كتاب «دور الدروز في المنطقة: 1842 – 1958» للمؤرّخ الرّاحل الدكتور عباس أبو صالح (1943 – 2011)، صادر عن دار نيلسن في بيروت عام 2017 باللغة الانكليزية بعنوان: The Role of The Druze in the Region (1958 – 1842) هو موضوع هذه المراجعة. يناقش المؤلّف في كتابه ويدرس دور طائفة الموحّدين الدّروز في المنطقة خلال مئة سنة تقريباً، ابتداءً من العام 1842، غداة الحرب الأهليّة الطائفيّة الأولى الكبرى التي اشتعلت في جبل لبنان بين الدروز والموارنة، وصولاً إلى العام 1958 يوم اندلعت الثورة الشعبيّة في وجه كميل شمعون – رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك في غير منطقة لبنانية، ولا سيّما في مناطق الجبل، بسبب سياسته الداخلية والخارجية.
يُقْسَم الكتاب إلى أربعة أقسام، إضافة إلى مقدَّمة وخاتَمة وعدد من الوثائق الأجنبة التي كانت بعض ما استند إليه البحث، وذلك على الشّكل التالي:
القسم الأوّل: الدّروز في لبنان،
القسم الثاني: الدّروز خلال الحرب العالميّة الأولى وبعدها،
القسم الثالث: الدّروز وأبطال الاستقلال اللبناني،
القسم الرابع: (كمال جنبلاط) أمير الدّروز غير المُتَوَّج والأزمة السياسية في خمسينيّات القرن العشرين.
قبل الدّخول في استعراض مُفَصّل لهذا الكتاب القيّم وفقاً للتقسيم الذي أراده المؤلف، ومن خلال قراءتنا الكاملة له، لا بدّ من التوقّف هنيهةً أمام الإتقان والدقّة والاتّزان الذي يتحلّى به الكاتب، فتراه يروي كلّ أحداث تلك المرحلة بطريقة موضوعية تخلو من أيّة مُجانبة أو ممالأة أو مُحاباة سواء لهذا الطرف أو ذاك، حتى ولو كان أبناء جِلدته هم أحد طرفيّ كل حدث أرّخ له الكتاب، فلم تأخذه غفلةٌ أو نشوةٌ أو ألم، بل حافظ على اتّزانه وموضوعيّته، وكان ينظر إلى سائر الأحداث والوقائع نِظْرة العالِم المحايد والمؤرّخ المدقّق والأكاديمي العريق، فما انحاز إلاّ للحقيقة ولو كانت ضد أهله وأبناء قومه، وما انتصر لسواها على الإطلاق.
لكنّ الملاحظة البارزة التي يخرج بها القارئ، وتراها ترافق سائر الأحداث التي شهدتها هذه المنطقة، أنّ الموحدين الدّروز كانوا باستمرار يحافظون على هُوِّيِّتهم الدينيّة ويؤكّدون على إخلاصهم لأُصولهم العربيّة.
الموحدون الدروز، على الرّغم من عددهم القليل نسبيّاً، قد لعبوا دوراً هامّاً في تاريخ المنطقة، إذ كانت مهمّتهم العسكرية التي كُلِّفوا بها حماية الواجهة البحريّة الغربية للدولة العربية – الإسلامية.
الدّروز في لبنان
في عرضه لتاريخ الدّروز في لبنان، في القسم الأوّل من الكتاب، يعود بهم الدكتور أبو صالح إلى أصولهم العرقيّة العربيّة وبداية هجرتهم من جنوب الجزيرة العربية إلى الحيرة في العراق شمالاً، ثم إلى المعرّة في شمالي سوريا في القرن الثامن، وليستقروا أخيراً في منتصف القرن الحادي عشر في جنوبي جبل لبنان ووادي التّيم، وليتمدّدوا مع مرور الزمن الى حوران والجَولان في جنوب سوريا والجليل الأعلى في شمال فلسطين.
والموحدون الدروز، على الرّغم من عددهم القليل نسبيّاً، قد لعبوا دوراً هامّاً في تاريخ المنطقة، إذ كانت مهمّتهم العسكرية التي كُلِّفوا بها، وهي حماية الواجهة البحريّة الغربية للدولة العربية – الإسلامية. فاستمرّ التنّوخيّون الدروز، على حد تعبير أبو صالح، لمئتي سنة في الخطوط الأمامية بمواجهة الحملات الصليبيّة. وكانت عائلة بُحْتُر التّنوخيّة تحتفظ بمركز القيادة بين العائلات الدرزية الأخرى، وتحافظ على علاقات متينة مع مختلف الحكّام المسلمين في الشرق الإسلامي وذلك بسبب دورها العسكري البارز وبسبب ولائها السياسي للسّلالات الإسلامية الحاكمة لأكثر من أربعمئة سنة لحين انتهاء عهد المماليك في بداية القرن السادس عشر. وهكذا استمرّت الإمارة التَّنوخيّة – الدّرزية ما بين العامين (1147-1516) وامتدّ نفوذها من طرابلس شمالاً إلى صفد جنوباً. ومع انتقال المنطقة إلى الحكم العثماني، استمرّ الدروز في حكمهم للبنان ضمن الإمارة المعنيّة الدرزية (1517-1697) التي شهدت ذروة قوتها مع الأمير فخرالدين المعني الثاني، الذي وحّد اللبنانيين من مختلف الطوائف وسهّل قدوم الكثير من المسيحييّن من شمال لبنان والتوطن داخل الإمارة الدرزيّة، ويُعْتَبر المؤسّس الحقيقي لفكرة الدولة اللبنانيّة المستقلّة.
وهكذا، يستنتج الدكتور أبو صالح، أنّ هجرة الدروز الأوائل إلى لبنان في القرون الوسطى قد حصلت بطريقة طوعية ولأسباب سياسيّة واستراتيجيّة عسكريّة قررتها الدولة العربية – الإسلامية آنذاك. كما يفترض أبو صالح أنّ إخلاص الدروز السياسي للدولة العربية الإسلامية في مختلف مراحلها بالتوازي مع كفاءتهم العسكرية وتضحياتهم خلال تلك الحقبة من الزمن قد منحتهم نوعاً من المناعة تجاه تعرّضهم للاضطهاد وتهجيرهم إلى أماكن أُخرى في الشرق. إلّا أنّ الهجرة الدرزية سيُقَدّر لها أن تحدث لاحقاً خلال القرن الثامن عشر جزئياً إلى حوران بسبب خلافاتهم السياسية الداخلية في ما بينهم (بين القيسيين واليمنيين) إبّان حكم الشهابيين، الذين اختارهم الدروز أنفسهم بعد وفاة الأمير أحمد المعني دون وريث، كونهم أنسباء للمعنيين. وبانتقال الحكم إلى الأسرة الشهابية السنّية التي كانت تقطن حاصبيّا، وبالأخص في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني (1788-1840) الذي اعتنق الدين المسيحي، والذي عمل على إضعاف الدروز، فعرفت البلاد صعوداً بارزاً للكنيسة المارونية مقابل تراجع مُتَعمّد في دور الدروز سيبلغ ذروته بأحداث العام 1860 رغم رجحان كفّتهم العسكرية في تلك الأحداث.
ساهم تدخل الدول الأوروبية في شؤون لبنان والدولة العثمانية عموماً في تغيير موازين القوى بين اللبنانيين. فعلى أثر وصول القوّات الفرنسيّة إلى بيروت لنُصرة المسيحييّن وتأديب الدروز، وبازدياد الضغوط التي مارستها السلطات العثمانية عليهم، سيشهد جبل لبنان هجرة عدد لا يستهان به من الدروز وعائلاتهم الى حوران لينضمّوا إلى الذين سبقوهم في الهجرة إلى هناك بعد معركة عين داره بين القيسييّن واليمنييّن سنة 1711. وهكذا وبعد تأسيس حكم المُتَصرِّفية لحكم لبنان على أنقاض نظام القائم مقاميتين الذي كان معمولاً به، وكان على رأس المتصرّفية مُتَصرّف مسيحي، خسر معها الدروز موقعهم التقليدي المُسيطر في جبل لبنان لمصلحة الموارنة.
قابل تراجع سلطة الدروز في جبل لبنان، وهجرة الكثيرين منهم إلى حوران، توثيق علاقاتهم بدروز حوران الذين كانوا يسلّمون قيادتهم لآل الأطرش، الذين سبق وشاركوا دروز جبل لبنان ووادي التّيم في حوادث الستينيّات تلك. لكنّ الفرنسيين والعثمانيين قرّروا إخضاع الدروز في جبل حوران وفرض الضرائب والتّجنيد الإجباري عليهم، لا سيّما وإنّ هذا الجبل أصبح موئلاً للدروز الهاربين من ظلم العثمانيين أو الذين فقدوا سلطتهم في جبل لبنان. وهكذا اشتدّ عَضُدُهم هناك، ولا سيّما بقيادة شبلي الأطرش وخاضوا عدة مواجهات عسكريّة مع العثمانيين لمنعهم من السّيطرة على جبل الدروز أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أدّت تلك المواجهات إلى فقدان الثقة بين العثمانيين والدروز، والتي ستظهر أكثر في الانحياز الكامل للدروز إلى الثورة العربية ضد الأتراك خلال الحرب العالميّة الأولى.
الدروز خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها
يَعْتَبر الدكتور أبو صالح أنّ اندلاع الحرب العالميّة الأولى شكّل نقطة فاصلة في تاريخ سوريا عموماً والمجتمع الدرزي فيها خاصةً. وفي الوقت الذي كان فيه دروز جبل لبنان يعانون المجاعة، كان دروز جبل حوران ينخرطون في الصراع الدائر بين العثمانييّن ودول المحور من جهة ودول الحلفاء من جهة ثانية. وفي حين كان الطرفان بحاجة لقمح حوران، قام الأتراك، ورغبة منهم بإظهار حسن النيّة تجاه الدروز بإعفائهم من التجنيد الإجباري ومن الضرائب. لكنّ الدروز لم ينسَوْا قُسْوة العثمانيين عليهم، فرَأَوْا في الشريف حسين مُخَلّصاً، بينما فضّل فريق آخر منهم الإبقاء على علاقة طيّبة معهم؛ فقاد سلطان باشا االأطرش الفريق الأوّل وسليم لأطرش الفريق الثاني. أمّا المُثَقّفون من دروز لبنان، فقد انغمسوا في السياسة بصورة فعّالة، وانضمّ بعضٌ منهم إلى حركة إصلاح الامبراطورية العثمانيّة أو إلى الحركة القوميّة العربية مثل الأميرين شكيب وعادل أرسلان وعارف بك النكدي. في حين كان فؤاد سليم أوّل ضابط درزي ينضمُّ إلى الثورة العربية، وكذلك سلطان الأطرش الذي قاد ثلاثمئة مقاتل درزي إلى ساحة المعركة لقتال الأتراك في معركة بصرى – الشام، حيث تمكّن من هزيمتهم وتقدم الى دمشق قبل وصول قوات الشريف حسين اليها. كذلك يوسف الحكيم
وزير الشهير في حكومة الأمير فيصل العربية، والذي ذكر في مذكراته أنّ دروز حوران كانوا الأكثر اندفاعاً وحماسة لوحدة سوريا تحت حكم الأمير فيصل وقاتلوا الأتراك في العديد من الأماكن. وهذا الأمر انسحب على دروز حاصبيّا وراشيّا الذين أعلنوا تأييدهم لحكومة فيصل العربية. وكذلك الأمر فقد أعلن دروز جبل لبنان، بفريقيهم الجنبلاطي واليزبكي تأييدهم لفيصل، وكان الأمير عادل أرسلان أكثر المقرّبين منه. لكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى خابت آمال القومييّن العرب بتأسيس دولة عربية مستقلة من خلال البدء بتطبيق اتفاق سايكس – بيكو السِّرِّي الإنكليزي – الفرنسي. ووفقاً لهذا الاتّفاق، شنّ الفرنسيّون هجوماً ناجحاً على جيش فيصل العربي وهزموه في معركة ميسلون الشهيرة وأنهَوْا بذلك الحكم العربي في دمشق. أمام هذا الوضع اجتمع دروز الجبل المؤيدون للحكم العربي في السويداء لتنظيم الدفاع عن دمشق، إلّا أنّ خروج فيصل إلى درعا، ومنها إلى حيفا أفسد مُخطط الدروز.
ومع إدراكهم للأهمية الاستراتيجيّة لجبل الدروز، حاولت سلطات الانتداب الفرنسيّة أخذ موافقة زعماء الجبل على مُخطَّطهم لتقسيم سوريا إلى أربعة دول طائفية من ضمنها دولة درزية في جبل الدروز. وعلى الرغم من قبول بعض وجهاء جبل الدروز للعرض الفرنسي وعلى رأسهم سليم الأطرش، في حين أنّ فريقاً كبيراً من الدّروز كان معارضاً من حيث المبدأ للانتداب الفرنسي، وكان يشجّعه في ذلك دُعاة القوميّة العربية كسلطان الأطرش في سوريا، ورشيد طليع وعادل أرسلان وفؤاد سليم في لبنان.
لكنّ الحدث الأكبر في مواجهة الفرنسييّن سيكون ثورة سلطان الأطرش في تموز 1922حماية لضيفه الشّيعي من جنوب لبنان أدهم خنجر المُتّهم بمحاولة اغتيال المُفوّض السامي الفرنسي غورو. فنجح سلطان والثوّار في مواجهاتهم الأولى مع الفرنسيين، ومن ثمّ هَزْمُهم للحملة الفرنسيّة في قرية الكفر في 21تموز 1925 وواصلوا هجومهم إلى السويداء، حيث تراجع الفرنسيّون وجرى حصارهم في قلعة المدينة، ومن ثمّ تصدّى سلطان ورجاله لحملة فرنسية كبيرة في محلَّة المزرعة وأنزلوا بهم هزيمة كبرى وقتلوا المئات منهم. أعطى هذا الانتصار الثورة الدرزية أبعاداً تجاوزت حدود الجبل، خاصّة في بيروت ودمشق، ولا سيّما بعد أن أذاع سلطان نداءه الشهير الذي يدعو فيه جميع السورييّن للانخراط في الثورة.
لكنّ الفرنسيين جرّدوا حملة أخرى كبرى تمكنت من هزيمة الثوار في سهل المسيفرة، وتقدمت إلى السويداء. ورغم الدّمار الواسع للقرى الدرزية ومقتل الكثير من الرّجال، إلاّ أنَّ ثورة الدّروز تمكّنت في النهاية من إفشال المخطّط الفرنسي لتقسيم سوريا وأجبرت الفرنسيين في النهاية على منحها الاستقلال. وبعد أن وقّع القادة السوريّون مع السلطات الفرنسية اتفاقية باريس 1936 التي أقرت باستقلال سوريا، جرى في العام 1937 في دمشق استقبال حافل لسلطان باشا الأطرش ورفاقه لم تشهد المدينة مثيلاً له.
يقول الدكتور أبو صالح إنّ سوريا بعد نيلها الاستقلال، وبعد عدم انتظام الوضع الداخلي لأسباب متعدّدة، ولمّا كان للدروز دور هام في حكومات ما بعد الاستقلال نظراً لدورهم في تحقيق الاستقلال، سيتعرّض جبل الدروز لهجوم عنيف أثناء حكم الشيشكلي. فقد جرّد أكثر من عشرة آلاف جندي لاحتلال الجبل، مدمّراً القرى والبيوت وقتل الكثيرين. ويقول أبو صالح إنّ هدف الهجوم كان إزالة دَوْر سلطان باشا الأطرش كأيقونة وطنية، وضرب آل الأطرش وإزالة التأثير الدرزي على السياسة الوطنية في سوريا.
الدروز وأبطال الاستقلال في لبنان
تناول الدكتور أبو صالح استقلال لبنان منذ إعلان الجنرال كاترو، نيابة عن الجنرال ديغول في 8 تموز 1941، عن رغبة فرنسا الحُرَّة في منح سوريا ولبنان استقلالهما مدعوماً من بريطانيا، إلى حين تحقُّق الاستقلال اللبناني فعليّاً في العام 1943. لكنّ تسويف الفرنسيين ومحاولاتهم التهرُّب من هذا الالتزام، أطلق ما سُمِّي بأزمة الاستقلال، التي تمثَّلت باعتقال مُعظم رموز الدولة اللبنانية في قلعة راشيا، والدور المحوري الذي لعبه الأمير مجيد أرسلان في هذه الفترة. فلدى لجوء من تبقّى من حكومة الاستقلال إلى قرية بشامون، محاولة الفرنسيين مهاجمة البلدة، جرى تعبئة أعداد كبيرة من المواطنين الدروز لحماية الحكومة، فسقط شهيد الاستقلال الأول سعيد فخر الدين من أبناء بلدة بشامون أثناء التصدّي للفرنسيين في بلدة عين عنوب القريبة من بشامون. دفعت هذه التطوّرات إلى إعلان إضراب واسع في جميع أنحاء البلاد، إلى حين تدخّل بريطانيا وإنذارها الفرنسيين لإطلاق المُعتقلين وإتمام عمليّة الاستقلال. فجرت الأمور من ثمّة على ما يرام، وأطلق على الأمير مجيد أرسلان يومها لقب بطل الاستقلال.
أزمة الخمسينيّات السياسية
يتناول الدكتور أبو صالح في القسم الأخير من الكتاب تقلّبات السياسة اللبنانية بُعيد الاستقلال، والفساد الذي ضرب إدارة الرئيس بشارة الخوري، والمعارضة القوية له من كثير من الشخصيّات اللبنانية، ولا سيّما من الجبهة الاشتراكيّة التي تشكّلت من شخصيّات مُعارضة برئاسة الزّعيم كمال جنبلاط.
ففي العام 1952، تعرّض لبنان لأزمة اقتصادية فشلت حكومة سامي الصلح في مواجهتها، واندلعت المظاهرات كنتيجة للبطالة وغلاء المعيشة والفضائح التجارية. كما ازدادت الشكوى من الضغوط السياسية والرّشوة والفساد وانعدام الشفافية في الإدارة عموماً. فتمكنت المعارضة من إسقاط الرئيس الخوري وانتخاب نائب رئيس الجبهة الاشتراكية كميل شمعون رئيساً للجمهورية.
لكنّ وصول شمعون إلى الرئاسة لم يؤدِّ إلى استقرار الأوضاع الداخليّة، ولم يحصل التغيير على النّحو الذي توقعه اللبنانيون. بل ازدادت الانقسامات السياسية وتعمقت لأسباب مختلفة ومتعدّدة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي. فالتعدّدية الطائفية أصبحت نقمة على لبنان، بحيث أنّها استُخدمت لضرب الوحدة الوطنية ولتسهيل فساد الإدارة وتخريب علاقات لبنان العربية والخارجية. يُضاف إلى ذلك، الخلافات الشخصية وعدم تصرّف المسؤولين كرجال دولة، والارتباطات التي وُسم بها كثيرون من سياسيي لبنان. أمّا الأسباب الخارجية فقد لعبت دوراً هاماً وسبباً مباشراً للانقسامات والتوتّرات بين اللبنانيين. وفي هذا المُناخ كانت تدور سياسة لبنان خلال ولاية الرئيس كميل شمعون والمعارضة الشّرسة التي تزعّمها كمال جنبلاط.
لكنّ رغبة كميل شمعون بتعديل الدستور لتمكينه من إعادة انتخابه رئيساً لمرّة ثانية، دفعته إلى ممارسة مختلف أنواع الضّغط والتدخل وتزوير انتخابات العام 1957 ليحصل على أكثرية نيابية، ما أدى إلى سقوط مُعظم رجال المعارضة وعلى رأسهم كمال جنبلاط. شكّلت هذه الانتخابات عاملاً إضافيّاً لازدياد التوتّر في البلاد، إضافة إلى عوامل أخرى، يَعتبرها أبو صالح كانت السبب لأزمة العام 1958 التي انتهت باشتعال الثورة على كميل شمعون. فمن هذه الأسباب: الشّكوى الاقتصادية – الاجتماعية للمسلمين اللبنانيين التي تضمّنت حرمان المناطق الإسلامية من أبسط المساعدات الاقتصاديّة وعُزلتها الثقافية، عدم الرّضا عن سياسة شمعون الخارجية التي تخالف المبادئ الأساسية للميثاق الوطني، وتزويره للانتخابات الأخيرة.
انتهت الثورة على الرّئيس شمعون بتوافق أميركي – عربي (جمال عبد الناصر) على انتخاب قائد الجيش، ذي السّمعة الطيّبة والمواقف الوطنيّة اللّواء فؤاد شهاب صديق كمال جنبلاط، رئيساً للجمهورية. وهذا ما حصل في 23 أيلول 1958 قبل انتهاء ولاية الرئيس شمعون بعدة أشهر.
يخلص الدكتور أبو صالح إلى أنّ المجتمع الدرزي، رغم الازدهار الذي عرفه في خمسينيّات القرن الماضي، إلّا أنّه لم يستطع تحقيق مكاسب سياسية كبرى بسبب جمود النظام الطائفي في لبنان. لكنّ تأثيرهم السياسي فاق حجمهم العددي كأقليّة، بسبب الدور القيادي الذي لعبه بعض الساسة الدروز على المستوى الوطني مثل الأمير شكيب أرسلان، الأمير مجيد أرسلان و كمال جنبلاط. فكمال جنبلاط على وجه الخصوص، لم يحفظ المركز السياسي التقليدي لعائلته فقط، بل أخذ دور القائد القومي العربي في لبنان وفي الشرق العربي. فقد أيّد الرئيس جمال عبد الناصر ضد الإمبريالية الغربية. وكان مُصلحاً سياسياً، وأسّس الحزب التقدّمي الاشتراكي منذ العام 1949، وتزعم الخط العربي في لبنان بما فيها ترؤسّه للجبهة العربية لدعم المقاومة الفلسطينية، واستمر على الدوام داعماً بقوة للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، كما أحيا في الواقع الدور التاريخي الطليعي للموحدين الدروز في تبني القضايا العربية المشروعة، مثل شكيب أرسلان، عادل أرسلان، سلطان الأطرش وغيرهم من القادة الدروز في الفترة الزمنيّة المبكّرة للتاريخ العربي الحديث. ويتابع أبو صالح بالقول إنّ اغتيال جنبلاط في آذار 1977، شكّل صدمة سياسية للدروز، وللبنان وللعالم. ويستنتج بعد ذلك أنّ الدروز في لبنان توحّدوا خلف قيادة وليد جنبلاط الحكيمة بعد استشهاد والده وتمكنوا من الانتصار في حرب الجبل التي هددت وجودهم فيه، وبسبب من كفاءتهم العسكرية التقليدية ووحدتهم السياسية.
يستنتج الدكتور أبو صالح في النهاية، أنّ تاريخ الدروز السياسي في القرن العشرين بمعظمه قد تقدم من التأييد للعثمانيين بدايةً، إلى تأييد الخط القومي العربي فيما بعد. وبرغم هجرتهم الواسعة إلى مناطق كثيرة في العالم، ومن ضمنها الغرب، فإنّهم حافظوا على خصوصياتهم السياسية والاجتماعية. وبرأيه فإنّ الحفاظ على الصفات الدرزية في المُستقبل يبقى ضروريّاً لبقاء الدروز في عالم يتغيّر بسرعة خلال القرن الحادي والعشرين. والسلام.