السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

طريق الحرير

طريق الحرير

طريــــــق الحضــارة البشريــة

كان طريق الحرير أهم شريان عالمي لتبادل السلع
وحركة القوافل والسفن والأفكار والتأثيرات الحضارية

كان طول طريق الحرير أكثر من 30,000 كلم
وكانت الخانات تؤمن الراحة والأمان للمسافرين

قبل سنوات أعلنت الصين التي باتت أكبر اقتصاد من حيث الناتج المحلي في العالم (وفق ما أعلنه البنك الدولي) عن مشروع ضخم أسمته “طريق الحرير الجديد” وهو يستهدف ربط دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشبكة متطورة من الطرق البرية والبحرية والموانئ والمطارات وشبكات الاتصالات والخدمات المالية والتجارية بهدف تعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية بين دول المجموعة، كما يتضمن المشروع إنشاء بنك تنمية صينياً سيتولى توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل مشاريع الربط والبنى الأساسية الضرورية لجعل هذا المشروع الطموح حقيقة واقعة.
ويستلهم مشروع “طريق الحرير” الجديد المثال الباهر الذي كان عليه طريق الحرير التاريخي الذي ازدهر واشتهر بصورة خاصة مع قيام الحضارة العربية الإسلامية وازدهار بلدان الشرق وتطورها الاقتصادي ونمو ثرواتها بصورة غير مسبوقة، الأمر الذي أعطى في حدّ ذاته دفعاً كبيراً للتجارة بين المنطقة العربية والقارة الآسيوية ولم يكن ما عرف في ما بعد بإسم “طريق الحرير” في الحقيقة سوى مجموعة متشابكة من الطرق والممرات والمحطات التجارية التي كانت تخدم تدفقات البضائع بين دول الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس والقرن الأفريقي وبين القارتين الصينية والهندية، وكان “طريق الحرير” أهم شريان عالمي لحركة الأشخاص والقوافل ولتبادل البضائع والسلع الأفكار والتأثيرات الثقافية من الشرق الأدنى وحتى الشرق الأقصى مروراً بآسيا الوسطى، في ما كانت أوروبا ما زالت تغرق في ظلمات التخلف، وهي لن تلحق بركب “طريق الحرير” إلا في وقت متأخر ابتداءً من القرون الوسطى.
فما الذي نعرفه عن “طريق الحرير” الذي كان رمزاً للإزدهار والتقارب بين الشعوب لآلاف السنين؟
كانت “طريق الحرير” شبكة من المسالك والممرات البرية والبحرية التي استخدمتها الأمم الغابرة لتحقيق شتى أنواع التبادل السلعي، وكانت طرق الملاحة البحرية تعتبر جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة وهي مثّلت بالتالي حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات إسمها الآخر الشائع “طرق التوابل” Spice Road.
هذه الشبكات الواسعة من طرق التجارة لم تستخدم فقط لتبادل السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل هذا التمازج الهائل بين قوافل التجار من مختلف الأمم والحضارات المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر في وقت لاحق تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية والآسيوية وحضاراته. ولم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول “طريق الحرير” وإنما التلاقح الفكري والثقافي الذي كان أيضاً سائداً في المدن الواقعة على تلك الطرق حتى إن العديد من هذه المدن تحوّل إلى مراكز للثقافة والتعلم والإكتشاف. وقد شهدت المجتمعات المستقرة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات والتقنيات، الأمر الذي أدى إلى تفاعل غني جداً للغات والأديان والثقافات..
ويُعتبر مصطلح “طريق الحرير” في الواقع مصطلحاً حديث العهد نسبياً إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق إسماً بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، إسم “دي سيدينستراس” (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات هذه ولا تزال هذه التسمية المستخدمة أيضاً بصيغة الجمع تلهب الخيال بما يلفها من غموض وإيحاءات رومنطيقية.

” بدأت طريق الحرير بعلاقات قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهـندوس قبل أن تتوســــع الشبكة نحو الصين ثم أوروبـا  “

طريـــق الحرير
طريـــق الحرير

في البدء .. كان الحرير
عرفت الصين دودة الحرير قبل 6,000 عام وبعد 2,000 عام من ذلك التاريخ صنع الصينيون القدماء أول آلة لحلج الحرير وعندما برزت فرنسا في القرن السادس عشر بإعتبارها البلد الأول في تصنيع الحرير الفاخر فإنها تعلمت تقنيات تلك الصناعة من الصين والتي كانت يومها أكبر دولة متقدمة اقتصادياً وتقنياً في العالم.
يتكون الحرير من ألياف بروتينية تنتجها دودة القز عندما تقوم بغزل شرنقتها، وقد بدأت صناعة الحرير بحسب المصادر الصينية عام 2700 قبل الميلاد تقريباً. وكان الحرير يعدّ من المنتوجات النفيسة جداً، فانفرد بلاط الإمبراطورية الصينية باستخدامه لصنع الأقمشة والستائر والرايات وغيرها من المنسوجات القيّمة، وبقيت تفاصيل إنتاجه سراً حفظته الصين بشدة طيلة 3000 سنة تقريباً بفضل مراسيم إمبراطورية قضت بإعدام كل من يتجرأ على إفشاء سرّ إنتاج الحرير لشخص غريب. وتحوي قبور مقاطعة هوبي، العائدة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، نماذج فاتنة لهذه المنسوجات الحريرية ومن بينها الأقمشة المزخرفة والحرير المطرّز والألبسة الحريرية في جميع أشكالها.
إلا أن احتكار الصين لإنتاج الحرير لا يعني أنها لم تتاجر به وتبادل به سلعاً أخرى من العالم كانت تحتاجها. وقد استُخدم الحرير كهدايا قيمة في العلاقات الدبلوماسية وبلغت تجارته شأناً كبيراً بدءاً بالمناطق المتاخمة للصين مباشرة وصولاً إلى المناطق النائية، بحيث بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (استمر حكمها من سنة 206 ق.م وحتى سنة 220 ميلادية)، وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.
وفي وقت ما من القرن الأول قبل الميلاد، دخل الحرير إلى الإمبراطورية الرومانية حيث اعتُبر سلعة فاخرة تغري بغرابتها وعرف رواجاً هائلاً وصدرت مراسيم ملكية لضبط سعره، وبقي يلاقي إقبالاً شديداً طوال القرون الوسطى حتى إن قوانين بيزنطية سُنت لتحديد تفاصيل حياكة الألبسة الحريرية، وهذا خير دليل على أهميته إذ كان يعدّ نسيجاً ملكياً خالصاً ومصدراً هاماً للمداخيل بالنسبة إلى السلطة الملكية. وفضلاً عن ذلك، كانت الكنيسة البيزنطية تحتاج إلى كمّيات ضخمة من الملبوسات والستائر الحريرية. ومن هنا، مثّلت هذه السلعة الفاخرة أحد المحفزات الأولى لفتح المسالك التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى.
وكان الإلمام بطريقة إنتاج الحرير أمراً بالغ الأهمية وعلى الرغم من سعي الإمبراطور الصيني إلى الاحتفاظ جيداً بهذا السر تجاوزت صناعة الحرير في النهاية حدود الصين لتنتقل إلى الهند واليابان أولاً ثم الإمبراطورية الفارسية وأخيراً الغرب في القرن السادس ميلادي. وذكر المؤرخ بروكوبيوس أن بعض الكهنة الهنود جاءوا بيزنطا في نحو العام 550 م, وأقنعوا الإمبراطور جوستنيان أوغست بأنهم سيوفرون للرومان سبل إنتاج الحرير بأنفسهم بحيث يستغنون عن التعامل مع أعدائهم الفرس. وكشفت البعثة الهندية للإمبراطور عن طريقة تربية دودة القز مؤكدة له أن تربيتها عملية سهلة وقدمت البعثة معلومات عن طرق الحصول على بيوض دود القز وحفظها والتشجيع على تفقيسها وتحولها إلى ديدان القز ثم الفراشات. وبعد اقتناع الإمبراطور بالفكرة عاد الكهنة الهنود إلى بلادهم ثم عادوا إلى بيزنطا وهم يحملون بيوض ديدان القز إليها وكانت هذه بداية تاريخ إنتاج الحرير في الإمبراطوريةالبيزنطية وانتقاله منها في ما بعد إلى القارة الأوروبية.

من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل
من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل

دروب ومسالك ..وبضائع
مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لتطور واتساع الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، فإن الحرير في حدّ ذاته لم يشكل سوى واحد من المنتجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب، ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع ذات الدلالات الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. وازداد الإقبال على طريق الحرير وتوافد المسافرون عليها طوال القرون الوسطى، وبقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على مرونتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً، كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد – فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق المحيط الهندي وبحر العرب باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.
وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن، ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ حاول تجار الإمبراطورية الرومانية مثلاً تجنّب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين. وكذلك، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحياناً كانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناءً على ذلك.
وشكلت التجارة البحرية فرعاً آخر اكتسب أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً بإسم طريق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في اندونيسيا (المعروفة أيضاً بإسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من 15,000 كيلومتر، ابتداءً من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.
ويتصل تاريخ هذه الطرق البحرية بالعلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى، إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. وقد ارتبطت شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن الميلادي، وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار على غرار زنجبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون بإستمرار.
وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دي غاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيون بالطرق البحرية المارة من جنوب شرقي آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة. وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.
تميّزت طريق الحرير بتنوع هائل لأن كل منطقة أو شعب أو قوافل تجارية كانت تتخذ لنفسها طريقاً تلائم تجارتها وعوامل واعتبارات أخرى كثيرة وكان التجار يضعونها في حسابهم، وكان هؤلاء التجار يسافرون محملين بمختلف أصناف البضائع ويأتون براً أو بحراً من شتى بقاع الأرض. واعتادت القوافل التجارية في غالب الأحيان على قطع مسافة معينة من الطريق ثم التوقف لنيل قسط من الراحة والتزوّد بالمؤن أو حط الرحال وبيع حمولاتها في مواقع منتشرة على طول الطرق، وقد أفضى ذلك إلى نشأة مدن وموانئ تجارية ترشح بالحياة، واتسمت طرق الحرير بالحيوية وتخللتها المنافذ والمداخل فكانت البضائع تباع للسكان المحليين القاطنين على طول الطريق واعتاد التجار على إضافة المنتوجات المحلية إلى حمولاتهم إذ كان قسم من التجارة يتم عن طريق المقايضة، كما نشأ ما يمكن تسميته بالتجارة العابرة حيث يشتري التجار من مكان ما في طريق رحلتهم لكي يبيعوها في مكان آخر فكانت القافلة بالتالي تشتري وتبيع حمولتها أكثر من مرة خلال تنقلاتها، وكانت هذه وسيلة مهمة لتعظيم الأرباح وتمويل التكلفة العالية للرحلات الطويلة التي تقطع ألوف الأميال بين البلدان والممالك.

تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ
تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ

“كانت القافلة تشتري حمولتها وتبيعها أكثر من مرة على الطريق وكانت هذه وسيلة أساسية لتعظيم الأرباح وتمـــــويل التكلفة العالية للرحلة التجارية”

دروب الحوار
لعل الإرث الأهم الذي تركته طريق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها لكي يسهلوا على أنفسهم ويزيدوا حظوظهم في عقد الصفقات والصداقات، فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية، كما أقبل العديد من المسافرين على سلك هذه الطرق بهدف التبادل الفكري فازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.
وإحدى النتائج الاجتماعية المهمة التي نشأت على هذا التمازج كانت عملية التزاوج الواسعة بين الشعوب فكان الكثير من التجار يحلون في بلد وإذا طابت إقامتهم فيه أو إذا تكررت سفراتهم إليه لأغراض التجارة يتخذون زوجة لهم من ذلك البلد وكانت الزوجات غالباً ما يبقين في بلدهن في انتظار عودة الزوج التاجر من رحلته، وفي حالات قليلة اصطحب التجار زوجاتهم إلى بلدانهم ونشأ عن تلك الزيجات ثم عن موسم الحج السنوي إلى مكة المكرمة من التجار المسلمين من مختلف أنحاء العالم تمازج عرقي وثقافي ما زالت آثاره واضحة في أسماء العديد من العائلات البارزة في الجزيرة العربية أو في دول المشرق العربي. وكان الحج السنوي إلى مكة المكرمة غالباً ما يمتزج بالرحلات التجارية بعد أن أصبحت الجزيرة العربية في ظل الإسلام مركزاً زاهراً للتجارة ورحلاتها ولم يكن امتزاج أغراض تجارة القوافل بالحج إلى الجزيرة العربية أمراً غير عادي إذ علمنا قدر المشقة التي كانت تعترض المسافرين مما جعل مناسبة الحج تستغل أيضاً للتجارة الأمر الذي يساعد التاجر أو الحاج على تغطية نفقات سفره الطويل أحياناً من بلاد بعيدة. وربما كان ذلك هو أحد الأسباب في ازدهار أسواق تجارية تباع فيها كل أنواع السلع في موسم الحج في مختلف مدن الحجاز وفي طرق القوافل المارة عبر الجزيرة العربية.
ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طريق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة، كما تتصف أنظمة الري المنتشرة في آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل مسافري طريق الحرير.
وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة تتعلق بالعقيدة البوذية التي نشأت في الهند، ويمثل ما دوّنه الكهنة البوذيون من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات. وعلى سبيل المثال تتمتع مذكرات شوان زانغ (تغطي الفترة من 629 وحتى 654 ميلادية) بقيمة تاريخية هائلة. في المقابل قصد الكهنة الأوروبيون في القرون الوسطى الشرقَ في بعثات دبلوماسية وتبشيرية، وبخاصة جيوفاني دا بيان دل كاربيني المرسل من البابا إينوشنسيوس الرابع في بعثة إلى بلاد المغول من عام 1245 حتى عام 1247 ووليام أف روبروك وهو كاهن فلمنكي من الفرنسيسكان أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع للاتصال بقبائل المغول ما بين العامين 1253 و1255 ولعل المستكشف البندقي ماركو بولو هو أوسعهم شهرة وقد أمضى ما بين العامين 1271 و1292 أكثر من 20 سنة في الترحال وأضحى سرده للتجارب التي خاضها شهيراً جداً في أوروبا بعد وفاته.
وأدت طرق الحرير كذلك دوراً أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية والآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على الأديان التي ارتحلت على طريق الحرير، إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلامي والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها، فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى اندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذين ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.

طريق الحرير في لوحة صينية قديمة
طريق الحرير في لوحة صينية قديمة

“أدت رحـــلات طريـــق الحرير وموسم الحـــج السنـــوي إلى تمازج عرقــــي وثقافـــي ما زالـــت آثاره واضحــــــة في أسـماء العديـــد من العائلات العربيـــة”

السفر على طريق الحرير
تطوّر السفر عبر طريق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل، وهي عبارة عن مضافات و “فنادق” كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين، دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق. وكانت هذه الخانات المنتشرة على طرق الحرير من تركيا إلى الصين توفّر فرصة دائمة للتجار لكي يستمتعوا بالطعام وينالوا قسطاً من الراحة ويستعدوا بأمان لمواصلة رحلتهم، ولكي يتبادلوا البضائع ويتاجروا في الأسواق المحلية ويشتروا المنتجات المحلية ويلتقوا بغيرهم من التجار المسافرين أيضاً، مما يتيح لهم التفاعل مع ممثلي ثقافات وأديان وأفكار متنوعة. .
ومع مرور الوقت، تطورت الطرق التجارية وتنامت أرباحها لتزداد بذلك الحاجة إلى خانات القوافل، فتسارعت عملية تشييدها في شتى مناطق آسيا الوسطى بدءاً من القرن العاشر حتى مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت من الصين إلى شبه القارة الهندية وإيران والقوقاز وتركيا وحتى إلى شمال أفريقيا وروسيا وأوروبا الشرقية ولا يزال العديد من هذه الخانات قائماً حتى يومنا هذا.
وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن يضطر التجار (وحمولاتهم الثمينة على وجه التحديد) لأن يبيتوا في العراء عدة أيام أو ليال ويكونوا بذلك عرضة لمخاطر الطريق. وأدى ذلك في المتوسط إلى بناء خان كل 30 إلى 40 كيلومتراً في المناطق المخدومة بشكل جيد.
وكان التجار البحارة يواجهون تحديات متعددة أثناء رحلاتهم الطويلة. وعزّز تطور تقنية الملاحة ولا سيما المعارف المتعلقة ببناء البواخر من سلامة الرحلات البحرية خلال القرون الوسطى. وأنشئت الموانئ على السواحل التي تقطعها هذه المسالك التجارية البحرية، ما وفّر فرصاً حيوية للتجار لبيع حمولاتهم وتفريغها وللتزوّد بالمياه العذبة، علماً بأن إحدى المخاطر الكبرى التي واجهها البحارة في القرون الوسطى هو النقص في مياه الشرب. وكانت جميع البواخر التجارية التي تعبر طرق الحرير البحرية معرضة لخطر آخر هو هجوم القراصنة لأن حمولاتها الباهظة الثمن جعلتها أهدافاً مرغوبة من عصابات القرصنة البحرية.

العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقية
العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقي

إرث حضاري
في القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طريق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في عيش مغامراتهم الشخصية وتسجيل وقائعها. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان في غرب الصين، تحديداً في منطقة تُعرف الآن بإسم شينجيانغ، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.
وما زالت العديد من المباني والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانئ والمدن، إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة المترابطة رغم اختلافها التي نمت طوال آلاف السنين في موازاة تطور التجارة. فلم يولّد مرور التجار والمسافرين على اختلاف جنسياتهم تبادلاً تجارياً فحسب وإنما ولّد أيضاً على نطاق واسع عملية تفاعل ثقافي مستمر. وعليه، تطورت طريق الحرير بعد أولى رحلاتها الاستكشافية لتغدو قوة دافعة حفّزت على تكوين شتى المجتمعات القاطنة في المنطقة الأوروبية -الآسيوية وما يتعداهما.

المؤرخ حافظ ابو مصلح

ذِكرى المؤرّخ والأديب والشاعر

حافــظ أبــو مصلــــح
مكتبــة فــي رجــــل

أكثر ما يدهش في الإرث الفكري والأدبي للمفكر الراحل الشيخ حافظ أبو مصلح هو تلك الغزارة وذلك الثراء الكبير في إنتاجه الذي امتد على مدى يزيد على النصف قرن وشمل في مواضيعه التاريخ والتأمل الروحي والفلسفي والأدب والقصة والشعر والترجمة حتى يصح القول فيه إنه كان مكتبة في رجل، وقد كان بسبب سخائه في العطاء وفي الكتابة من تلك القلّة النادرة من كتَّاب وجدوا لكي يكتبوا وهو الذي لم ير نفسه إلا في الكتابة التي كانت أنيسة روحه ورفيقة حياته، كأنني به من تلك الفئة من الخلاقين الذين تنطبق عليهم حقيقة إن لم تكتب تموت! هو الذي كان يردّد على مسامعنا أن الكتابة هي الهواء لرئتيه ونبضات قلبه، وأنه إن توقّف عن الكتابة فسيشعر بدنوّ الأَجَل.

عندما جفّ الحبر
كم كان صادقاً في ذلك القول لأنه وفي الفترة الأخيرة التي بدأت فيها صحته بالتدهور، وبدأت الآلام والعمليات الجراحية تدهم جسده النحيل، ولم يعد لديه الوقت والقوة على الكتابة، بدأ يشعر بأن العدّ العكسي بدأ فعلاً، وقد تسلل الموت إلى قلمه ونبض وجوده قبل أن يأتي على جسده وقد ترافق انقطاعه عن الكتابة أو عجزه عن القيام بواجباتها بتراجع متسارع في صحته عجّل في انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
رغم ذلك، لم يودّع حافظ أبو مصلح هذه الدنيا إلا قرير العين بسبب القدر الكبير من التكريم والتقدير اللذين حظي بهما على الدوام من مقدري أدبه وفكره، وقد أوفاه محبوه بعض حقه وهو على قيد الحياة عندما قاموا بتكريمه في احتفال كبير دعت إليه اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بتاريخ 6 أيلول 2013، في بيت اليتيم الدرزي في عبيه، تكلّم فيه السادة الشيخ سامي أبي المنى، والمؤرّخ ناظم نعمة، والأستاذ سماح أبو رسلان، والناقد والأديب سلمان زين الدين، والمكرَّم الشيخ حافظ أبو مصلح. وقد قدّم المتكلّمين د. صالح زهر الدين. وكان للتكريم يومها وقع في قلب الفقيد رغم أنه لفرط تواضعه لم يكن من المهتمين بحفلات التكريم والظهور في الإعلام.
فمن هو حافظ أبو مصلح؟ وماذا عن إنتاجه الفكري والتاريخي والمعرفي وإبداعاته في ميدان الكتابة على اختلافها؟

طفولة يتم وشوق للعلم
ولد الشيخ حافظ أبو مصلح في بلدة عين كسور سنة 1930 وعاش منذ طفولته يتيم الأب إذ توفي والده وهو إبن عامين فتولّت والدته تربيته مع أخيه الأكبر كمال. تلقى علومه الأولى في مدرسة الداوودية في عبيه، وتتلمذ على يدي أخيه كمال وعمّه هاني أبو مصلح، ثم تابع دراسته في مدرسة الليسيه الفرنسية (اللاييك) في بيروت، وبدأ مسيرته التربوية باكراً، عندما درَّس أولاً في مدرسة وادي الرطل (الهرمل)، ثم في لبّايا والعقبة وينطا في البقاع، كما درّس أيضاً في مزرعة الشوف سنة 1956.
كان من مؤسسي مدرسة البنّيه في الشحّار الغربي عام 1957 وكان المدرّس الأوحد فيها، ثم بدأ بتوسيعها وتطويرها إلى أن أصبحت مدرسة متوسطة تمنح شهادة البريفيه، وبقي مدرساً في مدرسة البنّيه لمدّة 22 سنة.
نُقل إلى تعاونية موظفي الدولة في بيروت، وفي سنة 1989 عمل على فتح فرع لتعاونية موظفي الدولة في بيت الدين-الشوف، وبقي فيها الى حين إحالته على التقاعد عام 1993، حيث كان رئيس الفرع.
عمل رئيس تحرير لمجلة “الرؤية” سنة 1990 وكتب في مجلات: “الحداثة” و“الأماني” و“الضحى”، وتمّ تكريمه في الرابطة الثقافية في البنّيه عام 2002.
توفّاه الله بعد 9 أشهر من تكريمه الأخير، وذلك في 7 حزيران 2014.

أحد مؤلفاته
أحد مؤلفاته

قلمـــــــــــــــــي أَبَيْتُ بــــــــــــأن يدوِّن مــــــــــــا اشتــــهــــــــــــى إلا إذا كــــــــــــــــان الــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدادُ مُحَـــــــــــــــــــرَّراً
وخشيت وخز العلم، إنْ شطَّ الهوى فســـــكبتُ روحي للحقيــــــــــــقة أســـطرا

حافظ أبو مصلح

إهتمامه بالتاريخ
كان لحافظ أبو مصلح ميل خاص إلى التاريخ، لذلك كان أكثر من نصف نتاجه الفكري في حقل التاريخ. وفي كثير من لقاءاتنا المتكرّرة كان يشدّد على أهميّة كتابة تاريخ القرى، وينصح كل باحث أن يكتب عن تاريخ قريته خوفاً على هذا التاريخ من الضياع، وفي هذا المجال، يؤكّد الباحث نديم الدبيسي قائلاً بأن الشيخ حافظ أشار عليّ بكتابة تاريخ قريتي مرستي، وقال لي:
“في كلّ قرية ولو صغرت، مادّة تاريخيّة تستحقّ الدراسة. لا فوقيّة في التاريخ، ولا إقطاعية فيه. يتساوى عند المؤرّخ الصّادق ما يحمله المزارع والعامل في الأرض، مع ما يتبجح به صاحب الأطيان والمزارع الكبيرة. فالأرض وجه الإنسان، أو إذا شئت الإنسان وجه أرضه”.
وقال فيه صديقه الراحل الدكتور سامي مكارم: “إن حافظ أبو مصلح، صفا أدبه، وصدق تاريخه، طيب القلب والعشرة، صديق ورفيق”، كما كان “أميناً في دراسة كتب التاريخ، رائعاً بأدبه وشعره” – حسب قول المؤرّخ ناظم نعمه.
وقال فيه الدكتور توفيق توما: “ شرب من ينابيع لبنان، وتنشق ربى جبله، فصفا أدبه وصحّ تاريخه واشتهرت قصصه”…
ولعلّ الشيخ حافظ أبو مصلح نفسه يوضح مسألة البحث في التاريخ وحقيقته بقوله: “ما دَفَعني في الحقيقة إلى هذا العمل المضني الشاق، هو ما وجدته من إهمال في كتابة التاريخ عندنا، ومن تزوير فاضح روّجته السياسة، ومن تغاضٍ مقصود ستراً لحقيقة، ومن أقلام كان همَّها إسترضاء بعض الفئات طلباً لمكسب، ومن دعاية مأجورة كان القصد منها سعياً وراء مغنم. وإنني حاولت أن أكون نزيهاً وصادقاً في نقل الحقائق، لا يحدوني ميل ولا يشدّني غرض ولا تستهويني شهرة. كان همّي أن أعطي أصحاب الحق حقّهم من التاريخ..” (من مقدمة “تاريخ عين كسور”)…
المؤرّخ التوحيدي
من ناحية أخرى، ونظراً إلى الترابط العميق والعلاقة الوثيقة بين التاريخ والتراث الإنساني، ومعرفة حافظ أبو مصلح لذلك معرفة دقيقة، فقد جاء تاريخه الإنساني مترابطاً بين الأرض والعشيرة، تماماً مثلما هو الحال بين الإنسان المعروفيّ الدرزيّ الموحّد وبين قريته وأرضه وجبله ووطنه. وعلى هذا الأساس يبرز حافظ أبو مصلح معروفياً أصيلاً، وقد جاءت مؤلفاته عن طائفة الموحدين الدروز وخلواتها وأضرحتها وتاريخها، تأكيداً على التزامه بمجتمعه والتصاقه بقيم التوحيد والتاريخ الحافل للموحدين ومحطات المجد التي لم تنقطع في مسيرتهم. وقد عبّر عن ذلك خير تعبير المؤرّخ الكبير يوسف ابراهيم يزبك الذي قال فيه: “أرّخ حافظ أبو مصلح عن الدروز بحسٍّ وطنيّ وصدق تاريخي وأمانة أخلاقية عالية”.
أما المؤرّخ ناظم نعمة فقد قال: “إكتشفت بالشيخ حافظ تأصّله العميق بعقيدته التوحيديّة وزهده اللامتناهي عن متاع هذه الأرض، فهو لا يبغي سوى مرضاة ربّه في كلّ ما كتب ويكتب. أليست رسالة التوحيد زهداً وتقشّفاً وانصرافاً عن مباهج الدنيا، والتمسّك بالفضائل الأخلاقية والإنسانيّة؟”…

أمانة فكرية ودِقَّة
يعتبر حافظ أبو مصلح من نخبة البحّاثة الموحّدين الذين جعلوا همهم الحفاظ على التراث الغني والمشرف لهذه الطائفة العريقة بعاداتها وقيمها وتقاليدها وأصالتها وقيمها العربية والإسلامية. لقد كان باحثاً ومنقّباً في مختلف الأماكن المعروفة، وغير المعروفة منها، ليستقي معلوماته من الينابيع الأصلية حرصاً على الصدق في الرواية والدقة في سرد الوقائع، وهذه من صفات الباحث والمؤرّخ الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين. وقد قام المؤرخ والمفكر أبو مصلح بزيارات وجولات في العديد من القرى والأماكن الدرزية أنفق في تلك الجولات قدراً كبيراً من الوقت والجهد والدراسة حتى أصبح بسبب ما جمعه وحققه خزَّان معرفة، ومستودع ثقافة ومعرفة في الشأن التاريخي والاجتماعي الدرزي.
كما يتميّز المخزون الفكري المنشور لحافظ أبو مصلح في غناه وسعته وتنوّعه ومعاصرته، غير انّ حصّة مجتمعه التوحيدي من مؤلفاته كانت وفيرة إلى حدٍّ أنها شملت بصورة كليّة أو جزئية كل كتب التاريخ الثمانية والعشرين التي نشرها، وخمسة من كتب الشعر، وثلاثة من القصص، واثنين من كتب الترجمة، وهذا ما يفوق الـ 70% من إنتاجه الفكري من الكتب.

حصاد ثقافي ضخم
ويكفي أن نلقي نظرة على هذا التراث الفكري التاريخي التوحيدي الذي أنتجه الشيخ حافظ أبو مصلح، لنرى كم كان هذا الأديب ثروة إنسانية حقاً، وهذه لائحة بعناوين هذه المؤلفات التاريخية (التي أعيد طباعة بعضها مرات عدّة):
1. في التاريخ
واقع الدروز وتاريخ دير القمر، تاريخ القرى، تاريخ الدروز في بيروت، تاريخ الدروز في بيروت وعلاقتهم بطوائفها.التنوخيون تاريخ وحضارة (بالإشتراك مع الأستاذ أنيس يحيى)، تاريخ قبرشمون، تاريخ عين كسور، تاريخ البنّيه، تاريخ جسر القاضي، تاريخ عين درافيل، تاريخ ديركوشة، ثوار على الإنتداب.
2. في الإيمان والتوحيد
درّة التاج وسلّم المعراج، الدروز فلسفة ومفاهيم، خلوات القطالب، حسن المآب لمن آمن واستجاب، نور الحكمة سلوك الأجاويد، الظاهر الخفيّ.
2. تأملات في الحياة
أيّها الإنسان: تمهّل، وعادت الأرض، جنّة الأموات، شرح ما يلزم، جهجاه لو عرفته، رسائل الحب، أساطير من لبنان، الستّ جندلة.
حافظ أبو مصلح والترجمة
كان الشيخ حافظ مترجماً ولاسيّما من اللغة الفرنسية إلى العربية، ومن ترجماته على سبيل المثال:
1. “ثورة الدروز وتمرّد دمشق” تأليف الجنرال الفرنسي أندريا Andria- (أعيد طبعه أربع مرات)
2. “الدولة الدرزية” (أعيد طبعه ثلاث مرات)
3. “الأم” لمكسيم غوركي
4. مدام بوفاري
5. رسائل من طاحونتي
6. من الأرض إلى القمر
7. مرتفعات وذرنج
8. قصة حب
9. كيف تكتب الرسالة

حافظ أبو مصلح القاصّ والشاعر
بقدر ما كان مؤرّخاً وموحّداً ومترجماً، فقد كان حافظ أبو مصلح أيضاً قاصاً وشاعراً. وقد قدّم الشاعرُ العربيُّ الفلسطينيُّ الراحل سميح القاسم لكتاب حافظ أبو مصلح “قصائد منمنمة”… وكتب رئيف خوري عن حافظ أبو مصلح بأنه “قصّاصٌ لامع، ولاسيّما في قصّته سيليستا اللبنانية”… أما الدكتور العلاّمة أسعد علي قال عنه بأنّه “روائي لامع. باكورته “ومعي أمي” تنمّ عن قدرته الأدبية ورفعة أسلوبه القصصي.. إياك أن تتوقّف عن الكتابة”… وكذلك الحال مع الدكتور (اللغوي المعروف) أحمد حاطوم الذي قال إن “كتاب “ومعي أمي” فرضت قراءته على ولدي. إنّه كتاب يجب أن يقرأه جميع الأبناء والبنات”.
ومن أهم ما كتب حافظ أبو مصلح في “القصة” ما يلي: 1- ومعي أمي، 2- مدى العمر، 3- دوّامة القدر، 4- سيليستا اللبنانية، 5- على طريق المطار، 6- العسل الكذوب،7- وداعاً أيّها التراب، 8- المقهى المظلم، 9- أحرقوا المدينة.
أما في “الشعر”، فله: 1- سنابل الستين، 2- أزهار كانون الأول، 3- مصفاة النغم، 4- ظلال الروح، 5- قصائد متحرّرة، 6- نفحات شعريّة، 7- وثار الصّمت، 8- قصائد الألفين، 9- قصائد منمنمة (قدّم له الشاعر سميح القاسم).

من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع
من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع

حافظ أبو مصلح، سلاحه قلم وورقة
وكتاب وإيمان
يكفي حافظ أبو مصلح الفخر، أنّه أعطى – ولم يأخذ-، أعطى عصارة فكره ودماغه وقلبه، وما اختزنه العقل من معارف وعلوم، وما جادت به القريحةُ من شعر، وما فجّر وجدانه من أدب إجتماعي وروحي، لكي يفتّح عقولاً على كنوز معرفيّة ثمينة… كما رسّخ قناعتنا بأن عَظَمَة الإنسان لا تكمن في ما يكتنزه من ذهب وفضّة، بل مما يختزنه من أدب وعلم وإنسانيّة وعطاء معرفيّ، يقوّم السلوك، ويهذّب النفوس، ويقوّم الإعوجاج – على أنواعه- في سبيل المجتمع الإنساني وأنسنة المجتمع. ولهذا نرى الشيخ حافظ يقول: أنا لا أملك مالاً ولا ثروة نقدية، ولا قصوراً، ولا عقارات… بل أملك فكراً وقلماً أغنى من كل هذه الثروات.
قد بتُّ أغنى من يروحُ ويغتدي فغنى حروفي ثـــــــــروةٌ من عَسْجَدِ
إني أموت بـــــــــــــحرقتي إنْ لم تَكُنْ فـــــــــــي منزلي كتبٌ تُنَوِّرُ لــــــــــــي غدي

في ضوء ذلك، يكفي حافظ أبو مصلح لقب “المؤرّخ الأديب”، حيث يجمع فيه الكلّ إلى الجزء، وإنك إذا دعيت يوماً إلى مائدته المزدانة بالأفكار والصور الرائعة، فإنك ستشبع العقل والوجدان من أطايب شعره وأدبه وتاريخه ولن تشعر مع ذلك بالشبع بل ستطلب المزيد. كذلك الحال في حديقته وعرائشها التي هي من حكمة الدهور وتجارب الزمن، وليست هناك ثمرة في هذا الكون أشهى من ثمرة شجرة المعرفة.
هذا، وبما أن حافظ أبو مصلح كان يتميّز بالصمت وقلّة الكلام أحياناً، لذلك قال عنه أخوه عالِمُ اللغة المرحوم كمال أبو مصلح، إن“حافظ أبو مصلح صَمْتُهُ مدوٍّ، لذلك تراه قليل الكلام”.
لقد كتب حافظ أبو مصلح في الأدب والشعر وفي التاريخ وعن التاريخ، ونقَّب في بطون الخزائن والوثائق بحثاً عن الواقعة الصحيحة وإرضاء لاستقامته الفكرية، لذلك، فإن التاريخ سينصفه كما سينصفه المؤرخون اعترافاً بأمانته وموضوعيته وتقديراً لشخصيته المتنوعة الصادقة المفعمة حباً صادقاً للإنسان من دون تمييز أو إستثناء من أي نوع.

الوسط الأدبي والفكري
يكرِّم ذكرى حافظ أبو مصلح

شهدت قاعة آل أبو مصلح في عين كسور، نهار السبت الواقع فيه 19/9/2015 احتفالاً شعبياً وأدبياً حاشداً كان موضوعه تكريم الكاتب والمفكر وتحدّث في هذه المناسبة كلّ من المؤرخ حافظ أبو مصلح، وقد تحدث فيه كل من الشيخ سامي أبي المنى، والأستاذ سلمان زين الدين، ود. صالح زهر الدين، والأستاذ أنيس يحيى، والأستاذ سماح أبو رسلان، والأستاذ نديم الدبيسي، وأسامة حافظ أبو مصلح عن آل الفقيد، وكان عريف الحفل المهندس الأستاذ كمال فخر.
وقد جاء في كلمة الشيخ سامي أبي المنى قوله: “كأني بالشيخ حافظ حكيماً واعظاً مؤمناً بأنّ أمر الله عدل وتخيير، وأن نهيه عظة وتحذير، طالما أنّ للإنسان عقلاً مميّزاً، معلناً “أنّ لا راحة للإنسان في السماء إن أهمل راحته في الأرض”، أي لا راحة لمن تعجَّل الراحة، على ما يقول الأمير السيد (ق)، ومن يهمل تحصيل زاده الروحي في الدنيا، فكيف له أن يتّقي جوع الآخرة.
وألقى الأستاذ سلمان زين الدين قصيدة عنوانها “إياب” مهداة إلى الشيخ حافظ أبو مصلح. واستذكر الدكتور صالح زهر الدين صداقته مع المرحوم حافظ تجاوزت الثلاثين عاماً وتجسّدت فيها قرابة الحبر في أسمى معانيها، حتى غدت أقوى من قرابة الدم.
وذكر الأستاذ أنيس يحيى كيف أن حافظ أبو مصلح “كان يشعر بالإرتواء عند صدور واحد من كتبه” لكن هذا الإرتواء لا يكتمل ويصبح الظمأ ملحّاً من جديد”. وقال الأستاذ سماح أبو رسلان إن ما قاله وكتبه يصلح لكلّ آن وأين، لذلك ستبقى يا حافظ في ضمير أهل الأدب إسماً، وفي دقّات القلوب وتراً، وفي محافل الشعراء نجماً، وفي قلب التاريخ بدراً”.
وذكر الأستاذ نديم الدبيسي أن منزل الفقيد في عين كسور “كان أشبه بنادٍ ثقافيّ، يلتقي فيه من حين إلى آخر وبفترات متقاربة، أصدقاء، أدباء وشعراء ومؤرّخون، يتباحثون في مختلف الأمور، فكان يستقبلهم بإبتسامته الحانية، وعينيه التي تسبق الشفاه في التعبير وقول الحق، وكذلك عقيلته السيدة أحلام التي نكنّ لها كل التقدير والاحترام”.
وكانت كلمة الختام لآل الفقيد، وقد ألقاها ولده أسامة أبو مصلح شاكراً فيها جميع الأصدقاء المتكلمين والحاضرين والراعين للحفل.
وفي الختام تمّ توزيع كتابه الأخير “أيّها الإنسان تمهّل” على الحضور.

الفـارس الآتي مـن بـاريـس

هــــــــــوَى الفـــــارس الآتــي من بـاريــــــــس

الشاعر والأديب والكاتب الأستاذ أحمـد منصور، مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في مدينة الشويفات، هـوى مـن على منبـر المكتبة الوطنية في بعقلين، بتاريخ 26/9/2015، أثناء إلقائه كلمة، خلال اللقاء الثقافي للمثقفين والهيئات الثقافية، الذي عقـد في المكتبة الوطنية في التاريخ المذكـور حيث أصيب بعارض صحّي مفاجئ فسـقط أرضاً وما لبث أن فـارق الحيـاة.
ولـد الأستاذ أحمـد منصور سنة 1942، في بلدتـه حاصبيا الجنوبية، وهـو ينتمي إلى عائلة “الكاخي” في البلدة المذكورة. تلقّى دراسته الإبتدائية والتكميلية في مدارسها، والثانوية في مدارس مختلفة، ثـم سافر إلى القاهرة ونال شهادة التعليم الثانوي.
وفي سنة 1967، غادر إلى باريس وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة السوربون لمتابعة دراسته الجامعية، وعمـل في التعليم والترجمة ونظم الشعر، ونشر المقالات الصحفية، وأنشأ مكتبة خاصّة حـوت مئات الكتب والوثائق والمجلّدات.
عـاد إلى لبنان، وكان قـد تـمّ إنشاء مكتبة عامّـة في مدينة الشويفات، أطلق عليها “ مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية”. عيّـن الأستاذ أحمـد مـديراً للمكتبة، فقام بنقل جميع محتويات مكتبته الخاصة من باريس إلى لبنان وقـدّمها هبـة إلى مكتبة الأمير شكيب المذكورة.
خلّـف الأستاذ أحمد منصور إرثاً ثقافياً ضخماً في الشعر والنثر، باللغتين العربية والفرنسية، منها:

1. باللغـة الفرنسيـة:
قاموس السبيل، لاروس، (تصحيح ومراجعة) – ودراسة حول البنية العروضية “كتاب الحب” شعـر نـزار قباني – وديـوان شعـر.

2. باللغـة العربية:
عشـرة دوادين شعـرية منشورة، وثمانية دواوين شعرية غير منشورة وجاهزة للنشر، منها ديوان شعري باللغة العامية وثلاثة كتب نثرية جاهزة للنشر أيضاً، بالإضافة إلى مئات المقالات والقصائد نشرت في صحف: الأهرام “مصر” – القدس العربي “لندن”- الإتحاد الإشتراكي
“ المغرب”- وثماني صحف ومجلات لبنانية في بيروت.
بـدأ الأستاذ أحمـد منصور بنظم الشعر صغيراً. هـو والشعر تـؤمان، يتفاعلان ويتلاحمان، فكلاهما واحـد الشاعـر والموهبـة. شعـره عميق الجـذور. يأخـذ من القلب حنينه إلى الجمال، ومـن العقل توقـه إلى الحقيقـة. مـن يقـرأه، يـرى إبداعه في سبك العبارات وصقلها ووزنها، وفي تصوير المعاني، والتحليق في الخيال والحكمة. يـوقن أن البلاغة لـم تخـلق خلقـاً ولا تصنع صنعاً، إنها تركيب دقيـق يعمل فيـه الشاعـر والطبيعـة.
في ديوانـه “مـدار الشمس”. يبدأ بذكر المعلّم كمال جنبلاط، شهيد المستحيل. ص 16
إرتجـــــــف الكــــــونُ نجـومــــــــــاً وجبـــــــــــــالا وجبيـنُ الشمس كالفحـم اسـتحالا
والسّـمــــــا انشقّــــــت بــــــزلـــــــزال هــــــــــــــــــــــوى في مـداه الشّـهبُ سـحبٌ تتعـالى
هـــــــــــــــــــل همـــــــت فــــــي بــــــعلبـك عـمــــــــــــــــــــــــــــــدٌ أم همـى “صنّين” في البحر وسالا
ألف أدهى..صرخوا..قلت إذن جنـدل الأوباش في الشـرق الهلالا

وفي ديوانـه “ حبّة من تراب غـزّة” يقـول: ص 48
أطفـال غـزّة والحـرائق أعيني
كبـدي لظـى .. نبضُ الفـؤاد جِـمارُ
أشـبال غـزّة صـولة في أمّـة
حِمـمٌ تهـبّ وطِيسـُها قهّـار.
أحمـد منصور شاعـر طليعيّ بارع، ورائـد نهضة، ومن المجـدّدين في الشعر. كما بلنـد الحيدري، ومحمـد الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، ومحمد علي شمس الدين، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، وأدونيـس، وأنسي الحاج وغيرهـم، الذين نجحـوا في تلقيح الشعـر بـدم التجديـد، النابـع من صـدق المعاناة لقضايا العصر الذي عايشـوه، والإنفتاح على ثقافات الغرب.
رحـل الأستاذ أحمـد منصور، لكنه باقٍ في ذاكرتنا وفي ضميرنا. رحمه اللـه.
8/10/2015

معرض الكتاب

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب
تظاهـرة للكتــاب المطبــوع في عصــر النشــر الإلكترونــي

حفلات توقيع ولقاءات والسياسيون خطفوا الأضواء
العالم العربي الأكثر تأخراً في إصدار الكتب والترجمات

إنتاج-غزير-فأين-القراء
إنتاج-غزير-فأين-القراء

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب نظّم دورته الثامنة والخمسين في البيال في تظاهرة مناصرة للكتاب المطبوع تؤكد أنه ما زال موجوداً بيننا رغم ثورة المعلومات وتقنيات النشر الإلكتروني والكتب الإلكترونية وغيرها. لا يعني ذلك أن الكتاب في صحة جيدة، فهناك عوامل كثيرة تضافرت لتضعف من أهميته ومن اهتمام القرّاء أهمها بالتأكيد ثورة المعلومات والميديا والدور الخطير للصحافة المرئية – والآن الصحافة الإلكترونية- وقد احتلت شاشات الـ LED العريضة أو الكمبيوتر المحمول أو الآيباد مكان المكتبات في البيوت وأخذت الصوفا المريحة مكان الكرسي والمكتب واسترخى الناس في مقاعد النظارة وأهملوا تقليد التفكر والتأمل الهادئ في مجريات السياسة والأدب والحياة.

صمود قلعة ثقافية
يستمر معرض بيروت للكتاب بالطبع بسبب وجود جمهوره -المتناقص سنة بعد سنة- وربما بسبب صمود العديد من دور النشر في الميدان والتي لم تضعف معنوياتها بسبب تراجع إقبال القرّاء. إلى أي حد أثّر النشر الإلكتروني على النشر الورقي؟ أثر كثيراً ولاشك وهناك مجلات عريقة عدة قررت وقف طباعة نسختها الورقية والإكتفاء بنسختها الإلكترونية التي يمكن قراءتها Online وهذه الكلمة (أونلاين) هي اليوم الأكثر تردداً في العالم وهي تلخص حجم الثورة التي اجتاحت الكتاب والمعلومة الورقية. وقد أصدرت عدة شركات صانعة نسخاً مختلفة من الكتاب الإلكتروني وبعضها أعطى مواصفات الكتاب بحيث يتم «تصفحه» على طريقة الكتاب وبعض هذه الأجهزة تضم ما لا يعدّ ولا يحصى من المؤلفات الكلاسيكية ربما ما يمكن أن يملأ مكتبة أو دار كتب في جهاز لا يزيد وزنه على 300 غرام.
معرض بيروت للكتاب الذي افتتحه الرئيس تمام سلام بكلمة حيّا فيها الثقافة وصناعة الكتاب صامد في موقع الدفاع عن الكتاب المنشور الملموس الذي يمكن اصطحابه إلى أي مكان وتلمسه وتأمل صفحاته ليكون فعلاً خير جليس وليكون أيضاً رمزاً لاستمرار الأصالة في زمن الحداثة الزاحفة مثل تسونامي لا يتوقف. لكن الخطر على الكتاب لا يأتي فقط من ثورات التكنولوجيا بل هو يهجم الآن من باب الظلامية الزاحفة على أكثر من جبهة. أول القرارات التي اتخذتها بعض الجماعات التكفيرية كانت إلغاء الجامعات ودراسة التاريخ باعتبارها من تأثير عالم الكفر. ما الذي سيأتي بعد؟ كيف نتخيل ازدهار الكتاب من دون حرية التفكير والاعتقاد والتسامح مع الآخر المختلف؟

الكتاب في وجه الإرهاب
رئيسة اتحاد الناشرين سميرة عاصي لمحت الخطر في كلمة اعتبرت فيها الكتاب والكلمة سلاحاً ماضياً في مقاومة الإرهاب والمد الرجعي الزاحف، بينما أكّد رئيس النادي الثقافي العربي سميح البابا أن المعرض يتابع رسالته في ترويج الثقافة والإبداع بعيداً عن أي غايات تجارية. بعض الناشرين تحدثوا عن سرورهم لاستمرار المعرض في استقبال الإنتاج الجديد لكن كثيرين ألمحوا إلى أنهم تعرّضوا لخسائر كبيرة نتيجة الأوضاع العربية التي خلقت خطوط تماس وقطعت أواصر المنطقة وشردت الملايين بحيث أصبح الكتاب في آخر الاهتمامات أمام همّ الأمن وكسب الرزق بل ومجرد تأمين البقاء. وقد شاركت هذا العام كالمعتاد دور النشر من عدة دول في المعرض الذي يعتبر مقصداً لشركات التوزيع وشركات تسويق الكتاب في المنطقة قبل أن يكون سوقاً لقرّاء الكتب الجديدة، لكن الميزة الأهم في المعرض هي حفلات توقيع الإصدارات الجديدة التي تتحول أحياناً إلى حفلات استقبال مصغرة ولقاءات حميمة بين المؤلف وجمهوره مما يضفي على المناسبة جواً اجتماعياً ويوفّر مناسبة نادرة للقاء بالمؤلفين ومنهم شخصيات سياسية وفكرية.

كتب أثارت الاهتمام
من الكتب التي استقطبت الاهتمام هذا العام كتاب «حزب الله والدولة» للنائب حسن فضل الله (الطبعة الثانية للعام 2014) وكتاب «داعش وأخواتها» لمحمد علوش وكتاب «إسرائيل إلى الأقصى» للنائب غازي العريضي وكتاب «الحوثيون واليمن»، للدكتور سعود المولى.
من الكتب الدينية «إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية» تأليف الشيخ عبد الله الهرري وكتاب «وهل الدين الا الحب؟» للشيخ حسين الخشن، من مكتبة السيد محمد حسين فضل الله و كتاب «مركبات التفكير ومناهج البحث العلمي»، لزكي حسين جمعة وكتاب «سيكولوجية الجماهير»، غوستاف لو بون، ترجمة هاشم صالح. وفي الشعر، لفت كتاب «عليك اللهفة «للكاتبة أحلام مستغانمي، و«خربشات على جدران الزمان» لحسان خشفة و«صلاة لبداية الصقيع»، لعباس بيضون. ومن الروايات التي عرضت هذا العام «شخص آخر» لنيرمين الخنسا و «خلف العتمة» لسليم اللوزي و«برتقال مر» لبسمة الخطيب. وصدر في الأدب كتاب « قهوجيات» لغازي قهوجي و«انا الغريب هناك» لزاهر العريضي. وفي كتب السير والتراجم «بعدك على بالي»، لطلال شتوي و«السيد هاني فحص» لهاني فحص وكتاب «الست نظيرة جنبلاط» لكاتبه شوكت اشتي.
من كتب التاريخ والحضارات «العرب والتحديات الحضارية» لاحمد ابو ملحم وكتاب «تاريخ لبنان الحديث» لفواز طرابلسي (طبعة رابعة) وكتاب «تاريخ جبل عامل» لمحمد جابر آل صفا. وتضمّن المعرض أجنحة لكتب العلوم والطبخ وكتب الأطفال والكتب التراثية والتاريخية.

مؤلفون وقعوا كتبهم
«الضحى» لبت دعوات اربعة من المؤلفين الكرام الذين وقعوا كتبهم في هذا الموسم، هم الوزير غازي العريضي والقاضي غسان رباح والدكتور ناصر زيدان وعائلة الدكتور عباس أبو صالح.
النائب غازي العريضي وقّع كتابه الأخير بعنوان «إسرائيل الى الأقصى» في جناح الدار العربية للعلوم في حضور العديد من الشخصيات السياسية والثقافية والعسكرية والإجتماعية، ويأتي هذا التوقيع بعد سلسلة من الكتب السياسية أهمها أخيراً «العرب بين التغيير والفوضى»، «عرب بلا قضية»، «فلسطين حق لن يموت»، و«ادارة الارهاب». كتاب «اسرائيل الى الأقصى» هو مجموعة مقالات في 278 صفحة من إصدار الدار العربية للعلوم -ناشرون.
الدكتور ناصر زيدان وقّع كتابه الجديد بعنوان «قضايا عربية ودولية ساخنة 2010- 2014 » في جناح الدار العربية للعلوم- ناشرون، في حضور شخصيات سياسية وثقافية واساتذة جامعيين ومُهتمين، يقع الكتاب في 320 صفحة، يتناول أهم الأحداث العربية والدولية ولاسيما منها الانتفاضات العربية، والصراع الدولي، خصوصاً حول أوكرانيا.
عائلة المغفور له الدكتور عباس بو صالح وقّعت كتاب «أبحاث في التاريخ السياسي والاجتماعي للموحدين الدروز»، قدّم الدكتور محمد شيا هذا العمل الأكاديمي الذي تدور أبحاثه حول دور الموحدين الدروز في حماية الثغور العربية والإسلامية في مواجهة الغزوات الخارجية ويوضح دورهم العربي والوطني في مجابهة مشاريع تجزئة المنطقة والسيطرة عليها، وتمسكهم بكيان لبنان المستقل من دون دمجه كلياً أو جزئياً، ومشاركة الدروز، خصوصاً في «معركة المالكية» التي أسفرت عن نصرٍ عسكريٍّ على الدولة الصهيونية «على الرغم من إمكانات الجيش المتواضعة»، وأهمية تمسك دروز فلسطين بأرضهم.
القاضي الدكتور غسان رباح، وفي حضور جمهور متنوع وقّع كتابه «في ثقافة القانون وقضايا المجتمع»، وهو مجموعة من ست وعشرين بحثاً ومشروع قانون في نحو 695 صفحة، تتناول قضايا حقوقية مختلفة كالمواطنة والأحداث والسجون والبيئة والمخدرات والنزاعات المسلحة والرشوة والتمييز العنصري والفساد وغيرها، منها ثلاثة أبحاث باللغة الإنكليزية.

الشاعر القروي

رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)

شاعر الثورة السورية الكبرى

كان مجاهداً بالشعر اللاذع ضد الانتداب الفرنسي
وخلّد بقصائده الرائعة ملامح الموحدين الدروز

عاف التجارة والمال وكرّس حياته وشعره
لاستنهاض العرب للوحدة وقتال المستعمر

إعتبر نفسه مسيحياً ومسلماً وأوصى
بالصلاة على جثمانه من شيخ وكاهن

منع الفرنسيون قصائده فتداولها الناس سراً
وحرموه من جنسيته ومن حق العودة إلى الوطن

يعتبر رشيد سليم الخوري اللبناني المولد الشاعر الأول للقضية العربية وقد منحها كل حياته جهاداً وأدباً وشعراً سواء في وطنه سوريا ولبنان أم في المهجر البرازيلي،وقد كتب القروي بصورة خاصة في حب الأوطان وحب الأرض وأنشد الطبيعة وسحرها كما عبّر عن مواجده وحياته الصعبة وحنينه للوطن في أعذب شعر وأكثر القصائد استثارة للمشاعر ، لكن أكثر ما جعل اسم الشاعر القروي يطير في الآفاق ويصبح رمزاً لمرحلة بكاملها كان ولا شك شعره الوطني المناهض للإستعمار الفرنسي والداعي للوحدة العربية. وبسبب كرهه للإستعمار تلقف الشاعر أحداث الثورة السورية الكبرى في العام 1925 باعتزاز وحماس منقطع النظير، ورغم اغترابه في البرازيل فقد تمكن القروي دوماً من أن يلتقط مغازي تلك الثورة الرائدة ولحظاتها المصيرية وأن يعيش انتصاراتها وآلامها وأن يخلدها في قصائد هي غاية في البلاغة والقوة والحرارة حتى اعتبر رشيد سليم الخوري بحق شاعر الثورة السورية بلا منازع وراعيها وسندها وداعيتها في الوطن والمغتربات.
رغم دوره الكبير في تخليد الثورة السورية الكبرى وفي الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي، فإن أجيالاً بكاملها من الشباب اللبنانيين ربما لم يقرأوا عن الشاعر القروي ربما بسبب إهماله المقصود من البرامج المدرسية ولم يطلعوا بالتالي على قصائده الرائعة خصوصاً تلك التي سطّر فيها أعظم المدائح في المقاتلين الدروز الأبطال وفي قائدهم سلطان باشا الأطرش، وقد كتب القروي بحماس وإعجاب ومحبة عن الموحدين الدروز وأكبر تضحياتهم وكتب بدهشة واعتزاز عن بسالتهم واحتقارهم للموت وإنجازاتهم العظيمة في وجه فرنسا التي كانت ثاني أكبر قوة عظمى في العالم آنذاك. لذلك، ومن أجل سدّ هذا النقص تعرض مجلة «الضحى» في ما يلي سيرة موجزة للشاعر الكبير رشيد سليم الخوري وسنعرض بعدها لأهم القصائد التي نظّمها في الثورة السورية وأبطالها وقائدها سلطان.

سيرة نضالية حافلة
ولد رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) عام 1887 في قرية البربارة الواقعة بالقرب من مدينة جبيل التاريخية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في لبنان، وتلقى تعليمه في بيروت وطرابلس وزحلة وسوق الغرب، واشتغل بعدها في التدريس مدة سبع سنوات. عاش الشاعر الشاب أواخر القرن التاسع عشر ونظم الشعر وهو شاب، وبسبب ذلك كان من بين الألقاب التي أطلقت عليه لقب «شاعر القرنين»، لكن الشاعر القروي عاش في تلك الفترة الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، وكانت حركة الهجرة إلى الأميركيتين قد تسارعت فكانت البواخر ترسو في ميناء بيروت لتنقل المهاجرين من فقراء لبنان وسورية إلى المغتربات في القارات البعيدة، ويبدو أن الشاعر اعتبر أن لا مستقبل له في وطنه فقرر الهجرة إلى البرازيل.
وفي ديوانه الشعري الكبير يصف الشاعر القروي تلك الفترة من حياته فيقول إنه أبحر برفقة أخيه قيصر (سمي في ما بعد «الشاعر المدني» في معارضة لتسمية أخيه)عام 1913 متجهاً إلى البرازيل، وذلك بعد تلقيه دعوة من عمه «اسكندر» القبطان في الجيش البرازيلي مرفق معها المال اللازم للرحلة وكان ذلك قبل سنة من اندلاع الحرب العالمية الأولى وما ستجره من مآس ومجاعات على شعب لبنان.
وصل رشيد سليم الخوري البرازيل سنة 1913 وبدأ كغيره من المهاجرين في تجارة «الكشّة» وهي صندوق يحوي بضائع مختلفة لأغراض المنازل وحاول التجارة في ريو دي جانيرو ثم انتقل إلى ساو باولو لكن التوفيق لم يحالفه فتنقل عندها بين مهن مختلفة منها التعليم في المدارس وفي البيوت ثم في تمثيل بعض المحلات والصناعات في الولايات المتحدة، لكن حياته بقيت عموماً حياة ضنك وعيش كفاف.
وقد يكون أحد أسباب فشل القروي في التجارة أنه شاعر مبدع ومثقف حساس ومتحمس جداً للقضية العربية، فكان لا يترك مناسبة أو تجمعاً للمغتربين دون أن ينبري مستخدماً شعره القوي في الدفاع عن القضية العربية. أخيراً استقر المقام به في مدينة «صنبول» التي كانت مركزاً للثقافة المهجرية في البرازيل، وقد صدرت فيها صحف عربية وأنشئت أندية وأقيمت الحفلات الخيرية والوطنية ومما لا شك فيه أن الشاعر القروي انشغل عن التجارة وجمع المال باعتلاء المنابر للدفاع عن القضية العربية وإلقاء القصائد وجمع التبرعات للمجاهدين في الوطن نتيجة تعلقه الشديد بالعروبة وكرهه للانتداب الفرنسي.
إتهمه بعض المغتربين اللبنانيين بالتنكر لوطنه بسبب ميوله العربية، وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش سنة 1925 وبدأت أنباء انتصارات المقاتلين الدروز تصل إلى المهاجر التهبت حماسة الشاعر القروي الذي نظم أجمل قصائده في مدحها ومدح أبطالها وفي هجاء المستعمر الفرنسي. وقد كان لشعره المتفجر كرامة وكرهاً للمستعمر أثر هائل بحيث أخاف سلطة الانتداب وكانت قصائده النارية تقرأ في السر ويتم تداولها نسخاً بين الناس في ظل الحكم الفرنسي لأن العثور على شعر القروي في يد أي مواطن لبناني أو سوري كان يعتبر جريمة عقوبتها السجن.
أخيراً وبعد أن تعاظمت شهرة الشاعر القروي وتأثيره قررت السلطة المنتدبة ربما بتحريض من بعض الجهات المحلية حرمانه من الجنسية السورية واللبنانية ومن الحق في العودة إلى وطنه، وقد سقطت تلك العقوبة مع استقلال سورية في العام 1943 لكن الشاعر القروي بقي في المهجر متابعاً نشاطه الثقافي في «العصبة الأندلسية» وإنتاجه الشعري إلى أن تحققت الوحدة بين مصر وسوريا في ظل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان لذلك الحدث وقع كبير على الشاعر الذي شهد حلمه بالوحدة العربية يتحقق بين اثنتين من أكبر دول العالم العربي فقرر لذلك العودة إلى سورية ليعيش مرحلة الوحدة ويشارك فيها وكان عندها قد تجاوز السبعين من عمره، وتحققت للقروي أيضاً فرصة اللقاء بسلطان باشا الأطرش البطل العربي الذي طالما نظم القصائد الحماسية في مدحه ومدح رجاله المجاهدين من بني معروف.
عاد القروي الى وطنه بعد خمس وأربعين سنة في يوليو 1958 وأقام في قريته البربارة، ثم عاد أخيراً الى البرازيل وبقي يتردد بين المهجر وبلده لبنان الذي أحبه إلى أن توفاه الله عام 1984 عن عمر قارب
الـ 97 عاماً.
أصدر القروي سبعة دواوين شعرية منها الرشيديات والقرويات والأعاصير واللاميات الثلاث. ثم جمع شعره كله في ديوان كبير سماه «ديوان القروي» ظهر عام 1952م في 926 صفحة من القطع الكبير. وله كتاب بإسم «أدب اللامبالاة» أدب الشماتة والعقوق بـ 32 صفحة من الحجم الصغير، طبعه في سان باولو عام 1957.

الشاعر القروي
الشاعر القروي

وصيته الفريدة
تعتبر الوصية التي اختتم بها الشاعر القروي حياته الحافلة من أبرز الآثار التي تركها وعكست رؤيته الإنسانية الجامعة وتعريفه لنفسه باعتباره ليس مسيحياً فقط بل مسيحياً ومؤمناً بالإسلام وكان هذا في نظر الكثيرين موقف غير مسبوق خصوصاً في لبنان المنقسم طائفياً.
ومما جاء في وصية الشاعر القروي أنه طلب فيها أن يصلي على جثمانه شيخ وكاهن، وأن تقتصر مراسم الجنازة على تلاوة فاتحة القرآن الكريم والصلاة المسيحية، كما طلب أن ينصب على قبره شاهد خشبي متين في رأسه صليب وهلال متعانقان كرمز لتآخي الديانتين الإسلامية والمسيحية في المشرق العربي وعلى سبيل التأكيد من قبل الشاعر على أن المسيحية والإسلام في نظره كلاهما دين سماوي يدعو إلى رب واحد وإلى قيم الإيمان والمحبة والمعروف وأنه لا يجوز أبداً الفصل بينهما بالفرقة والتناحر.

آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق
آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق

الشاعر الناسك
اشتهر عن الشاعر القروي أنه رفض حب امرأة انكليزية تدعى مود وأجابها في بيت شعر جاء فيه:
«حــــرام علي هـــــــواك
وفي وطني صيحة للجهاد!
وقد أعجبه نضال المهاتما غاندي في الهند ودعوته إلى مقاطعة البضائع الانكليزية فقرر أن يحرّم على نفسه لبس الجوخ الانكليزي بعد أن غدرت بريطانيا بالعرب.
ورفض شراء منزل له في البرازيل وقال: إن أمنيتي بعد هذه السن التي بلغتها هي قبر في وطني لا مقر في غربتي.
وعندما اشتدت حاجته إلى المال باع أعز ما يملك: عوده وكتبه. واعتذر عن قبول حـوالة مالية بقيمة 200 جنيه مصري من الشيخ الباقـــوري، وزير الأوقاف المصري، ثم طبع كراساً يحتوي على ثلاث قصائد هي اللاميات الثلاث ورصد ريعها لنصرة فلسطين.

قصائد في مدح الثورة السورية وأبطالها

قضية أدهم خنجر
خرقت السلطة الفرنسية أهم الأعراف العربية في إجارة الملهوف واعتقلوا أدهم خنجر وهو ثائر لبناني جنوبي كان الفرنسيون يلاحقونه لاشتراكه في محاولة قتل الجنرال غورو. كان هذا الثائر قد أتى مستجيراً بسلطان في بلدته القريا عام 1922، وقبل أن يصل إلى دارة سلطان عرفه في شارع البلدة أحد الجنود اللبنانيين في القريا الذين كانوا مكلفين بمراقبة تحرّكات سلطان، وكان الأخير يومها غائباً عن القريّا في زيارة لقرية أم الرمان عند أحد رفاق جهاده حمد البربور.
تم اعتقال أدهم خنجر في غياب سلطان عن داره، ونقله الفرنسيون سريعاً إلى السويداء، ولما عاد سلطان إلى القريا وعلم بالأمر هبّ مع نفر من رجاله وزحفوا على السويداء لإنقاذ الضيف، ضيفه، ومما جاء في ديوان القروي ص 308، في وصف موقف سلطان من ذلك الحدث، أن الصحف الغربية وصفت بإعجاب عظيم زحف سلطان الأطرش برجاله إلى السويداء لإنقاذ الأسير الذي قبضت عليه السلطة الفرنسية خارقة حرمة الضيافة العربية المشهورة، وإلتقاء البطل العربي ( سلطان ) والتنك ( الدبابة) وهجومه عليها تحت وابل الرصاص وتعطيلها بعد قتل قبطانها ومعاونه بحد السيف. وهنا قصيدة الشاعر القروي حول تلك الحادثة»

تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926
تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926

سلطان والانتصار لأدهم خنجر
خففت لنجدة العــــــــاني سريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا غضــــــــوبـــــــــــــــاً لـــــــــــــــو رآك الليـــــــــــــــث ريعــــــــــــــــــــا
وحولك من بني معروف جمــــــــــــــــــــــــــــــــعٌ بهـــــــــــــــم ــ وبدونهـــــــــــــــم ــ تفني الجموعــــــــــــــــــا
كأنـــــــــــك قـــائدٌ منــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم هضــــــــابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تَبِعْـــــــــــــــنَ إلـــــــــــــــى الـــــــــــــــوغى جبلاً منيعـــــــــــا
تَخِذتَهمـــــــــــو لــــــــــــــــدى الجُلّى سيوفــــــــــــــــــــــــــــــــا لهـــــــــــــــا لعـــــــــــــــنَ الـــفرنســـــــــــــــــيّ الـــــــــــــــدروعـــــــــــــــــــــا
وأيُّ دريئــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ تَعصــــــــــــــــــــــــــى حُسامــــــــاً تـــــــــــــــعـــــــــــــــوّدَ فـــــــــــــــي يمينــــــــــــــــــــكَ أن يطيعــــــــــــــــــــــــا
ألم يلبــــــــــــــــــــــــــس عــــــــــــــــِداك التنــكَ درعــــــــاً فَسَلْهـــــــــــــــم هـــــــــــــــل وقى لهـــــــــــــــمُ ضلوعــــــــــــــا
أغرت عليه تلقـــــــــــــــــى النـــــــــــــــــــارَ بــــــــــــــــــــــــرداً ويـــــــــــــــرميهـــــــــــــــــــا الـــــــــــــــذي يرمـــــــــــــــي هَلوعــــــــــــــا
فطاشت عنك جازعــــــــةً ولو لــــــــــــــــــــم تهـــــــــــــــشّ لهـــــــــــــــا لحاولـــــــــــــــــــت الـــــــــرجــوعـــــــــــــــا
ومُذْ هطَلَ الرصاص عليكَ سحّاً كـــــــــــــــوسمِـــــــــــــــيٍّ جليــــــــــــــــــتَ بــــــــــــــــــــــه ربيعــــــــــــــــــــــا
زعقتَ بمثل فرخِ النسر طِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرفٍ يُجَـــــــــــــــنّ إذا رأى سهــــــــــــــــــــلاً وسيعـــــــــــــــــــــــــــــــا
يحنّ إلـــــــــــى الوغـــــــــــــــــــــــــــــــــــى تحنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانَ أمٍّ بحضـــــــــــــــن غريبـــــــــــــــةٍ تركــــــــت رضيعـــــــــــــــا
فطــــــــــــــــار لهـــــــــــا كأنّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك مستـــــقـــــــــــــــــــــــــــلّ جوانـــــــــــــــحَ شاعـــــــــــــــرٍ ذكـــــــــــــــر الربوعــــــــــــــــــــــــــــا
ولما صرت من مُهَــــــــــــــــــــــــجِ الأعــــــــــــــــــــــــادي بحيـــــــــــــــث تذيـــــــــــــــقهـــــا السّـــــــــــــــمَ النقيعـــــــــــــــــــــــا
وثبتَ إلى سنــــــــــــــــــــــــــــــــام التنك وثبــــــــــــــــــــــــــــاً عجيبــــــــــــــــــاً علّـــــــــــــــمَ النســـــــــــــــر الوقوعــــــــــــــــــــــــا
وكهربت البطاحَ بحــــــــــــــــــــــــدّ عَضــــــــــــــــْب بهرتَ بــه العـــــــــــــــدى فهَـــــــــــــــوَوْا ركوعـــــــــــــــا
كــــــــأنّ به إلى الأفرنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك جوعــــــــــــــــــــــــــــاً وسيفُكَ مثلُ ضيفكَ لــــــن يجوعـــــــــــــــا
تكفّــــــــــــــــــــــــــــــــــل للثرى بــــــــــــــــالخصــــــــــــــــــــــــــــب لمّـــــــــــا هفـــــــــــــــا برقــــــــــــــــــاً فــــــــــــأمـــــــــــــــطرهـــــــــــــــم نجيعــــــــــــــــــــا
وفجّــــــر للدمــــــــــــــــــــــاء بهـــــــــــــــــــــــــــــــم عيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تجـــــــــــــــاري مـــــــــــــــن عيونهـــــــــــــــمُ الــــدموعــــــــــــــــــا
فخرّ الجند فوق التنــــــــــــــــــــــــك صرعى وخـــــــــــــــرّ التنـــــــــــــــكُ تحتهمــــــــو صريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
فيالكِ غـــــارةٌ لـــــــــــــــو لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــم تذعهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أعـــــــــــــــاديـــــــــــــــنـــــــــــــــــا لكـــــــــــــــذّبنــــــــــــــــــــا المذيـــــــعـــــــــــــــــــــــــــــــــا
ويا لكَ « أطرشــــاً» لمّا دُعينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لثــــــــــــــــــــــأرٍ كـــــــــــــــانَ أسمعنــــــا جميعــــــــــــــــــا!!

هذا العنفوان الشعري لدى القروي هو انطباع لتلك البطولات التي سطّرها بنو معروف في جهادهم عام 1925م، من أجل الاستقلال في سوريا ولبنان، تلك الحقيقة التاريخية التي يشهد بها الدكتور عمر فروخ، وتلك المعارك التي ألهمت الشاعر القروي قصيدته المشهورة بعنوان«الاستقلال حق لاهبة» ومما جاء فيها:

إن ضاع حقّك لم يضع حقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّان لـــــــــــــــك في نجاد السيف حقٌّ ثـــــــــــــــــانِ
ما مات حقّ فتىً له زَندٌ، لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه كـــــــــــــــفٌّ لهــــــــــــــــــا سيــــــــــــــــــفٌ لـــــــــــــــه حـــــــــــــــــــــدّان
فابعث سيوف الهند من أغمادها تبعث بهـــــــــــــــا الموتـــــــــــــــى مـــــــــن الأكفــــــــــــــان
مازال هذا العلـــــج يحسب أننــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بـــــــــــــــقـــــــــــــــــــرٌ تُـــــــــــــــدِرّ عـــــــــــــــليـــــــــــــــــــــــه بـــــــــــــــالألبـــــــــــــــــــــان
حتى استفاق على الزئير وجلدُهُ كالطِّمـــــــــــــــرِ تحت مخالـــــــــــــــب المُـــــــــــــــرّان
من قمح حورانَ أراد وليمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً فأتــــــــــاه ســــمُّ المـــــــــــــــــوت مـــــــــــــــن حـــــــــــــــوران
صاح: المروءة يافرنجُ» فليس لــــــــــــــي فـــــــــــــــي صـــــــــدّ غـــــــــارات الــــدروز يـدان
عهدي بهم في السلم حملانـــاً فَوا رُعبـــــــــــــــاهُ بـــــعدهمـــــــــــــــو مـــــــــــــــن الحُمــــــــــــــــــلان
لِله منظـرُهم إذا هزجـــــوا وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد هـــــــــــــــزّوا الـــــــــــــــرمـــــاح لـــــــــــــــغارةٍ وطـــــــــــــــعـــــــــــــــــانِ
يلقَوْنَ« مِتْرَليوزَنا» بصدورهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ويكـــــــــــــــافحون «التنكَ» بــــــالأبــــــــــــــــــدانِ
متهافتين على الردى وشعارهـــــــــــــــــــــــم اليــــومَ أفضــــــــلُ مـــــــــــــــن غَـــــــــــــــدٍ يـــــــــــــــا فـــــــــــــــــانِ
ونساؤهم لو تشهدون نســــاءَهــــــــــــــــــــــم في الحرب حاملةً على الشجعـانِ
كالمـــــــاءِ أعذبُ ما يكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون وإنّهُ لَأشدُّ مـــــــــــــــا يسطو علـــــــــــــــى النيــــــــــــــــــرانِ
ينفخنَ في أشبالهـــــنّ حماســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً تَثِــــــــبُ الصـــــــــــدورُ لهـــــــــــا مـــــــــــن الغليــــــــــــان
فكأنّهم لبَســوا بهـــــــــــــــنّ جوانحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً طـــــــــــاروا بهـــــــــــا للحـــــــــــــــربِ كــــالعُقــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ

ولكن القروي وقد ذكر بطولات بني معروف الموحّدين فهو لن ينسى أن يشيد بقائدهم الذي يتركه للقارئ لُغزاً يفاجئنا به فيبوح بسرّ اسمه في آخر القصيدة حيث يقول:

ولئن نسيتُ فلستُ أنسى بينهــــــــــــــم رجلَ الرجـــــــــــــــــالِ وفارسَ الفرســــــــــــــــان
وحُلاحلَ الحربِ الذي يغشى الوغى ووراءَهُ نَـــــــــــــــفَـــــــــــــــــــرٌ مـــــــــــــــن الـــــــــــــــفتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ
فكأنّهـــــم منـــــه مكـــــــــــــــانَ قنــــــاتِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وكـــــــــــــــأنـــــــــــــــه منهــــــــــــــــــــم مكـــــــــــــــانُ سِنـــــــــــــــــــــــــــــــــان
يرمي بهم قلب الوطيس كأنهـــــــــــــــــــــــــــــــــم حِمَمُ الحمـــــــام قُــــــــذفـــــــــــــــنَ مـــــــن بُركــــــــــــــــــانِ
يُفني الرّجالَ بأحدَبٍ ومُقَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوّمٍ ضدّيـــــــــــــــن فـــــــــــــــي اللبـــــــــــــــاتِ يـــــــــــــــلتقيـــــــــــــــــــــــــان
ويكادُ يفترسُ العدوَّ جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادُه فكــــــــــأنّـــــــــــــــهُ أسَـــــــــــــــدٌ علـــــــــــــــى ســـــــــرحـــــــــــــــان

قد كُفيتُ به سؤالَ النـــــــــــــــــــــــــــــــــاسِ من تعني وهل أعني سوى سلطان؟!!

ويعتب الشاعر القروي على لبنان ويهيب باللبنانيين أن يثوروا وهو يرى الجواب الشافي للاحتلال الفرنسي في تلك الثورة السورية الكبرى. يقول القروي:

لبنانُ يا لبنانُ بل ما ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّنــــــي لـــــــــــــــو قلـــتُ يـــــــــــــــا بلـــــداً بـــــــــــــــلا ســـــــكـــــــــــــــانِ
خفَضَتْ جبالك شامخاتِ رؤوسها بــــــــــــــالعارِ واندكّـــــــــــــــت إلـــــــــــــــى الأركـــــــــــــــــــانِ
تشكــــــــــــــــــــــو من الأديانِ تتّهمُ السّــــوي ولَأنـــــــــــــــتَ أنـــــــــــــــتَ الـــــــــــــــعبـــــــــــــــدُ للأديـــــــــــــــــــــــانِ
إن كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان للدين الدروز تعصّبـــوا أرِنــــــــــــا التعصّـــــــــــــــبَ أنـــــــــــــــتَ للأوطـــــــــــــــــــان
حورانُ هبّ إلى الحسام كأنّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا هو وحدَهُ العــــاني وأنــــــــتَ الـــــــهاني؟
أين التراثُ تراثُ أبطال الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى أيـــــــــــــن البقيّــــــــــــــــةُ مـــــــــــــن بنـــــــــــــي غسّـــــــــــــانِ؟

الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية
الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية

بطل الصحراء
بطــــــــــــلَ الشـــــامِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودةً لبــــــــــــــــــــــــــــلادِكْ تَصلــــــــــــحُ الشــــــــــــامُ مَوْطِنــــــــــــاً لمــــــــــــعــــــــــــــــــــــادِك
عُطّلَت ساحَةُ الجهادِ من الآسادِ لمـــــــــــــــــــــّا انــــــــــــــــــــــزويــــــــــــــــــــــــتَ مــــــــــــــــــــــــع آســـــــــــــــــــــــــــــــادِكْ
وجلا العزّ عن رُبى جنّةِ الخُلـــــــــــــــــــــــــــدِ فــــــــــــآبــــــــــــت صحــــــــــــراء بعــــــــــــد بِـــــــــــــعــــــــــــــــادِك

بلبل الشعر خلّ عنك الخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالا تتمنّــــــــــــــــــــــــى عــــــــــــلــــــــــــى الــــــــــــزمــــــــــــان المحــــــــــــــــالا
أيَّ نصــــــــــــرٍ ترجـــــــــــــوهُ أيَّ فَخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٍ لبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلادٍ تــــــــــــــــــــــــــــــــــــجــــــــــــــــــــوِّعُ الأبطـــــــــــــــــــــــــــــــــــالا
أوَ لــــــــــــم نبــــــــــــذلِ النفـــــوس فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداءً عــــــــــــن لئــــــــــــامٍ لا يبــــــــــــذلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون المــــــالا؟

صارِعِ التّنْكَ، سَرِّ عنكَ فخَلفَ البحرِ جُنْدٌ للحــــــــقِّ مــــــــــــن أجنـــــــــــــــادِكْ
لا يَضِركَ العُبدانُ ما دمتَ حُــــــــــــــــــــــرّاً قــد جعلْــــــــــــتَ الأحرارَ مــــــــــــن عُبّــادِك
قد أردتَ استقلالَ شعبِكَ لكــــــــــــــنَّ مُــــــــــــــــــــــــرادَ الأيّــــــــــــــــــــــــــــــــامِ غــــــــــــيـــــــــــــــــــــرُ مُــــــــــــــــــــــــــرادِكْ
أيُّهـــــــــــــــــــــا المُبعَــــــــــــدُ المُـــــــــــــــــــزَوّدُ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــِـــــــــــــــزّاً أيــــــــــــن للمتـــــــــــــــرَفــــــــــــينَ فضــــلَــــــــــــــــــــــــــــــــــةُ زادِك؟
يــــــــا شريداً عن البـــــلادِ طريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداً أنــــــــــــــت فــــــــــــي كــــــــــــلّ معبــدٍ مــــــــــــن بــلادك
كـلّ مافي أقلامنا من مضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاءٍ مستــمــــــــــــدٌّ مــــــــــــن مرهَفــــــــــــــاتِ حِــــــدادك
كلّ سبقٍ في شعرِنا وانتصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٌ هــــــــــــو مــــــــــــن ملهمـــــــــــــات خيــــــــــــلِ طرادكْ
كل ما في صدورنا من لهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبٍ هــــــــــــو إضـــــــــــــــرامُ وَرْيُــــــــــــهُ مــــــــــــن زنــــــــــــــــــــــــادِك
كلُّ مـــــــــا في هُتافِنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من دَوِيٍّ هــــــــــــو تــــــــــــرجيـــــــــــــــعُ نبضـــةٍ مــــــــــــن فــــــــــــؤادِك
كلُّ مــــــــــــــــــــــــا في آثارنا من خلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودٍ هــــــــــــو تــــــــــــاريــــــــــــخُ ساعةٍ مــــــــــــن جــهـــادك
كــلُّ أمجادنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بناتُــــــــــــكَ يــــــــــــــــــــــــــــــــــا من قــــــــــــد أضفــــــــــــتَ المنفـى إلى أمجادِك
أيّهــــــــــــا المُنجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ المحاويــــــــــــجَ عارٌ أن نُصِــــــــــــمَّ الأسمــــــــــــاعَ عــــــــــــن إنجــــــــــادك
لو فرشنـــــــــــا لك الجفونَ مهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاداً وجعلنــــــــــــا الأهـدابَ حشوَ وِسادِك
ما جزيناكَ ساعةً مــــن ليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالٍ بِــــــــــــتَّ عنّــــــــــــا علــــــــــــى حِــــرابِ سُهـــادِك
كلُّ حُرٍّ فداكَ يا فاديَ الشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامِ وأولادُه فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى أولادك

لمن المآدب
(عندما يصبح الخبز أغلى من الذهب)
لم ينس سلطان باشا الأطرش جميل الشاعر القروي، ولا جميل أولئك الوطنيين الغيورين الذين ساندوا الثوار في المنفى، وقد جاء في كتاب«أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925 ــ 1927 (ص312»)، مايلي:«غير أن إخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسوا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا، بل كانوا يتحمّلون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا ( أي الخيام التي كان الثوّار يأوون إليها)، بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا … ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا، وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر، فنضطر إلى التهام أوراق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفيما كنا نواجه أمثال هذه الأزمة الحادة، وإذا بالسادة: شكري القوّتلي والحاج عثمان الشرباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدّمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة «صُرّة» من الليرات الذهبية. فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من الانفعال، فتناول قبضة منها ونثرها أمامهم، وخاطبهم بحدّة قائلاً:
« إن هذا الذهب كلّه لايساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال، أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء! ».

شاعر الثورة يلبّي النداء
في عام 1934 أقامت الجالية العربية في مدينة بيونس ايرس عاصمة الأرجنتين مأدبة سخية له ولرفيقه الياس فرحات، واغتنم الشاعر الفرصة لإلقاء قصيدة حماسية استنفر بها مشاعر المدعوّين لمساعدة أطفال الثوار الجياع والعطاشى في منافي نجد من أرض المملكة العربية السعودية، بعيداً عن أوطانهم. ولما انتهى من القصيدة ألقى بريال على المائدة وأتبعه رفيقه فرحات بمثله فهطلت الأوراق المالية من كل صوب واجتمع للمنكوبين مبلغ غير زهيد.
يقول القروي في تلك القصيدة التي حملت عنوان:

لمن المآدب
لِمَنِ المآدبُ حولها الأضيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ وعـــلامَ هــــــــــــذا البــــــــــــذلُ والإســــــــــــــــــــــــرافُ
وَمَنِ الملوكُ الفاتحون بأرضـــــــــــــــــــــــــــــــــكم يُسعــــــــــــى عليهــــــــــــم بــــــــــــالطّلا ويُطـــــــــــــــــــافُ
يا عُصبَةً الخُلُقِ الكريمِ وإنّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لَشهــــــــــــادَةٌ يقضــــــــــــي بــــــــــــهــــــــــــا الإنصــــــــــــــافُ
عبَثاً تحاول كفَّ كفّكَ عن نـــــــــــــدىً إنّ الــــــــــــكـــــــــــــــريمَ مُبَــــــــــــــــــــــــذّرٌ مِـــــــــــــتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلافُ
القانعيــــــن مــــــــــــن الحيــــــــــــــاة ببُلغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــَةٍ هذي الجفــــــــــــانُ تحفُّهــــــــــــــــــــــــنَّ صِحــــــــــــافُ
ألطائـــــرَينِ غِناهمـــا بغِناهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــلقــــــــــــى فــــــــــــراخٌ حــــــــــــتفُهــــــــــــا وخِـــــــــــــــرافُ
خَلُّوا المطـــاعِمَ للذينَ قلوبــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ورؤوسهــــــــــــم ونــــــــــــفوسهــــــــــــم أجـــــــــــــــوافُ
واللهِ ما ظفــــِرَتْ يدايَ بلقمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ إلاّ عــــــــــــــــرانــــــــــــيَ خاطــــــــــــرٌ رجّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ
وتمثّلت لي في المضارب صِبيَـــــــــــــةٌ خُمــــــــــــصُ البطــــــــــــونِ كــــــــــــأنّهــــــــــــم أطيــافُ
لهمُ الصّحارى والمجاعَةُ والصّدى ولنـــــــا النــــــــــــدى والخمــــــــــــرُ والأريــــــــــــــــــــــــافُ
أشبالُ من نثرَ الكتائبَ سيفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــُــهُ السباســــــــــــبَ رُمحُــــــــــــه الــــــــــــرّعّــــــــــــــــــــــــــــــافُ
أنجــالُ من كانت تروحُ وتغتــــــــــــــــــــــــــــــدي كالنمــلِ حــــــــــــولَ خِوانــــــــــــه الأضيــــــــــــافُ
أطفال سلطانٍ تجوعُ وطالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمــــــا شبعــــــــــــــــت بفضــــــــــــل فطــــــــــــــــــــورهِ الآلافُ
حَلِفٌ عليـــــكم لا يذاقُ طعامُكـــــــــم والحــــــــــــــــــــــــرُّ لــــــــــــم تُنقَـــــض لــــــــــــهُ أحـــــــــــــــــــــلافُ
وَقْـــــــــفٌ لأبطالِ الجهـــــــــادِ عشاؤكــــــــــــــــــم وأعيــــــــــــذكـــــم أن تؤكــــــــــــــــــــــــلَ الأوقـــــــــــــــــــــــافُ
نِعـــــــــمَ الزكـــــــــاة عــــــــــــــــــن الرفــــــــــــــــــاهِ ضـــــــــريبةٌ ليسَت تُحِــــــــــــسُّ بحملــهــــــــــــا الأكتــــــــــــــافُ
سلمانُ قم وافتحْ جرابَكَ للنّــــــــــــــدى فــــــــــــعلــــى يــــــــــــــــديــــــــــــكَ يُقَــــــــــــدَّمُ الإسعـــــــــــــــــافُ

في عيد الفطر
اغتنم الشاعر القروي بعد ذلك مناسبة مأدبة أقيمت احتفاء بعيد الفطر فذكّر الصائمين رمضان بصيام الزعيم الوطني الهندي، غاندي؛ ذلك الصيام الإحتجاجي الذي مارسه معترضاً على احتلال البريطانيين لبلاده، فأخاف الإنكليز، يقول القروي في قصيدته المعنونة بـ

عيد الفطر
صياماً إلى أن يفطرَ السيفُ بالدّمِ وصبراً إلى أن يصدح الحقّ يافمي
أفِطرٌ وأحرار الحمى في مجاعـــــــــــةٍ وعيدٌ وأبطــــــــــــال الجهــــــــــــادِ بمـــــــــأتمِ ؟!
بلادك قدّمــــــــــها على كلّ ملـــــــــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ ومن أجلها أفطِر ومن أجلهــــا صُمِ
أُكَرّمُ هذا العيدَ تكـــريمَ شاعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ يتيــــــــــــهُ بــــــــــــآيــــــــــــاتِ النّبـــــــــيّ المــــــــــــُعظّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
ولكنّني أصبــــــو إلى عيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــدِ أُمّـــــــــــةٍ مُحرّرةِ الأعناقِ مـــــــــــن رِقِّ أعجمي
إلى عَلَمٍ من نسجِ عيسى وأحمدٍ و»آمنةٌ» في ظلّهِ أُختُ «مريــــمِ»
هَبوني َعيداً يجعلُ العُرْبَ أُمـــــــــــــــــــــــــــــــــــّةً وسيروا بجثماني على ديـــــــنِ بَرهمِ
فقد مَزّقت هذي المذاهبُ شملَنا وقد حَطّمتنا بــــــــــــــــــــــــين نـــــــــابٍ ومَنســــــمِ
سلامٌ على كُــــــفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرٍ يوَحّــــــــــــــــــــــدُ بيننا وأهلاً وسهــــلاً بعــــــــــــدهُ بــــــــــــجهنّــــــــــــــــمِ!!

وفي الحفلة التأبينية التي أُقيمت تكريماً للدكتور المجاهد خليل سعادة سنة 1934 أرّخ الشاعر الحدث بهذه الأبيات:
علـــــــــــــى جَــــدَثِ البطولــــــةِ قــــف حزينــــــــاً وحــــيِّ شهيـــــــــدهـــــــــــا والــــــــــــعيـــــنُ ثَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَّهْ
فـــــــــــكـــــــــــــم لِـــــــــــيَـــــــراعِـــــــــــــهِ زأراتِ لــــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــثٍ صـــــــــــداهــــــــــــــــــــــا رنّ فــــــــــــــــــــــــــي أذن المــجــــــرّه
نـــــــــــطـــــــــــاســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيٌّ أديـــــــــــبٌ عــــــــــــــــــــــــاش حرّاً ومات لـــكـــــــي تـــــــــــعيــشَ الـــــــــــشــامُ حُــرّه
يمـــــــــــين الحــــــــــــــــــــــقّ فـــــــــــي ســـــــــــفر المعـــــــالـــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــــــــــــدع مــــــــــــــــــــــؤرّخيه تــــــــــــــــــــــخـــــــــــــطّ ذكــــــــــره

وهاهو الشاعر في قصيدته أبا الأحرار التي يخاطب فيها الدكتور سعادة الذي توفّي على أثر صومٍ اختياري طويل، وهو يهدّد الفرنسيين المحتلّين للشام بفرسان الجبل، يقول:
ألا قـــــــــــل للّــــــــــذيــــــــــــــــن طــــــــــــــــــــــغـــوا رويـــــــــــــــــــــــــــــــــداً فــــــــــــــــــــــلِلْأيّــــــــامِ والـــــــــــدّوَلِ انــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلابُ
سنـــــــــقـــــــــــتلـــــكــــــــــــــــــــــم ونحييــكـــــــــــــــــــــــــم إلــــــى أنْ يُــــــــــمَزّقَ عــــــــــــــــــــــن عيونِكــــــــــــــــــــــمُ الحجـــــــابُ
وكـــــــــــم كـــــــــــفٍّ يـــــــــــطيــــــرُ بـــــــــــهــــــــــــــــــــــــا صــــــــــوابٌ وأخرى يُستَــــــــــــــعادُ بـــــــــــهـــــــــــا الصــــــــــــــوابُ
غَــــــــــــــــــــــداةَ نــــــــــــــــــــــروّعُ الــــــــــــــــــــــدنيـــــــــــــــــا بِـــــــــــــــــــــــــــــــــجِـــــــــــنٍّ علــــــى صَــــــهَـــــــواتِـــــــــــهـــــــــــا شبــــّوا وشابـــــوا
إذ اهـــــــــــبّــــــــــــــــــــــوا إلــــــــــــــــــــــى الغـــــاراتِ غارت وِهاداً تحتَ زَحـــــــــــــفِهمُ الهضـــــــــــــــــــــابُ
وللتــــــــــــــــــــــاريــــــــــــــــــــــخِ رُجعـــــــــــى ثـــــــــــمّ يـــــــــــطـــــــــمــــــــــــو ويــــــــــــــــــــــجتـــــازُ العُبــــــابَ لنـــــــــــــــــــــــــــــــــا عُبــــــــــــــــــابُ
ويـــــــــــجرفـــــــــــكـــــــــــم مـــــــــــن الصـــــحـــــراء سَيْــلٌ لـه في شاطئ الشام» اضطرابُ»
لقـد طال الحســـــــــــابُ وعـــــــــــــــــــــــــــــن قريـــــــبٍ يُـــــــــــصَـــــــفّــــــــــــــــــَى بــــــــــــــــــــــالمـــــهـــــــــــنّــــــــــــــــــــــدةِ الحســـــــابُ

هذا هو رشيد سليم الخوري، الشاعر القروي، شاعر الثورة السورية الكبرى الوفي، والصوت الصادح بدور بني معروف في ميادينها…
وبعد هذا فليس غريباً أن يتلطّف الأمير شكيب أرسلان بعد أن تأثر بشعر القروي فقال مُقَرضاً إيّاه بقصيدة طويلة وردت على هامش ديوان القروي ص482، نقتطف منها:
قـــــــــــل للقصــــــــائـــــــــــــــــــــــد كــــــــــلّـــهـنّ تـــــــــــــــــــــــــــــــــذلّلــــــــــــــــــــــــي لــــــلشـــــــاعر القــــرويّ وســـــــــــــــــــــط المحــــــفلِ
وتَـــــــــــوَسّـــــــــــدي الغبــــــــــــــــــــــراءَ عنــــــــدَ قريضهِ وضعـــي جبــاهَكِ في مكـــــانِ الأرجُـلِ
مـــــــــــن قــــــــــــــــــــــالَ إنّي قــــــــــــد رأيــــــتُ نظيــــــــــــــــــــرَهُ بــــــــــــــــــــــجميـــع أمّـــــــــــةِ يــــــــــــــــــعـربٍ لــــم يــــــــــــــــــــــعـــدلِ
حِكَـــــــــــمٌ كمــــــــــــا انفلق الصبـــاح وحجّــةٌ أضحت تقول لطلعةِ الشمـــس اخجلي
مـــــــــــا زلتُ أنشدها وبي من سحرهــا مثــــل الغـــرامِ يهيجُ فـــي قلـــــــــــبِ الخـــــلي

ومما جاء في ديوانه (ص897) أنه رأى في المنام أنه التقى سلطان الأطرش ولم يخاطبه بلقبه (الباشا)، بل وقيل إنّ أحدهم نبّهه إلى ذلك أثناء لقاء الشاعر بسلطان القائد العام للثورة نفسه، فما كان من الشاعر إلاّ أن أنشده هذين البيتين،
سلطــــــــــــــــــــــانُ يــــــــــــــــــــــاسيــــــفَ الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى المســـــــــــــــــــــــــــــــــلولِ والسّــــــــــــــــــــــهمِ المُراشـــــــــــــــــــــــــــــــــا
عِــــــــــــــــــــــش للـــــــــــجهـــــــــــادِ وذكـــــــــــرك الميمــــــــــــــــــــــونُ للتــــــــــــــــــــــــــــــــاريـــــــــــــــــــــــــــــــــخِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــاشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
حاشــــــــــــــــــــــا لِمثلــــــــــــــــــــــي أن يُصَغّــــــــــــــــــــــرَ مــــــــــــــــــــــن مقــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــكَ ألــــــــــــــــــــــفُ حـــــــــــاشــــــــــــــــــــــا
إن كنــــــــــــــــــــــتَ سلطــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــــاً فكيفَ يـــــــــــجـــــــــــوزُ أن أدعـــــــــــوكَ بـــــــــــاشــــــــــــــــــــــــا؟!

الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش
الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش

 

مواجهة طريفة بين الشاعر القروي وسلطان باشا
من القصص التي دارت بين القروي وسلطان باشا الأطرش قبل وفاتهما بعدة شهور، وكان الإثنان قد تجاوزا التسعين…
قال القروي: يا سلطان أنا أرسلت لك قصيدة كذا عام 1925 وقصيدة كذا عام 26 وأرسلت لك مجموعة من القصائد وأنتم مع إخوانكم الثوار في صحراء نَجْد في المنفى ولم يردني أي جواب.
أجاب الباشا: كانت تصلني قصائد ويقرأها الشباب ومعظمها أصبح يدرس في مدارس الوطن، ما عدا تلك القصيدة التي كسرت بها خاطر الإنكليزية سامحك الله.
هنا تساءل الحضور عن القصة فكانت إشارة إلى لقاء الشاعر القروي مع الحسناء مود البريطانية التي أعجبت به، فتخلص منها معتذراً بسبب ما يفعله أهلها بأهله من مظالم . وقال يومها شعراً:
ولو لم تكوني فرنجيـــــة
لكنت سعادتي قبل ســـعاد
ولكن حرام علــي الهوى
وفي أمتي صيحة للجهـــاد
هنا علّق الباشا بتحبب وقال: «أما كان يمكن أن ترضيها بالتي هي أحسن ونحن هنا نكفيك واجب مقارعة أهلها المستعمرين في ديارنا» فضحك الجميع.

محاورات افلاطون

كريتو

سقراط يرفض عرض أصحابه تسهيل فراره ويعطي كريتو قبل ساعات من تجرِّع السمّ درساً في احتقار الموت والتزام الفضيلة

الموت أفضل من الحيــــاة من دون شرف
والمهم نوعية الحياة وليس عدد سنواتها

كريتو: لم يعـــد لدي شــــيء أقولــــــــــــه!
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه
أمر الله

أهمية محاورة كريتو
على خلاف محاورات أفلاطون تقوم محاورة كريتو على نقاش مركّز بين شخصين فقط هما الحكيم سقراط وكريتو أحد مريديه، وهي من الأعمال المبكرة لأفلاطون والتي تضم دفاع سقراط ، لكنها رغم إيجازها تعتبر من الأعمال المهمة لأنها تتضمن درساً أخلاقياً وروحياً مهماً في أهمية احترام القانون والدولة وعدم بذل أي مجهود لإجتناب الموت كما لو كان مصيبة. بين سطورها تظهر بوضوح شخصية سقراط العظيمة وثباته وثقته بإيمانه الذي بقي محتواه سراً في داخله بسبب خشيته من التدخل في عقيدة أهل أثينا الوثنية أو إنكارها أو التشكيك بها.
تبدأ محاورة كريتو بمشهد فريد يلخّص بدوره جوهر شخصية سقراط. فكريتو الذي يتسلل لمقابلة سقراط وصل الزنزانة مع ساعات الفجر وهو يتحرق شوقاً لأن يعرض على المعلم خطة لإنقاذه من السجن ومن تنفيذ حكم الموت دبرها مريدوه وأمنوا لها المال والنفوذ.
كريتو يفاجأ بسقراط يغطّ في نوم عميق ويتحرج من إيقاظه، لكنه يتعجب كيف يمكن لرجل ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام به بعد ساعات أن يكون في هذه الحالة من السكينة وعدم الإكتراث، فالراهن حسب معرفته بالنفس البشرية أن انتظار الموت أمر رهيب، وهو كان يتوقع ربما أن يرى سقراط مكتئباً أو هلعاً، وعلى الأقل لم يكن ليدور في فكره أبداً أن يجد الحكيم مستسلماً إلى لذة النوم العميق غير عابئ بمصيره الذي اقترب!!
من شدّة دهشته وشعور الرهبة أمام مشهد الحكيم النائم يمتنع كريتو أولاً عن إيقاظ سقراط معتقداً أنه بذلك يتركه في حال لا يشعر فيها بما سيصيبه بعد ساعات عندما يأتي الجلاد لتنفيذ حكم الموت. لكن سقراط يستيقظ ليجد كريتو جالساً قبالته ويبدأ بذلك هذا الحوار المثير بأبعاده الأخلاقية والروحية: كريتو يعرض على سقراط فكرة الهرب من السجن وحكم الإعدام، وسقراط يشرح له بأسلوبه الجدلي المتدرج لماذا لا يمكن لهذا السلوك أن ينسجم مع مبادئ الأخلاق والفضيلة أو مع قناعاته الشخصية.

كريتو: لم أشأ أن أوقظك، وقد كنت أسأل نفسي عن هذا النوم الهانئ الذي كنت تغطّ فيه، لأنني أردت أن تكون في تلك اللحظات بعيداً عن الألم، لقد عرفتك في الماضي دوماً على هذه الحال من السعادة والهدوء، لكنني لم أر في حياتي رجلاً يواجه مصيبة الموت ويقابلها بهذا القدر من البشاشة والسهولة.
سقراط: لم لا يا كريتو، إذ عندما يبلغ رجل سن الكهولة فإن عليه أن لا يكون خائفاً من احتمال مواجهة الموت.
أما لماذا جاء كريتو في ساعات الفجر الأولى لزيارة سقراط فلأنه كان يحمل ما اعتبره خبراً حزيناً هو أن الباخرة ستصل إلى ميناء ديلوس في ذاك اليوم والذي سيكون لذلك آخر أيام سقراط لأن المحكمة قررت تنفيذ حكم الإعدام عند وصول تلك الباخرة إلى الميناء المذكور.
هنا يعرض سقراط لما يبدو كأنه معرفته بغيب الأمور وما سيجري في المستقبل، إذ صحح الحكيم لكريتو معلوماته قائلاً له إن الباخرة لن تصل اليوم ولن يكون اليوم بالتالي موعد تنفيذ حكم الإعدام، لكن الباخرة ستصل بعد يومين. كيف عرف سقراط ذلك يسأل كريتو. يجيب الحكيم بأنه نتيجة لرؤية صادقة حصلت له قبل أن يوقظه كريتو من نومه.
وبالنظر إلى أن كريتو وبقية أصدقاء سقراط بدأوا يشعرون بقرب حلول المصيبة بفقد معلمهم فقد كان لزيارة كريتو السرية غرض آخر هو الإلحاح مجدداً على سقراط بقبول فكرة الفرار من السجن، وقد قدم كريتو مرافعة طويلة توسّل فيها لسقراط أن يقبل الفكرة لأن «من واجبه أن يحمي حياته» لأنها «ليست ملكه ولكنها ملك لأفراد أسرته وأصدقائه ومريديه» فلا يجب بالتالي أن يتساهل في تقديمها لجلاديه، أضف إلى ذلك أن موت سقراط لن يفهمه الناس باعتباره قبولاً من الحكيم بمصيره ورضا به بل سيعتبرون موته نتيجة لتخلي أصدقاء سقراط عنه وتخاذلاً منهم في نجدته في محنته.
يقف سقراط فوراً عند النقطة الأخيرة ليعطي كريتو درساً كما كانت عادته مع مريديه.
سقراط: لكن لِمَ ينبغي علينا يا عزيزي كريتو أن نبالي برأي الكثرة من الناس؟ إذ إن الناس الأخيار- وهم الوحيدون الذين ينبغي أن يلقى إليهم بال- سيحكمون على ذلك الأمر كما هو في حقيقته.

يردّ كريتو بالتحذير من أن الكثرة من الناس يمكنهم أن يتسببوا بالأذى الكثير كما أثبتت محاكمة سقراط عندما انساقت هيئة المحكمة المؤلفة من نحو 500 شخص وراء الحجج الباطلة للإدعاء.
يردّ سقراط على ذلك بالتأكيد على أن الأمر ليس أكثرية أو أقلية. يقول:
سقراط: حبذا لو أن رأي الأكثرية يمكنه أن يقدم خدمة للبشر لكن في حقيقة الأمر أن الكثرة من البشر لا يمكنها أن تضر أو أن تنفع ، لا يمكنها أن تجعل من إنسان حكيماً أو أن تجعل منه أحمق، وأي شيء يفعلونه فإنما هو نتيجة عوامل مقدرة لا سلطة لهم عليها.
يتجه ظن كريتو هنا، وهو العارف بشخصية ومناقب سقراط، إلى أن الحكيم ربما يرفض الفرار من السجن لأنه لو فعل ذلك سيسبب مشكلة كبيرة لمريديه وأصدقائه الذين سيتبين أنهم ساعدوه في ذلك وقد تُصادر أملاكهم أو يُزج بهم في السجون، أي إن نبل سقراط هو المانع الأهم لرفضه الإنصياع لخطة الهرب، لذلك يحاول كريتو شدّ عزيمة الحكيم بالتأكيد على أن هناك كثيرين مستعدون لبذل كل شيء من أجل تغطية مسألة خروجه، بما في ذلك تقديم الهدايا أو المال مما قد لا يرتّب بالتالي آثاراً سلبية.
يقرّ سقراط لكريتو بأنه حقاً يعتريه قلق لجهة ما قد ينجم لرفاقه نتيجة عملية الفرار لكن هذا الخوف ليس العامل الوحيد وراء رفضه الفرار.
سقراط: ياعزيزي كريتو إن حماسك لإنقاذي أمر يستحق التقدير لو كان في المحل الصحيح، لكن إن كان النوع الخاطئ من الحماس فالأمر مختلف، إذ في حال الحماس لأمر باطل فإنه كلما زاد الحماس كلما زاد حجم الشر الناجم عن العمل، ولهذا، فإن علينا أولاً أن ننظر إذا كان العمل جائزاً ويجب القيام به أم لا. إنني كما تعلم من أولئك الناس الذين يصرون على الإهتداء بالعقل، وبغض النظر عن الأسباب فإنني سأتبع دوماً ما يبدو لي عند التمحيص الموقف الأفضل. وإذا كان هذا القدر قد وقع عليّ فإنه لا يمكنني أن أضع جانباً بسبب ذلك سواء الأسباب التي عرضتها قبل قليل أم المبادئ التي التزمتها حتى الآن وما زلت، لذلك إن لم نجد معاً مبادئ أو مبررات أفضل من التي عرضتها فإنا متأكد أنني لن أوافق على ما تعرضه عليّ، لا بل إنني لن أقبل به حتى لو كان علي أن أتحمل أكثر من سجن أو مصادرة أو موت وأكثر من عقاب من النوع الذي قد يخيفونني به كما يخوفون الأطفال بالغول الأسطوري.
هذا موقف حازم جازم من الحكيم أراد به أن يقدّم لتلميذه كريتو درساً في الفضيلة وهو لا يبدو عابئاً بالموت الذي ينتظره بقدر اهتمامه أن لا يرتكب إثماً بفعل هوى النفس أو الخوف، بل إن سقراط يتصرف مع كريتو بصورة طبيعية تماماً مثل عادته في محاورة تلامذته وأصدقائه وكل من أراد التعلّم منه ما يعتقد أنه الحق.
سيتابع سقراط حواره مع كريتو بأسلوبه اللطيف والمحب لكنه سيبدّل اتجاه الحوار ليتناول الموضوع من زاوية جديدة.
سقراط: ما هو الطريق الأقرب إلى الحق في النظر إلى المسألة (أي اقتراح كريتو على سقراط أن يقبل بالفرار من السجن). هل أعود إلى حجتك السابقة حول أهمية رأي الناس، ومنهم من يجب أن يؤخذ برأيه ومنهم من يجب إهمال ما يقوله؟ والسؤال هل كان موقفي هذا صائباً قبل أن يحكم عليّ؟ وهل الحجة التي كانت صائبة قبل الآن أصبحت الآن كلاماً لمجرد الكلام، أو ربما للتسلية فقط؟ هذا ما أريد الآن التباحث معك فيه، وما أريدك الآن أن تساعدني في حلّه.
سقراط: أخبرني يا كريتو إذا ما كنت أنا على حق في القول من أن آراء بعض الناس يمكن أخذها في الاعتبار بينما البعض الآخر لا ينبغي لآرائهم أن تؤخذ في الاعتبار .
كريتو: هذا مؤكد
سقراط: أي إن الآراء الصالحة يجب أخذها في الاعتبار وليس الآراء الباطلة؟
كريتو: صحيح
سقراط: وأن آراء حكماء الناس صالحة وآراء الحمقى منهم تجلب الشرور.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: … هل ينبغي على التلميذ في معهد الرياضة واللياقة الجسدية أن يستمع في تدريبه لآراء الناس الآخرين أو أنه يسمع من شخص واحد فقط هو مدربه أو معلمه بغض النظر عمن يكون هذا المدرب؟
كريتو: يجب عليه الإستماع إلى مدربه فقط
سقراط: أي إنه يجب أن يخاف فقط من عقاب ذلك الأستاذ وأن يتطلع للحصول على إعجابه هو وليس إعجاب الناس؟؟
كريتو: هذا واضح
ينتقل الحكيم الآن إلى عرض مسألة مكملة وهو يمهد للدخول في صلب الموضوع وتقديم إجابات واضحة على مشروع تهريبه من السجن.
وهو يبدأ بطرح السؤال حول عاقبة عدم إطاعة المعلم الذي يعرف واتباع عامة الناس ممن لا يمتلكون معرفة أو فهماً للأمور، وبالطبع فإن واجب التلميذ هو اتباع المعلم الذي يمتلك الحكمة، فإن قرر بدلاً من ذلك اتباع رأي الأكثرية من الناس الذين لا يمتلكون الحكمة، ألن يصيبه من جراء ذلك بلاء كبير؟
يوافق كريتو على ذلك، لكن المعلم يكمل عرض حجته بالتركيز على أن البلاء الذي يصيب العاصي إنما يصيبه في حياته وربما في بدنه وأن الموت أفضل من الحياة من دون شرف لأن المهم هو نوعية الحياة وليس الحياة نفسها أي عدد السنين التي نعيشها. ويشرح المعلم هذه النقطة عبر استكمال الحوار مع كريتو على النحو التالي:
سقراط: هل يمكننا العيش مع ذات شريرة فاسدة؟

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

“علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس بل ما يقوله لنا من يمتلك معرفة الحق والباطل”

كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: وهل تكون الحياة جديرة بأن نعيشها لو أن هذا الجزء الأسمى من الإنسان إضمحل وفسد؟ هذا الجزء الذي يتقدم ويتطور باتباع العدل ويتردى بالظلم وترك الحق؟
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: إذاً يا صديقي فإن علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس لنا بل أن نتبع فقط ما يقوله لنا الرجل الذي يملك معرفة ما هو عدل وما هو باطل وما تقوله الحقيقة، لذلك فإنك بدأت حجتك بخطأ جوهري عندما قلت إن علينا إنه تتبع أكثرية الناس في تحديد ما هو حق وما هو باطل ما هو خير وما هو شر وما هو شرف للإنسان وما هو عار عليه.
يستدرك سقراط المطّلع على فكر كريتو بالقول: بالطبع هناك من قد يردّ بالقول: لكن الأكثرية قد تتسبب بالقتل (ملمحاً إلى محاكمة سقراط وما أدت إليه من حكم جائر عليه بالموت).
كريتو: حقاً يا سقراط ، هذا ما سيكون جوابي
سقراط: هذا صحيح، لكنني أجد لدهشتي أن حجتي السابقة ما زالت في مكانها بل هي أقوى من أي وقت، وأودّ أن أعلم هنا منك إن كانت تلك الحجة تنطبق أيضاً على فرضية أخرى وهي: أنه ليست الحياة في ذاتها ما يجب طلبه بل الحياة الطيبة.
كريتو: صحيح؟ يبدو لي أن ذلك هو الصواب.
سقراط: والحياة الطيبة هي حياة عدل وشرف، أليس كذلك؟
كريتو: حقاً
سقراط: بناءً على كل ما سبق سآتي الآن إلى مسألة ما إذا كان ينبغي لي أم لا، أن أحاول النجاة بنفسي من دون رضا أهل أثينا، وإذا ما كنت محقاً فعلاً لو أنني قمت بذلك فإن تبيّن لي أن ذلك حق فإنني سأعمل للنجاة بنفسي، وإن تبيّن أنه عمل غير محق فإنني سأمتنع عن ذلك، أما عن الاعتبارات الأخرى التي ذكرتها مثل المال (الذي عرض أصدقاء سقراط توفيره بهدف إنقاذه) وخسارة السمعة (أي اتهام الناس لهم بالتخلي عن معلمهم) وواجب تعليم أطفالنا فكلها حسب نظري تدخل في اهتمامات عامة الناس (ولا علاقة لها بالمسألة الأخلاقية في موضوع محاولة الفرار من السجن). والعامة كما تعرف مستعدون دوماً لأن يدعوا الناس للحياة، إن كان ذلك في مقدورهم، أو أن يدفعوا بهم إلى الموت ومن دون حاجة لسبب وجيه. لذلك، فإن المسألة الأهم التي يجب النظر فيها هي هل يجوز لنا أن نفرّ من السجن أو أن نحمّل الآخرين عبء مساعدتنا في ذلك عبر توفير الأموال أو تقديم الشكر للمعنيين أم أن ذلك يعتبر عملاً خاطئاً وآثماً؟ وفي حال كان ذلك العمل خاطئاً فإن ما يمكن أن ينجم عن بقائي هنا من مصيبة أو موت لا ينبغي أن يدخل في الاعتبار أو يؤثر على صحة حكمنا على الأمور.
يضطر كريتو هنا للموافقة على الفرضيات التي وضعها سقراط، لكنه ما زال يحمل الأمل -وإن كان أمله يتضاءل مع تطور المحاورة- بإمكان إقناع الحكيم بالقبول بخطة تهريبه من السجن.
يسأل كريتو: أعتقد أنك على حق لكن ما العمل في هذه الحال؟
سقراط: لنتابع تقييم المسألة معاً، فإما أن تُظهر خطأ موقفي إن استطعت، وعندها فإنني سأقتنع بدعوتك لي أن أفرّ من السجن رغم إرادة الأثينيين. والحقيقة هي أنني راغب وبإخلاص في أن تنجح في إقناعي، لكن على أن لا يتعارض موقفك وحجتك مع ما أعتقد أنه الموقف الصواب.
هنا يطلب سقراط من كريتو أن يجيب على بعض الأسئلة التي سيطرحها عليه، وسنرى أن الحكيم يدخل هنا إلى صعيد جديد يتعلق بالفضيلة وبواجب الفرد في أن لا يتصرف خطأ أو أن يؤذي أحداً.
سقراط: يمكننا القول بأنه علينا أن لا نقوم مطلقاً بارتكاب عمل خاطئ وأن السيئات دوماً تجلب الشرّ والعار لفاعلها؟ هذه المبادئ التي اتفقنا عليها من قبل هل علينا أن نلقي بها جانباً الآن؟ وهل أجرينا كل تلك الحوارات عبر سنوات حياتنا بجدية تامة لنكتشف ونحن في هذا العمر أننا لم نكن في حقيقة الأمر أفضل من أطفال يلهون أم نبقى على قناعتنا الثابتة، وعلى الرغم من النتائج التي قد نتعرض لها، بصحة كل ما كنا نقوله وبأن الظلم دائماً ما يجلب الشرور والعار لكل من يرتكبه. هل نتفق على ذلك؟
كريتو: نعم بالتأكيد
سقراط: إذن يتحتم علينا أن لا نرتكب الخطأ
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: ويجب علينا أن أوذينا أن لا نسبب الأذى في المقابل كما يعتقد الكثيرون، لأن الواجب أن لا نؤذي أحداً على الإطلاق.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: وماذا عن الردّ على الشرّ بالشرّ كما هو اعتقاد أكثرية الناس ، هل هذا حق ؟
كريتو: كلا
عند هذه النقطة يسعى سقراط لامتحان صدق كريتو في إجاباته لأنه سيواجهه بعد قليل بنتيجة موافقاته للحكيم. سأله ما إذا كان على ثقة بأنه موافق على أنه لا يمكن الردّ على الشرّ بالشرّ مهما كان حجم الأذى الذي نتعرض له وينبهه إلى أن هذا الرأي لا يشاركه فيه إلا قليلون بينما الأكثرية هم مع فكرة الردّ على الأذى بالأذى. لهذا يسأل سقراط كريتو سؤالاً محدداً:

”  هل من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟ “

سقراط: هل أنت موافق فعلاً على المبدأ الذي عرضته لك وهل أنت مستعد لأن تعتبره العامل الفصل في مناقشتنا أم أنك ستختلف معي بشأنه؟ فإن كنت مع الرأي الآخر دعني استمع إلى ما ستقوله وإن كنت ستبقى على موافقتك لي فإنني سأتابع عرض حجتي.
وإذ يؤكد كريتو أنه لم يبدّل رأيه ينتقل سقراط إلى سؤال آخر هو: هل ينبغي للمرء أن يتمسك بما يعتقد أنه الحق أم يمكنه أن يتنصل منه ويخون مبدأه؟ يجيب كريتو بأن الصحيح هو العمل بما يعتقد المرء أنه الحق.
هنا يأتي سقراط إلى بيت القصيد مخاطباً كريتو:
سقراط: لكن إذا كان ذلك المبدأ صحيحاً، كيف نطبقه؟ إذا غادرت السجن رغم إرادة أهل أثينا هل أكون على حق أم على باطل؟ أو هل أكون بذلك قد سببت الأذى إلى أولئك الذين يجب أن يكونوا آخر من أفكر بإيقاع الأذى بهم؟ الا أكون بذلك قد خنت المبادئ التي توافقنا معاً على أنها يجب أن تتبع؟ ماذا تقول؟
يتفاجأ كريتو بهذا الانعطاف في حديث الحكيم ولا يقوى رغم ما قاله من موافقته لسقراط أن يجيب بالإيجاب على سؤاله وهو يختار بدلاً من ذلك موقفاً متردداً فيجيب: لا يمكنني الإجابة على ما تقول لأنني لا أعلم .
هنا ينتقل سقراط إلى أسلوب قوي في مواجهة كريتو بالحقائق وخطاب الضمير.
سقراط: لنفترض إذاً يا كريتو أنني قررت الهرب من السجن وقبل أن يحصل ذلك جاءتني قوانين أثينا وحكومتها للتحقيق معي في الأمر وهم سيبدأون حديثهم معي على هذا النحو: قل لنا يا سقراط – سيقولون- ما الذي أنت في صدده؟ هل حقاً عزمت على أن تعطل بقرار فردي منك قوانين البلاد ؟ هل تعتقد حقاً أنه من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟
هنا يوجه سقراط كلامه إلى كريتو ويسأله: ألا تعتقد أن اي خطيب مفوّه يمكنه أن يقدم مطالعة طويلة حول الشر الذي ينجم للدولة عن تجاهل قوانينها والتي تتطلب أن أي حكم تصدره يجب أن يتبعه التنفيذ؟ ربما وددت لو أنني أردّ على ذلك الاتهام بالقول: لكن الدولة هي التي سببت لنا الأذى بإصدارها لحكم ظالم!
كريتو: أحسنت يا سقراط!
سقراط: لكن القانون سيجيبني: هل هذا هو ما اتفقنا عليه؟ أم أن عليك أن تقبل بتنفيذ حكم الدولة ضدك؟ سيتابع القانون القول: قل لنا يا سقراط أي جرم ارتكبناه ضدك يبرر لك أن تقوم بتدميرنا وتدمير الدولة؟ بادئ الأمر لسنا نحن الذين سهلنا لك فرصة وجودك ؟ لقد تزوج والدك والدتك بمساعدتنا، وبما أنك اتيت إلى الحياة بمساعدتنا ونحن الذين اهتممنا بمعيشتك وبتعليمك، أليست قوانين الدولة التي جعلت من واجب والدك أن يقدم لك أفضل تعليم وأن يعلمك الرياضة والموسيقى؟ سأجيبهم: نعم . وعندها سيتابعون الحديث بما أننا وفّرنا لك الوجود والتربية وكل شيء هل يمكنك أن تنكر أنك لهذه الناحية ابننا وعبدنا كما كان أبوك وأجدادك من قبلك؟ وإذا كان صحيحاً أنك تتمتع بحقوق تزيد على ما نتمتع به أو أن من حقك أن ترد على الأذى الذي أوقعناه بك بأذى أكبر هل يمكنك أن تطبق ذلك المبدأ على والدك أو سيدك (لو كان لك سيد)، وإذا كنا نعتقد أنه من حقنا أن نميتك هل تعتقد أن لك الحق أن تدمرنا في المقابل؟ هل يغيب عن فيلسوف كبير مثلك أن للوطن قيمة أكبر وأقدس وأعلى من أي والد أو والدة أو أسلاف، وأن على المواطن حتى وإن لم يكن مقتنعاً بعمل الدولة أن يظهر الطاعة لها؟ وعندما توقع الدولة بك قصاصاً فإن عليك أن تتحمله بصمت، كذلك في المعركة، فإنه من العار على أي جندي أن يتمرد وأن يترك مكانه في القتال رغم ما قد يواجهه من خطر الجراح أو الموت. إن عليه أن يعمل ما يأمره به وطنه وكما إنه من غير المقبول أن يعتدي المرء على والده فإنه من غيرالمقبول أن يعتدي على بلده.
قدّم سقراط هنا مطالعة بليغة وموجزة في احترام الدولة والقانون وفي أسبقية الوطن على الفرد وأسبقية قوانين الدولة على مصلحة أو رغبات الأفراد، ومما لا شك فيه أنه في هذه الأفكار تطورت فكرة الديمقراطية الأثينية إلى درجة لا تقل نضجاً وتطوراً عن مفهوم الدولة في عصرنا الحاضر.

منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم
منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم

وجد كريتو نفسه هنا في موقف صعب للغاية، لقد استدرجه سقراط أولاً للتوافق معه على جملة من المبادئ التي وجدها منطقية مثل عدم الرد على الشر بالشر والتزام ما يعتقد الإنسان أنه الحق، لكنه يجد نفسه وقد باغته سقراط بالإنتقال إلى أهمية تطبيق تلك المبادئ بغض النظر عن النتائج التي قد تصيبنا من جراء ذلك. وها هو كريتو يجد نفسه أمام نتائج لتلك المبادئ لم يكن يتوقعها! بل إن سقراط بدا في مطالعته وكأنه يدافع فعلاً عن الدولة التي أذته وحكمت عليه بالموت، مقدماً بنفسه المثال على أن الموقف من الدولة والقوانين (وأي من شؤون الحياة) لا يمكن أن يكون استنسابياً ومرتبطاً بمصلحة أو تقدير الفرد. وبالطبع يرتقي سقراط في هذه المطالعة إلى ذروة التجرد إذ يرفض بصورة قاطعة عرض كريتو وبقية أصدقاء سقراط له مساعدته على الهرب من السجن، وهو لا يبدو مبالياً بالمرة بمصيره الشخصي وبحقيقة أن مؤدى ما يقوله يعني أنه يؤيد بنفسه تنفيذ حكم الإعدام الجائر. أليس هو من قال أمام المحكمة أن على المرء أن يلتزم الصدق والحق حتى ولو ترتب على ذلك أن يدفع حياته ثمناً لذلك؟ ثم ينتقل سقراط الآن إلى حسم الموضوع فيسأل كريتو: هل ما تقوله القوانين صحيح أم لا؟
كريتو: أعتقد أن ما تقوله صحيح
يردّ سقراط بتقديم المزيد من الشرح لنظريته في احترام الدولة – ومن زاويته هو عدم التمسك بالحياة لأي سبب كان- وهو يعطي لكلامه قوة خاصة بدعوة كريتو لتخيل ما سيقوله القانون في الامر مشروع تهريبه من السجن قبل يوم من تنفيذ حكم الإعدام.

تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا
تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا

سقراط: سيقول القانون بعد ذلك: فكر يا سقراط معنا بأن محاولتك الهرب من تنفيذ القانون تسبب لنا أشدّ الضرر، لأنه وبعد أن سببنا قدومك إلى هذه الدنيا ورعينا طفولتك ووفرنا لك التربية والتعليم وأعطيناك مثل أي مواطن حصة من خيرات البلد ، فإننا كنا نعلن دوماً بأن أي مواطن أثيني يبلغ الرشد ويكون قد تعرف على طريقة حياة المدينة ونظمها ومع ذلك لا يجد نفسه موافقاً على كل ذلك يمكنه السفر إلى أي مستعمرة أو مدينة أخرى يفضلها وأن يأخذ معه متاعه ولن يمنعه من ذلك أحد. لكن عندما يتعرف الرجل على المدينة ونظمها وقيمها ومع ذلك يختار أن يبقى فيها فإنه يكون قد دخل ضمناً في عقد يلتزم بموجبه تنفيذ كل ما تأمره به الدولة، ومن يتمرد على هذا الالتزام فإنه سيكون آثماً من ثلاثة وجوه. أولها أنه بتمرده علينا يكون كمن تمرد على والديه وثانيها لأننا نحن من وفّرنا له التعليم وثالثها لأنه دخل في تعاقد معنا يلتزم بموجبه تنفيذ ما يطلب منه لكنه لم يفعل.
يأتي سقراط إلى وجه آخر من الحجة عندما يجعل القانون يتابع حديثه الإفتراضي له فيقول: هناك أكثر من شاهد ودليل يا سقراط على أن القوانين والمدينة لم تكن تضايقك بأي حال، فأنت من بين الأثينيين جميعاً كنت أكثر من يقيم في المدينة بصورة دائمة، وأي مكان تمكث فيه فلا بدّ أنك تحبه ، وأنت لم تغادر أبداً المدينة سواء لمشاهدة الألعاب أو لأي سبب باستثناء مغادرتك المدينة لتأدية الخدمة العسكرية على الجبهات. أضف إلى ذلك، أنه كانت لديك الفرصة لاختيار عقوبة النفي بدل الإعدام لكنك أعلنت أنك تفضل الموت على النفي وانك لست قلقاً إزاء احتمال الموت لكنك تبدو وقد نسيت الآن تلك المشاعر البليغة وقررت ان تظهر الإحتقار لنا (الدولة) او لقوانيننا والتي تريد تدميرها. وها أنت تقوم بما يمكن فقط لعبد بائس أن يقوم به وهو الفرار والتمرد على الإتفاقات والعهود التي التزمت بها.
هنا يعود سقراط ليضع كريتو أمام الحقيقة متوقعاً منه أن لا يستمر في حالة الخوق والشعور بالخسارة الذي يعتريه مع بقية أصدفاء سقراط إزاء التنفيذ الوشيك لحكم الإعدام. ومن أجل شرح موقفه الرافض بصورة أقوى ينتقل سقراط إلى أسلوب جديد أكثر وضوحاً في عرض حجته .
سقراط: سيقول قانون أثينا : لتفكر جيداً يا سقراط، لو قررت أن تخرق القانون وتهرب بهذه الطريقة فأي منفعة ستأتيك أو ستأتي أصدقاءك من جراء ذلك. إن أصدقاءك سيحكم عليهم بالنفي وسيحرمون من المواطنية الأثينية، أو ستنزع ملكياتهم، هذا مؤكد تقريباً، أما أنت فإنك إن هربت إلى مدينة يونانية ثانية مثل طيبة أو ميغارا وكلاهما يطبقان أنظمة حكم جيدة فإنك ستأتي إليهم كعدوّ لأنهم سينظرون إليك كشخص مخرب للقوانين وستثبت للقضاة الذين حكموا عليك أن حكمهم كان صائباً، لأن من يفسد القوانين يمكن بسهولة أن يكون مفسداً للشبيبة وعقولهم. وفي نهاية المطاف هل نيل بضع سنوات من العمر يستحق كل هذا العناء؟ ثم لو فكرت من دون خجل بالهرب إلى مدينة أخرى أقل نظاماً مثل ثيسالي حيث توجد درجة كبيرة من الفوضى فإنهم سينظرون بعين الإعجاب إلى قصة هروبك من السجن مرفقة طبعاً بتفاصيل مضحكة مثل كيف تمّ تهريبك ملفوفاً بجلد ماعز أو غيره من سبل التخفي. وقد لا يكون هناك من سيذكرك بأنك وأنت في سن الشيخوخة هذه فعلت ما فعلت من أجل بضع سنوات من العمر، وقد يأتي بعض الرجال الغلاظ ليقولوا لك أشياء كثيرة مهينة. صحيح أنك ستعيش لكن كيف؟ ستعيش كمتزلف لجميع الناس وكخادم لهم، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب في ثيسالي!وهل قطعت كل تلك المسافات من أجل وجبة عشاء؟ وأين ستكون مشاعرك النبيلة حول العدالة والفضيلة آنذاك؟
يختم سقراط مرافعته بإسم قانون أثينا ودولتها فيتابع بالقول على لسان القانون: إسمع يا سقراط.لا تفكر بالحياة أو بالأسرة أولاً بل فكر بالعدل أولاً إن لم تفعل ما يطلبه منك كريتو (أي الهرب من السجن) فإنك بقبولك الحكم تغادر هذه الحياة بكل براءة، كشخص مظلوم وليس كمرتكب للشرور، ليس كضحية للقانون بل كضحية للناس، لكن إن قررت أن تبادل الشر بالشر والاذى بالأذى مخالفاً كل العهود والعقود التي عقدتها معنا فإننا سنكون على عداء معك ما دمت حياً، كذلك، فإن أشقاءنا وهم قوانين العالم الآخر سيستقبلونك (عند موتك) كعدو لأنهم سيعلمون أنك فعلت كل ما في وسعك لتدميرنا، لذلك نقول لك استمع إلى ما نقوله ولا تستمع إلى كريتو.

من آثار أثينا القديمة
من آثار أثينا القديمة

رفضه الهرب من السجن وهي مطالعة بارعة لأن سقراط لم يعرض الحجج على لسانه بل جعل القانون نفسه يتكلم ليعطي للحجة قوة أكبر وليضع كريتو في موقف يفقد فيه الأمل بإمكان تحقيق مشروعه. حقيقة الأمر أن سقراط لم يكن مقتنعاً من البدء لكن الحكيم يمتلك من الصبر ومن أسلوب الحوار المتدرج الذي اشتهر به بحيث يجعل محاوره يصل إلى النتيجة التي يكون هو على قناعة تامة بها.
لذلك تنتهي محاورة كريتو بكلام صريح من سقراط لمريده:
سقراط: هذا الصوت (أي الحجة التي ساقها ضد فكرة الهرب) هو الذي يطن في أذني وهو يمنعني من سماع أي صوت آخر وأنا على يقين بأن أي شيء إضافي قد تدلي به سيكون مما لا طائل تحته، لكن تكلم إن شئت إن كان بقي لديك أي شيء تقوله.
كريتو: لم يعد لدي شيء أقوله.
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه أمر الله.

الامير فخر الدين

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

“السلطان العثماني مراد خان الرابع استعاد للدولة قوتها وجعل أول أهدافه إنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده وتحجيم الولاة وتقصير ولاياتهم”

فخر الدين الثاني
الطموح المظلوم

المعنيون مسلمون على مذهب التوحيد قبل مجيئهم لبنان
لكنهم تبنوا موقفاً متسامحاً تجاه كافة الطوائف الأخرى

عوامل القوة التي ساعدت على اتساع ملك فخر الدين

توحيد السكان وبناء جيش ضخم وتنمية الاقتصاد
وتقوية التحالفات وحسن الإدارة ومداراة العثمانيين

انتصار فخر الدين على والي دمشق في معركة عنجر
كان أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في تاريخه الطويل

من أمير لمقاطعة الشوف إلى حاكم لكل لبنان
ولمناطق جغرافية واسعة من سوريا وفلسطين

في أول مساهمة مفصّلة من نوعها يتولى المؤرخ المدقق الدكتور حسن أمين البعيني تصحيح التأريخ الملفّق والملتبس للأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير وهو يعرض في هذا المقال، وفي ضوء البحث التاريخي العلمي، لحقيقة الأمير كقائد فذ وكمؤسس لأول كيان لبناني متكامل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في ظل السلطنة العثمانية مؤكداً هويّة الأمير الإسلامية الدرزية وبراءته من أي شبهات تعامل مع الإمارات الأوروبية، وشارحا في الوقت نفسه العوامل التي أدت إلى نكبة الأمير والأسرة المعنية على يد السلطان مراد خان العثماني.

لا تكفي للإحاطة بجميع جوانب حياته وتاريخه الحافل بالأحداث والإنتصارات والإنجازات على مدى 43 سنة من تسلّمه الإمارة المعنية، كما إن الحديث عن جانب معيّن من شخصيته وتاريخه يكون محدوداً جدّاً. وبناءً على ذلك سيقتصر الحديث فقط على نقاط محدّدة، هي أبرز المحطات التاريخية، وتوضيح الإشكاليات، وتصويب الأخطاء، وجلاء الغوامض، والقضايا الخلافية حول فخر الدين ورمزيته.

الأصل والنسب
إعتماداً على أسماء الأمراء المعنيين وتسلسلهم، هناك ثلاثة أمراء يحملون الإسم “فخر الدين”، أو الصفة أو الكنية “فخر الدين”. أولهم فخر الدين عثمان المتوفّى سنة 1506م، الذي أخطأ من جعلوه فخر الدين بن عثمان، وهو باني جامع دير القمر سنة 1493 حسبما هو منقوش على بلاطة في مئذنة الجامع، وكنيته أو صفته “فخر الدين” هي مضافة إلى إسمه “عثمان” كالكثيرين من الرجال سابقاً، ولا سيما الأعيان، إذ كان يُعطى لأحدهم صفة أو كنية من لفظتين، ثانيّتهما هي، على العموم، “الدين” أو “الدولة”، مثل ركن الدين بيبرس، وجمال الدين حجى، وجمال الدين محمد، وشرف الدولة علي. وثاني الأمراء المعنيين هو فخر الدين المتوفّى سنة 1544، وهو والد قرقماس. وقد يكون إسم فخر الدين هذا هو الإسم كاملاً، أو كنية تسبق إسماً لا نعرفه. وثالثهم فخر الدين بن قرقماس. وبناءً على ذلك يكون فخر الدين بن قرقماس بن فخر الدين، الذي نتكلم عنه، هو الثاني بالنسبة إلى جده فخر الدين، والثالث بالنسبة إلى جده وإلى فخر الدين عثمان، لكنه مشهور بفخر الدين الثاني نسبة إلى جده، مع العلم أن الإسم “فخر الدين” حين يُكتب أو يُلفظ يتجه دائماً إليه دون غيره، نظراً لشهرته وأهميته.
الأمير فخر الدين من عشيرة عربية عدنانية، أي من القبائل القيسية، ومن العرب المستعربة. إنه ينتسب إلى الأمير معن بن ربيعة، المتسلسل من العرب الأيوبيين المتسلسلين من ربيعة الفَرَس بن نزار بن معد بن عدنان المتحدّر من نسل إبراهيم الخليل. وقد نزح أجداد المعنيين من جهات نجد، في الجزيرة العربية، إلى الجزيرة الفراتية، ومنها إلى جهات حلب حيث قطنوا في الجبل الأعلى (جبل السمّاق) ومنه انتقلوا إلى جبل لبنان. أما سبب تسميتهم بالأيوبيين، فهي لا تمت بصلة إلى الأيوبيين الأكراد، وإنما هي نسبة إلى أحد أمرائهم: أيوب. سلسل المؤرّخ طنّوس الشدياق، المتوفّى سنة 1861، الأمراء المعنيين بدءاً بسنة 1120م (تاريخ قدومهم إلى لبنان) فذكر إعتماداً، على الأرجح، على سجل نسب خاص بهم، 16 أميراً توارثوا الإمارة المعنية قبل فخر الدين، كما ذكر أسماء أبناء فخر الدين وأبناء وأحفاد أخيه يونس وصولاً إلى آخر أمير معني من الأسرة الحاكمة، وهو الأمير أحمد، المتوفّى بدون عقب سنة 1697 1.
ظهرت مؤخّراً مقولتان عن نسب المعنيين وفخر الدين، مبنيّتان على إستنتاجات خاطئة، وأدلّة غير مقنعة، أولاهما نسبتهم إلى التنوخيين والقول بفخر الدين المعني التنوخي، وثانيتهما نسبتهم إلى آل علم الدين الرمطونيين، التي قال بها بولياك2، أو إلى الأمير معن جد آل علم الدين هؤلاء الذين هم من آل عبدالله المنسَّبين إلى التنوخيين بالمصاهرة. وقد دُعوا بإسم آل علم الدين نسبةً إلى جدهم علم الدين سليمان بن علم الدين معن، ودُعوا بالرمطونيين نسبة إلى قرية رمطون الدارسة، الواقعة في شحّار الغرب على يمين مجرى نهر الدامور، وقدأقاموا فيها من أوائل الربع الأخير للقرن الثالث عشر إلى أن خربت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.
إن المعنيين ليسوا على الإطلاق من التنوخيين ليقال عن فخر الدين المعني إنه تنوخي، ولو كانوا كذلك لورد، على الأقل، ما يفيد عن تنوخيتهم عند مؤرّخين توسّعا في الحديث عن التنوخيين، وهما صالح بن يحيى المتوقّف عن الكتابة سنة 1453م، وإبن سباط المتوقّف عن الكتابة سنة 1520م. وكل ما ذكره إبن سباط عن المعنيين هو وفاة الأمير فخر الدين عثمان المعني سنة 1506.
وإن المعنيين ليسوا من آل علم الدين الرمطونيين، ولا ينتسبون إلى أحد اجدادهم معن، لأن هذا (واسمه الكامل علم الدين معن) هو إبن معتب الذي يعود في نسبه إلى الطوارقة الذين هم فخذ من آل عبدالله، وأجداده وأبناؤه معروفون ومذكورون في تاريخي صالح بن يحيى وإبن سباط حتى سنة 1520 وليس بينهم أي أمير معني3، ثم إن أحفادهم مذكورون في التواريخ بعد ذلك حتى نهاية آل علم الدين في موقعة عين داره سنة 1711.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن المعنيين قيسيون وقد تزعّموا القيسيين في لبنان، وأنهم ينتمون إلى جدهم الأعلى عدنان، وأن التنوخيين وآل علم الدين يمنيون ينتمون إلى جدهم الأعلى قحطان، ويتسلسلون من الملوك المناذرة اللخميين الذين حكموا في الحيرة.
وإذا كان النسب لا يجمع بين المعنيين وبين التنوخيين وسائر المناذرة، فإن هناك ما يجمعهم غير ذلك، وهو ثلاثة عوامل، أولها المجاورة في السكن في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) والسكن في جبل لبنان الجنوبي. وثانيها التحالف والجهاد ضد العدو المشترك الفرنجة، والتحالف في المرحلة الأخيرة من نهاية الإمارة التنوخية. وثالثها المصاهرة التي من وجوهها في القرن السادس عشر زواج الأمير قرقماس (والد فخر الدين) من الأميرة نسب التنوخية، وزواج فخر الدين من إبنة الأمير جمال الدين الأرسلاني.
كان فخر الدين يخاطب شيخ مشايخ الموحِّدين (الدروز) أو رئيسهم الروحيّ،الشيخ بدر الدين حسن العنداري، بالقول: يا خالي، لا لأنه شقيق والدته الأميرة نسب، وإنما لأنه من عشيرة معتبرة تنوخية بالمصاهرة، وذلك جرياً على المألوف في الماضي، والمتداول عند البعض اليوم، وهو قول الواحد من عشيرة للواحد من أخرى: يا خالي، إذا كانت أمه من هذه العشيرة.
ومن الأساطير والتزويرات في تاريخ لبنان عموماً، وفي تاريخ الأمير فخر الدين تحديداً، تنسيب فخر الدين إلى الفرنجة (الصليبيون)، وقد جاء ذلك أولاً في رسائل وتقارير رهبان المدرسة المارونية، وغيرهم من العاملين في الثلث الأول للقرن السابع عشر على إدخال فخر الدين في مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحية المقدّسة في فلسطين، وجاء في رسائل البابا المبنية على الرسائل والتقارير المذكورة وفي كتابات بعض المؤرّخين الأوروبيين. وهذا النسب المبتدع لفخر الدين المعني، على خلفية دينية واستعمارية، يعيده إلى غورفرو دي بويون، أول ملوك الفرنجة (الصليبيون) على مملكة بيت المقدس المؤسّسة في تموز 1099 بعد احتلال الفرنجة للقدس.

بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر
بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر

“الأمير فخر الدين عدناني قيسي نزح أجداده من نجد واستقروا في جبل السماق قبل انتقالــــهم إلى جبل لبنان”

فخر الدين المسلم الدرزي
الأمير فخر الدين درزي إبن درزي، لكنه أيضاً إرث وطني. وما الحديث هنا عن درزيته ودرزية أسرته المعنية إلا من قبيل ذكر الحقيقة التاريخية من ناحية، لأن هذا أخذ حيّزاً في كتابات بعض المؤرّخين المحليين والأجانب، ومن قبيل تبيان دوره ودور الموحِّدين (الدروز) في تكوين لبنان، وفي صنع تاريخه، من ناحية أخرى.
من الطبيعي أن يكون إعتناق المعنيين لمذهب التوحيد (مذهب الدروز) قد حصل إبّان وجودهم في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) قبل إنتقالهم إلى لبنان في سنة 1120م، ذلك أن الدعوة إلى مذهب التوحيد توقّفت في سنة 1047م، ولم يعد ممكناً الدخول فيه بعد هذه السنة. ومن الأدلة على درزية فخر الدين، ودرزية المعنيين، ما يلي:
1. إن بعقلين هي مكان ولادة فخر الدين في سنة 1572، ومركز إمارته في البداية، ودير القمر هي مركز إمارته بعد بعقلين. وكلا البلدتين مقّرا المعنيين منذ قدومهم إلى لبنان. وجداول الإحصاء العثمانية بين سنتي 1519، 1569 تظهر أن في بعقلين 119 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز، وأن في دير القمر 156 متزوجاً وأعزباً جميعهم من الدروز أيضاً. فهل يعقل أن يكون على بلدتي بعقلين ودير القمر المسكونتين بالدروز فقط، وعلى محيطهما المسكون بأكثرية درزية ساحقة، أمير غير درزي، مع الإشارة إلى أن الإحصاء المشار إليه متزامن مع نشأة قرقماس (والد فخر الدين) وفترة تسلمه الإمارة على الشوف.
2. إن والدة الأمير فخر الدين هي الأميرة نسب التنوخية، والتنوخيون غير مشكوك بدرزيتهم وحرصهم على التزاوج فقط مع الأسر الدرزية. يُضاف إلى ذلك أن جداول الإحصاء العثمانية التي ورد ذكرها تظهر أن في قريتهم عبيه 88 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز.
3. إن الوثائق العثمانية التي تعود إلى أواخر القرن السادس عشر، وإحداها مرسلة إلى والي دمشق بتاريخ 12 شباط 1585، تتكلم عن الأمير قرقماس (والد فخر الدين) فتقول: “إنه من طائفة الدروز مقدّم عاصٍ”4.

4. إن المحبّي المتوفّى سنة 1111هـ (1699م) يذكر عن فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”5، كما إن المرادي المتوفي سنة 1206هـ (1791م) يذكر عن الأمير حسين إبن الأمير فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”6.
5. إستمرار من تبقىّ من المعنيين، (المغيَّبين من التاريخ بناءً على مقولة إنقراض المعنيين في سنة 1697) في قرية إبل السقي, في الجنوب اللبناني، كانوا على مذهب التوحيد الدرزي حتى إنقراضهم في سنة 1963، تاركين في هذه القرية ما يذكّر بهم وبدرزيتهم، وهو الخلوة المعروفة بإسم “الخلوة المعنية”، واستمرار الوجود المعني (المغيّب من التاريخ أيضاً بناءً على المقولة المذكورة) ممثَّلاً بأسرة درزية تحمل إسم “آل معن” موجودة حتى اليوم في عرنة والريمة من سورية، وفي المعروفية وغريفه من لبنان7.
أخطأ بعض المؤرّخين في تحديد مذهب المعنيين، ومنهم طنّوس الشدياق الذي ذكر أنهم إسلام دون تحديد واضح لمذهبهم، بيد أننا نستشفّ من كلامه أنهم عنده على مذهب إسلامي غير المذهب الدرزي، لأنه قال عن التنوخيين وآل العماد وآل نكد وآل تلحوق وآل عبد الملك وآل حصن الدين إنهم دروز، وذلك في كتابه “اخبار الأعيان في جبل لبنان”. وفي قوله إن المعنيين إسلام وإن الأسر التي ورد ذكرها درزية، تمييز للدروز عن سائر المسلمين وجعلهم غير مسلمين، في الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم سائر المسلمين، مسلمين . فالمعنيون مسلمون دروز، وفخر الدين هو أمير مسلم درزي.
ومن غرائب الأمور أن تتلازم أسطورة النسب الفرنجي لفخر الدين، التي ورد ذكرها، مع أسطورة دينه المسيحي الذي كان له في الأصل، بناءً عليها، وقد تخلّى أجداده الفرنجة عن هذا الدين بعد هزيمتهم في حطّين سنة 1187م، ولجوئهم إلى الجبال وعيشهم في وسط درزي. ثم إن مؤدلجي التاريخ إبتدعوا أسطورة عودة فخر الدين إلى المسيحية، بتنصّره في سنة 1633، وبوجود صليب في صدره عند إعدامه سنة 1635(!)
وإذا كانت درزية فخر الدين حقيقة لاشك فيها، فإن هناك حقيقة أخرى ملازمة لها، تكمن في نهجه، وهو أنه كان مسلماً درزياً متسامحاً لا يمّيز بين أتباع الطوائف والمذاهب داخل إمارته، وكان متجاوزاً الحدود الطائفية والمذهبية والمناطقية والقواعد الموضوعة في التعاطي بين أتباع المذاهب، وهو لم يحصر نفسه في الإطار التقليدي الذي حصر فيه انفسهم – قبله وبعده- العديد من الزعماء الدروز، فكان هذا مبعثاً لعظمته وانتشار نفوذه. وهو أيضاً لم يجار السواد الأعظم من قومه المحافظين الذين يشدّدون على حصر التزاوح فقط بين المسلمين الدروز، بل تزوّج وزوّج أبناءه من سائر المسلمين، وتعاطى في موضوع الزواج من زاوية المصلحة الشخصية والسياسية. وقد عُرف عن أجداده تزاوجهم مع حلفائهم الأمراء الشهابيين، لكنه هو تزاوج مع آل سيفا وآل حرفوش إضافة إلى الشهابيين، وذلك لتعزيز شبكة التحالفات التي أنشأها لتقوية وضعيه السياسي والعسكري.

“أكبر عملية تزوير أرجعت نسب فخر الدين إلى الصليبيين وزعمت تنصره مجدداً وأدخلته ضمن مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحــــية المقدّسة في فلسطين”

خطأ مقولة نشأة فخر الدين في كسروان
حين كان فخر الدين في الثالثة عشرة من عمره، قدمت في سنة 1585 حملة والي مصر العثماني إبراهيم باشا (وهو بالطبع غير إبراهيم باشا المصري) إلى جبل لبنان لإحكام السيطرة العثمانية عليه، وتحصيل الضرائب التي امتنع الدروز عن أدائها كونها باهظة لا قدرة لهم على دفعها، وجمع البنادق الحربية التي إمتلكوها وكانت أطول من بنادق الجيش العثماني. وما قيل عن أن سبب هذه الحملة هو حادثة جون عكار، حيث جرى سلب الأموال المرسلة من مصر إلى خزينة السلطان العثماني في الآستانة، ما هو إلا زعم أثبتت بطلانه الوقائع التاريخية.
نتج عن هذه الحملة مقتل خمسمائة أو ستمائة شيخ درزي غدراً في معسكر إبراهيم باشا في عين صوفر، جاؤوا لمقابلته والتفاوض معه، كما نتج عنها تدمير وإحراق ونهب قرى جبل لبنان الجنوبي، وخصوصاً تلك القريبة من عين صوفر، وموت الأمير قرقماس (والد فخر الدين) في قلعة شقيف تيرون (قلعة نيحا) بعد أن رفض المثول أمام القائد العثماني خوفاً من غدره، وفضّل الإلتجاء إلى القلعة والإحتماء بها. فتسلّم الإمارة المعنية بعده أخو زوجته نسب، الأمير سيف الدين التنوخي، مقابل مبلغ من المال قدّمه للقائد العثماني, وقسّم إقامته بين عبيه مركز إمارته، وبعقلين مركز إمارة صهره قرقماس. وقد ذكر البطريرك إسطفان الدويهي (1630- 1704) أن الأمير سيف الدين التنوخي “أخذ إلى عنده للشوف إبني شقيقته الأميرين فخر الدين ويونس. وبعد ست سنوات، رجع إلى عبيه في الغرب وولّى الأمير فخر الدين على الشوف”8.
من هذا الكلام الصادر عن مؤرّخ قريب للحدث نستنتج أن فخر الدين وأخاه عاشا في كنف خالهما الأمير سيف الدين التنوخي، وتحت رعاية والدتهما الأميرة نسب، إلا أن هناك أدلجة للتاريخ، بإختلاق مقولة نشأتهما في كسروان، وبحسب الرواية الخازنية، عند آل الخازن في بلّونة حيث تربيا هناك، وأول من أورد المقولة المختلقة هو المؤرّخ الإيطالي جيوفاني ماريتي الذي ذكرها في كتابه: “تاريخ الأمير فخر الدين”9. وتبنّاها القسّ حنانيّا المنيّر في كتابه: “ الدر المرصوف في تاريخ الشوف”10. وحذا حذوه طنوّس الشدياق في كتابه: “ أخبار الأعيان في جبل لبنان”11. وتبنّى مؤّرخون كثيرون، معظمهم موارنة، هذه الرواية على خلفية سياسية وطائفية مفادها ان الأمير الدرزي فخر الدين نشأ في بيئة كسروانية خازنية، وبيئة ثقافية مارونية. وهذا ما أرسى في نظرهم لعلاقة مستقبلية بينه وبين آل الخازن، وأعاد للموارنة فضل تنشئة أكبر حاكم عرفه لبنان، وفضل خلق صفة التسامح عنده مع النصارى من قبيل ردِّ الجميل لمن ربوّه.
إن كل ما ورد عن نشأة فخر الدين في كسروان مختلق وغامض، ومليء بالتناقضات والأخطاء، وبالإختلافات بين أسماء المربّين المزعومين لفخر الدين. ومن الإختلافات، مثلاً جعل الحاج كيوان مربّياً للأمير فيما لم يعرفه الأمير إلا بعد تسلّمه الإمارة، وقد جعلته الرواية المختلقة مسيحياً من أسرة نعمة ضو المارونية التي توطّنت دير القمر فيما هو مسلم حجَّ مرتين، ومن الإنكشارية، ومن خارج لبنان. ويكفي للدلالة على إختلاق هذه الرواية ما ذكره البطريرك الدويهي ووردت الإشارة إليه، وهو أنه أتى بإبني شقيقته منذ سنة 1585 إلى الشوف. ثم إن مؤرّخ تاريخ الأمير فخر الدين (الشيخ الخالدي الصفدي) لم يشر إلى شيء مما تضمنته، وإن طبيبه الأب روجيه الذي ألف كتاباً إسمه “فخر الدين أمير لبنان” لم يشر إلى ذلك. كما إن المؤرّخ الفرنسي لوران دارڤيو الذي أقام في الشرق وزار صيدا سنة 1658، ومكث فيها اكثر من سبع سنوات، قال في مذكراته إن فخر الدين عاش في كنف خاله حتى أصبح مؤهّلاً أن يحكم بنفسه.12
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن المقولة الخاطئة عن لجوء فخر الدين إلى كسروان متخفياً، وبقاءه فيها مختبئاً عن أعين العثمانيين، تخالف مقولة أكيدة، وحقيقة مسلّماً بها، وهي تسلّم خاله سيف الدين التنوخي الإمارة المعنية، وحفاظه عليها مدة خمس سنوات، وتجعل هذا الأمير الذي حكم الشوف والغرب عاجزاً عن حماية إبني شقيقته، وهذا من المسائل التي تثير الدهشة، ولا يقبلها عقل راجح.

بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين
بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين

تسلّم الإمارة وأسس بنائها
عاش فخر الدين بعد موت والده ست سنوات في كنف والدته الأميرة نسب، وخاله الأمير سيف الدين التنوخي. تعلّم الصبر والإيمان والحكمة من والدته التي ظلّت طوال حياتها مواكبةً له، ومرشدة في القضايا المهمة والمصيرية. وتعلّم من خاله إدارة شؤون الحكم، وكيفية التعاطي مع الولاة والقادة العثمانيين، حتى إذا كبر وتسلّم الإمارة في سن الثامنة عشرة، كان بفضل هذه الخبرة التي إكتسبها، وبفضل مهاراته الذاتية، مؤهّلاً للقيادة، ولتسيير شؤون الإمارة، ولإنطلاقة موفّقة في مسيرته الطويلة الناجحة.
بعض المراجع ذكر أن المعنيين أقاموا بعد قدومهم إلى لبنان في دير القمر أولاً، وبعضها الآخر ذكر أنهم أقاموا أولاً في بعقلين، ما جعل هاتين البلدتين مقرّ المعنيين في الشوف، وما جعل المعنيين فرعين، أشهرهما وأهمهما الفرع المقيم في بعقلين. وبعد أن توفي الأمير قرقماس لم يبقَ من المعنيين في الشوف سوى ولديه: فخر الدين ويونس، ذلك أن سائر الأمراء المعنيين تركوا الشوف عند قدوم حملة إبراهيم باشا سنة 1585، وأقاموا في إبل السقي في جنوب لبنان، ومنهم تحدّر المعنيون المعروفون بإسم آل علم الدين المعنيين. وبناءً على ذلك ورث فخر الدين وأخوه البيت المعني في بعقلين، والبيت المعني في دير القمر.
حين جاء فخر الدين من عبيه إلى الشوف لتسلّم الإمارة لاقاه أنصاره من القيسيين في السمقانية، وحوربوا له بهتافهم المعهود، وساروا معه إلى بعقلين، حيث بدأ حكمه فيها، واتخذها مقراً له. لكنه في سنة 1613، وقبل سفره إلى أوروبا، أمر أخاه يونس أن يقيم في دير القمر ويتولّى الأحكام فيها. وبعد أن عاد من أوروبا سنة 1618 إتخذ دير القمر مقرّاً له، لأنها كانت في ايامه أكبر من بعقلين، ولوقوعها على طريق رئيسة تنطلق من ساحل الدامور نحو البقاع، ولأن فيها نبع “الشالوط” الغزير نسبياً، الذي يؤمّن حاجة المقيمين فيها، فيما تفتقر بعقلين إلى المياه، إذ إن نهرها بعيد عنها، وليس فيها سوى عيون شحيحة أقربها “عنج النحلة” وعين حزّور” وهي تعوّض عن قلة المياه بالآبار.
إن البيت الذي وُلد فيه فخر الدين في بعقلين كان المقرَّ الأول لإمارته، ومقر إمارة ابيه وأجداده، وقد ظل قائماً إلى أواسط القرن العشرين، حين أزيل في أواخر عهد رئيس الجمهورية بشارة الخوري، لتوسيع الشارع الرئيس وسط البلدة. ولو أبقي عليه لكان معلماً يشير إلى وجود المعنيين في بلدةٍ هي مهدهم، ولكان مع التمثال الذي أقيم لفخر الدين على مسافة قريبة منه في باحة المكتبة الوطنية (سراي بعقلين سابقاً) معلمين أثريين يضافان إلى معالم بعقلين الأثرية، ومنها آثار معنية. وفي الواقع إن الحفاظ على بيت فخر الدين كان ضرورة تاريخية تراثية حتى لو اقتضى الأمر تحوير الطريق، وهدم عشرات البيوت بدلاً عنه، ودفع المبالغ الباهظة.
منذ أن تسلّم فخر الدين الحكم وهو في سن الثامنة عشرة أبدى مقدرةً في تسيير شؤون الإمارة، كانت تزداد مع تمرّسه بها، ومع مواجهته للتحدّيات المتتابعة. كان رجلاً طموحاً، ومستنيراً، وذكياً حكيماً يتقن فن السياسة وفن الحرب، ولا يتورّع عند الحاجة عن إستعمال أساليب عصره في المناورة والمداهنة والمؤامرة. عمل على توسيع إمارته وتقويتها والنهوض بها في شتّى المجالات، معتمداً الأساليب التالية:
– توحيد سكان الإمارة، لأن الوحدة بين مكوّناتها هي الأساس في بنائها والنهوض بها، وتحصينها ضد العوامل الخارجية.
– بناء جيش قوي جعله فخر الدين من عناصر وطنية، ومن المرتزقة السكمان، أو السكبان، تراوح عدده تبعاً لتوسَع مناطق نفوذه وشبكة تحالفاته. وقد وضع بعضه في القلاع، وزوّده بالأسلحة الحديثة بما في ذلك بعض المدافع.
– النهوض بالزراعة والصناعة، والتوسّع في العلاقات التجارية مع الخارج.
– ضبط الأمور الإدارية والمالية مما سهّل تنظيم الضرائب وجبايتها، ودفع المترتّب منها للدولة العثمانية دون تأخير، كما ساعد على منح الآستانة للأمير المزيد من الإلتزامات داخل لبنان وخارجه، وعلى سكوتها عن توسّعه.
– تحاشي الإصطدام مع الدولة العثمانية، والمحافظة على إنتظام العلاقات معها ، وتوسيع الإمارة وتقويتها دون إغضابها .

خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها
خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها

توحيد السكان
لم يكن المعنيون يمنيين ثم تزعموا القيسيين كما جاء في بعض المراجع، وإنما هم في الأصل قيسيون، وزعماء القيسيين في جبل لبنان، ومن أبيات الحداء المتقادمة التي كانت تُنشد في أيامهم، وتؤكّد قيسيتهم، البيتان التاليان:
نــــــــحنـــــــــــــــا عـــزاز بــــــــــحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــالحــــــــــــــــرب صــعـــــــــــــــــــــــب مــــــــنــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــا
مــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت قيــــــــــــــــــــــس ســيوفنــــــــــــــــــــا ومــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت معـــــــــــــــــــــــن رجــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــا
كان هذان البيتان من حداء القيسيين وهم يتأهبون للحرب، أو يذهبون إليها. وكان هتافهم “الهوبرة” التي هي، لفظة “هو البار” أي هو الباري بمعنى هو الله. وكان شعارهم الموضوع على علمهم الأحمر اللون: السوسن، أما هتاف اليمنيين فكان “يا المعروف” وأصلها: يا آل معروف، وهذه اللفظة هي لقب الموحِّدين (الدروز) المحبّب إليهم. وكان شعار اليمنيين الموضوع على علمهم الأبيض: زهرة الخشخاش. وقد أراد فخر الدين أن يوحّد أتباع الحزبين: القيسي واليمني، ومما فعله في هذا الصدد الجمع في علمه بين لوني علميهما: الأحمر والأبيض.
ظهرت ملامح غرضية جديدة في عهد فخر الدين، كانت جذور الغرضية اليزبكية- الجنبلاطية. وهذه الملامح نجدها في النزاع الذي نشأ بين الشيخ يزبك إبن عبد العفيف جد آل العماد، والشيخ جنبلاط. لكن فخر الدين سجن الشيخ جنبلاط في قلعة شقيف أرنون، وأنصف خصمه الشيخ يزبك، وأعطاه حكم بلاد صفد سنة، وبلاد بشاره سنة13. فلم يقوَ شأن هاتين الغرضيتين في أيامه، وإنما عاد وقوي شأنها في العهد الشهابي في صفوف القيسيين بعد نهاية الغرضية اليمنية.
وكما عمل فخر الدين على الجمع بين أتباع الغرضيتين: القيسية واليمنية لتوحيد سكان الإمارة، هكذا عمل على الجمع بين أبناء المناطق المختلفة، وأبناء الطوائف والمذاهب المتعدّدة. وقد كان له من تراثه الدرزي ذي الجذور الإسلامية ما يساعده على ذلك، إذ إن الدروز يتصفون بالتسامح السياسي والإجتماعي، ولا يعملون في المجال الديني على زيادة أعدادهم، لأن مذهبهم ليس مذهباً تبشيرياً كسائر المذاهب الدينية. وقد تجاوز فخر الدين الإطار الضيّق، الذي حصر فيه أنفسهم الكثير من الزعماء التقليديين الدروز، إلى الإطار الإسلامي الواسع الذي هو الإطار الطبيعي للدروز.
رأى فخر الدين أن العنصر المسلم الدرزي، الذي يشكّل الأكثرية الساحقة من سكان جبل لبنان الجنوبي بحاجة إلى عنصري الإدارة والعمل المتوافرين عند مسيحيي جبل لبنان الشمالي، فشجّع إنتقالهم إلى المتن والجرد والغرب والشوف، كما إنتقل إلى هذه المناطق نازحون مسيحيون من حوران وشمال سورية. وقد إستفاد فخر الدين من خبرتهم في الإدارة، ومن أيديهم العاملة والمهنية في إحياء الأرض الموات، وزيادة المساحة الزراعية وحسن إستغلالها، وفي تأمين حاجات الدروز إلى الحرف الضرورية يوم كانوا منصرفين إلى القتال والتمرّس بفنون الفروسية.
من الخطأ النظر إلى ما قام به فخر الدين من زاوية الإضطرار إلى تلبية حاجة المجتمع الدرزي إلى الأيدي العاملة والحرفية، فقط، بل إن ما قام به كان أيضاً من قبيل التسامح، ذلك أنه لم يتقيّد في معاملة المسيحيين بما كان معمولاً به آنذاك، وهو أن يسيروا إلى يسار المسلم، ولا يركبوا الخيل بسروج، وأن يلبسوا ما يميّزهم عن المسلمين. وفي هذا الصدد يقول البطريرك إسطفان الدويهي ما يلي:
“وفي دولة الأمير فخر الدين إرتفع رأس النصارى لأن أغلب عسكره كانوا نصارى وكواخية وخدامة موارنة. فصاروا يركبون الخيل بسروج ويلفّون شاشات وخرور ويلبسون طوامين وزنانير مسقّطه ويحملون البندق والقفاص المجوهرة. وفي أيامه تعمرّت الكنايس في بكفيا والعربانية وبشعله وكفرزينا وكفرحلتا، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في البلاد”14.
ومن وجوه معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى إعطاؤهم قرية مجدل معوش في الشوف، التي إشتراها إبنه علي من أهلها السنّة، والسماح للبطريرك يوحنا مخلوف الإهدني الماروني بالسكن فيها وبناء دار وكنيسة. وقد بلغت أخبار معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى البابا بولس الخامس فكتب في 16 كانون الثاني 1609 إلى الأمير يشكر له عطفه على المسيحيين، خاصة الموارنة وما أتاه أخيراً في سبيلهم، “ وحثه ثانياً وثالثاً أن يواصل رعايته لأولاده المسيحيين وخاصة الموارنة”15.
قبل فخر الدين بعدة قرون كان النصارى جيران أجداد الموحِّدين الدروز، ثم جيرانهم في بدايات توّطن الفريقين لبنان: النصارى – وهم الأسبق بقليل إلى سكن لبنان– يقيمون في كسروان الذي كان يمتدُّ جنوباً حتى نهر بيروت، وأجداد الموحِّدين الدروز يقيمون إلى الجنوب منهم. وقد نشّبت بين الفريقين المواقع التي أّدّت إلى إنكفاء النصارى بإتجاه الشمال، وبعد ذلك إنحصر وجودهم في جبل لبنان الشمالي. وفي إستقدام فخر الدين لهم إلى جبل لبنان الجنوبي، وتشجيعهم على النزوح إليه، هو طيٌّ لصفحة العداء الذي إستمر من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي، ونقلٌ لصيغة المجاورة بالسكن إلى صيغة العيش الدرزي النصراني المشترك، التي قامت عليها لقرون الثنائية السياسية الدرزية النصرانية، وخصوصاً المارونية. وهذا العيش المشترك حصل في جبل لبنان الجنوبي الذي يحمل إسم “جبل الدروز” لأن الأكثرية الساحقة من سكانه حتى القرن الثامن عشر كانت من الموحِّدين (الدروز). وبالتقاء هذين المكوّنين الرئيسين لجبل لبنان وُضعت أسس كيان لبنان الذي ستلتقي فيه معهما سائر المكوّنات، وقد إستمّرا في العيش معاً، وفي قرى مختلطة، بالرغم من حصول الأزمات والفتن بينهما، مما يدلُّ على أن قدرهما ومصلحتهما أن يعيشا معاً.

شجرة أمراء آل معن

“فخر الدين وشقيقه يونس كانا في رعاية خالهما الأمير سيف الدين التنوخي خلال حملة التأديب العثمانية وقصة تعهدهما من آل الخازن في بلونة مختلقة بالكامل”

التوسّع الذي تجاوز الحدود
تقترن أهمية الإمارة المعنية، منذ قيامها في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي حتى نهايتها في سنة 1697، بإسم الأمير فخر الدين، ولولاه لكانت محدودة الأثر والدور، فبه كبرت، وبنهايته ضعفت، ثم ما لبثت أن إنتهت بعد 62 سنة من موته. لقد توسّعت في عهده وتجاوزت حدودها السابقة حتى شملت كل أراضي لبنان اليوم، كما تجاوزت حدود لبنان إلى محيطه فشملت قسماً كبيراً من بلاد الشام.
كانت الإمارة المعنية، عند تسلّم فخر الدين لها، تشتمل فقط على الشوف، أو ما يُعرف آنذاك بالشوف المعني الذي هو جزء من جبل صيدا. وكان شوف إبن معن يشتمل في أواخر العهد المملوكي، وأوائل العهد العثماني، على الشوف الشويزاني (السويجاني) والشوف الحيطي. وتبعاً لذلك كان فخر الدين واحداً من أمراء المقاطعات التي يتشكّل منها لبنان وفق النظام الإقطاعي الذي ورثه العثمانيون عن المماليك. وكانت خريطة الإقطاع تضم، بالإضافة إليه، أمراء عديدين، هم الأمراء البحتريون التنوخيون، والأرسلانيون في “الغرب”. و آل علم الدين في “الجرد”. و آل عسّاف في كسروان. وبنو سيفا في عكار وطرابلس، ثم في كسروان وبيروت بعد أن قضى يوسف باشا سيفا على الأمير محمد عسّاف سنة 1590. وآل حرفوش في البقاع الشمالي. وآل فريخ في البقاع الأوسط. وآل شهاب في وادي التيم. وآل الصغير في بلاد بشاره من جبل عامل. وكان أخطر هؤلاء على فخر الدين، جاراه اليمنيان يوسف باشا سيفا ومنصور إبن الفريخ.
إعتمد فخر الدين في توسّعه، وفي نزاعاته مع خصومه، على التحالفات مع أمراء المقاطعات وحكامها، ومنها تحالفه الدائم مع الشهابيين أمراء وادي التيم، وهو إستمرار للتحالف التاريخي الذي نشأ بين الأسرتين: المعنية والشهابية منذ توطنهما لبنان. ومن التحالفات تحالفه مع آل حرفوش ضد آل فريخ وآل سيفا، وتحالفه مع علي باشا جانبولاد ضد آل سيفا، وتحالفه مع بعض أمراء القبائل العربية مثل الأمير مدلج الحيارى، والأمير أحمد قانصو، والشيخ حسين بن عمرو، والشيخ أحمد الكتّاني.
تقرّب فخر الدين من والي دمشق مراد باشا القبّوجي بالهدايا والزيارات، فأعاد الوالي إليه سنة 1592 صيدا التي كانت للمعنيين، وإستدرج عدوّه منصور إبن الفريخ إلى دمشق وقتله، وأوعز إلى فخر الدين محاربة إبنه قرقماس المقيم في بوارج، الذي كثرت تعدّياته في البقاع، فهاجمه مع حليفه يونس حرفوش وعرب المفارجة وآل قانصو، ثم قضى عليه، وتقاسم أملاكه في البقاع مع إبن حرفوش. وكان القضاء على إبن الفريخ يفيده من أجل تسهيل الإتصال مع حلفائه الشهابيين في وادي التيم وحلفائه آل حرفوش في بعلبك، وإيجاد الأمن الضروري للمزارعين من جبل لبنان لإستثمار أراضي البقاع الأوسط.
ورث فخر الدين عن أسرته العداء مع آل سيفا، وكان صراعه معهم أطول الصراعات مع الأسر الإقطاعية خارج جبل لبنان الجنوبي، وقد إستمر من تاريخ تولّيه الإمارة حتى قرابة تاريخ نهايتها. ولم يُجدِ تصاهره معهم في وضع حد لهذا العداء الذي تعدّدت أسبابه ومنها التجاور في الممتلكات، والصراع على النفوذ، وإختلاف الغرضية التي هي يمنية عند آل سيفا وقيسية عند المعنيين.
قضى يوسف باشا سيفا على حليف المعنيين، الأمير عسّاف، في سنة 1590، وضمّ بيروت وكسروان إليه، فصار بذلك على حدود الإمارة المعنية، ويشكّل خطراً عليها. ثم إنه وأسرته إستقبلوا قرقماس إبن الفريخ عندما هاجمه فخر الدين، وحموه. فعزم فخر الدين على محاربته، وهاجمه مع حليفه موسى حرفوش سنة 1598، وإنتصر عليه في موقعة نهر الكلب، وأخذ منه بيروت وكسروان، ثم أعادهما إليه في السنة التالية بعد توسّط إبن خاله الأمير محمد جمال الدين أرسلان الذي تجمعه الصداقة والغرضية اليمنية مع آل سيفا. لكن النزاع عاد وتجدّد بينهما بسبب إعتداءات يوسف باشا سيفا على حلفاء فخر الدين (مقدمي جاج والحرافشة)، فهاجمه فخر الدين في جونية سنة 1605 وإنتصر عليه، وضمَّ بيروت وكسروان نهائياً إليه.
آنذاك برز علي باشا جانبولاد الذي شقّ عصا الطاعة على الدولة العثمانية لقتلها عمه حسين باشا، وتسلّم ولاية حلب، وتحالف مع فخر الدين لمحاربة يوسف باشا سيفا الذي يفصل بين أراضيهما بسبب سيطرته على عكار وطرابلس، والذي عرض مساعدته على الدولة العثمانية للقضاء على إبن جانبولاد مقابل إعطائه الإمارة على عسكر الشام. وقد تمكن فخر الدين وعلي باشا جانبولاد من إخراجه من طرابلس، وتبعاه إلى دمشق، ثم هزماه في موقعة عرّاد في تشرين الأول 1606. وفيما عاد فخر الدين إلى الشوف أكمل علي باشا ملاحقته لإبن سيفا، ثم تصالح معه، وتابع ثورته إلى أن قضى عليها الصدر الأعظم مراد باشا القبّوجي، واستولى على حلب. خشي فخر الدين إقتصاص مراد باشا منه، فأرسل إليه، وهو في حلب، ولده عليّاً البالغ من العمر تسع سنوات، مصحوباً بكتخداه مصطفى وبالهدايا. فقبل مراد باشا شفاعة الكتخدا ورضي عن فخر الدين، وجدّد له بإسم ولده علي سنجقيات صيدا وبيروت وغزير مقابل دفع ثلاثمائة الف غرش للسلطان العثماني.
إستمر العداء بين فخر الدين وآل سيفا، وتمظهر إبّان حملة والي دمشق حافظ باشا على فخر الدين سنة 1613، بإنضمام آل سيفا إلى حافظ باشا، ومهاجمة حسين، إبن يوسف باشا، دير القمر، وإحراق بعض بيوتها. وبعد عودة فخر الدين من أوروبا سنة 1618، هاجم في هذه السنة عكار، وهدم قصور آل سيفا فيها إنتقاماً منهم لما فعلوه أثناء غيابه، ونقل بعض حجارتها –وهي صفراء اللون- إلى دير القمر. ومما قاله في هذا الصدد أبياتاً زجلية تتناول ذلك، وتشير إلى تعيير آل سيفا له بقصر القامة، وإفتخارهم بطول قاماتهم، وهي التالية:
نحنــا زغـار وبـعين الـعـدو كبـــــار
إنتو خشب حور ونحنا للخشب منشار
بــحـق زمـزم وطيبه والنبي المختار
ما بـعمـّر الديـــر إلا من حجر عكّار
كافأ والي طرابلس فخر الدين، بعد إنتصاره على إبن سيفا، بمنحه إلتزام مقاطعتي البترون وجبيل اللتين كانتا لإبن سيفا، ثم أعطاه بعد إنتصاره الآخر على إبن سيفا سنة 1621 إلتزام مناطق عكار والضّنية وجبّة بشرّي والبترون وجبيل. ونال في سنة 1627 إيالة طرابلس بإسم ولده حسين إبن زوجته التي هي إبنة الأمير علي سيفا شقيق يوسف باشا سيفا.
أخذ فخر الدين مقاطعة يونس حرفوش، بعد أن وقف هذا وعمر إبن سيفا ضدّه في موقعة عنجر التي إنتصر فيها على والي دمشق مصطفى باشا، في تشرين الثاني 1623، وهذه الموقعة هي أهم المواقع التي خاضها، بل هي أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في العصر الوسيط والحديث. لقد إجتمع مع مصطفى باشا رجال إبن سيفا وإبن حرفوش فبلغوا إثني عشر ألف مقاتل، فيما كان مع فخر الدين من رجال الشوف والجرد والغرب والمتن أربعة آلاف تمركزوا بقيادته في قب الياس، إضافة إلى ألف من رجال حليفه إبن شهاب أمير وادي التيم،سبقوه إلى عنجر، مدخل لبنان الشرقي من ناحية ودمشق. وحين وصل جيش الوالي إلى عنجر، إشتبك مع رجال إبن شهاب فيما كان فخر الدين يجتاز بفرسانه السهل الواقع بين قب الياس وعنجر. ودارت المعركة على أعدائه، ووقع مصطفى باشاً أسيراً بيد رجاله، لكنه ترجّل عن فرسه، وقبّل ذيل أثوابه إحتراماً لموقعه، ورافقه مكرّماً إلى بعلبك، وأشركه في الغنائم، ما جعل الباشا يصبّ جام عضبه على إبن حرفوش وإبن سيفا اللذين ورّطاه في هذا المأزق.
صار لفخر الدين بإسمه وبإسم أبنائه مقاطعات من لبنان، هي كسروان وجبيل والبترون وبشرّي والضّنية وعكار والبقاع البعلبكي والبقاع العزيزي، ومدن بيروت وصيدا وطرابلس. وكان سبق له أن تملّك صور وسلّمها إلى أخيه يونس الذي بنى فيها قصراً شبيهاً بالقلعة، وأخذ قلعة شقيف أرنون وبلاد بشاره من جبل عامل، وبهذا يكون أول أمير معني يبسط نفوذه على جبل عامل. وبضمّه هذه المناطق إلى ما كان معه من مقاطعات يكون قد سيطر على جميع الأراضي التي يتكوّن منها لبنان اليوم.
أما توسّع فخر الدين خارج لبنان، فقد بدأ بضم صفد وعجلون وبانياس سنة 1603. ثم صار له في تواريخ مختلفة، عجلون وغزّة ونابلس والجولان وحوران. وبفضل إمتداد نفوذه إلى حوران أنقذ دمشق من المجاعة في سنة 1624، بتزويدها بمئات أحمال الجمال من الحنطة الحورانية.
جرى توسّع فخر الدين على مراحل، وفي فترتين زمنيتين، هما قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613، وبعد عودته منها سنة 1618. وكان يحسن إلتقاط اللحظات التاريخية، وإستغلال الفرص التي سنحت له إبّان ضعف ولاة الدولة العثمانية المجاورين له، وإنشغال الدولة بحروبها مع المجر والعجم، ومعالجتها للإضطرابات الداخلية التي أثارتها الإنكشارية، وكانت آنذاك بحاجة ماسة إلى الأموال المترتبة على ولاياتها، ووصولها إليها كاملة في أوقاتها المحدّدة، ومن مصلحتها الحيوية تلزيم القادرين على ذلك، وفي طليعتهم فخر الدين. وقد إستطاع فخر الدين أن يقوم بهذا بكل جدارة ودون تأخير، وأن يملأ نقاط الضعف والفراغ في المناطق المحيطة به، في لبنان وخارجه، بما توفّر لديه من فائض القوة.
كان بوسع فخر الدين، قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613 ،أن يجنّد من رعاياه عشرة آلاف رجل وخمسمائة فارس. وبعد عودته منها، وبعد توسّعه وضمّه المقاطعات التي ورد ذكرها، أصبح بإمكانه أن يعدَّ للقتال خمسة وعشرين ألفاً، وكان ينشط ليبلغ جيشه الثلاثين ألفاً حسبما تذكر التقارير والمصادر الأجنبية. وهذا عدد ضخم بالنسبة إلى عدد سكان لبنان آنذاك. وكان عدد السكبان الذين جنّدهم في جيشه الف وخمسمائة رجل أخلصوا له، وإستبسلوا في الدفاع عن القلاع التي تولّوا حمايتها، والتي وضع في بعضها المدافع. وبعد أن كان له عند تسلّمه الإمارة قلعة شقيف تيرون فقط، صار له في ذروة توسّعه القلاع المهمة التالية:
في لبنان: قلعة شقيف تيرون – قلعة شقيف أرنون – قلعة صيدا- قلعة أبي الحسن- قلعة سمار جبيل – قلعة المسيلحة – قلعة القليعات – قلعة طرابلس – قلعة تبنين – قلعة صور.
في سورية: قلعة بانياس الواقعة جنوب سورية – حصن الأكراد – قلعة المرقب- قلعة صافيتا- قلعة صرخد (صلخد) – قلعة مصياف- قلعة تدمر، وهي معروفة بقلعة ابن معن.

سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني
سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني

في شرق الأردن: قلعة كرك الشوبك16.
ولمعرفة كيفية حكم فخر الدين للمناطق التي آلت إلى عهدته، وأوضاعها، نأخذ كمثالٍ ما قاله مؤرّخه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي الذي وصف ما ألمَّ بصفد من محن ومصائب وخراب قبل تسلّم فخر الدين لها، وما آل اليه وضعها في ايامه فقال:
“مّن الله عليهم [الصفديين] بدولة مؤيّدة، ونعمة مخلّدة،ألا وهي الدولة المعنية التي هي بإمتثال الشرع معنية، وولّى عليها من هو فخر الدين وعماد للمساكين وكهف للمرتجين ومدد للملتجين، الأمير الجليل بلا الباس المعظّم قدره عند الله وعند الناس الأمير فخر الدين … دفع الله عنه كل بلية وحرسه من الشيطان بكرة وعشية. فآمنت به الطرقات. ونجت به النفوس من الهلكات. وإنقطعت بها آثار اللصوص الذين كانوا ينصبون لأذى المسلمين فيها الشصوص وعمرت البلاد. ورجع من كان نزح منها من العباد. وساد العدل في الرعية. ورضيت بأقواله وأفعاله البرية. واتى كل غريب إلى وطنه ومسقط رأسه ومحل سكنه لما نزل على تلك الأراضي من العدل والإنصاف. وزال بسببه هشيم الجور والإعتساف…” 17 كما ان ابنه علي لم يكلف أهالي صفد شيئاً من المترتب عليهم عند إشتداد الغلاء سنة 1621.
إن حكم فخر الدين للمناطق التي يتشكّل منها لبنان اليوم، بعد ضمّه ما لم يكن أصلاً تابعاً للمعنيين، حمل بعض المؤرّخين على إعتباره مؤسس الكيان اللبناني. وهذا يستدعي طرح الأسئلة التالية: هل كان فخر الدين يرمي إلى ذلك؟ وهل كان هناك كيان سابق بإسم لبنان أعاد فخر الدين بناءه؟ ام أنه هو الذي أسس كيان لبنان الحديث؟
إن معظم ما سيطر عليه فخر الدين يتوافق مع حدود لبنان الحاضرة. لكنه لم يكن هناك كيان إسمه “لبنان” لأن لبنان، ككيان سياسي وإداري، لم يكن له وجود بلفظته تلك قبل فخر الدين، وفي عهده، وبعده بقرنين من الزمن. وهو لم ينشأ مصغّراً إلا في سنة 1861 بإسمً متصرفية جبل لبنانَ، أو ما عُرف بعد ذلك بإسم “لبنان الصغير”، ثم نشأ مكبّراً في سنة 1920 بإسم (دولة لبنان الكبير). يُضاف إلى ذلك التسميات المختلفة التي أُعطيت للمناطق اللبنانية في التقسيمات الإدارية التي أحدثتها الدول التي سيطرت على لبنان عبر تاريخه.
وإذا كان البعض يعيدون جذور الكيان اللبناني إلى فينيقيا القديمة، فإن لفينيقيا تسميات عدة، وحدوداً مختلفة تبعاً لإختلاف التقسيمات الجغرافية والإدارية مع الزمن. فهناك فينيقيا التي سّماها البعض “فينيقيا اللبنانية”، وهي تشمل المدن الساحلية الممتدة من أرواد شمالاً إلى صور جنوباً. وهناك “فينيقيا السورية” التي هي الولاية الجنوبية لسورية، التي تشمل المدن الساحلية والبقاع، حسب التقسيم الاداري الذي أجراه الإمبراطور الروماني سبتيموس سفيروس سنة 195م18. وإذا كان بعض ما سيطر عليه فخر الدين داخلاً في جغرافية لبنان اليوم، فما هو حكم المناطق التي سيطر عليها خارج لبنان، مثل صفد التي دام إلتزامه لها من بدايات عهده حتى نهايته في سنة 1633، ومثل غيرها من المناطق التي كان نفوذه فيها عابراً. وما هو حكم المناطق اللبنانية التي تحالف مع أمرائها، مثل وادي التيم منطقة حلفائه الشهابيين. إن في ما ورد إشكالياتٍ عدة تؤرجح وضع فخر الدين بين صفتين: صفة الملتزم الذي يوسّع نطاق إلتزامه، وصفة مؤسس الكيان اللبناني. كما تؤرجحه بين صفتين أخريين هما صفة العامل على إنشاء لبنان في حدوده الطبيعية، وصفة الموسّع لهذه الحدود والمتجاوز لها.

الإزدهار غير المسبوق
تكمن أهمية الإزدهار الذي تحقق في عهد فخر الدين، وبفضله، في أنه غير مسبوق في نسبته العالية، وشموليته، وتعدّد نواحيه. فلقد رافق تنامي قوة إمارته العسكرية، وتوسّعها، توسّع في العمران والبناء، ولا سيما في مدن صيدا وبيروت وطرابلس، وبلدة دير القمر، وإزدهار للإقتصاد بدعائمه الثلاث: الزراعة والصناعة والتجارة. وفيما كان التوسّع والقوة العسكرية طفرتين مؤقتتين كان الإزدهار الإقتصادي نمواً مستداماً طال جميع السكان الذين إزدادت أعدادهم، واستمرّت إنعكاساته الإيجابية لمدة طويلة.
نشّط فخر الدين زراعة التوت، وأولاها إهتماماً خاصاً، فتوسّعت كثيراً في أيامه، وزرع، وعلى سبيل المثال، أربعة عشر الف نبتة في “مغراق” طرابلس، وأكثر من ذلك في أراضي الحيصة، وكان يُصنع من دود القزّ، الذي يُربّى على ورق التوت، أجود أنواع الحرير الذي يستهوي أصحاب معامل النسيج في أوروبا، وبلغت قيمة الصادرات منه ثلث خزانة الأمير في سنة 1614. ونشّط فخر الدين زراعة الزيتون، وإستجلب أنواعاً جديدة من إيطاليا، فزادت صادرات الزيت والصابون، وتلت صادرات الحرير. وهناك مقولتان عن أشجار الزيتون المعمّرة إنها تعود إلى عصر الرومان أو إلى عصر فخر الدين. وازدهرت ايضاً زراعة القطن والكتان لتصديرهما إلى الخارج. وجرى تحسين بناء المراقي (المصاطب، الجلول) بإعتماد الطريقة الإيطالية. وكان من الصادرات أيضاً الرماد لصناعة الزجاج. وبفضل كثرة الصادرات توفّرت للأمير نفقات التسلّح والجيش، والأموال التي يجب تأديتها للدولة العثمانية، وإزدادت مداخيل السكان.
عمد فخر الدين إلى تنشيط التجارة، فمنح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشجّعهم على الإقامة في المدن، وعلى التبادل التجاري مع السكان، وبنى لهم خاناً في صيدا، لا يزال قائماً إلى اليوم، إسمه “خان الإفرنج”، يشهد على إزدهار هذه المدينة في أيامه، إذ تحوّلت من مدينة صغيرة إلى مدينة كبيرة بمستوى إستانبول وحلب ودمشق وطرابلس، وغيرها من عواصم الملاحة والتجارة في شرق البحر المتوسط.
وعلى صعيد البناء إهتم فخر الدين ببناء القلاع وترميمها، وبنى بعض الجسور كجسر نهر الأولي إلى الشمال الشرقي من صيدا، كما إهتم بمدينة بيروت، وبنى فيها قصراً لإقامته ، عليه أبراج أعطت إسمها للساحة التي لا تزال قائمة في وسط المدينة: ساحة البرج التي غدا إسمها “ساحة الشهداء” على إسم الشهداء الذين أعدمهم القائد العثماني جمال باشا في 6 أيار 1916، وفيه حديقة للوحوش. وبنى فخر الدين إلى جانب القصر سبيلاً بإسم زوجة إبنه علي التي توفيت في ريعان الشباب. وزرع أشجار الصنوبر بالقرب من بيروت. وحين أخذ إيالة طرابلس عزم على إعمار هذه المدينة وشجّع التجّار للإنتقال إليها من أجل إعادة الإزدهار إليها بعد ضعفها.
لقد عمل الكثيرون على النهوض بلبنان، وتحديثه وتطويره على غرار ما فعل فخر الدين، وأبرزهم في هذا المجال، بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في سنة 1920، رئيس الجمهورية فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رفيق الحريري، اللذان يجمعهما مع فخر الدين قاسم مشترك هو بناء الدولة والإعمار والإنماء.

“رفع فخر الدين عديد جيشه من عشرة آلاف إلى خمس وعشرين ألفاً كما زاد حصونه من واحد هو شقيف تيرون إلى 30 قلعة وحصن في لبنان وسوريا وفلسطين.”

فرديناند الأول دوق توسكانا
فرديناند الأول دوق توسكانا

حملة الحافظ والخيارات الصعبة سنة 1613
كان فخر الدين يعلم، دون شك، أنه واحد من عشرات الحكّام في الإمبراطورية العثمانية، وأن إمارته ما هي إلا بقعة صغيرة على خريطتها الواسعة، وقد أخذ عبرة من الكارثة التي نزلت ببيته وبالإمارة المعنية وبقرى الجبل، من الحملة العثمانية سنة 1585، وهي ضرورة تجنّب الصدام مع الدولة العثمانية، وعدم التمرُد عليها، وطاعة أوامر سلطانها، وتأدية الضرائب في أوقاتها. لذا لم يحصل خلال ثلاث وعشرين سنة من تولًّيه الإمارة ما يعكّر صفو العلاقات مع الدولة. وما جرى له معها أثناء تمّرد علي باشا جانبولاد بين سنتي 1604 و 1607، كان صداماً غير مباشر من خلال وقوفه مع علي باشا الثائر عليها ضد نصيرها يوسف باشا سيفا.
نجح فخر الدين في هذه المرحلة في الموازنة بين ما تسمح به الدولة العثمانية، وبين طموحاته في التوسّع وإمتلاك أسباب القوة، وقد كان يدرك أن تقوية عسكره بالعدد والعتاد، وبتحصين القلاع إنجاز له حدّين، إذ إن فيه ما يحصّن موقعه، ويحمي جانبه من أعدائه، وحتى من غضب الدولة العثمانية إذا اقتضى الأمر، كما إن فيه ما يغضب الدولة ويثير شكوكها. لكنه كان يراهن على المال والهدايا من أجل ان يكسب دوماً سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين عمّا يقوم به، وأن يحوّل غضبهم إلى رضى. وكان من الممكن أن يزيل شكوك الصدر الأعظم نصوح باشا، ووالي دمشق أحمد حافظ باشا، من تنامي قوته وامتلاكه القلاع، لو لم يخطء بالعمل بعكس إرادتهما ما جعلهما يعتبران هذا تحدياً لهما، ذلك ان حافظ باشا الذي تسلّم ولاية دمشق للمرة الثانية سنة 1609، ونصوح باشا الذي أُعيد إلى الصدارة العظمى سنة 1611، كانا عدوّين لفخر الدين، وقلقين من توسّعه، ويريدان تحجيم نفوذه، ويطمعان في أخذ المزيد من الأموال عن إمارته. وقد امر نصوح باشا بعزل حمدان بن قانصو، حليف فخر الدين، عن عجلون، وتسليمها لأمير الحج الأمير فرّوخ، فنفّذ حافظ باشا ذلك وطرد أيضاً الشيخ عمر شيخ عرب المفارجة، وهو حليف آخر لفخر الدين. وهنا أخطأ فخر الدين بنزوله عند رأي الحاج كيوان، فأعاد حليفيه إلى مركزيهما، قبل عودة موفده إلى مراد باشا، حاملاً تقديماته لإسترضائه. فلم يكن هذا بالأمر السهل على حافظ باشا بعد أن سبق لفخر الدين أن منعه سنة 1605 من محاربة حليفيه: الأمير يونس حرفوش حاكم بعلبك، والأمير أحمد الشهابي حاكم وادي التيم.
جهّزت الدولة العثمانية حملة برّية كبرى على فخر الدين، بقيادة حافظ باشا، وأمسك أسطولها الساحل اللبناني. وأخذ الحافظ يوزّع المقاطعات التابعة لفخر الدين، فأعطى الشيخ مظفّر علم الدين المعروف بالعنداري لسكنه في عين داره- الغرب والجرد والمتن، ويوسف باشا سيفا ولاية بيروت وكسروان، وأرناؤوط حسن آغا إيالة صيدا، ومحمد آغا إيالة صفد. فانضمَّ هؤلاء إلى قوات الحافظ، وإشتركوا معها في القتال ضد فخر الدين. لقد كان بإستطاعة الدولة العثمانية إحداث التصدّع في الجبهة الداخلية، وتقويض بناء الوحدة التي عمل فخر الدين لإيجادها، وذلك بتأليبها اليمنيين على القيسيين، وبمنحها الإقطاعات للأمراء المحليين، حتى إنها أوقفت ضده الأمير محمد إبن حميه جمال الدين الإرسلاني.
كان أمام فخر الدين أحد الخيارات الثلاثة التالية: إما مقابلة حافظ باشا والتفاوض معه ووضع مصيره بين يديه، أو التصدّي لحملته والإستمرار في قتالها، أو التنحّي عن الإمارة وترك البلاد.
فبالنسبة إلى مقابلة حافظ باشا كان فخر الدين يعلم حقده وحقد الصدر الأعظم نصوح باشا عليه، وإصرارهما على الكيد له، وإضعاف إمارته وإذلاله، ودليله على ذلك كبر الحملة البرّية والحملة البحرية المساقتين عليه، وإنتزاع المقاطعات منه، بإستثناء الشوف. وقد علم من الوفد الذي أرسله مرادَ الحافظ إذلاله، ذلك أن هذا الوفد، المؤلّف من مشايخ صفد وبيروت وصيدا وبينهم مؤرّخ فخر الدين الشيخ أحمد الخالدي الصفدي، قابل الحافظ ليصلح بينه وبين فخر الدين، فقال لهم: “المعني مراده الصلح، ولكن لو ملأ هذه الخيمة ذهباً لا يمكن ذلك ما لم يدس على هذا البساط. وحق نعمة السلطان لئن جاء إلى هنا لأقرّرن عليه بلاده، وأنعم عليه بما لم يحصل لأحد من قبله، فأرسلوا إليه وإعرضوا هذا الكلام عليه”19. لكن فخر الدين ما كان يثق بالحافظ ويرى فيه وجه إبراهيم باشا الذي غُدر في مخيمّه في عين صوفر بحوالي ستمائة شيخ درزي.
وبالنسبة إلى التصدّي للحملة العثمانية رأى فيه فخر الدين مجابهة لا تعادل فيها، بعد تخلّي الحلفاء عنه وتزعزع الوحدة الداخلية. وقد تأكّد له ذلك عندما عقد إجتماعاً على نهر الدامور ضمَّ أخاه الأمير يونس، والأميرين التنوخيين: منذر وناصر الدين، ومشايخ الشوف والغرب والجرد والمتن، ومشايخ آل الخازن وغيرهم، فلمس منهم عدم إستعداد لمقاومة حملة كثيرة العدد والمدد ، لأن نتائج حملة إبراهيم باشا ما زالت مائلة أمام أعينهم.
وبالنسبة إلى الخيار الثالث، أي التنحّي عن الإمارة وترك البلاد، كان الخيار المرَّ الذي قرّره فخر الدين, لكنه الأقل مرارة من أمرّين ورد ذكرهما. وصادف آنذاك قدوم مركبين فرنسيين ومركب فلمنكي (هولندي) إلى صيدا، فإستأجرها وسافر فيها إلى أوروبا مع بعض حاشيته وأخصّائه، وزوجته خاصكية الظافري، بعد أن سلمّ الأحكام لأخيه الأمير يونس، لأن إبنه الأمير علي كان آنذاك في حوران. لكن تنحيّه وسفره لم يحلاّ الأزمة مع حافظ باشا لإصراره على تسلّم قلعتي بانياس وشقيف أرنون اللتين وضع فيهما فخر الدين مئات الجنود من السكمان مع ذخائر وعلوفات تكفيهم لسنوات، وطلب من قائديهما عدم تسليمهما، فدافع الجنود عنهما ولم يسلّموهما إلى الحافظ الذي عمد للوصول إلى ذلك، ولبسط السيطرة العثمانية كاملة على جبل لبنان الجنوبي، إلى مزيد من الضغط على أبنائه.
أراد عسكر الحافظ إحراق بلدة غريفه، لكن أهلها وأهالي القرى المجاورة تجمّعوا عليه وهزموه، ومنعوه من ذلك. وعزم على إحراق قرى الشحّار الغربي، لكنه عدل عن ذلك مقابل مبلغ خمسة آلاف غرش. وأحرق حسين سيفا إبن يوسف باشا سيفا بعض بيوت دير القمر، ومن أجل رفع أذى العسكر وعيثه في القرى، ورفع الحصار عن القلاع، ألزم أعيان الشوف الأمير يونس أن يرسل والدته الأميرة نسب إلى الحافظ لمفاوضته، فذهبت إليه ومعها ثلاثون من “المشايخ العقال”، وقدّمت له الهدايا، فقبل بترك الشوف مقابل مبلغ من المال قدره ثلاثمائة ألف غرش، دُفع أكثره وبقي أقلّه، فأخذ الحافظ الأميرة نسب رهينة إلى دمشق20. وهو لم يقبل بترك الشوف إلا لصعوبة البقاء فيه شتاءً، لأنه حين أتى ربيع سنة 1614 عاد إليه.
إضطرَّ بعض أهل الشوف إلى الهجيج، أي ترك قراهم تجنباً لإنتقام الجند، فلحقت حملة منه بهم، لكنهم هزموها في مرج بسري، وقتلوا خمسمائة من أفرادها، واسروا الباقي. فأرسل الحافظ حملة من إثني عشر الف رجل لم يستطيعوا مقاومتها، وإنسحبوا إلى قرية الجرمق. وكانت بذور النزاعات التي زرعها الحافظ قد أثمرت، إذ إشتدت المعارك بين علي إبن الأمير فخر الدين وأخيه يونس، وبين اليمنيين، وخصوصاً الذين كان يقودهم الأمير مظفّر العنداري، والامير محمد ارسلان. كل هذا جعل أعيان الشوف وغيرهم يندمون على ما فعلوه لإرضاء الحافظ، ويندمون خصوصاً على خذلانهم للأمير فخر الدين عندما طلب منهم مقاومة الحافظ في مؤتمر الدامور.

جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

إشكاليات علاقات فخر الدين الخارجية
كان فخر الدين منفتحاً على الصعيد الخارجي، كما على الصعيد الداخلي، فرغب في تنشيط التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، والأخذ بالمستجدّات الحضارية وأسباب التقدم الحاصلة عندها، لتحديث إمارته والنهوض بها، فيما كانت هذه الدول تتطلّع إلى الشرق للتوسّع فيه، وترغب في الإستفادة من موقع فخر الدين كأمير قوي، ومن موقع إمارته الإستراتيجي، ومن إنفتاحه، لتحقيق أطماعها في أراضي الدولة العثمانية. وتلاقت مصالحها مع مصلحة البابوية في السعي لبسط الإشراف على الأماكن المقدّسة في فلسطين. وكان هناك، بالإضافة إلى ذلك، عنصر محلّي في بلاد الشام هو البطريركية المارونية التي استفادت من حسن معاملة فخر الدين لها ولرعاياها ولسائر المسيحيين، فشاءت الاستفادة منه أيضاً بإدخاله في مشروع يرمي إلى نزع سيطرة العثمانيين المسلمين عن مسيحيي بلاد الشام وقبرص، وعن الأماكن المسيحية المقدّسة.
نتج مما ورد ذكره، ومن إقامة فخر الدين في أوروبا مدة خمس سنوات، إشكاليات وتفسيرات عدة لعلاقاته مع الخارج، منها إعتباره من قبل البعض مرتبطاً بمشاريع أوروبية ضد الدولة العثمانية ، مقابل إعتبار البعض الآخر له عاملاً فقط، من خلال تطلّعه إلى الغرب، للأخذ بأسباب التقدم والنمو، وإعتبار إتهامه بالتوّرط في مشاريع أوروبية مشبوهة، ظلماً له. ولا يمكن إصدار الأحكام على فخر الدين في هذا الشأن إلا بعد إستعراض موقفه ومجريات الأمور التالية: مشروع معاهدة سنة 1608، إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية في ذلك، فخر الدين في أوروبا. وفي ضوء ذلك سيظهر بطلان الإتهامات الموجّهة ضده وبراءته مما نُسب إليه.

“منح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشّجعهم على الإقامة في المدن وعلى التبادل التجاري مع الســــــكان، وبنى لهـــم خانـــاً في صــيدا”

مشروع معاهدة سنة 1608
كان فرديناند الأول، دوق توسكانا المعروف أيضاً بغراندوق توسكانا، يطمح إلى إنتزاع جزيرة قبرص من الدولة العثمانية، فإغتنم الصراع بينها وبين العجم، والتحالف القائم بين فخر الدين وعلي باشا جانبولاد الثائر ضدها، وتوصّل، بواسطة سفيره قريع، إلى عقد معاهدة تعاون سياسي وإقتصادي وعسكري مع علي باشا21، ثم شاء تطويرها لتشمل فخر الدين وشاه العجم، بحيث يتم له إضعاف الدولة العثمانية، وتحقيق أطماعه.
إنتهى تمرّد علي باشا جانبولاد بالفشل، وعجز الأسطول التوسكاني عن إحتلال ميناء فاماغوستا في قبرص. وحين وصلت إلى فرديناند الأخبار الأولى عن إنكسار علي باشا، أرسل اسطولاً بحرياً لمعاودة الهجوم على قبرص، وفيه سفينة محّملة بالبنادق والمدافع والذخائر إلى علي باشا، وأمر سفيره ليونسيني التداول مع سفيره السابق قريع، ومع قائد الأسطول بما يجدر عمله. فإن وجدوا علي باشا بحالة تسمح له بالنهوض يسلّمونه البنادق والمدافع والذخائر، وإن كان العكس يتوجّهون إلى فخر الدين ويسلّمونه البنادق فقط، ويعقدون معه معاهدة كتلك التي عقدوها مع علي باشا.
عندما وصل ليونسيني إلى قبرص، وتأكد من هزيمة علي باشا جانبولاد وخضوعه للسلطان العثماني، قصد صيدا، والتقى، بحضور ترجمانه، فخر الدين في ثلاث جلسات حضرها أيضاً القنصل الفرنسي والقنصل الإنكليزي والتاجر الإنكليزي بروكس. سلّم ليونسيني إلى فخر الدين كتاب فرديناند وفيه انه رأى أن يعهد إلى فخر الدين، بعد فشل علي باشا، بالمهمة التي كانت موكولة إليه، وهي إحتلال القدس ودمشق وغيرهما من المدن السورية، ومساعدة فرديناند في التوسّع في جزيرة قبرص فيما لو قُدِّر له إحتلال فاماغوستا، على أن يكون له، مقابل تأمين حرية الحجّاج المسيحيين في الوصول إلى الأماكن المقدّسة، مبلغ سنوي من المال.22
تعهّد فخر الدين، حسبما جاء عند الأب بولس قرألي، بإحتلال دمشق والأماكن المقدّسة، لكنه فيما يتعلّق بمساعدة فرديناند على إكمال إحتلال قبرص لم يتعّهد إلا بتقديم المؤن فقط، لأنه غير مستعد لشطر جيشه. وإستكتب الترجمان رسالة إلى فرديناند، ورسالة شكر إلى نائب ملك إسبانيا في نابولي على إهدائه إليه سابقاً قطعتين من المدفعية، وكمية من الذخائر. أما شروطه التي طُلب منه تقديمها، فهي التالية:
• وضع خبراء في صبِّ المدافع مع المواد الضرورية تحت تصرّفه.
• إستفكاك ثلاثة اسرى توسكانيين لهم تمام المعرفة بإثنتين من قلاعه.
• رسو المراكب التوسكانية، القاصدة إلى الشرق، في ميناء صيدا.
• إعطاء البابا براءة لمسيحيي الشرق، التابعين له، لمساعدة فخر الدين.
• تزويده بتذكرة مرور يسافر بها إلى إيطاليا.
• إهداؤه اربعة هواوين ودرعاً جميلاً.23

قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين -
قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين –

ومع أن إجتماع فخر الدين بسفير فرديناند جاء بعد بضعة شهور من قلقه على مصيره عقب الهزيمة الساحقة لعلي باشا جانبولاد، وتوسّله المال والهدايا لكسب رضى الصدر الأعظم مراد باشا، ومع أنه كان يعرف عدم إمكانية دولة توسكانا النيل من الدولة العثمانية، إذ هي عجزت عن احتلال مدينة في قبرص، وتطلب منه المساعدة على إحتلال هذه الجزيرة: مع كل هذا فإن تصريحاته للسفير تظهر إستعداده للقيام وحده بما كان سيقوم به علي باشا لأنه أقوى منه، حتى إنه بغنى عن التحالف مع شاه العجم. وهذا ما يثير التساؤل عما إذا كان صرّح بذلك وعما إذا كان فعلاً قوياً حسبما صرّح، أم أن السفير ليونسيني شاء نقل ذلك إلى دوق توسكانا ليتوصّل هذا الدوق بواسطته إلى عقد معاهدة مع فخر الدين كما توصّل السفير قريع إلى عقد معاهدة مع علي باشا.
إنتهى إتصال فرديناند الأول بفخر الدين على هذه الصورة، لأن فرديناند توفّي في السنة التالية. وفي رأينا أن ما جرى هو مباحثات أولية لصياغة مشروع معاهدة يوقّع عليها بعد الإتفاق النهائي، في حال حصوله، ولم ينتج عنها سوى تنشيط التبادل التجاري. وما يؤكّد ذلك هو طبيعة هذه المباحثات وأجواؤها، وأن ليونسيني، الذي حرص على سرية المعاهدة مع علي باشا جانبولاد، أطلع القنصل الإنكليزي والتاجر بروكس على مضمون رسالة فخر الدين إلى دوق توسكانا، ولم يحافظ على سرّية المحادثات، إذ أفشاها في كل الثغور التي مرَّ بها ذهاباً وإياباً، للفرنسيين والإنكليز والإسبان، حتى إن البحّارة أنفسهم كانوا عارفين بها24.
ومما يعزّز الشكوك حول دقة المعلومات عن لقاء الأمير فخر الدين مع السفير ليونسيني، هو أنه ليس هناك من توقيع لفخر الدين على أي مستند، ولا ذكرٌ لتاريخ اللقاء الذي رجّح الأب بولس فرألي تاريخه في ربيع سنة 1608، بينما نقل إلينا تاريخ المعاهدة بين علي باشا جانبولاد والدوق فرديناند، وهو 3 تشرين الثاني 1607. وما يعزّز الشكوك أيضاً هو عدم التزام فخر الدين بشيء مع دولة إسبانيا الأقوى بكثير من دولة توسكانا، وذلك حين كان في إيطاليا، وفي أملاك ملك اسبانيا.

إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية
توّفي دوق توسكانا فرديناند الأول سنة 1609، وخلفه إبنه قزما الثاني الذي وجّه إهتمامه لدعم الأمير يحيى ضد أخيه السلطان العثماني أحمد. وحين حاول الأمير يحيى الإتصال بفخر الدين لضمه إلى العاصين على السلطان أحمد، نصحه الحاج كيوان بألا يقوم بذلك، ثم نصحه حين إلتقاه في عكا بالرجوع إلى أوروبا، وبأن لا يضع ثقته بفخر الدين، “ربما ليوفر على فخر الدين مشكلاً جديداً يوسّع الخرق بينه وبين الباب العالي”25.
ومع هذا الحذر من فخر الدين وحرص الحاج كيوان على إبقاء علاقته جيدة مع الدولة العثمانية، نرى من يريد إدخاله في مشروع ضد هذه الدولة، إذ يُنسب إليه أنه حاول سنة 1611، أثناء وجوده في إيطاليا، وسنة 1623، وسنة 1624، وسنة 1633، إعادة طرح مشروع معاهدة تدخل فيه، بالإضافة إلى البابا، دولتا إسبانيا وتوسكانا. وقد جاء في مشروع سنة 1624 “أن تقوم حملة أوروبية بإحتلال مدينة صور، والتحصّن فيها، ثم الزحف منها إلى الأراضي المقدّسة”26. وبما أن هذا المشروع فشل بسبب تحاسد أسرة بربريني في روما، وأسرة مديتشي في توسكانا، فإن فخر الدين طرح بعد ذلك -حسبما قيل عنه- أن يصبح تادي بربريني أميراً على جزيرة قبرص، وأن يتوَّج فرديناند الثاني دومديتشي ملكاً على أورشليم في حال نجاح الحملة، كما وعد أن يجاهر بعد نجاحها بنصرانيته وان يعمّد أسرته وذويه، ويحمل جميع رعاياه على الإقتداء به.
لقد قُوّل فخر الدين ما لم يقل، كقوله إنه من سلالة غودفرو دي بويون. ونُسب إليه ما ليس له علم به، كوضع مشروع الحملة على الأماكن المقدّسة، ووضع الحل لتحاسد أسرتي بربريني ومديتشي. وفي الواقع إن مشروع الحملة وارد في تقرير المطران جرجس بن مارون الذي سافر إلى إيطاليا أربع مرات، فهو من وضع الكنيسة المارونية. ولتسويقه إختلق رهبان المدرسة المارونية في روما أسطورة إنتساب الدروز إلى مدينة Dreux وإلى الكونت Dreux، وأسطورة تحدّر فخر الدين من الملك الفرنجي غودفرو دي بويون، من أجل إقناع البابا بالمشروع. ويبدو أن البابا أوربانوس الثامن صدّق مقولة الأصل الفرنجي لفخر الدين، إذ وصفه في إحدى رسائله “بالقائد القوي الشكيمة، الذي يفتخر بتحدّره من القوّاد المسيحيين”27. وللدلالة على براءة فخر الدين مما قُوّل ومما نُسب إليه، هناك شواهد كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تواريخ سنوات 1623 و1624 و1633 تتوافق مع حرب الثلاثين سنة بين الدول الأوروبية، وهذا ما كان يعلمه فخر الدين، وتبعاً لذلك لا يمكن أن يطلب مساعدة من هذه الدول، أو قيامها بحملة إلى الشرق لإحتلال قبرص والأماكن المقدّسة. وتاريخ سنة 1624 يتوافق مع بلوغه أوج مجده وقوته، وحصوله على دعم والي دمشق مصطفى باشا، ورضى سائر الولاة العثمانيين، وهو في هذه الحال لن يطرح مشروعاً أجنبياً لتغيير هذا الوضع الممتاز، والإنتقال من تحت سيطرة عثمانية إسلامية إلى تحت سيطرة أو وصاية أوروبية مسيحية، مصيره فيها مجهول.
2. إن ما نُقل حرفياً من كتابات لفخر الدين، أثناء الحديث عن المشروع، مختلف بنصّه وأسلوبه عما نُسب إليه من نصوص ورسائل، مما يعني أن من كتبوا هذه الرسائل والنصوص أدخلوا فيها ما يريدون.
3. إن ما ورد بخط فخر الدين يخلو من الإشارة إلى المشروع ويقتصر على عواطف تجاه من يراسلهم، وطلب إستفكاك ثلاثة أسرى موجودين عند ملك إسبانيا مقابل إثنين وثلاثين أسيراً من النصارى عند فخر الدين28.
شَكّك العديدون بمشروع المعاهدة، ومنهم المؤرّخ ياسين سويد الذي قال إنه لم يكن أكثر من تقرير وضعه المطران جرجس مارون29. وقال في مكان آخر ما يلي: “أما القول بأن فخر الدين أراد أن يعيد مملكة اورشليم الصليبية [للأوروبيين] فذلك إفتئات على الأمير، وتجريح لطموحه السياسي. ولقد ثبت بالدليل القاطع عدم صحة هذه الرواية”30.
وقال المؤّرخ عادل إسماعيل ما يلي:”الوثائق الرسمية، التي قُدِّر لنا أن نطّلع عليها في المحفوظات المديتشية وفي المحفوظات الوطنية في باريس، تحدّد بوضوح شخصية الأمير وتصحّح الكثير من التفسيرات الخاطئة التي ذُكرت عن مسيرته السياسية وعلاقاته بتوسكانا وإسبانيا والكرسي الرسولي طوال مدة إقامته منفياً في إيطاليا (1613- 1618) أو بعد عودته منها إلى بلاده. وخلافاً لما قيل، ليس في تلك المحفوظات ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”31.
وخلاصة القول، بناء على ما ورد ذكره، إن فخر الدين لم يسعَ إلى عقد اية معاهدة مع أية دولة أوروبية، ولم يرتبط بمشروع معاهدة سنة 1608، ولا علاقة له بالمشاريع التي طرحت بعد ذلك.

“راهن فخر الدين على المال والهدايا لتغطية توسِّــعه وكسب سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين”

فخر الدين في أوروبا
قصد فخر الدين أوروبا لاجئاً لتلافي خطر داهم، وأقام فيها ريثما يصدر العفو عنه من السلطان العثماني. وقد صدر هذا العفو في بداية سنة 1615 عندما عُزل عدوه والي الشام حافظ باشا وقُتل عدوه الآخر الصدر الأعظم نصوح باشا، ذلك أن والي الشام الجديد جركس محمد باشا أطلق سراح والدته الاميرة نسب المسجونة في دمشق، ومعها العفو عنه32. لكن خبر هذا العفو وصل إليه بعد إنتقاله من توسكانا إلى مسّينا في صقلية التابعة لملك إسبانيا، أقوى الدول الأوروبية وألد أعداء الدولة العثمانية. ثم إنتقل إلى نابولي مع دوق دسّونا الذي عيّنه ملك إسبانيا حاكماً عليها بدلاً من مسّينا، وهذا ما أطال بقاءه ثلاث سنوات، جرى خلالها وقبلها إستغلال لوجوده في أوروبا، وخلق شبهات وعلامات إستفهام حوله.
بعد أن وطأت أقدام فخر الدين أرض نابولي التابعة لملك إسبانيا، جاءه أكابر موفدون من أميرها، دوق دسّونا، يسألونه ما يمكن أن يأتي من بلاده معهم في حال قصدوها، وما يمكن أن يقدّموه من ذخائر، فأجابهم حسبما نقل شاهد عيان هو مؤرّخه الخالدي: هذا أمر دين، لا أقدر أن أكفل أحد، لا أرضي ولا ولدي ولا أهل بلادي، وأنتم تعرفون قوة دين الإسلام وقوة آل عثمان، والذي مراده قهر القوتين لا يتكل على مشترى ذخيرة من الناس33. وحين سألوه كم يستطيع أن يجمع من الرجال، أجاب أنه كان بإمكانه أن يجمع عشرة آلاف، أما اليوم فلا حكم له إلا على نفسه. ويعلّق الخالدي على ذلك بالقول: إن هؤلاء الأكابر ما عادوا إهتموا بفخر الدين، وما عادوا يعطونه العلوفة المعتادة، فباع حلى زوجته، وأخذ يصرف من أمواله طوال مدة وجوده في نابولي. ثم إنه إعتذر عن تلبية دعوة ملك فرنسا للتوجّه إليه كي يرسل معه رسائل تشفع به عند السلطان العثماني لأن فرنسا صديقة الدولة العثمانية34.
بعد ذلك أرسل دوق نابولي إلى فخر الدين، رسالة من ملك إسبانيا يعرض فيها عليه حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين هذا العرض، وقال إنه “ما جاء يطلب ديناً ولا حكماً ولا حكومة، وإنما جاء ليحتمي عندما هاجمه عسكر لا يقدر على مجابهته35. وكلامه هذا وكلامه إلى موفدي دوق نابولي، ورفضه مقابلة ملك فرنسا، كل ذلك ينقض ما نُسب إليه من أطروحات عند عرض مشروع معاهدة سنة 1608 عليه، وما نُسب إليه من إعادة طرح مشروع المعاهدة سنة 1611.
كان وجود فخر الدين في أوروبا موضع إستغلال من دولها ومن البابا، وخصوصاً من الدولتين اللتين إستضافتاه: توسكانا وإسبانيا. “فلقد كانت حكومة توسكانا تبغي الإفادة الخاصة من وجود فخر الدين في ضيافتها مع التركيز على ألا يتألّق نجمه شخصياً، وعلى ألا تنجح مصالحة الخاصة”36. وكان ملك إسبانيا يأمل بمساعدة فخر الدين له ضد الدولة العثمانية، للحصول على موطئ قدم لدولته في الشرق، وهو الذي طلب من دوق دسّونا قدوم فخر الدين إلى بلاده. وحين لم يتوصّل إلى إدخاله في مشروعه، ولم يوفّق في تنصيره، إختلفت معاملة دوق دسّونا له، إذ ماطل الدوق في إعطائه رخصة مغادرة نابولي، فيما أصرّ هو على المغادرة، ونوى نسف المركب الذي وضع فيه عياله إن لم يسمح الدوق له بذلك37.
مارس فخر الدين أثناء وجوده في أوروبا الشعائر الأسلامية، ولم يأكل من ذبائح الإفرنج لانها غير مذبوحة على الطريقة الإسلامية. وهو لم يرتبط بأي مشروع أوروبي، ولم يتخذ أي موقف عدائي ضد الدولة العثمانية. ولم يكن هناك سوى شبهة وجوده في بلاد معادية لها. بيد أن هذا الوجود لم يؤثّر على علاقته بها، لأنها سمحت له بالعودة إلى بلاده، وأمّرته عليها، بعد عودته، مدة خمس عشرة سنة، ظلَّ خلالها على تواصل مع توسكانا، يتبادل وأبنه علي الرسائل والهدايا مع أميرها وأميرتها.
استفاد فخر الدين من وجوده في أوروبا بناحيتين فقط، هما توفّر الملجأ الأمين له إبّان غضب الدولة العثمانية عليه، ورؤيته بأم العين التطوّر الحاصل فيها. نزل أولاً في ميناء توسكانا (ليفورنو)، ثم أقام في عاصمتها فلورنسا، وفي مدن بيزا وباليرمو ومسّينا، ونابولي، وتعّرف على جزيرة مالطا أثناء عودته من بلاده سنة 1615 بعد زيارة خاطفة لها. وهذا أتاح له التعرّف على الحضارة الأوروبية، ورؤية معالم الفن والعمارة والنواحي الحياتية في أرقى المدن آنذاك. كما شاهد التقدّم في الأساليب الزراعية والصناعية، فأُعجب بكل ما رآه من مظاهر التقدم، وحاول إدخال ما يمكن منها إلى بلاده، ولا سيما الهندسة الإيطالية التي إعتمدها في بناء قصره في بيروت، وتنسيق الجنائن المحيطة به، وكأنما شاء ان يجعل من بيروت مثالاً عن فلورنسا. وطبّق بعض أساليب هندسة القلاع الأوروبية في ما بناه ورمّمه من القلاع، وعمل على تحسين طرق ونسل الحيوانات كالأبقار، بإستقدام النوع الجيد منها.

السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

حملة الكجك والنهاية الكارثية
عاد فخر الدين إلى بلاده بعد غياب عنها مدة خمس سنوات وشهرين، فنزل في ميناء عكا، ومنه إنتقل إلى دير القمر وسط إستقبالات أنصاره ومحبيه المتشوّقين إلى حكمه على أثر الضعف الذي إنتاب الإمارة، والإضطرابات التي زعزعت أوضاعها. فتسلّم الأحكام من أخيه يونس وإبنه علي. وإنطلق في مسيرة ناجحة في العمران والإزدهار والنمو، ووسّع إمارته أكثر من ذي قبل، متجاوزاً حدود لبنان، آخذاً ما أمكن من أراضي حكام المقاطعات المجاورة، وولاة حلب ودمشق وطرابلس، بالغاً بذلك ذروة المجد والعظمة .
كان لا بدّ أن يصطدم فخر الدين عاجلاً أم آجلاً بالدولة العثمانية، لأنه توسّع كثيراً، وامتلك المزيد من القلاع، وأخذ هامشاً كبيراً من الإستقلال الداخلي، فيما هي دولة لا تزال قوية، تعمل على صيانة أراضيها من الاعتداءات الخارجية، وإحكام قبضتها على ولاياتها، وكان شأن فخر الدين في الصدام معها كشأن جميع الأمراء المحليين والولاة الذين اصطدموا بها عبر تاريخها، مع اختلاف عند بعضهم في الأسباب والأهداف.
بعد أن وضع السلطان مراد خان الرابع حدّاً لتوسّع العجم في العراق، وأنهى ثورة الإنكشارية في سنة 1632، إنصرف إلى إعادة بسط سيطرة الدولة كاملةً على بلاد الشام، وإنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده، إذ كان النهج السياسي العام هو في قضاء السلطان عند إعتلائه العرش على أخوته، كي لا ينافسوه وينافسوا ابناءه، وعدم إطالة عهد الولاة وملتزمي المقاطعات، وتبديلهم، أو القضاء عليهم، كي لا يتجذّر نفوذهم، حتى إن العزل أو التهديد به، كانا يُتخذان سبيلين للحصول على الهدايا وعلى الأموال.
ورد عند المؤرّخين أن السلطان مراد الرابع أمر بتجهيز حملة كبرى للقضاء على فخر الدين، لشكاوى وإحتجاجات رُفعت إليه، أو بلغت مسامعه ومنها إستقلال فخر الدين في شؤونه، وسوء معاملته للسكان، وتشييده الحصون وتحصينها وشحنها بالأسلحة. وبعض ما ذكره المحبّي في هذا المجال وفي معرض حديثه عن الكجك الذي قضى على فخر الدين، يقارب الحقيقة، إذ قال ما يلي: “وقد كان فخر الدين خرج عن طاعة السلطنة، وجاوز الحد في الطغيان، وأخذ كثيراً من القلاع من ضواحي دمشق، وتصرّف في ثلاثين حصناً، وجمع من طائفة السكبان جمعاً عظيماً، وبالجملة فقد بلغ مبلغاً لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة”38.
ليس من بين أسباب تجهيز الدولة العثمانية حملتها على فخر الدين، قلقها من إتصالاته بالخارج، ومقولة خروجه عن طاعة السلطان تهمة لتبرير القضاء عليه، لأن من الأسباب الرئيسة تجاوزه للسقف وللحدود المرسومة لأمير محلّي، وذلك بإمتلاكه القلاع وتحصينها، وبعضها إمتنع على الدولة العثمانية سنة 1613. ومن الأسباب الرئيسة توسيع نفوذه على حساب الولاة المجاورين، وخاصة والي دمشق الذي له مصلحة مباشرة في القضاء عليه وفي إعادة ترتيب أوضاع المقاطعات التابعة لدمشق كما كانت قبله ، وتحجيم الإمارة المعنية بإعادتها إلى حدودها السابقة.
أُختير لمحاربة فخر الدين أحمد الكجك باشا، الذي عينّته الدولة العثمانية والياً على الشام. والكجك هو ربيب فخر الدين قبل أن يترقّى في مناصب الدولة، إذ كان محصّلاً من قبله للأموال في وادي التيم، ويعرف الكثير من أسرار حكمه وجيشه وقلاعه. فجهّز الكجك حملة برية كبيرة، إجتمع فيها جند والي حلب، وجنود أمراء مقاطعات الشام كطرابلس وغزّة والقدس ونابلس وعجلون وحمص وحماه، فيما كان الأسطول البحري يمسك السواحل. فكان في هذا إستعادة، وبشكل أكبر، لمشهد حملة إبراهيم باشا سنة 1585 على الأمير قرقماس، وحملة حافظ باشا سنة 1613 على فخر الدين. كما فيه إستعادة لما حصل في هاتين الحملتين من تفسّخ في الجبهة الداخلية، إذ أنهار، وبسرعة، كما حصل سنة 1613، كل ما بناه فخر الدين من تحالفات ومن ترسيخ لوحدة صفوف السكان المنقسمين حول غرضيتين هما القيسية واليمنية، وذلك بمجرد أوامر وتدابير أو إشارات من الكجك باشا.

السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين
السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين

حين رأى فخر الدين تداعي صفوفه وتسليم قلاعه للكجك واحدة بعد أخرى، سلّم بعضها له ولقائد الأسطول البحري جعفر باشا ووضع صفوة عسكره في حصون راهن على صمودها، كما راهن على عامل الوقت، وعلى أمله بإمكانية إرضاء الكجك وجعفر باشا، لكن الإثنين كانا عازمين على تنفيذ أوامر السلطان العثماني بإنها ظاهرته، ويطمعان في الأموال التي أاضطر فخر الدين إلى تقديمها لهما لاسترضائهما.
ما كان فخر الدين يتوقّع الأمور التي جرى ذكرها، أو يتوقّع السرعة التي جرت فيها. وما كان أيضاً يتوقّع أمراً كان بداية نهايته، وهو الموقعة الكبيرة التي نشبت بين إبنه علي وقوات الكجك بالرغم من نصيحته لإبنه بتجنّب ذلك أو الإكتفاء بمناوشة هذه القوات إذا قضت الضرورة. لكن علياً الذي سارع إلى نجدة الشهابيين في راشيا عند مضايقة الجند العثماني لهم، إصطدم وهو في طريقه من صفد إليهم بقوات كبيرة من العثمانيين عند سوق الخان، هبطت إليه من التلال التي تمركزت فيها، فعوّل على بطولته وشجاعة رجاله، وخاض القتال دون أن يكون هناك تكافؤ في العدد، وقُتل في الموقعة، وقتل معظم رجاله، وجمعت جثثهم فوق بعضها ما أعطى للجسر القائم على نهر الحاصباني، الذي جمعت أو شُقعت عنده ،إسم “جسر الشقعة”.وكان من الناجين القلائل أمير معني لجأ إلى إبل السقي. وهذه الموقعة توازي في أهميتها، وإنما بنتائج معكوسة، موقعة عنجر الشهيرة التي إنتصر فيها فخر الدين وكانت منطلقاً لتألّقه، وبداية لتوسّعه بينما كانت موقعة سوق الخان بداية نهايته.
وكما فعل الأمير قرقماس سنة 1585، هكذا فعل إبنه فخر الدين، إذ إلتجأ إلى قلعة شقيف تيرون الحصينة (قلعة نيحا) وهي مجموعة مغاور قائمة وسط شاهق صخري مرتفع، يصعب الصعود إليها من تحت والنزول إليها من فوق، ومدخلها الوحيد هو ممر ضيّق من ناحية الشمال، من الصعب أيضاً إجتيازه. وكان يمكن لفخر الدين الإحتماء بهذه القلعة مدة طويلة لولا معرفة الكجك بمصدر المياه الذي يغذّي خزاناتها، وهو عين الحلقوم، وذلك بخيانة من زمّاره الذي أعلم بواسطة العزف زمّار الكجك، فاهتدى الكجك إلى المياه ورمى فيها الأقذار ودماء الذبائح ففسدت، عندها اضطر فخر الدين إلى الهرب ليلاً إلى مغارة جزين القريبة، وعرف جند الكجك مخبأه الجديد، وحفروا نفقاً تحت المغارة وقبضوا عليه.فاقتاده الكجك أسيراً إلى دمشق، ومنها أُخذ إلى الآستانة، حيث بقي أسيراً لمدة سنتين كان يأمل فيها بعفو السلطان، لكن السلطان أمر بإعدامه عندما بلغته أخبار الإضطرابات التي أحدثها ابن أخيه يونس (الأمير ملحم) والتي قتل في إحداها مدبرّ الكجك، فأعدم في سنة 1635، وقال الشاعر سعيد عقل، في الذكرى المئوية الثانية لموته، قصيدة طويلة هذا أحد أبياتها:
فيــــــــــــــــــه مـــــــــــــــــن وثبــــــــــــــــة الجريـــــــــــــــــح إلى الثــــــــــــــــأر وفيــــــــــــــــــــه مــــــــــــــــــــن إحتضــــــــــــــــــــار النســــــــــــــور
هذه النهاية الكارثية لفخر الدين كان من فصولها أيضاً إعدام زوجاته وإبنه الأصغر حسن في دمشق، وإعدام أبنائه منصور وحيدر وبلك معه في الآستانة: ولم يسلم من أبنائه سوى حسين الذي إستبقاه السلطان لصغر سنه وربّي تربية عثمانية، وغدا سفيراً للدولة في الهند، ولم ينجُ من عائلة شقيقه يونس سوى إبنه ملحم. وبهذه النهاية كانت بداية نهاية الإمارة المعنية التي إستمرت مع الأمير ملحم ثم مع إبنه الأمير أحمد ضعيفة متعثرة حتى وفاة الأمير أحمد دون عقب سنة 1697، ووراثة الأمراء الشهابيين للمعنيين.

““ليس في تلك المحفوظات (المديتشية) ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”
(د. عادل إسماعيل لبنان في تاريخه وتراثه” الجزء الأول- ص 15)”

الأمير الكبير
حمل فخر الدين ألقاباً عدة، منها لقب “أمير صيدا والجليل” الذي كان أحبّ الألقاب إليه، ولقب “أمير لواء صفد”، ولقب “امير سنجق صيدا وبيروت وصفد”. وجاء في ملحق لتاريخ الأمير فخر الدين أنه في شهر ربيع الأول من السنة 1034هـ (1624م) “أتى لفخر الدين فرمان عال بأن يكون متولياً على ديرة عرب بستان من حد حلب إلى حد القدس ومعطى إسم جده الأمير فخر الدين سلطان البر على المقاطعات المذكورة، وذلك بمسعى من كتخداه الحاج درويش مقابل مائتي الف غرش ذهبي إلى السلطان”39.
هنا تجدر الإشارة إلى أن إعطاء لقب “سلطان البر” لجد الأمير فخر الدين المعني الثاني، الحامل إسمه (فخر الدين) مشكوك فيه، لأنه جاء في رواية مشكوك فيها، هي خطبة فخر الدين الجد أمام السلطان العثماني سليم الأول في دمشق سنة 1516، بعد إنتصار السلطان على المماليك في موقعة مرج دابق في السنة نفسها، إذ من يستحق هذا اللقب آنذاك ليس فخر الدين الذي كان أميراً غير مشهور يشتمل قطاعه على الشوف فقط، وإنما أمير بدوي هو ناصر الدين إبن الحنش الذي كانت إمارته تحيط بإمارة فخر الدين وكان الأبرز بين شيوخ وأمراء مرحلة فتح العثمانيين لبلاد الشام وبداية حكمهم فيها، ومع هذا لم يحصل على لقب “سلطان البر” مع أن باشوات السلطان سليم” ألبسوه خلعة، وتسلّم نيابة بيروت وصيدا ومقدّمية البقاع، وأعطي الأمرية الكبرى وذخيرة إبن السلطان وإقطاع نوى “40.
أفاض المؤرّخ بيجيه دي سان بيير في الحديث عن أعمال فخر الدين الثاني وإنجازاته، وإزدهار إمارته وتوسّعها، وشبّهه بملك، فقال: “ وأي ملك يستحقُّ لقب “الكبير” كفخر الدين. أربعون سنة من الفتوحات والإنتصارات والتقدّم السريع الرائع في ظل حكومة عاقلة حكيمة”41.
قلّد فخر الدين الملوك والسلاطين في التوسّع، وإنما على نطاق ضيّق، وقلّدهم في بناء القصور، وإعتبر السلطنة نقل تخم كما جاء عند مؤرّخه الخالدي الذي قال في معرض الحديث عن إنتصاره في عنجر، وأخذه أملاك آل سيفا وآل حرفوش ما يلي: “فقويت نفسه وكانت قوية من قبل ذلك وراودته نفسه على السلطنة، وقال: السلطنة نقل تخم وكلما حكمنا بلاداً نتقوّى برجالها وننتقل إلى غير، وصار يعمّر في بيروت حارة للوحوش تقليداً للسلطنة42.
إذن لقّب المؤرّخ الأوروبي بيجيه دي سان ببير فخر الدين بملك كبير. ولقبّه سائر المؤرّخين بالأمير فخر الدين الكبير، لكبره وشهرته، لا لتمييزه عن الأمراء المعنيين الذين يحملون إسمه نفسه، لأن إضافة لفظة “الثاني” كافيةٌ لتمييزه عنهم، وللدلالة عليه. لقد عُرف بلقب “الكبير” قبل فخر الدين ثلاثة من أمراء “الغرب”، هم جمال الدين حجى، وأخوه سعد الدين خضر، وناصر الدين الحسين إبن سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرمطوني. وعُرف بهذا اللقب بعده الأمير بشير الشهابي الثاني. لكن الأمير فخر الدين هو الأكبر بين جميع هؤلاء الأمراء، والأكبر بين سائر الأمراء والحكام الأهليين في لبنان.
إن الأمراء البحتريين التنوخيين، الذين هم أشهر أمراء المناذرة اللخميين ، عُرفوا بأمراء منطقة “الغرب” وكان توسّعهم خارج هذه المنطقة محصوراً بمدينتي بيروت وصيدا وبالقرى المجاورة للغرب. وأقصى ما بلغه الأمراء الشهابيون من نفوذ خارج لبنان هو إلتزامهم لصفد. أما فخر الدين، فقد إمتد نفوذه من حلب وانطاكية في شمال سورية، إلى غزّة في جنوب فلسطين، كما وصل شرقاً إلى تدمر، وإلى صرخد (صلحذ) في جبل حوران. وتبعاً لذلك، ولإمتلاكه الجيش القوي، والقلاع التي بلغت الثلاثين، يكون قد بلغ من السيطرة البرية ومن علو الشأن ما لم يبلغه أي أمير، أو حاكم أهلي آخر، حتى إنه ما كان ينقصه ، كما قال المحبّي سوى دعوى السلطنة.
وبالمقارنة بين فخر الدين والملوك الفينيقيين، في بعض الوجوه، يمكن القول إنه إمتلك القوة البرية، وتوسّع براً في بلاد الشام، وغدا أهم حاكم أهلي فيها في زمانه. فيما كان للملوك الفينيقيين القوى البحرية، وتوسٍّعوا غرباً في حوض البحر الأبيض المتوسط حيث أقاموا المستعمرات والمحطات التجارية، لكنهم كانوا حكاماً لممالك مدينية، قلما إتحدت، أبرزها ارواد وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا (صيدون) وصور، ولم تتجاوز سيطرتها البرية شرقاً حدود الجبال اللبنانية.

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

الرمز والشخصية الخلافية
كان فخر الدين ككل الكبار رمزاً، وكمعظمهم شخصية خلافية. إنه من أهم الرموز في تاريخ لبنان، كما هو أحد مواضيعه الخلافية فيما يتعلّق بمذهبه ومشروعه وعلاقاته بالخارج. لم يُنظر إليه، على العموم، نظرة موضوعية خالصة، بل كثيراً ما نُظر إليه من زوايا إيديولوجية، وخلفيات سياسية مختلفة، فإذا هو عند البعض نقيض ما يراه البعض الآخر. وقد نشأ الإختلاف حوله خصوصاً بين المؤرّخين اللبنانيين، وقوي بعد تأسيس دولة لبنان الكبير في سنة 1920 بحماية فرنسية، واستمرّ بعد الإستقلال، وسيظل طالما هناك خلاف على هوية لبنان وكيانيته، وصراع داخلي فيه، فئوي أو طائفي، وصراع على تاريخه عطّل حتى اليوم محاولات إصدار كتاب التاريخ المدرسي الموحّد، في الوقت الذي أنهى إتفاق الطائف، الموقّع سنة 1989، الحرب اللبنانية، ونصَّ مع الدستور اللبناني، المعدَّل على أساسه سنة 1990، على نهائية الكيان اللبناني، وعلى انه بلد عربي فيما كان معتبراً ذا وجه عربي.
برزت عند اللبنانيين إتجاهات فكرية عدة حول الدولة والقومية، هي فكرة الدولة الإسلامية التي هي إستمرار للنهج الفكري الذي كان سائداً في عهد الدولة العثمانية، وإستمر بعد ضعفها ونهايتها.وفكرة الكيان اللبناني. وفكرة الدولة العربية. وفكرة القومية اللبنانية المقترنة بصيغة الدولة المسيحية، وجلّ أتباعها من المسيحيين المؤمنيين بالكيانية اللبنانية المقترنة عند بعضهم بضرورة الحماية الفرنسية. وفكرة القومية السورية التي عبّر عنها هنري لامنس في كتابه عن سورية الصادر سنة 1920، قبل أن يعبّر عنها حزب أسسه انطون سعادة هو الحزب السوري القومي الإجتماعي. وفكرة القومية العربية.
إن صورة فخر الدين عند أصحاب الفكرة الإسلامية هي صورة المعادي للدولة العثمانية، والنصير لأعدائها. وهي عند أصحاب الفكرات الأخرى صورة البطل القومي، إذ هو عند أصحاب فكرة القومية اللبنانية بطل قومي لبناني، وعند بعضهم معيد بناء الوحدة الجغرافية والسياسية لفينيقيا القديمة. وهو عند أصحاب فكرة القومية السورية بطل قومي سوري، وعند أصحاب فكرة القومية العربية بطل قومي عربي عمل على تحرير قومه من الأتراك. وإضافة إلى هذه الصور هناك صورة لفخر الدين عند بعض المؤرّخين، هي صورة الملتزم في نطاق الإلتزام الضرائبي السائد في العهد العثماني، فلقد كان في نظر هؤلاء يوسّع منطقة إلتزامه إنطلاقاً من إمارته في الشوف، وكان أكثر ما أعطته له الدولة العثمانية هو رتبة أمير لواء، أي أمير سنجق بيروت وصيدا وصفد، فيما اخذ العديد من الإلتزامات بأسماء أبنائه.
أُعطي لحراك فخر الدين السياسي والعسكري، وللهدف منه، أوصاف عدة، منها بناء دولة قوية ومتطوّرة، والتحرّر من الأتراك المستبدّين، حتى إن الأمير شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، والمشهور بتأييده للدولة العثمانية الإسلامية وبدفاعه عنها، قال: إنه لو استوسق الأمر لفخر الدين كان سلطاناً مسلماً عربياً في دولة عربية في بر الشام43.
ومن الأمور الخلافية حول فخر الدين، إضافة إلى الإختلاف حول صورته وحراكه وعلاقاته الخارجية، طائفته ومذهبه، وهذا ما إنعكس على الخطاب السياسي للطوائف اللبنانية. لقد حاول البعص تنصيره وتحديداً مورنته، وإعتبره بعض المؤرّخين مسلماً سنياً، وتمسك المؤحِّدون (الدروز) بدرزيته، وافتخروا بإنجابهم أكبر شخصية في تاريخ لبنان.
كُرّم الأمير فخر الدين بكثرة الكتابات عنه. وكُرّم بأشهر المسرحيات التي تتناول مآتيه وأبرز محطات تاريخه، وإنتصاره الكبير في عنجر سنة 1623. وأُطلق إسمه على شوارع وجادات عديدة في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي أمكنة أخرى، منها، على سبيل المثال، الشارع الرئيس في بلدة مزرعة الشوف الذي يمّْر في “حارة المسيحيين” فيما أطلق على الشارع الرئيس الآخر فيها الذي يمرُّ في “حارة الدروز” إسم الأمير بشير الشهابي الثاني، وذلك من قبيل التركيز على الوحدة الوطنية وتجاوز الطائفية.
وأُقيم لفخر الدين تمثال، بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لولادته، على مدخل وزارة الدفاع في اليرزة كرمز وطني نضالي، سياسي وعسكري، ونهضوي. وحين طُرحت فكرة إقامة تمثال له بهذه المناسبة في الشوف، رغب أهل دير القمر في إقامته أمام قصره ببلدتهم لأنها عاصمة إمارته. ورغب أهل بعقلين في إقامة التمثال ببلدتهم لأنها مسقط رأس فخر الدين، ومقر إمارته الأول، ومنطلقها، ومقرُّ الآباء والأجداد ، وكان لهم ما أرادوا بالإتفاق مع أهل دير القمر، مع الإشارة إلى أنه يحق لدير القمر أن يقام فيها كبعقلين تمثالٌ لفخر الدين، وخصوصاً أنه ليس في أي منهما ضريح له أو مكان يضمُ رفاته. ووضع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الأساس للتمثال في 6 آب 1972 ، في باحة سراي بعقلين (المكتبة الوطنية اليوم) بحضور شيخ العقل محمد أبو شقرا والنائب بهيج تقي الدين ووفد من دير القمر منه المؤّرخ جوزيف نعمة. وشّكل أهل بعقلين لجنة إسمها “لجنة تكريم فخر الدين” جمعت التبّرعات وأوكلت إلى فنّان إيطالي صنع التمثال، فأقام مدّة في بعقلين ليتعرّف على هيئة أهلها وأهل المنطقة. وقد أزاح الرئيس سليمان فرنجية الستار عن التمثال في 23 آب 1975، بعد بضعة أشهر من قيام الحرب اللبنانية، التي كانت في أحد وجوهها حروباً داخلية ذات طابع طائفي ومذهبي، كما كانت، لدخول اللبنانيين في لعبة الأمم، حروبهم من أجل الآخرين، أو حروب الآخرين على أرض لبنان.
كان من فصول الحرب اللبنانية، ومسارحها، حرب الجبل التي قامت بين قطبي الثنائية التاريخية فيه: الدروز والمسيحيين، وهي ثنائية أوجدها وعزّزها تسامح فخر الدين وقومه الدروز، بتشجيعهم وتسهيلهم إنتقال المسيحيين من جبل لبنان الشمالي إلى جبل لبنان الجنوبي، كما وردت الإشارة إلى ذلك. إنتصر المقاتلون الدروز في آخر مراحل حرب الجبل في أيلول 1983 وشباط 1984, وبعد إنتصارهم جرى نسف تمثال فخر الدين في بعقلين كردّة فعل فورية على تصريح أحد خصومهم، عند خروجه من القصر الجمهوري في بعبدا، وقوله: “نحن أبناء فخر الدين”، ولسبب رئيس أهم من ذلك بكثير، هو التعبير عن النقمة على المارونية السياسية وتزويرها للتاريخ، إذ إنها في الوقت الذي قامت بهذا التزوير، وغالت في تمجيد فخر الدين، وأدلجة شخصيته خدمة لمشروعها السياسي، عملت ميليشياتها على زعزعة أسس الثنائية الدرزية المسيحية التي أوجدها فخر الدين من خلال مشروعها الفئوي الانتحاري، وصعود مقاتليها مع الدبابات الإسرائيلية إلى الجبل أثناء الإجتياح الإسرائيلي، ومقاتلتهم للدروز، وتهديدهم إياهم بالتهجير.

قصر الأمير فخر الدين في دير القمر
قصر الأمير فخر الدين في دير القمر

تناول المؤرّخ كمال الصليبي مسألة نسف تمثال فخر الدين وتزوير المؤرخين الموارنة للتاريخ، وإستياء الدروز من هذا، وذلك في معرض حديثه عما سمّاه “الحرب حول تاريخ لبنان” في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” الصادر في سنة 1990، فقال:
“جاء أول تعبير عن هذه النشوة [ نشوة الإنتصار] بين الدروز نسفاً لتمثال فخر الدين في بعقلين، وإزاحة حطامه جانباً. وبدا هذا لغير الدروز أمراً غريباً خصوصاً ان صورة الأمير نفسه بقيت تحتل المكان المخصّص لها في قاعة قصر آل جنبلاط التاريخي ببلدة المختارة. ولم يكن هناك بين اللبنانيين – ومنهم الدروز- من يشك في أن شخصية فخر الدين، في تاريخ لبنان حرية بالإجلال الخاص من جميع أبناء البلاد، لكن نسف تمثال هذا الأمير، وفي الوقت الذي تمَّ فيه بالذات، كان عملاً رمزياً له مغزاه العميق بالنسبة إلى الدروز. فالأمير هذا كان في أيامه شخصية درزية إختلف في شأنها إلى أن جاء المؤرّخون فأمعنوا في تمجيدها وفي التضخيم بالمنصب الذي كانت تحتله خدمةً لأغراض مسيحية خاصة لا علاقة لها بالشخصية التاريخية. وهكذا فإن تلك الشخصية البرونزية التي أسقطت عن قاعدتها أرضاً ثم ألقيت بقاياها في المهملات، كانت تمثّل فخر الدين بتمجيده المسيحي الذي لا يستحقه. وكان تمثاله قد أقيم في مسقط رأسه بالشوف من قبل المؤسسة المسيحية اللبنانية الحاكمة ليقف شخصه التاريخي المزيّف شاهد زور على ما قامت به هذه المؤسسة نفسها من التزوير بشأن تاريخ لبنان. أما الصورة التي بقيت تحتل مكانتها في قصر المختارة، فهي تمثّل من ناحيتها شخصية فخر الدين التاريخية الحقيقية التي كان للدروز قبل غيرهم أن يقولوا كلمة الفصل بشأنها”44
بعد ثلاثين سنة من نسف تمثال فخر الدين في بعقلين، وُضع تمثال بدلاً عنه يختلف عنه بإختلاف الجهة الذي وضعته والرمز الذي تراه فيه، وهو الرمز الذي ظل له في الصورة الحقيقية المائلة في أذهان الدروز، وبإختلاف إسم المكان وشكل التمثال. كان إسم المكان سراي بعقلين، وفيها سجن يكتنفه الظلام، وربما المظلومية، كان فيه عند مهاجمته وإطلاق سراح المسجونين منه، في بداية الأحداث اللبنانية ، عشرات المساجين، وقد حوّله الزعيم وليد بك جنبلاط إلى مكتبة وطنية إفتتحها في 13/3/1987، وغدت مركز ثقافة، ومنارة فكرية. وكان التمثال القديم يظهر فخر الدين ممتطياً جواداً، وشاهراً سيفاً كأنه احد الفاتحين، فيما التمثال الجديد يظهره راجلاً واضعاً يده على سيف في وسطه اي في وضع المتأهّب للقتال، وللدفاع، وقد أزيح الستار عنه في 8 تشرين الثاني 2014 في إحتفال أقيم برعاية النائب وليد بك جنبلاط.
وبعد إنتهاء حرب الجبل بثلاثين سنة، والحرب اللبنانية بأربع وعشرين سنة، لا تزال تجري في لبنان حرب باردة، وفصول من الحرب الساخنة، كما لا يزال مهدّداً في أمنه ووجوده وكيانه ومصيره. وكان من المفروض أن تقوم فيه دولة على غرار ما أنشأه فخر الدين، بل افضل بكثير من ذلك، نظراً لتوافر الإمكانيات وإنفساح المجالات واختلاف الظروف. كما من المفروض ان تكون هناك كتابة صحيحة لتاريخ لبنان كأحد الأدلة على إنتهاء، الحرب فيه، وأحد العوامل التي تحول دون تجدّدها. إلا ان الحرب على تاريخ لبنان لا تزال قائمة، ومن مواضيعها الخلافية شخصية فخر الدين. وإذا كان من الطبيعي إستمرار الإختلافات حوله عند واضعي كتب التاريخ العام، فإنه من غير المنطقي بقاؤها في كتب التاريخ المدرسي الذي يُدرّس لجميع تلاميذ لبنان.
إن ما ورد ذكره عن التفسيرات والتقييمات المختلفة لجوانب من شخصية فخر الدين ورمزيته، ناتج من إختلافات وجهة النظر إليه. لكن هناك ما يجمع بين المؤرّخين الذين كتبوا عنه، وهو إقرارهم بعظمته، إذ إن الجميع يعترفون بأنه رمز تسامح وتوحيد، ورمز نهضوي، وأكبر حاكم عرفه لبنان، وواضع أسس كيان لبنان، وقائد صنع الأحداث، وقام بدور كبير هو أحد الشواهد على أهمية قومه الدروز في بلاد الشام، وأفضل مثل عن كبر دور اللبنانيين بالرغم من قلة عددهم، وكبر دور لبنان بالرغم من صغر مساحته.

الطب والجراحة في مصر القديمة

Medicine in Ancient Egypt

Imhotep

الطب والجراحة في مصر القديمة

أبو الطب أبقراط درس الطب في معبد أمحوتب
وأقرّ بمساهمة الطب المصري في تطوير الطب اليوناني

المصريون أتقنوا الجراحات وتقويم العظام وعلاج الأسنان
وطب الأمعاء وجراحة الرأس والطب النسائي والنفسي

مصر الفرعونية أنشأت كليات الطب ودونت قواعده
ووفّرت الضمان الصحي والإجازات المرضية للعاملين

يعتبر طب مصر القديمة أقدم طب موثق منذ بدء الحضارة عام 3300 ق.م. لغاية الغزو الفارسي عام 525 ق.م. لم تتغير ممارسة الطب المصري القديم طوال تلك الحقبة، وقد بلغ تطور الطب والجراحات في مصر حداً جعل من مصر القديمة محجة طالبي العلم وكل راغب في تعلم شيء من الطب أو من سبل إعداد العلاجات أو إجراء الجراحات ، وكان ملوك الدول المجاورة لمصر يبعثون للفرعون رسائل يرجونه فيها أن يرسل إليهم أطباء مصريين للعناية بمن يحبون. وقد وجد علماء الآثار خطاباً مرسلاً من أحد ملوك الحيثيين إلى فرعون مصر يرجوه فيه أن يرسل له طبيباً لعلاج أخته حتى تستطيع انجاب طفل، وقد ردّ الفرعون على ملك الحيثيين بأن سبب عدم الإنجاب لدى اخته يعود إلى تقدمها في السن وبالتالي بلوغها «سن اليأس» مما يعني أنه لا يمكن للطب أن يفعل شيئاً في حالتها. ونعرف أن ابقراط (ابو الطب) درس الطب في معبد أمحوتب في مصر وهو أقرّ بمساهمة الطب المصري القديم في تطوير الطب اليوناني. ويبدو التأثير الكبير للطب المصري القديم على حضارة اليونان وعلوم الطب فيها من واقع ان المصادر الأساسية للمعلومات عن الطب المصري القديم كانت كتابات هوميروس التي يعود تاريخها إلى العام 800 ق.م. وكذلك كتابات هيرودوتس التي تعود إلى سنة 440 ق.م.. لقد اعتنى اليونانيون على العموم بالتعلم من حضارة مصر ليس فقط على صعيد الطب بل في المجال الفلسفي أيضاً، إذ كان لمعابد مصر تأثير كبير على فلاسفة اليونان وقد درس عدد منهم أبرزهم فيثاغوراس الحكمة في معابد المصريين وعلى يد حكمائهم..

تقدم كبير في كل المجالات
وتشير الآثار المكتشفة في مصر أن طب مصر القديمة كان من التقدم بحيث شمل اجراء جراحات خارجية وتقويم العظام واستخدام عدد كبير من العقاقير، كما برع المصريون في علم الجراحة بسبب ما خبروه عن جسم الإنسان عبر مهنة التحنيط وقاموا بتطوير جملة من الأدوات الجراحية الدقيقة والفعالة. .وبالرغم من تداخل الطب المصري القديم بالسحر والتعاويذ، إلا أن الأبحاث الطبية أظهرت فعالية العلاجات المصرية القديمة في كثير من الأحيان بل واتفاق التراكيب الدوائية المصرية القديمة بنسبة 37% مع الصيغ المعروفة وفقاً لدستور الصيدلية البريطاني الصادر عام 1973. وقد ذكرت النصوص الطبية المصرية القديمة خطوات محددة للفحص والتشخيص والعلاج غالباً ما كانت منطقية وملائمة من منظور الطب الحديث.
حسب المخطوطات المصرية القديمة، فإن أحد الكهنة الكبار ويدعى «إمحوتب» يعتبر مؤسس علم الطب في مصر القديمة، كما يعتقد أنه مبتكر الكتابة الهيروغليفية ، مما جعل المصريين القدماء يقدسونه في العصور المتأخرة من عصر الفراعنة باعتباره «إله الشفاء»، كما إن تقدم التكنولوجيا الطبية بالاضافة الى التوصّل الى ترجمة النقوش والمخطوطات البردية الطبية المكتوبة باللغة الهيروغليفية عام 1822 ساهم الى حد كبير بفهم الطب المصري القديم وتقدير الأهمية الخاصة التي كانت له في العصور القديمة.

  كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية
كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية

مخطوطات ومكتشفات
وتعتبر مخطوطتا «ادوين سميث» و«إيبرس» من أهم المخطوطات الطبية البردية حول الطب في عصر الفراعنة، ومن المحتمل أن تكون مخطوطة «سميث» قد كتبت عام 1600 ق.م. ويعتقد أن هذه المخطوطة مأخوذة عن مخطوطة قديمة تعود إلى 3000 سنة ق.م. وأن أمحوتب هو من كتب هذه المخطوطة التي هي عبارة عن كتاب تدريسي يتضمن ملاحظات دقيقة حول علم التشريح ومعاينة المريض والتشخيص والعلاجات لعدد كبير من الأمراض الأكثر شيوعاً آنذاك. أما مخطوطة «إيبرس» فيعود تاريخ كتابتها الى العام 1550 ق. م. ويعتقد أنها قد نسخت عن مجموعة من المخطوطات التي يعود تاريخها الى العام 3400 ق.م. وهي عبارة عن مجموعة من التعويذات والممارسات الطقسية التي تتوخى «طرد الشياطين المسببة للمرض».
مخطوطة «ادوين سميث»
تختلف مخطوطة سميث عن باقي المخطوطات الطبية البردية التي تعتمد السحر في غالبيتها بأنها تؤكد على وجود أسس علمية ومنطقية للطب المصري القديم، إذ إن المخطوطة تتحدث عن طريقة البحث الطبي وكيفية التشخيص وتهيئة العلاج بحيث يمكن اعتبارها دليلاً تعليمياً لطب المكونات العلاجية والتي تستخدم عناصر حيوانية ونباتية فضلاً عن الفاكهة والمعادن.
تتضمن المخطوطة شروحات لطرق معالجة الجراح الناتجة عن الصدمات وبخاصة الجراح الناتجة عن المعارك العسكرية، وتبتدئ بكيفية علاج جراح الرأس ثم جراح الرقبة فجراح الاذرع ثم جراح الصدر. وحسب المخطوطة فإن العملية العلاجية يجب أن تبدأ بفحص المصاب وتشخيص الحالة ثم التنبؤ بامكانية العلاج وبعد ذلك يعرض على المصاب الخيارات العلاجية، بدءاً بتقطيب الجراح والعلاج والوقاية من الالتهاب بواسطة العسل ووقف النزف بواسطة اللحم النيء وبعض الطرق العلاجية الأخرى..
تحتوي هذه الوثيقة أيضاً على ملاحظات تشريحية فتقدم أول توصيف لعملية تقطيب الجمجمة، السطح الخارجي للدماغ، السحايا، السائل الدماغي، والنبض داخل الجمجمة.
كما إن الاجراءات المعتمدة في هذه المخطوطة تدل على مستوى معرفي في مجال الطب يتخطى معرفة أبقراط الذي مارس الطب بعد ألف سنة من تاريخ كتابة المخطوطة.

مخطوطة «إيبرس»
تعتبر مخطوطة «إيبرس» من أقدم وأضخم مخطوطات الطب المصري القديم المحفوظة، وهي تحتوي على 700 «وصفة سحرية» وعلاج، كما تحتوي على دراسة عن القلب تفترض أن القلب هو مركز التزود بالدم وتتصل به أوعية لتزويد كل عضو من أعضاء الجسم بالدم. ويبدو أن قدامى المصريين لم يعرفوا الكثير عن الكلى وجعلوا من القلب مركزاً لالتقاء عدد من الاوعية التي كانت تنقل كل السوائل الى الجسم، الدم، الدموع، البول، والمني.
تحتوي المخطوطة ايضاً على بعض النصوص المتعلقة بالامراض العقلية كالاكتئاب والخرف والتي كان ينظر اليها بنفس الطريقة التي ينظر بها الى الامراض الجسدية. اضافة الى ذلك، تحتوي المخطوطة على نصوص عن الحمل ومنع الحمل، الامراض المعوية، امراض العين، الامراض الجلدية، طب الاسنان، الحروق، وتقويم العظام..
من أهم الوصفات التي التي كان يكتبها الطبيب المصري القديم وصفات لعلاج العيون. إن كثرة الرمال وعواصف الغبار وكثرة الذباب والحشرات جعلت إصابات العين كثيرة . وكان تزيين العينين بالكحل من أساليب الوقاية الأكثر شيوعاً، وكذلك كان الطبيب المصري القديم يصف الحقن الشرجية كثيراً وكانت هناك طرق لمنع الحمل أو لزيادة القدرة الجنسية، أو القدرة على الحمل أو علاج أوجاع الجسم عند المرأة.
نعلم في عصرنا هذا أن المصري القديم كانت له معرفة بجميع الأمراض وجميع أعضاء الجسم . ونجد في بعض الموميوات أعضاء اصطناعية من الخشب، كما كان خبيراً بتقنيات فتح الجمجمة. ويدل شكل العظام المعالجة بسبب كسر أو جرح أن الشخص المعالج عاش سنوات طويلة بعد أن أجريت له العملية الجراحية. .

لائحة علاجات
في ما يلي بعض العلاجات التي تضمنتها مخطوطة إيبرس:
الربو: خليط من الأعشاب يسخن على طوبة من طين ليتنشق المريض الدخان المنبعث من الخليط.
البطن: لإفراغ البطن تمزج مقادير متساوية من حليب البقر، الحبوب، والعسل ثم تطبخ وتصفَّى وتقدم للمريض على أربع دفعات.
علامات الموت: نصف بصلة ممزوجة برغوة الجعة كانت تعتبر علاجاً لذيذاً لدرء الموت.

مخطوطة «كهون» المتعلقة بأمراض النساء
تعتبر مخطوطة «كهون» أقدم وثيقة طبية على الاطلاق. يعود تاريخها الى العام 1800 ق.م. و وهي تقدّم عرضاً لامراض النساء وطرق علاجها كمشاكل الحمل والخصوبة ومنع الحمل. تتضمن المخطوطة 34 قسماً يتطرق كل قسم الى مشكلة معينة بحيث تشخص المشكلة ويقترح طريقة علاجها من دون التنبؤ بحالة المريض المستقبلية بعد العلاج. تنحصر العلاجات باستخدام الأدوية دون اللجوء الى اية عمليات جراحية. يعتبر الرحم المصدر الأساسي للامراض النسائية التي عادة ما تظهر في اقسام مختلفة من الجسم.
تعتمد الآقسام السبعة عشر الاولى نفس التصميم بحيث تبدأ بتسمية المرض ثم تعمد الى توصيف مختصر لعوارضه التي غالباً ما تكون لها علاقة بالأعضاء التناسلية. يلي هذه الأقسام قسم يصف عملية التبخير بالدخان التي تؤدي الى حصول الحمل ثم ثلاثة اقسام تتعلق بمنع الحمل وكيفية تحقيقه بواسطة وصفة طبية مكونة من روث التمساح الممزوج بالعسل والحليب. الأقسام السبعة اللاحقة تتعلق بطريقة فحص الحمل التي تعتمد على وضع بصيلة بصل عميقاً داخل قطعة من اللحم وتعتبر الامرأة حاملاً اذا تمكنت من شم رائحة البصل. .

الغذاء
أذا اردنا دراسة الحالة الصحية ضمن حضارة معينة يجب ان نأخذ في الاعتبار العادات الغذائية لتلك الحضارة. لقد كان المصريون القدامى على وعي تام بأهمية التوازن والاعتدال في النظام الغذائي. لكن بالرغم من توافر المحاصيل الزراعية في معظم الاوقات، فإن مصر القديمة لم تنج دوماً من المجاعة.
كان القمح والشعير من أهم المحاصيل الزراعية في مصر القديمة وكان المصريون يستخدمون القمح والشعير لصناعة الخبز بطرق مختلفة ويستخدمون الشعير لصناعة الجعة، كما إن زراعة الخضار واشجار الفاكهة كانت منتشرة على نطاق واسع.
استخدم المصريون القدامى الاعشاب والتوابل والزيت المستخرج من نبتة بذر الكتان في تحضير وجباتهم. أما لحوم الغنم، الماعز، الخنزير والطيور فكانت متوفرة للطبقة العليا فقط بينما كان السمك في متناول الجميع.
كانت التقاليد الراسخة والمستمرة من أهم ميزات مهنة الطب في مصر القديمة. وكان في قمة الهرم كبير المسؤولين الطبيين، وهو الذي كان يشرف على المدراء والمفتشين الذين كانوا بدورهم يشرفون على الاطباء. كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالاعشاب والتقنيات الجراحية. بالرغم من ذلك، فإن بعض اطباء مصر القديمة كانوا يمارسون السحر والرقية والتعويذات، بالإضافة الى وجود مراتب في ممارسة الطب واختصاصات متعددة كطب العيون وطب الجهاز الهضمي وطب الشرج وطب الاسنان..
انتشرت في مصر القديمة مؤسسات كانت تدعى «دور الحياة» ويعتقد أنه كانت لتلك المؤسسات وظيفة علاجية إذ وجدت فيها نقوش لأسماء بعض الاطباء، وقد تمتع موظفو تلك المؤسسات ببعض الامتيازات كالضمان الصحي و تعويض نهاية الخدمة والاجازات المرضية.

“الطب المصري القديم صنع جهاز استنشاق من الصخور الساخنة والأعشاب لمداواة الســـعال والإلتهابات الرئوية”

ممارسة الطب
تحلّت ممارسة الطب في مصر القديمة بسمعة ممتازة. وكان للأطباء المصريين بعض المعرفة في علم التشريح حيث كان بمقدور المختصين بالتحنيط أن يدخلوا أداة معقوفة من خلال فتحة الأنف ليتمكنوا من كسر عظم غلاف الجمجمة الرقيق واخراج الدماغ، كما إنه كانت للمحنطين معرفة بمواقع الأعضاء الداخلية التي كانوا يخرجونها عبر شق صغير في أصل الفخذ الأيسر. يبقى أن نشير هنا الى أنه لا يمكن التأكد مما اذا كان لدى اطباء مصر القديمة المعرفة التشريحية التي كانت لدى المحنطين.
كان الاطباء المصريون أيضاً على دراية بوجود النبض وعلاقته بالقلب ولكنهم لم يميزوا بين الاوعية الدموية والأوتار والاعصاب، وكانت لديهم نظرية تقول بوجود أقنية تحمل الهواء والمياه والدم الى الجسم كما يحمل نهر النيل الماء لمصر. فاذا سد مجرى النيل تضررت المحاصيل كذلك الحال بالنسبة لجسم الانسان، اذا سدت المجاري تعرض الإنسان للمرض ولهذا السبب كانوا يستخدمون الملينات لفتح المجاري..

الجراحة
كان الاطباء المصريون يمارسون الجراحة لعلاج الاصابات المسببة للجراح، وهذه الإصابات صنفها المصريون حسب درجة الخطورة الى ثلاث فئات: الاصابات القابلة للعلاج، الاصابات المشكوك بقابليتها للعلاج، والاصابات غير القابلة للعلاج. الادوات الجراحية التي استخدمها الاطباء شملت السكاكين، الكلابات، المثقاب، ملاقط السحب، الكماشات، الميزان، الملاعق، المنشار، واوعية مخصصة لحرق البخور.
من المرجح أن ختان الذكور كان سائداً بين المصريين القدامى بالرغم من عدم ذكر الطريقة التي كانت تجرى بها، وبالرغم من عدم وجود أدلة كافية تؤكد ذلك كما إن هناك بعض الوثائق التي تشير الى ان عمليات الختان كانت تحصل اثناء الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة ادخال اعضاء جدد الى بعض الجمعيات الدينية، مما يوحي بأن ممارسة الختان كان امراً خاصاً وليس عاماً. الاطراف الاصطناعية استخدمت ايضاً من قبل المصريين القدامى كأصابع القدم الاصطناعية ومقلة العين الاصطناعية ولكن لغايات تجميلية فقط.
ان استخدام الجراحة والتحنيط، وتشريح الجثث على نطاق واسع سمح للمصريين القدامى بفهم وظائف معظم اعضاء الجسم بصورة صحيحة. على سبيل المثال، لقد افترض المصريون أن وظيفة القلب كانت تنقية الجسم من الشوائب وتزويده بالحيوية وهذا الافتراض لا يبتعد كثيراً عن وظيفة القلب بإمداد الجسم بالاوكسيجين وتنقيته من ثاني أوكسيد الكربون.

طب الأسنان
بالرغم من أن طب الأسنان لم يكن بارزاً كباقي حقول الطب، فقد كان حقلاً مهماً، وقد بدأ المصريون بممارسة طب الأسنان كمهنة مستقلة في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد.واحتوى النظام الغذائي في مصر القديمة على الكثير من المواد الكاشطة كالرمل المتبقي من عملية طحن الحبوب مما تسبب بتآكل أسنان المصريين بصورة ملحوظة – جميع بقايا المصريين تظهر اسناناً بحالة سيئة جداً – ولكن علماء الآثار لاحظوا تناقصاً ملحوظاً في شدة وعدد حالات التآكل خلال الحقبة الواقعة ما بين 4000 و 1000 سنة ق.م. ويعتقد أن يكون تحسن تقنيات الطحن قد تسبب بهذا التناقص.
علاج الأسنان لم يكن فعالا ًعلى الاطلاق بحيث أن كل ما كان يرجوه من عانى من التهاب في أحد اسنانه، أن يفقد هذا السن. ولم يعثر على أية وثائق تشير الى وجود أدوات يمكن استخدامها لقلع الأسنان من قبل اطباء الاسنان في مصر القديمة وهذا يعني أنهم لم يمارسوا عملية قلع الأسنان. بعض البقايا تظهر عمليات قلع اسنان قسرية وكان الافيون يستخدم لتخفيف حدة الألم.

صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد
صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد

مجموعة الأدوات الطبية
توجد على حائط معبد كوم أمبو من عهد البطالمة لوحة تُعرف بأنها «خزنة الأدوات الطبية» لا يزال علماء الآثار يبحثون في كيفية استخدام الطبيب المصري لكل من تلك الأدوات في العلاجات المختلفة . وتظهر اللوحة مقصاً و زرديات و ميزاناً و منشاراً وخرامات وقطع لوف وأكياساً وكؤوساً وشنائط. وكان المقص يشبه إلى حد كبير مقصاً موجوداً في المتحف القبطي بالقاهرة والذي استخدمه أطباء أقباط لمعالجة جروح كبيرة قبل القيام بخياطة الجرح ، وكان المقص يستخدم أيضاً في قص الأربطة لربط الجروح وكضمادات . وكانت الأكياس في الغالب تستخدم للحفاظ على العقاقير والأدوية. أما الشنائط فكانت تستخدم في الكحت أو لتنظيف العظام ولوضع الدواء .
الجهاز يعتبر خرامة لثقب الجمجمة ولفتحها، فكان الطبيب المصري القديم يقوم بقطع وإزالة قطعة من عظم الرأس إما بالكحت أو باستخدام إزميل.
لم تذكر عمليات الرأس في المخطوطات المصرية القديمة وإنما وصلت إلينا عن طريق «كوربوس هيبوكراتيكوم» ، كما عثر على عمليات في الدماغ أجريت على أناس أحياء من اقدم عصور مصر القديمة ، ومن عهد الدولة الحديثة و العصر المتأخر، وكل هذا مثبت تاريخياً وتدل علامات الشفاء على نجاح عمليات جراحية .
كان من عتاد كل طبيب عدة من الأربطة. واستخدم المصري القديم لذلك أربطة من التيل المختلفة الأنسجة والطول والعرض. من تلك الأربطة ما يسمى بالمصري القديم «فيتت» وهي ألياف نباتية، وكان هذا الرباط يغمس في المادة العلاجية مثل عسل نحل و مرهم أو زيت ، أو يستخدم جافاً أحياناً، كما كانت الألياف النباتية تستخدم كضمادات. وتذكر المخطوطات نوعين من ألياف «فيتت» و «فيتت-إن-ديبت» أي فيتت من نبات الديبت.الأربطة يصنع كل منها من نبات مختلف.
ويبدو أن الطبيب المصري القديم عرف «جهاز استنشاق» وتوجد مخطوطة تصف كيفية صناعة هذا الجهاز الذي كان يحتوي على صخور ساخنة ، وعقار طبي ، ورأس وقصبة من الغاب، وكان يستخدم لعلاج الكحة واحتقان الصدر.

مرض السل
أشار عدد من الأبحاث التي اجريت على بعض بقايا المصريين القدامى بتفشي مرض سل العمود الفقري في مصر القديمة. كانت أهم الدلائل لتفشي هذا المرض هو العثور على عدد من الحدبات في تلك البقايا والتي يسببها انهيار الفقرات الصدرية بسبب ذلك المرض، كما إن العثور على بعض المنحوتات الحجرية والخشبية والعاجية التي تمثل اشخاصاً مصابين بالحدب يدعم نتائج هذه الأبحاث.

شلل الأطفال
لا يمكن التحقق من الإلتهاب الفيروسي لخلايا القرن الامامي في الحبل الشوكي وبالتالي التحقق من وجود دليل على شلل الأطفال الا بعد انقضاء فترة الحضانة للفيروس، الا أن الباحثين اعتمدوا على قصر الساق اليسرى في بعض المومياء كدليل لانتشار شلل الأطفال في مصر القديمة.

التشوهات الخلقية: القزامة
هناك حوالي 207 حالات معروفة من القزامة من خلال بقايا الهياكل العظمية معظمها يتمثل برأس وجذع طبيعيين وأطراف قصيرة. تمثال القزم «سينيب» مع عائلته الطبيعية البنية خير دليل على أن المصريين القدامى كانوا يتقبلون الأقزام كباقي افراد المجتمع.

السحر والطقوس الدينية
كان السحر والطقوس الدينية جزءاً لا يتجزأ من حياة المصري اليومية. كان المصريون يعتقدون أن الآلهة الشريرة والشياطين هي التي تسبب الامراض ولهذا كان العلاج يبدأ بمناشدة الآلهة المعبودة. غالبية المعالجين كانوا من الكهنة الذين يستخدمون السحر والتعويذات كجزء من العلاج. ويمكن ملاحظة العلاقة بين السحر والعلاج من خلال استعراض المكونات المستخدمة والتي كانت في معظمها تستخلص من مادة معينة أو من نبتة أو من حيوان له سمات مشابهة لسمات المرض تماشياً مع مبدأ «علاج المثيل بالمثيل» الذي كان متبعاً في تلك الحقبة، وهكذا فإن بيضة النعامة كانت تستخدم لعلاج الجمجمة المكسورة، وحجاب يمثل قنفذا كان يستخدم لعلاج الصلع. وكان استخدام الحجاب أو التعويذة شائعاً جداً وخصوصاً لعلاج الامراض والوقاية منها ومن الأرواح الشريرة وفي بعض الأحيان لاكتساب بعض الميزات كالقوة والسرعة.

لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر-1
لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر

نماذج من العلاجات المصرية القديمة

العلاج بالاعشاب
صبار الألو فيرا: يزيل الصداع، يخفف آلام الصدر، يشفي الحروق، التقرحات، الحساسية، والامراض الجلدية.
الحبق: ممتاز في علاج القلب.
الهيل: يستخدم كتابل في الطعام، يساعد على الهضم، ويدواي النفخة والغازات.
الحلبة: علاج اضطرابات الجهاز التنفسي، تطهير المعدة، تهدئة الكبد والبنكرياس، وتقليص الورم.
الثوم: ينشط، يداوي النفخة والغازات، يسهل الهضم، ملين، يقلص البواسير، يطرد الأرواح من الجسم. أثناء بناء الاهرامات، كان العمال يأكلون الثوم يومياً ليتزودوا بالحيوية والقوة اللازمتين لمتابعة العمل.
العسل: كان يستخدم على نطاق واسع كمضاد للإلتهاب ولتضميد الجراح مثل استخدام زيت الخروع، الكزبرة، والجعة.
البصل: مدر للبول، يساعد على التعرق، يقي ضد الزكام، يخفف آلام عرق النسا والآلام عامة.
البقدونس: مدر للبول.
النعناع: يخفف من الغازات، يسهل الهضم، يوقف التقيؤ، وينقي النفس.
السمسم: يسكّن اعراض الربو.
التمر الهندي: ملين.
الزعتر: يسكن الألم.
الزعفران: يشفي الجراح، كان يستخدم ايضاً لصبغ البشرة والألبسة.
الخشخاش: يزيل الأرق، يزيل الصداع، مخدر، ويخفف من آلام الإضطرابات التنفسية.

ماذا تعلمنا فلسفة التاو

مــاذا تعلمنــا فلسفـة التــاو
والحكمــة الصينيـة القديمـة

من لاو تسه إلى تشوانغ زي

التاو (الله) أصل الوجود، مجرد عن الماهية
أزلي لا يحدّه شيء ولا تدركـه الأبصار والأفهام

رفض تشوانغ زي امتلاك شيء أو استخدام أداة
واعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الناس

قال تشوانغ زي لرسول ملك طلبه لإستلام الوزارة
أُفضِّل أن أسلي نفسي في حفرة قذرة على دخول بلاط الملوك

تعتبر التاوية Taoism والحكمة الصينية القديمة أحد الفروع الكبرى للحكمة الإنسانية وإحدى أبرز مدارس الترقي الروحي والأخلاقي، وهي تندرج ضمن تيارات السلوك الروحي الرئيسية في آسيا إلى جانب البوذية والفيدانتا الهندية. لكنها تمايزت عبر الزمن وانطبعت بالحضارة الصينية (بما في ذلك لغة الماندارين الصينية) والبيئة الخاصة الإجتماعية والسياسية والثقافية للشعب الصيني، الذي عاش لآلاف السنين في عمق جغرافي منعزل نسبياً لم يطله التفاعل مع ثقافات الحضارات المحيطة وترعرعت وسط الحياة الريفية البعيدة لمجتمع زراعي بسيط وللطبيعة الأخّاذة للجبال الصينية البعيدة. في تلك الطبيعة وسكونها وجلالها وعلى ضفاف الأنهر المتدفقة أو البحيرات وجد الصينيون القدماء طمأنينة النفس وعرفوا عظمة الصانع وجعلت تلك الحياة لديهم روح البساطة المتناهية والجلد والميل إلى التأمل والبحث في أسرار ذلك الكون اللامتناهي، لكن التاوية نهلت أيضاً من البيئة الثقافية الغنية التي قامت في بلاط الأباطرة الصينيين الذين أسبغوا الرعاية والتكريم على الحكماء والفلاسفة وأخذوا هم أنفسهم بالتاوية وتأثروا بها وخصصوا لها أرفع مكانة في الإرث الروحي والثقافي الصيني. وقد تفاعلت التاوية مع فروع عدة للحضارة الصينية مثل الشعر يدخل فيها مدارس التاي تشي Tai Chi المختلفة والـ Kung Fu ومدرسة الشاولينغ وعدد من المهارات البدنية والقتالية تقوم كلها على السيطرة على الجسد وترويض الطاقة الداخلية، وهي تشبه في هذا بعض فروع اليوغا الهندية مثل الهاتا يوغا Hatha Yoga والتانتريك يوغا Tantric Yoga التي طوّرها الحكيم باتانجالي Patanjali والتي تبلغ بالمريد من خلال سيطرة الفكر التامة على الجسد حدود التحقق الروحي وانكشاف حقيقة الوجود، كما إن هذا النهج في الترويض التام لطاقة الجسد يعطي للسالك القدرة على تحقيق أمور بواسطة الجسد لا يقوى عليها الإنسان العادي وقد تبدو مثل الخوارق للكثيرين.
لا تختلف التاوية كما سنرى في مقاصدها أو ما تفرضه من شروط الزهد والفقر وترك الدنيا عن المسالك الروحية الأخرى في جميع الديانات لكنها بسبب الخصائص الفكرية والثقافية والنفسية للصينيين تمتاز بأنها لم تلجأ إلى الميثولوجيا الدينية التي لجأت إليها شعوب أخرى مثل الإغريق والهندوس ولم تنتج «ديانات شعبية» تعتمد على الرموز والآلهة أو التماثيل، والإرث الحضاري والديني الصيني وبسبب خصائص القابلية الروحية للصينيين وميلهم للتأمل العقلاني لم يكن بها حاجة لهذه الأمور، وهنا يظهر لنا درجة تفوق الصينيين وسبقهم الكبير في مجال التعبير العميق والمباشر عن الحقائق الميتافيزيقية والروحية الشديدة التجريد.
لكن التاوية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه ولم تكن في أي يوم،

في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي
في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي

“التاوية رغم قدمها المغرق هي من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً على شكل الديانات الســــــماوية الثلاث”

بل هي مسلك للتأمل والتحقق الروحي عبر الممارسة وترويض النفس، وحيث يعتمد التعليم ليس فقط على نصوص أو كتب مرجعية بل على مرشد كامل أو Master يتولى تسليك المريدين في مدارج الترقي والتقدّم في طريق تحقيق التاو، والأهم هو أن التاوية التي قد تمارسها نخبة من السالكين والباحثين عن الترقي الروحي والحقيقة ليست بعيدة عن الناس العاديين فحتى الشخص العادي أو الفلاح في أقاصي الريف يعرف التاو أولاً من التنشئة على السلوك القويم والبساطة والصدق وحياة الفقر والعمل في الأرض، ثم أن له ثانياً مرجعاً في القرية أو في قرية قريبة يذهب إليها للتعلم واكتساب الحكمة والتدرب على ترقية النفس أخلاقياً وسلوكياً وروحياً.
وهذا ما يجعل من الممكن القول إن المعتقد الروحي الصيني يمكن اعتباره من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً في الشرق الأدنى ثم في الجزيرة العربية على شكل الديانات السماوية الثلاث الموسوية والنصرانية والإسلام. وبالطبع تقدم التاوية الصينية مثالاً آخر على مدى الخطأ في حصر ديانات التوحيد بالرسالات الروحية الكبرى الثلاث كما يفعل بعض الجاهلين بالتنوع الروحي الهائل في الحضارة البشرية وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بالوحي المبَّلغ للرسول (ص) إذ جاء فيه في سورة غافر :
} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ ..{(غافر: 78)
وبرغم أهمية الكونفوشيوسية في الإرث الفلسفي الصيني فإن هذه المدرسة صنّفت غالباً بين مدارس الأخلاقيات وتنظيم العلاقات الإجتماعية والإنسانية في خانة العقيدة الدينية وقد اهتمت الكونفوشيوسية في تكوين الشخصية الفاضلة أكثر من اهتمامها بالسلوك الروحي والتأملي، وأدخلت بصورة خاصة أهمية احترام الآباء والجدود والتي تطورت إلى ما اعتبره البعض «عبادة السلف» وهذه كلمة خاطئة لأن الصينيين يعتقدون بأن الروح خالدة وهم لذلك يقدمون الإحترام لمن سبقهم من أهلهم عبر محراب صغير يقوم في المنزل، وهذه الممارسة لا تنتمي إلى التاوية لكن إلى التقاليد الصينية التي تشبه زيارة القبور عندنا ولدى الكثير من الحضارات باستثناء الهندوسية التي لا تنشئ قبوراً بل تتبنى تقليد حرق أجداث الأموات وإلقاء رمادهم في نهر مقدس مثل نهر الغانج.
ومن الأمور التي يعتقدها المؤرخون هو أن مؤسس التاوية وهو الحكيم لاو تسه Lao Tse كان معاصراً لكونفوشيوس لكن من يطلع على أعمال الرجلين يجد بينهما تفاوتاً كبيراً في النهج والمقاصد والتعليم يكاد يشبه التفاوت أو الفارق بين المعتقد الديني الشعبي وبين التأويل الصوفي، وحيث يمكن النظر إلى تعليم كونفوشيوس باعتباره الشريعة التي سنت للصينيين لاتباعها من أجل تحقيق الحياة الفاضلة بينما تمثل تعاليم لاو تسه والحكماء التاويين وأخصهم تشوانغ زي إرث التأمل الصوفي الذي يهتم بالزهد والفضيلة والابتعاد عن الحياة العامة سعياً وراء الكمال العرفاني والروحي، وقد لعبت الكونفوشيوسية دوراً عظيماً وشاملاً في الحياة العامة الصينية لكن التاوية حققت موقعاً خاصاً لها في الإرث الفلسفي الصيني عندما أصبحت لعهود متقطعة ولكن طويلة المذهب الرسمي للأباطرة الصينيين وللمستويات العليا من الدولة.
ونبدأ بالقول إنه على الرغم من العدد الكبير من الحكماء والفلاسفة الذين ينتمون إلى التاوية وتولّوا تعليمها عبر العصور فإننا سنركّز في هذا المقال على إثنين من أكبر حكمائها وأشهرهم عبر التاريخ وهما الحكيم لاو تسه الذي ينسب إليه المؤلف المرجعي الشهير تاو ته كينغ Tao Te Ching ثم الحكيم تشوانغ زي Chuang Zi وتكتب أحياناً Zuwangzi وتعتبر أهمية تشوانغ زي بالنسبة للتاوية بمثابة أهمية أفلاطون للحكمة السقراطية، إذ إن سقراط لم يكتب شيئاً في حياته بينما وقع على تلميذه أفلاطون أن يشرح فلسفته ومبادئه في المحاورات التي ألف قسماً منها بعد وفاة المعلّم.. كذلك فإن لاو تسه لم ينسب إليه سوى كتاب «تاو ته كينغ» الموجز بينما ألف تشوانغ زي عشرات المؤلفات في عرض الفلسفة التاوية حتى أن بعض الدارسين يعتبرونه الأب الحقيقي للتاوية نظراً إلى الأثر الكبير الذي تركته كتاباته وسيرته على الإرث الفلسفي والحكمي الصيني.

“إهتمت الكونفوشيوسية بنظام الأخلاق والمجتمع وركّزت التاوية على حياة الزهد والكمال العرفاني عبر التأمـل وقطع العــــلائق والتعلم على يد مرشــــد كامل”

كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم
كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم

ما هو التاو؟
لا بدّ من أجل فهم التاوية البدء بالبحث عن ما يعنيه تعبير التاو في الإرث الشعبي الصيني وفي فلسفة التاو. والواقع أنه وبسبب صعوبة اللغة الصينية والوجوه المتعددة التي يمكن لكلمة واحدة أن توحي بها للقارئ فقد برز أكثر من شرح أو تعريف لتعبير التاو في الترجمات والأبحاث التي حاولت نقل النصوص الفلسفية الصينية القديمة إلى لغات العالم، وقد وجدنا بالإستناد إلى الترجمات الإنكليزية التي قام بها مختصون مجموعة تعريفات ركّز كل منها على معنى من معاني هذا المفهوم الأساسي فإذا بتعبير «التاو» يعني بناء على تلك التعريفات أو الوجود الإلهي أو الخالق أو الرب، والتاو هو المطلق المتخلل للوجود والذي يفعل فيه من دون أن يقوم بأي عمل فهو «مسبب الأسباب كلها» أو السبب الأصلي للحياة ونظامها والتي اتفق العابدون جميعاً على اعتباره مجرداً عن الماهية أزلياً لا يحدّه شيء ولا تدركه الأبصار أو الأفهام.
أما صلة «التاو» القوية بمفهوم «الطبيعة» فهي لا تعني أبداً أن التاوية تستند إلى عبادة الطبيعة كما في بعض الديانات البدائية بل هي شبيهة بإشارة الديانات السماوية إلى الطبيعة بإعتبارها مظهر وجود الخالق والقوانين التي تحكم الكون.
وبحسب أكثر الكتابات التاوية بدءاً من لاو تسه فإن التاو «لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة تقريبية مثل قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادئ من نشأتها إلى كمالها، أو هو القانون أو النظام الكوني الخفي الذي يسيطر على هذا الانسياب، وهذا التاو موجود ثابت منذ الأزل وقبل أن توجد السماء والأرض» وفي هذه الوحدة الكونية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة.
للنظر في تعريف يقترحه الحكيم لاو تسه لـ «التاو» وهو يصفه على الشكل التالي:
أنظر إليه فلن تراه لأنه يتعدى الشكل
إستمع إليه فلن تسمعه لأنه يتعدى الصوت
حاول أن تدركه فلن تستطيع لأنه غير ملموس
هذه الثلاثة لا يمكن وصفها
لذلك هي كلها في الواحد
(تاو ته كينغ: 14)
ويتابع لاو تسه محاولة تعريف ما لا يمكن أن يعرف فيقول في النص نفسه:
حقيقة لا انقطاع فيها متعدية لكل وصف
وهي تعود إلى اللاشيء
إنها شكل ما ليس له شكل
صورة ما ليس له صورة
وهي تسمى ما لا يمكن وصفه
المتسامي فوق كل خاطر
(تاو ته كينغ: 14)
هذا الوصف يذكِّر بالتعبير القرآني } سبحان الله عما يصفون{(المؤمنون:91) وكذلك قوله جل من قائل } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (الشورى: 11)
هذا الوصف لـ «التاو» يجعله قريباً جداً من وصف ما أسمته الديانات السماوية (الله) وهي تسمية لا تدل إطلاقاً على حقيقة الموجود الأولي والذي لو أنفقنا الدهور على محاولة وصفه فإننا لن نستطيع لأنه متعد لكل العبارات والأوهام. لكن الله أخبر عن نفسه بلغة تستهدف جعل طريق لعبيده إليه وتقريب حقيقته المغلقة على الأفهام إلى نفوسهم وتمكينهم من التصديق بما جاء به من أرسلهم من الأنبياء والأولياء واتباع ما أبلغه المولى من حقائق ومن هدي للناس بلسانهم وبما يلائم أفهامهم. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

مراكز تأمل  بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها
مراكز تأمل بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها

الحكيم لاو تسه
ورد ذكر لاو تسه في كتابات المؤرخ الصيني الكبير تشيما كْيِن الذي مات في عام 85 قبل الميلاد وفي كتابه عن السير قدم المؤرخ أهم دليل على أن لاو تسه كان شخصاً حقيقياً، على عكس ما زعم الكثير من الغربيين وأن كتابه الشهير Tao Te Ching كتاب حقيقي كتب في ظروف محددة. وقد ذكر كيِن أن لاو تسه كان مشرفاً على المكتبة الملكية لسلالة «كاو» وبالنظر إلى تحلل الاسرة وهبوط شأنها فقد قرر الإعتكاف والإنسحاب من الحياة العامة وفي الطريق وعند أحد مداخل المدينة حيث كان يحاول الانسحاب خلسة إلى الطبيعة متخفياً بشخصية فلاح عرفه الشخص المولج بمراقبة المدخل، وكان هو الآخر من أتباع التاوية الدارسين، فألحّ عليه بأن يترك له أثراً مكتوباً قبل أن يدخل في مرحلة الإعتكاف والإنسحاب من العالم. عندها وبناء على طلبه قام لاو تسه بكتابة آرائه عن «التاو وخصائصه» في جزءين وأعطاه المخطوطة ودخل في الإعتكاف. ويقال إن لاو تسه مات بعد ذلك ولم يعرف أين ومتى ولم يسجل في زمانه تاريخ معروف لوفاته. ونحن نعرض إلى جانب هذا الكلام مختارات من أقوال الحكيم التي وردت في مؤلف «تاو ته كينغ»، وقد عرضنا في هذا المقال لمختارات من حكمة لاو تسه لكنه نزر يسير ونحن ننصح بالإطلاع على الترجمات الإنكليزية أو الفرنسية الرصينة لهذا السفرالنفيس، ونجد من أفضلها تلك التي وضعها بالانكليزية الكاتب الصيني جيا فو فنغ في العام 1989.
Gia-fu Feng and Jane English, Vintage Books, 1989

من أقوال الحكيم تشوانغ زي

أن تعرف أن المعرفة يمكن أن لا تَعرِف هو أعلى درجات المعرفة
* * * *
من السهل أن تمشي دون أن تترك أثراً
لكن أصعب كثيراً أن تمشي دون أن تلامس قدماك الأرض
* * * *

من لا يكون شريكاً
في التحول الكوني
كيف يمكنه أن يُحوِّل غيره من الناس
* * * *
في المياه الراكدة تنعكس الأشياء
والفكر المطمئن،
فكر الحكيم المطمئن
هو مرآة الكون وكل ما هو كائن
* * * *
أن تنسحب إلى داخلك لكن دون مبالغة
أن تطل على ما هو خارجك لكن بقدر
أن تعرف كيف تقف في الوسط تماماً
تلك ثلاثة عناصر لاكتساب الطاقة

تشوانغ زي
يعتبر تشوانغ زي أعظم حكماء التاوية بعد لاو تسه وأغزرهم إنتاجاً ويـُعتقد أنه عاش في فترتي حكم الملك هوي من ليانغ والملك شوان من تشي، في الفترة من 370 إلى 301 ق.م.. وقد تقلّد لبعض الوقت منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك لكن يرجح أنه ابتعد بصورة مبكرة عن الحياة العامة وتحوّل إلى الزهد التام والعيش البسيط في الطبيعة، وهو رغم شهرته التي ذاعت في جل أنحاء الصين ورغم توسل الملوك له بتقلد الوزارات أو الحكم إلى جانبهم رفض وأصرّ على متابعة حياته البسيطة. وقد روي أنه لما عرض عليه دوق- ويه رئاسة الوزارة ردّ على رسول الأمير الذي حمل إليه العرض رداً مقتبضاً يدل على مدى حذره الشديد من السلطة وما يكتنفها من أهواء ومخاطر قال لرسول الملك: «اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك».
وفي حادثة ثانية رفض تشوانغ زي منصب الوزير الأول في مملكة خو وأمر رسولين حملا له الطلب من الملك بالعودة من حيث أتيا وقد أوردنا القصة ضمن عرضنا لأقوال مختارة للحكيم تشوانغ زي.
وبصورة عامة فقد كانت نظرة تشوانغ زي للحكومات ولأهل السلطان مشوبة بنفس النظرة السلبية للحكيم لاو تسه وكان تشوانغ زي يقول إنه إذا وصل الطيش بأي من الفلاسفة الحقيقيين إلى وضع يصبح فيه متولياً لشؤون إحدى الممالك أو البلدان فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم وفي هذا يقول «لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم». وعرف عن تشوانغ زي أنه كان لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام في نظره يُضِل بقدر ما يهدي، ولأن التاو وهو جوهر الوجود ومحركه الواعي لا يمكن معرفته بالفكر ولا يمكن التعبير عنه بالألفاظ بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به «في الدم» أي بالإختبار الحدسي والكشف العرفاني.

تشوانغ زي والعصر الذهبي
هذه النظرة الرافضة للسلطة ولتقسيم الناس إلى طبقات ومنازل وحكمهم بوسيلة القوة ألهمت تشوانغ زي أن يكتب عن ما يعتقد أنه عصر ذهبي افتراضي حيث لم تكن هناك ثمة حكومات بل كان الناس أحراراً يديرون أمورهم ببساطة ومن دون تدخل حاكم.
يقول تشوانغ زي في وصف ذلك العصر:
«لقد كان الناس يعتقدون أن طعامهم البسيط لذيذ وكاف، وثيابهم البدائية جميلة، وكانوا سعداء بأساليبهم البسيطة ومطمئنين في مساكنهم المتواضعة وكان مرجحاً لأهل ذلك الزمان أن لا يموتوا حتى يشيخوا».
ويتابع تشوانغ زي وصف ملامح العصر الذهبي فيقول:«كان الناس يصنعون ثيابهم بأيديهم وكانوا يحرثون الأرض ويحصلون من ذلك على الطعام، كانت تلك مهاراتهم المشتركة، وكانوا جميعاً في ذلك مثل رجل واحد، فلم يفكروا في أن يقسموا بعضهم طبقات، فكان كل منهم يعيش وفق طبيعته ومهاراته. كان الرجل الفاضل في ذلك الزمن يمشي بتؤدة ومهابة كان نظرهم دوماً إلى الأمام، ولم تكن هناك مسالك مطروقة على التلال أو طرق مشقوقة، وعلى الأنهر لم تكن هناك زوارق أو سدود. كانت جميع المخلوقات تعيش مع بعضها بعضاً، وكانت أماكن عيشهم متجاورة. كانت الطيور والوحوش تتكاثر لتؤلف الأسراب والقطعان وكان العشب والأشجار تنمو بغزارة وكان يمكن أن تأخذ بزمام الطير أو الوحش دون أن يبديا مقاومة. نعم في عصر الفضيلة الأولى كان الناس والطيور والوحوش يعيشون معاً، وكانوا جميعاً متساوين مع بقية المخلوقات، وبما أنهم كانوا مثل عائلة واحدة فكيف كان لهم أن يميزوا من هو الأدنى بينهم ومن هو الأعلى؟ وبسبب كونهم مجردين من الرغائب فقد كانوا جميعاً في حال من البساطة المطلقة وكانت طبيعتهم كما ينبغي أن تكون».
يضيف في وصف «عصر الفضيلة» الذي سبق حضارتنا الحالية فيقول:

معبد السحاية البيضاء
معبد السحاية البيضاء
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل

“من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار من كل ما يتعلق بالحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاســـفة والملوك”

«في ذلك العصر، عصر الفضيلة التامة، لم يكن الناس ليعطوا أي أهمية لاتباع حكيم أو يستخدمون أشخاصاً ذوي مواهب. الأفضل مكانة فيهم كانوا مثل الأغصان العليا في شجرة، والناس على العموم كانوا مثل الغزلان البرية، كانوا على الاستقامة والصدق، وكانوا كذلك بالبداهة ودون أن يعرفوا أن هذا السلوك يسمى سلوكاً صحيحاً، كانوا يحبون بعضهم بعضاً دون أن يعلموا أن ذلك هو من قبيل المودة، كانت طبيعتهم الصدق والنزاهة من دون أن يعلموا أن تلك صفات محمودة، وكانوا يوفون بالعهود دون علم منهم بأن ذلك يسمى حسن النية، وكان كل منهم يسأل الآخر المساعدة دون أن يعلم أنهم بذلك يقدمون أي معروف أو منحة للآخر، لذلك فإن أعمالهم لم تكن تترك أي أثر، ولم يكن يبقى لذلك في الزمن أي سجل لتلك الأعمال..
من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك وقد وضع الحكيم لاو تسه سجية البساطة في أعلى مقام معتبراً أن التاو يشبه لجهة البساطة الماء، ويعتبر أن عظمة الماء هي في أنه يفيد جميع الأشياء وفي كونه ينساب بإختياره نحو الأماكن الدنيا وهي التي يتجنب الناس الاستقرار فيها. من هنا فإن سلوك الماء هو أقرب ما يكون إلى التاو. لذلك تعتبر التاوية أن آلام البشرية بدأت عندما انتهى ذلك العصر وبدأت الفوارق بين الناس بالظهور، وهذه النظرة إلى مجتمع فاضل أصلي ملتصق بالطبيعة ويقوم على حسن الطوية والبراءة والمساواة البديهية ليس فقط بين الناس بل بين جميع المخلوقات، جعلت من التاوية فلسفة جاذبة للتيارات الليبرالية بل الأنارشية التي تدعو إلى مجتمع يقوم على العلاقات العفوية بين الناس من دون تدخل حاكم أو سلطة قامعة.

كره السلطة
رغم تسليم تشوانغ زي بأن زوال المجتمع الفاضل أمر مقدر في قانون التحول الدائم، فإنه اعتبر أن من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات، وأن يترك كل ما يملك وكل جاه أو منصب ويتكرس لاتباع التاو وهو الخلاق الأكبر والذي يمنّ بالحفظ على جميع الكائنات. (وذلك موضوع اجتهد آلاف المصورين الصينيين في وضع الرسوم الرائعة بالحبر الصيني لتصويره).
عندما طلب منه أحد الملوك أن يعلمه الحكمة تردد تشوانغ زي لكنه قبل أخيراً وخاطبه بهذه الكلمات: «يجب أن تكون ساكناً بلا حراك، أن تكون طاهراً، وان لا تعرّض جسدك لأي جهد، ولا أن تهيج طاقتك الحيوية، وعندما لا ترى عيناك أي شيء ولا تسمع أذناك شيء وعندما لا يعرف فكرك أي شيء فإن الروح ستعتني بالجسد وتحفظه وعندها فإنك ستعيش طويلاً. انتبه إلى ما هو في داخلك واغلق كل الطرق التي تصلك بما هو خارجك -أكثر العلوم ليس فيها أي خير- انتهى كلام تشوانغ زي.

“تخلص من جميع الرغائب ينكشف لك السر
إستمسك بالرغبة وكل ما ستراه هو مظهر السر”

موقفه من التملّك والتكنولوجيا
رفض تشوانغ زي أن يمتلك أي شيء وكان يعيش في الطبيعة على النزر اليسير من الغذاء يتخذ لنفسه مكاناً هادئاً للتأمل وسط الطبيعة الصينية الساحرة، وكان رغم توافر الأدوات الكثيرة في عصره يرفض الإستعانة بأي منها إذ كان يعتبر أنه من الأجدر به القيام بأمر عيشه البسيط بيده ودون استعانة بأي أداة، وكان وهو المؤمن بنهج المساواة بين الناس، يعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الأفراد ولتفرقهم، وهذه النظرة السباقة منذ أكثر من 2400 سنة تجد صدى جاهزاً لها في التيارات الفكرية المتزايدة الإتساع التي ترى في التكنولوجيا الحديثة سبباً من أسباب أزمة البشر واتساع الفوارق بينهم سواء كأفراد أم كمجتمعات، فهناك الآن هوة شاسعة تفصل الشعوب المتقدمة عن الشعوب الفقيرة في العالم التي لا تستطيع الإستحواذ على التقنيات الحديثة في العمل والإنتاج فتجد نفسها بذلك في أسفل السلم الإنساني من حيث التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

نظرته إلى الموت
عندما ماتت زوجة الحكيم تشوانغ زي جاء أحد أصدقائه لمواساته فوجده جالساً على الأرض يضرب على وعاء نحاسي وينشد. قال له صديقه: عندما تكون الزوجة قد عاشت مع زوجها وأنجبت له الأولاد ثم تموت في كهولتها قد يكون مقبولاً أن لا ينوح الزوج عليها لكن أن يغني ويطبل أليس في ذلك مبالغة وغرابة؟ أجاب الحكيم: كلا الأمر ليس كذلك. هل تظن أنني عندما ماتت كنت مثل غريب ولم أتأثر ؟ لكنني فكرت في الوقت الذي لم تكن فيه قد ولدت بعد. عندها ليس فقط لم يكن لها جسد بل لم يكن فيها أي روح، ثم تبدّل الأمر وظهر الجسد ودخلت فيه الحياة، ثم طرأ تغيير آخر فإذا هي الآن ميتة. إن العلاقة بين كل هذه الحالات هي مثل توالي الفصول الأربعة: الربيع والصيف والخريف والشتاء. وها هي الآن تنام ووجهها إلى فوق في القاعة الكبرى. فلو بدأت النواح والبكاء عليها فإنني سأكون كمن لم يفهم ما قسم لها في الوجود، لذلك امتنعت وحافظت على طبيعتي.
يعطي تشوانغ زي مثالاً آخر عن شخصين يعانيان من عاهة ويمران بجانب القبور فيبدآن يشعران في جسديهما أن الموت يقترب منهما. سأل أحدهما الآخر: هل تخاف الموت؟ جاء الجواب: «لمَ يجب أن أخافه؟ الحياة هي شيء معار والجسد المستعار ليس سوى تراب. الحياة والموت هما أشبه بتوالي الليل والنهار».
بصورة أدق، ليس الموت في رأي تشوانع زي إلا تبدلاً في الصورة، بل إنه في نظره تغير من حال إلى حال أحسن منها، من هنا يورد الحكيم أكثر من قصة لينتهي منها بطرح السؤال حول هذا الخوف الذي يشعر به الناس تجاه موت الجسد وإذا ما كان في غير محله لأن الإنسان لا يعرف حقيقة الموت كما إنه لا يعرف حقيقة الوجود وحقيقة وجوده نفسه، وهذا الجهل بحقيقة وجودنا المفارق هو في أساس الخوف غير المبرر من الموت.
من أجل الدلالة على هذه النظرة الفلسفية العميقة إلى الموت يورد تشوانغ زي قصة عن مرض شخص حكيم يدعى تزه- لاي وكان قد أصبح طريح الفراش ينازع الموت، ووقف من حوله زوجته وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: «اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله»… ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى الرجل المحتضر. فقال له تزه- لاي: «إن صلة الإنسان بالين واليانغ (قطبا الوجود) أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي لكنني أعصي أمرهما فإنني أعدّ حينئذ عاقاً فظ الطباع. هنالك «كتلة الطبيعة العظمى» التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهدّ قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. إذاً فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فها هو ذو صاهر يصب المعادن، فإذاً كان المعدن الذي ينساب أثناء صبه يناديه. «يجب أن أكون سيفاً ثميناً» أو غير ذلك فإن الصاهر العظيم سيعتبر هذا المعدن خبيثاً بلا ريب لأنه يتجرأ على الصانع، وهذا أيضاً شأن الإنسان، الذي إذا ما أصرّ أن يكون إنساناً فقط، لأنه في يوم من الأيام تشكل في صورة الإنسان، فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً لأنه يتجرأ على صانعه، بنفس المعنى فإن علينا أن ننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، وأن ننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم، عندها سنكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا.

المعرفة وقصور الفكر
يعتقد الحكيم تشوانغ زي أن مشكلة الإنسان تنبع من قصر تفكيره أكثر مما تعود إلى طبيعة الأشياء نفسها، وهو يستغرب كيف نسعى كبشر ونحن المخلوقين بعقولنا المحدودة أن نفهم لغز العالم الأكبر الذي لا نمثل نحن فيه سوى جزيئات صغيرة عابرة، ونحن بهذا المعنى نحاول تفسير الكل بمصطلحات الجزء وهو أمر يتضمن الكثير من الإسراف والاعتداد بالنفس. لهذا يرى تشوانغ زي أن تلك المحاولات أدت إلى نشوء ما لا يحصى من النظريات المتناقضة مما يؤكد أن أصحابها جميعاً بعيدون جداً عن إدراك لغز الوجود، وهو يقول إن العقل الإنساني لا يفيد في فهم الأشياء الغيبية لذلك، فإن التوصّل إلى معرفة سر التاو يقتضي من الإنسان أولاً أن يكبت معارفه العقلية وينسى نظرياته القياسية وأن يسعى لاستشعار الحقيقة بالحدس، أي بالاختبار المباشر وهذا هو النهج الذي تبنته الفيدانتا الهندية والبوذية والتصوف الإسلامي والذي يعتبر أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم أو التحصيل النظري بل بالمجاهدة وصقل النفس بالمجاهدات والطاعات حتى تصفو كالمرآة وتصبح قابلة لانطباع الحقائق اللدنية عليها. يقول لاو تسه في الفقرة الأولى من التاو ته كينغ .

حلم الفراشة ونسبية الفكر
من أجل إعطاء مثل على حجم الحيرة التي يمكن أن يقع فيها المرء إذا حاول فهم الوجود بالمقاييس العقلية كتب تشوانغ زي مرة ما سماه حلم الفراشة وهو حلم أصبح من أشهر النصوص الفلسفية وأكثرها انتشاراً في العالم. قال تشوانغ زي أنه رأى في منامه أنه كان فراشة ترفرف بجناحيها جذلة مسرورة هنا وهناك، ثم استيقظ ليجد نفسه مجدداً في شخصية تشوانغ زي. المشكلة التي واجهته عندها هو أنه لم يعد متأكدا إذا كان في الحقيقة رجلاً كان يحلم بأنه فراشة أم أنه الآن فراشة تحلم بأنها رجل يدعى تشوانغ زي. هذا المثال أراد منه الحكيم التأكيد على نسبية الحواس والفكر وأنه لا يمكن الركون إلى أي منهما في معرفة الحقيقة المطلقة.
في القسم التالي سنترك لأقوال الحكيمين لاو تسه وتشوانغ زي أن يقدما تعريفاً لفلسفة التاو والتي لا تختلف في الجوهر عن فلسفات التوحيد الكبرى لكنها تتميز بالأسلوب الرائع الذي يعبّر به الصينيون عن حقائق الروح وهو أسلوب مستوحى في أغلب الحالات من صور الحياة اليومية ومن الطبيعة الصينية الساحرة في غموضها وجلالها وأسرارها.

تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين
تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين

دفاع سقراط

دفاع سقراط أمام محكمة أثينا.

كيف خاطب الحكيم قضاته في أشهر مرافعة في التاريخ؟

لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه باعتباره الشرّ الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم

سقراط مخاطباً المحكمة:
مهما كان قراركم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرّات عدة

رداً على اتهامه بالإلحاد
أن لديّ إيماناً عميقاً يفوق ما يدعيه
أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني

يعتبر دفاع سقراط كما أورده أفلاطون في عمله الشهير Apology of Socrates من أعظم أعماله الفلسفية، ومن الصعب تسمية هذا العمل المهم بالمحاورة لأنه في الحقيقة يتركز على عرض الدفاع الذي قدمه سقراط أمام أهل أثينا الذين اجتمع منهم نحو 500 من الأعيان والناس العاديين لمحاكمته بتهمة إفساد الشبيبة وزعزعة عقائد العامة، ثم النظر في العقوبة التي يستحقها إذا ما تم التصويت بإدانته.
لا بدّ من التوضيح أن كلمة Apology لا تعني في اليونانية «الاعتذار» بل تعني «توضيحات» أو «شرح» بهذا المعنى فإن الترجمة المناسبة لهذا العمل المهم يجب أن تكون «مطالعة سقراط» أو «دفاع سقراط» وهذا مع العلم أن سقراط لم يحاول حقيقة أن يدافع عن نفسه بالمعنى المتعارف عليه، أي أن يوظف كل جهده وقوة الإقناع التي يملكها لدفع متهميه لتبرئته، فهو كما سيتضح لم يحاول ذلك ولو أنه حاول فإنه كان سيحقق ربما الحصول على تبرئته من التهم التي سيق إلى المحاكمة على أساسها، إذ إن محكمة أثينا أصدرت حكم الإدانة ضده بأكثرية بسيطة بلغت ثلاثين صوتاً وكان ممكناً لجهد أكثر تصميماً منه أن يحول تلك الأصوات لصالحه. أما لماذا لم يظهر سقراط اهتماماً كبيراً بإقناع المحلفين ببراءته فستبدو الحكمة منه في سياق هذا المقال. نلفت إلى أن مطالعة سقراط هي من أعلى أشكال التعليم الحكمي، إذ إن سقراط لم يعبأ بالرد على الحجج والاتهامات قدر سعيه لنصح متهميه وإرشادهم وقد تابع سقراط ذلك حتى بعد إصدار الحكم عليه بالموت بتجرع السم، وقد تضمّنت مداخلته الختامية عبارات عميقة دعت إلى عدم الخوف من الموت باعتباره انتقالاً من حال إلى حال كما تضمنت لغة في غاية الرقة حتى تجاه الذين أدانوه بما في ذلك قوله إنه يغفر لهم لأن ما يحصل له أمر مقدر وهو يحمل له الخير على عكس ما ظن محاكموه.
لقد اندثر محاكمو سقراط بل اندثرت من بعده أثينا نفسها التي جرّعته السم لكن سقراط بقي حياً خالداً على مر الدهور وتحولت مرافعته البليغة أمام متهميه إلى أشهر مرافعة فلسفية في التاريخ الإنساني، فهي في الحقيقة مجموعة دروس في الفضيلة وفي ما يجب أن يسعى إليه الناس وهي دعوة إلى عدم الخوف من الموت والتيقين بأن الصالحين لا يمكن أن ينالهم شر لا في هذه الدنيا ولا بعد موتهم.
لقد تمتّ محاكمة سقراط من قبل محكمة كانت أشبه باجتماع جماهيري لأنها ضمت ربما أكثر من 500 شخص تم اختيارهم بالقرعة من بين متطوعين من أهل أثينا وكان مسموحاً بحسب قانون أثينا أن تصدر تلك المحكمة أحكامها بالتصويت وبالأكثرية البسيطة أي انه كان ممكناً الحكم على شخص بالموت بفارق صوت واحد، بل إن محاكمة سقراط وإصدار الحكم عليه تمّا في جلسة واحدة وهو ما علق عليه الحكيم في مداخلته الأخيرة عندما لفت الى أن هذا الأمر غير قائم في مدن أخرى، وأنه لو أعطيت المحكمة وقتاً فإنه كان سيتمكن بصورة أفضل من إقناع المحاكمين ببراءته. أخيراً فإن الحكم بالعقوبة كان يصدر في أثينا كحكم مبرم لا يقبل الاعتراض أو الاستئناف كما هي الحال في الانظمة القضائية الحديثة.
كان ذلك نموذجاً سيئاً على ديمقراطية غير مقوننة كان سقراط من الناقدين البارزين لها بسبب ما تحمله من مخاطر الإنحياز بالعواطف أو الأحقاد السياسية أو التأثر بديماغوجيين يمكنهم دفع مواطنين لا يمتلكون النضج ولا الخبرة إلى إقرار أحكام جائرة ومتسرعة ولهذا السبب ربما فإن سقراط لم يتردد في مدح النظام السياسي الذي تبنته اسبارطة وهي العدو اللدود لأثينا والذي أوكل الحكم لنخبة مقتدرة ورفض الديمقراطية المباشرة التي تبنتها أثينا وكانت في نظر المؤرخين أحد أسباب سقوطها في النهاية.

سقراط وديمقراطية العدد
كان رأي سقراط (وكذلك رأي أفلاطون) هو أن مفهوم أكثرية الشعب مفهوم سيىء للحكم لأن الناس في معظمهم جهلاء ولا يتمتعون بأي مهارات لذلك فإنهم في كل مرة يحكمون سيرتكبون أخطاء. في المقابل فإن الحكم في نظر سقراط هو حرفة متخصصة ويحتاج إلى ملكات وإلى مهارة كبيرة ويجب بالتالي إيكاله فقط إلى أشخاص أذكياء ومهرة، وهؤلاء هم بالضرورة أقلية بين الناس. وقد أنكر سقراط أن تكون المعرفة المتوافرة للناس العاديين أو ما يمكن تسميته «المعرفة الشعبية» تستحق أن تسمى معرفة وفي أفضل الحالات فإن الجمهور لديه «آراء» وليس معرفة وهو قابل للتأثر بأهوائه وأي إنطباعات من الخارج وهو في جميع الأحوال غير مطلع على حقيقة الحال وبالتالي فإنه عندما يطلب من جمهور الناس أو «الأكثرية» أن تحسم في شأن مصيري فإن الأرجح أن يؤدي ذلك إلى أخطاء توقع الضرر بالمجتمع.
بهذا المعنى، فإن حكم العديد من الأثينيين والقادة في اليونان هو أن الديمقراطية المباشرة أي الحكم برأي الأكثرية ليس سوى حكم الغوغاء على حساب النخبة، وهو ما يوازي قلب العالم رأساً على عقب.
وقد ارتكبت الديمقراطية اليونانية أخطاء فادحة أظهرت خطورة حكم الغوغاء عندما لجأ جمهور غاضب عمل كـ «محكمة شعبية» إلى الحكم بإعدام عشرة جنرالات من قادة الجيش بتهمة أنهم لم يهبّوا إلى مساعدة أثينيين خلال الحرب. واعتبرت تلك الحادثة مثالاً صريحاً على مخاطر الديمقراطية الشعبية وهي حادثة ساهمت بحسب المؤرخين في هزيمة أثينا في حرب البيلوبونيز في مواجهة إسبارطة وربما كانت أحد الأسباب وراء محاولتين لإنشاء حكم أقلية أو حكم نخبة في أثينا ، لعب دوراً أساسياً في إحداهما إثنان من تلامذة سقراط هما كريتياس (أحد أقارب أفلاطون) لكن هاتين المحاولتين فشلتا وتمت إعادة العمل بالديمقراطية الأثينية المعهودة على عِلاتها.
يعتبر مؤرخون أن محاكمة سقراط جاءت على هذه الخلفية أي وجود شكوك بأنه أيد التخلص من الديمقراطية الأثينية الهشة لصالح حكم نخبة قوي. ولا يوجد بالطبع دليل على ذلك لأن سقراط رغم قناعاته بمساوئ الديمقراطية المباشرة، فإنه اجتنب الدخول في السياسة بل كان يعتبرها خطراً مميتاً على طالب الحقيقة. وقد أثار الحكيم هذه النقطة في دفاعه أمام «محكمة الشعب» إذ قال :
«يا أهل أثينا، لو كان لي اهتمام بالسياسة فإن ذلك كان سيتسبب بفنائي منذ زمن طويل، ودون أن ينجم عن ذلك أي خير لي أو لكم. وأرجو أن لا تنزعجوا من تمسكي بصدق القول لأن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأي رجل يفكر في الوقوف في وجهكم أو في وجه أي جمهور وأن يحاول إصلاح الظلم وأخطاء الحكم أن يفعل ذلك من دون أن يعرّض نفسه للموت، لذلك فإن من يريد أن يعمل للخير والحق ويضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سياسي».
ولهذا فقد كان سقراط كارهاً للسياسة ناصحاً للسالك في درب الحقيقة بأن يبتعد عنها لأنها بيئة الهوى والشرور ومجلبة للنفاق ولأن الاقتراب من أهل السلطان عار كبير على طالب الحكمة.

ديمقراطية أثينة - سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2
ديمقراطية أثينة – سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2

” من أراد العمل للخير والحق وأن يضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سيـــاسي  “

سقراط المزعج
حقيقة الأمر هو أن الدور المزعوم لسقراط في محاولة التخلص من الديمقراطية المباشرة لم يرد في أسباب المحاكمة وليس هو السبب الأهم بل السبب الأساسي هو أسلوب سقراط الفريد في محاولة دفع الناس للتركيز على الحقيقة والمثل العليا وإظهار ضعف السياسيين والمفكرين و«وجهاء» المجتمع الذين يدعون معرفة الحقيقة وهم بعيدون عنها. وهذا الأسلوب في دفع الناس لأن يدركوا جهلهم كان مرتكز المنهج السقراطي إذ كان هدف الحكيم وما يعتقد أنه الخدمة التي يقدمها لأهل زمانه وخصوصاً اللامعين منهم أو الشباب هو امتحان ادعائهم العلم أو الحكمة عبر حوار وأسلوب في السؤال والتدرج من مسألة إلى مسألة إلى أن يريهم في الحقيقة أن ما يعتقدونه من علمهم أو حكمتهم ليس في الحقيقة علماً ولا حكمة. وبالطبع فإن الكثيرين من هؤلاء كانوا يشعرون بالغيظ من سقراط بسبب ذلك لأنه أحرجهم، ويعترف سقراط في دفاعه أمام «المحكمة» أن أسلوبه في امتحان أدعياء المعرفة والحكمة جعل له أعداء كثيرين في المجتمع ولاسيما وأنه اعتاد أن يحاور في الأسواق وفي الأماكن العامة وليس في مجلس خاص يجمعه مع دعاة المعرفة.
واقع الأمر أن أكثر الذين اجتمعوا لمحاكمة سقراط كانوا يعرفونه أو يعرفون عنه وعن الشهرة التي اكتسبها في كل أنحاء أثينا، بعضهم كان معجباً به وبأسلوبه لكن قسماً منهم كانوا من الذين ربما حاججهم في السوق أو في الروتندا أو غيرها من الأماكن التي اعتاد اليونانيون ارتيادها على سبيل التواصل والتحدث في الأمور العامة. سأل سقراط الذين اجتمعوا لمحاكمته: «ربما تقولون إن سقراط لا بدّ استحق الاتهام بسبب ذيوع أمره وأسلوبه في المدينة وأنه لا بدّ أن يكون وراء تلك الشهرة ما يؤكد الاتهامات الموجهة إليه. وأنا أعتبر هذا الظن ربما له ما يبرره لذلك سأشرح لكم كيف بلغ بي الأمر أن أصبحت على تلك الشهرة ولماذا أدى أسلوبي في محاجة مدعي العلم والمعرفة إلى استياء كثيرين مني ومناصبتهم لي العداء».
يقدم سقراط للمحكمة ما يعتبره سبب انطلاقه في المدينة بأسلوبه الشهير في الحوار التدرُّجي. يقول:
« بدأ الأمر كله بتصرف طائش من شيريبون كما تعرفونه. فقد قرر يوماً الذهاب إلى معبد دلفي وسأل أهل الغيب فيها أن يخبروه إذا كان هناك من حكيم أو عارف يفوق سقراط، وقد جاءه الجواب بأنه لا يوجد من يفوق في المعرفة والحكمة سقراط. ورغم أن شيريبون مات الآن فإن شقيقه موجود في هذه المحكمة وفي إمكانه أن يؤكد لكم هذه القصة. والحقيقة أنني تعجبت لهذه القصة لأنني أعلم بأنني لست حكيماً، لكن بما أن أهل الغيب لا ينطقون إلا بوحي الحق فإنني قلت في نفسي إن الطريقة المثلى لكي أؤكد فيها أنني لست أحكم وأعقل أهل المدينة هو أن أجد من هو أكثر حكمة ومعرفة. وهكذا بدأت رحلة محاوراتي للناس في كل مكان لقد كنت أبحث وأدقق وأتوجه إلى من يدعون الحكمة وأبدأ بمحاورتهم للتأكد إذا كان أحدهم يفوق سقراط معرفة وحكمة، وعندها فإنني أكون قد أثبت صحة موقفي. لكن هالني أن كل من اجتمعت بهم كانوا لا يعلمون شيئاً لكنهم يظنون أنهم يعلمون، وتبين لي أنني نفسي لا أعلم شيئاً لكنني على الأقل أعلم أنني لا أعلم، وبهذا وجدت فعلاً أنني متفوق عليهم ليس بأنني أعلم بل بأنني أعلم أنني لا أعلم، بل إنني أقسم لكم يا أهل أثينا بأنني وجدت اكثر الناس ادعاء بالمعرفة هم أحمقهم بينما وجدت أناساً بسطاء يعتبرون من الجاهلين أكثر معرفة من أولئك الحمقى».
يتابع سقراط شرحه لهذه النقطة بالقول:
«إن محاولتي استقصاء هذا الأمر وبالتالي قيامي باختبار منطق كل من يدعي المعرفة جعل لي أعداء من أسوأ الأصناف وشجع الكثيرين بالطبع على نشر مختلف أنواع الأباطيل والوشايات ضدي . لقد أسموني بالحكيم لأن من يستمع إليَّ يعتقد أنني أمتلك الحكمة التي لا يجدونها في الآخرين. لكن الحقيقة يا أهل أثين هي أن الله وحده هو الحكيم، وإذا كانت قد شاعت تسميتي بالحكيم فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يضرب بي مثلاً كأنه يقول: أيها الناس هل يعلم أحكمكم سقراط أن حكمته لا تساوي شيئاً؟ لقد أخذت هذه الحرفة مني كل وقتي حتى لم يعد لي متسع للقيام بأي عمل آخر وهذا فقري يشهد على ما أكابده جراء تكرسي لله».
وهنا يتنبأ سقراط عن معرفة بمجتمع أثينا الذي داخله الفساد أنه وبسبب تعلقه بالحقيقة فإنه ربما ينتهي إلى أن يدفع الثمن. ويقول : «لقد أصبح لي أعداء كثيرون وهذا ما سيؤدي إلى تدميري إذا ما تمّ لهم ذلك، بل انا على ثقة من ذلك لكنني لا أردُّه إلى مليتوس ولا إلى أنيتوس (وهما اثنان من المدعين الثلاثة) بل إلى حسد وروح الأذية في المجتمع، وقد جلبت هذه الخصال الموت لكثير من الرجال الأبرار من قبل وهي على الأرجح ستأتي بالموت لمزيد منهم ولن أكون ربما آخر الضحايا».

“الإنسان الصالح لا يحسب إذا كان عمله سينتح عنه حياة أو موت، بل فقط إذا كان ما يعمله حقاً أو باطــلاً”

قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا
قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا

يكمل سقراط فيقول: «البعض قد يقول: ألا تخجل يا سقراط من اتباعك طريقاً في الحياة سيؤدي على الأرجح إلى هلاكك؟ ولمثل هذا الشخص فإن جوابي البسيط سيكون: أنت في ضلال بعيد، لأن أي إنسان فيه قدر من الصلاح لا يجب أن يحسب الأمور بحسب ما قد يرتبه عمله من حياة أو موت، بل عليه أن يأخذ في الاعتبار فقط إذا كان ما يعمله خيراً أو شراً وهل ما يقوم به هو عمل رجل صالح أم رجل فاسد». على العكس من ذلك يضيف سقراط: « لقد أمرني ربي بأن أقوم بعمل الفيلسوف أو داعية الحق وأن أقوم بالبحث في داخلي وفي الآخرين ولو أنني فكرت بالفرار من موقعي على الجبهة (خلال الحرب التي شارك فيها) خوفاً من الموت أو أي خوف آخر سيكون ذلك مستهجناً بكل مقياس، كذلك فإنني لو خالفت أهل الغيب في دلفي لأنني أخاف الموت فإنه لن يصح لي عندها ادعاء الحكمة وأنا لست كذلك، لأن الخوف من الموت هو علامة ادعاء الحكمة وليس علامة الحكمة، لأن من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»!
هنا نأتي إلى أهم مقطع في مداخلة سقراط إذ يقول مخاطباً «محكمة الشعب»:
«لو قلتم لي إننا يا سقراط لن نعطي بالاً لاتهام أنيتوس وسنخلي سبيلك لكن بشرط واحد وهو أن تتوقف عن البحث والتنقيب بطريقتك، وإنه في هذه الحال لو تمّ ضبطك بعد ذلك تقوم بهذا الأمر مجدداً فإنك ستموت بالتأكيد. إذا كان ها هو شرطكم لإطلاق سراحي فإنني سأجيبكم: يا أهل أثينا إنني أكنّ أقصى الاحترام والحب لكم لكنني سأطيع في ذلك إرادة الله وليس إرادتكم. وطالما بقي فيّ رمق فإنني سأستمر في تشجيع أي شخص ألتقيه على الأخذ بطريقتي والاقتناع بقولي وسأقول له: كيف يمكن يا صديقي وأنت مواطن هذه الدولة العظيمة أثينا أن تركض خلف أكبر قدر من المال والجاه والسمعة بينما أنت لا تقوم بأي جهد مقابل من أجل اكتساب الحكمة والحقيقة والإرتقاء عالياً بالروح وهي أمور لا يبدو أنك تلقي بالاً إليها ابداً. ألا تخجل من ذلك؟ فإن أجابني الشخص المخاطب أن هذه الأمور تهمه حقاً فإنني لن أتركه يذهب قبل أن احاججه وأحاوره وأتفحص ما يعتقده، فإن رأيت فيه شخصاً مفتقداً إلى الفضيلة رغم ادعائه امتلاكها فإنني سأتركه لشأنه بعد أن أوجه إليه اللوم بأنه يقلل من شأن ما يستحق التعظيم ويعظم شأن ما هو أقل قيمة، وأنا أفعل ذلك مع كل إنسان ألتقيه شاباً كان أم كهلاً مواطناً كان أم أجنبياً زائراً، لكنني أهتم بصورة خاصة بمواطني أثينا لأنهم أخواني لأن هذا هو أمر الله لي، ودعوني أقول لكم إنه لم يحصل في أي وقت للدولة خير يوازي ما تحصل عليه من جراء هذه الخدمة التي أقدمها لوجه الله وأنا ليس لي عمل في الحقيقة سوى المشي في الأسواق أحاول أن أقنعكم جميعاً شيباً وشباناً على حد سواء أن لا تهتموا كثيراً بحاجات شخصكم وممتلكاتكم وأن تجعلوا همكم الأول العمل على ترقية الروح. أقول لكم إن الفضيلة لا تأتي من امتلاك المال وإنه من الفضيلة يأتي المال وأنواع الخير الكثيرة للإنسان وللمجتمع. هذا هو ما أعلمه فإن كان هذا النوع من التعليم فيه حسب زعمكم إفساداً للشباب فإن تأثيري عليهم ولا شك تأثير هدّام. لكن إن ادّعى أحد أن ليس هذا ما أعلمه فإنه يأتي ببهتان صرف. لذلك فإنني أقول لكم يا أهل أثينا إن في إمكانكم أن تأخذوا جانب أنيتوس أو أن لا تأخذوا جانبه. يمكنكم أن تدينوني أو أن تبرئوا ساحتي، لكن مهما كان موقفكم ومهما كان قراراكم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدّل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرات عدة!

“ليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقــعون في إثم كبير يخـــالف أمر الله “

من أجل تأكيد تمسكه بما يعتبره حقاً بغض النظر عن النتائج أوضح سقراط أمراً مهماً آخر لهيئة «المحكمة الشعبية » وهو أنه لم يعبأ باستدرار عطف الجمهور لعله يستميل أكثريتهم لتبرئته. قال لهم إن المتهم الخائف على حياته أو عقوبة شديدة غالباً ما يحضر أسرته وأولاده إلى المحكمة يبكون ويسترحمون لعل ذلك يؤثر على موقف الهيئة القاضية. أما بالنسبة إليه فهذا غير وارد البتة ويقول:« رغم أنني أمام خطر أن أفقد حياتي فإنه لا يمكن أن يخطر في بالي فعل مثل هذه الأشياء وقد يستثير امتناعي عن ذلك بعض أعضاء المحكمة فيميلون بسببه لأن يحكموا علي بصورة أقسى. أصدقائي إنني إنسان مثل غيري من البشر وأنا من لحم ودم ولست مصنوعاً من الخشب أو الحجر، كما يقول هوميروس، كما إن لي أسرة ، لكن رغم ذلك فإنني لن آتي بأي منهم للضغط عليكم من أجل تبرئتي. لم لا أفعل ذلك؟ ليس لأنني أظهر عناداً أو لأنني أستخف بهذه المحكمة، أما إن كنت بذلك خائفاً من الموت أو غير خائف فذلك أمر آخر لن أتحدث فيه الآن، لكن شعوري هو أن سلوكاً من هذا القبيل سيكون عاراً عليَّ وعلى دولة أثينا بأسرها».
لكن سقراط يحذر الأثينيين في الوقت نفسه من أن قتلهم له بغير حق سيتسبب بالأذى لهم أكثر مما سيلحقه به يقول:
«يا أهل أثينا كم أودّ منكم أن تدركوا بأنكم إن قتلتم شخصاً مثلي فإنكم ستؤذون أنفسكم أكثر من أذيتكم لي. إن مليتوس وأنيتوس لن يقدرا على إيقاع الأذى بي، لن يستطيعا ذلك لأنه ليس من طبيعة الأشياء أن يستطيع رجل وضيع أن يقود أو يؤذي رجلاً أفضل حالاً منه. وأنا لا أنكر أنه في إمكان أي منهما أن يتسبب بقتلي أو أن يرسل بي إلى منفى بعيد، أو يحرمني من حقوقي المدنية، وهو قد يعتقد وربما آخرون أيضاً قد يعتقدون أنهم بذلك يسببون أذى عظيماً لسقراط، لكنني لا أتفق معهم، لأن الشر في قيام شخص مثل أنيتوس بسلب شخص آخر حياته ظلماً وعدواناً هو أعظم بكثير مما يسببه للضحية».
«وليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقعون في إثم كبير يخالف أمر الله أو بحيث تستخفون بأنعامه عليكم من خلال إصراركم على إدانتي، أنكم إن قتلتوني فإنكم لن تجدوا بسهولة شخصاً آخر مثلي، إن شخصاً بلغ من العمر ما بلغته واشتهر عنه اتصافه بالحكمة (سواء أكان مستحقاً لهذا الوصف أم لا) لا ينبغي له أن يحطّ من قدر نفسه، لقد قرر الناس أن سقراط بصورة أم بأخرى يمتاز عن غيره من الرجال فلو أن من يعتبرون من كبار القوم يهبطون بقدرهم على هذا النحو فإنهم سيجلبون العار على أنفسهم. ولقد رأيت رجالاً مشهورين ورأيت كيف أنهم عندما حكم عليهم كانوا يتصرفون بطرق غريبة وبدا لي أنهم يتوهمون بأنهم سوف يتعرضون لتجربة رهيبة في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك، وأعتقد أن هؤلاء الرجال كانوا وصمة عار على جبين الدولة الأثينية، ولو أن غريباً رأى هذا المشهد فإنه كان سيقول إن عظماء أثينا ورجالاتها الذين حظوا باحترام وتبجيل العامة ليسوا في حقيقتهم أعلى درجة من النساء».
وسيضيف سقراط في مكان آخر من الدفاع أنه لم يتقاض في حياته أي مال على الخدمة التي يقدمها للمواطنين مشيراً إلى أنه رغم كل الإفتراءات التي بنيت عليها القضية فإن أحداً من الذين ساقوا الإتهامات ضده لم يجرؤ على مجرد الإدعاء بأن أياً من الدروس أو النصائح التي كان يقدمها لمن يطلب إنما تمت مقابل المال. ويعطي على ذلك دليلا قاطعا هو حالة الفقر التي يعيش فيها.

منظرعام لأثينة القديمة - هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه
منظرعام لأثينة القديمة – هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه

سقراط والإيمان
«لا يمكنكم أن تنتظروا مني أيها السادة أن أتصرف معكم (في موضوع الإيمان) بطريقة أعتبرها غير مشرفة ولا إخلاقية وغير منسجمة مع واجبي الديني. وبصورة خاصة لا يمكنكم أن تنتظروا مني ذلك وأنا المتهم أمامكم من قبل مليتوس بالإلحاد أو عدم التصديق بالألهة ومن البديهي أنني لو حاولت إقناعكم أو دفعكم بطروحاتي لكي تتنكروا لإيمانكم فإنني سأكون كمن يعلمكم أن تكفروا بعقيدتكم.إن (اتهام مليتوس ) هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأن لدي إيماناً عميقاً ومخلصاً يفوق ما يدعيه أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني. وأنا أترك الأمر لكم ولله لكي تحكموا على ذلك».
في مقابل آلهة اليونان أظهر سقراط احتراماً ظاهرياً لعقائد العامة وقد ظهر ذلك أثناء محاكمته، إذ كان أحد المدعين وهو مليتوس قد اتهمه بالإلحاد وعدم الإيمان بأي من الآلهة التي تشكل مرتكزات العقيدة اليونانية، لكن قليلاً من المحللين الغربيين الذين سعوا لفهم معتقده الديني وفق ذلك لأنهم جميعاً انطلقوا من عباراته الظاهرة وبعض التصريحات المقتضبة التي تطرق فيها إلى موضوع الآلهة ولم يدخلوا في محاولة فهم سقراط العامل الأهم في تاريخه وهو أنه كان حكيماً ليس بالمعنى العقلاني الغربي بل بالمعنى الذي تأخذ به العقائد الشرقية من الهند إلى مصر القديمة مروراً بالحقبة الهيلينية التالية للفيثاغورسية وهو مفهوم الحكيم كرجل رباني مكشوف على الحقائق اللدنية، وهذا المفهوم للحكيم العارف بالله لا يختلف بين حضارة وأخرى وإن كانت تعبيراته تختلف لأنها تتبع لغة الجماعة واختيارها الروحي وأحياناً عقائدها الخاصة، وقد عرف عن الحكماء جميعاً في كل زمان أنهم يكتمون الكثير من اختبارهم الروحي خوفاً من زعزعة عقائد العامة وأنهم يتخذون دوماً موقف الاحترام للعقائد السائدة. ومن المستحيل أن تجد في التاريخ الطويل للحضارة حكيماً يفصح عن مكنونات الحكمة واختبار العرفان لأن هذا النوع من الاختبارات لا يمكن شرحه بالعبارات ولا بالإشارات، فكيف بمحاولة إفهام غوامضه للعامة؟ لذلك تبقى مضامين الاختبار الحكمي في صدر الحكيم يظهر منه ما يشاء من تلمحيات أو إشارات أو قد يكشف عن بعضه لمن يقبل باتخاذهم كمريدين، وحتى في هذه الحال فإنه لا يتحدث لمريديه كلهم بنفس اللغة بل يعطي لكلٍّ منهم على قدر استيعابه واستحقاقه. فالحكيم هو لغز وحقيقة محجوبة ويستحيل على الناس العاديين إدراك كنهه بملكات التفكير أو القياس أوالتحليل العقلاني.
لقد كان سقراط حكيماً كاملاً وقطباً للعرفان ومستودعاً للأسرار لكن الطريق التي اختارها تأثرت كثيراً بالمجتمع الأثيني الذي كان مجتمعاً وثنياً، فكان عليه بالتالي أن يكتم اختباره الروحي وأن يتخذ في الوقت نفسه موقف عدم الدخول في موضوع العقيدة الأثينية فهو لم يعارضها لكنه لم يتبناها أيضاً ووقف بذلك دوماً موقفاً ملتبساً. هذا الموقف الملتبس وتجاهل سقراط للعقيدة الأثينية في تعليمه كان بادياً لأخصامه رغم مسايرته الظاهرية للعقيدة الأثينية أو الهيليلنية القديمة وقد يكون هذا أحد الأسباب التي شجعت مليتوس ورفيقيه على الإدعاء على سقراط بتهمة الإلحاد أو عدم الإخلاص لآلهة المدينة. أبرز علامات التمايز التي أظهرها سقراط عن نظام العقائد اليوناني حديثه الدائم عن «الله» أي عن إله واحد كان يشير إليه بصورة لا تتضمن نفياً أو إنكاراً لعقيدة اليونانيين لكنه كان يتضمن تجاهلاً واضحاً لإعلان التصديق لها.

معبد البانتيون - الأكروبوليس في اثينا
معبد البانتيون – الأكروبوليس في اثينا

“انا في طريقي الى الموت وأنتــم إلى الحياة، فأيُّ الطريقين هو الأفضـــل؟ الله وحده يعلم الجواب”

الأمر الآخر المهم الذي تحدث فيه سقراط عن «إيمانه» المختلف والذي تسبب في استثارة شكوك جمهور المدينة حول إخلاصه للعقيدة الرسمية، كان إشارته في دفاعه أمام المحكمة وفي مناسبات أخرى لما كان يعتبره «الصوت» أو الملاك الحامي daimonion أو «الوحي» الذي كان يأتيه ويرشده، ومن أجل إبقاء الغموض،
فإن سقراط لم يرد أن يشرح حقيقة إلهام الحكيم وما يرده من كشوفات -فقد كانت البيئة الفكرية في أثينا غير مؤهلة لتقبل ذلك- لذلك ابتدع وصفاً فيه من التقية ومن الطرافة في آن عندما جعل الصوت أو الوحي مختصّاً بأن يهديه ليس لما ينبغي له القيام به من أعمال لكن فقط لما يجب أن يمتنع عنه، فإن هو أقبل على أمر ما ثم أتاه الصوت ليحذره من الإقدام على ما كان ينوي فعله فإنه يعمل على الفور بوحيه. إن فكرة وجود وحي خاص لحكيم مثل سقراط يستند إليه في تقرير أموره بدا لبعض أهل أثينا كأنه يحمل تشكيكاً بنظام العقائد الذي كانت تعمل به المدينة. وبصورة عامة فقد كانت حقيقة إيمان سقراط سراً خاصاً بقي في صدره ولم يطلع عليه -أو على بعضه على الأرجح- إلا بعض المريدين الأصفياء مثل أفلاطون وزينوفون.
في هذا السياق، وللرد على اتهامه بزعزعة عقائد العامة وإفساد عقول الشبيبة، نفى سقراط نفياً باتاً أنه كان يعلم بعض الناس سراً أي أنه يعلم في السر أموراً معارضة لما يقوله في العلن، وبالتالي معارضة لعقائد المدينة وهو يقول لهذه المحكمة التي لا تضم قضاة بل جمعاً كبيراً من الناس من شتى الأهواء: في الحقيقة إنني لم أتخذ مريدين، لكن لو رغب أي كان سواء كان شاباً أو كهلاً في أن يأتي ويستمع إليّ في الأوقات التي أتابع فيها مهمتي فإن له ذلك، لكنني لا أتحدث لأي كان لأنه يدفع مالاً ولا أحجب حديثي عن أي كان لأنه لا يدفع المال. فأي شخص سواء كان فقيراً أو غنياً يمكنه أن يسألني وأن يستمع إلى كلماتي وإذا تبين بعد ذلك أن الرجل كان صالحاً أو سيئاً فلا يمكن لأحد أن يحملني المسؤولية عنه لأنني لم أعلمه أي شيء. وإذا زعم أحد بأنني علمته سراً أشياء مختلفة عما يستمع إليه جميع الناس فإنني أود أن تعلموا أنه لا يتحدث بالحقيقة.

إدانة سقراط
عندما أصدرت المحكمة قرارها بإدانة سقراط باتت الخطوة التالية هي تحديد نوع العقوبة، وهذا الأمر كان يتطلب في المحاكمة الأثينية تصويتاً آخر مستقلاً عن الأول. وجرى بالتالي نوع من الترافع بين سقراط وبين متهميه الثلاثة أظهر بدوره جانباً من الشخصية الفذة للحكيم. بعد أن طلبت الجهة المدعية إنرال عقوبة الإعدام بسقراط، وقف الحكيم وخاطب المحكمة بالعبارات التالية، قال: لقد اقترح الإدعاء عقوبة الإعدام بعد إدانتي، فما الذي سأقترحه بدوري؟ وما هو الذي يجب علي أن أدفعه أو أن أحصل عليه؟ كيف يجب أن تتعاملوا مع رجل لم يخطر في باله السكون للراحة طيلة حياته؟ ولم يظهر أي اكتراث بما يحرص الكثيرون على ان يجروا وراءه- الثروة ومصالح العائلة أو المناصب العسكرية أو إلقاء الخطب في البرلمانات أو تولي المسؤوليات في الدولة وفي الزمر أو الأحزاب؟

“أيها الأثينيون إن العار سيلاحقكم لأن خصومكم سيقولون لقد قتلوا الحكيم سقراط، ولو انتظرتم قليلاً لكان أفضل لإننـــي رجل كهل وفي طريقي إلى المـــوت على أي حال”

يقول سقراط: «لقد فكرت بأنه من الصعب عليّ كرجل نزيه وصادق أن أتبع تلك المسالك من دون أن أتسبب لنفسي بالهلاك، لذلك فإنني لم أسر في أي طريق حيث لا يمكنني أن أقدم خيراً لنفسي أو لكم، بل حيث يمكنني أن أقدم أعظم الخير لكم ولنفسي، لقد سرت في طريقي وسعيت لأن أقنع كل شخص منكم بأن يهتم بالنظر في نفسه واتباع طريق الفضيلة والحكمة قبل النظر في مصالحه الخاصة، وأن يهتم بالدولة قبل الاهتمام بمصالح الدولة وأن يطبّق هذا النهج على كل أعماله، فما الذي يجب أن تفعلوه لرجل كهذا؟ بالتأكيد يجب أن تبادلوه الحسنى بالحسنى، يا أهل أثينا، لو أن هذا الرجل استحق مكافأة فإن المكافأة يجب أن تكون بما يلائمه، وأي مكافأة هي التي تناسب رجلاً فقيراً أحسن إليكم ويتمنى لو أن له المزيد من الوقت لكي يعلمكم؟ لا توجد مكافأة له أفضل من تأمين عيشه طيلة حياته في البيت المقدس لأثينا (البريتانيوم) وهي جائزة يستحقها أكثر بكثير من الذين حصلوا عليها بسبب فوزهم في سباق عربات الخيول في الأولمبيا، لأنني شخصياً في حاجة إلى تلك الجائزة بسبب فقري والذي فاز في السباق ليس فقيراً وهو لم يقدم إليكم سوى سعادة ظاهرة، بينما أنا أقدم لكم الحقيقة».

تعليق سقراط على حكم الموت
بعد الكلمات والمرافعات المتبادلة صوتت المحكمة فأصدرت حكماً بالموت على سقراط بتجرع السم. لم يرف جفن الحكيم الذي كان واقفاً في حالة من الحبور والطمأنينة ولم يظهر أي مفاجأة لأنه كان عملياً ينتظر تلك النتيجة، كل ما فعله أنه استمر في توجهه الأبوي للأثينيين يخاطبهم ويعظهم في ما هو خيرهم. وكان أول تعليق له أن قال:
«أيها الأثينيون إنكم لن تربحوا شيئاً (من إصدار الحكم) بل إن العار سيلحق بالمدينة لأن خصومها سيقولون أنكم قتلتم الرجل الحكيم سقراط، وهم سيطلقون عليَّ صفة الحكيم رغم أنني لست كذلك، لكن من أجل أن يدينوا أثينا. ولو أنكم انتظرتم قليلاً فإن رغبتم في موتي كانت ستتحقق بفعل قانون الطبيعة، ذلك أنني رجل تقدمت به السنون كما ترون ولم أعد بعيداً عن الموت، وأنا أتحدث الآن فقط لأولئك الذين أصدروا علي الحكم بالموت. وهناك شيء آخر أود أن أقوله لهم: أنتم تعتقدون بأن الحكم صدر ضدي بسبب إهمالي في تقديم الدفاع اللازم أي لو أنني لم أوفر أي وسيلة أو حجة لمحاولة إقناعكم فإنني كنت سأحصل على حكم بالبراءة. لكن الحقيقة هي غير ذلك! إذ إن ما أوصلني إلى الحكم بموتي ليس نقص في الكلمات أوالدفاع بل هو أنه ليس لدي الاستعداد لكي أخاطبكم بالطريقة التي كنتم تريدونني أن ألجأ إليها، وهي لغة البكاء والنحيب والتذلل وأن أسلك معكم السلوك الذي اعتدتم عليه من الآخرين فهذه الأعمال ليست من شيمي .
إنني أفضل أن أموت بسبب تمسكي بطريقتي على أن أعيش لأنني قبلت بطريقتكم، ومن غير المقبول في الحرب أو في القانون أن يلجأ المرء لكل الوسائل من أجل الفرار من الموت، ولو أن جندياً قام بإلقاء سلاحه أمام العدو ثم جثا على ركبتيه متذللاً فإن من الممكن له أن ينجو من الموت. كذلك وفي مواجهة أخطار أخرى فإن هناك طرقاً عدة مماثلة للفرار من الموت إذا كان المرء مستعداً ليقول أو يفعل أي شيء. لكن المشكلة يا أصدقائي ليست في تجنب الموت بل في تجنب الباطل لأن الباطل يجري أسرع من الموت. إنني رجل كهل وأتحرك ببطء لكن الذين يتهمونني متحمسون وعلى عجلة من أمرهم.، وقد تمكن الباطل وهو الأسرع جرياً من أن يتقدم عليهم.
والآن، ها أنا أغادر المكان وقد حكم علي من قبلكم بالموت، والذين حكموا علي أيضاً سيغادرون أيضاً وقد حكم عليهم من الحقيقة بأن يعذبوا بوزر الشر والظلم وسأتحمل أنا ما قسم لي وليتحملوا هم ما قسم لهم وربما ينظر البعض إلى مثل هذه الأمور باعتبارها مقدرة وأنا بالفعل اعتبرها كذلك بالتأكيد.
بعد ذلك توجه سقراط إلى أعضاء المحكمة الذين صوتوا ببراءته فخاطبهم قائلاً:

هنا سجن سقراط قبل إعدامه
هنا سجن سقراط قبل إعدامه

“أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت”

أنتم أصدقائي لذلك سأريكم ما اعتقد أنه العبرة مما حدث لي:
وسأحدثكم هنا عن أمر رائع يتعلق بالصوت الخفي الذي حدثتكم عنه وهو الوحي الذي غالباً ما يعارضني في كل مرة أهمّ فيها لعمل أمر معين تشوبه شائبة، هذا الصوت يعارضني أحياناً عندما أكون على وشك ارتكاب ولو هفوة صغيرة، الغريب في الأمر أن هذا الصوت لم يتدخل أبداً اليوم ولم يعارضني في أي أمر منذ أن خرجت من البيت متوجهاً إلى هذه المحكمة، وعندما صعدت درجات المبنى، وكم من مرة اعترضني فيها الصوت عندما أكون في حديث، لكنه اليوم لم أجد منه أي اعتراض. فما الذي أفهمه من ذلك؟ سأقول لكم إن ذلك برهان على أن ما حصل لي اليوم هو خير وأن اولئك الذين من بيننا يظنون بأن الموت شر هم مخطئون، إذ إنه لو كان الموت كذلك فإن الصوت المعتاد الذي يعارضني في كل أمر سيىء كان سيعترضني في ما وصلت إليه.
إن هناك سبباً رئيسياً يجعلنا نأمل بأن الموت فيه خير لأن الموت هو واحد من أمرين: إما أن يكون حالة من العدم وانعدام الشعور بأي شيء أو أنه كما يقول الكثيرون مجرد تحول من حال إلى حال وأنه بمثابة رحلة الروح من هذا العالم إلى عالم آخر. فإن كان البل عظيمموت عبارة عن نوم عميق لا تعكّره حتى الأحلام فإن ذلك سيكون امراً جيداً عظيماً، لأن الأزل سيكون عندها بمثابة ليلة نوم واحدة، وإذا كان الموت على العكس من ذلك هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء.
ختم سقراط بالقول: أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت، فمثل هذا الشخص لا تتخلى عنه الآلهة، وأعلموا أيضاً أن نهايتي التي تقترب ليس في حدوثها أي مصادفة، وأنا أرى أن موتي وخلاصي من هذا الجسد هما أفضل لي ولهذا فإن الصوت الخفي داخلي لم يعارض ما حصل. ولهذا السبب أيضاً فإنني لست غاضباً من الذين اتهموني وحكموا علي ، فهم لم يتسببوا لي عملياً بأي ضرر وهذا رغم أن أياً منهم لم يرد بي خيراً، وعلى هذا فإنني ألومهم بشيء من اللطف.
لقد حان وقت الافتراق وكل منا يذهب في طريق:انا في طريقي الى الموت وأنتم إلى الحياة، يا ترى ما هو الطريق الأفضل؟ الله وحده يعلم الجواب.

محاورات افلاطون

آيُـــــون

الفنُّ احترافٌ أمْ إلهام؟

أكثر الفنَّ يعزِّزُ الانجذابَ إلى عالم الحَواسّ
ومعرفةَ النّفس هي الطّريقَ إلى معرفةِ الله

نظريّةُ الجماليّات الأفلاطونيّة تراوحت بين اعتبار الفنِّ تقليداً
وبين اعتباره إلهاماً من مصادرَ عُلْويّةٍ تستولي على الفنان

سقراط يحاول تفسير مفارقة: لماذا لا يهتمّ الفنّان آيون إلّا بشــِعر هوميروس دونَ غيره من شـــعراء اليونان؟

تُعْتَبر محاورة آيون من المحاورات القصيرة التي وضعها أفلاطون وهي تتركّز أيضا على حوار بين شخصين: المعلّم سقراط والفنّان المسرحيّ آيون. لكن رغم قِصَرِها فإنّ المحاورة تعتبرُ نصّاً مُهــمّاً من نصوص نظريّة الجماليّات الأفلاطونيّة إذ إنّ موضوعها يدور بالكامل حول محاولة تعريف الفنّ ومصدره في أعمال الفنان، كما أنّها تضيف إلى محاورات أخرى تناول فيها أفلاطون الموضوع ذاته كما في “سمبوزيوم” و”الجمهورية”
لكنْ رغم أهميّة المحاورة فإن موقف أفلاطون من الفنّ مثل الشّعر والتّمثيل المسرحي والموسيقى والغناء الشّعري يصعب تبسيطه بـ “مع” أو “ضد” لأنّ أفلاطون ينظر إلى الفن من منظار وحيد هو قدرته على تقريب الفنّان أو المستمع إليه من الحقيقة، وقارن أفلاطون بين التّأثير الذي يُحدثه الفنّ في الإنسان وبين تأثير الفلسفة أو علوم الحكمة عليه وعلى رُقْيه الثّقافي والرّوحي. ومن التفاصيل الملفتة في موقف أفلاطون أنَّه كان نفسُه قد أظهر اهتماما بالشّعر وموهبة شعريّة قبل أنْ يلتقي معلّمه سقراط ويتحوّل بصورة حاسمة نحو المعرفة وتحصيل الحكمة.
ومن زاوية الحكمة والتّرقّي بالنّفس من خلال المعرفة (شعار سقراط الشّهير: اِعرفْ نفسك) فإنّ الفنّ بدا في نظر أفلاطون نشاطاً ذاتياً يُغلِّب مظاهر العالم الخارجي ويعزّز الانجذاب لعالم الحواسّ والأشياء، ويدفع الوعي الإنسانيّ بالتالي نحو الخارج بدلاً من دفعه نحو الذات وأغوارها العميقة. ومعرفة النفس في نظر سقراط هي طريق المعرفة الشّاملة أو معرفة الله وفق الحديث النّبوي الشّريف “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”
وبصورة عامة فإنّ التفكير الحِكَميّ الإغريقي، بدءاً من فيثاغوراس ووصولاً إلى أفلاطون، يَعتبر عالم الظّواهر الفاني غيرَ المستقرّ على حال مجرد انعكاس شاحب وضعيف للوجود المصدريّ الأزليّ الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر. وقد بنى أفلاطون على هذه الرؤية الرّوحية ما يمكن اعتبارُه نظريتَه الخاصّة في الجماليات Aesthetics ونهجه في تقييم الفنون .وحسب تلك النظريّة فإن الجمال المترائي في زهرة أو في منظر الغروب أو في كائن من الكائنات ليس سوى مؤشّر تقريبي – في عالم الحواسّ- على الجمال المُطلــق الذي هو من صفات الحقّ، وهذا الأمر ينطبق على كافة الصّفات الجوهريّة للحقّ مثل العدل أو الجلال أو الحبّ، فالعدل المطلق هو للحقِّ وحده، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يأمل بالحصول على أكثر من تعبير تقريبيٍّ ونسبي عن العدل في عالم الفساد الأرضي، وكذلك الحبّ الإلهيّ التّام هو تجلٍّ للحبّ المطلق يختلف تماما عن الحبّ الإنسانيّ المتقلّب والمختلط بالأهواء وصنوف الانفعالات. بصورة عامة فإنَّ عالم الصفات الجوهريّة (أو المثالات) هو عالم كمالات أزلية لا تتغيّر بينما عالم الظواهر الماديّة لا يستقرّ على حال وهو لذلك غير عقلانيّ وغير حقيقي.
ولأنّ الحياة الحقيقيّة هي التي يكون هدفها الارتقاء من عالم الفكر والفناء إلى عالم الروح والخلود، فإنّ هذا الهدف لا يمكن حسب أفلاطون أن يتمّ عن طريق الفنّ والشّعر أو غيره، بل عن طريق طلب المعرفة وطريق ذلك حسب أفلاطون هو التّحكّم بالنفس، ولاسيما ضبط الشّهوات والانفعالات واجتناب الجشع والإقبال على الدّنيا، باعتبار أن ذلك السلوك هو وسيلة الترقّي في طريق معرفة الوجود الحقيقيّ والأزليّ وهو وجود يتعدّى العالم الظاهر.
قبل الدخول في محاورة آيون والتي خصّصها أفلاطون للبحث في حقيقة الفن وشخصية الفنان تجبُ الإشارة إلى أنَّ الحكيم تحدّث في أكثر من محاورة عن الفن وعن الجماليات وأهمّ ما أورده في الموضوع جاء في محاورتي “سمبوزيوم” و”الجمهورية” وكذلك في محاورة آيون. وتشير هذه الحوارات إلى أنَّ رؤية أفلاطون تغيّرت خلال الفترات التي كتب فيها تلك المحاورات وهي تراوحت بين اعتباره الفنّ تقليداً Imitation وبين اعتباره الفنَّ نتيجة إلهام إلهيّ أو قُدُسيّ. Divine inspiration يستولي على الفنّان ويحوّله إلى مجرّد أداة تعبير أو “وسيط” بين مصدر الإلهام وبين الجمهور.
استندت نظريّة الفنّ كـ “تقليد” على مفهوم أفلاطون للمثالات واعتباره أنَّ كل ما هو موجود في حياتنا الأرضيّة إنَّما هو “نسخة” ضعيفة عن مثال تام كامل له من صنع خالق الموجودات أي الله. وبما أنَّ أيَّ شيء (شجرة مثلا) على الأرض هو نسخة عن مثاله العُلْوي السماوي الأكمل فإنَّ الفنّان عندما يرسم تلك الشجرة إنما ينتج “نسخة عن نسخة” A copy of a copy. بهذا التعريف اعتبر أفلاطون أنَّ الفنّ يبتعد بنا عن الحقيقة لأنه يبتعد بنا عن المثالات أو الحقائق قي جوهرها ليعطينا نسخة باهتة عنها، فهو لذلك لا يمكن أن يقود إلى الحقيقة والتي وحدها “الفيلوصوفيا” (وهي تعني باللغة الهلّينية: “محبّة الحكمة”) يمكن أن تقترب بنا منها أو تقود القِلــّة النادرة إليها.
إنَّ نظريّة الفنّ كمجرّد تقليد للتّقليد أو “نسخة عن نسخة” قد يكون منسجماً مع نظرية المثالات التي استند إليها أفلاطون في “الجمهوريّة” لكنّه بدا ربّما مع الوقت تبسيطاً يحتاج إلى مراجعة لأنّ تعريف الفنّ بكونه تقليداً بدا متعارضاً مع الكثير من الإنتاج الفنّي الذي حمل في طيّاته قوةً وسحراً يتجاوز أيَّ قوة لعمل نسخي أو تقليدي.
حقيقة الأمر أنَّ أفلاطون يبدو في محاورة آيون (كما في محاورة “سمبوزيوم”) وقد تخلَّى عن نظريّة الفنّ كتقليدٍ واتّجه لإعادة بعض الاعتبار للفنّان أو لصنف من الفنانين، فهو يورد في المحاورة على لسان سقراط أنَّ الحِرَفيَّ الماهرَ أو الفنان يمكنه بواسطة الإلهام السماويّ أن يجعل من النّسخة التي يصنعها “أفضل من النسخة التي ينقل عنها”، وبهذا المعنى فإنَّ الفنان هو كائن مُلْهَم يعمل بقوة الإلهامات التي يتلقّاها وليس مجرّد ناقل أو مُقلِّد لا يملك أن يخلق شيئاً يضيفه إلى النسخة التي ينقل عنها. وولَّدت فكرة الإلهام كمصدر للإبداع الفَنّي أيضا معاييرَ إضافية تجعل الفنّ أكثر صفاءً وقوّة كلّما اقترب الفنان من مصدر الحقيقة عن طريق السلوك والمجاهدة. لأنّه كلّما صفت النفس كلما أصبحت مثلَ المرآة الصّقيلة تعكس الحقائق وتستقبل الإلهامات، فيصبح الفنان بذلك “واسطة” أو “وسيطا” تستخدمه مصادر الإلهام العُلْوِيّة لبعث رسائل وعلامات وتعبيرات عن الجمال المُطلق تسرّ الناظرين وإنْ كان هؤلاء لا يفهمون دوماً سرّها وسرّ قوّتها التّعبيريّة.
هذه النظريّة عن الفنّان المُلْهَم تظهر بوضوح في محاورة آيون التي بين يدينا كما تظهر أيضاً في محاورة “سمبوزيوم” وهي نظريـّـة أكثر تفهّما للفنّ ولقوّته ممّا ساقه أفلاطون في محاورات أخرى (لاحقة على الأرجح) مثل “الجمهورية” فهل كان تأثير سقراط أوضح في آيون وهي كُتِبَت ربّما قبل وفاته؟ وهل عاد أفلاطون في كتاباته المتأخرة ليتّخذ موقفاً أكثر تشككاً من الفنّ باعتباره غوايةً ومُنزَلَقاً قد يُبعد طالب الحقيقة عن جادّة الصّواب، وهي جادة العقل والتأمّل المثابر في حقيقة الوجود؟ لو كان الأمر كذلك فإنَّ أفلاطون يكون قد اتّخذ منحىً فيثاغورسياً في تشديده على التّقشّف النّفسي والتزام سبيل السيطرة على الحواس والاستثارة الحسيّة. لكن أفلاطون لم يكن مناهضا للموسيقى بل على العكس كان يعتبر أن النّمط المناسب منها يمكنه أن يبعث السّلام والانسجام في النفس بدلاً من السّلبيّة أو الانقباض، لذلك لا بدّ للفنّ بكلّ أشكاله أن يَحُثَّ على فعل الخير وأن يُصوِّر الإنسان في أفضل وجوهه، والمطلوب هو أن يستخدم الفنّ كوسيلة تربية بسبب تأثيره على الناس لأنّ الأبطال الذين يتحدّث عنهم يمكن تقديمهم للجمهور كقدوة في السلوك والشجاعة والشّرف والأخلاق الكريمة.
لذلك دعا أفلاطون للاهتمام بنوع الموسيقى التي يتمّ الاستماع إليها وبالتالي إبعاد أنواع معيّنة من الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الروح. وربّما قصد أفلاطون النوع الأخير من الموسيقى عندما ألمَحَ إلى إمكان إخراج الفنانين والكتّاب المسرحيين من جمهوريته الفاضلة، أو على الأقل مراقبة الفنون بحيث يتمّ القبول فقط بما يشدّد على الخير والجمال خصوصاً في الإنتاج الموجّه للشباب في سِنِّ يَفاعهم، على أنْ يسمح بتناول أمور أخرى مثل الشّرور وأمراض النفوس فقط عندما يبلغ الشبابّ سِنَّ النُّضج.

الله يأخذ من الشّعراء عقلهم - سقراط
الله يأخذ من الشّعراء عقلهم – سقراط

“أفلاطون دعا إلى إبعاد الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الرّوح.”

موضوع المحاورة
تدور محاورة آيون بين سقراط الحكيم وبين شخص يدعى آيون وهو يعمل كمُمَثِّل وكمُغَنٍّ مسرحيٍّ لأشعار وملاحم الشاعر الإغريقي هوميروس، وفي هذه المحاورة يتناول سقراط من خلال أسلوبه في الحوار التّدرّجي موضوعاً دقيقاً يتعلّق بتعريف الفنّ والفنّان، وهو بصورة أكثر تحديداً سيسعى للخروج باستنتاج مُحَدّد حول فنّ آيون ذاته ليعلَمَ إذا كان أداؤه المُلفت والذي يثير مشاعر الجمهور هو نتيجة لمهارة ذاتيّة وخبرة طويلة بالفنّ أم أنَّ مصدره هو الإلهام الذي يتلقّاه دون جُهد منه، ويجعله قادراً على أن يلعب أدواراً مختلفة على المسرح وينشد الأغاني التي تحرّك مشاعر الحضور إبكاءً أو إضحاكا أو إخافة أو غير ذلك.
كان آيون قد ربح لتوِّهِ الجائزة الأولى في مهرجان الفنّ المسرحيّ الذي تنظّمه مدينة أبيداروس عندما التقاه سقراط، وكان الأوّل بطبيعة الأمر فخوراً بإنجازه عندما بادره الحكيم بسؤال حول ما إذا كان يعتبر نفسه متفوّقا في إنشاد شعر هوميروس وتمثيل قِصَصِه على المسرح أم أنّ تفوقَه يمتدّ إلى غيره من الشعراء والمسرحيّين. فوجئ سقراط بقول آيون: إنّ هوميروس فقط يُهِمّه، وأنَّ جميع من عداه من شعراء إغريق حتّى المشهورين منهم يوقعون في نفسه الضجر!.
مغالباً شعور التّعجّب، يلفت سقراط آيون إلى أنَّ نّقاد الفنّ وحُكّام الأعمال الفنّية مثل النّحت أو الرّسم عادة لا يحِدّون أنفسهم بتقييم عمل فنّان مُعيّن بل يمكنهم نقد وتقييم أيّ عمل فنّي بِغَضِّ النّظر عن شخص الفنّان الذي صنعه. لكنَّ آيون يعيد الكَرّة ويشرح لسقراط بشيء من الخُيَلاء كيف أنّه لا يوجد فنان في أثينا يمكنه أن يقدِّم شعر هوميروس كما يفعل هو، فلا أحدَ من فنّاني اليونان لديه ما لدى آيون من خبرة عميقة في الشّاعر وشخصيّاته.
سقراط: لكنْ كيف حدثَ أنّك طوّرت هذه المهارةَ بشأن فنّ هوميروس فقط وليس بشأن شعر هيسيود مثلاً أو غيره من الشّعراء؟ ألا يتحدّث جميع هؤلاء حول نفس الأمور مثل الحرب أو المجتمع الإنسانيّ أو علاقات البشر وخصوماتهم وعن الخير والشرّ وغير ذلك
أيون يوافق سقراط، لكنّه مستمرّ في اعتبار أنَّ هوميروس يتحدّث عن كافّة الأمور أفضل من غيره من الشّعراء.
قد يكون هوميروس عظيما حقاً، لكنّ سقراط لم يقتنع بعد لماذا لا يهتمّ أيون بشعر الآخرين وأعمالهم الكبيرة أيضاً. وهو يعود إلى المسألة البدهيّــة وهي أنّه عندما يوجد من يمكنه الحُكمُ في الفنّ الجميل أو الكلام أو الشعر وأفضلها فإنّ هذا الشخص نفسه يمكنه أن يحكمَ أيضاً على ما هو أقلّ قيمةً أو غير ذي قيمة في أيٍّ من تلك الفنون. يوافق آيون على هذه المقولة فيسأله سقراط على الفَور:
سقراط: إذنْ يا صديقي هل أكون مخطئاً في القول إن آيون يمتلك المهارة نفسها في شعر هوميروس وغيره من الشعراء، بما أنّه هو نفسه يقرّ بأنّ الشخص نفسه يمكنه أنْ يكون حَكَماً جيّداً بين الذين يتحدثون عن الشّيء نفسِه، وبما أنَّ جميعَ الشعراء يتحدثون بالفعل عن الأشياء نفسها.
آيون: لم إذن يا سقراط أشعر بعدم الاكتراث وأكاد أغطُّ في النّوم عندما يتحدث أحدهم عن شعر شاعر آخر، لكن ما أنْ يُــذكر هوميروس حتى تجدَني قد تنبّهت بكلّيتي وباتت لديّ الرّغبة في قول أيِّ شيء.
سقراط: السَّبب يا صديقي بديهيّ، وأيُّ شخص سيرى في هذه الحال أنك إنّما تنشد هوميروس وشعره دون أيِّ فنٍّ حقيقيٍّ أو معرفةٍ بالشعر. لأنّك لو تحدثتَ عنه بمقاييس الفنّ ومعاييره فيجب أن يكون في إمكانك أنْ تتحدثَ عن غيره من الشعراء بالمهارة ذاتها لأنَّ الشّعرَ كلٌّ لا يتجزّأ.
يُفاجأ آيون هنا بحكم سقراط، لكنّه لا يستطيع إلّا الإصغاء طالباً منه أن يشرح رأيه وأن يزيد.
يتبع ذلك حوار يُبيِّنُ فيه سقراط أنّ الفنّ كلٌّ متكامل وأنّه لا يوجد ناقد يقول إنّه يفهم في العمل الجميل فقط ولا يفهم أو يستطيع أنْ يُحكِّم في الأعمال غير الجميلة أو في عزف الناي أو الموسيقى الجميلة لكنّه لا يُحكِّم في أعمال العزف والموسيقى التي هي أقلُّ مستوًى من ذلك، أو أنه يوجد خبير في فنّ النّحت يتولى تقييم أعمال النحت المتميّزة لكنّه يغطّ في النوم ولا يُعطي رأيه عندما تُعرَض عليه أعمال نحت أقل شأناً. ويسأل سقراط آيون هل سمع بوجود مثل هؤلاء النّقاد؟
آيون: كــلّا أنا لم أسمع بوجود مثل هؤلاء الأشخاص.
لكنّ آيون، رغم اقتناعه بقول سقراط، يكرّر موقفَه السّابق في أنّه لا يُبدع إلّا عندما يقرأ شعر هوميروس.
آيون: لا يسعًنــي أنْ أنفي ما تقول يا سقراط، لكنْ على الرّغم من ذلك فإنني على أدراك تام، كما يوافقني الناس، بأنّني أعبّر بصورة أفضل وأُقدِّم أحسنَ ما لديّ فقط عندما أُحدِّث بشعر هوميروس بينما لا أوَفَّق عندما أحدِّث عن غيره. فهل يمكنك أنْ تقول لي ما هو السبب في ذلك؟

كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه
كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه

مطالعة سقراطية حول طبيعة الفنون
هنا يعرض أفلاطون، على لسان سقراط، لمطالعة طويلة حول طبيعة الفنّ وحقيقة الفنان، وهذه المطالعة في الموضوع صالحة لاعتبارها ملخّصاً أفلاطونياً وافياً في الموضوع.
سقراط: سأحاول يا آيون أنْ أشرح لك ما أعتقد أنّه سبب حالتك. إنَّ الموهبة التي تتمتع بها في الحديث المؤثّر عن هوميروس ليست فنّاً بل هي كما قلت من الإلهام. إن هناك كياناً عُلويا يـُحرِّكُك. مثل ذلك الذي يحتويه الصّخر الذي يسمّيه الشاعر يوروبيدس مغناطيســأً، والمعروف بين العامّة بـ “صخر هيراقليا” وهذا الصّخر ليس فقط يجتذب حلقات الحديد بل هو يجعل الحلقات نفسها مُمغنطة وقادرة على أن تجتذب بدورها حلقات حديدية أخرى. وفي بعض الأحيان يمكن أنْ نرى حلقات معلقة الواحدة بالأخرى بحيث يتشكل منها سلسلة طويلة وكل هذه الحلقات تستمدّ قوة الجذب فيها من الحجر الأصلي. بالطريقة ذاتها فإنَّ المَلاك المُلْهم Muse يمدُّ بإلهامه أشخاصا معيّنين وهؤلاء الأشخاص بدورهم يمدّون آخرين بإلهام ممّا أتاهم فتتكون سلسلة من الأشخاص الذين يُلْهِم كلٌّ منهم مَنْ يليه. بهذا المعنى فإنَّ جميع الشعراء المجلّين، سواء شعراء الملاحم أم مؤلّفي الشعر الغنائي إنّما يؤلفون موسيقاهم ليس بعامل الاحتراف الفنّي بل لأنهم مُلهَمون بل ومُسَيطر عليهم من مصدر إلهامهم. وهم لذلك ليسوا بكامل وعيهم العقلي عندما يؤلّفون موسيقاهم. وكما يقولون هم لنا فإنّهم يجلبون أغانيهم من ينابيعَ تتفجّر عسلا ويقطفون تلك الأشعار من حدائق ووديان ملائكة الإلهام، وهم مثل النّحل الذي يطير متنقّلاً من زهرة إلى زهرة، وهذا صحيح، لأنَّ الشاعر هو نور وهو شيء مقدس ومٌجنَّح أيضا. ولكن لا يمكنه ابتكار أو خلق أيِّ شيء من ذاته إلى أن يأتيه الإلهام ويخرج عن حواسِّه، عندها فإن عقله لن يكون في خدمته. وما لم يبلغ الشاعر تلك الحالة فإنّه سيكون عاجزاً تماما عن أن يُبَلِّغ إلهاماته.
وعندما يتلقّى الإلهام من ملاك الإلهام فإنّ الفنّان قد يصبح منشداً للشعر المسرحيّ، وبعضهم قد ينشد المدائح للآلهة، وبعضهم قد يغنّي الكورال والآخر قد ينشد شعر الملاحم، وهنا فإنّ من يكون متفوّقاً في لون من الفنّ فإنه على الغالب لن يكون متفوّقاً في لونٍ آخر . وهذا لأنّ إنشاد الشاعر لا يأتي من فنٍّ يملكه هو لكنه يأتي من إمداد السماء. ولو أنَّ الشاعر كان فعلا فناناً مُــلِمّــاً بنواميس الفنون كلِّها فإنّه كان سيُظهِر مهارتَه ليس في فنٍّ بعينِــهِ بل في الفنون جميعها. لهذا فإنّ الله “يأخذ من الشّعراء عقلهم” ويستعملهم كما يستعمل العرّافين وأهل النبوّة لكي نعلم عندما نستمع إليهم أنَّهم لا يأتون من تلقاء أنفسهم بتلك الآيات النّفيسة بوعيٍ منهم، إنَّما هو مصدر الإلهام السّماوي الذي يوحي عبرهم. وأنا أعطي على ذلك مثال الشاعر تينيشوس كالسيديان الذي لم يكتب من الشّعر ما استرعى انتباه أحد، إلا أن أنشودة التّسبيح التي كتبها أصبحت على كلِّ شَـفةٍ ولسان. وعن هذا الطّريق يبدو وكأنّ الله يريد أن يبيِّن لنا ولا يترك لنا أيَّ مجال للشَّكِّ في أنَّ هذه الأشعار الرائعة ليست كلاماً بشرياً أو عمل إنسان إنّما هي من وحيٍ سماوي. ألست على حق يا آيون؟.
يوافق آيون من فَوْره على رأي سقراط الذي وعلى سبيل الزيادة في الإيضاح يأخذ مثالاً من عمل آيون نفسه كمنشد وكممثّل لشّعر هوميروس وقصصه المَلْحَميّة فيسأله:
سقراط: أودُّ منكَ أن تجيبَني بصراحة يا آيون على سؤالي وهو: عندما تًثيرُ بتمثيلك أعمقَ الأثر في الجمهور عبر إنشادك لبعض الأبيات والمشاهد البليغة هل تكون مستحضراً فعلا لعقلك؟ أم أنّك تكون غائباً عن نفسك؟ ثم ألا تكون روحك في حالة من الانجذاب والغِبطة التامّة وأنت تتخيَّل نفسك بين أولئك الذين تتحدث عنهم سواء كانوا في إيثاكا أو في طروادة وبغض النّظر عن المشهد أو المقطع الشعري؟
يجيب آيون بالموافقة التامة شارحاً لسقراط أنّه في مشاهد الحزن لا يستطيع مغالبة انهمار الدموع من عينيه، وأنّه في مشاهد الرّعب مثلاً فإنّ “شَعر رأسه يقف من الرُّعب وقلبه يهلع وتتسارع نبضاته”.
بالطّبع في نظر سقراط فإنّ آيون قدّم مثالاً آخر على أنّ الممثل أو المُنشد الذي يمثّل قِصَص هوميروس لا يمكن أنْ يكون في حالة من “العقلانية” وهو يذرف الدموع أو يعبّر عن الخوف أو أيٍّ من المشاعر الحادّة على المسرح، بل لا بدّ وأن يكون “ممسوساً” وتحت السّيطرة التامّة لمصدر إلهام عُلْوِيّ.
ينتقل سقراط بعد ذلك ليضرِبَ مثلَ جمهور النظّارة في المسرح الذين أيضاً تنتقل إليهم كافّة المشاعر التي تُمثَّل على المسرح عبر منشدين وممثلين وهم جلوس في أماكنهم. فهم يَهلعون في مشاهد الخوف كما لو أنّها حقيقة وينْسَوْنَ أنّهم مشاهدون فقط لمشاهدَ تخيّليّةٍ، وأنَّهم في أمان تامٍّ ولا خوفَ عليهم من أيِّ تهديد. وقد يبكون في مشاهد الحزن ويهللون ويصخبون في مشاهد الانتصارات أو البطولة. وهذا في نظر سقراط مثالٌ على نظريّة الحلقات المِغناطيسية المترابطة والتي مصدرها إلهام أصليٌّ هو الذي يعطى من الوحي السماويَّ إلى الشاعر، ومنه إلى المنشد أو المُمَثّل المسرحيّ ومنه إلى جمهور الحضور في المسرح وهكذا.
ينتقل سقراط بعدها ليشرح لآيون لماذا يَبرع في إنشاد وتمثيل شعر هوميروس ولا يهتمُّ بإنشاد غيره. وهو يعود مجدّداً في شرحه إلى نظريّة الحلقات المُمَغْنطة التي يتعلّق كلٌّ منها بما يليه.
سقراط: أنت أيضاً حلقة من حلقات الإلهام، لكنّك مجذوبٌ بهوميروس، فإذا قرأ أحدهم قصائد شاعر آخر غيره فإنَّك تغطُّ في النّوم ولا تعرف ماذا تقول، لكنْ إذا قرأ آخرُ بيتاً من قصائد هوميروس فإنّك ستتنبَّه على الفوْر ويقفز قلبك داخل صدرك وتصبح مستعدّاً للإنشاد فوراً وقول الكثير! وأنت تسأل ما السبب في ذلك؟ إنّ سبب ذلك أنّ معرفتَك أو تميُّزَك في شعر هوميروس ليس من صُنْعك ولا يأتي من إحاطتك بالفنون ولكنَّه يأتي من مصدر إلهام عُلْوي.

الشاعر هوميروس
الشاعر هوميروس

“سقراط: الشّاعر نورٌ وشيءٌ مقدّس ومُجنَّح أيضاً. لكنْ لا يمكنه خلق أيّ شيء من ذاته إلى أن يأتيــه الإلهام ويخـــرج عن حواسِّه”

يستحسن آيون جواب سقراط لكنَّه لا يقتنع به تماماً.
آيون: كلُّ هذا جميل يا سقراط. لكنّني أشكُّ في أنَّ لديك من البلاغة وقوة الحجّة ما سيجعلني أقتنع بأنّني أبدع في التِّلاوة الشعرية لهوميروس فقط عندما أكون مجذوباً أو ممسوساً!! ولو سمحتَ لي أن أنشدَكَ الآنَ أبياتاً من شعر هوميروس فإنّني على ثقة بأنّك لن تبقى على رأيك.
يؤكِّد سقراط بأنّه يرغب جيّداً في الاستماع إلى فنِّ آيون، لكنّه يريد منه أولاً أن يجيبه على سؤال. وهدف سقراط هنا هو متابعة الحوار على النّسق السابق ودفع آيون إلى مكانٍ في الحِوار يكتشف فيه بنفسه أنّ موقفه غير منطقي وأنّ اقتراح سقراط في تعريف الفنّ والشعر كنتاج إلهام عُلْوي هو التفسير الصّحيح. وهو يفاجئ آيون بسؤال غيرِ متوقّع:
سقراط: أوَدُّ منك أنْ تجيبَني على سؤال وهو: ما هو الجزء من شعر هوميروس الذي تبرَعَ فيه أكثر من غيره؟ أكيد أنّك لست بارعاً في كلِّ شعره؟ وهنا يسقط آيون في فخّ الغرور ويجيب:
آيون: لا يوجد يا سقراط أيُّ جزء من أجزاء شِعر هوميروس لستَ فيه من أبرع الناس في فهمه وفي إنشاده.
سقراط: هذا بالتأكيد لا ينطبقُ على الأجزاء التي في شعر هوميروس ليست لك معرفة بها.
آيون: وما الذي في هوميروس لا أملك معرفة به؟
هنا يذكِّر سقراط آيون بأنَّ هوميروس يتحدّث في شعره سواء في الأوديسة أو الإلياذة عن مشاهد تتعلّق بفنون أو مهارات مثل قيادات العربات الحربيّة أو إعداد الطعام أو الطَّب أو النّجارة أو صيد الأسماك أو غيرها وهو يسأل آيون على سبيل المثال إن كان الشّخص الصّالح للحكم على شعر هوميروس في وصف عربات الخيل الحربيّة وعمل قائدها ومناوراته في المعركة مثلا هو قائد العربة الحربيّة أم مُغنّي شعر مثل آيون نفسه. وهنا يعترف آيون بأنّ قائد عربة الخيل الحربيّة هو أقدر على تقييم شعر هوميروس في هذه المهارة. سقراط يعقِّب من فَوْره بالسؤال عمّا إذا كانت أهليّة قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس بشأن عربات الخيل عائدة إلى فنِّ الشعر أم إلى فنّ قيادة العربات. يوافق آيون على أنّ الفنّ الذي يستند إليه قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس حول العربات ليس فنّ الشعر بل فنّه هو في قيادة العربات الحربيّة. هنا ينتقل سقراط إلى استنتاج مهمٍّ يقترب به من دحض نظريّة آيون حول الفنّ.
سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عَيَّنَ الله له نوعاً من المعرفة بموضوع معيّن، ولهذا فإنَّ الذي يمكن أنْ نعلمَه من فنّ قيادة عربات الخيل يختلف تماماً عن الذي يمكن أنْ نتعلمه من فنّ الطِّب.
آيون: بالتأكيد

أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح
أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح

” سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه دون غيره  “

سقراط: كذلك فإنّ ما يمكنُ أن نتعلَّمَه من خلال فنِّ النّجارة يختلف عمّا يمكن أن نتعلّمه من خلال فنّ الطِّب؟
آيون: من دونِ شكٍّ
سقراط: وهذا ينطبق بالطبـــع على جميع الفنون
آيون: نعم
سقراط: وأنت ستوافقني على أنَّــه إذا كان لفنٍّ ما موضوعٌ محدّدٌ وكان لفنٍّ آخرَ موضوعٌ آخر مختلفٌ فهذا يعني أن الفنّيْن مختلفان؟
آيون: نعم
سقراط: وهذا يعني أنَّ أيَّ فنٍّ مُحَدّد يجب أن يكون له موضوع المعرفة نفسه وأنَّ الفنون الأخرى المختلفة سيكون لها مواضيع مختلفة للمعرفة تتعلّق بها؟
آيون: هذا هو رأيي
سقراط: إذنْ من ليس له معرفة بفنٍّ معيّن لن يكون له حقُّ الحُكم أو الحديث عن نصوص أو أعمال ذلك الفنّ الذي يجهله.
آيون: صحيح.
هنا يستخدم سقراط معرفته العميقة بشعر هوميروس وملاحمه ويفاجئ آيون في كونه حافظاً لكلِّ شعر هوميروس وهوَ لا يقلُّ عنه بل يفوقه فهما للشاعر وهو يختار سلسلة من الأمثلة التي تُظْهِر لآيون أنه لا يمكن أن يكون عارفا بكل جوانب شاعره المفضّل هوميروس. وهو يختار مقاطع يتحدث فيها الشاعر الإغريقيّ عن حالات معيّنة أو مِهَنٍ أو أعمال ثم يُظْهِر لآيون أنَّ أصحاب تلك الأعمال أو المهارات هم حتماً أفضل منه ومن أي شاعر في الحكم على أشعار هوميروس التي تتحدّث عن مِهَنهم ومهاراتهم لأنهم أخبر بها من الآخرين.

مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية
مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية

إن قصد سقراط في نهاية المطاف هو أنْ يُثبِتَ وجهة نظره وهي أنَّ عدم اكتراث آيون إلّا بشاعره المفضّل هوميروس وإهماله لغيره من كبار الشعراء يدلُّ على أنَّ فنَّه لا يعود إلى مهارة ذاتية أو موهبة لأنَّه لو كان كذلك لأمكنه تذوُّق شعراء آخرين كبار لا يقلُّون إبداعا مثل هيسيود وأورفيوس وغيرهما، وهو أراد أيضاً أن يُثبت أنَّ زعم آيون بأنّه محيط بالكامل بكلِّ ما جاء به هوميروس وأنَّه مرجع في الموضوع أيضا هو من الغرور ولا يصمد للفحص.
رغم ذلك فإنَّ آيون المغرور والذي كما يتَّضح من الحوار يفتد إلى النَّباهة يعود فيرتكب الخطأ ذاتَه مع سقراط فيزعُمُ مجدَّدا أنَّه مؤهَّل للحُكم على شعر هوميروس كلِّه دون استثناء، لكنَّ الحكيم هذه المرَّة سيكون صارماً فيذكِّره أنَّه اعترف قبل قليل بعكس ذلك عندما تناولا مثال قائد عربة الخيل الحربيَّة وغيرها من الأمثلة، وهو لذلك يعتبره مُنحازا لنفسه ومخادعاً يفتقد إلى الإخلاص في الحوار أو في الرغبة في التَّعلّم وبلوغ الحقيقة، لذلك ينهي سقراط الحوار باعتبار آيون من المخادعين، لكنَّه يعرض عليه “تبرِئَتـُـه” من ذلك الحكم القاسي إن هو وافق على الخَيار الآخر وهو القبول بأنه ليس فنّاناً بالسّليقة أو بقدرته الفنِّيَّة وإنَّما متلقٍّ لوحيٍ عُــلويّ يسيطر عليه عندما يكون على المسرح. وهذا الخيار الأخير يقبل به آيون لأنَّ البديل ليس مُشَرِّفاً له. وينهي سقراط الحوار بهذه الكلمات:
“إذن فإنني يا آيون سأنسب إليك الاحتمال الأكثر كرامة وهو أنك في تمثيلك لأشعار هوميروس إنما تعمل تحت تأثير الإلهام وليس الفن”.

يونس امره شاعر العشق

يونُـــس أمــــرِه

شاعر المحبة والأخوة الإنسانية

من أشهر أقواله: سامِح المخلوق إكراماً للخالِق !

طلب من الصوفي حاجي بكتاش بذوراً لحقله
فعرض إعطاءه «عشرة أنفاس» بدلاً منها

إعتبرته الأونسكو بين أعظم الشخصيات الثقافية
واختارت عام 1991 ليكون عام يونُس أمرِه

شعره العذب مزيج من الحب الصوفي والإنساني
الرافض بقوة للتعصب ولجمود المؤسسة الدينية

يعتبر الشاعر الصوفي يونُس أمرِه Younus Emre من أكثر شعراء الصوفية شهرة لكن في الوقت نفسه من أكثرهم غموضاً، وقد بلغت شهرته مختلف البلدان وترجمت أشعاره إلى لغات عديدة واعتبرته منظمة الأونسكو إحدى أهم الشخصيات الثقافية في العالم واختارت عام 1991 ليكون «عام يونُس أمرِه» ونظمت الندوات والملتقيات حول العالم بهدف التعريف بفكر هذا الشاعر الكبير ورسالته وتعليمه الروحي. لكن رغم مكانة الشاعر، فإن الروايات الكثيرة المتناقضة أحاطت دوماً بحقيقته وبحياته وعلى عكس شعراء الصوفية الذين توجد سير كاملة عن حياتهم، فإن تاريخ أمرِه هو مزيج من الوقائع والأساطير التي نسجت حوله في البيئة الثقافية والخيال الخصب لأهل الأناضول. يكفي للدلالة على ذلك أن مئات القرى التركية تدَّعي كلٌّ منها أنها مسقط رأس الشاعر كما أن مئات البلدات تدعي أنها تحتوي على مثواه الأخير. وهناك مصادر متضاربة حول تاريخ ميلاده وفي أي قرن عاش، إذ أن الكل يتنافس على شرف أن تكون له صلة زمان أو مكان بهذا الشاعر الذي جعل من الحب دينه وديدنه، حب الله والتحقق في أنواره وحب البشر وخلق الله من أجل الله وحُبّاً لله وهو صاحب القول الشهير «سامح المخلوق إكراماً للخالق».
حياته
رغم الغموض المحيط بحياة الشاعر، فإن المصادر الأكثر موثوقية تقدر أنه ولد في عام 1240 أو 1241 م، وأن وفاته كانت في العام 1320 أو العام 1321 مما يعني أنه عاش ما بين ثمانين واثنين وثمانين عاماً. ويبدو مؤكداً أن الشاعر عاش في مقاطعة كرمان، وأنه جاء من أسرة هاجرت من خراسان إلى قرية اسمها شيخ حاجي إسماعيل . ويعتقد أن القرية تأسست على يد شيخ العائلة التي ينتمي إليها يونُس وكان يدعى شيخ حاجي إسماعيل وسميت بالتالي بإسمه بعد أن أقام في الأناضول مع عدد من أتباعه.
في ما عدا ذلك، فإن الطريقة التي أمضى فيها يونُس أمرِه بقية حياته غير معروفة، فالبعض يعتقد أنه كان صوفياً سائحاً في الأرض، والبعض الآخر يعتقد أنه كان شيخ زاوية لكن لا يُعرف اي طريقة صوفية انتسب إليها، وكيف عاش حياته وكيف نظّم شعره وكيف مات فهذه كلها ما زالت من الأسرار التي تحيط بشخصيته الفريدة.
وبالنظر لغياب المصادر والمعلومات الموثوقة عن حياته فقد رأى مؤرخون كثر أن هذه التفاصيل ليست مهمة بقدر أهمية الرواية التي كوّنها أهل الأناضول عن شخصيته والحكايات التي تناقلوها عن حياته وشعره، بينما رأي مؤرخون آخرون في تلك القصص التي نسجت حول شخصية الشاعر دليلاً على أن يونُس أمرِه الشخص نما وتحوّل إلى أسطورة بفضل الإضافات والروايات الكثيرة التي ألصقت بإسمه مع السنين في ظل المناخ الفلسفي والروحي التسامحي والإنساني الذي كان منتشراً في بلاد الأناضول في تلك الفترة.

طريق التصوف
ربطت إحدى القصص الشعبية غير المثبتة أو ربما غير الحقيقية بين دخول يونُس أمرِه طريق التصوف وبين لقاء مفترض تمّ بينه وبين حاجي بكتاش وهو شيخ حكيم يعتبر مؤسس الطريقة الصوفية البكتاشية، وتروي تلك القصة أن يونُس كان يعيش عيش الكفاف وأنه في إحدى السنوات استهلك كل شيء ولم يعد عنده بذور يزرعها للموسم التالي، فجال البراري وجمع كمية من الثمار البرية ومضى بها إلى حاجي بكتاش يريد مقايضتها بالبذور. لكن الشيخ عرض عليه أن يعطيه مقابل تلك الثمار «نَفَس» والكلمة ترمز إلى الإمداد الروحي الذي يعطيه الشيخ لطالب الحكمة ومعه بركة الشيخ. لكن يونُس رفض تلك الصفقة وطلب الحصول على البذور. فعرض حاجي بكتاش أن يعطيه «عشرة أنفاس» لكن يونُس بقي على رغبته في الحصول على البذور، عندها أمر الشيخ بإعطائه كمية كبيرة من البذور عاد بها إلى منزله. لكن يونُس تعجب كثيراً من كرم الشيخ وأحسّ بأنه وليّ ورجل أسرار فعاد إليه بالبذور وقال له: إنني قررت أن أعيد إليك البذور وأريد منك أن تعطيني «عشرة أنفاس» بدلاً منها وفقاً لعرضك السابق. عندها أجابه الشيخ: لقد تأخرت لأنني أحلت وديعتك إلى «تبتوك أمرِه» فاذهب إليه.

بين البكتاشية والمولوية
لم يذكر أمرِه في شعره خبر لقائه بحاجي بكتاش غير أن شعره يتضمن مديحاً لـ «تبتوك أمرِه» مما يوحي أنه الشيخ الذي تعهده بالتعليم والإرشاد الروحي. لكن كثيرين اعتبروا قصة ما جرى بينه وبين حاجي بكتاش رمزية تحكي قصة انتقال يونُس من الغفلة إلى المعرفة والحقيقة وكيف بادل نفسه الجسمانية (الثمار البرية) بالحقيقة التي يُرمَز إليها في القصة بالبذور وهي ما يغرسه الشيخ في قلب المريد من العلم اللدني والكشوفات والأحوال. ونظراً إلى إنتشار الطريقة البكتاشية في تلك الأيام في منطقة الأناضول فقد كان طبيعياً أن يسعى أهل الطريقة وتابعوها إلى نسب يونُس إليها، بل إن البكتاشية التي كانت معاصرة للطريقة المولوية في منطقة الأناضول، وخصوصاً في قونيا سعت إلى إظهار تفوقها على المولوية أولاً من خلال تبني شاعر كبير يمكن مقابلته بجلال الدين الرومي ثم من خلال إظهار تفوق الشاعر أمرِه (الذي أصبح الآن حسب دعواهم بكتاشياً) على الرومي. وأدخلت لهذا الغرض حكاية عن لقاء مزعوم جرى بين الرجلين انتقد فيه يونُس ضخامة كتاب المثنوي (أبرز دواوين جلال الدين الرومي الصوفية) قائلاً له إنه كان سيختصر كتاب المثنوي كله ببيتين إثنين هما كالتالي:
اتخذت شكل اللحم والعظام
وظهرت إلى الوجود كـ «يونُس»
وتمضي القصة لتقول إن الرومي أقرّ لـ «يونُس أمرِه» بذلك وأضاف أنه لم يبلغ في شعره قمة جديدة إلا وجد أن يونُس سبقه إليها.
هذه القصة الملفقة تقدم مثلاً عن المدى الذي بلغه تعظيم أهل الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي لشخص يونُس أمرِه، لكنها تشير أيضاً إلى أن معاصري الشاعر لم يترددوا في تأليف القصص والروايات عنه وربما العديد من القصائد التي تحاكي أسلوبه وفلسفته وقد إتخذوا من شخصه وشهرته سبيلاً سهلاً لترويج تلك الفلسفة الإنسانية المتسامحة التي كانت تياراً فكرياً له تأثيره الكبير في تلك الحقبة وأصبح يونُس أمرِه الممثل الأهم له.

الحب-ديني
الحب-ديني

حكاية له مع مرشده تبتوك
وتضم الروايات والأساطير الشعبية عن يونُس أمرِه قصة مثيرة أخرى هي قصة لقائه بمرشده تبتوك أمرِه وتكرسه لخدمة زاويته والمريدين بقطع الحطب والعمل اليدوي لتوفير الأود للدراويش. وقد ظل على تلك الحال، حسب الرواية الشعبية، نحو أربعين سنة، إلا أنه في يوم شعر بالملل من الموسيقى التي كان يعزفها شيخه تبتوك فترك الزاوية وهام على وجهه. إلا أن معجزة حدثت له أكدت له مكانة مرشده فرجع نادماً يريد متابعة عمله في خدمة الدراويش في الزاوية. لكنه خاف أن يردّه الشيخ فذهب يستشير زوجته التي طلبت منه أن يلقي بنفسه على عتبة بيت الشيخ وينتظر خروجه إلى وضوء صلاة الفجر. ولما كان نظر تبتوك شحيحاً فقد توقعت المرأة أن يمر المرشد على جسد يونُس وعندها فإنه سيسأله من أنت؟: فيجيبه:يونُس؟ قالت له المرأة: إن أجابك بالقول: من يونُس؟ فهذا يعني أن عليك أن تغادر الزاوية ولا تعود إليها أبداً لأن سؤاله يرمز إلى أنه لم تعد لك أمانة لديه. أما إذا أجاب بالقول: «هل أنت يونُس صديقنا؟» فهذا يعني أنه غفر لك تركك الدراويش وأن في إمكانك أن تعود إليه. وقد عمل يونُس بنصيحة زوجة الشيخ وألقى بنفسه على عتبه دار شيخه، وبالفعل تعثر به الشيخ الشحيح النظر لدى خروجه إلى الوضوء فسأل: من أنت فقال له الشاعر: يونُس. أجاب الشيخ بالقول: «هل أنت صديقنا يونُس؟» عندها فرح الشاعر كثيراً وذرف دمع الشكر وعاد إلى الزاوية خادماً للدراويش متابعاً عمله في قطع الحطب والقيام بالأعمال الأخرى في خدمة الزاوية.
ويعتبر البعض أن قصة ترك يونُس للزاوية ثم توبته وعودته إليها قد تكون أيضاً موضوعة على سبيل الرمز لصعوبة الطريق والمنزلقات الكثيرة التي قد يسقط فيها المريد ومخاطر الملل وضعف العزيمة التي تواجه الكثيرين فتقطعهم عن المسار الطويل.

شعره وفلسفته
يعتبر شعر يونس أمرِه مزيجاً من روحانية الشعر الصوفي المتعارضة مع تشدد الاصولية الدينية والمؤسسة الدينية الرسمية ومن الروح الإنسانية التي شكلت ربما إحدى خصائص التسامح الديني في الأناضول في تلك الفترة من الزمن وانعكست في شعر متصوفة عظام مثل جلال الدين الرومي ويونُس أمرِه. وقد عظَّم هؤلاء الشعراء الصوفيَّة قدر الإنسان باعتبارها مظهر وجود الحق وعبروا عن رؤية إنسانية عميقة تقوم على المحبة الشاملة وعدم التمييز بين شعب وآخر والتسامح ورفض الظلم والعنف وإصدار الأحكام حتى على الخطائين داعين إلى خُلُق العفو والصفح من قبيل التخلق بأخلاق الله تعالى وأولها الغفران والرحمة.
ومثّل شعر أمرِه تحدياً لممثلي التفكير الديني المتزمت واعتبره العديد منهم خارجاً عن النهج الديني القويم واستغرب البعض الآخر جرأته في تعظيم الإنسان ووضعه المحبة والعدل والأخوة الإنسانية في مكانة أعلى من التدين الشكلي المفتقد إلى الرحمة والمحبة الإنسانية. لكن أمرِه لم يتزحزح عن رؤيته السباقة والواضحة التي جعل فيها الدين محبة وأخوة في الإنسانية وتخلقاً بالحلم والأدب الرفيع وتضحية من أجل الآخرين وإحساناً وبساطة وفقراً. بذلك استحق هذا الشاعر الذي لا نعرف سوى القليل عنه شهرة لم يبلغها إلا القليل من شعراء الصوفية في جميع الأزمان.
في القسم التالي من هذا المقال، نورد مقاطع من شعر يونُس أمرِه تظهر بوضوح معاني اختباره الروحي وتقدّم مثالاً عظيماً لزماننا الحاضر المبتلى بكل أشكال العنف والتوحش والعصبية الجاهلية. وقد قمنا بتعريب المقاطع الشعرية من الترجمة الإنكليزية لشعره الأصلي باللغة التركية وحرصنا كل الحرص على أن تحتفظ تلك التعابير الشعرية بمعناها ونبضها الأصلي.

(رئيس التحرير)

من شعر يونس أمرِه

صورة-تخيلية-للشاعر
صورة-تخيلية-للشاعر

1. إذا كنت عاشقاً حقاً
كل أهل هذا الكون الواسع يعشقون هذا الذي نعشقه
إذا كنت عاشقاً حقاً فكن صديقاً لصديق الصديق1
وإلا فستكون ظالماً لصديقك إن بقيت على حالك

إذا كنت عاشقاً حقاً فابذل نفسك لجميع الخلق
لكي يقتنع أهل العشق بأنك مخلص في سعيك
وإن كنت حقا عاشقا لربك فإنه سيفتح لك الأبواب

اترك هذا الفخر الأجوف ومزِّق أناك الفظة حتى القلب
الحاكم والمحكوم المطيع والعاصي كلهم عبيد لله
لقد حفظ يونُس جيداً هذه الكلمة من الكنز المخفي:
عاشقو الحبيب لا يكترثون بهذا العالم ولا بالعالم الآخر

2. بحر العشق
أيها الصديق الحبيب دعني أغوص في بحر العشق
دعني أغرق في ذاك البحر وأسير على الماء
دع العالَميْن يصبحان ملعبي

دعني أصبح العندليب الذي يشدو
وروحاً منعتقة من رغائب ذلك الجسد الميت
دعني أدفن رأسي في يدي هاتين
دعني آخذ طريق الوحدانية وأسير فيه

3. رأيت وجه المحبوب
حمداً للسماء لقد رأيت الوجه العذب للمحبوب2
وشربت مدام لقاء الأحبة من يديك
يا لسوء حظي إذ أغادر هذه المدينة
وأمضي بعيداً

ها هو يونُس يتقلب في عذابات العشق
بين جميع العذابات أصعبها احتمالاً عذابه
لكن سقمي له دواء ودواؤه الوحيد لديك
وإني أحيل نفسي رماداً من أجل ذلك الدواء

إذهب وأخبر العاشقين في كل مكان
بأنني أنا الذي بذلت روحي في العشق
أصبحت مثل طير بري يحلق بنار الشوق
وأنا أسرع الطيور غوصاً في سماء المحبين

من أمواج البحر آخذ الماء
وأنثره في كل أنحاء السماء
بخشوع التسبيح ارتفع في الفضاء مثل غمامة
انا ذاك الذي يطير إلى السماوات العلى

4. أسمي يونُس وقد أضعت عقلي
كل من قال رأيت لم ير وإن أقسم أنه رأى
وذاك الرجل لا يعرف رغم زعمه أنه يعرف
وحده الواحد هو الذي يعلم ويظهر علمه
أما أنا فإني ذاك الذي أصبح عبداً للعشق

للعاشقين الصادقين هذه الأرض جنة
والذين يعرفون يجدون فيها صروحاً وقصوراً
يهيمون ذاهلين خاشعين مثل النبي موسى
أما أنا فأمكث بحبور فوق طور سيناء

إسمي يونُس وقد أضعت عقلي
العشق وحده أصبح دليلي حتى آخر الطريق
وحيداً في سبيلي إلى الصديق العظيم
أسير وأقبّل الأرض ثم أصل

5. إبحث عنه في داخلك
الله الحي القيوم في كل شيء
لكنه لا يكشف حقيقته لأحد
أفضل لك أن تبحث عنه في داخلك
أنت وهو لستما منفصلين بل أنتما واحد

العالم الآخر لا تدركه الحواس
أما هنا على الأرض فعلينا أن نعيش واقفين
المنفى حنين وعذاب واضطراب فكر
ولا أحد يعود بعد أن يغادر هذا العالم

تعال يا صاح فلنكن أصدقاء ولو لمرة
لنجعل الحياة سهلة وهنيئة لنا
لنكن عاشقين ومعشوقين
فهذه الأرض لن يرثها أحد

ما يقوله يونُس لك شديد الوضوح
ومعناه يصل إلى أذن قلبك:
علينا جميعاً أن نحيا حياة طيبة هنا
لأن لا أحد سيعيش إلى الابد

6. ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
إسمعني جيداً أيها الصديق
العشق مثل شمس ساطعة
أما القلب الذي لا يحب
فهو مثل صخر أصم

ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
رغم أن الحديث يبدأ ناعماً
فإن كلمات السم سرعان ما تثور
وتنقلب سريعاً إلى حرب

الروح المصابة بالعشق تحترق
وتذوب في احتراقها مثل الشمع
أما قلوب الصخر فإنها مثل الشتاء
مظلمة وقاسية لا دفء فيها

أهل الحقيقة رجال الله هم مثل المحيط
وعلى العاشقين أن يغوصوا في ذلك البحر
وحتى الحكماء عليهم أن يغطسوا فيه
لكي يخرجوا بأنفس الجواهر

لقد توجهنا إلى أولئك الحكماء ثانية
لكي نأتي بالجواهر من الأعماق
الصائغ وحده يعلم
كم هي نفيسة تلك الكنوز

لقد بحث محمد عن حقيقة الله
فوجد الله في حقيقة ذاته
الله موجود في كل مكان
لكن لا بدّ من عين مبصرة لكي تراه

حكماء الحقيقية يؤلفون الكتب
حبراً أسود على أوراق بيضاء
لكن جميع فصول كتابي مكتوبة
بمداد قلوب العاشقين

7. أنا هنا من أجل الحب
لم آت إلى هذا العالم لكي أقيم فيه
بل دخلته لكي أغادره
أنا تاجر ولدي الكثير من البضائع
أبيع لأي إنسان يرغب في الشراء

لم آت إلى هذا العالم لأثير المشاكل
أنا هنا من أجل الحب لا غير
القلب بيت مريح للصديق
أتيت لأشيد بعض القلوب
وأشعر بالثمالة من تلك الصداقة

أي عاشق حقيقي سيعرف أي حال انا فيه
جئت لكي أبادل إثنينيتي
ولكي أزول في الواحد
إنه مرشدي وأنا مريده

أنا العندليب في حديقته
وقد جئت إلى حديقة المرشد
لكي أفوز بالفرح وأموت شادياً

يقولون إن أرواح المحبين هنا
تعرف بعضها هناك
ولقد جئت لكي أكون محباً لأستاذ
وأعرض عليه نفسي كما هي

8. وحشة المنفى
أهيم على وجهي هل من أحد هنا؟
هل من غريب هنا تائه كحالي
بقلب جريح وأعين تذرف الدمع
غريباً مستوحداً كحالي؟

لا يكونن أحد غريباً وحيداً مثلي
فيذوي باكياً في وحشة المنفى مثلي
أيها المعلم آمل أن لا يكون أحد
غريباً مستوحداً كحالي

سيقولون يوماً : لقد مات ذاك الغريب المحزون
وسيعرفون ذلك بعد ثلاثة أيام
سيجدونني ويغسلون جدثي بماء بارد
غريباً مستوحداً كحالي

لا عون ليونُس ولا إشفاق
ولا دواء لمصيبته
هائماً من مدينة إلى مدينة
غريباً مستوحداً كحالي

9. كل ايامي ستصبح أعياداً
أمرغ وجهي في التراب
قمري3 الجديد سيرتفع في السماء
وسيصبح الشتاء والصيف ربيعاً
كل أيامي ستصبح أعياداً

لن تلقي أي غيمة بظلها
على الأنوار المشعة لقمري
إنه بدر مكتمل ولن يطاله الشحوب
وشهب أنواره صاعدة بين السماء والأرض

أرى قمري الآن أمامي على الأرض
فما الذي سأفعله بهذه السماوات
مطر الرحمة ينهمر علي
من هذه الأرض4 التي أسمر عليها ناظري

ماذا لو كان يونُس عاشقاً؟
كثيرون هم عاشقو الله
ويونُس أيضاً يطأطئ رأسه
لأن عاشقي الله تذيبهم نار العشق

10. إن أخبرتك عن أرض للحب
إن أخبرتك عن أرض للحب
هل ستتبعني يا صديقي وتأتي معي؟
في تلك الأرض توجد كروم عنب
تنتج خمراً قاتلاً
لا يمكن لكأس أن تحمله
هل ستتجرع ذلك الخمر كشفاء؟

في تلك الأرض على الناس أن يجاهدوا أنفسهم
هل ستقدم أحلى المشروبات للآخرين
وتبقي الشراب المر لنفسك؟

لا توجد في تلك الارض أقمار ولا شموس
لا كواكب هناك تنمو بدوراً ثم تضمحل
هل ستسلم هناك كل خططك
وتنسى فنون الغواية؟

هنا على هذه الأرض نحن جُبلنا
من الماء والتراب والنار والهواء
يونُس أخبرنا: هل هذا حقاً ما صنعت منه؟

إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر
إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر

11. لا تتباه بعلمك
أن تعرف يعني أن تعرف الكل
المعرفة هي أن تعرف نفسك القلب والروح
إن لم تفلح في أن تعرف نفسك
فإن كل ما تقرأه سيطيش بك عن الهدف

ما الهدف من قراءة كل تلك الكتب؟
هو أن يتوصل الإنسان إلى معرفة الواحد الجبّار
فإن قرأت لكنك أخفقت في أن تفهم
فإن كل تلك القراءات ستكون جهداً بلا فائدة

لا تتباه بقراءتك أو تبحرك في العلوم
أو بصَلاتِك أو بعباداتك الأخرى
إن لم يتحقق لك أن الإنسان هو وجه الحق
فإن كل ما تتعلمه لن تكون فيه أي فائدة لأحد

سر معنى الكتب السماوية الأربعة
تجده في أول حروف الأبجدية
أيها الواعظ أنت تتحدث عن ذلك الحرف الأول
هل يمكنك أن تقول لي ما هو معناه؟

يونُس أمره يقول لك أيها المتفقه
يمكنك إذا شئت أن تحج إلى مكة
مئات المرات لكن إن سألتني سأقول لك
إن زيارة أحد القلوب هي الأفضل بالنسبة لي

12. ثروة السالك هي الفقر
دع الأصم يستمع إلى الأبكم
لا بدّ من روح لكي تفهم كلامهما

لقد فهمنا كل شيء بلا استماع
وبلا فهم قمنا بكل ما هو مطلوب

ثروة السالك في هذا الطريق الفقر
عشقنا وأصبحنا عاشقين
ثم أصبحنا معشوقين أيضاً
عندما تكون الحياة في فناء لحظة بعد لحظة
من يملك الوقت الكافي ليشعر بالضجر؟

لقد قسم الله أمته إلى اثنين وسبعين لغة
فقامت الحدود بين الممالك
لكن الفقير يونُس يملأ الارض والفضاء
وتحت كل حجر يختبئ موسى

13. عندما يرفع الحجاب
لتذكر اسم الله في جميع الأوقات
ثم فلتنظر ما الله فاعله
لتأخذ الطريق على الدوام
فلتنظر ما الله فاعله

عندما يكون ذلك آخر ما تتوقعه
فإن الحجاب يُرفع فجأة
ويأتي الترياق في الوقت المطلوب
فلتنظر ما الله فاعله

ماذا فعل يونُس؟
ماذا فعل؟
لقد وجد صراطاً مستقيماً
وأمسك بيد مرشد كامل
فلتنظر ما الله فاعله

14. الروح ضيف الجسد
حياتي الآفلة جاءت ثم ها هي ذاهبة
مثل ريح يهب ّعليك ثم يمضي
الآن أشعر كم أنها كانت قصيرة
كأنها لم تكن أكثر من ومضة عين

لقد نطق الرب بالحق
إذ قال إن الروح هي ضيف الجسد
وإنها يوماً ما ستغادر الضلوع
وتحلق مثل عصافير حررت من أسر القفص

انظر إلى الحياة يا صديقي
كأنها حقل زرعه الفلاح
بذور ملقاة في كل زوايا التراب
بعضها سينبت وبعضها سيموت

لو تسنى لك أن تعطي الماء
لرجل سقيم يحتاج إلى العناية
فإنه بإذن الله سيلقاك بألف سلام

حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره
حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره

15. شريعتنا
شريعتنا ليست مثل بقية الشرائع
وعقيدتنا فريدة ولا مثيل لها
بين العقائد الإثنتين والسبعين
علامات مختلفة تقودنا في الطريق
في هذا العالم وفي العالم الآخر

دون تطهر بالماء الظاهر
بلا أي حركات من اليدين أو الرجلين أو الرأس
نعبد الله مخلصين له الدين

سواء وقف الناس في الكعبة أو الجامع او الصلاة الجامعة
فإن كلاً منهم يحمل أمراضه
في أي مقام أو منزلة يقف كل من هؤلاء
الله وحده يعلم
وفي الغد سيُعرَف من الذي ترك الدين
يونُس، جدد روحك وليتذكرك الناس كصديق
تمسك دوماً بهذه القوّة:
استمع دوماً بأذني القلب

16. ملاك الموت
لا علم لنا من منا الذي يأتي دوره
بينما الموت يسرح طليقاً بيننا
يقطف حياة الناس كما لو كانت بستانه
ينتقي ويقطع من شجرة الحياة من يريد

ها هو يسحق الناس
ويلوي ظهورهم من الحزن
ويجعل الألوف يذرفون دموع الفجيعة
وهو الذي يحيل الضياع والممالك قفاراً
ولا ينيبه من ذلك أي ندم
يضرب بقوة ويعتصر الحياة من هامات الرجال

قبل أن يهرم الأبطال وتنحني ظهورهم
يرميهم الموت بسهم ويرسلهم إلى القبر
يأتيهم بغتة فلا مبلِّغ ولا نذير
عيناه تلتمعان سروراً بفنون المكر

17. سكان القبور
اجتزت في سفري بلاد الله الواسعة
ورأيت أقواماً كثيرة في القبور
القوي والضعيف يرقدان هناك
ومن كانت ترتعد لمرآهم القلوب

بعضهم كانوا كهولاً
وبعضهم يافعين أبطالاً
بعضهم وزراء أو معلمين
كلهم ذهبوا
وقد لف الليل أيامهم المُنَّورة
ها هم هنا يرقدون أسياداً وعبيداً
كلهم سلكوا أخيرا الصراط المستقيم للموت
لقد حملوا القلم وخطوا بيدهم صحفاً
وأنشدت ألسنتهم مثل العندليب
لكنهم تحت التراب يرقدون الآن
حكماء وصناديد

القوي البطاش والضعيف كلهم يبكون
عندما قضى أولئك القادة الأبطال
إنكسر قوس القتال على قبر كل منهم
وسقط الشجعان مثل السهام الطائشة

كانت جيادهم تثير سحب الغبار الهوجاء
وقارعو الطبول يسيرون في أثرهم
وقد اعتزت البحار والبراري بعظمتهم
لكن هؤلاء الأمراء يبيتون الآن
في كهوف الموت المعتمة

18. مسلك الدراويش
من أنعم الله عليه بمسلك الدراويش
ليتوقف كل عمله وليسطع بالنور

فليصبح نَفَسُه مسكاً وعنبراً
ولتجمع القرى والدساكر
الثمار الطيبة من أغصانه

فلتصبح أوراقه عشباً شافياً لكل عِلَّة
وليحصد الناس نيل الأرب في ظلاله
لتصبح دموعه ينبوعاً رقراقاً
ولينبت قصب الناي بين أصابع قدميه

وبين جمهرة الشعراء وطيور العندليب
في حديقة الصديق الأعظم
سيكرج يونُس مثل طائر الحجل.

مقالات ثقافية