش أطول بكثير من الأشخاص.

كل هذه الجدران التي نتحدث عنها، الحقيقية أو الافتراضية، ترمز دائماً الى الخوف من الآخر. أليس هذا الخوف جزءاً مما يسمى طبيعة الإنسان؟ أليست الإنسانية محكومة إذاً بعقلية بناء الجدران؟
طبيعة المجتمعات البشرية نفسها، وكذلك أيضاً طبيعة الحيوانات العليا، هي أن تقيم علاقات مع المجتمعات الأجنبية من نفس النوع، والخوف أحد ردود الفعل المحتملة في ظل هذه الظروف، إلا أنه أبعد من أن يكون الوحيد فقط. عندما تتلامس اثنتان من المجموعات البشرية، وتتباين مصالحهما، فإنهما تستطيعان، بطبيعة الحال، أن تختارا الانفصال: سواء بالتباعد، أو بتشييد جدار ما، ويمكنهما أيضاً، وهذا أسوأ ما في الأمر، الدخول في حرب قد تكون نتيجتها إبادة الخصم أو خضوعه الكامل (هنا فرض علاقة السيطرة هو الذي يسمح بوقف الحرب)، ولكن انطلاقاً من تباين المصالح نفسها، يمكنهما أيضاً الإنخراط في تفاوض ما، وهو أمر ينطوي على تقديم تنازلات متبادلة من الجانبين، والتفاوض يأخذ ألف شكل وشكل، المشترك بين كل أنواع التفاوض هو تجنّب الانزلاق إلى القطيعة، أو الحرب أو الخضوع، بسبب الخوف من الآخر، والتفاوض هو من طبيعة الجنس البشري، لأنه يفترض مسبقاً استخدام اللغة والأخذ في الاعتبار عامل الزمن، سواء في ما يتعلق بالماضي أم بالمستقبل.

مقابلة أجرتها مجلة Books.
ترجمة : نبيل أبي صعب

لبنان يدخل ببطء عصر الطاقة الشمسية

لبنان يدخل ببطء عصر الطاقة الشمسية
والعقبة الأساسية غياب الرؤية الحكومية

لبنان ملتزم بخفض غازات الانحباس الحراري بنسبة 30%
ورفع الطاقة من المصادر المتجددة إلى 12% قبل العام 2020

مصرف لبنان: دور رائد في توفير التسهيلات المدعومة
وقروض الطاقة المتجددة فاقت الـ 500 مليون دولار

في لبنان نهضة متنامية في قطاع الطاقة المتجددة تحفّزها بالدرجة الأولى الأسعار التنافسية للطاقة الشمسية وروح المبادرة الشهيرة للقطاع الخاص في لبنان. من مظاهر هذه النهضة التوجه المتزايد لتركيب سخانات المياه على الطاقة الشمسية مع نحو 150 شركة عاملة في هذا المجال في مختلف مناطق لبنان، وهناك انتشار متزايد للشركات المتخصصة في تركيب الطاقة الشمسية وباتت وسائل الإعلام تحمل في كل يوم أخباراً عن تنفيذ مشاريع للطاقة الشمسية سواء على نطاق المؤسسات الخاصة أو الأفراد أو البلديات، وبدأ قطاع الطاقة المتجددة بذلك يخلق فرص عمل واسعة للمبادرين والعاملين مما يعد بجعله قطاعاً اقتصادياً مهماً ومساهماً بقوة في النشاط الاقتصادي.
الجدير بالذكر أن قطاع الطاقة المتجددة في لبنان يتحرك حتى الآن إلى حدّ كبير بزخم القطاع الخاص والمبادرات الفردية، لكن في غياب سياسة وطنية شاملة ومتسقة على مستوى الدولة، والاستثناء الوحيد هنا هو مصرف لبنان الذي تميز في السنوات الأخيرة بمبادرات عدة استهدفت التعويض عن الجمود الاقتصادي والشلل الحكومي كان من أهمها مبادرة تشجيع الأخذ بتقنيات الطاقة المتجددة من خلال توفير قروض من دون فائدة ولمدة قد تصل إلى 14 سنة. وقد تخطت الاستثمارات في “القروض الخضراء” المدعومة من مصرف لبنان في السنوات الثلاث الماضية الـ 500 مليون دولار، وأمّنت حسب بعض التقديرات نحو عشرة آلاف وظيفة عمل مباشرة وغير مباشرة في القطاع.

نتائج معاهدة باريس
لكن أحد الحوافز غير المتوقعة التي قد تساهم بتطوير قطاع الطاقة المتجددة قد يأتي من انضمام لبنان إلى معاهدة باريس لمكافحة التغيُّر المناخي والتي تفترض من كل دولة الالتزام بأهداف طوعية في نطاق تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والغازات الأخرى المتسببة بالاحتباس الحراري كما تتطلب أيضاً التزاماً من الحكومات الموقعة (ومن بينها لبنان) بوضع برامج للتحول إلى الطاقة المتجددة وتخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط والغاز) في توليد الطاقة الكهربائية أو غيرها من القطاعات.
وبالفعل فإن لبنان إلتزم، كدولة موقِّعة لمعاهدة باريس، بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (خصوصاً ثاني أوكسيد الكربون) بنسبة 30% بحلول العام 2030 ثم تمّ بعد ذلك وخلال منتدى للطاقة المتجددة عقد في بيروت في العام… إطلاق “ الخطة الوطنية للطاقة المتجددة للعام 2016 -2020” والتي وضعت هدفاً هو التوصل إلى إنتاج 12 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة في لبنان من الطاقة البديلة بحلول العام 2020، وهذه النسبة تعتبر متواضعة جداً بالمقارنة مع ما التزمت به دول متقدمة وصناعية، لكنها ستمكّن لبنان من تأمين نحو 20 في المئة من الطلب على الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية مما يرفع بعض الضغط عن مؤسسة كهرباء لبنان التي سيصبح عليها تأمين الكهرباء الـ 80 في المئة الباقية من الطلب الإجمالي، كما إن الهدف الأولي الذي وضع له أفق زمني قريب هو العام 2020 يمكن أن يتبعه وضع أهداف أكثر طموحاً ولاسيما مع تزايد الجدوى الاقتصادية كل يوم من الاستثمار في الطاقة المتجددة وهذا ما حصل فعلاً في الكثير من الدول لأن الإندفاعة نحو الطاقة المتجددة لا يمكن وقفها الآن وهي إندفاعة تتغذى من الوعي المتزايد بالخطر على المناخ والحياة على الكرة الأرضية، كما تتغذى بواقع أن الطاقة المتجددة باتت رخيصة الثمن إلى حدّ يجعل منها منافساً حاسماً لمصادر الطاقة المولدة من المصادر التقليدية.
ولبنان، إذا أراد أن يظهر بمظهر العضو المسؤول في المجتمع

نمو الاستثمار في الطاقة الئمسية في لبنان
نمو الاستثمار في الطاقة الئمسية في لبنان

الدولي والدولة التي يمكن الاعتماد عليها في الجهد الإنساني المشترك لإنقاذ مناخ الأرض، يحتاج لأن يجد الوسائل لتنفيذ إلتزاماته حول البيئة ولاسيما وأنه سيكون أحد أكبر المتضررين من تدهور المناخ الأرضي، وفي هذا الإطار يمكن أن نجد حافزاً خارجياً مهماً لدفع ملف الطاقة المتجددة إلى صدارة الأولويات السياسية في لبنان.

مؤسسة رعاية الأيتام في صيدا حوّلت سطح مبانيها إلى محطة لتوليد الطاقة الشمسية الرخيصة
مؤسسة رعاية الأيتام في صيدا حوّلت سطح مبانيها إلى محطة لتوليد الطاقة الشمسية الرخيصة

غياب حكومي
هذه التطورات الإيجابية المهمة في قطاع الطاقة المتجددة تواجه مع ذلك عقبة أساسية يمكن أن تؤخر تنفيذ الأهداف الوطنية والخطط الموضوعة وهي غياب الأطر القانونية والتنظيمية الواضحة التي تنظم العلاقة بين القطاع الخاص المنتج للطاقة وبين الدولة، وبالتحديد الأطر التي تسمح لأي مشروع خاص لإنتاج الطاقة الكهربائية سواء من المصادر المتجددة أم التقليدية ببيع الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان. إن توضيح هذا الإطار يمكن أن يحدث فورة غير مسبوقة في الاستثمارات الخاصة في قطاع الطاقة المتجددة ويمكن أن يكون مقدمة حقيقية لحل أزمة قطاع الطاقة في لبنان. إن العديد من المؤسسات التجارية والمصانع اليوم لديها مولدات أكبر بكثير من حاجتها، لذلك فإن توافر الإطار القانوني الذي يسمح للمنتج المستقبل ببيع الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان بحيث تحوِّل الشركات فائض الطاقة لديها إلى مؤسسة كهرباء لبنان التي تضعه بدورها على الشبكة، وهذا النقص يعتبر عقبة كبيرة لأنه يحول دون قيام مشاريع كبيرة للطاقة المتجددة على مستوى الصناعات أو المؤسسات، وحتى الاستخدام المنزلي للطاقة الشمسية يمكن أن ينمو في حال أمكن للأفراد بيع فائض الطاقة لديهم إلى الشبكة الحكومية.
يذكر أن مؤسسة كهرباء لبنان بدأت سلسلة من مشاريع الاستثمار التجريبي في الطاقة الشمسية أهمها مشروع نهر بيروت الذي يستهدف إنتاج 10 ميغاواط من الطاقة الكهربائية من الألواح الفوتوفولطية المركبة على شكل غطاء بمساحة 11 ألف متر مربع فوق نهر أصبح مشهوراً بكونه مكباً للنفايات، وهذا المشروع يهدف أولاً الى حماية مجرى النهر وتنقيته كما يهدف بالدرجة الأولى الى الاستفادة من القيمة العقارية لمساحة مجرى النهر المكشوفة على الشمس لإنتاج الطاقة الشمسية، وقد أنجز القسم الأول من المشروع وهو بطاقة 1 ميغاواط على أن يتم إنجاز الأقسام الباقية في المدى القريب.

توجّه-متزايد-من-البلديات-لإنارة-الطرقات-بالطاقة-الشمسية
توجّه-متزايد-من-البلديات-لإنارة-الطرقات-بالطاقة-الشمسية

فرص استثمار
وقدرت أوساط خبيرة أن لبنان في حاجة لإستثمارات لا تزيد على مليار و400 مليون دولار للحصول على 12% من الطاقة الكهربائية من الطاقة المتجددة على أن يساهم القطاع الخاص بنحو 50 إلى 60% من تلك الاستثمارات بينما يغطى الباقي منها بالتمويلات المسهلة والمدعومة التي يقدمها مصرف لبنان من خلال الآلية الوطنية لكفاءة الطاقة والطاقة المتجددة. وقد ساهمت التسهيلات التي يقدمها لبنان عبر المصارف بلا فائدة ولمدة تصل إلى 14 عاماً لتمويل الطاقة المتجددة في نمو مطرد في استخدام الطاقة الشمسية على نطاق الأفراد والمؤسسات. ومن أبرز مبادرات المؤسسات الخاصة في مجال الطاقة المتجددة مشروع تحويل كل محطات محروقات “IPT” وعددها 168 محطة إلى محطات خضراء تؤمن حاجتها من الكهرباء بواسطة الطاقات الشمسية، ومن شأن هذا المشروع أن يوفر عن طريق كهرباء لبنان حوالي 2 ميغاواط ونصف ميغاواط.
تعتبر الطاقة الشمسية المصدر الواعد الأول للطاقة المتجددة في لبنان بالنظر الى أن الشمس تسطع فوق لبنان لمدة تبلغ في المتوسط 300 يوم في العام، كما إن جو لبنان نقي نسبياً لا يشكو من مشكلة الغبار التي يشكو منها الخليج وتجعل استخدام الألواح الشمسية في حاجة إلى صيانة دائمة أو إلى وسائل للغسل الذاتي لتخليص سطح اللاقط الشمسي من الغبار الكثيف الذي يعطل طاقته على توليد الطاقة. أما طاقة الرياح فتأتي في ترتيب متأخر لأن لبنان لا يحتوي على مجاري رياح قوية تعزز جدوى مشاريع طاقة الرياح، فتيارات الهواء القوية والمتحركة بشكل دائم محصورة في منطقة في شمال شرقي لبنان وبالتحديد في عكّار وقرب الهرمل وفي منطقة جنوب نهر الليطاني.

“ميزات حاسمة للطاقة الشمســية
طاقة نظيفة صامتة مستمرة ومكفولة وخفيفة التكلـــفة و الصيانة ومصــــاريف التشـــــــغيل”

نمو مستمر
بلغ النمو السنوي في قطاع الطاقة المتجددة نحو 41 في المئة العام 2011 ليرتفع إلى 149 في المئة العام 2015. في المقابل حققت المشاريع الجديدة المعتمدة على الطاقة الشمسية نمواً بنحو 27 في المئة العام 2011 إلا أن معدل النموّ قفز إلى 72 في المئة العام 2015 وهذه القفزات الملفتة في معدل نمو استخدامات الطاقة الشمسية تعتبر في حد ذاتها مؤشراً على التحول المستمر – وإن المتواضع حتى الآن- في لبنان نحو الطاقة المتجددة.
إن الاستثمار في الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية يقدم ميزات كبيرة في لبنان أهمها:
1. تحقيق الاستقلالية في الطاقة الكهربائية وبالتالي تخفيف الآثار الضارة للتقلبات التي يصعب التنبؤ بها في توافر التيار الكهربائي من الشبكة الحكومية.
2. توفير تيار كهربائي مستقر يؤمن الحماية للتجهيزات المنزلية والصناعية والزراعية لأن التيار الذي يمكن الحصول عليه من مشروع للطاقة الشمسية يتمتع بإستقرار تام على خلاف التقلب الشديد في الدفق الكهربائي على خطوط الدولة.
3. مشروع الطاقة المتجددة يمكن معرفة تكلفته الرأسمالية وفترة استرداد رأس المال منذ اليوم الأول، فهو مشروع من دون مخاطر ويمكن تصميمه وفق الحاجات المحددة للمنزل أو للمؤسسة والتنبؤ بتكلفته والمردود الذي يحققه لمدة 20 سنة.
4. يوفر قطاع الطاقة المتجددة في لبنان الفرصة للاستفادة من أشكال الدعم المتوافرة والمقدّمة من مصرف لبنان أو من مصادر عون خارجي، وهذا أيضاً يعزز الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في الطاقة المتجددة.
5. من المتوقع أن يساهم ازدهار قطاع الطاقة المتجددة في خلق قطاع اقتصادي جديد يتمتع بتقنيات عالية ويحتاج إلى خبرات هندسية ومهارات، وهو لذلك سيفسح في المجال أمام قيام شركات عديدة تعمل فيه وتوفير فرص عمل بالألوف للشباب اللبناني وخصوصاً لأصحاب المهارات الهندسية.
6. تعتبر الطاقة الشمسية طاقة صامتة وغير ملوثة على الإطلاق فهي لا تصدر أي انبعاثات لغازات الاحتباس الحراري كما يحصل من خلال استخدام المولدات الخاصة أو التجارية.
7. يحتاج نظام العمل بالطاقة المتجددة إلى عمليات صيانة منخفضة الكلفة.
8. تتمتع معدات مشروع الطاقة الشمسية بكفالة طويلة على الألواح الشمسية تصل الى 25 سنة وبعض الألواح تستمر في إنتاج الطاقة لمدة 40 سنة، لكن الأمر المعروف هو أن قدرة الخلايا الفوتوفولطية على امتصاص الطاقة الشمسية تضعف تدريجياً مع الوقت مما قد يخفض تدريجياً طاقة التوليد النظرية المفترضة فيها، لكن مع التراجع الكبير في أسعار الألواح الفوتوفولطية فإن المستثمر يمكنه بتكلفة بسيطة تجديد الألواح أو الزيادة عليها بألواح جديدة بما يعوض النقص الناجم عن تراجع طاقة التوليد للألواح القديمة.
9. صُمِّمت بطاريات الخزن المعدة للاستخدام في نظام الطاقة الشمسية بحيث يمكنها أن تخدم لمدة خمس إلى سبع سنوات بكفاءة ممتازة وهذه البطاريات تباع بأسعار معقولة تقل عن دولارين للأمبير وأسعارها في انخفاض مستمر بسبب جهود الأبحاث الجارية على تطوير البطاريات الكهربائية، لذلك فإنه من المتوقع أن يستمر سعر بطاريات التخزين للطاقة المتجددة بالانخفاض المتسارع بحيث ستكون أسعارها في متناول الجميع وعمرها الزمني أطول فأطول وهو (إضافة إلى التراجع الكبير في أسعار الألواح الشمسية) سيمثل أحد أهم الحوافز الإضافية للاستثمار في الطاقة المتجددة في لبنان.

رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية

مشروع الطاقة الشمسية للحصول على طاقة كهربائية غير منقطعة أي 24 ساعة على 24 ساعة وسبعة أيام في الأسبوع، لكن يحتاج ذلك إلى الاستثمار الإضافي في بطاريات التخزين مما قد يرفع تكلفة المشروع. لكن يمكن في الوقت نفسه الجمع بين الحصول على التيار الكهربائي من مؤسسة كهرباء لبنان وبين تشغيل نظام للطاقة الشمسية بحيث يمثل النظامان نظاماً متكاملاً يؤمن الطاقة بلا انقطاع ويحقق الاستقرار في عمل المؤسسات كما إنه يخفض بصورة عامة التكلفة العامة لفاتورة كهرباء المؤسسة والتي تصبح مجرد ملاذ أخير في حصول عطل في نظام الطاقة الشمسية، وبهذا فإن نظام الطاقة الشمسية يحتاج الى دعمه بمصدر إحتياطي قد يكون التيار الكهربائي لمؤسسة كهرباء لبنان وقد يكون أيضاً مولد ديزل بطاقة مناسبة.

مشهد أصبح مألوفا في لبنان - الطاقة الشمسية بدأت تدخل مرحلة الاستخدام المنزلي
مشهد أصبح مألوفا في لبنان – الطاقة الشمسية بدأت تدخل مرحلة الاستخدام المنزلي

نهضة “شمسية” في الجبل
في بعقلين الشوف، برز بصورة خاصة مشروع شركة النهضة لتصنيع الرخام الذي تضمن تركيب 250 لوحاً فوتوفولطياً على سطح الشركة، الأمر الذي ساعد على خفض فاتورة الكهرباء بنسبة 50 في المئة مع توقع أن يصبح الوفر أكبر على المدى الطويل بعد استرداد التكلفة الرأسمالية للتجهيزات. وهناك في المناطق الجبلية في لبنان تسابق من البلديات لتركيز أنظمة إنارة لشوارع القرى والمدن بالطاقة الشمسية، وقد نفذت شركة الحلف الأخضر التي يرأسها برنار عمون مشاريع عدة للطاقة الشمسية في الشوف وعاليه والمتن وبالأخص في دير القمر، وبتلون، وعين زحلتا، وباتر وبحمدون وحمانا، وفي منطقة المناصف، ومعظم هذه المشاريع تمّ بالتعاون مع البلديات ، فضلاً عن العديد من المشاريع الخاصة.
في الوقت نفسه، تولى المهندس سامي عبد الباقي تنفيذ مشروع شركة النهضة وعدد من مشاريع الطاقة الشمسية في الجبل وهو يعمل في البقاع للمساعدة على استخراج مياه الآبار الارتوازية بواسطة مضخات تعمل على الطاقة الشمسية.
على صعيد آخر، تمّ ربط البئر الارتوازية في الشاوية في مرستي بالطاقة الشمسية تلافياً لانقطاع الكهرباء المتواصل، وتأميناً لعملية الضخّ الدائم للمياه من البئر التي تغذي قرى مرستي والخريبة وبعذران بمياه الشفة، فيما يذهب قسم من المياه إلى المزارعين. كما تمّ تزويد مشروع الآبار الارتوازية التي تمّ تدشينها مؤخراً في بلدات قرنايل وكفرنبرخ وديركوشة بالطاقة الشمسية، وهذا المشروع يغذي جميع قرى المناصف.
كما دخلت الطاقة الشمسية في العديد من المشاريع السكنية الجديدة في مناطق الجبل، كما هو الأمر في سائر المناطق اللبنانية، وزاد الاهتمام بها بعد توسّع استخدامها في إنارة الشوارع الرئيسية في العديد من قرى الجبل وخاصة مدن وقرى الاصطياف في عاليه والمتن الأعلى.
وتولت وزارة الأشغال العامة تنفيذ مشروع طموح لإنارة طريق قبر شمون- جسر القاضي، وأوتوستراد ديركوشة- كفرحيم في منطقة المناصف وأغلب طريق بيروت– دمشق، في منطقة ضهر البيدر بالطاقة الشمسية وتتولى فرق الصيانة التابعة للوزارة المراقبة الدائمة للخطوط وإصلاح الأعطال في حال وجودها.

مستقبل قطاع الطاقة

مستقبــل قـطاع
الطاقة في لبنان

الطاقة المتجدّدة باتت الخيار الاستراتيجي لدول العالم
لكننا ما زلنا نحاول تمديد صلاحية التخلف والفساد

لبنان ملزم بموجب اتفاقية باريس بخفض انبعاثات الغازات الملِّوثة
وزيادة حصة الطاقة المتجدّدة في إنتاج الكهرباء قبل العام 2020

يُعتبر الفشل الحكومي اللبناني في ملف الكهرباء من أوضح الأمثلة على مزيج التخبط والحسابات السياسية وسوء الإدارة والفساد المتفشي في القطاع العام. نتيجة لهذا الفشل المستمر، تحوّل لبنان من بلد مكتفٍ ذاتياً بالطاقة بل مُصدِّر لها إلى البلدان المجاورة في سبعينيات القرن الماضي إلى بلد لا يستطيع أن ينتج نصف كمية الطاقة التي يحتاجها اقتصاده ومؤسساته ومواطنوه، وهو ما انعكس بتراجع معدل التغذية بالتيار الكهربائي باستمرار إلى ما يقارب الـ 14 ساعة يومياً في المناطق الواقعة خارج العاصمة، كما انعكس في حالة عامة من سوء الإدارة وضعف الجباية وانتشار سرقة التيار من الشبكة وهدر الموارد وضعف الخدمات، وبرغم حلول القطاع الخاص بوسائل متعددة محل الدولة في سدّ الفجوة الكهربائية، فإن قطاع الكهرباء لا يزال المصدر الأكبر لعجز الميزانية الحكومية وتنامي عبء الدين العام بصورة مطردة على الأجيال المقبلة. ويُقدّر أن الدولة اللبنانية تكبدت ما بين العامين 2010 و2015 نحو 10 مليارات دولار نتيجة العجز المالي السنوي لمصلحة كهرباء لبنان، كما تقدّر الخسائر المتراكمة لقطاع الكهرباء منذ العام 2000 بنحو 29 مليار دولار أي ما يقارب نصف حجم الدين العام في ذلك التاريخ.
نتيجة لاستمرار الأزمة وتفاقمها سنة بعد سنة فقد اتجه اللبنانيون أفراداً ومؤسسات إلى ابتكار شتى أنواع الحلول من أجل سدّ النقص والتعويض عن الفشل الحكومي وتوفير وسائل لاستمرار الحياة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعتبر مستحيلاً من دون التيار الكهربائي الذي يعتبر بمثابة شريان الحياة لأنظمة الاتصالات والاقتصاد الرقمي وأنظمة التعليم والصحة والأمن والصناعة والسياحة والخدمات والحياة اليومية، وقد تمّ حتى الآن سد النقص من خلال عدد يكاد لا يحصى من الحلول والمبادرات من أهمها نشوء قطاع كهربائي خاص بكل معنى الكلمة هو عبارة عن مولدات كبيرة أو متوسطة تتولى تأمين التيار الكهربائي في ساعات التقنين، أو مولدات خاصة وأنظمة تغذية مستمرة UPS استثمر فيها المواطنون من أجل تعويض نقص الطاقة الكهربائية. وحسب دراسة لمنظمة غرين بيس Green Peace فإن معدل انقطاع الكهرباء في لبنان يوازي 40 إلى 45% من الطلب العام، وهذا النقص تعوّض المولدات التجارية الخاصة نحو 70% منه، مما يعني أن النسبة الباقية يتم التعامل معها بواسطة مولدات الشركات والصناعات والمولدات المنزلية. ويكاد لا يخلو حيّ من أحياء المدن أو قرية لبنانية من المولدات التي ترتبط بشبكة

تطور انبعاثات الغازات الحرارية في لبنان
تطور انبعاثات الغازات الحرارية في لبنان
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية

 

 

 

 

 

 

 

تغذية موازية من الكابلات ومن العدادات ومن خدمات الجباية والصيانة.. وبرغم انتشار المولّدات الخاصة ذات الهدف التجاري فقد تنامت مع الوقت المبادرات التي استهدفت تأمين مولدات للقرى عن طريق البلديات أو بعض الوجهاء المتبرعين أو الجمعيات أو الهيئات السياسية أو مصادر العون الخارجي، ونتيجة لذلك فقد اتسع قطاع المولدات ذات الغرض العام بصورة كبيرة على حساب المولدات التجارية الباهظة الكلفة.
لكن بغض النظر عن أهمية المبادرة الخاصة في التخفيف من أزمة الكهرباء فإن الحقيقة الأهم هي أن كل هذه المبادرات ما زالت تنتمي إلى العصر الآفل للطاقة المولدة من خلال حرق الفيول أو مشتقاته مثل المازوت، فلبنان ما زال متأخراً جداً في مجال استخدام الغاز الأقل تلويثاً في إنتاج الطاقة الكهربائية، كما إنه لا يزال في مرحلة البداية المتواضعة بالنسبة الى استخدام مصادر الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية بمختلف تطبيقاتها الصناعية والمنزلية.
وبينما يتطلع العالم إلى يوم لا يعود فيه للطاقة الملوثة المستخرجة من النفط والغاز أو من الفحم الحجري سوى دور بسيط بالمقارنة مع الطاقات المتجددة، فإن الجدال في لبنان لا يزال محتدماً في الدوامة نفسها للنظام الكهربائي البائد الذي ما زلنا نحاول إحياءه أو تمديد صلاحيته، والسبب البديهي لهذه الغيبوبة هو بالطبع المصالح الكبيرة التي أصبحت متركزة في النظام الكهربائي المتخلف والعالي التكلفة، والجهات الكثيرة التي استثمرت فيه، وهذا يرشدنا إلى جواب على السؤال الدائم الذي يطرح وهو ما السبب في استمرار فضيحة الكهرباء طيلة ثلاثين عاماً منذ الطائف؟ وهذا الجواب البسيط هو أن التحالف الخفي الذي يستفيد من الأزمة وعلى رأسه السياسيون لا مصلحة له على الإطلاق في حل الأزمة وتنظيم القطاع على أسس التحديث والفعالية والشفافية. وعلى سبيل المثال، فإن الحلول المطروحة ما زالت تتراوح بين استئجار المزيد من البواخر التركية لتوليد الكهرباء أو تحديث المعامل الحالية التي عفا عليها الزمن لكن من دون أن نرى في السياسة الحكومية، سواء على مستوى مجلس الوزراء أو وزارة الطاقة، توجهاً جديداً يواكب التحولات الهائلة التي يشهدها العالم على صعيد الاستثمار في الطاقة المتجددة، فنحن في لبنان نعيش في زمن آخر.

المرحلة الإنتقالية
برغم أن التوجه الاستراتيجي للبنان يجب أن يكون نحو الطاقة المتجددة، وهو ما سنأتي عليه في الفصل التالي، إلا أن هذا التحول سيحتاج بالتأكيد إلى وقت لا يمكننا تقديره، لأن إنجاز هذا التحول يحتاج إلى بلورة الإرادة السياسية أولاً ثم إلى وضع الاستراتيجية المتكاملة للطاقة وبلورة الأطر القانونية والتنظيمية والهيئة الناظمة على المستوى الوطني وسياسات الاستثمار وأنظمة التشغيل والشراكات المحتملة بين القطاع العام والخاص أو بين البلديات والمناطق والقطاع الخاص وغير ذلك من الخطوات التحضيرية.
إن الخطة الانتقالية لتطوير وترشيد قطاع الطاقة في لبنان لا بدّ وأن تمرّ بإعادة هيكلة القطاع بمختلف مكوناته مع تعزيز التوجه الحالي الذي يدعو إلى خصخصة عمليات التوليد والتوزيع مع بقاء الدولة مالكة للبنية التحتية المتمثلة بالشبكات واضطلاعها بدور الناظم المسؤول عن التوفيق بين تحفيز المستثمرين للاستثمار في الطاقة وبين حماية المستهلكين. إن الهدف من الخصخصة هو قيام القطاع الكهربائي على أسس الفعالية والشفافية وحسن التشغيل التي يتميز بها القطاع الخاص، ورفع عبء كبير عن ميزانية الدولة اللبنانية يعتبر مكوناً أساسياً في النمو الكارثي للدين العام، علماً أن الدولة يمكنها ضمن أي خطة جدية للإصلاح أن تحصل على التشجيع والدعم على شكل قروض ميسرة تقدمها صناديق التنمية العربية ومؤسسات التمويل الدولية. أخيراً، فإن الاتجاه نحو خصخصة قطاعات الطاقة والمياه وغيرها ينسجم مع ما يتم العمل به اليوم في مختلف دول المنطقة بما في ذلك دول الخليج وكذلك مع النمط المعتمد أكثر فأكثر على النطاق العالمي.
إن إصلاح منظومة الكهرباء في لبنان يمكن أن يأخذ في الاعتبار زيادة الطاقة المولّدة محلياً عن طريق المحطات العاملة بالغاز، وهي الأقل تلويثاً مع تجديد القائمة حالياً على نفس الأسس أي على أساس التحول إلى الغاز الأرخص تكلفة والأقل تلويثاً، كما إن من بين الحلول المطروحة زيادة عدد بواخر توليد الكهرباء التي تتولى سد قسم من النقص الكبير في الطاقة المنتجة في لبنان كحلول مؤقتة بهدف وضع حد للتقنين وتوفير الطاقة الكهربائية بصورة دائمة للاقتصاد وللمجتمع. إن تنفيذ هذه الخطوات يمكن أولاً أن يضع حداً لعمل المولدات التجارية والمولدات الخاصة التي تساهم بصورة هائلة بإنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات الملوثة، لكن هذه الإصلاحات يجب أن لا يكون هدفها تكريس العمل بالنظام الباهظ التكلفة والملوِّث الحالي بل التمهيد للتحول بصورة حاسمة نحو الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

لماذا الطاقة المتجددة؟
إن الاستثمار الكثيف في الطاقة المتجددة ولاسيما طاقة الرياح والطاقة الشمسية في لبنان هو استثمار في نفط لبنان الحقيقي الذي لا ينضب، وهو استثمار في المستقبل يجب أن يتحول إلى أولوية وطنية حقيقية ويجب العمل بالتالي لجعله أولوية حكومية وسياسية وشعبية وإعطاء المشاريع الخاصة به طابع الأهمية التي لا تقبل التأجيل أو التسويف. إن هذا التوجه المستقبلي ليس وليد أحلام أو طوباوية سياسية أو اقتصادية بل هو يستند إلى عوامل اقتصادية وتكنولوجية كما يستند إلى ميزات لبنان المناخية وإلى

صاحب مولِّد فتح شركة كهرباء خاصة والأرجح أنه يديرها بأفضل مما هي عليه الحال في المؤسسة الحكومية
صاحب مولِّد فتح شركة كهرباء خاصة والأرجح أنه يديرها بأفضل مما هي عليه الحال في المؤسسة الحكومية

طاقات شعبه ومؤسساته وإلى الخبرة الدولية المتنامية في هذا المجال. أهم الاعتبارات التي تجعل من الاستثمار الواسع النطاق في الطاقة المتجددة الخيار الاستراتيجي الوحيد لحل أزمة الكهرباء وتعزيز البنية التحتية للاقتصاد اللبناني هي التالية:
1. التقدم الهائل لتقنيات الطاقة المتجددة: شهدت السنوات الخمس الأخيرة قفزات مدهشة في تطور تقنيات الطاقة الشمسية وحجم الاستثمارات التي تستقطبها في العالم، وأدت القفزات التقنية إلى مضاعفة فعالية الطاقة الشمسية مثلاً مرات عدة مع خفض تكلفتها باستمرار بحيث بات متوقعاً أن تصبح قريباً جداً منافساً لا يضاهى لمختلف أنواع الطاقة التقليدية (الملوِّثة) ويظهر الرسم البياني أعلاه كيف أن تكلفة اللاقط الشمسي أو اللوحة الشمسية انخفضت في السنوات الأربعين الماضية بنسبة 99% عما كانت عليه في العام 1975، إذ كان اللاقط الشمسي يكلف أكثر من 20 ألف دولار عندما كانت تكنولوجيا الخلايا الفوتوفولطية في بداية تطورها، بينما أصبح هذا اللاقط (بطاقة 200 واط) لا يكلف في العام 2015 أكثر من 122 دولاراً، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن أسعار الطاقة الشمسية مستمرة بالهبوط بحيث وصلت تكلفة اللاقط إلى 0.49 سنت للواط (أي نحو 100 دولار للاقط بطاقة 200 واط) وقد باتت كل التوقعات تشير إلى أن الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح باتت خيار المستقبل للبشرية باعتبارها الأفضل للبيئة وفي الوقت نفسه الأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية لذلك فإن جميع البلدان (المتقدمة والنامية) بدأت التحول إليها كبديل لمصادر الطاقة التقليدية المكلفة والملوثة على حدّ سواء.
2. فجوة الطاقة البديلة في لبنان: إن لبنان من البلدان الأكثر تعرضاً للشمس في العالم (نحو 300 يوم في السنة) كما إن في إمكانه توليد الطاقة من الرياح على امتداد شواطئه وبتكلفة تقل عن تكلفة المشاريع المتداولة لإنشاء محطات توليد جديدة تعمل بالفيول أو بالغاز. لكن لبنان هو من أقل البلدان استخداماً للطاقة الشمسية، ولم تضع الدولة اللبنانية حتى الآن استراتيجية تستهدف إحلال الطاقة المتجددة بصورة تدريجية محل الطاقة الملوثة التقليدية. وبرغم التوفير الذي تحققه في مصروف الكهرباء فإن الدولة لا تطبق سياسة فعالة لتعميم استخدام الطاقة الشمسية في تسخين المياه سواء على مستوى المنازل أو الأبنية السكنية أو المؤسسات. ولا توجد في لبنان أنظمة تجعل تركيب هذه السخانات بنداً إلزامياً للحصول على رخصة البناء، وعلى سبيل المقارنة فإن الجارة الصغيرة قبرص بدأت باستخدام أنظمة تسخين المياه على الطاقة الشمسية في العام 1961 وهي تعتبر اليوم من أكثر بلدان العالم استخداماً لهذه التقنية نظراً الى أن 95% من بيوتها مزودة بأنظمة تسخين المياه على الطاقة الشمسية في مقابل نسبة تغطية ضعيفة للمنازل في لبنان.
ويظهر تقرير أعدّه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان ضآلة الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة، إذ لم تتجاوز الاستثمارات الإجمالية في هذا القطاع 30 مليون دولار في العام 2015 ولهذا السبب، فإن لبنان ما زال يأتي في مرتبة متأخرة جداً على صعيد استخدام الطاقة المتجددة في توليد الطاقة الكهربائية. ويعود هذا التأخر بالدرجة الأولى إلى عدم جديّة الالتزام السياسي للدولة اللبنانية بهذا الهدف كما يعود إلى غياب التوعية الواسعة التي تبيّن للمواطنين الجدوى الاقتصادية من التحول إلى أنظمة الطاقة الشمسية، وعدم تشجيع الاستثمار الخاص في قطاع الطاقة المتجددة عبر توفير الإطار القانوني والحوافز التشجيعية اللازمة مع توفير أنظمة تمويل تتجاوز من حيث الحجم والآليات برنامج الحوافز المحدود المقدّم من مصرف لبنان، أم من خلال إنشاء وكالة وطنية للطاقة المتجددة تعطى صلاحيات واسعة وميزانية كافية للعمل على إدخال لبنان عصر الطاقة المتجددة ونادي الدول الرائدة في هذا الميدان.
يبقى القول إنه وبرغم تأخير الدولة في تبني خيار الطاقة المتجددة فإن عوامل السوق نفسها ولاسيما تراجع تكلفة الطاقة الشمسية باتت في حدّ ذاتها محفزاً أساسياً لتحول الأفراد والمؤسسات في لبنان إلى أنظمة الطاقة الشمسية، وإحدى الظواهر الملفتة هو توجّه البلديات في العديد من

باخرة توليد الطاقة الكهربائية التركية أورهان باي التي تغذي معمل الجية
باخرة توليد الطاقة الكهربائية التركية أورهان باي التي تغذي معمل الجية

“المواطن في لبنان أسرع بكثير من الدولة في الأخذ بثورة الطاقة المتجددة وبلديات كثيرة أخذت المبادرة في تبني الطاقــة الشمسية للإنارة العامة”

المناطق إلى إنارة الطرق بواسطة الطاقة الشمسية بدعم من جهات العون الدولية. إن كل ذلك يظهر أن المواطن في لبنان أسرع بكثير من الدولة في الأخذ بثورة الطاقة المتجددة، كما إن الاستثمار في أنظمة التوليد بالطاقة الشمسية يعتبر أهم وسيلة لتحقيق “الاستقلال الكهربائي” من قبل المواطنين والمؤسسات والهيئات المدنية وبالتالي تأمين مصادر تغذية دائمة وفعالة بالتيار الكهربائي.
3. حماية البيئة: إن التبني الشامل لسياسات التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة تفرضها أيضاً إلتزامات لبنان البيئية كبلد موقِّع على معاهدة باريس للحد من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات التي تساهم في تسخين جو الأرض، وبموجب هذه الاتفاقية فقد التزمت كل دولة بأهداف كمية على صعيد خفض الانبعاثات وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة ومن هذه الدول الاتحاد الأوروبي الذي التزم بأن يتوصل بحلول العام 2020 إلى خفض انبعاثات الغازات الحرارية بنسبة 20% (بالمقارنة مع معدلات 1990) ورفع الطاقة الكهربائية المستخرجة من المصادر المتجددة إلى 20% من المجموع وكذلك زيادة فعالية استخدام الطاقة الكهربائية بنسبة 20%. وبناء على معاهدة باريس فإن على لبنان أن يحدد لنفسه أهدافاً تتعلق بخفض تلك الانبعاثات وزيادة حصة الطاقة المتجددة وزيادة فعالية استخدام الطاقة ووقف الهدر. وكل هذه الالتزامات البيئية لا يمكن تنفيذها من دون سياسة وطنية شاملة لدخول عصر الطاقة المتجددة والخروج من مستنقع التقنيات البالية والهدر والفساد. والواقع فإنه وبالنظر إلى حجم اعتماد قطاع الكهرباء على الفيول وضعف السياسات المتعلقة بالحدّ من انبعاثات السيارات والمصانع والمولدات فإن لبنان أصبح من الدول الأكثر تلويثاً في العالم كما يظهر أعلاه التالي:
تحول استراتيجي: إن تبني لبنان للتوجه العالمي نحو مصادر الطاقة المتجددة لا بد وأن يقطع بصورة تامة مع النظام البالي الحالي لمفهوم احتكار توليد وتوزيع الطاقة من القطاع الحكومي، وهذا الاحتكار هو أحد أهم أسباب تخلف القطاع وتقادم التكنولوجيا وارتفاع التكاليف وتدهور الخدمات سنة بعد سنة. على العكس من ذلك، فإن قطاع الطاقة المتجددة يستند إلى مبادرات القطاع الخاص وإلى مهارة المستثمرين في الاستفادة من أحدث تقنيات الطاقة المتجددة التي تضمن لهم الميزة التنافسية للبيع بأفضل الأسعار مع تحقيق العائد على الاستثمار. إلا أن أهم ميزات الطاقة المتجددة هي في كونها نظاماً مثالياً لتطبيق اللامركزية في توليد وتوصيل الطاقة الكهربائية بحيث يمكن تصور قيام العشرات من الشركات الخاصة التي تتخصص كل منها في خدمة ناحية جغرافية ضمن القوانين الناظمة التي تصدرها الدولة، وهذا النوع من التوزيع الجغرافي لأنظمة الطاقة يساعد على بناء العلاقات بين المنتج وقاعدة العملاء وعلى تحسين الخدمات وترشيد الإدارة كما إنه ينهي مشكلة التسيّب والاعتداء على الشبكات في ظل النظام المركزي للكهرباء الذي نعيش في ظله حالياً.

 

 

تاريخ صلاح بن يحيى

تاريخُ صالحٍ بنِ يَحيى وتاريخُ ابن سباط

أضواءٌ على مرجِعيَن حَفِظا الكثيرَ من تاريخِ الدّروز

تقتصر المصادرّ التّاريخيـّة المعتمدة حول تاريـخ العصور الوسطي لجبـل لبنـان وجـواره، لِحِقْبة العصـور الـوسطى، على التّواريـخ الكاثوليكيّة المارونيّة وهي عـديـدة. والـوثائـق المـوجودة في محفوظات الفاتيكان، عـن العلاقـات بيـن الكنيسة الـرّومانيّة وطائفـة الموارنـة وهناك أيضاً منها ما يغطي علاقات الكنيسة مع طائفة الموحّدين الدّروز.
أمّـا المصـادر التّـاريخيّة الـدّرزية المتعلّقة بحقبـة العصور الوسطى، فتقتصـر على مؤلَّفيـن اثنيـن همـا: تاريـخ صالـح بـن يَحيـى، الأمير البحتـريّ المتوفّي في أواسـط القـرن الخامس عشـر. وتاريـخ حمـزه بن سباط بـن الفقيه أحمـد العاليهي أحد أتبـاع الأمـراء البحتريين، المتوفّي سـنة 1523م.
كان أوّل مـن قام بتحقيق تاريـخ صالـح بـن يَحيى، الأب لويس شيخـو اليسوعيّ. حيث عَثـر عليـه بينمـا كان يسـرّح النّظـر في أرفف خزائن مكتـبة باريـس الجامعية حيـث كان يستنـسخ بعـض مصنّفاتهـا، فبـادر إلى مطالعتـه وبـدأ بنقـله. والنّسخة الأصليّة تشتمل على 135 ورقـة، وفي كلّ صفحةٍ خمسةَ عَشًرَ سـطراً، مكتوبة بالخـطّ النسخيّ الـدّقيـق. كتبهـا المـؤلّـف وزاد عليهـا عـدّة إفـادات، وعلّـق عليهـا في الحـواشي، وجمـع فيـه مـا أمكنـه مـن الحـوادث عـن بيـروت وآثـارها وفتوحاتها. وتـاريخ بنـي بحتـر المعـروفين بأمـراء الغـرب، والذين تـولَّوْا زمنـاً طـويلاً على بيـروت ومـا جـاورها مـن قِبَـل ملـوك مِصـرَ في عهد دولـة الممـاليـك.
عمـل الأب لويس شيخو على نشـر الكتاب مـع بعـض التصرّف، وذلك تحـت عنـوان “تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتـريين مـن بنـي الغـرب”. وصـدر عن المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت سنـة 1920 ، ثـمّ صـدرت طبعـةٌ ثانيـةٌ منـه مُصَحّحـةً سنـة 1927.
أُعيـدَ تحقيـق هـذا الكتاب بعـد ذلك مـن قِبَـل الأب فرنسيس هـورس اليسوعيّ، والدكتور كمـال سليمان الصليبي، بالاشتراك مـع آخـرين. بالإشارة إلى العنوان الأصليّ وهـو “ أخبار السّلف مـن ذرّيّـة بُحتـر بـن علي أمير الغرب ببيروت “. وصـدر عن دار المشـرق – المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت سـنة 1969.
وفي سـنة 2015، قامـت مـؤسّسة التـّراث الـدّرزي بطبـع وتـوزيع خمسمائـة نسـخة مـن هـذا الكتاب، بموجب اتّفاق مـع دار المشـرق، صاحبة الحـقّ بطباعـة الكتاب وتـوزيعه، وذلـك تعميمــاً لفـائـدة هـذا المـَرجِع التاريخيّ الهـامّ.
المـؤلَّفُ الثّاني هـو كتـاب “صِـدْقُ الأخبـار”. المعروف بتاريـخ حمـزه بـن الفقيه أحمـد بـن سبـاط العاليهي، المتوفّى سنة 1523م، وهـو مـؤرّخ مُخَضـرَم، عاصر سنوات التحوّل من حكـم دولـة المماليك إلى حكم الدّولة العثمانيّة. وتاريخ ابـن سباط هـو المكمّـل لتاريخ صالح بـن يَحيى.
يتـألّف كتاب “ صِـدْق الأخبار”، المعروف بتاريخ ابـن سباط، مـن جـزءين، ومـن أحَـدَ عَشَرَ باباً. كلّ بـاب يتضمّن وقائـع مئـة عـام، مـا عـدا الباب الأول والأخيـر، وأنّ الجـزء الأوّل مـن الكتاب فُقِـد بكاملـه، كمـا فُقـِد قسـمٌ مـن الجـزء الثّاني، وبقيَ القسـمُ الأكبر منـه. والأبواب الباقية هـي:
• الباب السّابع من حوادث سنة 526 هـ / 1172 م. حتى سنة 600هـ / 1203 م.
• الباب الثّامـن من سنـة 601 هـ / 1204 م. حتى سنة 700 هـ / 1300 م.
• الباب التّاسع من سنة 701 هـ / 1301 م. حتى سنة 800 هـ / 1397 م.
• الباب العاشر من سنة 801 هـ / 1398م. حتى سنة 900 هـ / 1494 م.
• البابُ الحادي عَشَرَ من سنة 901 هـ / 1495 م. حتى سنة 926 هـ / 1520م.

أهـمّ مـا في القسـم الأخير مـن الكتاب، الفتـرة المعاصرة للمـؤلّف، حيـث ذكـر أخباراً مفصّلـة لمجريات الأحـداث التي عاشها، وأثبـت في تدوينها مقـدرته التـأريخيّة، وصـدق تعامله مـع الخبــر والحـدث. والجـديد في الكتاب أيضاً، مـا أضافـه من تكملة لتاريـخ صالح بـن يحيى، عـن التّنـوخيّين وتراجم أعيانهم ووفيّاتهـم، وتـراجم جماعـة مـن وفيّـات الغـرب وساحل الشّـام.
جـرى تحقيق تاريخ ابـن سباط، مـن قبل الدّكتـور عمـر عبـد السّلام تـدمـري الذي عمـل على تحقيق الأبواب الباقية، والمـذكورة آنفـاً، تحـت عنـوان: “صـدق الأخبار تاريخ ابن سباط”. تأليف حمـزه بـن أحمـد بـن عُمَـر المعروف بابـن سباط الغربيّ. وصـدر عـن مؤسّسة جروس بـرس – طرابلس- لبنان سنة 1993، في مجلّـدَين.
وكانت الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائدبيه، قـد قامـت قبل ذلك بتحقيق البابَيـن العاشـر والحادي عشـر مـن هـذا الكتاب، ووضعت عنـواناً للباب العاشـر”الفصل الأوّل”. وللباب الحادي عشَـرَ”الفصل الثّاني”. ووضَعت عنوانا للكتاب: “ تاريخ الدّروز في آخر عهد المماليك”، منشورات المجلس الدّرزي للبحوث والإنماء، طبعـة دار العَـودة – بيروت سنـة 1989. والكتاب في الأساس رسالة ماجستير قـدّمتها الدّكتورة نائلة إلى دائرة التّاريخ والآثار في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ونالت بموجبها درجـة الماجستير في الآداب.
لقـد ورد في مجلّة “الضّحى“ الغـرّاء، في العـدد 16 شهر أيار 2016. وفي الصفحة 78 وتحت عنوان: “ مؤسّسة التّراث الدّرزيّ في إصدار جـديد، ( الكتاب الآخر هـو الذي وضعه حمـزه بـن سباط تحت عنوان” صدق الأخبار” وقـد تولّت تحقيقه الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائد بيه).
والحقيقة أنّ الدّكتورة نائلة قائـدبيـه، قامت مشكورة بتحقيق الباب العاشر والباب الحادي عشر مـن كتاب صِدْق الأخبار، كما ذُكـر أعـلاه.

كارل يونغ

يُعتَبَرُ كارل غوستاف يونع من ألمع المفكّرين الذين أنجبتهم الإنسانيّة في القرن العشرين، فهو ليس فقط أحد أبرز المؤسّسين لعلم النّفس التحليلي بل هو أكثر المفكّرين المعاصرين تميّزاً في إدراكه للبعد الرّوحيّ للحياة وفَهمه للبنية المركّبة للنّفس البشريّة ولديناميكيّة تشكّل الجماعات والحضارات والعوامل التي تحدّد معارفها وسلوكها. ومن أبرز ما ميّز شخصيّته الخلّاقة انفتاحه بل انجذابه المبكر إلى الحضارات الآسيويّة والإرث الفلسفيّ والروحيّ الهندوسيّ بصورة خاصة، إذ رأى فيه مكمّلاً مهمّاً لعلم النّفس الحديث وعثر فيه على أدوات كثيرة تساعد على سبر الأغوار السّحيقة للنّفس البشريّة الفرديّة والجماعيّة وبالتّالي فهم المضامين الحقيقيّة للميثولوجيا والإرث الميتافيزيقيّ للحضارات. وكانت الرّؤية الكلّية التي تبنّاها يونغ لعلم النّفس ولما يمكن تسميته أيضاً “علم الإنسان” أحد الأسباب الأساسيّة التي دفعته للانفصال ومنذ وقت مبكر عن أستاذه وأبرز مؤسّسي علم النّفس سيغموند شلومو فرويد (1856-1939)،إذ اعترض على تحليله الضيّق الذي ربط أكثر مظاهر اللّاوعي الإنسانيّ بالغريزة الجنسيّة Libido وبما يسمّيه “الكبت” وهذه النّظرية اعتبرها يونغ تتضمّن تعريفاً دونيّاً ومَرَضياً للإنسان بينما نظر إليها العلماء الآخرون الذين عارضوها بإعتبارها وفّّرت أساساً مزيّفاً لدعوات الانحلال والتفلّت من القيود الاجتماعيّة والأخلاقيّة. ويُذكر أنّ النظريّة الفرويديّة لاقت رواجاً كبيراً في ستينيّات القرن الماضي إلا أنّها فقدت الكثير من تأثيرها في ما بعد خصوصاً بعد اتّهام فرويد بالتّلاعب بالتجارب المختبرية وتلفيق النّتائج لدعم نظريّته، وصدرت مجلة “تايم” الأميركيّة الواسعة النّفوذ قبل سنوات وعلى غلافها صورة لفرويد مع عنوان: هل فرويد عالم مُحتال؟

كارل يونغ
كارل يونغ

على عكس النهج الوحيد الجانب للتّحليل الفرويديّ فقد قدّم كارل يونغ بدائل أكثر نضجاً وإحاطة بالنّفس البشريّة والتّكوينات الاجتماعيّة وأماط اللّثام عن العديد من غوامض التّكوين الثّقافي الجمعيّ للشّعوب وخصائصها المميّزة من خلال النّظرية العبقريّة للّاوعي الجماعي، إذ اكتشف يونغ أنّه كما إنّ لكلّ فرد لاوعياً خاصّاً به هو نتيجة حياته وما يمرّ عليه من تجارب ومحرّضات وما ينتجه من خيالات وأعمال فإنّ لكلّ شعب أو مجموعة بشريّة أيضاً لاوعياً جماعيّاً هو نتيجة أسلوب عيش الجماعة والظّروف التي تمرّ بها عبر تاريخها واللّاشعور الجمعيّ هو بهذا المعنى “مخزن الخبرة الشّاملة لجماعة عرقيّة أو أثنيّة” وهو ما يطبع شخصيّتها وسلوكها ويجعل منها أثنيّة متميّزة عن الجماعات الأخرى. ويرتبط بهذه النّظريّة لـ يونغ صياغته لما يسمّى نظريّات المثالات الجمعيّة Archetypes وهي تعبيرات خارجيّة للّاوعي الجماعيّ يمكن استنتاجها من الصّور والرّموز والفنّ والأساطير والدّيانات أو الأحلام، وعرَّف يونغ المثالات الجمعيّة بأنّها صور نفسيّة مغرقة في القدم تنبع من اللّاوعي الجماعيّ وهي المرادف النّفسانيّ للغريزة بمعناها المُحدّد. وهذه المثالات هي احتمالات موروثة تتحوّل إلى فعل عندما تظهر إلى صعيد الوعي والعالم الخارجيّ، وهي بواطن سلوك فريدة بكلّ شخص أو جماعة ومستبطنة لكنّها تأتي إلى السّطح عندما تدخل صعيد الوعي فتأخذ تعبيرات محدّدة في سلوك الأفراد وثقافتهم. والرأي السائد هو أنّ نظريّة المثالات الجمعيّة لـ يونغ تأثّرت بالتّفكير الأفلاطونيّ حول “عالم المُثل” وبمفهوم مستويات الوعي Categories للفيلسوف الألمانيّ “كانت” Kant وأخيراً بالفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي تحدّث عن المثالات السلوكيّة prototypes.
يبقى القول إنّ يونغ الذي كان سويسريّاً ناطقاً بالألمانيّة عانى بسبب نزاهته العلميّة وإصراره على فصل العلم عن النّزاعات السّياسيّة من مواجهات مع طرفين متناقضين، فهو أولاً اصطدم بالحكم النازيّ في ألمانيا كرئيس لأهمّ جمعيّة لعلم النّفس في أوروبا عندما رفض تطويع الجمعيّة لأغراض الحزب النازيّ وأصرّ على السّماح للعلماء اليهود بالنّشر في مجلّتها، لكنّه وبسبب استمراره في رئاسة الجمعيّة في وقت كانت النّزعات المعادية لليهود في ألمانيا قد أصبحت سياسة رسميّة فإنّه اتُّهم بمعاداة السّامية، لكنّ هذه الاتّهامات كانت بلا أيّ أساس وهي لم تحمِه على أيّة حال من إجراءات انتقاميّة اتّخذها المسؤولون الألمان بحقه بما في ذلك مصادرة مؤلّفاته ووضعه على اللّائحة السّوداء.
يبقى القول أخيراً إنّ التطوّرات العلميّة في علم النّفس وفي العلوم الإنسانيّة الأخرى عزّزت كثيراً من النّفوذ الفكريّ العالميّ للعالم يونغ في الوقت الذي تمّ الابتعاد عن الدّوغما الفرويدية والتي اتّضح أنّها بُنيت على أسس علمية واهية بل ومُلفّقة، كما سجّل عالميّاً ابتعاد الطبّ النفسيّ الحديث عن أسلوب المعالجة النفسيّة المستند إلى مدرسة فرويد وتحوّله أكثر فأكثر إلى مدرسة يونغ في التّحليل النفسيّ، وهذا بعد أن بات الكثير من الأطبّاء النفسيّين يَرَوْن أنّ الأسلوب الفرويديّ ليس فقط غير ذي فعالية في شفاء المرضى النّفسيين بل هو على العكس زاد في أغلب الحالات من أعراضِ المرض الذي يعانون منه.
نظراً إلى الأثر الهائل الذي تركه كارل غوستاف يونغ في الفكر الإنسانيّ وفي علم التّحليل النفسيّ رأت “الضّحى” أن تقدّم هذه الشّخصيّة الفذّة للقارئ المهتمّ وذلك في سياق عنايتها بنشر الإنتاج الفكريّ العالميّ وتوسيع اطّلاع القارئ على بعض أهمّ الأشخاص والأحداث التي وَسَمَت تاريخنا البشري.

يونغ شرحَ إيمانَه الصّوفيَّ بمصطلحاتِ علمِ النّفس
ومساهماته الكُبرى مهدّت لتراجعِ نفوذِ الفرويْديّة

التعدُّدَ في العالَم الإختباري يستند إلى وحدةٍ كامنة
وما يبدو مجزأ ينتمي إلى وجود أوحد لا يدرك بالحواس

أيُّ تشكُّكٍ في النّفس البشريّة حول “حقيقةِ الله”
يسبّب إضطراباً وشقاءً في الجسد والنّفس على حد سواء.

وضع تفسيراً نفسيّاً لقصّة الخُضرِ والنّبي موسى
اعتُبِر دليلاً على تضلُّعه بالإسلام والقرآن الكريم

كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung (1875-1961) هو أحد الروّاد الكبار المؤسِّسين لعلم النفس، وقد كان لأعماله وحياته ومحاضراته الأثر الأكبر على التّحليل النفسيّ، لكن التّأثير الواسع ليونغ لم يتوقّف على علم النّفس والتّحليل النفسيّ بل تعدّاه إلى فتوحات مُلفتة في مَيدان علم السّلالات والحضارات (الأنثروبولوجيا) وعلم الرّموز والشّيفرات الثقافيّة وعلم الآثار والأدب العالميّ، كما إنّه تفرّد عن علماء عصره وعن بيئة العلمنة والإلحاد التي طبعت مجتمع العلوم الطبيعيّة والنّفسية في زمانه في أنّه تبنّى رؤية علميّة متصالحة مع مرتكزات التّفكير الرّوحي وتفهّم بقوّة أهميّة درس الجانب الآخر الغامض وغير المَرئي للحياة الإنسانيّة وهو الجانب الرّوحي، وكان يونغ يميل خلال فترة تعليمه ما قبل الجامعيّ إلى الجيولوجيا وعلم الحيوان والحفريّات وكان شديد الاهتمام بالعقائد الدينيّة المختلفة والحضارات الإنسانيّة والآثار خاصة ما تعلّق باليونان ومصر وعصور ما قبل التّاريخ مع ميل واضح للتأمّل والتّفكير خارج الأطر الرّائجة. ودرس يونغ الطبّ في مدينة بازل حيث تخرج طبيباً وبدأ حياته العمليّة عام 1900.
رغم اكتشافه لأهميّة البعد الرّوحي في حياة الإنسان والجماعات فإنّ يونغ حرص على استخدام لغة علميّة ورمزيّة خاصة للتعبير عن قناعاته أو قل حاول التّوفيق بين الروحيّ والعلميّ عبر استنباط مفاهيم جديدة في علم النّفس تفي بالغرض وتسمح له بالإشارة إلى الحقائق الروحيّة لكن بمصطلحات ابتدعها هو وقد ساعده ذلك على تجنب المواجهة مع التيّارات المعارضة للفكر الدينيّ، فكان بذلك يعيش بصمت وبنوع من التّورية على إيمانه الحقيقيّ وسعيه الدّؤوب لاستجلاء الأبعاد الخفيّة لعالم الرّوح واللّاوعي في النّفس البشريّة.

يونغ والبُعد الرُّوحيّ
لقد أثارَ البُعد الرُّوحي والصوفيّ لدى كارل يونغ فضول الباحثين الذين دُهشوا للطريقة التي كان يعرض فيها لغوامض الرّوح والنّفس البشريّة بأسلوب منطقيّ وبتعبيرات علميّة جديدة ومبتكرة. وهذا ما سَلَّط عليه الضّوء الكاتبُ الأميركي غاري لاشمان (Gary Lachman) في كتابٍ تحت عنوان “يونغ الصوفيّ: الأبعاد الرُّوحية الباطنيّة لحياة كارل يونغ وتعاليمه1”، حيث أولى اهتماماً خاصّاً بعددٍ من الأحداث والتجارب والعلاقات التي ساهمت في إرساء معتقدات يونغ ومقاربته، لا سيّما نظرياته الشّهيرة “المثالات الجمعية” (Archetypes)، و”اللّاوعي الجماعي” (Collective Subconciousness)، و”التكوّن الفردي” (Individuation)، و”الذات العُليا” (The Self)، و”العقدة النفسيّة” (Psychological Complex)، و”الماندالا” (Mandala) وهذا الكتاب هو معالجة مشوّقة في العمق حول حياة هذا العالم والمفكّر الكبير والمعتقدات التي كانت قد تكوّنت لديه في السّنوات المبكرة لانطلاق علم النّفس.
ويُناقش لاشمان الوحدة التي كان يعانيها يونغ طفلاً وبعض الرّموز التي استحدثها وأبقاها في أماكن سرّية، وهو ما استخدمه يونغ لاحقاً كإثباتٍ على آرائه حول مشاركتنا للّاوعي جماعيّ على مرّ العصور دون أن نعي ذلك. ويتحدّث الكاتب عن نشوء يونغ في جو محفوف بالظّواهر الرُّوحانية حيث كانت والدته إيميلي تختبر رؤى روحيّة تركت أثراً كبيراً على حالتها النفسيّة ومزاجها، وهذا الأثر وجَّه حياة يونغ من الناحيتَين الشّخصية والمِهَنية في وقتٍ لاحق.
وكان يونغ على قناعة منذ سن الثّانيةَ عشْرةَ بأنّ لديه شخصيّتَين: الأولى فتًى سويسريّ عادي، والأخرى رجلٌ نبيل وذو سلطة ونفوذ من الماضي. وكانت هاتان الشّخصيّتان في صراع دائم أثناء تطوّر حياته النفسيّة وكذلك الروحيّة.

.

اهتم يونغ كثيرا بالفلسفات الشرقية وها هو هنا يقدم تفسيره لرمز المندالا الروحي في الفلسفة الهندوسية
اهتم يونغ كثيرا بالفلسفات الشرقية وها هو هنا يقدم تفسيره لرمز المندالا الروحي في الفلسفة الهندوسية

يونغ وفرويد واللاّوعي الجماعيّ
الحَدَث الأبرز في انطلاقة كارل يونغ المِهنيّة كانت علاقته مع عالِم النّفس الشّهير سيغموند فرويد (Sigmund Freud)، حيث رافقه لعددٍ من السّنوات وتعاون معه في تطوير “التّحليل النفسيّ” (psychoanalysis)، بَيْدَ أنّ اهتمام يونغ بالأمور الرُّوحيّة أبعده عن تركيز فرويد العلميّ الماديّ المحض، ولو أنّهما تعاملا سويّةً مع سلوك الإنسان وحوافزه التي يمكن مراقبتها وتنظيرها، لكنّهما وصلا في النّهاية إلى خلاصتَين مختلفتَين.
هذه الصداقة بدأت في العام 1906 واستمرّت لفترة ستّ سنوات من التّعاون على مبدأ التّحليل النفسيّ، لكن في نهاية المطاف بدا واضحاً أنّهما على خلافٍ جوهريّ في آرائهما حول النّفس والعلاج النفسيّ وطبيعة الإنسان. فقد كان فرويد يرى أنّ النفسَ البشريّة هي أشبه بجبل جليدٍ، يُمثِّلُ جزؤه المرئيّ الصغير العقلَ الواعي، فيما يُمثِّلُ الجزء الأكبر المنغمس تحت الماء اللّاوعي. وكلّ ما يدفع الإنسان إنّما ينبعُ من عمق هذا الجبل الجليدي، المشاعر المكبوتة والذّكريات والنّزاعات. لكنّ يونغ في المقابل كان يرى أنّ ثمّة تأثيراً كبيراً على الطّبيعة البشرية لا ينبع من جبل الجليد هذا فحسب، بل من المحيط بحدّ ذاته – أَلا وهو اللّاوعي الجماعيّ للبشريّة. وإضافة إلى ذلك خرج يونغ من خلال عمله وتحليله لشخصيّات مرضاه بقناعة أنّ التحليل النفسيّ وجبَ أن يكون إيجابياً وذا هدفٍ راقٍ يُمكِّن الإنسان من إحراز إمكانيّاته العُليا. لكنّ فرويد على العكس كان ماديّاً ومُتَشكِّكاً بالطّبيعة البشريّة ويرى أنّ الحياة غير ذات مغزى وأنّ التّحليل النفسيّ يمكنه في أفضل الحالات أن “يُخفِّف من بؤس الإنسان”.
اختبرَ يونغ نظريّات التّحليل النفسيّ الفرويدي، الذي يهدف إلى العمل كعلم آثار للحياة النفسيّة، يستنبط الذّكريات القديمة المكبوتة والمنسيّة للطفولة المبكرة. لكنّه في ممارسته للتّحليل النفسيّ لمرضاه لم يجد ذكريات مكبوتة فحسب بل كنزاً من الصّور ذات المحتوى الرُّوحي، ورموزاً دينيّة وأسطورية كامنة في حنايا النّفس.
وفي العام 1912، اكتمل الانفصالُ النّظريّ والشخصيّ ما بين هذَين العالِمَين، حيث انتقد فرويد علناً اهتمامَ يونغ بالمسائل الرُّوحية العميقة واتّهمه جهارةً بـ “الصوفية”، لكنّ يونغ مضى في طريقٍ امتدّ لسنواتٍ عديدة لتطوير نظريّاته التي تُعطي للإنسان قيمة، وللحياة جدوى، وللوجود غاية.

“يونغ اختبر أثناء نوبة قلبيّة تجربة “مغادرة الجسد” فأيقن بوجود عالم الرّوح الأزليّ وحزن للعودة إلى الجسد”

كارل يونغ (إلى اليمين) مع سيغموند فرويد (أقصى اليسار) قبل الافتراق
كارل يونغ (إلى اليمين) مع سيغموند فرويد (أقصى اليسار) قبل الافتراق

المثاُلات الجمعيّة والصورة الأسمى
خرج كارل يونغ بنظريّته الشّهيرة حول “المثالات الجمعية” الأوّلية أو البدْئية Archetypes المتماثلة مع “اللّاوعي الجماعي”، وهي مصدر كلّ الأفكار بل ومصدر كلّ الوجود، وهي تُشبه إلى حدٍّ ما المُثُل العُليا الأفلاطونيّة، أي الصّور الأُوَل في ما أسماه “العقل الكونيّ” (Cosmic Mind)، التي تُؤثِّر في النّفس البشريّة وتتبدّى لها في الأحلام، وفي الرّموز، وفي التّجارب الرُّوحيّة. وبالنّسبة إلى يونغ، فإنّ المثال الأوّليّ الأقدس هو القيمة الأعلى للذّات، الحقيقة الأصليّة للنفس وغايتها، ألا وهو “صورة الله” (Imago dei)، وأيُّ تشكُّكٍ في النّفس البشريّة، حتى ولو في اللّاوعي، حول “صورة الله” إنّما يُحدِثُ اضطراباً وشقاءً في الجسد والنّفس على حدٍّ سواء.
إنّ أعمال كارل يونغ هي أكثر من علم نفس للصحّة العقليّة، أو للمعالجة النفسيّة، إنّها تُوفّر علماً نفسانيّاً لاهوتيّاً (Psycho-Theology) للتحقُّق الرُّوحي للنّفس البشريّة، التي تسمو وترقى لتُحقِّق “صورة الله” في يقينها، كحاجةٍ نفسيّة وهدفٍ أسمى لوجوده، حيث إنّ هذا المثال الأصلي البدئي يغرس في النّفس “توقاً لرؤية تجلٍّ لتلك الصورة” (Theophanic Vision) منطبعةً على مرآة العقل، على حدّ قول القدّيس أوغسطين (St. Augustine). فهذه الصّورة كما يقول يونغ: “القيمة الأرقى والغاية الأسمى في تراتبيّة النّفس”، وهي تُوجِّه نمو وتطوُّر الحياة النفسية.
وممّا يثير الاهتمام في هذا الصدد مخطوطةٌ وضعها يونغ بخطّ يده تحت تسمية “الكتاب الأحمر” (The Red Book)، الذي نُشِر مؤخّراً بعد أن احتفظت به عائلة يونغ بعد وفاته في العام 1961 في مكانٍ آمنٍ لعقودٍ من الزّمن. ويُثبت هذا الكتاب أنّ يونغ كان بكلّ معنى الكلمة “صوفيّاً معاصراً”، لديه “انجذابٌ إلى أداء دورِ تعليمٍ روحيّ”، على حد قول الكاتب مايكل تيتشينغز (Michael Teachings).

يونغ الصوفيّ
سعى يونغ إلى التستّر على المنحى الرُّوحي والصوفيّ لحياته،

خوف أن يتمّ التشكيك بنظريّاته العلميّة من خلال اتّهام خصومه له بأنّه يتبنّى مقاربة دينيّة “غير علميّة”، لكنّ يونغ الذي كان يتمتّع بنزاهة علميّة كبيرة وجد طريقة للتّعبير عن تفكيره الروحيّ المتسامي بلغة علم النّفس وبمفردات ومصطلحات أوجدها لتساعده على المواءمة بين الموضوعين العلميّ والصوفيّ، وقد تتوَّج ذلك المنحى بهذه التّحفة الأدبيّة الكبيرة، التي وضعها ما بين العامين 1914 و 1930 وزيَّنها برسوماتٍ أشبه بكتابٍ من القرون الوسطى. وبقي الكتابُ حتى العقد الأول من القرن العشرين محفوظاً في أحد المصارف السويسريّة بعيداً عن أنظار الباحثين، لكن بعد سنوات من التّفاوض مع العائلة وُضعِت ترجمة للكتاب ونُشِرَت في العام 2009، حيث تبدّى بُعداً روحيّاً شديدَ الوضوح، لاسيّما حينما يصف يونغ في أنحاء الكتاب الشخصيّات الروحيّة التي عايشها في عالمه الداخليّ، ومنها النبيّ إيليا، وشخصيّة مرشدٍ روحيّ أسماه “فيلمون” (Philemon)، ورسمه كرجلٍ مُسِنّ ذي لحية بيضاء، يعكس مثاله الأصليّ الشهير “الرّجل الحكيم”.
هذه الأفكار والتّجارب الرُّوحيّة حدثت بعد أن اختبر يونغ ما يُسمّى بتجربة “العودة من الموت”. ففي أحد أيام شتاء العام 1944، انزلق يونغ وهو في سن الـ 68 على الجليد وكسر قدمه، ودخل المستشفى، وفيما هو هناك تعرّض لأزمةٍ قلبية، وفقَدَ الوعي واختبر تجربة “مغادرة الجسد” وهو وجدَ نفسه مُحلِّقاً على علو مئات الأميال فوق الأرض. كانت البحار والقارات مغمورة بنورٍ أزرق، وأمكنَ ليونغ أن يُميِّز الصّحراءَ العربيّة وجبال همالايا المُكلَّلة بالثلج. وأحسَّ أنّه سيفلت من المدار، لكن عندها تراءى له نصبٌ هائل، كان نوعاً من الهياكل، وعند مدخله رأى يونغ حكيماً هندوسيّاً يجلس بوضعية اللوتس. وداخل الهيكل، تلألأ عددٌ لا يُحصَى من الشّموع، وأحسَّ بأنّ وجوده الأرضيّ على وشك التّلاشي. كان شعوراً يبعث على السّرور، فما تبقَّى كان “يونغ جوهريّ!”، هو جوهر وجوده. وأدرك أنّ داخل المعبد يكمن سرُّ وجوده، وغرضُ حياته. وكان على وشك اجتياز العتبة حينما انبثقت من قارة أوروبا أسفله صورةٌ لطبيبه في مثال أصلي على هيئة ملك “كوس”، تلك الجزيرة التي يقع عليها معبد “أشكليبوس الإغريقيّ”، شفيع الطب. وأخبره طبيبُه أنّ رحيله عن هذه الدنيا لم يَحِن بعد، وأنّ العديدَ يُطالبون بعودته. وما إن سمع يونغ ذلك حتى أُصيب بالإحباط، وسُرعان ما انتهت رؤيته واختبر “العودة إلى الحياة في الجسد”. وفي اليوم الذي تماثل فيه يونغ للشفاء، أُصيب طبيبُه بتسمُّم في الدّم وأُدخِلَ إلى المستشفى حيث توفّي بعد بضعة أيام على السّرير ذاته الذي رقدَ فيه، وكأنّما افتداه بحياته.
وبعد هذه التجربة أصبح البُعدُ الرُّوحيّ أو الصوفيّ عنصراً جليّاً في أعمال يونغ، الذي بات يؤمن بأنّ “الرُّوحانيّة هي ضروريّة لعافيتنا النفسيّة والجسديّة”، لا كما كان فرويد يعتقد بأنّ التجاربَ الرُّوحيّة ما هي إلا ضربٌ من الأوهام. وقد وضعت مجلة “التّايم” على غلافها في العام 1955، “يونغ: تحدٍّ لفرويد”.

كارل يونغ وعائلته
كارل يونغ وعائلته

“فرويد إنتقد اهتمامَ يونغ بالشأن الرُّوحي واتّهمه بـ “التصوّف” لكنّ يونغ أصرّ على اعتبار الرّوحي أساساً في فَهم الإنسان”

تفسيره لقصة موسى والخُضر
في خضمّ هذا الاهتمام الرُّوحيّ، سعى يونغ إلى تفسير سورة الكهف في القرآن الكريم بمقالة تحت عنوان: “في ما يتعلّق بالولادة من جديد” (ضمن أعماله الشّاملة، المجلّد التّاسع، الجزء الأوّل)، ويصل في تفسيره إلى شخصية الخُضر، “العبد الصالح”، الذي رافقه موسى ليتعلّم منه، واعتبره يُمثِّل رمزاً لـ “الذات العُليا”، والتحوُّل الرُّوحيّ أو “الولادة الرُّوحيّة من جديد”، وقد بدا من أسلوبه الغني والمبتكر أنّه كان على معرفة جليّة بالقرآن الكريم وبشخصيّة الخُضر النَّبويّة وبالتصوّف الإسلامي. فالخُضر يمثِّل رمزاً ليس فقط “للحكمة العُليا” بل أيضاً لطريقة العيش والتصرُّف “بما يتوافق مع تلك الحكمة والعقل الكونيّ”.

كارل يونغ والفيزياء الكوانتيّة
بعد أن تلقّف المتعطِّشون للمعرفة نظريّات يونغ بكلّ دهشة واحترام علميّ رزين، لفتَ الباحثان دييغو فالاداس بونتي (Diogo Valadas Ponte) ولوثر تشايفر (Lothar Schäfer) إلى أوجه الشّبه بين نظريات الفيزياء الكوانتيّة (Quantum Physics) وعلم نفس كارل يونغ. فعلى الرّغم من أنّ الفيزياءَ وعلمَ النفس يُعتبران على غير صلة، فإنّهما قادا إلى تغييراتٍ ثوريّة في المفهوم الغربيّ لنظام الكون، حيث إكتشفا عالَماً غير تجريبي (non-empirical) لا يتألّف من عناصر ماديّة بل “صور أو مُثُل”، وهذه الصّور حقيقيّة ولو كانت غير مرئية من حيث كونها لا تظهر في العالم التجريبيّ وتعمل فيه. وهكذا يبدو العالمُ التجريبيّ “انبثاقاً من عالمٍ من الإمكانيات”، حيث تتبدَّى الصورُ بُنَى مادية فيزيائية في العالم الخارجيّ، ومثالات جمعيّة Archetypes في العقل أو النفس، وهذه الصّلة تعني أنّ الفكر أو العقل البشريّ في جوهره هو “عقل صوفيّ”.
ومنذ أن أرسى الفيلسوفُ رينيه ديكارت (René Descartes) مستنداً إلى اكتشافات اسحق نيوتن (Isaac Newton) المفهومَ الماديّ للكون، أصبحت العلومُ الغربية شكلاً من أشكال الماديّة المحض، وقد نقل داروين تلك المادّية إلى علم الأحياء عبر نظريّته المثيرة للجدل لتصبح بالنسبة إليه أساسَ الحياة التي جرّدها من أيّ فضيلة أو دور للخالق. وغدت العلومُ الماديّة خالية من الأخلاقيّات، والفلسفة وكلّ نظريّة تتناول النّفس خالية من البُعد الرُّوحيّ والدينيّ. وفي ظل هذه البيئة المادية السائدة، كان لكارل يونغ الشّجاعة الكافية للتّأكيد بأنّ عقولنا يُوجِّهها نظامٌ من الصّور الأوّلية أو المُثُل الأصلية القوية والحقيقيّة حتى ولو كانت غير ذات كتلة أو طاقة. فهذه المُثُل بحسب يونغ توجد في “نظامٍ نفسانيّ ذي طبيعة جماعيّة، وكلّية، وغير شخصيّة”، ومن هذا النّظام يمكن لتلك الصّور غير المرئيّة أن تظهر في فكرنا وتُوجِّه “خيالنا وإدراكنا وتفكيرنا”.

يونغ أفرد بحثا لشرح قصة الخصر وموسى الواردة في صورة الكهف في القرآن الكريم
يونغ أفرد بحثا لشرح قصة الخصر وموسى الواردة في صورة الكهف في القرآن الكريم

وتبيَّن للباحثَين المذكورَين أنّ رؤية كارل يونغ هذه للفكر البشريّ هي على اتّفاق تام مع أحدث اكتشافات الفيزياء الكوانتيّة، التي شكّلت في القرن الماضي صدمةً للعلم المادي، لأنّها كشفت الأخطاء الجوهريّة للفيزياء الكلاسيكيّة وقادت إلى تغيُّرٍ جذري في وجهة النّظر الغربيّة للعالَم. فهي دفعت العلماء إلى التّفكير بأنّ أساسَ العالم المادّي هو غير مادّي، بل هو عالمُ صورٍ ومُثُلٍ “عقليّة روحيّة غير مرئيّة”، وكلّ الأشياء الملموسة هي انبعاثاتٌ من عالم الإمكانيّات هذا. وبدا العالَمُ بعد ذلك “كُلّاً غير متجزِّئ يرتبط فيه البشر والأشياء في ما بينهما”، ويظهر الوعي “كخاصّية كونيّة”.
ويؤكّد الباحثان أنّ تعاليم يونغ هي أكثر من علم نفس، إنّها “شكلٌ من أشكال الرُّوحانيّة”. وأوضحا كلمة “روحانيّة” بأنّها تعني وجهة نظر للعالَم “تعتبر الرُّوحانيّ السّامي الرفيع Numinous أساساً للنّظام الكونيّ”. وعلى هذا النّحو، فإنّ الفيزياء الكوانتيّة هي أكثر من فيزياء، إنّها شكلٌ جديد من أشكال الفكر الصوفيّ، ذلك الذي يرى ترابطاً بين كلّ الأشياء والكائنات، ترابطاً بين عقولنا و”عقلٍ كونيّ”.
ففي نظريّة الفيزياء الكوانتيّة (وتسمى أحياناً “الميكانيكا الكوانتيّة”) (Quantum Mechanics)، التي تتيح فهمَ خصائص الذرّات (Atoms) والجُزَيئات (Molecules)، ليست الإلكترونات (Electrons) جُزيئات ماديّة صغيرة، أو كُريّات صغيرة من المادّة، بل موجاتٍ من الطاقة أو صور على عكس ما تبدو عليه عند مراقبتها بالأجهزة العلميّة كنقاطٍ صغيرة ذات كتلةٍ محدّدة. ويُستنتَج من ذلك أنّ العالَم المرئي (أو الملموس) يستند إلى “ظواهر” وهذا ما يتجاوز ماديّة الفيزياء الكلاسيكية. ففي جذور المادّة على المستوى الذرّي والجُزَيئيّ، بتنا نجدُ عالَماً من الصّور والأرقام الرياضيّة، لا تكتُّلاتٍ مادية. وهذا تماماً ما تحدّث عنه الفيلسوف اليوناني فيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد، حين كان يُعلِّم بأنّ “كلَّ الأشياء هي أرقام” و”الكون بأكمله أرقامٌ وتناغم”، وكذلك نجده في فلسفة أفلاطون، حيث الذرّات هي صورٌ أو مُثُلٌ رياضيّة.
وهكذا جاءت الفيزياء الكوانتيّة لتدعم علمَ نفس كارل يونغ، فاكتشاف عالَمٍ من الصّور أو المُثُل غير الماديّة في جذور المادّة، كأساسٍ لوجود العالم الماديّ المرئيّ، يجعل من الممكن تقبُّل نظرة أنّ المُثُل الصّوَريّة “هي حقيقةٌ تظهر في فكرنا أو عقلنا من عالمٍ كونيّ”. ووجهة النّظر الكوانتيّة لحقيقة كونيّة واحدة وشاملة هي على اتّفاق تامّ مع أحد أكثر مفاهيم يونغ أهمّية، وهو مفهومه المثاليّ “العالَم الأوحد” (Unus Mundus). ويقول يونغ: “ترتكز فكرة العالَم الأوحد دون رَيب على افتراض بأنّ التعدُّدَ والكثرة في العالَم الاختباري تستند إلى وحدةٍ كامنة .. وكلّ ما هو متجزّئ ومتفرِّد إنّما ينتمي إلى عالمٍ وحيد أوحد، وهو بالطبع ليس عالَم الحِسّ”، وبالتالي فإنّ هذا المثال الأصليّ، من ناحيةٍ وجوديّة (Ontological)، يعني “وجوبَ أنْ تتّحدَ النفسُ بتلك الحقيقة”.

صورة غلاف كتابه الشهير -الإنسان ورموزه
صورة غلاف كتابه الشهير -الإنسان ورموزه

التحقُّق الفرديّ
من ثمّ تأتي نظريّتُه الشهيرة عن “التحقُّق الفردي” (Individuation)، حيث يغدو المرءُ واعياً بـ “ذاته العليا”. ويقول يونغ في كتابه “المثالات الجمعيّة واللّاوعي الجماعيّ”2: “لقد استخدمتُ مصطلحَ التّحقُّق الفرديّ لتوصيف العمليّة التي يصبح بها المرءُ سيكولوجيّاً في حالة تحقُّقٍ مع ذاته، أي في وحدةٍ أو كلّيةٍ (Wholeness) غير قابلة للتجزُّؤ”. ولم يكن ثمّة مغزى لتحقيق هذه الكلّية أو الوحدة في عالَم نيوتن المُتَّسِم بالأشياء الماديّة المنفصلة، لكنّ هذا التحقُّق وجدَ أساساً له في العالم الكوانتيّ. ورأى يونغ أنّ عملية التحقُّق الفرديّ هذه هي “حافزٌ دينيّ بل مثالٌ أصليّ روحي يُوجِّه ويُنظِّم مسارَ حياة الإنسان”. فالجذر اللّغوي اللّاتيني لكلمة Religion المستخدمة في هذا السياق هي Re-Ligare وتعني “إعادة الوصل” أو “إعادة الرّبط أو الاتحاد”.
وتوضح الباحثة أنيللا جافي (Anniela Jaffé) في معرض تفسيرها لنظريّة يونغ: “ينبغي فهم التحقُّق الفرديّ باللّغة الدينيّة كتحقيقٍ لِمَا هو إلهي في البشريّ، كإنجازٍ لمهمّةٍ علويّة. وتصبح التّجربة الواعية للحياة تجربةً دينيّة، بل يمكننا القول أيضاً، تجربةً صوفيّة”.
وفي تحليله للرمزيّة في الفلسفة والكيمياء، يعتبر يونغ ما يُسمَّى “حجر الفلاسفة” كرمزٍ لعمليّة التحقُّق الفرديّ هذه، “الهدف الأسمى للذات”. ويقول يونغ بعبارة تُذكّرنا بما علّمه سقراط في محاورة “كارميديس” الأفلاطونية عن ضرورة أن تُعالَج النّفس أولاً كسبيلٍ لمعالجة الجسد: “الاهتمام الرّئيسي لعملي لا يتعلّق بمعالجة الاضطرابات العصبيّة، بل بمقاربةٍ لِمَا هو روحيّ وسامٍ، لكنّ الحقيقة هي أنّ المقاربة إلى ذلك الرُّوحي هي العلاج الحقيقيّ للعلل الجسديّة، وبقدر ما نكتسب من خبرةٍ روحيّة، بقدر ما نتخلّص من لعنة الأمراض”.
وكان عالِم الفيزياء والفلك البريطانيّ الشهير السير آرثر ستانلي إدينغتون (Arthur Stanley Eddington) قد أجرى بحثاً منهجيّاً في ثلاثينيّات القرن الماضي عن وجود الوعي في الكون، وخلُصَ إلى أنّ: “الكون هو من طبيعةِ أفكارٍ في عقلٍ كلّيّ”، ولو كره علماءُ الفيزياء الماديّون بأنّ أصل الموجودات هو ذو خاصيّة عقليّة، وذلك في توافقٍ تامٍّ مع تعاليم كارل يونغ والفيزياء الكوانتيّة.

يونغ في أوج عطائه عندما أصبح شخصية عالمية معترفا بفضلها على علم النفس والثقافة الإنسانية
يونغ في أوج عطائه عندما أصبح شخصية عالمية معترفا بفضلها على علم النفس والثقافة الإنسانية

خاتمة
فيما كان يونغ عاكفاً على درس النّفس البشريّة، اكتشف الخصائصَ العقليّة للكون، تماماً كما فعلت الفيزياء الكوانتيّة. فالمُثُل الأصليّة تتبدّى أفكاراً في العقل البشريّ، وبُنى ماديّة في العالَم الخارجيّ، وهكذا أخذت الفيزياءُ الكوانتيّة تبدو شكلاً من أشكال علم النّفس، علم نفس العقل الكونيّ. وفي المقابل بدا علمُ نفس كارل يونغ فرعاً من فروع الفيزياء، فيزياء النّظام العقلي للكون.
وأصبح الكونُ الكوانتيّ الكلّيّ ذو المنشأ العقليّ غير التجريبيّ مفهوماً صوفيّاً، وكذلك علمُ نفسِ كارل يونغ الذي تحدّث عن النّفس “المتّصلة بعقلٍ كونيّ ومَصدرٍ روحانيّ”. إنّه علمُ نفسٍ أكّد أنّ نكرانَ النّواحي العُلويّة للنّفس البشريّة قد يؤدّي إلى مشكلاتٍ كبيرة في الصّحَّة البدنيّة والنفسيّة على حدٍّ سواء. علمُ نفسٍ خَلُصَ إلى أنّ السعادة في هذه الحياة لا يمكن تحقيقها إلّا بفهم الخلفيّة العقليّة الرُّوحيّة للكون، والعيش بالتّوافق معها، وتقبُّل أهميّة الرُّوح في حياتنا.

القرآن، ونشأة النحو العربي – شوقي حماده

القرآنُ الكريمُ
ونشأةُ النَّحوِ العربيِّ

نسخة نادرة من ديوان أبو الأسود الدؤلي تعود إلى صفر 380 وهي محفوظة في مكتبة جامعة لايبزيغ الألمانية copy
نسخة نادرة من ديوان أبو الأسود الدؤلي تعود إلى صفر 380 وهي محفوظة في مكتبة جامعة لايبزيغ الألمانية

لم يكن تأثير الدّين محصوراً في النّظم السياسية والاجتماعيّة وحدها، فللدّين تأثير جوهريّ على الحياة الفكريّة، ومن ثمّ يكون تأثيره على روحِ الحضارة فضلاً عن مقوّماتها. وتأثير الدّين في الثّقافة الإنسانية واضح في قول الشاعر والمفكر البريطاني توماس إليوت: “لا يمكن أن تظهر ثقافة أو تنمو، إلّا وهي متّصلة بدين”. وهذا الأمر صحيح الى حدٍّ بعيد، بالنسبة للإسلام، فإن مختلف ضروب العلم الإسلاميّ، قد تأثّرت – نشأةً وتطوّراً – بالعقيدة الإسلاميّة، وقد تأثّرت دراسة اللّغة – عند المسلمين – بالمنهج الإسلاميّ، كما تأثّرت المادّة اللّغوية بالإسلام، فنشأةُ الدّراسات اللُّغوية بدأت متأثّرة بحاجات دينيّة، وضرورات اجتماعية ناتجة عن الدّين، وإن كانت تختلف – في الأسباب المباشرة – عن غيرها من العلوم الإسلاميّة، ومصدر هذا الاختلاف، يعود، عندي، إلى محور الدّين، وهو القرآن الكريم، والقرآن نصٌّ عربي. وإذا كان لا بدّ من نقل الأمم الإسلاميّة، على تنوّع ألسنتها واختلاف لهجاتها، إلى القرآن والعربيّة، فكيف يتمّ هذا النقل ــ يا رعاكَ الله– بغير تناول اللّغة التي نطق بها القرآن؟ بيد أنّ نقل هذه الأمم-على امتداد الآفاق- إلى القرآن، يتطلّب أولاً توحيد النّصّ القرآني، ولم يتمَّ توحيد هذا النص إلّا في عهد الخليفة عثمان بن عفّان (ر) سنة 35 هـ / 655 م، حين جمع الناس على مُصحفٍ واحد، فمهّد بذلك الطّريق الى ضبط النَصّ ضبطاً دقيقاً، وهي الخطوة الأولى التي فتحتْ باب الدّراسات النّحويّة بأسرها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّنا نشّك فيما ذهب إليه ابن فارس1، من أنّ النّحو في اللّغة قديم، ثمّ أتت عليه الأيّام، حتى جاء أبو الأسود الدّؤلي2، فأحيا ما اندرس منه.
كما أننا نشكّ في أن يكون ظهور اللَّحن أو شيوعه، هو السّبب الأساسيّ في نشأة الدّراسات النّحوية، وإلّا لظهرت محاولات نحويّة في العصر الجاهليّ، أو في عهد الرّسول (ص) وأبي بكر وعمر (ر) وهو ما لا نجد له أصلاً في ما ترويه كتب التاريخ ومصادر اللغة – باستثناء – نصٍّ يتيم وحيد، نسب نشأة النّحو إلى عهد عمر، وقد نقلها عن ابن الأنباري3 ابن قاضي شهبة4، ثمَّ نقلها عنهما السّيوطي5. وابن الأنباريّ من علماء القرن السادس للهجرة، وكانت وفاته سنة 577 ه / 1181 م، فانظر إلى الفترة الطّويلة التي تتجاوز خمسة قرون، لم ينسب، في خلالها، أحد وضع النّحو الى عهد عمر بن الخطاب (ر).
ومشكلة ابن الأنباري – رغم معرفته بأسرار اللغة – أنّه كان ضعيف الرّواية، فهو لا يذكر عَمّن روى، ولا ممّن أخذ، وهو – فوق هذا كلّه – ممّن لا يتحرّزون ولا يحللّون، إذ يذكر روايات كثيرة يناقض بعضها بعضاً دون أن يحفل بتحقيقها، فهو يضيف إلى هذه الرّواية التي تنسب وضع النّحو إلى أبي الأسوَد الدؤلي بأمرٍ من عمر (ر)، روايات أخرى تنسب السَّبب في وضع النّحو إلى الإمام علّي بن أبي طالب كرّم الله وجهه و إلى زياد بن أبيه6، كما يسند وضع النّحو في روايات لاحقة إلى عبد الرحمن بن هوفر ونصر بن عاصم7، دونما تحليل لسَنَد هذه الروايات، أو مادّتها، فإذا أيّدنا صحّة هذه الرّواية، فلأنها لا تتناقض مع ما تحتّمه الظروف الموضوعية، من استبعاد البدء في الدراسات النحوية – بأي وجهٍ من الوجوه– قبل عهد عثمان بن عفّان (ر)؛ إذ يمكن تفسير هذا النّحو الذي أمر الخليفة عمر أبا الأسود الدؤلي بوضعه، بأنه ليس هو ما يعنيه الباحثون من تناول الظواهر التركيبية بالتعقيد8 والدّرس، بل هو النّحو الذي ينبغي أن ينحوه قُرّاءُ القرآن الكريم، أي المنحى أو الاتّجاه أو الطريقة التي يجب أن يتّبعها معلمو القرآن في قراءته، يؤيّد ذلك ما نراه في أحد كتب الخليفة عمر إلى أبي موسى الأشعريّ، فقد استخدم فيه لفظ “الإعراب” لأوّل مرّة، دون أن يحمل مضمونه الاصطلاحي، إذ يقول: “أما بعد، فتفقّهوا في الدّين، وتعلموا السُنّة، وتفهمّوا العربية، وليعلِّم أبو الأسْوَد أهل البصرة الإعراب”

1.تمثال-للخليل-بن-أحمد-الذي-يعتبره-البعض-واضع-قواعد-اللغة-العربية
1.تمثال-للخليل-بن-أحمد-الذي-يعتبره-البعض-واضع-قواعد-اللغة-العربية

فالإعراب، هنا، بمعنى الإبانة، وعمر (ر) يقصد وضوح القراءة في كتاب الله. هذا، ولا يضيف أحد من علماء القرن السابع الهجري، أمثال ياقوت أو ابن الأثير أو القفطِيّ أو إبن خِّلكان شيئاً جديداً، وإذا كان علماء القرن السّابع الهجري هؤلاء، قد اكتفَوْا بترجيح وضع أبي الأسْوَد الدّؤلي للنّحو، مع حكاياتهم لما فيه من خلاف، فإنَّ علماء القرون التالية، قد خطا بعضهم خطوةً إذ استقرّت عندهم نسبة وضع النّحو إلى أبي الأسْوَد، دون أن يعتنوا كثيراً بما في هذه النّسبة من اختلاف، يؤكّد ذلك نصّ ابن مكتوم في تلخيصه9، و ابن نباتة في سرحه10، و اليافعي في مرآته11، و ابن كثير في كامله12، والعسقلاني في تهذيبه، وابن تعزي؟؟؟ (يرجى سؤال شوقي عن حقيقة الاسم هنا: أظنّه ابن تغري بردي وليس ابن تعزي، إذ لايجوز لنا أن نغلط في مجلّتنا)في نجومه13 ، وابن العماد في شذراته14، و البغدادي في خزانته15.
قلنا اهتمّ عمر بن الخطّاب (ر) بتعليم الإعراب لأهل البصرة، وهي أصلح مكانٍ في العراق لنشأة الدّراسات النّحوية، ذلك أنّ موقعها الجغرافي هو نقطة التقاء تتقاطع فيها الطّرق الصّحراوية الآتية من شبه الجزيرة والشّام، والمتجّهة من بلاد فارس بالطّرق البحرية الممتدّة من المجرى الأدنى للرّافدين، على ما في هذا التّلاقي الكثيف من تنوّع سكّانيّ وتعدّد ثقافيّ لألوانٍ من القبائل والبطون.
هذا العدد من العرب وسواهم من أبناء الشعوب غير العربيّة، لا بدَّ أن يُحِسّ بالمشكلة اللُّغَويّة إحساساً عميقاً، يدفعه إلى خلق “لغة مشتركة”، لتكون وسيلةً للتّفاهم بين ذوي اللّهجات المتعدّدة واللّغات المختلفة، ولا بدّ أن تصبح هذه “ اللّغة المشتركة “ مبّسطة القواعد الى أبعد الحدود ليتيّسر استخدامها في مجال الحياة اليوميّة، ولا بدّ لها أن تتجرّد من مراعاة الظّواهر الأصلية في اللّغة العربيّة، وأبرز هذه الظّواهر، الظّواهر التّركيبيّة. أمّا أوضحها دلالةً وأصعبها مركباً، فهي ظاهرة التصرّف الإعرابي، وفي مقابل هذا الدافع إلى خلق “لغة مشتركة”، لحلّ المشكلة اللُّغَويّة، لا بدّ أن يبرز حلٌّ آخر، وهو جعل العربية نفسها “اللّغة المشترَكة” ولا سبيل إلى ذلك، إلّا بوضع قواعد لها، لتصبح هذه اللّغة، أساس وحدة الفكر ودعامة لوحدة العقيدة، معنى هذا أنّ الظروف كانت مؤاتية في أواخر عهد عثمان بن عفّان (ر) للتصّدي لهذه العقبة الأساسيّة التي تواجه الفكر الإسلاميّ؛ ونحسب أنّ التحدّي اللُّغَويّ الذي واجه المسلمين، دفعهم دفعاً إلى أن يواجهوه، في مجالين متّصلين متكاملين، يتمثّل أوّلهما بالعلاج السّريع للمشكلة، ونعني به ضبط القرآن ضبطاً دقيقاً حتى لا يخطئ فيه قارئوه.. ويمثّل ثانيهما، حلّ المشكلة حلّاً جذرياً على المدى البعيد، وهو دراسة اللّغة العربيّة، وفهم ظواهرها، وصَبُّ هذه الظّواهر في قواعد كلّيّة تشير إليها وتدل عليها، لتُعرَف بها، وتُتَعلّم عن طريقها.
إنّ التصدي لهذا التحدّي اللُّغَويّ، يتطلّب وعياً عميقاً للقرآن وللّغة في وقتٍ واحد، ويستدعي أن يكون المتصدّي لحلّ هذه المشكلة، حافظاً جهد الحِفظ، ولُغَويّاً واسع الدّراية؛ ومن المؤكد أنّ أبا الأسْوَد الدّؤلي، هو الذي انبرى لعلاج الجانب العاجل من المشكلة اللُّغَويّة، فقام بضبط المُصحف، وتؤكد الحقائق التّاريخيّة أنّه كان أوّل من نقّط المُصْحَف، وليس هناك خلاف في دور أبي الأسْوَد الدّؤلي الرّائد في هذا المجال16، وهو عملٌ يكشف عن أصالةٍ في الفَهم وقدرةٍ على الابتكار، وبراءةٍ من التّبعية والتّقليد.
وإذا كان أبو الأسْوَد هو الذي قام بالعلاج السّريع للمشكلة اللُّغوِيّة، فهل هو أيضاً من قام بريادة الدّراسات النّحويّة فوضع بذلك الأسس الأولى للحلّ الجذريّ للمشكلة؟
ينبغي علينا أن نحدّد معنى الواضع الأوّل للنّحو ليكون تمهيداً طبيعيّاً لمعرفة أبعاد الدّور التاريخيّ.. وفي تصوّري أنّ “الواضع الأوّل” إنّما يعني الرّائد الذي ارتاد الطّريق إلى الدّراسات النّحويّة ولا يشترط أن يكون قد وضع قواعد نحويّة مُحَدّدة، وذلك يعني أنّ ريادة الدّراسات النّحوية، يمكن أن تكون بملاحظة الظّواهر اللُّغَويّة وحدها، دون محاولة تقعيد أيّ وضع قواعد لهذه الظّواهر.
فإذا نظرنا إلى الواضع الأوّل – بهذا المعنى – فسنجد أنّ شخصياتٍ ثلاثة هي التي تنسب إليها الأوّليّة، بصورة أساسيّة، إذا نحّينا شخصية رابعة، هي شخصيّة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ليس لوضوح الهدف السّياسي من نسبة هذه الأوّلية اليه، فحَسْب، بل لأّنّ طبيعة الظّروف السّياسية، وعمق التّحوّلات الاجتماعيّة التي جابهت أميرالمؤمنين، فَرَضَت عليه مواجهتها وشغلته عن الالتفات إلى غيرها، وهذه الشّخصيات التي تَنْسُبُ إليها الرّوايات التاريخية ريادة النّحو هي: أبو الأسْوَد الدّؤلي و نصر بن عاصم وعبد الرّحمن بن هرمز.
إنّ أوّل رواية نسبَت ابتكار النّحو إلى هؤلاء الثّلاثة العلماء، هي رواية السّيرافيّ17 المتوفّى سنة 368 ه / 979 م، أي بعد قرابة ثلاثة قرون، لم يذكر فيها أحد، شيئاً عن نصر بن عاصم أو عن عبد الرّحمن بن هرمز، وهذه الرواية لا تعدو أن تكون رأياً فرديّاً منسوباً إلى خالد بن مهران، وقد رجّح فيها اسم نصر بن عاصم، وكذلك هي الحال في رواية السّيرافيّ الثانية، التي استندت إلى رأيٍ فرديّ منسوبٍ الى أبي النضر وقد رجّح فيها اسم ابن هرمز رائداً في النّحو. وليست الآراء الفرديّة ممّا يُعّول عليها كثيراً في صحّة الحقائق التّاريخيّة، وبخاصّةٍ حين تتعارض مع روايات أكثر قوّةً، توافَرَ على دعمها العقل والنّقل معاً.
وإذاً، فهذه الرّوايات التي استند إليها السّيرافيّ، تحمل في نفسها بذور الشَكّ، وهي – بذلك – ترجّح كِفّة أبي الأسْوَد رائداً في علوم اللُّغة. فنصر بن عاصم، هو أحد القرّاء، وكذلك ابن هرمز، وإن كان ابن هرمز يضيف إلى القراءة علماً بأنسابِ قُريش، ومعنى هذا أنّ كُلّاً منهما ذو ثقافةٍ محدودة، لا نتصّور فيها ممارسة العمل الفكري إلّا متابعةً لا ابتكاراً، وأمّا أبو الأسْوَد، فهو إنسانٌ مُلِمّ، الى حدّ كبير، بثقافة عصره فهو يحفظ القرآن، ويروي الحديث، ويحيط باللُّغة، ويقول الشِّعر.
أمّا المعاصرون من الدّارسين، فيمكن أن نميّز بينهم ثلاثة اتجاهات:
الاتّجاه الأوّل، يكتفي بسرد الرّوايات التّاريخيّة المتعدّدة، دون تقديم تفسير لاختلافها، أو الخروج بترجيحٍ بينهما.
والاتّجاه الثّاني، يعترف بدَور أبي الأسْوَد، وهو الاتّجاه الشّائع بين الدّارسين.
والاتّجاه الثّالث، يرفض الاعتراف بدور أبي الأسْوَد، وأرى أصحاب هذا الاتّجاه، وإن اتّفقوا على نفي كلّ دورٍ لأبي الأسْوَد، فإنّهم يختلفون فيما وراء هذا الاتّفاق، إذ يحاول كلٌّ منهم أن يقدِّم من يعتبره المؤسّس الأصيل للدّراسات النّحْويّة، منطلقاً من وجهة نظر خاصة، ترفض – في كثير من الأحيان – الإلمام بالظّروف الموضوعيّة التي رافقت نشأة الدّراسات النّحْويّة، وفرضت اسم أبي الأسود الدّؤلي رائداً في هذا الميدان، وهكذا وجدنا أسماء جديدة أضافها الدّارسون المحدثون إلى اسم أبي الأسود وزميليه: نصر بن عاصم، وعبدالرّحمن بن هرمز، ونسبوا إليها التّأثير الحقيقيّ في نشأة البحث النّحْويّ وعلى رأس هذه الأسماء عبد الله بن اسحق18 والخليل بن أحمد 19و سيبويه20.

بناءً على هذه الدّراسة الموجزة المستندة الى عشرات المصادر والمراجع، يمكن القول باطمئنان علميّ، إنّ أبا الأسْوَد الدّؤلي، ليس أصلح شخصيّة يمكن أن ينسب اليها وضع النّحو فحسْب، بل هو بالفعل، الواضع الأوّل للنّحْو العربيّ، وأوّل من ارتاد الطّريق الى الدّراسات اللُّغَويّة بأسرها.

مصحف جامعة برمنغهام يعتبر أقدم مصحف في العالم، ويلاحظ أنه كتب بالعربية لكن من دون تنقيط للحروف
مصحف جامعة برمنغهام يعتبر أقدم مصحف في العالم، ويلاحظ أنه كتب بالعربية لكن من دون تنقيط للحروف

الهوامش

1. أحمد بن فارس: لغوي كوفّي المذهب. له كتاب “المجمل في اللغة” و”مقاييس اللغة” توفي سنة 1004 م
2. أبو الأسود الدولي: (605 – 688م) عالم في اللغة، وحافظ، وشاعر، اليه ينسب علم النحو
3. ابن الأنباري، هو أبو البركات (1119 – 1181) نحوي لغوي، له “نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء” “والأنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين”
4. طبقات النحويين واللغويين
5. الأخبار المروية في سبب وضع العربية (مخطوط)
6. نزهة الألبّاء
7.
8. أريد بالتعقيد: وضع القاعدة.
9. تلخيص أخبار النحويين واللغويين (مخطوط) ورقة 4 و 5
10. سرح العيون (158)
11. طبقات القرّاء (245 – 304)
12. تهذيب التهذيب 12 (10 – 11)، وانظر الاصابة (304 – 305)
13. النجوم الزاهرة 1/184
14. شذرات الذهب 1/76
15. خزانة الادب ولب لباب لسان العرب 1/136 – 138
16. وقع الخلاف، فقط في (العهد) الذي تّم فيه هذا الضبط، و(من) اسند الى أبي الأسْود القيام به.
17. الحسن السيرافي (897 – 979 م) نحوي وعالم بالأدب، له: أخبار النحويين البصريين، وشرح كتاب سيبويه”.
18. عبدالله بن أبي اسحق: هو أقدم النحاة الذين ذكرهم سيبويه، يعود اليه مدُّ القياس وشرح العلل في النحو، توفي سنة (735 م / 117 ه).
19. الخليل بن احمد: اشهر علماء اللغة وواضع علم العروض له كتاب (العين) وهو أول معجم عربي، توفي سنة (786 م / 170 ه)
20. سيبتويه: هو عمرو بن عثمان، إمام مذهب البصريين في النّحو، تعلّم على الخليل بن أحمد، توفي سنة (796 م / 180 ه).

الجوفيّة حازم ناصر النّجم

اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي – الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات

الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية

العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب

سلطان باشا وفريق من مقاتليه في صحراء الأردن

فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء

الجَوْفِيّةُ في جَبل العرب

فـــــنُّ التّفاخـــــرِ وشَحْــــــذِ الهِمَــــــــم

معظمُ شعراءِ السّلف في الجبل ومن عاصرَهم
يكرهون إقحامَ الغَزَلِ في الجَوْفيّة أو يرفضونَه تماماً

في سياق تتبّعنا لنشأة الشّعر العامّيّ في جبل العرب وحركة تطوّره تستوقفنا مجموعة عناصر مهمّة في هذا الفولكلور الواسع، وقد قدّمنا في السّابق دراسة حول كيفية تحوّل لغة هذا الفولكلور في معظمها من الصّيغة اللّبنانية أو القرويّة المحلّيّة إلى الصّيغة البدويّة التي هي لغة المحيط الذي يضمّ المتمايزين في لوحة جغرافيّة واحدة ..
ومن أهمّ هذه العناصر التي نتناولها في هذا المقال “الجوفيّة” التي أخذت مساحة غير قليلة في الفولكلور قياساً إلى النّماذج الأخرى. فما هي الجوفيّة؟ومن أين جاءت تسميتُها ؟ وكيف تطوّرت خلال أكثر من قرنٍ من الزّمن في جبل العرب؟

الجوفيّة هي نموذج غنائيّ جماعيّ تندرج تحته عدّة أوزان شعريّة وعدّة ألحان، وهذا النّموذج مخصّص للأشعار الحماسيّة التي تصلح للغناء، ولا أقول إنّ كلَّ القصائد الحماسيّة تصلح للغناء بصيغة الجوفيّة وألحانها، فنحن نلمس من خلال القصائد الجوفيّة بكافة أنماطها أنّها مُختصرة، لا تتعدّى العَشَرةَ أبيات في غالبيتها العظمى، بل وإنّ أشهرها لم يتعدَّ الخمسة أبيات، وهي أيضاً تحمل الزّخم اللُّغَويّ الرّشيق والمتتابع، والذي ينضح بالحماس والتحدّي والفروسيّة وما إلى ذلك من مقوّمات القصائد الحربيّة ونلمس أيضاً أنّ معظم هذه الجوفيّات ارتبطت بالحدث أو المعركة التي قيلت فيها القصيدة، أي هي “قول على فعل”.
وقد دأبت العرب منذ القِدَم على استخدام هذا الأسلوب “الإعلاميّ” وهذا الفنّ الحماسيّ في كل وقائعها، فنجدهم يطلقون الأهازيج الحماسيّة أو الأراجيز قبيل معاركهم، ومنها ما يكون إلقاءً للشّعر ومنها ما يكون مُغنّى بشكل جماعيّ، وهذا الغناء رافقه إيقاع الطّبول والدّفوف بغية إثارة حماس المقاتلين، وزرع الرّعب في قلوب الخصم، ونلمس في تاريخ الشّعر العربي أيضاً قصائدَ نُظمت إثرَ الانتصارات السّاحقة التي عُرفت بوقائع وأيّام العرب، وكان لهذه القصائد دورٌ تاريخي في نقل ملامح بعض المعارك بل وتوثيق بعضها بشكلٍ كامل وهذا ما نجده في معظم (جوفيّات) جبل العرب من دورٍ تحفيزيّ وتوثيقيّ وإعلاميّ.
وقبل الخوض في الأمثلة لابدّ من البحث في سبب تسمية هذا النّموذج بالجوفيّة وفي منبعه الأساس.
كلمة “جوفيّة” مصدرها “الجَوْف” وهي منطقة في شبه الجزيرة العربيّة تحدّها الأردنّ من جهة الشّمال الغربيّ، ومن الجَنوب منطقة حائل وتبوك، ومن الشّمال والشّرق منطقة الحدود الشّمالية للسعوديّة، وكان لأهالي منطقة الجوف علاقات تجارة ورعي ماشية مع سكان جبل العرب، ومن خلال هذه العلاقات والاحتكاك الثّقافي الذي رافقها انتقل هذا النّموذج من الفنّ الغنائيّ الشعبيّ من الجوف إلى الجبل كما انتقل إلى سهل حوران والبادية الأردنية وعُرفَ بالاسم ذاته (جوفيّة)، وهو في الجوف (أو الجزيرة العربية بشكلٍ عام) معروف باسم (العَرْضَة)، ومع انتقاله إلى جبل العرب تغيّرت بعض معطياته الفنيّة وبالأحرى تطوّر هذا النموذج مع الزّمن، وفي الواقع فقد لعبت الجوفيّة دور وسيلة النّقل التي وثّقت الكثير من الأحداث التّاريخيّة والأسماء التي غيّبها ليل الزّمن، وهذه الأسماء تنوّعت ما بين قادة وجنود أبطال، وحتى نساء، كان لهنَّ دور مميّز في إثارة حماس المقاتلين أو المشاركة في المعارك، وأكثر ما وردَ توثيق أسماء هؤلاء النّسوة في صيغة “الاعتزاء” أو العزوة كما تسميها العامة وهذه الصّيغة تُعْتَبرُ جزءاً من الموروث البدويّ الشعبيّ، والمقصود بالاعتزاء اللّقب الذي دأبت العامة على إلحاقه بعائلة ما أو قبيلة أو حتى أفراد فيقولون “أخو نَوْضَة” وهي عزوة مسلط الرّعُوْجي أحد فرسان قبيلة العمارات، أو “أخو سميّة” وهي عزوة سلطان باشا الأطرش، أو “أخوة شيخة” وهي عزوة آل عامر في الجبل،.وهذه الأسماء جاءت من منطق الفخر بالنّسوة اللائي لعبنَ دوراً بارزاً وحماسيّاً في مسيرة الفرسان، وكان للشّعر العامّي وعلى رأسه الجوفيّة الفضل في توثيق هذه الألقاب ودلالتها. ومثال ذلك : بيت من جوفيّة لاسماعيل العبد الله في مدح أحد شيوخ الرّوله :
أخــــــــــو عَــــــــــذرا يـــــــــا صَـــــــــليــــــف العيالــــــي يــــــــــا زَبـــــــون مْدَهّنــــــــــــــات الجَديـــــــــــــــــــــلـــــــة
صليف العيالي: أي هوقائدٌ يتبعه رجال أشدّاء، زَبون : بفتح أولها تعني المُدافع الذي يذود عن الحمى ، مدهّنات الجديلة : كناية عن النّساء اللواتي يُعطّرنَ جدائلهن.
وأيضاً بيت من جوفيّة لثاني عرابي في مدح سلطان باشا الأطرش وذِكر معركة المزرعة الشّهيرة :
أخـــــــــــــــــــو سْميّــــــــــــة قــــــــــــايد الكِــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِّ بـــــــــــــــــالمزرعــــــــــــــــــــــــــــــة عِلقـــــــــــــــت حْــــــــــروبَــــــــــهْ

الكلّ: تُلفظ “الكِلة” لتوافق القافية والوزن والموسيقى الداخليّة في الجوفيّة ذاتها

الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية
الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية

شكل وأسلوب الجوفيّة
الجوفيّة كنموذج غنائيّ جماعيّ لها شكلها وأسلوبها الخاصّان بها وهي تعتمد على الغناء المتناوب من قبل مجموعة من الرّجال حصراً ــ فهذا الغناء خاص بالرّجال دون النّساء ــ فترى مجموعة من الرّجال يشكّلون حلقة دائرية ليس لها عدد محدّد، ومن ثم يبدأ قِلّة منهم بغناء قسيم واحد من بيت الشّعر المطلوب كأن يبدأوا بالإنشاد مثلا:
هيه يــــــــــا اللي راكبين عْلَى اْلسَّلايــــــــــلْ
فيقوم باقي الرّجال في الحلقة بترديد هذا القسيم على اللحن ذاته ومن ثم تتكرّر هذه العمليّة بالتّناوب مرتين أو ثلاثة للقسيم الواحد ومن ثم تنتقل المجموعة التي بدأت الغناء إلى القسيم الثاني:
فوق ضُمّر يَمِّ طربــــــــــــــــــــا نَــــــــــــــــــــــــــــــاحِّرينـــــــــــــــــــــــهْ
وتستمر هذه العملية والانتقال من بيت إلى بيت حتى آخر القصيدة، ويرافق هذه الأبيات المُغنَّاة مجموعة حركات جماعيّة وفرديّة، فالحركة الجماعيّة متوافقة من قِبَل جميع المشاركين في الحلقة وهي عبارة عن انحناءة بسيطة إلى الأمام وانثناء في الرّكبتين يكون بسيطاً أيضاً ويحقق حركة توافقيّة بين أعلى الجسم وأسفله، لكن قد يصل الحماس بالبعض إلى ثني الجسم بكامله إلى حد ملامسة الأرض بالرّكبتين، وترافق هذه الحركة صَفْقِ الأكف في إيقاع واحد، وهذا الصَّفق يتسارع أو يتباطأ حسب تفاعل المجموعة وإيقاع الغناء.
وفي شكلٍ آخر لحلقة الجوفيّة – وهو المعتمد غالباً- تدور المجموعة ببطء باتّجاه اليمين أي بعكس عقارب السّاعة، أمّا الحركات الفرديّة فهي عبارة عن رقصة خاصّة يؤدّيها شخص بمفرده عندما يفترق عن الحلقة ليصبح داخلها، فيقوم عندها بأداء حركات حماسيّة يشجّع من خلالها جزءاً من رجال هذه الحلقة، ويتخلّل هذا الأداء الجماعي دخول شخصين يؤدّيان رقصة من نوع آخر تتوافق مع اللّحن المطروح، وهي تتطلّب رشاقة وإتقاناً فترى الشّخصين يتمايلان بشكل متوافق مع حركة الأيدي المصفِّقة التي تمتد وتنثني في تناغم مع حركة الجسد وغالباً ما يكون السّيْف حاضراً في هذه الرّقصة الفرديّة، مع الإشارة إلى أنّ الجوفيّة لها تنسيق آخر أيضاً وهو غير متداول حالياً في الجبل إلّا عند الفرِق الشّعبيّة، وهذا التّنسيق يعتمد على صَفّين متقابلين من الرّجال فيقوم صفٌّ منهما بالغناء والصّفّ الآخر يقوم بالرّد على المُغنّين القدوة

وسيلة للتعبئة الحربية
بالعودة إلى نشأة الجوفيّة في جبل العرب وقدوم هذا النموذج الحماسيّ من منطقة الجوف، فنحنُ أمام مسألة تاريخيّة مهمّة في واقع أمر هذه الجماعات التي جاءت إلى جبل العرب من لبنان وغيره وأثبتت وجودها ودافعت عن استقرارها بكل ما أوتيت من عزمٍ وفكر.
إنّ تقليد الجوفيّة يُعدّ أحد أركان هذا الدّفاع عن الوجود من المنظور الثقافيّ، فهذه الجماعات فُرِضت عليها حالة التأهّب الدّائم، ما يمكن أن نسمّيها “حالة التعبئة والاستنفار” فهي ضمن محيطها الصّحراويّ الجديد معرّضة للخطر في كلّ آن، وهذا الوضع أفرز بطبيعة الحال طقوساً للتّكتّل الجماعيّ وللوحدة المعنويّة في صفوفها ، وقد مرَّ معنا سابقاً كيف استطاعت هذه الجماعات أن تأخذ لغة المحيط المجتمعيّ الشّعريّة لتساجله فيها، وهذا الأمر لم يكن وقفاً على المواجهة الصداميّة بل كان أيضاً وسيلة للتقرّب من بعض عناصر هذا المحيط وبالسّلاح اللّغوي ذاته ، وهو الذي يشكل لُحمة المجتمع العربيّ الجامعة من حضر وبدو ..
والجوفيّة أخذت شكلها في الفولكلور الشّعبي الذي أصبحَ جُزءاً من حياة سكّان الجبل واستمرّت فيما بعد مُدوّية في أفراحهم ومناسباتهم الوطنيّة (أي في حالة الاستقرار والأمان) وأيضاً في المآتم الخاصّة بالشّهداء والأبطال فهم يعتبرون مأتم الشهيد أو البطل عرساً وطنيّاً .

آداب وطقوس الجوفيّة
من طقوس الجوفيّة وآدابها أنّه في مناسبات الفرح التي تُدعى إليها القرى تكثر الجوفيّات أثناء قدوم الوفود المشاركة، وما يثير الدّهشة في هذه الجموع التي تهزج التنظيمُ العفوي الذي أصبحَ عادةً متبّعة، فالجماعة التي تصل أولاً تدخل المناسبة هازِجةً بجوفيّة، ويستقبلها أصحاب المناسبة بالترحيب والرّد على الجوفيّة بجوفيّة مقابلة، ومن ثمّ ينتظم الجميع في حلقة واحدة، ويشتركون بجوفيّة واحدة…
وعندما يأتي وفد آخر ــ يهزج بجوفيّةٍ أخرى ــ تُنهي الجماعة الأولى جوفيّتها فوراً وتبدأ بالرّد على الجوفيّة القادمة إلى أن يندمج الوفدان وهكذا حتى تتكامل الوفود المدعوّة وذلك خلال فترة وجيزة، ومن ثم تبدأ المناسبة بكامل فولكلورها المتنوّع. وتُعتبر الجوفيّة المرافقة للوفد المشارك تحيّةً ومباركة لأصحاب المناسبة.
أيضاً نجد في أعراس الجبل ظاهرة التّحدّي (بالجوفيّة) بين أهالي القرى فكلّ قرية تتفاخر بما تحفظه من الجوفيّات النادرة أو الجديدة، وللجوفيّة في هذه الأجواء ما للضّيافة من قِيَم، فالوفد القادم من خارج القرية له الأولوية في المشاركة ويُرَد على تحيّتهِ (جوفيّته) بمثلها.
وقد أصبحت القصائد التي تُغنّى بأسلوب الجوفيّة معروفة بهذا الاسم حتى وإن لم تُغَنّى؛ أي عندما يُطلب من الشاعر إلقاء هذه الأبيات يُقال: أسمِعنا جوفيّة كذا .. وفي المناسبات المشار إليها وعندما تَهِمُّ مجموعة ما باختيار جوفيّة يَطلبُ أحدُ أفرادِها غناء جوفيّة بعينها فيقول مثلاً: (بحر) أي هو يريد جوفيّة (يا الله ويا اللي حاجزٍ موج البحر) أو يقول: (شوشة) أي يريد جوفيّة (يحلالي حمرا تحت ناثر الشوشة) ــ أي هو الفارس الشاب الفتيّ الذي يمتطي فرساً حمراء اللون، والناثر مقدّمة شعر رأسه ــ وهكذا، فتراهم يأخذون اسم الجوفيّة من قافية صدر بيتها الأول، وهذه الجوفيّات محفوظة عن ظهر قلب من قبل كلّ أفراد المجموعة بطبيعة الحال؛ فعندما يريدون الانتقال إلى الشّطر الثاني في خِضمّ الأهزوجة والأصوات الرّجولية والحماس يلمّحون بكلمة من الشّطر الجديد فتنتقل المجموعة بشكل عفوي إلى هذا الشّطر وهكذا حتى نهاية الجوفيّة .

اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي - الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات
اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي – الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات

أمثلة عن الجوفيّات في جبل العرب
لابدّ من التّنويه إلى أنّ بعض الجوفيّات نقلها واستخدمها أهلُ جبل العرب عن البدو كما هي بكلماتها وألحانها وربما زادوا عليها أبياتاً خاصّة بهم، ومن هذه المنظومة نورد بعض الأمثلة التي لم يزل أصحابها مجهولين إلى الآن :
كـــــــــــــلِّ مــــــــــــــــــا نــــــــــاضِ بــــــــــرقٍ ورعّــــــــــــــادِ شيوخنــــــــا فــــــــوق ذَروات يتلونــه
ربَّــــــــعَ الجيش مــــــــِن رِعيَ الاجــــــــوادِ كــــــــلِّ قَفْرهْ وِمْن العشب يــــــــــــــــرعونه
هَنَــــــــــــــــو مــــــــَن قــــــــلَّـط الصّــبــــــــح روّادِ بَيْــــــــــــــــــــــــرق العـــــــــزِّ يمشي على هونــــــــــه
ناض البرق: أي لمع، فوق ذروات: أي على إبلٍ قويّة، يتلونه: إشارة إلى تتبع البدو للمطر، ربّع: أي أقام في المرعى. الجيش: كناية عن مجموعة الإبل. من رعي الأجواد: يشير إلى رعاية أصحاب الإبل لإبلهم وحمايتها من الغزاة، هنو: كلمة تستخدم بمعنى غبط الآخر أي هنيئاً له، قلّط الصّبح روّاد: بمعنى مشى صباحاً ليرود المكان أي ليستطلعه قبيل وصول قومه .
وأيضاً هذه الجوفيّة :
حـــــــــيّ قُـــــــبٍّ لفـــــــــــــــــــــت بــــــــــــــــــــــــالعيــــالـــي فــــــــــــــــــَزْعِــــــــــــةَ المِــــــــــــــــــــــــطِــلْبــــــــــــــين الــــــــــــــــــــــرَّعـــايـــــــــا
هَنَـــوْ مَـــــــــــــــــــــن نــــــَـطّ روس الطـــــــــــــوالي واشْرَف علــــــــى البيوت القصـــايـــــــــا
يــــــــــوم حاطـــــــــــــــــــوا بــــــهـــــــــــــــــــــــــم بــــــالمفــالي خـــالط الطَرش عَــــــــــــــــــــــــــــــــــــجّ السبـــــايـــــــــا
يــــــا عشيـــري تــــــرى العمـــــــــــــر غــــــالي نــــــــــــرخصـــه عنــــــــــــد ســــــــــــــــــــــوق المنايــــــــــا
القُب: الخيل الضامرة، فزعة المطلبين الرعايا: إشارة إلى إغاثة طالبي المعونة والفزعة عند العامة: النّجدة؛ نطّ روس الطوالِ: أي ارتقى الأماكن المرتفعة، بالمفالي: المفالي: الأرض والمراعي المحيطة بالقوم، الطّرش: الماعز والغنم والمواشي (عامّيّة)، عجّ السبايا : الغبار الذي تحدثه الخيل في الغارة .

ومن الجوفيّات البدويّة التي أضاف إليها أهل الجبل أبياتاً خاصّة بهم جوفيّة مشهورة لعبيد الرشيد أمير حايل في نجد الملقّب بـ (أخو نُورة) ومن أبياتها الأساسية:
مِــــــــــــــــــــــــــــــــــــن قــفـــــارٍ لـحـايــــــــــــــــــل نشرنــــــــــــا واعتلينـــــا ظهـــــــــــــــــــــور النّجايــــــــــــب
نطْلبـــــــــــــــــــــــــــــــك لا تخيّــب ســـفـــــــــــــــــرنــــــــــــا نستجيـرك يــــــــــــا مْدير الهبايـــــــــــــب
مــــــــــــــــــــع مضيــق الشَّعيب انحدرنــــــــــــا تقـــــــل مــــــزنٍ حَدَته السحــايـــــــــــــب
حايل: مدينة جبليّه في نجد كانت عاصمة آل الرشيد قضى على نفوذهم آل سعود، نشرنا : بمعنى انتشرنا وانطلقنا هذه الأرض، النّجايب : الخيل والإبل الأصيلة، نطلبك: نرجوك وهو دعاء لله عز وجل، الشعيب: الوادي او المنفرج في الأرض، مزنٍ حَدته السحايب: المطر الغزير الذي جاء به السحاب .
أما عند أهل الجبل فهي تغنّى بروايةٍ أخرى مع إضافة أبيات عليها:
مـــــــــــــــن قفا روض حايـــــــــــــــــل نشرنـــــــــــــــا واعتلينا ظهــــــــــــــــــــــــور النّجــــايــــــــــــب
نَـــــــــــــــطْلبـــَك لا تغيّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب سَعَدنـــــــــــــا نستجيرك يـــــــــــــــا مْدِيْر الهبايــــــــــــب
تــــــــــــــــــايـــــــــــــــه الشور ويـــــــــــــاللي تحاربنــــــا مَــــــــــــن حاربنا يذوق العطايــــــــــــب
أما الجوفيّات التي نظمها أهل الجبل فنختار أمثلة من أشهرها:
ــ أبيات من جوفيّة لثاني عرابي قيلت قبيل معركة الكفر الشهيرة (تموز 1925) وأثناء توافد بيارق الثوار إلى منطقة (العَيّن) التي كانت مكان التعبئة لخوض معركة الكفر آنذاك:
يــــــــــــــــا راكبَ اللي لو مَشَـت ما تندَرَكْ تِحِثّ حـــالَه وْ لا تحتاجِ ســوقــــــــها
مَوْرَدِها عُرمان و عــــــا جال البُــــرَكْ خيّالها ســبــــــــــع المْـزَمْجِــــــــــــــــــر فــوقــــــــــــها
جُوك الزّغابهْ يــــــــــــــــــــا رينو دوّر هـَـلَك في مــرجة العيّن انتصب سوقــها
سـُرْبَة مَلَـــــــــــح يوم اللّـــزايــــــــــــم تذهِلَك سَـــلّ السيوف تْقول لَمـــــــــْع بروقـــــــــها
ما تندرَك: لا يمكن إدراكها لسرعتها الفائقة، تحثّ حالَه ولا تحتاج سوقها: إشارة إلى أصالتها وطواعيتها العفويّة، موردها: أي مكان وِردها الماء ويريد المكان المُراد إيصال الرّسالة إليه وهو قرية عرمان، الزّغابة: صفة لازمت فرسان بلدة صلخد تشبيهاً لهم بالأبطال الزغبيين في تغريبة بني هلال، رينو (Renaud) الكابتن الفرنسي وكيل الكابتن كاربيه Carbillet حاكم الجبل آنذاك، دوّرْ هَلك: أي ارحل إلى أهلك، مرجة العيّن: بتشديد الياء هي مكان اجتماع الثّوار، سُرْبة ملح: أي جماعة قرية ملح من الثوّار.

العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب =
العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب =

جوفيّة من ثلاثة أبيات لجاد الله سلام
هيه يا اللي راكبين على السّــــــــــــــــلايل فوق ضُمَّر يـــــــــــمّ طَرْبـــــــــا نــــــــــــــــــاحـــرينهْ
سَلّمــــــــــــــــوا عَ ربوعنا وقـــــــــــــــــــــــــولوا لهايـــل بـــــــــالسـّــويدا ثــــــــــــــــــارنـــا حِنّــــــــــــــــــا خذينـــاْ
وامس ابـــــــــو صيــّاح دنّـــــــــى للّرحــــــــــــايل ســـــــــال دمّهْ خالط اسواق المدينــةْ
هيه : تستخدم للنّداء، السّلايل : الخيل الأصيلة، ضُمّر : الخيل الضّامرة السّريعة، يمّ طربا: أي: نحو طربا وهي بلدة الشاعر، ناحرينا: قاصدين، هايل: ابن عم الشاعر، حِنّا: أي نحن .

ومن جوفيّة لفارس حسن في مدح سلطان باشا الأطرش:
يــــــــا بــــــــاشا واظهَــــــــــــــر سَعَدنــــــــــــــــــــــــا مِـــــــــــــــــن طَــــــــبِّ عِلمَك علينـــــــــــــــــا
بــــــــالسّما يقصــــــــــــــــــــــف رَعَدنــــــــــــــــــــــــا بْـــــــــــــــــــــحُمر البيارق مشينــــــــــــــــــــــــــا
الجيــــــــــــــــــــــــــــــش تــــــــــــــــــــــــاه بْعَــدَدنــــــــــــــــــــــــا وحـــــــــول القـريّــــــــــــــــا حَـدَينــــــــــــــــــــــــــا
مِن طبّ عِلمك علينا : يريد عندما وصل نداؤك أو طلبك لنا، حَوْل القريّا حدينا: أي قمنا بغناء الحُداء على سبيل الاستجابة والتلبية..
والجوفيّات في الجبل تكاد لا تُحصى، ومن المُلفت للنّظر أنّ بعض هذه الجوفيّات أصبحت تُنسَب إلى بعض القرى كصفة ملازمة لها فيقال: (جوفيّة أهل حبران أو جوفيّة أهل حوط أو جوفيّة أهل أم الرمان.) وذلك لأنهم يعتمدون في غالب الأحيان جوفيّة محددة أثناء مشاركتهم في مناسبة خارج البلدة، فيدخلون هذه المناسبة وهم يهزجون بها وقد تكون من أشعار القرية أو لا.

مسار تطوّر الجوفيّة
لم تنقل لنا الحافظة الشّعبية أيّة قصيدة جوفيّة قيلت في المراحل الأولى من توطّن الدّروز في الجبل سوى أنّ القصائد (الشّروقية) وقصائد (الحُداء) والقصائد (الهلاليّة) كان لها حضور مميّز في عمليّة شحذ الهمم والاستنفار، وهذه يمكن اعتبارها الإرهاصات الأولى للشّعر (الشعبي) في الجبل، ولابدّ أنّ بعض هذه النّماذج وعلى رأسها الحداء استخدِمَ بشكلٍ مغنّى لأنّنا نعلم أنّ الأهازيج كانت حاضرة في مرحلة الاستعداد للحرب وفي مرحلة ما بعد الانتصار، وما وصلَ إلينا بشكل موثّق ومتداول بعض(جوفيّات) نهاية النّصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبشكلٍ كثيف وأوسع (جوفيّات) مطلع القرن العشرين. ولو أعدنا النّظر في مراحل تطوّر الشعر في الجبل فسنجدها متمثّلة بثلاث محطات رئيسة:
• المرحلة الأولى من الاستقرار في الجبل والمتمثّلة بمقارعة القبائل البدويّة أو التّحالف معها.
• المرحلة الثّانية المتمثّلة بمحاربة الاحتلال العثماني والتي تخلّلتها الحرب ضد ابراهيم باشا المصري.
• المرحلة الثالثة في مقارعة الاستعمار الفرنسي.
ومن الملفِت أنّنا لم نجد في قصائد الجوفيّات التي وصلتنا من تلك المراحل أي قصيدة جوفيّة غزليّة، وهذا الأمر يمكن اعتباره نتيجة طبيعيّة لحالة التأهّب والقتال الدّائم والتي لم تكن لتسمح بإدخال المعاني الغزليّة الرقيقة في فن الجوفيّة الحماسي بطبيعيته، وبالنّظر إلى الحِقبة الزمنيّة التي استمرّت فيها هذه الحال الفنّية الخاصّة فهي تمتدّ -حسب تقديرنا- من مطلع القرن التّاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين أي نحو مِئة عام تقريباً، ولكنّنا نجد في خواتيم هذه المرحلة بدايةً لتسرّب القصائد الغزليّة إلى نموذج الجوفيّة وذلك من خلال قصيدة لمصطفى العبد لله قيلت على الأرجح في نهايات القرن التاسع عشر وجاء فيها :
والضّحـــــــــــــــى نطّيــــــــت انــــــــــــا المِسْتظلّي راسِ رجـــــمٍ بِهـــــــــــــا لَفــــــــــــــــــــــــــــــع الهبايـــــــــب
يـــــــــا علــــــــــــــــــي يـــــــــا بُعــــــــــــــــــد ديـــــــــران خِــــــــــــــلّي دون خِلّــــــــــــــــي بـــــــــَرَّكــــــــــــــــــــــنَّ النجايـــــــــــــب
يـــــــــا علـــــــــــــــــــــــــي يـــــــــا بكــــــــــــــــــرْتينٍ غَــــــــــــدن لــي حَدّرن عالســــوق راحــــن جلايب
يـــــــــا علــــــــــــــــــي هَـــــــــــــــــــــرج الحبيّب يِســــــــــــــــــــَلّي ســـَـلاّني هَرْجـُــكم يابو الذّوايــــب
حالــفٍ مــــــــــــــــا زِلّ عـــــــــن موقـــــــــَفٍ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــي لو حَسرت الرّاس واضحيتِ شايب
فالشاعر هنا يشكو من بعد ديار الأحبّة، وهو يقسم يميناً أنه لن يتخلّى عن موقفه من الحبيب حتى وإن شاب شعره …
وفيما بعد هذه المرحلة بدأت القصائد الغزليّة تأخذ دورها في الجوفيّة، ذلك أنّ استخدام الجوفيّة في الأعراس مع الفنون الأخرى من (هُوْليَّة ودلعونة وقصيدة فن وغيرها) أصبحَ بحاجة إلى التّجديد، ونعزو هذه الحاجة إلى سببٍ رئيس وهو حالة الاستقرار والأمان التي سادت بعد استقلال الجبل عام 1946 أو لنقُل بعد سنوات من الاستقلال ومرحلة السّلم والاستقرار الاجتماعي، فإنّ الشعراء وأصحاب الفنون باتوا بحاجة إلى نظمٍ ومعنًى جديد يعكس تبدل نمط الحياة والظّروف، وهم وجدوا في الغزل ضالّتهم فانتشرت مجموعة جوفيّات غزلية في الجبل، مع الإشارة إلى أن معظم شعراء السّلف ومن عاصرهم لا يحبّذون إقحام الغَزَل في الجوفيّة بل إنّ الكثير منهم يرفضونه رفضاً قاطعاً إنّما بات هذا الفنّ متداوَلاً في الأعراس وهو يتمتّع برقيٍ في معناه ومبناه على كلّ حال.

العزف على الربابة أصبح عنصرا من عناصر الجوفية في الجبل
العزف على الربابة أصبح عنصرا من عناصر الجوفية في الجبل

بعض الأوزان المعتمدة في الجوفيّة
الجوفيّة كما تبيّن لنا نموذج وليست وزناً محدّداً، وقد أخذ سكّان الجبل غالبية هذه الأوزان من البدو وهم في الواقع اعتبروها ألحاناً أو ما يسمّونه (لَهواً) أي نموذجاً غنائيّاً ولم يعتنوا باسم البحر الخاص بالقصيدة أو بجوازاته وما إلى ذلك حتى مرحلة متأخّرة من تاريخ هذه النّماذج، ونشير هنا إلى بعض الأوزان المستخدمة في الجوفيّة ومنها: الرّجز ومثاله أبيات من جوفيّة لصالح عمار الشاعر الشعبي للثّورة السورية الكبرى، يقول:
يـــــــــــــا الله ويــــــــــــــا اللي حاجـــــزٍ موج البحر يـــــا خالقي يـــــا اللي دعــــــــــــــانــــــــــا تِســـمـــــــــــــعِ
تجعــــل سَـــعَدنـــــــــا عاليــــــــــــــاً فوق البشــــر قيـــــــــدومنــــا يشبـه شَبيب التُّبّـــــــعي
لَ صار حنّا نجوم وسلــــطان القـمر باربعْ طًعش نيسان يومِ انْ يطلعِ
غربِ السّجن بالمزرعة شرقي بُصُـــر دم الفـــرنســـي بــــــــــــــــالمواطــــــي مَنْـــــــــــــــــقَعِ
كــــــــــــــم فارسٍ منّـــا على الخصـــم انحدر مثل الصــّـواعق مـــــــــــــــــــع بــــــــــــــــــــــــــــروقٍ تشلعِ
ومن هذه الأوزان أيضاً: الهجيني الطّويل ( الموافق لبحر الرَّمَل ) ومثاله أبيات من جوفيّة للمجاهد زيد الأطرش :
من هضابٍ شاد اهـــــــــــــــــَلْنا فوق مِنّهْ موطنــــــــــاً للعــــزّ موفـــور الكـــــــــــــــــرامَهْ
مـــــــــــــــــــن جبل حــــــــــــوران بِيَعــرُب تِكَنّى يا المْشَكِّك دونك وشـاح الوســـامهْ
أبعَثـــــــــــَه منِّـــــــــــــــي تحيّــــــــــــــاتٍ ومِنّـــــا بالأصالة والنّيــــابة عْنَ النّشــامهْ
ربعنــــــــــــــــــــــا درع الوطن من يـوم كُنّــــــا ان قادنــــا سلطان نشفي لهْ مرامه
أبعثــــــــــــــــه لجيـــــــــــــــــــــــــوش تــــــــــــــدفع عن وطنّـــا عاديــــاتٍ من دَهَــرْنا بــــــــــــــــــالحســـامهْ
وأبيات لعيسى عصفور وهي من وزن المسحوب ( الشروقي ) :
لي ديرةٍ تَذْرِي علـى كــــــــــــــلْ ملـهوف نــــــــــــوِّخ وريِّـــــــــضْ لا تهــــــــــــــــــاب الرّزايـــــــــــا
حِنّا بها يا مَسْنَدي عيال معــروف الغُلمـْـــــــة الـــــــــــــــــــــلـي يرعبــــــــــــــــــــــــــون المـنايـــــــــا
كم سُربةٍ للصَدّ مــــــــــا تعرف الخوف حـــــــــــــامـــوا عليـها مْرَقّـعــــــــــــين العَبايــــــــــا
والمجال يقصر هنا عن ذكر كلّ الأوزان التي دخلت في مجال الجوفيّة فقد استحدث بعض الشعراء أوزاناً جديدة من خلال اختزال البحور أو إردافها بتفعيلة أو أكثر كما رأينا في جوفيّة (ذلول وياللي نشدّه) ومن هذه النماذج (نمط من الهجيني) كما يسمّى في الجزيرة العربية اشتهرت قصيدة لشاعرٍ اسمه (الصغيّر) شاعر القصيم من أبياتها :
نحمـــــــد الله جميــــله شــــيخنـــا صار منّا
نـــــــــــــــــــافـلٍ كـلّ جيــله من ســــــــــلايل مهنّـــا
هيه يـــــــــا بو جديــــله فــــــــوق متنـــه تِثنّـى
الرـــــــــّدي لا تجي له ذاك مـــــا هوب منّا

الجوفيّة الآن في الجبل
لابدّ أن التطوّر لعبَ دوراً مهمّاً في تغيير شكل الجوفيّة وطقوسها، ذلك أنّ بعض الآلات الموسيقية باتت ترافق الجوفيّة مثل الرّبابة ( في السّهرات التراثيّة ضمن المضافة وقد لعبت الرّبابة دوراً مهمّاً في الحفاظ على جزء كبير من الجوفيّات التي كادت أن تندثر ) والدَّف أو الطبلة (وهذا ما تنفر منه الذائقة السليمة) والعود وبعض الآلات الموسيقية الكهربائيّة التي أخرجت الجوفيّة بشكل أغنية حديثة مسجّلة في استديو، وقد دخل الصّوت النّسائي في بعض هذه التسجيلات، وأصبحت الجوفيّة الأصيلة مقتصرة على بعض القرى في الجبل وبعض الفرق الشّعبية التي أنقذت ما تبقّى من هذا الإرث الفنّي التاريخي وعلى رأس هذه الفرق ( فرقة العاديات ) التي تعمل على إحياء كافة الفنون الشعبيّة في جبل العرب.

فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء
فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء

تمثيليّة “السّحجة” في فن الجوفية
نزال وهياج وأسر وصلح وتهليل وشماتة

تعتبر تمثيلية “السحجة” ركنا أساسيا من فن الجوفية في جبل العرب وكما يتضح من مجرياتها فإنها مستوحاة من الحرب والقتال الحماسي وأسر العدو ثم فكّ الأسرى بالمناشدة أو الحيلة.. وتبدأ التمثيلية قُبيل إنهاء القصيدة الجوفيّة عندما يأتي أوان ما يدعونه “ربط الحاشية” كتكملة لِلّوحة الفنّية الفولكلورية للعرس وهذه “التمثيلية الشعبية النمطية تبدأ عادة بتمثيل معركة بين فارسين ينفصلان عن حلقة الجوفية إلى داخلها ويشرعان في مبارزة وهمية بالسيف أو بالعصا، وعلى وقع هذا النزال تتصاعد حماسة الحلقة فيشارك به الجميع في ما يسمى “السحجة” وهي قيام أفراد الحلقة بالتجاوب مع معركة الفارسين بصفق الأيدي بقوة مع إصدار نبرة صوت (الدّحيو) بحيث يتشكّل من مجموع هذه الأصوات صوت واحد راعب وتصبح الرقصة كلها مثل رقصة حرب..
وبعد أن يتعب المتبارزان من النزال والتهييج يتوقّف السّحج وما يرافقه من صخب فيقوم واحد أو أكثر ممّن هم في دائرة السّاحجين بالدّخول بين عنصري الحاشية فيمسكان بهمها تمثيلاً لعملية الأسر، وعندها تنتقل الجوفيّة إلى نموذج آخر بقصيدةٍ ولحْنٍ مخالفين غرضهما هذه المرة مناشدة الآسر فك أسر رهينتيه..
هكذا وبعد كل بيت من الإنشاد يردّد المتحلّقون لازمة لاتتغيّر هي:
هلا …هلا بك يا هلا وانت حليــــــــــــــــفي يـــــــــــــــــــــاولـــد1
ويتضمن الإنشاد الجماعي في هذه المرحلة عروضاً كلاميّة لدفع “الفِديَة” ونوعها من جمال وغنم وخيول ومال من ليرات فضّيًة وذهبيّة عثمانيّة وإنكليزيّة وغيرها لآسر المتبارزين (اللّذين كانا يهيّجان الجوفية بالرّقص العنيف داخل حلقة الساحجين) كي يطلق سراحهما وهو بدوره يرفض كلّ المغريات المادّية إلى أن يذعن بعد عروض طريفة في نهاية المطاف ويقبل بإطلاق سراح الأسير (الحاشي).
ويفترض أن يكون من ربط (أي أسر) الحاشي فارساً تناسى المنشدون أو هم نسَوْا ذكره والثّناء على فروسيّته أو كرمه فقام بربط الحاشي وهكذا فالمنشدون يسعون لاسترضائه بالسّؤال الملحّ نشيداً كقولهم:
وفي تلك اللحظات تدخل التَّمثيليّة مرحلة جديدة إذ ينقلب المنشدون الذين بالغوا بتقديم العروض المُغرية من الأعطيات للآسر الذي أطلق سراح الحاشي فيعلنون أنهم توصّلوا إلى غايتهم بالمخادعة والحيلة ولن يدفعوا لآسرهم شيئاً حتى ولا ليرة ولا (مِصّريّة)، ممّا كانوا قد وعدوا به هازئين. ويُبلغونه ذلك بالإنشاد المغنّى كأن يقولوا إثر تحرّر الحاشية وعودتهم متباهين واثقي الخُطى إلى رفاقهم في الحلقة مثلاً:
يا مِيْةْ حَيّا الله بالحاشي والـْ جـانـــــــــا يتــخطّم ماشـي
خَذِينا الحاشي بَلا شـي والله ما تشوف المصريّه!!

1. – يقصدون بـ “الولد” الشاب القوي البأس في لهجتهم المحلّيّة

صورة من التراث

صورة من التراث

1بائع-الكعك-يتحادث-مع-بعض-الصبية-في-أحد-شوارع-بيروت-في-العام-1900(1)
1بائع-الكعك-يتحادث-مع-بعض-الصبية-في-أحد-شوارع-بيروت-في-العام-1900

بائع الكعك يتحادث مع بعض الصبية في أحد شوارع بيروت في العام 1900

إدوار سعيد

البروفسور-إدوارد-سعيد
البروفسور-إدوارد-سعيد

إدوارد سعيد
في كتابه «الاستشراق»

ثَبْتٌ علميٌّ بقاموس الاستشراق الاستعماريّ
لكنّ تعميم الإدانة أثار جدلاً بين الأكاديميين

نابليون-أمام-أبو-الهول----لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها
نابليون-أمام-أبو-الهول—-لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها

“هل هو خيرٌ لهذه الأمم العظيمة-وأنا أعترفُ بعظمتها- أنْ نقومَ نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المُطلق عليها؟ في ظَنّي أنَّ ذلك خير”
(لورد بلفور)

نَشّرَ المفكّر الفلسطينيّ الرّاحل كتابه عن “الاستشراق” لأوّل مرّة باللّغة الإنكليزيّة في العام 1978 تحت عنوان (Orientalism) وأحدث الكتاب، الذي تضمّن إدانة غير مسبوقة لإرث الاستشراق وعلاقته بخطط الهيمنة الغربيّة على الشّرق، أصداءً واسعة في الأوساط الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتّحدة كما أحدث جدالاً نشطا وحماسيا، إذ انبرى عدد من المفكّرين من بينهم ألبرت حوراني وماكسيم رودنسون وجاك برك وبرنارد لويس (الذي اعتبره سعيد نموذجاً للاستشراق المعاصر المنحاز للغرب وإسرائيل) وغيرهم لنقد ما اعتبروه تعميماً غير عادل في الحكم على حركة الاستشراق وعمل المستشرقين. وقد دفع النّقاش البروفسور إدوار سعيد للردّ على منتقديه في كتب أو مقالات لاحقة. لكن بِغَضِّ النّظر عن الجدل الذي أثاره الكتاب فإنّ أصدقاء سعيد وكذلك ناقديه يعترفون بأنّ كتابه عن الاستشراق أصبح أكثر المؤلّفات الفكريّة المعاصرة شهرةً وتأثيراً في عالم الدّراسات المشرقيّة في العالم، وأنّه ساعد في تسليط الضّوء على مسألة التحيّز الحضاريّ والثّقافيّ في كتابة التّاريخ من قبل المستشرقين الغربيّين، وخلق بالتّالي مناخاً جديداً أكثر توازناً في أروقة الجامعات ومعاهد الأبحاث الغربيّة الأوروبيّة والأميركيّة ونظرتها إلى “الآخر” وخصوصاً الشّعوب العربيّة-الإسلامية والأسيويّة والأفريقيّة.
أما إدوار سعيد نفسه فقد أصبح شخصيّة عالميّة يدعى باستمرار من قبل الجامعات والمؤسّسات الثّقافيّة والفكريّة لإلقاء المحاضرات حول مختلف المواضيع الفكريّة والسّياسيّة، وقد حاضر سعيد في أكثر من 200 جامعة في الشّرق الأوسط وكندا والولايات المتّحدة وأوروبا ونشر أكثر من 20 كتاباً أربعة منها حول الموسيقيّ (وقد كان عازفَ بيانو بارعاً) كما حاضر سعيد في أشهر الجامعات الأميركيّة (مثل هارفررد وجون هوبكنز ويايل وغيرها) إضافة إلى منصبه كرئيس لمركز دراسات الشّرق الأوسط في جامعة كولومبيا والتي رقَّتهُ في العام 1992 إلى رتبة بروفِسور، وهي من أعلى الرّتب الجامعيّة ونادراً ما يحصل عليها إلّا القلّة من المفكّرين المبدعين.
اعتَبر إدوارد سعيد أنّ جذور الاستشراق كما وصفه (أي كسلاح فكريٍّ لتبرير الهيمنة وسياسات إخضاع شّعوب العربية والإسلامية خصوصا مع بداية القرن التّاسِع عشر) تكمن في عدد من العوامل أهمّها:
التّاريخ الطّويل من تقليد كُره العرب والمسلمين في الغرب الذي بدأ مع الحملات الصّليبيّة وحروب الأندلس ثم الحروب مع الدّولة العثمانيّة والتي اعتُبرت في وقت من الأوقات تهديداً خطيراً لأوروبّا. لقد تمّ لأغراض سياسيّة تصوير العرب والمسلمين بأكثر الصّور سلبيّة وإثارة للخوف ولمشاعر الكراهية باعتبارهم شعوباً همجيّة تستهدف الحضارة المتقدّمة والأرفع للمجتمعات الغربيّة المسيحيّة.
قيام دولة إسرائيل وما تبعه من صراع وجوديّ بين الدّولة الغريبة وذات الأصول الثقافيّة الأوروبيّة وبين محيطها العربيّ والإسلاميّ. وقد أدّى تأسيس وجود صهيونيّ غاصب في “أرض الميعاد” إلى استنفار العالم اليهوديّ عموماً وخصوصاً المفكّرين اليهود أو المتعاطفين مع إسرائيل لإنتاج كمٍّ كبير من الأدبيّات التي استهدفت جميعها تطبيق النّهج الاستشراقيّ عبر تقديم إسرائيل كممثّلة للديمقراطيّة وللحضارة الغربيّة الرّائدة في جميع الميادين والمهدّدة من البيئة المتخلّفة والاستبداديّة للمجتمع المشرقيّ العربيّ والإسلاميّ.
الغياب شبه التّام لأيّ تجربة مضادّة أو موقع ثقافي أو مؤسّسة كبرى لها نفوذها في الغرب يمكنها أن توفّر عنصر توازن ولو جزئي مع الجوّ الشّامل من التّحيّز والتّصوير غير الموضوعي والمبرمج سياسيّاً للشّعوب المشرقيّة.
انتقال الكثير من المقولات التي تتردّد في كتابات المستشرقين إلى صعيد الثّقافة الشّعبيّة ولاحقاً وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء، الأمر الذي سمح بتوسيع نفوذ نظرة الاستشراق المنحازة إلى المصالح الغربيّة لتصبح أيضاً ثقافة شعبيّة من صور نمطيّة مشوّهة عن العرب والمسلمين يمكن البناء عليها في العمل السياسيّ أو الغزوات العسكريّة وتحريك الرّأي العام. (مثلاً اجتياح العراق سنة 2003 والتّدخل الغربيّ في ليبيا ثم التّدخّل الغربيّ الحاليّ في سوريا والعراق.)..
ومن دون الدّخول في المناظرة التي قامت حول كتاب “الاستشراق” للبروفِسور إدوارد سعيد سنقوم هنا باختيار نماذج من التّفكير الاستشراقيّ الذي تمحورت شكوى سعيد عليه في الكتاب، وهي نماذج كثيرة وتكاد لا تحصى، علماً أنّ المقولات المنحازة والعدوانيّة أحياناً ضدّ المشرق وضدّ العرب والإسلام لم يكن مصدرها أشخاص هامشيّون أو كُتّاب مغمورون بل مفكرون أو سياسيّون لعبوا أدوراً كبيرة في بلورة السّياسات الاستعماريّة لبلادهم تجاه البلدان المشرقيّة والأسيويّة.
يؤرّخ سعيد لبدء ظهور الاستشراق الرّسميّ بصدور قرار مجمع فينّا الكَنَسيّ عام 1312م بتأسيس عدد من الكراسي الأستاذيّة في العربيّة واليونانيّة والعبريّة والسّريانيّة في جامعات باريس وأوكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامانكا كانت الفترة يومها فترة ازدهار وقوة للدّولة العثمانيّة التي ستقوم بعد 141 عاما (1453) من ذلك التاريخ بإسقاط القسطنطينيّة وتهديد روما نفسها على يد السّلطان محمّد الفاتح. لقد أدّت حيويّة المجتمع العثمانيّ والخلافة الإسلاميّة في عصر بني عثمان إلى فترة من المهادنة كانت الكلمة العليا فيها للمسلمين، وقد حقّقت الخلافة العثمانيّة في أوجها وقبل بدء انحدارها في القرن الثّامن عشَرَ إنجازات مُبهرة في جميع الميادين وقدّمت نموذجاً عن دولة منفتحة ونظام تسامح ديني وعرقي جعل جميع الشّعوب التي تعيش في ظلّها تنعم بمراحل سلام طويلة، كما جعل اليهود الذين فرّوا من أسبانيا الكاثوليكيّة أو تم طردهم منها بالجملة في العام 1492 يتوجّهون إلى الدّولة العثمانيّة طلباً للأمان ولبناء حياة جديدة مزدهرة في المجتمعات الإسلاميّة إلى جانب الأقليّات الكثيرة التي استظلّت النّظام المنفتح والمتسامح للخلافة العثمانيّة لمئات السّنين.
يلاحظ إدوارد سعيد أنّ حركة الاستشراق شهدت نهضة كبيرة في بدايات القرن التاسع عشر، وذلك عندما بلغ عدد الحجّاج الأوروبيين إلى القدس مثلاً أعداداً هائلة لا تكاد تقارن أبداً بعدد الشّرقيّين الذين كانوا يتوافدون على أوروبا لأسباب مختلفة. وأصبح الشّرق الشّغل الشّاغل للكتّاب والمؤلّفين في أوروبا حيث بلغ عدد الكتب المؤلّفة منذ عام 1800 وحتى عام 1950 نحو 60,000 كتاب.! أي بمعدّل 400 كتاب في السّنة الواحدة أيّ أكثر من كتاب واحد في اليوم، وطبعاً لا مقارنة مطلقاً بعدد الكتب التي كُتبت في الشّرق عن الغرب.
كانت الدّولة العثمانيّة بدأت تكشف عن مظاهر شيخوخة وضَعف في تلك الفترة بالتّحديد، وقد شعرت الدّول الأوروبيّة بذلك من خلال تواجدها الكثيف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ في أنحاء الدّولة، وبدأت بالتّالي ما يمكن اعتباره أكبر عمليّة استكشاف للدّولة الهَرِمة واستطلاع للسّبل التي يمكن اعتمادها لاحقاً وعندما تحين الفرصة للاستيلاء على ممتلكاتها الواسعة، وستبدأ الحركات اليهوديّة لاحقاً ومن جهتها بعمليّات استطلاع تتعلّق بمشروعها الصّهيوني لإقامة وطن لليهود في فلسطين العثمانيّة عندما تحين الفرصة لذلك.
يعتبر إدوار سعيد حملة نابليون على مصر في العام 1798-1801 أحد أهمّ الأحداث التي أثّرت على بلدان المنطقة وعلى حركة الاستشراق، وهو يعتبر أنّ لغة الاستشراق ذاتها شهدت تغيّراً جذريّاً بسبب الحملة وارتقت في واقعيّتها الوصفيّة وأهدافها لتصبح وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات (على النحو الذي تم في معاهدة سايكس-بيكو) وإعادة بنائها وتجميعها بالاستناد إلى جهود عدد من المستشرقين، وصار كِتاب “وصف مصر” نقطة تحوّل وحجر زاوية في الرّؤية الأوروبيّة للشّرق وطريقة تعاملهم مع المنطقة.

القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917
القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917

يتوقّف إدوار سعيد بصورة خاصّة أمام بعض المقالات والأقوال لـ آرثر جيمس بلفور، السّياسيّ البريطانيّ البارز (رئيس وزراء بريطانيا بين 1902 و1905) وصاحب وعد بلفور الشّهير والذي كان من أبرز سياسيّيّ الإمبراطوريّة البريطانيّة وأكثرهم تمرّساً في الحرب والدبلوماسيّة، ممّا جعل منه مرجعيّة كبيرة في صياغة علاقات الغرب مع الشّرق. يقول بلفور “ قبل كلّ شيء أنظُر إلى حقيقة المسألة وهي: إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التّاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذّات، لأنها تمتلك مزايا خاصّة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشّرقيّين بأكمله فيما يسمّى بشكل عام “المشرق”، دون أن تجد أثراً لحكم الذّات على الإطلاق. كلّ القرون العظيمة التي مرّت على الشّرقيّين -ولقد كانت عظيمة جداً- انقضت في ظلّ الطّغيان والحكم المطلق. وكلّ إسهاماتهم العظيمة في الحضارة الإنسانيّة -ولقد كانت عظيمة- أُنجِزت في ظلّ هذا النّمط من الحكم، فقد خلَّفَ كلُّ فاتحٌ فاتحاً آخر. غير أنك في دورات القدر والمصير كلّها لا ترى أمّة واحدة من هذه الأمم تؤسّس بدافع من حركتها الذّاتية ما نسمّيه نحن من وجهة نظر غربيّة “حكم الذّات” Sefl-rule ثم يطرح بلفور السُّؤال: هل هو خير لهذه الأمم العظيمة -وأنا أعترف بعظمتها- أن نقوم نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المطلق (عليها)؟ في ظَنّي أنّ ذلك خير. وفي ظَنّي أيضاً أنّ التّجربة تُظهر أنّهم في ظلّ هذا النّمط عرفوا حكماً أفضل بمراحل مما عرفوه خلال تاريخ عالمهم الطّويل كلّه. ونحن في مِصْرَ لسنا من أجل المصريّين وحسب، نحن هناك أيضاً من أجل أوروبا كلّها.
ويؤكّد بلفور في قول آخر ما قام به اللّورد كرومر من خدمات لمِصْرَ في قولة “وقد ارتقت خدمات لورد كرومر بمِصرَ، خلال ربع القرن الماضي، من أدنى درجات المهانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى حيث تقف الآن بين الأمم الشّرقيّة فريدة في اعتقادي دون منازع في ثرائها ماليّاً وأخلاقيّا”.
يقول إدوارد سعيد إنّ الآراء المعاصرة للمستشرقين حول الشّرقيّين تطغى على الصّحافة والعقل الشّعبي، فالعرب مثلا يُصوَّرون على أنّهم راكبو جمال إرهابيّون معقوفو الأنوف شهوانيّون شَرِهون تمثّل ثروتهم غير المُستحقَّة إهانة للحضارة الحقيقيّة، وثمّة دائماً افتراض بأنّ المستهلك الغربيّ رغم كونه ينتمي إلى أقليّة عدديّة، هو ذو حق شرعيّ إمّا في امتلاك معظم الموارد الطّبيعيّة في العالم أو في استهلاكها أو في كلاهما معاً لماذا؟ لأنّه بخلاف الشّرقيّ “إنسانٌ حقيقيّ”
وهو يضيف القول: “إنّ غربيّاً من الطّبقة الوسطى يؤمن بأنّه لَحَقٌّ طبيعيٌّ له لا أنْ يدير شؤون العالم غير الأبيض فحسب، بل أنْ يمتلكه كذلك لمجرّد أنّ العالَمَ الأخير تحديداً ليس بالضّبط إنسانيّاً تماما بقدر ما “نحن” كذلك” .
في منظومة شاتوبريان (صفحة 186) يقول:” لم تـَـدُر الحرب الصّليبيّة حول إنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض: مذهبٌ تعبُّدي هو عدوٌّ للحضارة، محبِّذ باطراد للجهل (يقصد الإسلام طبعاً) وللطّغيان وللعبوديّة، أو مذهب تعبُّدي تمكّن من أن يوقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزّمن الغابر الحكيم وألغى العبوديّة الدّنيئة “
يكمل شاتوبريان طارحاً فكرة ملفّقة طالما ترددت في الكتابة الأوروبيّة وهي كيف علَّمَت أوروبّا الشّرق ولقّنته معنى الحرّيّة حين يقول: “عن الحرّيّة لا يعرفون شيئاً من آدابها، ليس لديهم شيء، القوّة هي ربُّهم؛ وحين تمرّ بهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين يطبقون عدالة السّماء فإنّهم يبدون مثل جنود دون قائد، مثل مواطنين دون مُشَرِّعين، مثل عائلة دون أب.”
هنا يربط سعيد بين الفترة الزّمنيّة (1810) التي قيلت فيها تلك الكلمات وعاشها شاتوبريان وبين (1910) وما قاله كرومر محتجّاً بأنّ الشرقيين هم الذين يطلبون الفتح مظهراً بذلك عجزه عن أن يرى الغزو الغربيّ للشّرق ليس كغزو بل كـ “عمل خير” يعطي للشّعب المحتلّ “حرِّيته” التي طالما تمنّاها. أي أنّها ذات العقليّة بنفس الأدوات وطريقة التّفكير وحتى طريقة استعمال الألفاظ حتى بعد مرور مائة عام. ولو تمعَّنّا قليلاً فإنّنا في 2006 نجد أي بعد مرور مئة سنة أخرى تقريباً (رامسفيلد وديك تشينى وبوش وآخرين في الحزب الجمهوريّ الحاكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وطونى بلير وبراون ) يتكلّمون بذات الطّريقة والأسلوب بل وبذات الكلمات تقريباً عن اجتياح العراق واحتلاله وضرورة “تحريره” وتحرير أبنائه وزرع مفهوم الديمقراطيّة والحريّة في أرجائه بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين.
يؤكّد سعيد على أنّ القوى العظمى درَسَت بعناية جميع الأقليّات من يهود وروم أرثوذوكس وأرثوذوكس روس ودروز وشركس وأرمن وأكراد فضلا عن المذاهب والملل المسيحيّة الصّغيرة المختلفة، وتمّ في ضوء ما جُمع من معلومات وكُتب من تقارير التّخطيط لمصير كلّ مجموعة وكيف يمكن استخدامها، وكانت تلك القوى ترتجل وتصوغ وتبني سياستها في الشّرق على تلك الأسس، كما حدث في العام 1860 أثناء الصّدام بين الموارنة والدّروز في لبنان حيث ساندت فرنسا الموارنة في سياق الخطط التي تسارعت يومها لتمزيق أوصال الدّولة العثمانية.

أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقين
أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقينال

حوارات طاغور وأينشتاين

حِوارات طاغور وأينشتاين

بين حسابات العالِم وتجليّات العِرفان الصّوفيّ

أينشتاين: الفيزياءُ الكوانطيةُ لم تَقُلْ «مع السّلامة» لقانون السّببيّة
طاغور: ربّما، لكنْ هناك قوّة أخرى فاعلة تفسّر هذا الوجود المنظّم

أينشتاين                                                                                    طاغور

العالم موجود باستقلالٍ عن الإنسان وعن فكرِه                                          لو لم يكن الإنسان مُشترِكا
وقوانين الوجود لا يمكنُ للفكر أن يبدِّل مفاعيلها                                         في حقيقة الوجود فكيف يمكنُه أنْ يدركَه أو أن يفهمَ أبعادَه؟

في ثلاثينيّات القرن الماضي حصلت لقاءات عدّة بين عالم الفيزياء النوويّة والرّياضي الشهير أينشتاين وبين شاعر وفيلسوف هندي (كان شهيراً بدوره) هو رابندرانات طاغور. واعتبرت تلك الحوارات نصوصاً نموذجيّة لإظهار الاختلاف الكبير بين النظريّة الماديّة للكون وبين النّظريّة الدينيّة أو الروحيّة للوجود. ولا زالت نصوص تلك الحوارات تُعتّبر مادّة للبحث والتّعليق من قبل مواقع علميّة أو فلسفيّة وهذا رغم أنّها نصوص موجَزة وجرت على شكل محادثات تمّ تسجيلها يومذاك.
لم يُفلح طاغور بالضّرورة في إقناع أينشتاين أو تقديم شرح مفحم لوجهة النّظر الصّوفيّة الهنديّة لأنّه لم يكن من الحكماء أصحاب الاختبار المباشر بقدر ما كان شاعرا مبدِعاً ومتأثرا جدّاً باختبارات الحكمة والتّقليد الهندوسي الفيدانتي لكنّه تمكّن في الحوار من عرض وجهة النّظر المخالفة للنّظريات الماديّة الطّبيعيّة التي يمثّلها أينشتاين. وقد تلخّصت وجهة نظر طاغور في أنّ العالم ليس موجوداً خارج وعي الإنسان أي أنّه لا يوجد عالم مادّي من دون إنسان مدرك لهذا الوجود، من هنا قوله إنّه لو لم يكن الإنسان مشتركا في حقيقة الوجود فكيف يمكنه أن يدركه أو يفهم أبعاده؟
على العكس من ذلك فإنّ أينشتاين كان مقتنعاً بأنّ العالم موجود بقوانينه ولاسيّما قوانين السّببيّة مستقلّا عن الإنسان أو عن فكره. لذلك لم يقبل أينشتاين بفكرة أنّ هناك وعياً كونيّاً يتحكّم بالطّبيعة. في الطّرف المقابل برز عالم الفيزياء بوهر الذي طوّر نظريّة الفيزياء الكوانتيّة والذي توصّل إلى القول مع فلاسفة الفيدانتا الهنود بأنّ العالم الماديّ غير موجود إلا بمعيار حواسّنا النّسبية (وهي أدوات قاصرة عن إدراك حقيقة الوجود)..وقد فوجئ أينشتاين بنظريّة نيلز بوهر في الفيزياء الكمّيّة أو الكوانتيّة التي أثبتت أنّ العالم لا يسير وفق قوانين سببيّة صارمة وأنّ الوجود فيه قدر كبير من الحرّيّة لكنّه رغم الأدلّة القويّة على صحّة الفيزياء الكوانتيّة فإنّه أصرّ على عدم القبول بها مُطلِقا تصريحه الشّهير: “الله لا يلعب النّرد”.! وعلى هذا التّصريح ردّ بوهر على أينشتاين بالقول: “كُفّ عن إخبار الرّب ماذا عليه أن يفعل بالنّرد” مُلمحا إلى أنّ الله تعالى غير مقيّد بالسّببيّة وهو فعّال لما يريد وهو عكس النّظريّة الماديّة في تفسير الوجود التي تبنّاها أينشتناين.
أمّا طاغور فقد تضمّن موقفه تسوية تقول بوجود العالم. لكنّ وجوده يخضع إلى إرادة قوية واعية أو وعي كوني هو الذي يعطي لهذا الوجود تناغمه وتوازنه ومعناه.
في ما يلي تعرض “الضّحى” لنصوص من حوارين جَرَيا بين طاغور وبين أينشتاين، وذلك على سبيل توضيح مرتكزات التّفكير الطّبيعي أو الماديّ وفي المقابل التّفكير الرّوحيّ الذي يَعتبر أنّ من المُستحيل وجود الكون الماديّ إلّا بالتّكامل مع الوعي الإنسانيّ الذي هو انعكاس للوعي الكونيّ الشّامل الذي يحرّك الكون ويعطي لحركته صفات التّناغم والتّوازن والكمال المناقضة تماماً لفكرة الصّدفة أو العشوائيّة.
أينشتاين: هل تؤمن بوجود إلهيّ معزول عن العالَم؟
طاغور: إنّه ليس معزولاً، فالشّخصية اللّامتناهية للإنسان تستوعب الكون وما من شيء لا يمكن للشّخصية الإنسانيّة أن تشمله، وهو ما يُبرهِن أنّ حقيقة الكون هي حقيقة الإنسان.

لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930
لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930

أينشتاين: ثمة مفهومان مختلفان حول طبيعة الكون: العالَمُ كوحدة تعتمد على الإنسان، والعالَمُ كواقعٍ مستقلٍّ عن الإنسان.
طاغور: عندما يكون الكونُ متناغماً مع الإنسان، فإنّ ذلك الوجود الأزليّ، نُدرِكه كحقيقة، ونشعرُ به كجمال.
أينشتاين: إنّه مفهومٌ إنسانيٌّ محضٌ للكون.
طاغور: إنّ هذا العالَمَ هو عالَم للإنسان، ووجهة النّظر العلميّة تجاهه هي أيضاً وجهة نظر الإنسان العلميّ. العالم المنفصل عنّا لا وجود له، إنه عالمٌ نسبيٌّ، وهو يعتمد في حقيقته على وعينا.
أينشتاين: إنّه بمثابة الإدراك للكينونة الإنسانيّة.
طاغور: نعم، كينونة أزليّة واحدة، وهذه الكينونة علينا أن نحقّقها من خلال أحاسيسنا ومن خلال اختبارنا اليومي. أي أننا نحقّق في أنفسنا الإنسان الأسمى الذي لا تحدّه قيود بواسطة شخصيّتنا الخاضعة لقيود كثيرة. العلم يجعل همَّه كل ما لا علاقة مباشرة له مع حالات فرديّة، إنّه علم الحقائق الشّاملة أمّا الدّين فيُدرك تلك الحقائق ويصل في ما بينها وبين احتياجاتنا الأعمق؛ وبهذا يكتسب وعينا الفرديّ للحقيقة معنىً كلّيّاً. ونحن نُدرِكُ أنّ تلك الحقيقة حقٌّ من خلال تناغمنا معها.
أينشتاين: إذاً، الحقيقة، أو الجمال، ليسا مستقلّين عن الإنسان؟
طاغور: لا.
أينشتاين: وإذا لم يعد ثمّة بشر، فلن يكون تمثال “أبولو” جميلاً.
طاغور: لا.
أينشتاين: أُوافقكَ في ما يختصّ بهذا المفهوم للجمال، لكن ليس في ما يتعلّق بالحقيقة.
طاغور: لِمَ لا؟ فالحقيقة إنّما تتحقّق من خلال الإنسان.
أينشتاين:لا يمكنني أن أبرهن على هذا الرّأي، لكنّه بمثابة عقيدتي.
طاغور: إنّ الجمالَ هو مثال التّناغم الأكمل الكامن في الكائن الكونيّ، والحقيقة هي الاستيعاب الكامل للعقل الأرفع. ونحن الأفراد نقترب من تلك الحقيقة عبر أخطائنا وهفواتنا، وعبر تجاربنا المتراكمة، ووعينا الممدود بالنور – وإلّا كيف يتسنّى لنا أن نُدرِك الحقيقة؟
أينشتاين: لا يمكنني تقديم إثبات عليه، لكنّني أؤمن بقول فيثاغوراس بأن الحقيقة مستقلة عن الوجود الإنسانيّ وهذا يشير إلى إشكاليّة المنطق والاستمراريّة.
طاغور: الحقيقة الأرفع، التي هي واحدة مع الكائن المُطلق، لا بّدّ أن تكون في جوهرها قائمة في الإنسان، وإلّا فإنّ كلّ ما نُدرِكه نحن الأفراد من الحقيقة لن يمكننا أن نُسمِّيه حقيقة أبداً، على الأقلّ الحقيقة التي نسمّيها علميّة، والتي يمكن بلوغها فقط عبر التّحليل المنطقي، أو بعبارةٍ أخرى من خلال أداة الفكر التي نمتلكها كبشر. فبحسب الفلسفة الهنديّة هناك البرهمان، الحقيقة المطلقة، والتي لا يمكن إدراكها بالفكر المُنعزل أو بالكلمات ولكن يمكن إدراكها فقط بانحلال الفرد في بعده اللانهائي. لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن امتلاكها من قبل العلوم فالذي نصفه أحيانا بأنّه الحقيقة ليس سوى مظهر لها أي ما يتراءى بأنّه حقيقة للفكر الإنسانيّ، ولهذا فإنّها حقيقة حسب التّصوّر الإنسانيّ أو ما نسمّيه السّراب الكونيّ Maya أو الوجود الموهوم.
أينشتاين: ما تشير إليه ليس وهماً بالنّسبة للفرد بل هو وهمُنا كجنس (بشريّ)
طاغور: الجنس البشريّ يعود أيضا إلى وجود واحد هو الإنسانية، وهذا ما يجعل العقل البشري بمجملة قادر على إدراك الحقيقة نفسها. العقل الهنديّ والعقل الأوروبيّ يلتقيان في إدراك كشفيّ مشترك.
أينشتاين: حتى في حياتنا اليوميّة، هناك أشياء نعملها بمساعدة فكرنا دون أن تكون لنا أي مسؤوليّة عنها. فالفكر يتعرّف على حقائق موجودة خارجه لكن وجودها مستقل عنه. مثلاً: قد لا يكون هناك إنسان في هذه الغرفة لكن هذه الطّاولة ستبقى حيث هي.
طاغور: نعم ستبقى حيث هي بالنّسبة للفكر الفرديّ لكن ليس بالنّسبة للوعي المُطلق، فالطّاولة موجودة كشيء ومُدْرَكة بسبب وجود وعي فردي نمتلكه كأفراد.
أينشتاين: لو لم يكن هناك أحد في المنزل فإنّ الطّاولة ستكون موجودة في كل الحالات. لكن هذا الواقع مشكوك في صحّته من وجهة نظرك لأنّه ليس في إمكاننا أن نشرح معناه. إنّ وجهة نظرنا الطّبيعيّة في ما خصّ وجود الحقيقة باستقلال عن البشريّة لا يمكن شرحها ولا إثباتها. لكنّه اعتقاد لا يمكن لأحد أن يعوزه، حتّى الإنسان البدائيّ. فنحن ننسب إلى الحقيقة (المُطلقة) وجوداً إنسانيّاً موضوعيّاً لأنّ ذلك حاجة أساسيّة لنا. لكنْ هذه الحقيقة مستقلة عن وجودنا وعن اختبار فكرنا رغم أنّه ليس في إمكاننا أن نقول ماذا تعني أو أن نشرحها.
طاغور: في جميع الحالات، لو كان هناك أي حقيقة (مُطلقة) لكنّها غير متصلة إطلاقا بالإنسانية فإنّها إذن غير موجودة.
أينشتاين: إذن فإنّني أكثر تديّنا منك!
طاغور: إنّ عقيدتي تقوم على التواؤم التّام بين الإنسان الأسمى وبين الرّوح المُطْلَق في داخل وجودي المنفرد.

الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني
الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني

في حوار آخر عاد أينشتاين إلى مثال الطّاولة الموجودة بذاتها بغضّ النّظر عمّا إذا كان في البيت سكّان أم لا فخاطب أينشتاين بالقول:
طاغور: صحيح أن الطاولة ستكون هنا حتى ولو لم يكن هناك سكان في المنزل، لكن وجودها لا يكتسب أي معنى بالنّسبة لنا ما لم يتم إدراك هذا الوجود من قبل فكر واع. فضلاً عن ذلك فإنّ من طبيعة الوعي أنّه ليس وعياً مجزّأً بل وعيٌ كونيٌّ واحد. وأضاف: العلم نفسه أثبت أنّ الطّاولة كشيء جامد هي مجرّد تجلٍّ أو ظاهر، ولذا فإنّه لولا وجود الفكر الإنسانيّ التي تنطبع عليه صورة تلك الطاولة فمن أين لنا أن نعرف بوجود مستقلٍّ لها؟ واستخدم طاغور بعد ذلك بعض معطيات الفيزياء الكمّيّة ليدعم وجهة نظره فقال: يجب الإقرار الآن بأنّ الوجود الماديّ للطّاولة ما هو إلّا مجموعة من مراكز الطّاقة الكهربائيّة التي تدور وهذه تعود أيضاً إلى الفكر الإنسانيّ.
ونقل طاغور هنا إلى أينشتاين بعض ما كان قد نُشر عن نظريّة الفيزياء الكوانطيّة التي تُثبت أنّ قانون السّببية في الطّبيعة له استثناءات كثيرة وأنّ الطّبيعة لها قدر من الحرّيّة لدرجة أنّه لا يمكن التنبّؤ بدقّة بسلوك الجزيئات أحياناً وفقاً لنمط يقينيّ جامد فقال: كنت أناقش مع السّيد مندل (وهو عالم صديق لأينشتاين) الاكتشافات الرّياضيّة الجديدة والتي تقول بأنّه في عالم الذرّات أو الجُزَيئات فإن الصّدفة تلعب دوراً، وبالتّالي فإن دراما الوجود لا تدلّ على أنّ كلّ شيء في حركة الكائنات مقرّرٌ سلفاً بصورة مُطلقة.
أينشتاين: الوقائع التي تجعل العلوم تسير في هذه الوجهة لا تقول “مع السّلامة” لقانون السّببيّة.
طاغور: ربّما لا، لكن يبدو أنّ فكرة السّببيّة غير موجودة لوحدها في عناصر الوجود، وإنّ هناك قوة أخرى تُضاف إلى تلك العناصر لتنشئ عالماً له نظامه المعيّن (أي أنه: لا عشوائيّة في الكون بل نظام بديع يتحكّم به وعيٌ كامل).

نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين
نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين

أينشتاين: يحاول المرء أن يفهم كيف يشكل هذا النّظام الصّعيد الأرفع للوجود. فالنظام موجود بالتّأكيد، وكيف تتّحد العناصر لتقوم بتوجيه الوجود، لكن في الكيانات الصّغيرة لا يبدو هذا النّظام بيِّنا لإدراكنا الإنساني.
طاغور: هذه الثنائية (بين الوجود والوعي الإنسانيّ) هي في جوهر الوجود كذلك ما يبدو أنّه تضادّ بين الطّبيعة الحرّة والإرادة المُسَيِّرة التي تتحكّم بها لتسمح بتطوّر نظام بديع للأشياء.
أينشتاين: علوم الفيزياء المعاصرة لا تقول أنّهما (الاختيار والجبر) متناقضان. فالغيوم قد تبدو كتلة واحدة من بعيد لكن إذا رأيتها عن قرب ستجد أنّها مجموعة غير منظّمة من نقاط الماء.
طاغور: هل عناصر الوجود متمرِّدة؟ ولها ديناميّة فرديّة وإرادة؟ وهل هناك قانون في العالم الماديّ يهيمن على هذه العناصر ويوظّفها جميعاً ضمن ترتيب بديع وشامل؟
أينشتاين: حتى هذه العناصر ليست من دون ترتيب حسابيّ، فعنصر الرّاديوم مثلا سيحتفظ دوماً بخصائصه الطّبيعيّة الآن وفي مستقبل الأيام، كما فعل على الدوام. وهذا يعني أنّ هناك ترتيباً حسابيّاً في العناصر المكوّنة للوجود.
طاغور: بالتّأكيد لأنّه لو لم يكن هناك عامل التّسيير فإنّ الوجود سيكون عشوائيّاً أو اعتباطيّاً. فالتّناغم الدّائم بين الحرّيّة والجبر هو الذي يجعل الوجود جديداً وحيّاً على الدّوام.
أينشتاين: أعتقد أنّ أيّ شيء نعمله أو نعيشه يخضع لقانون سببيّة يخصُّه، لكن من حسن الحظ ّأنّه لا يمكننا النّظر من خلال ذلك القانون أو أنْ نفهم الأسلوب الذي يعمل به.

طاغور والتصوّف

طاغورُ والوَجْدُ الصوفيّ

لو لم يكن ثمّة «تأنُّس» للحقّ يُسهِّل المعرفة
لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً

المعرفةُ الأرضيةُ تراكمٌ مَعْرِفيٌّ
أمّا الحكمةُ المقدّسة فإشراقٌ داخليٌّ

رابندرانات-طاغور-في-شبابه
رابندرانات-طاغور-في-شبابه

التقَى رابندرانات طاغور ذات يوم ناسكَيْن من النُسّاك الهنود، وسألهما لِمَ لا تخرجان إلى العالم وتُعلِّمان الناس، فأجابه أحدهما: “كلُّ مَنْ يشعر بالعطش سيأتي من تلقاء نفسه إلى النهر. لا بُدَّ أن يأتي العطاشى جماعات وفُرادَى”، وما هي إلّا سنوات قليلة حتى أخذت ألوف الأنفس المتعطِّشة للمعرفة بالتدفُّق إلى نهر طاغور الفكريّ والرُّوحيّ الغزير، لتستقي منه تلك المعرفة المُفعَمة بعَبَق الحُبّ الإلهي ومَواجِد التصوُّف العاشق للوحدانيّة في ما يتعدّى التخبُّط الهندوسيّ بعقائدَ أشبه بالشِّرك وعبادة الأوثان.
كان جدُّه الأمير دواركاناث (Dwarkanath) الثّريّ ووالدُه ماهارشي ديفندرانات (Maharshi Devendranath)، الثّائر ضدّ التّقليد والتعصُّب، ينتميان إلى حركة دينية ناشئة تُدعَى “براهمو ساماج” (Brahmo Samaj)، تلك التي تتنكّر لمظاهر عبادة الأصنام والطّقوس في الهندوسيّة والتعدُّديّة الشِركيّة، وتدعو إلى عبادة الواحد الأسمى، وتُحثُّ على الخير والإحسان والتّقوى والأخلاق والفضيلة والعمل الصّالح.
حاربه الهندوسُ بشدّة لجهوده في تحويل الهندوسيّة من خلال حركة “براهمو ساماج”، التي سعى إلى تقديمها للغرب بما تنطوي عليه من تبجيل للوحدانيّة (Monotheism)، بمواجهة المعتقدات والتّقاليد الهندوسيّة المتشعِّبة.
وفي تحليلٍ دينيّ لكتاباته وأعماله الشّعريّة، قلّما ذكَرَ طاغور كتبَ “البورانا” (Puranas) التّقليديّة أو “نشيد المولى” (البهاغافاد جيتا Bhagavad Gita)، وتعاليم “الفيدانتا” (Vedanta)، وهي النّصوص الهندوسيّة الأكثر شهرة، لكنّه بدلاً من ذلك ركّز على وحدانيّة الحقيقة الإلهيّة واستشعار هذه الوحدانيّة بالحُبّ والشّوق والوَجْد. ويرى بعض الباحثين المختصّين بالفكر الهنديّ أنّ ذلك جاء بتأثيرٍ من مفهوم الأحاديّة (أو الواحديّة) في النّصوص الدينيّة الفلسفيّة العتيقة “الأوبانيشاد” (Upanishads).
العودة إلى الخالق
ولطالما شدّد رابندرانات طاغور في كتاباته وأشعاره على أنّ هدف الإنسانية هو العودة إلى الخالق. ويقول في كتابه “سادهانا” (Sadhana): “إنّها الغاية القصوى للإنسان أن يجد الواحد الذي هو فيه، الذي هو حقيقته.. المفتاح الذي يفتح به بوابة الحياة الرُّوحية”.
وفحوى رسالة طاغور، الذي لقّبه المهاتما غاندي بـ “الحارس الكبير”، أنّ الحياة هي رحلة الإنسان نحو تحقيق إمكانيّته المُثلى، وهي الاتّحاد بالحقيقة، وأفضل ما تتحقّق تلك الرّحلة عبر تجنُّب العلائق الدّنيويّة. وهو يُميِّز بذلك بين المعرفة الأرضيّة والحكمة المقدّسة، فالأولى تراكمٌ مَعْرِفيٌّ أمّا الثّانية فاستنارةٌ وإشراق داخليّ.
ويَعتبر طاغور الإنسانَ أرقى مخلوقات الله، ويصف طبيعة الإنسان بأنّها ذات وجهين: الأنا المتغيِّرة والذّات الخالدة الدّائمة، الكامنة في أعماقنا، الرُّوح السّرمديّة، لذا يرى أنّ الإنسانَ يجب أن يجهد لتحقيق هذا الكمال الجوهريّ وهذه القداسة الكامنة فيه.
وبلغةٍ شاعريّة مُرْهَفة ينأى طاغور عن التّحليل الفلسفيّ ليبثّ مَواجِدَ تحكي عن التّسليم الكلّي للخالق وخدمة الإنسانيّة بكلّ حُبّ وحنو. هذا الحُبّ الصّوفيُّ الشّاعريّ يسري كسلكٍ يربط دُررَ أفكاره الوضّاءة في آلاف القصائد الغنائيّة، التي غنّاها بصوته الشّجيّ، رؤى في حالة صفاءٍ، صفاءٌ يجعله يتقبّل الموتَ كشأن الحياة، على خُطى الفيلسوف سقراط.
ويبدو مفهومُه الدّينيّ والرُّوحاني بقوّة في كتابه المُبكر “دين الإنسان” (The Religion of Man) إذ يشدّد على وعي الوحدة الرُّوحانيّة مع الحقيقة الأسمى، حيث يتبدّى اللّامتناهي حقّاً وخيراً وجمالاً على مرآة النّفس.
وكذلك يظهر هذا المفهومُ جليّاً في ديوانه الشّعريّ الصّوفيّ “جيتنجالي” (Gitanjali)، “حيث بلغ الوَجْدُ الصّوفيّ أسمى مراحله، وهو يستطلع العلاقة بين الإنسان وخالقه في تجربة دينيّة عالميّة لا تحصرها حدود، تختصرها قصائد تعبُّدية مُفعمة بالمَواجِد الصّوفيّة التي تقوده على إيقاع الحُبّ الإلهيّ خطوةً خطوةً نحو الخالق.
وكان طاغور كلّما قرأ في صفحات الوجود على إيقاع وَجْدِه هذا، كلّما اقتربَ من الوحدانيّة بإيمانٍ عميق، صعوداً على أجنحة روحه المتسامية بصفاء السّرّ وروحانيّة الخشوع، ويهتفُ مخاطباً ربّه من شدّة الوَجْد قائلاً:
لقد أفعمتَ قلبي بحُبّك
وتجليتَ لي بقُربك
ربّاه، لو لم أكن موجوداً
فأين يتجلَّى حُبّك؟

وهذا التّلهُّفُ الشّديد في مَواجِدِه الذي يتّبع نداءَ الرُّوح وتأمُّلات العقل وشغف النَّفْس إنّما هو اهتداء إلى المُبدِع بما يتبدّى من إبداعه في أكمام الزّهور، وقَطَرات النَّدَى، وظِلال الجبال، وترامي الأكوان، ليرَى الأنوار الإلهيّة تتلألأ في مرايا الوجود.

طاغور-مع-جمع-من-محبيه
طاغور-مع-جمع-من-محبيه

“الهدفُ الأسمى للنّفس البشريّة هو إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. أي من الأنا التي تعزل الذّات عن خالقها”

تقليد “البهاكتي” الصّوفيّ
وفي هذه التّأمّلات الصّوفيّة ثمّة تشابه بين مذهب طاغور وتقليد “البهاكتي” (Bhakti) الفريد في الهند، على الرّغم من الفترة الزّمنية الطّويلة الفاصلة بينهما، إذ إنّ الرُّوحيّة الفلسفيّة هي ذاتها، فلا وجود للطّقوس والمراسم والكُهّان. وقد شارك معلِّمو هذا التّقليد فكرة الوحدانيّة، والمساواة بين البشر ومختلف الطّبقات، ورفض عبادة التّماثيل والأصنام، وهو ثمّة ما يُوازيه في التّصوُّف الإسلاميّ.
وأشهر هؤلاء المعلّمين، الشّاعرُ الصّوفيّ الهنديّ “كبير” Kabir (1440-1518)، الذي قام طاغور بترجمة مئة قصيدة له في كتابه “مئة قصيدة لكبير” (One Hundred Poems of Kabir)، وهو كان قد تصدّى للتّقليد العقائديّ الأعمى في الدّيانتَين الهندوسيّة والإسلاميّة، وعلّم مذهباً وحدانيّاً صارماً.

بين طاغور و”كبير”
يبدو واضحاً من خلال ترجمة طاغور لقصائد الشّاعر الشّهير “كبير” أنّه كان يؤمن بتعاليم هذا الصّوفيّ لا سيّما مفهوم الوحدانيّة. فقد وجد طاغور تآلفاً كبيراً مع صوفيّة “كبير” فوق التقاليد والطقوس والمراسم لأي دينٍ انتمت. والتّشابه بين هذَين الصّوفيَين مذهل، كتحدُّثهما عن الحُبّ الإلهي، والغفلة واليقظة، والموسيقى الكونيّة، وجديرٌ بالذّكر أنّ طاغورَ كان قد وضع ديوانه “جيتنجالي” قبل قيامه بترجمة “مئة قصيدة لكبير”، فالمسألة مسألة تماثُل وتآلف لا تأثير واقتباس.
وكان “كبير” يرى أنّ التعلُّمَ الحقيقيّ لا يتأتّى من دراسة النّصوص الدّينيّة أو المعرفة النّظريّة بل من محبّة المولى الأسمى. وهما يتحدّثان عن هذا المولى كحقيقة متأنّسة للإنسان. فبالنّسبة لطاغور لو لم يكن ثمّة “تأنُّس” للحقّ يُسهِّل المعرفة، لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً. وما مُبادلة نعمة هذا التأنُّس إلّا بالحُبّ المُكرّس، والتّفاني في هذا الحُبّ والاستغراق فيه.
ويقول طاغور في إحدى رسائله إنّ الشاعرَ “كبير” والشّعراءَ الزُّهادَ الأقدمين مَلَكُوا موهبة اللّغة، لكن من أجل أن نفهم لغتهم (الصّوفيّة) تماماً، لا بُدّ إلى حدٍّ ما من مشاركة تجربتهم ومشاعرهم. فالمشاعرُ المقترنة باللّغة تُنتِج عبقريةً “وأعني باللّغة أكثر من مجرّد كلمات: لغة الرّموز، والمنطق…”، ولا ريبَ أنّ طاغور شاركَ هذه المشاعر واللّغة مع “كبير” وفكره الصّوفيّ.
فالخالقُ بحسب هؤلاء المتصوّفين أوجدَ الكونَ كمرآة، والهدف الأسمى للنّفس البشريّة هي إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. ويكمن الجهلُ في الأنا التي تعزل الذات عن خالقها، وتحثّنا على تلبية رغباتها الأنانيّة والضّيّقة. وهذا الانفصال أو العُزلة هو العبودية، والجهل هو السّبب الأوّل لعبوديّة النّفس، وهو ما ينبغي التّحرُّر منه.
ولأجل تحقيق هذا التّحرّر، علينا أن نملأ قلوبَنا بالمحبّة الشّاملة ومحبّة الآخرين. إنّما عبر حُبّ الله والغِبطة فيه تتمتّع الأنفسُ بالحرّيّة التي هي هبة من الله، فالله خلقَ تلك الأنفس بدافع الحُبّ. ولا بدّ لأجل ذلك من الاستسلام الكلّي للعليّ بالحُبّ والتّعبُّد.

اتّحاد الشّاعر والعارف
ويتجاوز فكرُ طاغور بسُمُوِّه كلَّ الأفكار الفلسفيّة والرُّوحيّة، ويتخطّى كلَّ حدود اللّغة والثّقافة والأجناس والأديان. وفي قصائده المُحلِّقة بأجنحة الصّوفيّ المُنجَذِب إلى الملأ الأعلى، يتّحِد الشّاعرُ والعارِف في وَجْدٍ ينذهل باللّامتناهي وسط المتناهي، وبالوحدة ما بين الكَثرة، وبغِبطة الوجود. فقد كان طاغور يعتقد أنّ الشّاعرَ المُلهَم بالرؤى قد يجد مكانه عن حقٍّ بين الحكماء والقِدّيسين.
وفي مقدّمة ديوانه “جيتنجالي” الذي يشتمل على ترجماته النّثريّة باللّغة الإنكليزيّة لقصائده باللّغة البنغاليّة، والذي نُشِرَ في العام 1913 مع تمهيدٍ للشّاعر الإيرلندي دبليو بي ييتس (W. B. Yeats)، وفاز بفضله بجائزة نوبل للآداب في العام ذاته، يقول طاغور: “لولا إدراكنا لمحبّة الله، لَمَا تسنَّت لنا نعمةُ الإيمان به …”.
هذه المحبّةُ أو الوَجْد الذي يؤكّد على تلك القداسة في الدّاخل … “الله في داخلنا لكنّنا لضياعنا نبحث عنه في الخارج”. إنّه التأمُّل في سرّ الوحدانية المُقدّس في داخل القلب (Jivan Devata):
هوذا الواحدُ في أعماقِ أعماقي
يوقظ كَيانَي بلمَسَاتٍ خفيّة
ويُدغدِغُ أوتارَ قلبي اغتباطاً
على إيقاعِ ترنّمِ الشوق والفرح
إنّه شغفٌ في أعماق القلب يتبدّى شعراً موسيقيّاً يخاطب الرّوح، لا كالأشعار الرّائجة التي هي مجرد تنضيد عبارات وتقطيع وأوزان خالية من الصدق. فقصائده أشبه بواحات روحيّة في صحراء من الجفاف الشّعريّ، واحاتٌ تستدعي السّموَّ إلى أسرار الكون ومشاركة “روعة رؤى” الحقيقة.
وإذا أصغينا ملّياً لسمعنا في قصائده صدى المزامير: “الأرضُ والسموات ملأى بحُبِّكَ..”. فبالنسبة إلى طاغور، وحده الحُبّ يُمكِّننا من اختبار سرّ الوحدة.
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
فأنا في الخارج ولا أعلمُ كيف أَفتح الباب
السّاعاتُ تمرُّ، والنّجومُ تُراقِب، والرّيحُ منذهل
والصّمتُ ثقيلٌ في قلبي
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
املأ كأسِيَ الفارغ، ودَعِ اللّيلَ يتهادَى على موسيقاك

ويُشدِّد طاغور في أشعاره على أنّ الحُبَّ، الحُبُّ فحسب، يجعلنا نختبر سرَّ الاتّحاد مع حقيقة الوجود. فالحُبُّ بالنّسبة إليه “نشوة استيقاظ” على حقيقة سرّ الوحدة في أعماق القلب:
مَنْ يتمكَنْ من فَتْحِ بُرعم
ويُلقي نظرةً في داخله
ينسابُ إلى عروقه نُسَغُ الحياة
ويبسطُ ضَوْعُ الزَّهر جناحيه محلّقاً في الهواء
والألوانُ تتدفّقُ أشواقاً
والعِطرُ يفشي سرّاً عَذْباً
وتتراءى الطّبيعةُ في شعر طاغور جمالاً أثيريّاً مُلهِماً له ومُرشِداً إلى الصّفاء، وهو يتحدّث عمّا جاء به أصحابُ الرّؤى الأقدمون بإلهامٍ من الطّبيعة لاتّحادهم بها أحراراً من جدران المدن وعوائقها، تلك الجدران التي تُحدِث عُزلةً، وتجعل الإنسان يرى الازدواجات والتّضاد في كلّ مكان. ويتساءل طاغور، إذا كان الله بوحدانيّته فوق كلّ الازدواجات، أنّى للفكر أن يُدرِكه. وحدَهُ القلب بإخلاصه، وحُبّه، ووَجْدِه الصّوفيّ يتيح معرفةَ الله ومشاهدة جماله على مرآة القلب الجليّة.

الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي

المعلّم في ذكرى طاغور
“الأدب الحقيقيّ هو الذي يرتقي بالنّفس ، يرفع ولا ينزل، يصون ولا يهدم، يبعث السّعادة لأنّه يبعث الجمال الأصيل في النّفوس حيّاً وإذا لم يكن الجميل فينا وجهاً لطبيعتنا الحقيقيّة، فكيف نستطيع أن نتذوّق الجمال؟ الأدب والفن هو تعبير عن هذا الانسجام الرّفيع بين العقل والقلب، على ضوء وعي الحقيقة الأخيرة المطلقة. الأدب والفنّ مسلك للارتقاء ولترقية الآخرين، وليس هو بضاعة ينتجها أصحابها بقصد الوصف والإثارة لأجل بيعها والاتّجار بها في الأسواق.”

(من كلمة للمعلّم كمال جنبلاط في سفارة الهند في لبنان، في ذكرى شــــاعر الهنـــد الكبير طاغور سنة 1966)

مختارات من شِعر طاغور

-1-
أشعرُ بأنّ كلّ النّجوم تسطع في داخلي
والعالم يقتحم حياتي مثل سيل جارف
والأزاهير تتفتّح في جسدي
وكلّ شباب الأرض
ينتشر مثل أريج البخور في قلبي

-2-
لقد جعَلتَ وجودي بلا نهاية
ذلك هو الفرح منك
وهذا الوعاء الضّعيف أفرغته أنت
مرّةً بعد مرّة
ثم ملأتُه بحياة جديدة

-3-
الحبّ يتزيّن لنفسه
فهو يسعى لإثبات الفرح الدّاخليّ
بمظهر الجمال الخارجيّ
الحبّ سرٌّ لا قرار له
لأنّه لا يوجد شيءٌ يمكن أن يفسّره

-4-
لِمَ انطفأ المصباح ؟
لقد أحطته بمعطفي ، ليكونَ بمنجىً من الرّيح ،
ولهذا فقد انطفأ المصباح
لِمَ ذوت الزّهرة ؟
لقد شددتها إلى قلبي ، في شَغفٍ قَلِق،
ولهذا فقد ذوت الزّهرة .
لِمَ نضبَ النّهر ؟
لقد وضعت سَدّاً في مجراه لأفيدَ منه وحدي،
ولهذا فقد نضبّ النّهر .
لمَ انقطع وتَرُ المِعْزَف ؟
لقد حاولت أنْ أضربَ عليه نغماً أعلى مما تطيقه قدرته،
ولهذا فقد انقطعَ وترُ المِعْزَف.

-5-
إيهِ أيّتها الدّنيا لقد قطفتُ وردتَك
وضممتُها إلى قلبي فوخزَتني شوكتُها
ولمّا جنحّ النّهارُ إلى الزّوال ، وامتدّت العتمةُ
ألفيتُ الوردةَ ذاويةً، بَيْدَ أنّ ألمَ وخزتِها ظلّ باقياً
إيهِ أيّتُها الدّنيا ، سوف يوافيك الوردُ بشذاه وعنفوانِه
ولكنْ أوانَ قطفِ الوردِ الذي كنت أتحيّنُه قد فاتني
وفي اللّيل الحالك
لم أعُدْ أظفر بوردة
فيما عدا ألمِ وخزِها الباقي

الشعر العامي في جبل العرب الحلقة الثانية

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

الحلقة الثانية                                                                                                       حازم ناصر النجم
الغارية – جبل العرب

اللهجة البدوية في الشعر الشعبي مستخدمة على نطاق واسع
في الخليج والعراق وسوريا والأردن وفلسطين واليمن وبدو مصر

أهل الجبل دون سواهم من العرب تكيفوا مع لهجة البدو

بدوي مع ربابته – أهل جبل العرب أخذوا الربابة من البدو كمرافق لشعرهم الشعبي وبرعوا فيها

أصبح الشعر العامي (البدوي) في جبل العرب سِمَةً أساسية لـ “فولكلور” الجبل، وهو ليس اللون الوحيد المتداول، فهناك اللهجة المحلّية وما يندرج تحتها من أنماط فنّية مثل العتابا وبعض قصائد الفن وبعض الأغاني الخاصة بالأعراس والمواسم . وأقول الشعر البدوي لكي أميّزه عن اللهجات الأخرى مع الإشارة إلى أن البعض يسمّيه الشعر النبطي أو العامي أو الشعبي …
وللّهجة البدوية الصّرفة حضور متميز في شعر جبل العرب رغم أن أهل الجبل لا يتكلمون بلسان البدو إلاّ في مَثَلٍ عابر أو جملة معترضة، وأنا أشبّه هذه الحالة (أي حالة نظم الشعر باللهجة البدوية) بحالة الشعر الفصيح عند عامة شعراء الفصحى، فتجد المصري والليبي والشامي وغيرهم يتكلمون بلهجاتهم المحليّة الخاصة ويستخدمون اللغة العربية الفصحى في أشعارهم وآدابهم، وهذه حال أي شاعر بالفصحى مثل الجواهري أو قبّاني أو درويش وغيرهم، فهم يَخرُجون عن عاميّتهم إلى لغةٍ أُخرى هي لا ريب اللغة الأم الشاملة، ولكنها ليست هي المتداولة في حياتهم اليوميّة، وكذلك يخرج الشاعر العامي في جبل العرب عن لهجته الخاصة ليتكلّم اللهجة البدوية في شعرِه .
لذلك يمكن القول أن للشعر “لغة” وللتعامل اليومي “لغة” أخرى في جبل العرب (على اعتبار اللهجة لغة من باب التّجوّز) وهذا فيما يخص السِّمة العامة لفولكلور الجبل، ولهذا الموضوع سابقة تاريخية ذكرها الدكتور يوسف زيدان في كتابه “متاهات الوهم” عندما تكلم عن لغة البُرديات إذ يوضح أنه كان لدى المصريين القدماء لغة مقدسة كُتبت على المَسلاَّت والجدران وهي لغة صعبة وعميقة -يسمّيها اليونانيون “الهيروغليفية”- ولغةٌ أخرى متداولة بين العامة وهي أسهل وأبسط يسمونها “الهيراطيقية” وهي التي كُتبت على البُردي .
ولهذا الخروج عن اللغة المحكية أسباب تاريخية تربط الشاعر أو ذَوّاق الشعر البدوي بالبادية التي هي المنبت الأصيل للغة وشعر العرب وقد مهّدنا لهذا الموضوع في الجزء الأول من هذا البحث.
ولا أقول أن لهذه اللهجة البدوية الأثر الأكبر حالياً في جبل العرب، فقد أصبحت وقفاً على ذوّاقة الشعر البدوي وأصحابه، وهم يشكلون اليوم نسبة قليلة في المجتمع خصوصاً وقد نضح الإعلام المرئي والمسموع باللهجة الشاميّة والمصرية بشكل خاص، فأصبح من المألوف سماع هاتين اللهجتين دون سواهما إن كان في المسلسلات التلفزيونية أو الأغاني المنتشرة بكثرة في هذا الزمن، وتبقى اللهجة البدوية رغم ذلك صاحبة مساحة ليست بالقليلة على مستوى الوطن العربي فهي تشمل الخليج العربي والعراق والأردن وفلسطين واليمن وقبائل مصر، وبالنسبة لسورية فهي متداولة في حوران والرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب وريف حمص وهي المساحة الأكبر في سورية .
وبشكل خاص هناك تميّز في عدد الشعراء الذين نظموا قصائدهم بلهجة البدو والذين يقطنون المنطقة الجنوبية والشرقية من جبل العرب، فهم بطبيعة الحال يحاذون بادية الأردن ولهم علاقات قديمة مع بدو الأردن فتجدهم متأثرين أكثر من غيرهم بهذه اللهجة البدوية ومتمكنين منها بحيث يستخدمونها كما هي في شكلها ومضمونها عندما ينظمون قصائدهم أو عندما يهزجون في أفراحهم، ولهم الكثير من المفردات الخاصة الغريبة بشكلها ولفظها عن المتداول في اللفظ القرويّ المحلّي في الجبل، لذلك تجد قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس شعراء المنطقة الجنوبية، الذين تعامَلَ أسلافهم مع البدو أيام الغزو والرعي والتحالفات العشائرية والتجارة الحرّة، وورثوا عن هذا السلف اللهجة البدوية الصحيحة والقصيدة البدوية المتعارف عليها، ومن قبائل البدو المعروفة ضمن هذه العلاقات: السَّرديّة وبني صخر والرّوَله والعيسى وقبائل منطقة حائل في الجزيرة العربية؛ وقد أخذ سكان جبل العرب عن هذه القبائل الكثير من العادات والتقاليد الواضحة في ضيافتهم ومفرداتهم إن كان في الترحيب أو المباركة أو العزاء، إلا أنهم قرويون متحضّرون في حياتهم العامة مثَلُهم مثَلُ البدو الذين يقطنون القرى أو المدن.
وهناك من يسأل: لماذا ننظم شعرنا بلهجة البدو في جبل العرب، والبدو لا ينظمون شعراً بلهجتنا نحن ؟! والجواب هو أن أهل الجبل قادرون على التكيّف مع اللهجات العامية الأخرى وبالذات لهجة البدو دون سواهم من أصحاب اللهجات، فتجد من الصعوبة في مكان أن يتكلم الشامي لهجة البدو، وهو إن تكلم بها يبدو لك “بدوي شامي” كما قال الفنّان سليم كلاس في مقابلة تلفزيونية عندما سُئل عن دوره في مسلسل (جواهر)، وكذلك المصري عندما يتكلم البدوية والبدوي عندما يحاول التكلم باللهجة الشامية أو اللبنانية، ورغم إتقان بعض الفنانين لهذه اللهجات إلا أن الناحية الفنية تبقى قاصرة عن مخارج الحروف الصريحة ضمن هذه اللهجة .
أما من يأخذ موضوع التقليد من ناحية فلسفية تُفضي إلى تقليد الأدنى للأعلى، فهذا تجنٍّ واضح لا يحترم خصوصية التراث

“قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس الشعراء الذين تعامَلَ أسلافهم مع البــدو”

في جبل العرب، ولا ينظر إلى محدودية اللهجة المحلية المتداولة ضمن مساحة معيّنة لا تتعدّى الجبل، على الرغم من أن شعراء الجبل نظموا بلهجتهم القروية قصائد لا تقل روعة عن قصائدهم المكتوبة باللهجة البدوية، فالموضوع إذاً موضوع مساحة وانتشار أكبر ومحاكاة للواقع المفروض وليس موضوع أدنى وأعلى، ثم هو لا ينظر إلى الإبداعات والبارقات الفنّية التي نتجت عن الشعر البدوي في جبل العرب، فهناك صور جديدة ولمسات فنّية رشيقة تطاول الشعر الفصيح في عَليائه ومَثَلها قول المرحوم اسماعيل العبد الله
ضَمّ القَحَاوي وَاردَفَ لـــــ عَ النّابي سُلاّف شَفَّة واصطـــبى عَ النّــابي
يــــــــــــــــا حلـــــــــــــــو لمَّـــــة جيبهـــــــــا ع النّـــــــــابـــــــــــــــــــي روض الرّبيع اكسى الهَنيـع كْماها
والقحاوي هو زهر الأقحوان. اصطبى أي ارتقى، جيبها أي صدرها، الهنيع قيل هو الزغب الخفيف الذي يكسو الكمأة وأكسى الهنيع كْماها: إسقاط وتشبيه للثوب الذي يكسو صدرها. أما مفردة العنّابي التي تكررت ثلاث مرات فهي تحمل ثلاث معان الأول هو اللون العنّابي كناية عن الشفتين والثاني يلمح إلى الناب أي على أسنانها والثالث يقصد النابي أي المكان المرتفع .
فما أشبه هذا بذلك الوصف الوارد في شعر الخليفة العبّاسي عبدالله بن المعتزّ:
فاستمطرَت لؤلؤاً من نرجسٍ وسَقت ورداً وعَضّت على العُنّاب بالبَرَدِ
ومن الصوَر والموضوعات البديعة التي وردت في وقت مبكّر من نشأة الشعر البدوي في جبل العرب قصيدة المرحوم الشاعر شبلي الأطرش ( زعيم الجبل سابقاً) والتي يساجل من خلالها القلم مستخدماً الوزن الموافق لبحر الرّمَل ومنها :
سار مذبوح القلم أوحى الصّرير فــــوق طُلـحيّــــــــــة بدا ينثـــر لبــــــــــــــــــاه
واشــــتغــــــــل دولابــــهــــــا فنّـــــــاً يــديــــــــــــــر واليـراع انهَــــــــــل يرعَف مـــــــــــن لمـاه
قلت ها يـــــا راعــيَ السِّنّْ الصّغير هات جاوِب مغـــــــرمَـاً دهره بـــــــلاه
وانثر القـــافـــــات عالكاغــــــــــد وسير هاج بحر الفن وازبَد مـــــــــــن علاه
مذبوح القلم: إشارة للحبر الذي فيه، أوحى الصرير: صوّتت ريشتهُ المعدنية عندما لامست الورق وفي هذا دلالة على الوضع النفسي المؤلم الذي يعيشه الشاعر من خلال شدّة ضغطه على القلم والورقة، طلحية: ورقة كبيرة، ينثر لباه : ينثر مداده، السنّ الصغير: رأس القلم صغير الحجم، الكاغد: الورق
ومن هذا المطلع الشجي يدخل تحَدّياً جميلاً مع القلم، ومن ثم يصرّح بقدرة القلم العظيمة على الرغم من صِغر حجمه، كيف لا وهو حاضرٌ في يد السلطان العثماني الذي أمضى كتاباً يُفضي إلى نفي الشاعر ورفاقه يقول:
قُلـــــــــــــــــــــتْ لَهْ نعـــــمين لــــــــــو عُودَك كلّنا من رَعْفِتَك رحنا هبــــــــاه
وأراد بــ “الرَّعفة” الإشارة إلى إمضاء السلطان، وفي هذا إسقاط بديع وإيحاء وتتبيع وهي من محسّنات الشعر ومن رُقي أسلوبه .
والأمثلة كثيرة وغنيّة وفيها من التجديد والإبداع ما يضعها في مصافي الشعر الفصيح .
ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى تأثر الكثير من شعراء الجبل بشعراء ( نجد و حايل ) من أعمال شبه الجزيرة العربية، ونلمس هذا التأثر عندما نقرأ قصائد آل الرشيد ومن عاصرهم من البدو، وأيضاً قصائد محمد العبد الله القاضي وعبد الله بن سبيّل ومحسن الهزاني وهم من شعراء نجد المميزين .

إشكاليات في الشعر البدوي
أُورد هنا بعض الإشكاليات التي يمكن اعتبارها من الجوازات أو الأسلوب المتعارف عليه في جواز الخطأ بالنسبة للمفردة الواحدة و القافية والوزن في الشعر النبطي …

“أخذ أهل الجبل بلغة البدو في شعرهم الشعبي عنوان تكيف طوعي خلّاق مع الواقع المحيط وليس فيه تغلب لثقافة البدو على الثقافة المحلية”

المفردة
بعض المفردات المستخدمة في الشعر البدوي في جبل العرب تحمل إشكالية في معناها وطريقة كتابتها ولفظها وهذه الإشكالية تصل إلى حدّ قلب المعنى في كثير من المواضع إذا ما حاكمنا المفردة في محكمة الفصحى، فمثلاً مفردة “الهيلعي” تستخدم عند العامة بمعنى: الشجاع وهي في معناها الأصيل تعني (الجبان) الذي يصيبه الهلع لأقل الأمور، إنما اتخذت العامة معناها من صيغة (الذي ينشر الهلعَ في قلوب الأعداء) وهي بذلك من الأضداد. يقول اسماعيل العبد الله واصفاً ( راعي الذلول ) في إحدى قصائده :
هيلعي الوِلدات بــــــالظلمة كَسَـــــلّْ عضب هِندي فيصلاً بِدْهُونَهـــــــــا
وفي هذا السياق تحضرني بعض المفردات أو المُسمّيات التي أورَدتَها العرب على عكس فحواها وذلك تيمّناً بفأل الخير والسلامة ومنها: “الناجي” من أسماء الجمل حيث أطلقت عليه هذه التسمية تيمّناً بنجاة راكبِه من المهالك ومنها:”المفازة” أي الصحراء وذلك تيمّناً بفوز قاطعها ونجاته. ومن هذه المُسمّيات أيضاً “السَّليم” كناية عن الملدوغ بلدغة الأفعى تيمّناً بالسلامة.
وايضاً التركيب اللغوي: (اليا) وهو بمعنى (إذا ما) فيقولون: (اليا صار) أي (إذا ما صار) وهي مستخدمة عند البدو بشكل

العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال
العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال

آخر في كثير من المواضع فيقولون: (إلى ما صار) ومن الشعراء من يستخدم من هذا التركيب حرف اللام فقط فيقول: (لَ صار) كما هي عند الشاعر صالح عمار:
لَ صار حنّا نجوم وسلطان القمر بــــــــأربع طعش نيسان يومٍ يطلعي
وتفيد(اليا) في غالبية مواضعها معنى (إن) ومثالها عند شعراء البدو لمحمد القاضي شاعر نجد :
الرّجل بــــــــــــالواجب لسانه عقالـه اليا قال قولٍ تم لو حال بَهْ حال
وتأتي بمعنى (إلى أن) ومثالها عند شعراء الجبل للشاعر جاد الله سلام:
اليا مـــــا دَعوني نـــاحلٍ تقل عــَ نار سَلْيَ الدّهان اللي مجـــــــــــــــــــرَّد سَلينا
وايضاً إشكالية بعض المطالع الشجيّة التي تبدأ بجملة “يا مال قلبٍ” فهي تُستخدم بأكثر من منحى وهذا تركيب لغوي عامي مستخدم في الكثير من مطالع الشعر البدوي ويفيد معنى التأوّه ويستخدمه الشعراء بأكثر من صيغة فمنهم من يقول: “يا مَلّ..” من مَلّ الشيء بالشيء أي غمسه والمليل: العجينة التي تُدفن في الجمر أو في الرمل الساخن، ومنهم من يقول: “ياما لقلب” أي كم لهذا القلب من الهموم، ومنهم من يقول: “يامن لقلب” وهذه الجملة مستخدمة في الشعر الفصيح ومثالها لعمر بن ربيعة:
يــــــــــــــا مَن لـقلـــــــــــبٍ دَنِـفٍ مغــــــــــــرمِ هــامَ إلــــــــى هـنـــــــــدٍ ولـــــــــم يظلــــــــــــمِ
وأيضاً من الإشكاليات المُجازة في هذا الباب استخدام صيغة الماضي بصيغة الفعل المضارع وذلك بإضافة النون في نهاية الفعل الماضي الخاص بصيغة الجمع في بعض مواضع الكلام مثل ( قالون) في مكان (قالوا) ومثالها للشاعر يونس أبو خير:
من سهلة العيّن على الكَفر غارون غـــــــــــــــــــارة ذيـــــــــــــــاب الجايعــــــــــة إن وَصَفْنـــــــــا
ونلاحظ أيضاً في البيت السابق إشكالية الصفة والموصوف ففي بعض مواضع لهجة العامة ومنها البدوية تُعَرّف الصفة دون الموصوف فالأصح لغوياً أن نقول “الذئاب الجائعة” أو “ذئابٌ جائعة” وليس “ذئاب الجايعة”
ومن المفردات المستخدمة كثيراً مفردة “مير” أو “مار” والتي هي اختصار لجملة (ما غير) وأيضاً تُستخدم بمعنى “لكن” ومثالها للشاعر زيد الأطرش:
مـــــــارِ البلا كَن طبّه الذل واهــــــــوالْ يـــــــــــــا وِلد عمّي غَللّوه النشــايــــــــــــــب
ومفردة “كُود” التي تعني التأكيد أو تأتي بمعنى “غير” يقول الشاعر صياح الأطرش:
مـــــــا رَدّ مِنّا كــــــــــــــود قَرم العيــــــالـــي سلطان ذيب وعاديــــــــاً بالقِراقير
ومن لغة البدو أيضاً وما يستخدمه شعراء الجبل نقلاً عنهم إبدال الواو بالألف في بعض المفردات، مثل “ماقف، ماقد،” التي هي بالأصل “موقف، موقد” وأيضاً إشباع حركة الفتح في بعض المواقع مثل: “يقدار” بمعنى يقدر وما يوافق منحاها يقول جاد الله سلام:

أبكي على اللي بدَّل الدار بديار هيهـات من بـــــــــــــعد المفَـــــارَق يجينا
يــــــــــاقلب كنّك عالعسيرات تقدار اصبر وقيـــــــــل الله مــــــع الصَّابــــــــــــرينا

فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945
فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945

القافية
في كثير من القصائد العامية نجد خلطاً في القافية الواحدة التي يجب أن تنتهي بحرف الروي ذاته وإنما لا تقاس القصائد العامية بمقياس الفصحى عندما تكون القافية منتهية بحرفٍ من حروف المد أو منتهية بالتاء المربوطة التي تلفظ ( هاءً ) للوقف، فالعامة تخلط بين القافيتين وبرأيي ذلك مُجاز وغير مستحب في الشعر العامي لأن نهايتي الحرفين أو القافيتين تُلفظ واحدةً، فتجد مثلاً في قصيدة لزيد الأطرش :
في ربوع العــــــــــــــــــز للدنيا لفينـــــــــــا وارتقينا بــِ سما العَليا فطامه
فالقافية هنا ( الميم مع التاء المربوطة التي تُلفظ هاءً ) وبعد عدّة أبيات في القصيدة ذاتها نجد :
شَيّـــــــــــــدوا فوق الهضاب المعتلينا لِ مكارمهم صروحاً لا تُسَامى
والقافية هنا هي ( الميم مع الألف المقصورة ) واللفظ يعطيك القافيتين بصيغة الميم المحرّكة بالفتح وهذا إشكال غير مقبول في الفصحى بينما هو وارد في الشعر العامي بشكل عام وفي الشعر البدوي بشكل خاص، إذاً شعراء العامّية يتبعون اللفظ المتوافق دون الخط ودون مراعاة توافق القوافي الأصيلة، وطبعاً يحدث ذلك في مواضع قليلة وليس بصورة دائمة فتجد الكثير من الشعراء العاميين يلتزمون بالقافية كما هي في الفصيح.

الوزن
يتميز الشعر البدوي بقافيتين مختلفتين في الصدر والعجز ضمن القصيدة الواحدة وذلك في غالبية الأوزان المستخدمة في هذا الشعر وهو أسلوب يشابه أسلوب الموشحات الأندلسية، ولكن تجد بعض الشعراء يُخلّون في وزن الصدر عندما لا يُلزمونه بالقافية . وأكثر ما نجد ذلك في نموذج (الهلالي القصير) فهو في معظمه يقارب البحر الطويل وما يشذ عن الطويل في الصدر ولا يوافقه في العجز،ومثاله لإسماعيل العبد الله :
عارَكْت دهري واستمرّت ملامتي مضّــيت عمـري للزمان عــْتـاب وْلاَ
الـيا فَلَجْتَه مــــــــــــــــا ترى الحَــــــــــــقّ يفـقُمَــــهْ تـِخجـــل الخــايــــــــــــــــــــــــــــــن بــقـــولـــــــــة عـــــــاب
فلَجْتَهْ: أي أفحمته بالحجّة الحق. ولكنّ الخائن لا يخجل إذا عيّره الآخرون بخيانته!
وفي الواقع هو لا يطابق البحر الطويل في المحصّلة فهو نموذج خاص يتبع له أكثر من وزن .
يكثر في الشعر الشعبي “الخَزْم” وهو زيادة حرف أو كلمة في مقدمة صدر البيت أو عجزه تخدم المعنى وتزيد عن الوزن، وفي الشعر البدوي يزيدون حرف العطف (الواو) في غالبية الخَزْم ومنهم من يزيد ثلاث حروف مثل اسماعيل العبد الله عندما يقول:
خطا الناس لو رافقتهم يســـترونك وخطا الناس رِفْـقَتهُم رفيق ذيــاب
نلاحظ في عجز البيت زيادة الواو ومفردة (خطا) فهي تعني “بعض” والتي يتغير المعنى بإسقاطها ويطول الوزن بإثباتها، وبدونها يمكننا تقدير الكلام أن مِن الناس كذا ومِن الناس كذا، فالشاعر يقابل بين الأخيار والأشرار في شطري البيت، ولكن الشعراء يضيفون هذا “الخز” أو هذه الزيادة في سبيل إيضاح وتأكيد الفكرة أو لضرورتها مع الإشارة إلى أن الصدر والعجز لهما وزنان مختلفان في الطول والقصر فالعجز يجب أن يقصر عن الصدر في كل هذه القصيدة.
وهنا أُبدي رأيي الخاص في موضوع وزن القصيدة العاميّة أو (البدويّة ) التي نحن في صدد دراستها :
هناك تباين واضح بين عملية تقطيع الشعر الفصيح والشعر العامي على مبدأ الفراهيدي المتعارف عليه وذلك أنك عندما تقطّع البيت الفصيح فأنت لا تغيّر من حركاته شيء بطبيعة الحال أي يبقى كل شيء على ما هو ويوضَع في إطار التفعيلة الموافقة .. بينما في الشعر العامي أنت تضطرّ لتغيير الحركات التي خرجت بها اللفظة الواحدة لكي يتم لك التقطيع والوزن الصحيح وبغير ذلك أنت أمام التقاء ساكنين بشكل كثيف وأمام أحرف ساكنة على حسب مخرج الكلام العامي ومنها ما يأتي ساكن في بداية المفردة لذلك نحن نغيّر منحى البيت واللفظة الواحدة لنخرج بصيغة توافق البحر المطلوب ومثال ذلك هذا البيت من وزن المسحوب ( الشروقي)
أَفْكَرْتْ بـــــــالــدنــيا وْفَيَّضْتْ مَكَـــتُوْمْ ماحــَانْ في ليحـَـانْ صَدري وْحَامِي
نلاحظ التشكيل الذي يوافق طريقة اللفظ ومخرج الكلام كما يريده الشاعر، ولكن إذا أردنا تقطيع هذا البيت ووزنه فنحن نغيّر الحركات ليصبح البيت على الشكل التالي:
أفْكَرْتِ بـــــــــــــالدّنيا وَفَيَّضتِ مكتوْمِ ماحانِ في ليحانِ صدري وَحَامي
وبذلك نحن نتحايل على صيغة البيت التي يُلفظ بها .إذاً لا بد من القول أن بحور الشعر العامي توافق بحور الشعر الفصيح مجازاً أو تقريبياً ولا تُطابقها بشكل تام، وطبعاً هذا لا ينفي وجود أبيات تطابق البحور المتعارف عليها بشكل تام وبدون تغيير في صيغتها وأكثر ما نجد ذلك في بحر الرّمَل المعروف بــ (الهجيني) عند شعراء العاميّة فمثلاً :
“يا شهيداً ما على دَمَّكْ مَزِيدي” تطابق بحر الرمل دون أي تغيير في حركات المفردات .
ونَخلُص إلى أننا ندُل على الوزن في الشعر العامي من خلال ما يقاربه في الفصيح ولا يطابقه بشكل تام، وفي معظم الشعر العامي، المعوَّل عليه في عملية الوزن هو أسلوب أداء الشاعر.

شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
مجلس-سلطان-بااشا--في-منفاه-في-الأزرق
مجلس-سلطان-بااشا–في-منفاه-في-الأزرق

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة
هذه الصفحات عبارة عن ملامح أساسية في الشعر البدوي الخاص بجبل العرب ولا نقول هي دراسة شاملة ولكنها وافية إلى حدٍّ ما بالنسبة للمادة المطروحة وسنخصص باباً للأوزان والمواضيع وما آل إليه الشعر العامي (البدوي) في الجبل من خلال الشعراء المعاصرين الذين واكبوا حركة تطوّر الشعر النبطي إلى حدٍّ ما كما سنوضّح الدور الذي لعبه الشعر العامي في السلم والحرب وأيضاً دوره في توثيق الأحداث التاريخية المهمة في جبل العرب.

مقالات ثقافية