الثلاثاء, أيار 7, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, أيار 7, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

هارون الرشيد والعصر الذهبي للخلافة العباسية

الخليفة هارون الرشيد

والعصر الذهبي للدولة العبّاسية

أنشأ إمبراطورية إسلامية كانت الأغنى في العالم
وأطلق أكبر نهضة عمرانية وحضارية في التاريخ

كان يصب الماء بنفسه على أيدي العلماء بعد الطعام.
توقيراً منه للدين وتقديراَ لأهل العلم والفقهاء

خطط الرشيد جديا لشق قناة السويس ثم أحجم
خشية أن يسهِّل ذلك دخول الروم الأماكن المقدسة

ينظر العديد من المؤرخين إلى عهد الخليفة هارون الرشيد باعتباره يمثل العصر الذهبي للدولة العباسية وللدولة الإسلامية التي قامت في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى. بل أحد الكتاب المسلمين رفعه إلى مكانة لا يشاركه بها أحد عندما قال أنه “لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد”
ففي عهد هذا الخليفة الفاتح والمستنير أصبحت الدولة العباسية أكبر الممالك وأغناها على وجه البسيطة كما أصبحت مركز تقاطع الحضارات كلها من أسيوية وفارسية وبيزنطية ويونانية ومصرية، وأصبحت بغداد أكبر وأشهر مدن العالم كما أصبحت في الوقت نفسه أهم مركز للثقافة والعلوم والفنون في العالم.
وشهد عهد هارون الرشيد نهضة شاملة لكل نواحي الحياة بسبب تدفق الأموال إلى خزانة الدولة من أطرافها فعمّ الرخاء والازدهار وتقدمت العلوم والفنون وأنشئت “دار الحكمة” ونشطت حركة النقل والترجمة من الحضارات المختلفة وحصلت نهضة معمارية وحضارية غير مسبوقة فبنيت المساجد والدور والقصور وحفرت الترع والممرات المائية واتسعت رقعة بغداد وبلغ فيها الرخاء وطيب العيش مستويات كانت تدهش الزائرين للمدينة وخصوصا الوفود الأجنبية التي كانت تفد لزيارة الخليفة وعقد الصلات والمعاهدات مع الدولة الإسلامية وقيل أن نحوا من ألف حمام عام كانت تعمل في بغداد في أوج العصر الأول للدولة العباسية.
لكن رغم تلك الانجازات الهائلة فقد كان على الخليفة الرشيد أن يتصدى لقلاقل وفتن كثيرة قامت في وجهه نتيجة لملابسات نشأة الدولة العباسية والتمازج العرقي الواسع الذي قامت عليه وازدهار التشيّع وصحوة العنصر الفارسي والمرارة التي عبر عنها نتيجة للهيمنة السياسية للعنصر العربي، وهذا فضلا عن تعدد المذاهب والتيارات كالمعتزلة الذين أيد الخليفة المأمون (وهو ابن هارون الرشيد) مذهبهم، كل ذلك في دولة أصبحت شاسعة الأطراف ويبعد مركزها كثيرا عن الإمارات والولايات التابعة لها.
لكن رغم كل هذه الظروف فإن الخليفة هارون الرشيد تمكن من قمع الفتن وتوطيد سلطة الدولة الإسلامية وبناء جهاز إداري فعال وجيش كان الأقوى في زمنه والملفت أن انشغال الرشيد بالحروب ضد المتمردين وضد الدولة البيزنطية لم يشغله عن المهمة الأكبر وهي الإشراف على إحدى أكبر حركات العمران والثقافة والنهضة في التاريخ الإسلامي.
فمن هو الخليفة هارون الرشيد وما هي السمات الأهم لعهده والإرث الحضاري الذي تركه للأجيال التالية؟.

لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان
لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان

نسبه ونشأته
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة 148 هـ تولى الخلافة سنة 170 هـ (786 م) وكان عمره آنذاك 22 سنة. وحكم حتى وفاته في العام 194 هـ (809م) ولم يكن عمره قد تجاوز الـ 45 عاما.
كان في سن يافعة عندما ألقى به والده في ميادين الجهاد يرسله في الغزوات على الروم محاطا بقادة أكفاء يتعلم من تجاربهم وخبرتهم، ومن ذلك أنه خرج في عام 165 هـ (781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد مجللاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعِدّ لتولي المناصب القيادية في دولة الخلافة، وعهد به أبوه المهدي بن أبي جعفر المنصور إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وكان من بين أساتذته الكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو والمُفضل الضَبِّي وكان لُغَوِيّـًا، وعلّامة وراوية للأخبار وأيام العرب.
أحاط الرّشيد نفسه منذ سن مبكرة بأهل الرأي والمشورة السديدة في أمور الحكم والحرب من أمثال يحيى بن خالد البرمكي والربيع بن يونس و يزيد بن أسيد السلمي، وغيرهم وكانت هذه الكوكبة من الأعلام أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، فنهضوا معه بالدولة حتى بلغت ما بلغته من التألق والازدهار.

الخليفة العابد
على العكس من صورة الخليفة الماجن التي راجت عنه فإن الخليفة الرشيد كان قائدا شجاعا وعابدا ذا عقل راجح ملتزما بأحكام الشريعة موقرا للعلماء معظما لحرمات الدين مبغضا للجدال والكلام، يكفي القول أنه كان منشغلا معظم وقته في الدفاع عن الدولة وإخماد الفتن وفي الحج إلى بيت الله الحرام وكان يقول عن نفسه أنه يحج عاما ويغزو عاما واعتمر في وقت قلنسوة نقش عليها “ غازِ وحاجّ”.
وتعود الصورة الملفقة عن الخليفة الرشيد إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي جمعت حكاياته من التراث الفارسي ومن غيره بعد مئات السنين من العهد العباسي وجُعِلت شخصيّة هارون الرشيد وما يدور في بلاطه محورا من محاور الحكايات الخيالية ربما بتأثير العداء للعرب (الذي انتشر في العهود المتأخرة للخلافة العباسية) وبقصد إظهار الخليفة العربي بمظهر الجاهل المستهتر الذي لا يستحق أن يُولّى أمور الحكم.
الرشيد كما يراه المؤرخون
قال السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: “وكان أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج”
وقال الذهبي في ترجمته للرشيد ضمن كتابه “سير أعلام النبلاء” : وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة، وكان أبيض طويلاً جميلاً وسيما إلى السمن ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق بألف وكان يبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما إذا وُعِظ وكان يحب المديح ويجزل للشعراء وكان يقول الشعر.
قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي ورويت له حديثه “وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيَى ثم أقتل” فبكى حتى انتحب.

تولّيه الخلافة
بويع الرشيد بالخلافة في سبتمبر 786م بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وكانت الدولة العباسية حينها مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا حتى المحيط الأطلنطي وكانت تضم شعوبا كثيرة مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، وكانت لذلك معرضة لظهور الفتن والثورات وتحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة تفرض بسلطانها وحنكتها الأمن والسلام، وتنهض بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لتلك المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور فوق الرقعة الشاسعة للإمبراطورية الإسلامية أمرا مجهداً، لكن ساعَدَه على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، وما يلفت في هارون الرشيد أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وحولها إلى مثال باهر في العالم بمجدها وقوتها وإنجازها الحضاري.

“خاض الرشيد حروبا متواصلة ضد الروم حتى أخضعهم وفرض عليهم الجزية ونقل عاصمته من بغداد إلى الرقة القريبة من حدود الدولة البيزنطية”

إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا
إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا

الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان

كان شارلمان قد سيطر على معظم بلاد الفرنجة مما دفع بالبابا في روما إلى استرضائه عبر تتويجه إمبراطورا وقد بات يملك أغلب أجزاء أوروبا الغربية. وكان شارلمان منافسا قويا للدولة البيزنطية ومهتما بإضعافها وإبعاد خطرها عن مملكته ومستعمراته، فقرر لذلك مصادقة هارون الرشيد الذي كان أيضا عدوٌّ للبيزنطيين. وقد رحّب الخليفة الرشيد التفاهم مع شارلمان وأعاد السفارة التي أرسلها إليه في بغداد محملة بهدايا لم يشهد الأوروبيين مثيلا لها من بينها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، كما بعث إليه بمفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس تأكيداً لترحيبه بالحجاج المسيحيين . لكن أبرز الهدايا كانت ساعة تعمل بالماء ورد في سجلات ديوان شارلمان أنها كانت ضخمة وتعمل بطريق مذهلة، إذ عند تمام كل ساعة كان يسقط منها كرات معدنيه على عدد توقيت الساعة وكانت تلك الكرات تسقط بعضها في أثر بعض فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فتعطي رنيناً موسيقياً كالأجراس يسمع دويه في أنحاء القصر..وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس نحاسي يدور حول الساعة ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، وقد دهش شارلمان وحاشيته لهذه الساعة واعتبروها من أعمال السحر. وتؤكد مراجع تاريخية إن العرب وصلوا في تطوير هذا النوع من آلات قياس الزمن (الساعة) لدرجة أن الخليفة المأمون أهدى إلى ملك فرنسا ساعة أكثر تطورا تدار بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقال حديدية معلقة في سلاسل وذلك بدلا من القوة المائية. وهذا دليل واضح على مدى التقدم والتقني للعرب في تلك الحقبة الذهبية والتأخر الشديد لأوروبا في المقابل.

البدء-في-بناء-بغداد-
البدء-في-بناء-بغداد-

استقرار وثراء وعدل
بلغت الدولة الإسلامية في عهد الرشيد ذروة اتساعها وثرائها حتى قيل إن هارون الرشيد نظر يوما إلى سحابة مارة فقال: “اذهبي وأمطري أنى شئت فإن خراجك عائد لي” وكانت أموال الدولة تُحصّل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي أبو يوسف وهو تلميذ القاضي والمجتهد الأكبر أبي حنيفة النعمان نظامًا شاملاً للخراج يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه “الخراج” وقد تم وضع نظام الخراج استجابة لطلب الخليفة الرشيد الذي كان حريصا على تنظيمه بصورة قانونية تخفف عن الرعية وتدرأ المظالم في جباية المكوس.
وكان للفائض المالي الذي تحققه الدولة العباسية أثر كبير في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية. وأُنفقت الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع وتحويل الأنهر، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مجموعة مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق تأتيها البضائع والقوافل من كل مكان.
وروى السيوطي والذهبي أن هارون الرشيد فكّر في شق قناة السويس قبل أكثر من 12 قرنا من زماننا، لكنه أحجم عن تنفيذ مشروعه خشية أن يسهل شق القناة وصول جيوش الروم إلى البحر الأحمر والحجاز وتهديد تلك الجيوش الأماكن المقدسة وقيل أن وزيره المقرّب يحيى البرمكي لفته إلى ذلك المحذور بالقول “إن الروم سيختطفون الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز”، فصرف النظر عن الفكرة.
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رُسُلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة “شارلمان” ملك الفرنجة في سنة 183هـ (779م) من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين. (راجع : الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان)..

اتخاذه الرقة عاصمة لملكه
بالرغم من اهتمام الرشيد بالنهضة والعلم، إلا أنه كان لخلافته بعد آخر عامر بالغزوات والتنظيم الحربي، إذ قام بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية (وأطلق عليها “العواصم”) لتكون خط الدفاع الثاني عن الثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه المعتصم.

الانفجار الكبير

الانفجارُ الكبيرُ

أثبتَ خلقَ الكونِ ودحضَ المادّيّين

«لو كان معدّل التّمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أقلّ بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل إلى حجمه الحاليّ”.
(عالم الفيزياء الشّهير ستيفن هوكنز)

إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
(العالم فريد هويل)

نظرية الانفجار الكبير أظهرت أن الكون اللانهائي خلق من لاشيء من قبل خالق عظيم رتب كل أمر بحسابات دقيقة لا يمكن أن تتم بفعل الصدفة

أكثرُ العلماء المادّيّين قاوموا نظرية الانفجار الكبير
لأنّها أثبتت وجود بداية للكون وبالتالي وجود الخالق

نظـــــــــــرية التّمـــــــــــدّد الكونـــــــــــيّ

لأنّ الأجرام الفضائيّة تبتعد عنّا وعن بعضها باستمرار
فذلك يعني أنّ الكون يتمّدد وأنّه نشأ من نقطة واحدة

المقصود من عرض هذا الموضوع هو إظهار مدى التقدم العلمي في تأكيد واقعة خلق الكون من العدم، وهو ما يدحض نظريات الإلحاد التي ترفض نظرية الخلق وتزعم أن الكون موجود منذ الأزل بذاته، وهو أمر بات العلماء مقتنعون إنه لا يمكن أن يتم بالصدفة بل هو إعجاز من الله تعالى، وقد أثارت النظرية اهتمام الأوساط الدينية في العالم ورأى فيها البعض دعما علميا حاسما لنظرية الخلق، ونحن نعرضها هنا انطلاقا من احترام البحث العلمي دون اتخاذ موقف منها وهو أمر يتطلب إمعانا وتمحيصا بسبب طبيعته المعقدة ، مع التأكيد على أن العقيدة التوحيدية عقيدة تقوم على العقل وعلى اليقين الإيماني الذي لا يفترض بناؤه على براهين علمية لأن الإيمان يقوم على التصديق بالرسالات السماوية وما جاء فيها وعلى اجتناب الجدل وصون الإيمان عن الأخذ والرد، فالمؤمن دليله قلبه كما يقال وهو مصدق لأنبيائه مطمئن لعقيدته راسخ في سلوكه وطاعته لخالقه وكفى بالله شهيدا.

السّؤال البديهيّ الذي يرد على خاطر أيّ إنسان متفكّر هو ولا شكّ: كيف وُجِد هذا الكون العظيم؟ وما هو مغزى هذا الانتظام المذهل في عمله وهو انتظام مضت عليه ملايين السّنين، والذي لو اختلّ ولو بشكل بسيط جدّاً فإنّ الحياة كما نعرفها قد تنتهي في طَرْفة عين. وعندما نتكلّم عن الوجود فإنّنا لا نعني فقط الفضاء ومليارات المجرّات والكواكب والظّواهر الكونيّة التي لا تحصى بل نعني أيضا أرضنا العجيبة ببحارها وأسماكها وبراريها وأنهارها وكائناتها الحيّة حتى أصغر كائن مجهري.
لقد اجتهد العلماء والفلاسفة والمفكرون عبر القرون في محاولة إيجاد جواب على ذلك السّؤال المحيِّر. فنشأ مع الزّمن عدد كبير من النّظريات، لكنّ الاختلاف تركّز مع الوقت بين القول بأنّ العالم أزليّ وقديم ممّا يعني أنّه لم يُخلق وبين القول بأنّ العالم ليس قديماً بل هو مخلوق بقدرة خلّاق عظيم هو نفسه غيرُ مخلوق وقديم أي أنه سابق لكلّ وجود متصوَّر.
لقد ساد الاعتقاد خلال القرن التّاسع عشر بأنّ الكون عبارة عن مجموعة من المواد لا نهائيّة الحجم تواجدت منذ الأزل وسيستمرّ تواجدها للأبد، وقد مهدت تلك النّظرية للفلسفة الماديّة، التي تنكر وجود الخالق والتي تشدّد على أنّه لا توجد بداية أو نهاية للكون.
وهذ النّظرية رغم عدم استنادها إلى أيّة أدلّة علميّة بل رغم كونها تناقض العلم الحديث فإنّها حازت على قبول متزايد في القرن التّاسع عشر، واشتُهر هذا النّظام الفكري بشكل خاصٍّ في الفلسفة الماديّة الجدلية لكارل ماركس.

ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير
ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير

خرافة الكون الموجود بذاته
يعتبر الماديّون فكرة أّنّ الكون لا نهاية له وأنّه موجود منذ الأزل بمثابة الأساس الأهمّ لرفض فكرة الخلق ولتبنّيهم الإلحاد أي رفض وجود الخالق. وعلى سبيل المثال، كتب الفيلسوف الماديّ جورج بوليتزر يقول “الكون ليس شيئًا مخلوقًا” لكنّه أضاف قائلاً: لو كان قد تمّ خلق العالم من لاشيء، فلا بدّ أنّه خُلق بواسطة الإله على الفور ومن العدم.
لقد استند المادّيّون دوماً على الفكرة الساذَجة التي تعتبر أنّ من غير الممكن خلق شيء من لاشيء، وسبب وقوف النّظرية الماديّة عند هذه النّقطة هي أنّ الفكر الماديّ التصق بصورة عمياء بقانون السّببيّة الذي هو قانون يسري على الإنسان المحدود بالحواسّ الخمس وبالفكر، لكنّ المادّيّين نَسَوْا أنّ قانون السّببيّة هو نفسه مثل بعد الزمان أو المكان مخلوق ولا وجود مستقل له إلّا في الاختبار الإنسانيّ. كما أنّهم لم يستطيعوا الإجابة عن السّؤال: إذا كان لا يمكن خلق شيء من لاشيء فكيف وُجِد العالم الذي يعتبرونه قديماً من لاشيء؟
لقد أثبتت الاكتشافات العلميّة في القرن العشرين تهافت الفكرة البدائية عن قدم الكون، إذ تبين أن الكون غير ثابت كما يفترض المادّيّين، بل إنّه هو على النّقيض من ذلك، آخذٌ في التّوسّع. وإلى جانب ذلك، فقد ثبت من خلال العديد من الملاحظات والحسابات أنّ الكون كان له نقطة بداية محدّدة نشأ منها من لا شيء بواسطة ما اصطُلح على تسميته في ما بعد بـ “الانفجار الكبير”

معاندة العلماء المادّيّين
رغم ذلك ورغم كل الشّواهد العلميّة، فقد استمرّت الأوساط المادّيّة في رفض قبول حقيقة أنّ الكون قد تمّ خلقه من لا شيء. وعندما سُئل الفيزيائيّ الألماني فالتر نيرنست عن رأيه في نظريّة الانفجار الكبير، أعطى أجوبة غير منطقية عن تأثير قبول هذه الاكتشافات، حيث قال “سيكون ذلك خيانة لأُسس العلم”. وقال أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتّكنولوجيا MIT فيليب موريسون في فيلم وثائقيّ بريطانيّ: “أجد صعوبة في قبول نظريّة الانفجار الكبير، وأرغب في رفضها”، لكنّ الكثير من العلماء من أصحاب النّزاهة وأخلاقيّات العلم، باتوا يؤكّدون أنّ نظريّة الانفجار الكبير صائبة وينتقدون العلماء المادّيّين الذين لم يعترفوا بصحّتها بعد إرضاء لأهوائهم السّياسيّة أو الأيديولوجيّة.
ففي مقال بعنوان “الانفجار الدّينيّ الكبير” كتب جيم هولت في مجلّة نيويوركر يقول: “الانفجار الكبير هو على الأرجح الفكرة الوحيدة في تاريخ العلم التي تمّت مقاومتها فقط لدعمها لنظريّة خلق الكون من قِبل الإله”، كما انتقد عالم الفيزياء الفلكيّة البارز روبرت جاسترو في كتابه “الله وعلماء الفلك” العلماء المادّيّين لتردّدهم في قبول نظريّة الانفجار الكبير بسبب الهواجس العقائديّة، يقول:
“خَلْف ردود الأفعال هذه هناك قدْر غريب من العواطف والمشاعر، فقد تمّ انتهاك “العقيدة الدّينيّة” للعلماء بسبب اكتشاف أنّ العالم كانت له بداية. وعندما حدث ذلك، فَقَدَ العالِم توازنه وهو لو فحص النّتائج حقًا، فإنه سيصاب بصدمة، لكنْ كالعادة فإنّه عندما يصاب إنسان بصدمة فإن عقله يتّجه بصورة عفوية إلى تجاهل الأسباب التي أدت إليها. فانظر إلى فداحة المشكلة التي يعاني منها هؤلاء العلماء. لقد أثبت العلم أنّ الكون انفجر إلى الوجود في لحظة محدّدة، فمن الذي وضع المادّة أو الطّاقة المُوجِدَة للكون؟ هل أُنشئ الكون من العدم؟ هذا تطوّر غريب وغير متوقّع للجميع عدا علماء الدّين”
(روبرت جاسترو : “الله وعلماء الفلك”.)
لكن كيف حدثت هذه العمليّة التي يصفها المادّيّون بأنّها “غريبة” و”غير متوقّعة”؟ فلنلق نِظرة على تاريخ الاكتشافات العلميّة في موضوع ظهور الكَون.

العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون
العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون

“ما الّذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير؟ وما هي القوّة التي وضعت الكَون كلّه في نقطة واحدة قبل أنْ تقول له “كُن”: إنّها اللهُ سُبْحانَه”

كيف تمّ اكتشاف الانفجار الكبير
اعترف المجتمع العلميّ بأنّ الكون كلّه جاء إلى الوجود في لحظة واحدة نتيجة لحدوث انفجار، أو بتعبير آخر: تم خلق الكون، وقد تم اكتشاف هذه الحقيقة المهمّة نتيجة للعديد من الملاحظات والاستنتاجات الثّورية.
ففي المرصد الفلكيّ في جبل ويلسون في كاليفورنيا، حقّق فلكيٌّ أمريكيّ يُدعى إدوين هابل عام 1929 أحد أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك، فبينما كان يراقب النّجوم من خلال تلسكوب عملاق، اكتشف أنّ شدّة الضّوء الأحمر المنبعث منها تعتمد على مدى بُعدها، وكان ذلك يعني أنّ النّجوم “تبتعد” عنّا. ووفقًا للقواعد الفيزيائية المتعارف عليها، فإنّ طيف أشعّة الضّوء للجسم المتحرّك باتّجاه نقطة المراقبة يميل إلى اللّون البنفسجيّ، في حين أنّ طيف أشعة الضوء للجسم الذي يتحرّك مُبتعدًا عن نقطة الرّصد يميل إلى اللّون الأحمر. والضّوء المنبعث من النّجوم الذي لاحظه هابل أثناء مراقبته كان يميل إلى اللّون الأحمر، أيْ: إنّ النّجوم كانت تتحرّك باستمرار مُبتعدة عنّا.
قبل مرور فترة طويلة، قدم هابل اكتشافًا آخر مهمًا جدًا: إذ أثبت أن النجوم والمجرات ليس فقط تبتعد عنا، بل هي تبتعد عن بعضها البعض أيضًا، والاستنتاج الوحيد الممكن في كون يبتعد فيه كل شيء عن بعضه البعض، هو أن هذا الكون يتسع أو”يتمدد” باستمرار.

محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني
محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني

ما الذي يعنيه تمدّد الكون؟
تمدّد الكون يعني ضمنيًّا أنّه إذا استطعنا السّفر إلى الوراء في الزّمن، فإنّنا سنصل إلى النّقطة التي نشأ منها الكون قبل أنْ يبدأ بالتّمدّد وسنرى أنّ الكون نشأ بالفعل من نقطة واحدة، وأظهرت الحسابات أنّ هذه “النّقطة الواحدة” التي تحوي كلّ مادّة الكون يجب أن تكون “صفريّة الحجم” و”لا نهائيّة الكثافة”، وقد نتج الكون من جرّاء انفجار هذه النّقطة الوحيدة صفريّة الحجم.
سُمّي هذا الانفجار الضّخم الذي حدد بداية الكون بـ “الانفجار الكبير” Big Bang وسُمّيت النّظريّة بهذا الاسم تِبعًا لذلك.
تجدر الإشارة إلى أنّ “الحجم الصّفْرِيّ” هو مجرّد تعبير نظري يُستخدم لأغراض رياضيّة وصفيّة فقط. ولا يُمكن للعلم وصف مفهوم “العدم”، الذي هو أبعد من حدود الفَهم البشريّ، إلّا من خلال التّعبير عنه بأنّه “نقطة صِفريّة الحجم”. في الحقيقة، “نقطة بلا حجم” تعني “العدم”.
وهكذا جاء الكون إلى الوجود من العدم. وبعبارة أخرى، قد خُلق. وهذه الحقيقة والتي تمّ اكتشافها بواسطة الفيزياء الحديثة في القرن العشرين، ذُكرت في القرآن الكريم إذ وصف الله تعالى نفسه بأنه }بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون{ سورة البقرة: الآية 117. وكلمة “بديع” التي وردت في كتاب الله العزيز تعني الخلق والإبداع من لاشيء.
أظهرت نظريّة الانفجار الكبير أنّ كلّ الموجودات كانت في البدء كتلة بسيطة واحدة ثم تعدّدت وافترقت بعد ذلك يقول تعالى: }أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا{ سورة الأنبياء:الآية 30. وهذا يعني أن كلّ المادة الموجودة في الكون تم إنشاؤها بواسطة انفجار كبير لنقطة واحدة وتشكل الكون الحالي بواسطة افتراق أجزائه عن بعضها البعض.
وتُعْتَبر ظاهرة تمدّد الكون التي أثبتها العلم أحد أهم الدّلائل على أنّ الكون تمّ خلقه من العدم، وعلى الرّغم من عدم اكتشاف هذه الحقيقة من قِبل العلم حتّى القرن العشرين فقد ألمح الله تعالى إليها في القرآن الكريم بقوله }وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ{ (سورة الذّاريات: الآية 47).وعبارة “وإنّا لَمُوسعون” فيها إيحاء واضح إلى اتّساع الكّون لأنّ الله تعالى يستخدمها بعد عبارة “والسّماء بنيناها” فهو يعني هنا السّماء أو الفضاء الكوني وليس شيئاً آخر.
رغم الاتّفاق الشامل حول نظرية الانفجار الكبير كتفسير علميّ لسبب وجود الكون فإنّ علماء الفلك من أتباع الدّوغما المادّيّة واصلوا مقاومة نظريّة الانفجار الكبير، ليس بسبب امتلاكهم أدلّة تنقض الأبحاث العلميّة التي أكّدتها، بل بسبب تمسّكهم برفض نظريّة الخلق لأنّها تزعزع معتقدهم الإلحاديّ الذي ينفي وجود الخالق ولا يقيم اعتباراً للدّين. وقد عبّر آرثر إدنجتون، أحد أهم علماء الفيزياء المادّيّين عن هذا الموقف اللّاعقلانيّ والمكابر عندما قال “فلسفيًّا: فكرة البداية المفاجئة للنّظام الحالي للطّبيعة بغيضة بالنّسبة لي”. فهو لا يقوى على نفي الحقيقة العلميّة لكنّه يقول بكلّ صراحة إنّه “يكرهُها” لأنّها ببساطة تُثبت وجود خالق للكون.

انهيار نظريّة “الحالة المستقرّة”
عالم الفلك الإنجليزيّ السّير فريد هويل وهو ماديّ أيضًا، وكان بين الذين انزعجوا من نظريّة الانفجار الكبير في منتصف القرن الماضي سعى إلى مقاومتها عبر دعم فرضيّة تُدعى “الحالة المستقرّة” والتي كانت مشابهة لنظريّة “الكون الثّابت” في القرن التّاسع عشر. وتزعم نظريّة الحالة المستقرّة أنّ الكون لا نِهائيّ وأبديّ العمر وهي بالتّالي تعارض كليًّا نظريّة “الانفجار الكبير” التي تُثْبت وجود بداية للكون.

أبعاد اكتشاف “إشعاع الخلفيّة الكونية”
في عام 1948، قدّم جورج جامو فكرة إضافيّة بشأن الانفجار الكبير. وهي إنّه وبسبب تشكل الكون بسبب الانفجار الكبير فإنّه يجب أن يكون هناك فيض من الإشعاع الذي خلَّفَه هذا الانفجار، وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا الإشعاع منتشراً بشكل متجانس في جميع أنحاء الكون.
وقد تم بالفعل اكتشاف تلك الموجات الإشعاعية عام 1965 بواسطة باحثيْن يدعيان أرنو بنزياث وروبرت ويلسون عن طريق الصّدفة. وتُدعى هذه الموجات اليوم “إشعاع الخلفيّة الكونيّة”، ولا يبدو أنّها تشعّ من مصدر مُحدّد بل تتخلّل كلّ شيء، وبناءً على ذلك فقد عرفنا أنّ هذا الإشعاع تخلّف نتيجة المراحل الأولى من الانفجار الكبير، وتمّ منح بنزايث وويلسون جائزة نوبل تقديرًا لهذا الاكتشاف.

قمر من”ناسا” يدعم نظريّة الانفجار الكبير
ثم أرسلت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عام 1989 القمر الصّناعي مستكشف الخلفيّة الكونية (كوبي) إلى الفضاء، لإجراء البحوث على إشعاع الخلفية الكونية استغرق الأمر ثمان دقائق فقط لكي يؤكّد كوبي حسابات بنزياث وويلسون حيث، عثر كوبي على بقايا من الانفجار الكبير الذي حدث في بداية الكون، وبرهن هذا الاكتشاف بشكل واضح على صحة نظريّة الانفجار الكبير، ولذا فهو يُعد أحد أعظم الاكتشافات الفلكية على مر العصور.
وأحد أهم الدّلائل العلميّة الإضافيّة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير كميّة الهيدروجين والهليوم في الفضاء. فمن المعروف علميّاً أنّ تركيز الهيدروجين والهليوم في الكون لا يزال مطابقًا للنّسب المحسوبة للتّركيز المتبقّي من الانفجار الكبير، ولو أنّ الكون ليس له بداية وموجود منذ الأزل، لكان يجب أن يكون كلّ الهيدروجين الموجود قد استُهلِك بالفعل وتحول إلى غاز الهليوم.

العلماء يعترفون بخطئهم
كلّ هذه الأدلّة المُقنعة تسبّبت في تبنّي المجتمع العلميّ لنظريّة الانفجار الكبير، فقد كان نموذج الانفجار الكبير هو أحدث ما توصّل إليه العلم بخصوص نشأة الكون.
برغم دفاع دينيس سكيما لسنوات طوال عن نظريّة الحالة المستقرة بجانب فريد هويل، إلّا أنه في النهاية وصف الحالة التي وصل إليها مع زميله بعد اكتمال الأدلّة التي تؤيد نظريّة الانفجار الكبير، بالقول أنّه بقي يدافع عن نظرية الحالة الثابتة ليس لاعتقاده بصحتها، ولكن لأنه تمنّى أن تكون صحيحة، واستمرّ سكيما قائلًا إنه بعد أن بدأت الأدلة في التّراكم، كان عليه أن يعترف أنّ اللعبة قد انتهت، وأنّ نظريّة الحالة المستقرّة سقطت ولا بدّ من رفضها.
وأضطُرّ جورج أبيل البروفيسور في جامعة كاليفورنيا أن يعترف بالنّصر النّهائي لنظريّة الانفجار الكبير، وذكر أنّ الأدلّة المتوافرة حاليّاً تدلّ على أنّ الكون قد نشأ منذ مليارات السّنين بواسطة انفجار كبير معترفاً بأنّه لم يعد لديه أيّ خيار سوى القبول بتلك النظريّة بعد أن أثبتها العلم.
ومع انتصار نظريّة الانفجار الكبير، تمّ إلقاء أسطورة “المادّة الأبديّة” التي تُشكّل أساس الفلسفة الماديّة في سلّة مهملات التّاريخ. لكنّ السّؤال يبقى: ما الذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير، وما هي القوة التي جلبت الكون إلى “الوجود” بواسطة ذلك الانفجار الكبير؟

الانفجار الكبير والخلق
الجواب على هذا السؤال يعني بكل تأكيد وجود الخالق. وقد علّق الفيلسوف أنطوني فلو المُلْحد لوقت طويل جدّاً والذي أعلن في وقت لاحق أنّه يعتقد بوجود الله – على الموضوع قائلًا:
“من المعروف أنّ الاعتراف مفيد للرّوح، لذا سأبدأ بالاعتراف أنّ على الملحد الستراتوني1 أن يشعر بالخجل بسبب إجماع علماء الكونيّات المعاصرين الذين يقدّمون لنا براهين علميّة على وجود بداية للكون”

وقد اعترف العديد من العلماء الذين لا يعتنقون الإلحاد بشكل أعمى بدور الخالق سبحانه وتعالى في خلق الكون. إذ يجب أن يكون هذا الخلّاق العظيم هو الذي خلق كلًّا من المادّة والوقت، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مستقلّاً عن الاثنين. قال عالم الفيزياء الفلكيّة المعروف هيو روس:
“إذا كان الزّمن بدأ مع نشوء الكون، كما تقول نظريّة الفضاء، فذلك يعني أنّ سبب وجود الكون يجب أن يكون كياناً يعمل بشكل مستقل تمامًا عن بعد الزّمن، بل وموجود بشكل يسبق البعد الزّمني للكون. وهذا الاستنتاج يخبرنا أنّ الإله ليس هو الكون نفسه، وأنّ الكون لا يحتوي الإله أيضًا”.

تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2
تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2

“معجزة الانفجار الكبير أُضيفَ إليها معجزة خلق كون صالح للعيش وهو ما يتطلّب تضافر ألوف العوامل المؤاتية التي لا يمكن أن توجد بفعل الصُّدفة”

سرّ النّظام البديع الذي يحكم الكون
في الحقيقة، تسبّب الانفجار الكبير في متاعب أكبر بكثير للمادّيّين من مجرد اعترافات أنتوني فلو، إذ إن العلم بات يثبت أنّ الكون ليس فقط تمّ إيجاده من العدم بواسطة الانفجار الكبير بل أثبت أيضا أنّ إيجاده تمّ بطريقة مُحكمة ومُمَنْهَجة جدّاً.
لقد حدث الانفجار الكبير مع انفجار النّقطة التي تحتوي كلّ المادّة والطّاقة في الكون، وتشتّت كلّ هذا في كلّ الاتّجاهات في الفضاء بسرعة رهيبة، ومن هذه المادّة والطّاقة جاء عدد ضخم ومتوازن من المجرّات والنّجوم والشّمس والأرض وجميع الأجرام السّماوية الأخرى. وعلاوة على ذلك، تشكّلت القواعد التي تحكم هذا الكون والتي سُمّيت بـ “قوانين الفيزياء”، وهي قواعد موحَّدة في جميع أنحاء الكون كلّه لا تتبدّل ولا تتحوّل. وقوانين الفيزياء التي تحكم الكون والتي ظهرت مع حدوث الانفجار الكبير لم تتبدّل على الإطلاق على مدى 15 مليار عام. وعلاوة على ذلك، فإنّ هذه القوانين تُنْتِج حسابات دقيقة للغاية، حتى أنّ الاختلاف في مجرّد مللّيمتر واحد من قِيَمِها الحاليّة يمكن أنْ يؤدّي إلى تدمير بنية وحركة الكون كلّه.
إنّ أيِّ “انفجار” لا ينجم عنه في العادة أجزاء أو نتائج مُنظّمة، وكلّ الانفجارات التي نعرفها تميل إلى إحداث أضرار، وتحطيم، وتدمير ما حولها. لذلك فإنّنا إذا علمنا أنّه وعلى عكس ذلك فإنّ الانفجار الكبير أنتج نظاماً دقيقاً جدّاً يسير وفق قوانين محكمة وحركة أزليّة منتظمة فإنّه لا بدّ من أن نستنتج عندها أنّ هناك “أمراً خارقاً للعادة” تدخّل في هذا الانفجار، وأنّ جميع القطع المتناثرة جَرّاء هذا الانفجار قد تمّت السّيطرة عليها وتمّ إدماجها وتركيبها وتشغيلها بطريقة مُحكمة للغاية.
السّير فريد هويل، الذي اضطُر إلى قبول نظريّة الانفجار الكبير بعد سنوات طويلة من معارضتها، عبّر عن هذا الموقف بشكل جيّد للغاية عندما قال:
“إنّ نظريّة الانفجار الكبير تذهب إلى أنّ الكون قد بدأ بانفجار واحد، ولكن كما يمكننا أن نرى، فإنّ أي انفجار سيجعل الموادّ تتناثر في كلّ مكان، في حين أنّ الانفجار الكبير قد أوجد بصورة غامضة ظروفاً معاكسة لذلك، حيث تكتّلت المادّة معاً في شكل المجرّات، ومما لا شكّ فيه، أنه إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
أمرٌ آخرُ حصل في هذا النّظام الرّائع الموجود في الكون بعد الانفجار الكبير، هو خلق “كون صالح للعيش”. إنّ خلق كوكب صالح للحياة يحتاج إلى اجتماع مئات بل ألوف العوامل المعقّدة والمتداخلة لدرجة تجعل من المستحيل الاعتقاد أنّ هذا التّشكيل يمكن أن يتمّ بفعل الصّدفة.
وذكر بول ديفيز – وهو أستاذ مشهورٌ للفيزياء النّظرية – في نهاية الحسابات التي قام بها لحساب معدّل توسّع الكون، أن هذا المعدّل دقيق بشكل لا يُصدّق. فقال:
“معدّل تمدّد الكون يخضع لقياسات دقيقة للغاية، فهي ذات قيمة حرجة والتي بسبّبها حافظ الكون على جاذبيته الخاصّة ممّا جعله يتمدّد إلى الأبد، ولو كان الكون أبطأ قليلًا في تمدده فإنّه كان سينهار على ذاته كما أنّه لو كان أسرع قليلاً في تمدّده فإنّ المادّة الكونيّة كانت ستتبدّد تماماً منذ زمن طويل، فلم يكن الانفجار الكبير مُجرّد انفجار قديم عاديٍّ، لكنّه كان انفجاراً مُرتبًا ذا قيمة مُحدّدة بدقّة”.
عالم الفيزياء الشّهير البروفيسور ستيفن هوكينج يقول في كتابه تاريخ موجز للزّمن، إنّ الكون مُحكم بحسابات وموازينَ مضبوطة بدقّة أكثر ممّا يمكننا أن نتصوّر، ويُشير هوكينج إلى معدّل تمدّد الكون فيقول:
“لو كان معدّل التمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أصغر بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء، لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل لحجمه الحاليّ”.
كما يوضح بول ديفيز التّبعات الحتميّة النّاتجة من هذه الموازين والحسابات الدّقيقة فيقول:
“إنّ من الصّعب مقاومة الانطباع بأنّ الهيكل الحاليّ للكَون، بما فيه من حساسيّة لأيّة تغيرات طفيفة في الأرقام، كان وراءه من يقوم على العناية به. بالإضافة للتّوافق الذي يبدو خارقاً في القِيَم العدديّة الموجودة في الطّبيعة كثوابت أساسيّة، والذي يجب أن يُمثّل أقوى أدلّة دامغة على تواجد عامل التّصميم الكونيّ” (وهو يقصد بذلك:الخلق).
وعن الحقيقة نفسها ، كتب عالم الفلك الأمريكيّ جورج جرينشتاين في كتابه “الكون التّكافلي” يقول: “بينما نقوم بحصر جميع الأدلّة، فإنّ الفكرة الّتي تطرح نفسها بإلحاح هي أنّ قوى خارقة قد شاركت في إنتاج ما نحن فيه”.
حظيت نظريّة الانفجار الكبير لاحقاً بدعم مستمرٍّ جَرّاء دراساتٍ عدة أجريت في أواخر التّسْعينيّات من القرن الماضي، وجاءت أوّل البيانات المؤيّدة لنظريّة الانفجار الكبير من بالون مراقبة يُدعى “بومرانج” عام 2000 على شكل معلومات دقيقة حول إشعاع الخلفيّة الكونيّة، وهو أحد أهم الأسس لنظريّة الانفجار الكبير. وكان تمّ إطلاق هذا البالون عام 1998 ليرتفع 120,000 قدم فوق القارّة القطبيّة الجنوبيّة Antarctica ويقول مايكل تيرنر وهو أحد علماء جامعة شيكاغو الذين حلّلوا تلك البيانات:
“لقد عبرت كلّ من نظريّة الانفجار الكبير والنظريّة النّسبيّة العامّة لأينشتاين اختباراً رئيسياً جديدًا”.
كما أرسل مسبار مُصمّم للتّحقّق من تباين خواص الإشعاع ويلكنسون، والذي أُطلق إلى الفضاء في عام 2001، البيانات للأرض عام 2003، وكشف عن تفاصيل هامّة مطابقة للبيانات التي تمّ الحصول عليها من البالون بومرانج. بعض المعلومات التي أكّدها المسبار تُعتبر أحد أهم الإنجازات في العقد الأوّل من الألفية الثّانية، وهي كما يلي:
• عمر الكون يبلغ 13.73 مليار سنة، هامش الخطأ هنا حوالي 1%، وكان يُقدّر عمر الكون قبل ذلك بفترة تتراوح بين 15 و20 مليار سنة.
• بدأت أولى النّجوم بالسّطوع بعد ما يقارب 400 مليون سنة من الانفجار الكبير، وقد أدهش هذا التّاريخ المبكر العلماء.
• يتكوّن الكون من 4.6% ذرّات عاديّة، و23.3% من المادّة المُظْلِمة و72.1% من الطّاقة المظلمة. وهذه القياسات الجديدة ستمكّننا من الحصول على بيانات هامّة عن طبيعة الطّاقة المظلمة، والتي تُمزّق المجرّات.
أنتجت مجموعتان دراسيّتان منفصلتان تتكونان من علماء بريطانيّين وأستراليّين وأمريكيّين خريطة ثلاثية الأبعاد لما يقارب 266,000 مجرة بعد عدّة سنوات من البحث. قام العلماء بمقارنة البيانات التي تمّ جمعها حول توزيع المجرّات مع البيانات حول إشعاع الخلفية الكونية المنبثّ في جميع أنحاء الكون، وحصلوا على العديد من النّتائج الهامّة عن أصل المجرّات. وخلص الباحثون بتحليل الدّراسات إلى أنّ المجرّات تكوّنت نتيجة تجمّع الموادّ مع بعضها البعض بعد حوالي 350,000 سنة من الانفجار الكبير، واتّخذت هذه الأشكال نتيجة لقوّة الجاذبية، وقدّمت نتائج هذه الدّراسات أدلّة جديدة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير.

“العلم أثبت أنّ عمر الكون 13.73 مليار سنة وأنّ أُولى النّجوم بدأت بالسّطوع بعد 400 مليون سنة من حصــول الانفجــار الكبير”

في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون
في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون

راهين جديدة
عزّزت النّتائج التي تمّ الحصول عليها من هذه الدّراسات نظريّة الانفجار الكبير. وأكّد الدّكتور رسل كانون هذا التّأييد في عبارته التّالية:
“لقد عرفنا منذ وقت طويل أنّ أفضل نظريّة عن نشأة الكون هي الانفجار الكبير، حيث بدأ كلّ شيء بانفجار هائل في مساحة صغيرة، وتمدّد الكون منذ ذلك الحين. وفي إمكاننا القول الآن وبدرجة من اليقين تفوق ما كنّا عليه في أي وقت مضى أنّ تلك الفكرة هي الفكرة الأساسيّة الصّحيحة وقد تجمّعت كلّ أجزائها معاً بشكل مقنع للغاية”.
باختصار، فإنّنا عندما ندرس النّظام البديع للكون، نرى أنّ وجود الكون وعمله يقوم على توازن دقيق للغاية، ونظام معقّد جدًّا بحيث لا يمكن تبرير حدوثه بالصّدفة. وكما هو واضح، فليس من الممكن بأيّة طريقة أن يتكوّن هذا التّوازن والنّظام الدّقيقين من تلقاء نفسيهما بالصّدفة بعد انفجار ضخم كهذا. فتشكيل مثل هذا النّظام في أعقاب الانفجار الكبير هو دليل واضح على خلق خارق للطّبيعة.
هذه الخطة التي لا تُضاهى والنّظام الموجود في الكَون بالتأكيد يُثبت وجود خالق ذي معرفة لا نهائيّة، وقوّة، وحكمة، والذي خلق كلّ شيء من العدم، والذي يتحكّم ويُدير ذلك باستمرار، هذا الخالق هو الله ربّ العالمين.

ديوان شمس تبريز

الرُّوميُّ أميرُ العِشْقِ الإلهِيّ

مختاراتٌ من ديوان شمسِ تبريزَ

حين طَلَعتْ شمْسُك تَبدّدت الأقوالُ

نحنُ كالسّيْلِ، كالنّهْرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُماً

إنْ لم يَحترق عقلي بعِشقِكَ فأنا غافلٌ

يُعتَبر “الدّيوان الكبير” أو ديوان شمسِ تبريزَ كما يُسمّى أحيانًا ليس فقط من أعظم الأعمال الشّعرية لجلال الدّين الرّوميّ بل هو قطعًا أعظم عملٍ شعريٍّ صوفيٍّ في تمجيد الحبّ والعشق الإلهيّ. لقد تدفّقت آيات هذا السِّفر العظيم من قلب جلال الدّين بفعل الحبّ العارم الذي اجتاح كيانه تجاه مرشده شمس الدّين التّبريزيّ وقد كانت الرّابطة الوجوديّة التي نشأت بين جلال الدّين وبين شمس تبريز إحدى القصص الفريدة بل العجيبة للعلاقة الميتافزيقيّة التي تنشأ بين المرشد وبين المُريد النّاضج فتجعل من الاثنين روحًا واحدة وتضرم في قلب كلّ منهما انجذابًا لا يقاوَم نحو الآخر وحيث يمثّل الآخر هنا الوجه الظاهر أو البشريّ لينبوع المعارف الإلهيّة و تعبيراً عن محبّة عارمة للمولى تعالى الذي تظهر تجلّيات صفاته وبحار حكمته في وجود المرشد الكامل.
وصف جلال الدّين الرّوميّ مرشده شمس الدّين التّبريزيّ في ديوان “المثنويّ” بالقول إنّه “شيخ الدّين وبحر معاني ربّ العالمين” مُضيفًا “الأرض والسّماء تبدو أمامه وكأنّها قشّة؛ لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه، ولا ينبغي أن نُفْلِتَ ذيل ثوبه من أيدينا إن أردنا إدراك الحقيقة “ وهو رأيٌ في هذا الدَّرويش المحاط بالأسرار قُطْبًا تدور حوله رَحى القلوب التي تهيم بمحبّة الله تعالى وجاذبًا لا يقاوَم لأرواح السّالكين يشعل فيها لهيب الشّوق إلى طلب الحقّ تعالى. وقد أورد جلال الدّين في أغلب قصائد الدّيوان الكبير اسم “شمس الدّين” أو “شمس” مشيدًا به معتبرًا إيّاه “الإنسان الكامل” و”سلطان مملكة العشق وأمير قافلة الحبّ الإلهيّ” في زمانه.
وكان شمس الدّين التّبريزي معارضًا للفلسفة وعلم الكلام معتبرًا أنّ الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى تفانٍ تامّ ومحبّة غير محدودة لله وللمرشد وهو ما وصفه الصّوفية في ما بعد بالقول: “من لم تكن له بداية مُحْرقة لم تكن له نهاية مُشْرقة”. وكان مذهب شمس الدّين في الحبّ الإلهيّ وفناء الذّات المُفرَدةِ في الله القوّة الدّافعة لتعاليم جلال الدّين الرّوميّ في ما بعد وهو بالتأكيد القوّة المحرّكة وراء إبداع الرّوميّ لديوان شمس تبريز الضّخم ولأعماله الشّعريّة الخالدة وفي مقدََّمتها “المَثنوي” وقد جعل الرّوميّ في هذا الديوان القلب مقدَّمًا على العبادة الظّاهرة ومركز الدّائرة في علاقة السّالك بالحق تعالى، والدّيوان بهذا المعنى دعوةٌ إلى العِشق الإلهيّ الذي هو في نظر الرّوميّ ليس فقط القوّة المحرّكة للتقدُّم الرّوحيّ بل القوّة المحرّكة للكَوْنِ بأسْرِه.
في ما يلي مجموعة مختارة من “ديوان شمسِ تبريزَ” قُمنا باختيارها من النّسخة التي نقلها إلى العربيّة عن الفارسيّة الباحث الدكتور محمّد السّعيد جمال الدّين.

قَطْرٌ أنتَ، بحْرٌ أنتَ، لُطْفٌ أنتَ، قَهْرٌ أنتْ
سُكْرٌ أنتَ، سُمٌّ أنتَ، فَحَسْبُك لا توذِني

قُرصُ الشَّمسِ أنتَ، بُرج عُطارِدَ أنتَ،
واحةُ الرّجاء أنت، فعلى الطّريق دُلَّني

أمسكِ الخبزَ عنّي، أمْسِكِ الماءَ عنّي،
أمسكِ الرّاحة والنّومَ عنّي،
يا مَنْ ظمَأُ عِشقكَ يُفتَدى بمائةٍ مثلَنا

أَطَلَّ من القلبِ بَغتةً خيالُ حبيبي،
كالبدرِ من الأفقِ
أو كالزّهرِ من العُشبِ والكَلأْ

أنتَ نَوْحٌ، أنت الرّوح، أنت الفاتحُ والمفتوح
أنتَ الصّدرُ المُنْشَرحُ، أنتّ سِرّي المملوءُ بالدُّرَرِ

بَرئتُ من هذه النّفسِ ومن الهوى…
الحيِّ في بَلاءٍ والمَيْتُ في بلاء
في الحياة وفي الموت ليس لي وطن،
إنَّما وطني فضلُ الله، ليس إلّا

غريقٌ أنا في بحر كرَمِه، عبدٌ أنا لأنفاس صُبحٍ
فيه تلك الوردةُ العَطِرةُ صَوْبَ الرّوضِ تَجذِبُني

أيُّها القلبُ لا تُخاتِلْ، لا تُثِرِ الفتنةَ والغضب
لا تُشهِّر بي، ولا تَفشِ على ناصيةِ السّوقِ أمري

أنّى لنا في العالَميْن بأميرٍ لَطيفٍ مَليحٍ كأميرِنا
لم يتقطّب لهُ جبينٌ مع اَنّه رأى مائةَ ذنبٍ وخطأٍ

أنا من سلامِهِ الحارِّ وتَرْحابِه، ذُبْت منهُ خجَلاً
فمِنْ كلامِهِ النّاعمِ تذوبُ الحجارةُ ذَوْبــاً
اِحملْ إليهِ سُّمًّا، يجعلْه أحلى من السّكَّر
اِحملْ إليه قَهراُ، يُحيلُه كلَّهُ رِضًا

اُنظرْ “ماءَ الحياةِ” عندَهُ، ولا تخشَ الأجَلَ أبدا
لُذْ عندهُ بالرّضا، ولا ترتعدْ من القَضا

لو لم يكنْ حديثُه ولفظهُ، لما كانت روحُكَ تتأوّهْ
تأوّهْ، فآهاتُكَ تَسْلكُ طريقَها إلى الله تعالى

الليلُ يَمضي، فهلمَّ بنا إلى الحَضرةْ،
كي نسمعَ حديثَ المَلك،
قفِ اللّيلَ – طولَ اللّيلِ ــ قائمًا على قدميك حتى السَّحَرْ
كالقمرِِ في السّماء
جاء الرّبيعُ جاء الرّبيعُ، فسلِّمْ على السُّكارى
قد أتى الرّبيعُ من نَبيِّ الحِسانِ، برسالةٍ إلى السُّكارى

ادْخُل روضةَ الباقي، اصْعَد إلى السّطحِ
فالسّاقي أتى من دار الغَيب الخَفيّةِ برسالةٍ إلى السُّكارى

قد أتى للأرواحِ بالرّبيع، ولفتَنا صوبَ الحبيب
فانظرْ أيَّ سعادةٍ أتى بها، مِن بينِ ما أتى للسُّكارى

من قِبَلِ شمسِ الدّينِ التِّبريزيِّ، جاءَ ساقي السَّعدِ فجأةً
فقدَّمَ في القدَحِ السُّلطانيِّ الخاصِّ، خّمرًا خالِصاً للسُّكارى

إنْ لم تكنْ طالبًا، فصِرْ طالبًا معنا
إن لم تكنْ مُطرِبًا، فصِرْ مُطربا مَعنا

ولو كنتَ قارونَ، فصِرْ في العِشقِ مُفلِسا
وإن كنتَ سيِّدًا مُهابًا، فصِرْ عبدًا معنا

شمعةٌ واحدةٌ من هذا المجلس تُضيءُ من الشّموعِ ألفاً
أيّاً ما كنت مُطفأً أو حيًّا، فأنتَ تغدو منيرًا معنا

تُسرعُ أقدامُكَ في المَسيرِ، يشِعُّ منك النّورُ
وقد تغدو بأجمعِك وَردًا، دائم الضّحِكِ معنا

أقبِل بخِرقةٍ باليةٍ حينًا، كي ترى القلوبَ الحيَّة فينا
اِطْرح الحريرَ الأطلسَ جانبًا، وصِرْ في خِرقةٍ باليةٍ معنا

حين أصبحتِ الحبّةُ مُلقاةً، نَمَتْ، ثمّ شجرةً صارت
إنِ اَنتَ أدركتَ هذا الرّمزَ، صِرتَ مُلقًى معنا

يقول شمسُ الحقِّ التِّبريزيِّ لبُرعُمَةِ القلبِ
إنْ تفتّحتْ عينُكِ، صِرتِ بَصيرةً معنا

أيُّها السَّيِّدُ طاهرَ الذَّيلِ، أمجنونٌ أنتَ أمْ أنا؟
تجرّعْ معي قدَحًا، ودعِ العُتْبى والمَلامَة

قد كان قبلَك كثيرٌ ممّنْ يُنشدُ الكراماتِ
فلمّا رأى وجهَ السّاقي، أحرقَ كلَّ كرامة

أيُّها السّاقي الحبيبُ، امْلأْ ذلك القدَحَ المُقدَّم
قاطعْ طريقَ القلب، كاشفْ طريقَ الدِّين

ما يصدرُ عن القلبِ ويمتزجُ بالرُّوح
فوَرَانُهُ يُسكِرُ العينَ التي ترى اللهَ ربَّ العالمينْ

تلك خَمرٌ من كرْمٍ لأُمَّة عيسى
وهذه خمرٌ من منصورٍ1 لأمَّة “ياسينَ”.

هذا الحالُ إنْ حدثَ، يَحدُثُ غالبًا عندَ السّحَر
لِمنْ هجرَ لينَ الفِراشِ وأسهدَ الجفون

الحبيبُ الذي كان يوجِعُ قلبي، وكانَ مُعَلَّقًا فوقَ وجهِنا لا يبرَح
قد اَصبحَ الآنَ شفيقًا بالخُلّان، وليكنْ ما يكون

بتلك الطّلعةِ المُلوكيّةِ بتلك الشُّعلةِ التي أضاءت جِنَبات الدّار
تحوّلَ كلُّ رُكنٍ إلى مَيْدانٍ، وليكنْ ما يكونْ

بغضَبهِ المُراوغ بأسلوبهِ العذبِ الرائعِ
تحوّلَ العالمُ إلى أقاليمَ للسُّكر وجِنانٍ، وليكنْ ما يكونْ

ذهبَ اللّيلُ وجاء الصَّبوح ذهبَ الأسى وأقبلتِ الفُتوح
أضاءت الشّمسُ سائرَ الأركانِ، وليكنْ ما يكونْ

جاء العيدُ وجاء العيدُ، جاء الحبيبُ الذي جرى منّا لِبَعيد2
غدا العيد أعياداً، وليكنْ ما يكونْ

اْنظُرْ الرِّيحّ في الجوِّ من هوى الشَّفةِ العذبة
راحَ معَ النّاي يغنِّي الألحانَ.. وليكنْ ما يكونْ

حينّ أضاءَ ذاك القمرُ، غدا الكَوْنانِ روضةً
صارت أرواحاً تلك الأبدانُ، وليكنْ ما يكونْ

صارَ قهرُهُ رحمةً، صارَ سُمُّه بأجمعهِ عذبٍا فُراتًا
نشرَ سحابةَ السُّكْرِ والرّيْحانِ، وليكنْ ما يكونْ

صَهٍ، فأنا ثَمِلٌ، قد أوثقَ اْمْرُؤٌ يديَّ
صارَ الفكرُ مُشَتّتاً حَيْرانَ، وليكنْ ما يكونْ

جئت سعيدا يا ذا الوجهَ القمريَّ، يا سعادة الرّوحِ أقْبِلْ سعيداً
أمَا وقد كانَ ما كانَ، فليكنْ ما يكونْ

حديثُ العِشق

حبَّذا العِشقُ، حبَّذا العِشقُ لنا يا ربَّنا
ما أبدعَهُ، ما أروعَهُ، وما أحسَنَه يا ربَّنا

بماءِ الحياةِ3 نديرُ نحنُ السّماوات العُلا
لا بالكفِّ ولا بالنّايِ ولا بالدفِّ، يا ربَّنا

إن أنَّ الجسدُ أنينًا، من همِّ الخَسارة والكَسْبِ
فذاك منكَ أنتَ، فقد نفختَ، لا مِنَ النّاي يا ربَّنا

بكفِّكَ صَنعتَ نايَ الجسدِ، مليئًا بالثُّقوب
فهوَ عن هذا الأنينِ والصَّخَبِ، لا يَكُفُّ أبدًا يا ربَّنا

وما أدرى النّايَ المِسْكينَ باللّحن ِ والإيقاع
إنَّما النّافخُ هو البصيرُ وهو الخبيرُ، يا ربَّنا

من انعكاسِ وجهِ الحبيبِ، في هذا الرّوض النّضيد
بكلِّ ناحيةٍ قمَرٌ، وشمسٌ، ونجمٌ يتألّقُ، يا ربَّنا

نحن كالسّيلِ، كالنّهرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُمًا
فالبحرُ مَصَبٌّ لكلِّ سَيلٍ جارفٍ يا ربَّنا

بفضْلِ شمسِ الحقِّ التِّبريزيِّ، تولّهَ القلبُ
وهامَت الرّوحُ، وحارت العينانِ في الحبِّ، يا ربَّنا

يا لها من حرارةٍ فينا، يا لها من حرارةٍ فينا
من عِشقٍ هوَ كالشّمسِ، خَفَي منه ما خفَي وظَهرَ منه ما ظَهرَ، يا ربَّنا

حَبَّذا القَمرُ، حبّــذا القَمرُ، حبّذا خَمْرٌ تصاحِبُهُ
أضْفَتْ على الرُّوح والعالمِ زينةً وَبَهَا، يا ربَّنا

حَبّذا الهِمّةُ، حَبَّذا الهِمَّةُ التي أثارت العالمْ
حبَّذا العملُ، حبّذا المُثولُ بالحَضْرَةِ هناك، يا ربَّنا

قد وقَعنا، قد وقَعنا، فلا تقومُ قائمةٌ لنا
لا ندري، لا ندري، أيَّ حدَثٍ جَلَلٍ جرى، يا ربَّنا

عليكَ بالصّمتِ، عليك بالصّمتِ كي لا تُفْتَضَح
فالأغيارُ4 قد ملأوا ما حولَنا، يا ربّنا

تَجَلَّ يا شمسَ تبريزَ، يا ذا الكمالِ والتَّمِّ
كي لا يكونَ ثمّةُ نقصٍ، للكافِ والنّونِ، أبدًا

بين طَيّات حجابِ الدّمِ، بَدَت للعِشقِ رياضٌ ومُروج
ومعْ جمال العِشقِ غيرِالمحدودِ، بدت للعُشّاق أحوالٌ وشُؤونْ
للعُشّاقِ شارِبِيْ الثّمالةِ في الحَشاشَةِ أذواقٌ

ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا
ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا

وفي قَرارةِ العُقَلاءِ سُودِ القُلوبِ صُنوفٌ من الإنكار

رأى الفكرُ سوقًا فشرعَ في التِّجارة
ورأى العِشقُ وراءَ سوقِ الفكرِ أسواقًا

يقولُ الفكرُ: لا تخطُ خُطوةً، فليسَ في الفِناءِ سوى الشّوك
يقول العِشقُ للفكرِ: إنَّما فيكَ أنتَ الأشواكُ

يا شمسَ تبريزَ، أنتَ شمسٌ في سَحابِ الكِلَمْ
حين طلعتْ شمسُك تبدّدتِ الأقوالُ
أطَلْتُ السُّجودَ، وقلتُ: اْحْملْ هذهِ السّجدةَ منّي لِشَمْسٍ
يحيلُ ضياؤها الحجارةَ الصّمّاءَ ذَهبًا صِرْفا

شققتُ عن صَدري، كشفتُ له الجِراحَ
قلتُ لهُ: “خبِّرْ عنّي الحبيبَ سفّاكَ الدِّماء

خَلِّصْ طِفلَ القلبِ، خَلِّصْ رَضيعَنا من التَّجوال
يا منْ تُجيرُ كلَّ حينٍ مائةً مِثلي أنا المِسْكينُ أنا

سائرُ رِفاقِكَ من حَجَرٍ، وأنتَ ياقوتٌ ومُرجانٌ، فلِمَ؟
السّماءُ عندَ البرِّيَّةِ فضاءٌ أصَمُّ، وهي عندكَ روحٌ من الرّحمنِ، فلِمَ؟

إنْ أَقبلْتَ عليَّ شَرَعتْ كلُّ ذَرَّةٍ منِّي في التّصفيقِ
وإنْ مَضَيتَ أجهشتْ كلُّها بالبكاءِ والأنينِ، فلِمَ؟

إن تَراءى خيالُك بَدتْ في كلِّ ذرَّةٍ مِنّي بَسْمةُ الهنا
وهيَ تغدو مع عَدْوِكَ بأجمعِها قواطعَ حادَّةً وأسنانًا، فلِمَ؟

أينما وُجِدتْ خَرابةٌ وُجِد الأملُ في ظهورِ كَنْزٍ
فلِمَ لا تبحثُ عن كنزِ الحقِّ في قلبٍ مُهدَّمِ البُنيانِ، لِمَ؟

لِكُلِّ أغنيةٍ، أيُّها القلبُ، أوّلٌ وآخِرْ
فكفاكَ ما أنشدتَ الآنَ، أمَا لِهذا اللّحنِ من خِتامٍ، لِمَ؟

لا تَسَلْني عن طُرُقٍ ومنازلَ، كفاكَ حديثًا، كفاكَ حديثًا.
يا مَنْ أنتَ طريقي ومنزِلي، هيّا تعالَ، أَظهِرْ سَنا وجهٍ أو جبينْ

طالما أنا واقفٌ على الحُسْنِ والقُبحِ، أنا واقفٌ
فأنا إذَنْ عن جمالك غافلٌ5، فهيّا تعالَ، اَظْهِرْ سنا وَجْهٍ أو جَبينْ.

إنْ لم يَحترقْ عقلي بعِشقِكَ، بعِشقِكَ
فأنا غافلٌ، لستُ بعاقِلٍ، هيّا تعالَ، اَظْهِرْ سَنا وجهٍ أو جَبينْ

أنتَ لي رُوحٌ وعالَمٌ، فما نَفعي بالرُّوح والعالَم؟
أنتَ لي كَنْزٌ، فما نفعي بالكَسْبِ والخُسران؟

1 إشارة إلى الحسين بن منصور الحلّاج الذي أخذ به السُّكر في العِشق كلَّ مأخذ وأدّى به التّصريح إلى حبل المشنقة والحرق.

2 إشارة إلى اختفاء المعلّم شمس الدّين التّبريزيّ لفترةٍ ثمّ عودتُه إلى جلال الدّين والمريدين.

3 – بقوة الخُلود التي تجتمعُ للمتحقّق بالله في بحرِ القُدرة

4 الذين ليسوا أهلًا للاطّلاع على أمرنا

5 – جمالُكَ حين يستقرُّ في الفؤاد، لا يُرى في الوجود بعد ذلك أيَّ قُبحٍ

الهرمسية

الحكمة الهِرمسيّة نور العالم

أَمَــــدَّت حكمــــة الإغريـــق وألهمــــت العـــــرب
وأرْسَت أوّل نظـــرة توحيديّة لفهـــم الوجـــود

ليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده

«خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثّبات. وجوهرُ الكون هو النظـــام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة».
(النصوص الهرمسيّة)

“مقدَّسٌ هو الإلهُ الواحد الذي يريد أن يُعرَف.”، إنّه نصٌّ هِرمسي له ما يُشبهه في الكتب السماوية المقدّسة، وهو جزء من نصوص تعتبر أقدم أنواع الوحي، وأول نظام أفكار قدم شرحا متكاملا – من منظور التوحيد – لحقيقة الوجود والعالم وهو شرحٌ بليغ تحول مع الوقت إلى مصدر إلهام للحكماءُ والفلاسفة والعلماء لدى جميع الشعوب، كما أنّه كان أحد أهمّ أسباب الدّور الكبير الذي لعبته مصر القديمة (الهِرمِسيّة) في تطوّر الفلسفات القديمة، ولاسيّما فلسفة الإغريق وكذلك فسلفة التصوّف الإغريقي ثم المسيحي ثم الإسلامي.
وقد بقيت “النصوص الهِرمسيّة” المعروفة بالتسمية اللاتينية (Corpus Hermeticum) لزمن وديعة الحكمة المصرية القديمة؛ حَرِص المصريون القدماء على حفظها في حِرْز حريز وعدم البَوْح بمضامينها إلاّ لِمن تأكدت أهليته، وكانت معابد المصريين لذلك عوالم مغلقة لأجيال، قبل أن تبدأ تلك الحصون الفلسفية بفتح بعض أبوابها لرواد وطلبة الحكمة من الإغريق الذين بدأوا يتوافدون على مصر لتحصيل الحكمة المكتومة، والمصانة إلاّ على أهلها، ثمّ وعن طريق الإغريق، وحركة النقل الإسلامية انتقلت إلينا هذه الحكمة باللّغة اليونانية في صياغة تعود إلى القرون الأولى للميلاد في مصر، وتحديداً الإسكندرية.
ولا بدّ من القول إنّ النصوص الهرمسية مُوغِلَة في القِدم، وهو ما أثبتته الكتابات الهيروغليفيّة القديمة بعد فكّ شيفرتها واستطلاع أسرارها، حيث وُجِدَت مُدوّنات تعود إلى آلاف السنين استقت منها النصوص الإغريقية الشهيرة التي عُرِفَت أيضاً بـ “المُتون الهِرمسيّة”. فأنَّى تطَّلّع علماءُ الآثار والمِصريّات ظهرت لهم على جدران المعابد والأهرامات نصوصٌ تُنسَب إلى “تحوت”، هِرمس المُثلّث العَظَمَة، أو تشير إليه وتُمجِّده، وهو ما صاغه الإغريق في توليفةٍ “إغريقية – مصرية” (Graeco – Egyptian) لتأمُّلاتٍ عُرفانية هِرمسيّة حول الإله الواحد الأوحد، والعقل المقدَّس والكون والإنسان.
فما هي حقيقة النصوص الهِرمِسيّة وما هو مضمونها الروحي الفلسفي، وأيُّ رسالة تحملها لنا نحن أهل هذا الجيل المعاصر.

في القرنين الأول والثاني الميلاديّيْن، عَمِلَ الإغريقُ على استنباط تعاليم “هِرمس المُثلّث العَظَمَة” من مصادرها المصرية القديمة، وإعادة صياغتها بلسانهم ونهجهم الفكري، وذلك فيما يُسمى “النصوص الهِرمسيّة” (Corpus Hermeticum)، وهي الترجمة اللاتينية التي قام بها مارسيليو فيسينو لمخطوطة أحضرها كوزيمو دي ميديتشي (Cosimo de’ Medici) حاكم فلورنسا الإيطالية العام 1460م، وهي في أربعة عشر فصلاً، وطُبِعَت منها ثماني نسخ قبل العام 1500م، ومن ثم اثنتان وعشرون قبل العام 1641م. وقد حُفِظَت هذه النصوص في مدرسة فيلسوف الأفلاطونية المُحدَثة أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) ووُجِدَت نسخة منها من خلال الفيلسوف البيزنطي مايكل بسيلوس (Michael psellus) محفوظة ضمن مخطوطات من القرن الرابع عشر الميلادي. أمّا الفصول الثلاثة الأخيرة في النسخات الحديثة فقد قام بترجمتها لودوفيكو لازاريلي Lodovico Lazzarelli (بين عامَي 1447 و 1500) المعاصر لفيسينو على نحو مستقل؛ نقلاً عن مخطوطة أخرى. وقد نُقّحَت هذه النصوص مقارنةً بمخطوطات أخرى نُقِلَت عن اللّغة العربيّة.

مكتبة نجع حمادي
في مقابل ذلك، فإنّ قِدَم الفكر الهِرمسي وسبقه طويلا للإرث الفلسفي الإغريقي تأكد بعد العثورُ على نصوص عُرفانية في ما يُسمَّى “مكتبة نجع حمادي” في مصر وتعود إلى القرن الرابع ميلادي، وبدا واضحا مدى تشابهها الكبير مع الحكمة المصرية القديمة من حيث الأناشيد والصيغة التعليميّة الإرشاديّة بين مُعلِّمٍ وتلميذه (هِرمس وأشقليبيوس)، وكُتبت هذه النصوص التي أشارت إلى مدارس الأسرار الهِرمسيّة باللغة القبطيّة.

الهِرمسيّة أساس الحكمة المصرية
اعتُبرت الحكمةُ الهِرمسيّة الحكمةَ الأوّلية الأساسية وراء “حكمة المصريين” التي تحدّث عنها “سفر الخروج” التوراتي، وكذلك نبّهت إليها محاورات أفلاطون لا سيّما محاورتَي “تيماوس” (Timaeus) و”فايدروس” (Phaedrus) (حيث تحدّث سقراط عن أسطورة “تحيوت”، أو “تيوث” Theuth باليونانية، الذي نُسبَ إليه اختراع الكتابة والحرف وانتشار الحكمة).
ويرى الباحث ستريكر (1949) أنّ نصوص Corpus Hermeticum الإغريقية هي إعادة صياغة للحكمة الهِرمسيّة المصرية. وكان بطليموس الأول سوتر (304-282 ق.م) وابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس (282-246 ق.م) وَعَدا بنشر الأدب السرّي للمصريين القدامى في مصر البطلميّة. ويؤكد ستريكر أنّ “الكوربوس” ما هو إلا نسخة إغريقية عن الفكر الحكمي المصري، فالشكل إغريقي لكنّ المضمون مصري.
وكان الباحثان المختصّان غارث فاودين وجان زاندي ذكرا أنّ جزءاً من نصوص “الكوربوس” يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في حين أوردَ الباحثُ فلندرز بيتريي (1908) أنّ بعض المقاطع تعود إلى كتابات مِصريّة خلال فترة الحُكْم الفارسي، وأنّ معظمها مُستَقى من الفكر الهِرمسيّ السرّي في ما يُسمّى “ماورائيات هرموبوليس (Hermopolis) وممفيس (Memphis) المصريّتَين”، حيث وفَّرت المنبع الأساس للهِرمسيّة البطلميّة (أي في عصر البطالمة في مصر)، وذلك ردّاً على بعض الباحثين الأوروبيين المُغرِضين الذين أرجعوا هذه النصوص إلى مصادر يونانية بل وفارسية ويهودية؛ إنكاراً لاستمداد هذه النصوص من التراث العرفاني المصري الهِرمسيّ القديم.

“الهِرمِسيّة دخلت الفكر الأوروبي في القرون الوسطى عن طريق الترجمات من الّلغة العربيّة”

دين العقل
الحكمةُ المِصريّة التي تتّبع “نهج هِرمس”، على حدّ قول الفيلسوف الإغريقي أيمبليخوس في كتابه “حول أسرار المصريين”، هي لاهوتية وفلسفية في آن وهذا الدِّين الإغريقي-المِصري الذي سادَ في فترة حُكم البطالمة لمِصر قبيل ظهور المسيحية، يضرب جذوره عميقاً في تقليد الأسرار المِصريّة القديمة، وتبدّى ذلك في النسخة الإغريقية للهِرمسيّة العريقة التي اتّسمت بكونها وِفقَ الوصف الإغريقي “دين العقل”.
أمّا الهِرمسيّة الهيلّينيّة العقلانية فصمدت على مر القرون لتُطلِق شرارة عصر النهضة في أوروبا، وتطوُّر العلوم، والفكر الإنساني كَكُلّ. وكان العالِم إسحق نيوتن يؤمن بوجود عقيدة لاهوتية قديمة نقيّة لا تزال تحتفظ بقيمتها، قام بدراستها بعناية لتساعده على فهم العالم المادي. وهو يُورِد في العديد من مخطوطاته مدى عكوفه على دراسة نصوص Corpus Hermeticum الهِرمسيّة المتناقلة منذ الأزمان الغابرة.

محبّة عقلانية وعُرفان
مّهَّدت الهِرمسيّة الفلسفيّة الطريق بروحيّةٍ تأمُّلية وصوفية إلى “محبّة عقلانية للواحد” تماماً كما يصف هذه المحبّة لاحقاً في القرون الوسطى الفيلسوفُ سبينوزا (Spinoza).
و”العرفان” (Gnosis) في الهِرمسيّة الإغريقية، وهو سرٌّ يتناقله الخاصة بالمفاتحة الرُّوحيّة، هو إشراقٌ يأتي نتيجة النشاط المّعْرفِيّ، والتأمُّل الفكري، والتطهُّر المَسلَكِي. لذا فإنّ هذه النسخة الإغريقية من الهِرمسيّة، لا سيّما الإسكندرانيّة منها، “لم يكن لها طقوسٌ ولا كهنة ولا مراسم، بل هي جماعة” تتآلف بهذا الفكر الفلسفي والوَجْد الرُّوحي وتبجيل “كلمة” الإله الواحد الخلّاقة المقدّسة1
وهذا الإثبات الوجودي الفلسفي للنسخة الإغريقية من الهِرمسيّة؛ يؤمِن بثلاثة أوجه للحقيقة: الإله الواحد، وعالم الكائنات العُلوية، والإنسان وما حوله من وجودٍ مادي ومخلوقاتٍ حيّة، وكلُّ ما في الكون “مرآةٌ” تسمح لنا بِلَمْح تبدّياتٍ للجمال الإلهي. والإلهُ الواحد هو خالقُ كلّ الوجود ومُتَعالٍ عنه وليس هو كلّ الوجود، كما جاء في وحدة الوجود الهندوسية على سبيل المثال، وهو مُتَرفِّعٌ، مُنَزَّهٌ عن “الحُلوليّة”وبالتالي تسعى الهِرمسيّة إلى الارتقاء من المعرفة إلى العِرفان (Gnosis)، ومن المعرفة حول الإله الواحد إلى معرفته هو، وهو جوهر فلسفة فيثاغورس، وهنا نجد تلاقيا وتكاملا بين الفكرَين الهِرمسي والفيثاغورسي.
ولا بُدّ من التوضيح في هذا المقام أنّ بعض الباحثين عَمَدَ، نتيجةً لعدم تضلُّعه بأبعاد المصطلحات اليونانية وجذورها، إلى الخلط بين الكائنات الإلهية العُلوية (Deities) باليونانية وبين الآلهة، فتبدو الفكرة كما لو أنها تتحدث عن تعدُّد للآلهة، وهم لم يُفسِّروها بمعناها الحقيقي أي الجواهر العُلوية أو “الجواهر الأُوَل” أو العِلَل”، وفق المفهوم الأرسطوطاليسي.
وفي الهِرمسيّة، الإنسانُ هو أشرف المخلوقات، تُحفِّزه “شرارةٌ مقدّسة” في داخله، لذا فإنّه في أعماق كينونته كائنٌ مقدّس بالفعل، وهدف التقليد الهِرمسيّ هو إيقاظ الإنسان على حقيقة “كينونته الداخلية”. والخيار الحاسم أمام الإنسان إذاً هو بين العالَم المادي والعالَم الرُّوحاني، بين الجسدي والنفسي. ويُطلَق على إحراز معرفة الذات ومعرفة الحقائق العُلوية هذه وصف “الولادة من جديد” (النصوص الهِرمسيّة، الفصل الثالث عشر)، وهي على نقيض الولادة الجسديّة: تُحرِّر النفسَ ولا تسجنها في أحابيل الجسد، إنّها ارتقاءٌ للنفس خلال الحياة بفضل “نور العقل” الحاضر. وتُفضِي هذه الولادة الرُّوحيّة، بفضل “المُعلِّم الرُّوحاني” العظيم، إلى ترقِّي النفس في معرفة الإله الواحد، فيما يُسمَّى بالنصوص الإغريقية “معمودية بالعقل” وهي تَطهُّرٌ بمعرفة الذات، والتضحية بما هو مادي حِسّي للاطّلاع على الأسرار العقلية أو الرُّوحيّة.
والروحانية الهِرمسيّة الإغريقية تلحظ في مفهوم “خلاص الرُّوح” تصوُّرَ موت رمزي للمُتَهيِّئ روحيّاً، بالنأي عن كلّ ما سبق من معتقدات فاسدة وملذّات حِسّية، والولادة من جديد تنعُّماً بأنوار العقل المقدَّس.
و”العقلُ المقدَّس” هو سيّد العوالم، والمُعيِن الذي يساعد النفس البشرية على التحرُّر من أشراك الجسد المادي، ويجعلها تستنير بنور العرفان. و”المعلِّم الرُّوحي” العظيم الذي يُنير النفس بأنوار العقل المقدّسة، هو تجسُّد لهذا العقل العُلوي، الذي يحتوي على “البذور العقليّة” لكلِّ ما هو موجود ومخلوق (تماماً كما في فكر أفلاطون، وما ردّده لاحقاً سبينوزا). فكلّ ما في الكون هو تبدٍّ لهذا العقل.
وجاء في النصوص الهِرمسيّة: “خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثبات. وجوهرُ الكون هو النظام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة”.

اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية
اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية

«إذا ما كانت لك القدرة على أنْ ترى بعينَيّ العقل، عندها يا بُنيِّ، سيتراءى الإلهُ الواحد لك. فالمولى يتجلَّى في الكون، ويمكنك أن ترى صورتَه بعينيك».
(النصوص الهِرمسيّة -الفصل الخامس)

الهِرمسيّة الصُّوفيّة العرفانيّة
إذاً، الهِرمسيّة هي عُرفانية لأنّها ترى إمكانية معرفة الإله الواحد بالاتحاد مع “العقل العُلوي”، وتلقِّي لطافة نور منه تُحقِّق استنارة داخليّة أو “عُرفاناً”. لكن ما لم يتّضح في الهِرمسيّة الإغريقية وهو مسألة التّضادّ أو وجود “وسيط الشر” (Evil Demiurge)، سيتّضِح فيما بعد في “العرفانيّة الأفلوطينية”، فكلّ الخلق خيرٌ وجمال، وإنّما يعود الأمر إلى خيار الفرد وطبيعته وخضوعه لأهوائه وجهله بالميل إلى هذا التضادّ.
وكان كليمُنت الإسكندري على قناعة بأنّ المِصريّين القدماء كانت لديهم اثنتان وأربعون صحيفة مقدّسة تعود إلى هِرمس. وممّا يُلفت الانتباه أنّ المِصريّين كانوا يُقسِّمون بلاد الكنانة إلى اثنين وأربعين إقليماً!
وفي هذا يقول الباحث البريطاني فريدريك غرين (1992) إنّ ثمةَ رابطاً بين الحكمة المِصريّة “الهِرمسيّة “والتعاليم المسيحية والفكر الإسلامي في القرون الوسطى من ناحية العلاقة بين المعرفة العقلانيّة والإلهام والوحي”.
وهذا يكشف دخول المفاهيم الهِرمسيّة إلى أوروبا بعدما نشرتها الترجمات العربيّة، وقد نُقِلَت نصوص هِرمسيّة من العربيّة إلى العديد من اللغات الأوروبية، بدءاً من اللاتينية وصولاً إلى الإنكليزية وتحديداً على يد العالِم الكبير إسحق نيوتن، الذي اعترف بفضل الهرمسية على انطلاقته العلميّة.

الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله
الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله

الهِرمسيّات والتّهرمُس في الإسلام
كتبَ المستشرقُ لوي ماسينيون أنّ أهل الكوفة “ اطّلعوا على نصوصٍ هِرمِسيّة” وكذلك أهل البصرة، في إشارة إلى علوم وفلسفة “إخوان الصفاء”، في حين أنّ الفيلسوف هنري كوربن (Henry Corbin) تحدّث عن “التّهرمُس” في الإسلام، وأنّ الإسلام “عرفَ الهِرمسيّة قبل أن يعرف قياس أرسطو وماورائياته”.
ولفتَ الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى تأثير الهِرمسيات على التصوُّف الإسلامي وذلك من طريق ذي النون المصري (المتوفى عام 859 ميلادي) والذي شُهِرَ عنه انشغاله بالكيمياء أو الخيمياء الهِرمسية.
ويتحدّث معظم المؤرّخين العرب القدامى عن هِرمِس بأنّه نبي الله إدريس، وأنّه المذكور في التوراة باسم أخنوخ، وأنّه هو الذي بنى الأهرامات. ونجد تأثير الهِرمسيّة على التصوُّف الإسلامي في ما يُسمَّى “رسالة هِرمس في زجر النفس”، المعروفة ضمن إرث الأفلاطونية المُحْدَثة، وهي عبارة عن مناجاة للنفس وتأنيبها ودعوتها للتطهُّر والتقديس، أشبه بمناجاة الصّوفيّة وأشعارها، ونلمس مدى هذا التأثير أيضاً في كتاب “في مسالك العرفان على خطى هِرمس الهرامسة” للمعلّم كمال جنبلاط.
ويشير الباحث البروفيسور تشارلز بورنيت في هذا الصّدد إلى أنّ النصوص اللاتينيّة الأولى حول الخيمياء تمّت ترجمتها من العربيّة إلى اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، في كتابَين كما وُجِدَت نصوص خيميائية باللغتين العربيّة واللاتينية تحمل كتابات ورموزاً سرّية. وبذلك تكون النصوص الهِرمسيّة بانتقالها عبر الفكر الفلسفي الصُّوفي العربي وانتشار أصداء هذه التعاليم في أوروبا وراء انطلاق “عصر النهضة”، أكثر من التأثير الذي أحدثه سقوط القسطنطينيّة وانتقال علمائها إلى أوروبا.
وعظمة هِرمِس أقرَّ بها أساطينُ النهضة الأوروبية أمثال: إسحق نيوتن، وكوبرنيكوس، وروجر بايكون، وليوناردو دافنشي، وكذلك توماس مور، ووليم بلايك، وحتى شكسبير، وجميع قادة الإصلاح الديني، وعالِم النفس الشهير كارل يونغ. وأينما حَلّت الهِرمسيّة ومهما كانت حِلَّتُها، تطوّرت العلوم وازدهرت الثقافة والحضارة، من مكتبة الإسكندرية إلى حرّان، وثابت بن قُرّة وقومه الصابئة الذين اعتبروا هذه النصوص كتاباً مقدّساً مُنزَلاً؛ هي صحف هِرمس، وصولاً إلى بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، ومن ثم إلى قلب أوروبا إلى أحضان العُرفانييّن في فلورنسا حيث انطلقت شرارة النّهضة الأوروبيّة بفضل العقلانيّة الهِرمِسيّة.

مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة
مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة

تسبيح من هِرمِس المثلّث العظَمة
“وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ .لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل.”

الوجه الإنساني للتجلّي الإلهي
وجاء الفكرُ الإغريقي في الإسكندرية ومصر ليُعيد “الوجه الإنساني الهِرمسيّ الأصيل” للتجلّي الإلهي، وهنا يشير الباحث “ميد” الذي قام بترجمة النصوص الهِرمسيّة من اللاتينية إلى الإنكليزية، إلى أنّ الفكر الهِرمِسيّ المُتَنَاقل عبر الأجيال إنّما يُبجِّل جمالَ وكمالَ الهيئة البشرية أو الصورة البشريّة.
وتحثّ النصوص الهرمسية على لسان هِرمس متحدِّثاً إلى تلميذه تات Tat)، على التفكُّر في الخلق الإلهي؛ في الشمس والقمر والنجوم، والنظام الذي يعمّ الكون، والسّماوات والبحار والأفلاك الدوّارة، وفي خلق الإنسان في الرحم، كلّ هذا يدلّ على وجود صانعٍ خالقٍ مُدبِّرٍ، “هو الإلهُ الواحد فوق كلّ الأسماء، غير المتجلِّي، ومع ذلك يتجلّى ويتراءى للعقل” المتيقّن (المقاطع 3، 5، 6، 10 من الفصل الخامس).
وتؤكّد النصوص بنَفَسٍ توحيديٍّ، ولو غشّاه وشاحٌ من الغموض التأمُّلي، أنّ الإلهَ الواحد “ثابتٌ صَمَدٌ، ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها. لا يشوبُه نقص. هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً. هو الحقّ كما أنّه المُطلق الأكمل الأسمى. لا تُدرِكه الحواس. ولا تُدرِكُه المعرفةُ مهما عَظُمَت”.
ويبتهلُ هِرمس إلى الإله الواحد قائلاً في تسبيحٍ صوفي عُرفاني: “وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ … لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل..!”
بيدَ أنّ هذا العرفان الذي نعِمَت به مِصْر في أدوارٍ من التاريخ، كان له في كلّ دورٍ نهاية مؤسِفَة. ففي النصوص الهِرمسيّة “نبوءةٌ” مُحزِنَة، فمصر “الحبيبة التي كانت مقرّاً للرُّوحانيات، سيأتي زمنٌ لا يسعى أحدٌ فيها إلى الحكمة، وسيسود الجهل، وستصبح مُوحِشَة، وسيغيب عنها الإله.

حــــوار حــــول حقيقــــة الكــــــون
بين هِرْمِس وتلميذه أشقلبيوس

الله ليس العقل بل مُعِلّ العقل وهو الخير٫ والخير يعطي الأشياء كلَّها ولا يأخذ منها

في ما يلي نبذة من النصوص الهِرمسيّة تمثّل حواراً بين هِرمس مُثلّث العَظَمَة وتلميذه أشقلبيوس:
هِرمس: كلّ ما هو متحرّك يا أشقلبيوس، أَلا يتحرّك بواسطة شيء آخر؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وألا يجب أن يكون ذاك الذي يُحرِّك، أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: لا بدّ أن يكون كذلك.
هِرمس: والمُحرِّك هذا، أليسَ له قوة أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: بالطّبع.
هِرمس: أضِفْ إلى ذلك، إنّ طبيعة الوسط الذي يتحرّك فيه المُتحرِّك، أليست مختلفة تماماً عن طبيعته؟
أشقلبيوس: حتماً، مختلفة بالكامل.
هِرمس: أليسَ هذا الكون شاسعاً حيث لا يُضاهيه في الاتساع جسمٌ أعظم؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وهائل أيضاً إذ إنّه يكتظ ويزخر بأنظمة عظمى أخرى في داخله.
أشقلبيوس: إنّه كذلك.
هِرمس: ومع ذلك، فإنّ الكون جسم.
أشقلبيوس: نعم، إنّه جسم.
هِرمس: وهو جسمٌ متحرّك.
أشقلبيوس: بكلّ تأكيد.
هرمس: فبأي حجم ينبغي أن يكون الفضاء الذي يتحرّك فيه وبأي طبيعة، ألا ينبغي أن يكون أكثر اتّساعاً (من الكون) كيما يفسح مجالاً للحركة المستدامة،
ولا يقيّد المُتحرِّك فيفقده حركته؟
أشقلبيوس: أجل أيُّها المُعظَّم، وأضخم اتّساعاً.
هرمس: وأي طبيعة له، ألا ينبغي يا أشقلبيوس أن تكون نقيضة تماماً، أليسَ نقيض الجسد ما هو غير مجسَّد؟
أشقلبيوس: موافق على هذا.
هرمس: الفضاء إذاً غير مجسَّد… وأكثر من ذلك، كلّ ما هو مُتحرِّك فإنّما يتحرّك بالثابت، وذاك الذي يُحرِّك هو بالطبع ثابت مستقر من المحال أن يتحرّك.
أشقلبيوس: فكيف إذاً، يا مُثلّث العَظَمَة، تتحرّك الأشياء هنا في الأسفل من قِبَل متحرّكات أخرى؟ إذْ إنّك قد قلت إنّ الأفلاك المتحرّكة تُحرِّكها الأفلاك الثابتة.
هرمس: هذا ليس تحريكاً من قِبَلها يا أشقلبيوس، بل تحرّك تجاه بعضها البعض، إنّه هذا التضاد، هو الذي يُحوِّل مقاومة حركتها إلى استقرار، حيث إنّ تلك المقاومة هي استقرار للحركة. وهنا أيضاً فإنّ الأفلاك المتحرّكة لكونها تتحرّك معاكسة للأفلاك الثابتة، فإنّها تتحرّك معاكسة لبعضها البعض، بشكلٍ متبادَل غير التضادّ عينه. ومجموعات الدّبَبَة في السماء (الدب الأكبر والدب الأصغر) والتي لا تطلع ولا تغيب، ما تظنُّ بها، هل تستقرّ أم تتحرّك؟
أشقلبيوس: إنّها تتحرّك يا مُثلّث العَظَمَة.
هرمس: وما هي حركتها يا أشقلبيوس؟
أشقلبيوس: تلك الحركة التي تلتف دائرة إلى الأبد.
هرمس: لكنّ الدوران، الحركة الدائرية حول محور واحد، هو ثابت بالاستقرار،
إذ إنّ الدوران حول محور واحد يُوقِف الحركة التي تتجاوز هذا المحور، فتصبح ثابتة، والعكس يبقى راسخاً أيضاً بفعل التضاد أيضاً. وسأضرب لكَ مثلاً هنا على الأرض ممّا تشاهده العين، رجلٌ يسبح، الماء يتدفّق ومع ذلك فإنّ مقاومة يديه وقدميه تُعطيه ثباتاً، فلا هو ينجرف معها ولا هو يغرق أيضاً.
أشقلبيوس: لقد قدّمت مِثالاً جَلِيّاًّ، لكن أيُّها المُعظَّم؛ ماذا نُسمِّي إذاً الحيّز الذي يتحرّك فيه الكلّ؟
هِرمس: “غير المجسَّد” يا أشقلبيوس.
أشقلبيوس: وما هو الإله إذاً؟
هِرمس: ليس هو كذلك، إنّما هو مُعِلٌّ لكلّ تلك الأشياء، ومُسبِّب وجودها، وليس ثمّةَ وجود من دونه.
أشقلبيوس: فماذا تقول عن الإله؟
هِرمس: الله إذاً ليس العقل؛ بل مُعِلّ العقل، وليس هو الرُّوح بل مُعِلّها، وليس هو النُّور إنّما هو مُعِلّ النور، لذا يجب أن نُمجِّد الله بهذَين الاسمين: الخير والأب، اسمين يختصّان به وحده وحسب. فليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده. وتبرز عَظَمة الخير الكبرى كمُوجِد للموجودات، المُجسَّدة وغير المُجسَّدة منها، المحسوسة والمُدرَكة، فلا تدعُ خيراً بعد الآن سوى الله؛ وإلا ستكون جحوداً، ليس ثمّةَ شيء يُدعَى خيراً في أي وقت كان سوى الله وحده، ادْعُهُ خيراً، ولن تكون جاحداً به أبداً بعد اليوم.
ورغمَ أنّ الجميع ينطِقون بالخير فإنّهم لا يفهمونه، وبذلك فَهُم لا يفهمون الله لجهلهم الخير وعجزهم عنه، إنّهم يختلفون تماماً عن الله، فيما الخير لا يتميّز عنه أبداً. لذلك فإنّ طبيعة الإله والخير واحدة. الخير هو الذي يُعطي الأشياء كلّها ولا يأخذ منها. والله إذاً هو الذي يعطيها ولا يأخذ أيضاً، فالله هو الخير والخير هو الله.

يوثيديموس

يُوثيدِيموس

سقراطُ يَدحضُ السّفسطائيّين

سقراط
لو اكتشفنا كيف نحوّل الحَصى إلى ذهب فإنّ هذه المعرفةَ
لن تكونَ لها أيُّ قيمة إنْ لم نكن نعلمُ كيف نستخدمُ الذّهب

تعتبر محاورة يوثيديموس التي كتبها أفلاطون في العام 384 قبل الميلاد واحدة من عدّة أعمال أعدّها في تلك الفترة بقصد التّصدي للمدّ السّفسطائي الذي كان قد انتشر وبدأ يعيث فساداً في الحياة العامّة وفي الثّقافة الأثينيّة التقليديّة. ومن المحاورات التي خصّصها أفلاطون للتّصدّي للسّفسطائيّين تلك المسمّاة بروتاغوراس ومحاورة جورجياس ومحاورة هيبياس وغيرها لكنّ محاورة ثيوديموس كتبت في المرحلة الوسطى من أعمال أفلاطون وهي تختلف عن المحاورات السّابقة التي تناولت السّفسطائية في تعامل سقراط السّاخر مع اثنين منهم يصبحان موضوع المحاورة الأساسيّ ويجعل منهما سقراط أضحوكة للحاضرين. وفي هذه المحاورة يبيّن أفلاطون هشاشة الحيل اللّفظية والمماحكات الفارغة التي يستخدمها أتباع هذا النّهج بهدف بلبلة المحاور وإخضاعه وكيف يستخدمان نوعاً من “اللّاأدرية” كدخان مناسب للهرب من تقديم إجابات شافية وتضييع الموضوع. ولهذا الغرض ربّما فإنّ الحوار في يوثيديموس يدور مع اثنين من السّفسطائيين لم ينالا شهرة كبيرة كما نال مؤسّس المدرسة بروتاغوراس ومن بعده جورحياس واللّذين يحظيان في محاورتين لأفلاطون سُمّيتا باسمهما بمعاملة أكثر اعتدالاً رغم الاختلاف معهما في كلّ الأمور تقريباً. وبهذا فإنّ يوثيديموس جاءت ربما في مرحلة استفحل فيها أمر السّفسطائيّين لكن مع تدهور شامل في مضمون دعوتهم لصالح المهارات الكلاميّة والأحابيل الجداليّة، وهو أمر غالبا ما يحصل في كلّ تيار إذ يكون في عزّه في ظلّ المؤسّسين الأقوياء والأفذاذ لكنّه ينتقل من بعدهم إلى فريق واسع لا يتمتّع بأيٍّ من المواهب التي توافرت لمن سبقهم وهو ما يعجل في التّداعي التّدريجي لذلك التيار الفكري الذي يفقد لا محالة ثقة النّاس واحترامهم.

إن مقارنة الحوار بين سقراط والسّفسطائيين الأوائل مثل بروتاغوراس وجورجياس بالحوار الذي أورده أفلاطون في يوثيديموس كاف لوحده لإظهار التّبدل الكبير الذي حصل للسّفسطائية في مدة قصيرة نسبيّاً من الزّمن. وبسبب هذا التّبدّل أو التّراجع في مصداقية تلك المدرسة نرى سقراط على غير عادته ينحو منحى الهزء والسّخرية المبطّنة في الحوار مع بطلَيّ المحاورة السّفسطائيّين يوثيديموس وشقيقه ديونيسودوروس. وقد ظهر الاثنان للقارئ كمثال سيّىء عن المنهج السّفسطائي وبدا واضحاً قدر التّخريب الذي باتت تلك المدرسة تحدثه في النّسيج الأخلاقي والفكري للمجتمع الإغريقي. وبالطّبع وبسبب غرابة منطق الرّجلين وأسلوب المماحكة بل اللّامنطق الذي يلجآن إليه في محاولة لكسب الحجّة، فإنّ سقراط لم يجد أيّ صعوبة في كشف هشاشة منطقهما للمشاركين الآخرين في المحاورة.
ومن أجل فهم خلفيات هذه المحاورة المهمّة (والطويلة نسبيّاً) لأفلاطون سنحاول أوّلاً إعطاء وصف موجز لمدرسة السّفسطائيّين مع مقارنتها لاحقاً بالمنطق الجَدليّ لسقراط الحكيم في تعليمه للشّبيبة ولكلّ من كان يأتي إليه طلباً للمعرفة.

من هم السّفسطائيّون
عُرِف السّفسطائيّون بالدّرجة الأولى باعتبارهم معلّمين محترفين، ذاع أمرهم في النّصف الثّاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا ينتقلون بين المدن الأثينيّة ويعرضون خدماتهم في تعليم الشّباب الإغريق من أبناء الطّبقة الثريّة مقابل أجر، وكان الغرض من تعليمهم مساعدة الشّباب على الترقّي في المناصب أو كسب الحجّة في المحاكم أو دخول مجال الخطابة والسّياسة. وبالنّظر لأنّ السّفسطائيّين لم يهتمّوا بالعلم ولا بالفلسفة بل بالجدل وفنّ المناظرة والبلاغة الكلاميّة واستخدام هذه الفنون في قهر الخصم وكسب الحجّة أو المسألة فإنّ المرداف الأقرب لتعليمهم هو ما نسمّية “الدّيماغوجيّة”. لقد تخصّصوا في فن “الإقناع” وتخريج أشخاص لديهم من حيل البلاغة وقوّة اللّغة ما يمكنهم من تشويش الحقائق وبلبلة الخصم وضعضعته. ادّعى السّفسطائيّون أنّ هدفهم بدل تعليم الفلسلفة والشؤون النّظرية هو مساعدة شباب الأسر الثريّة على النّجاح في حياتهم العمليّة والارتقاء في الحقل العامّ أو المهن وهو ما يمكن تشبيهه اليوم بدورة للتّدريب على القيادة.. وبسبب توجّه الحياة في أثينا نحو الرّخاء والثّراء المادّى أو السّلطة فقد لقيَ السّفسطائيّون إقبالاً واسعاً واشتهر الكثير منهم وحقّقوا مكانة وثروات كبيرة.
لكنّ تعليم السّفسطائيّين كان في الوقت نفسه بمثـابة نكسة أخلاقيّة وفكريّة كبيرة لأثينا والمدن اليونانيّة التي كان التّعليم فيها قبل السّفسطائيّين متركّزا على اكتساب الفضائل وقيم الأرستقراطية وخصال المحاربين الأبطال مثل الشّجاعة والقوة البدنيّة والشّهامة. وكان لنشوء الدّيمقراطيّة الأثينيّة وحالة السّلم والرّخاء دور كبير في هذا التّحول إذْ باتت الحاجة أقوى لدى الناس للترقّي الاجتماعيّ عبر قوّة الحجّة والحضور الشّخصي والبراعة في الإقناع والتّأثير على النّاس بالخطابة. ومن أبرز ممثلي المدرسة السّفسطائية بروتاغوراس وجورجياس وأنتيغون وهيبياس وبروديكوس وثراسيماخوس. وقد أقلق صعود السّفسطائيّين بشدّة الحكيم سقراط وتلميذه أفلاطون وقد خصّص الأخير عدداً من محاوراته لدحض الفكر السّفسطائيّ وإظهار فساده وخطره على المجتمع الإغريقي. وحمل العديد من تلك المحاولات أسماء السّفسطائيين المذكورين.
لذلك فإن الهدف الأوّل لأفلاطون من هذه المحاورة هو إظهار التّعارض الأساسيّ بين مفهومين لـ “المعرفة”: مدرسة السّفسطائيّين التي تقوم على الجدل وفن البلاغة وكسب الحجّة بأيّ أسلوب ومدرسة سقراط التي تقوم على المعرفة من خلال البناء المنطقيّ أو الديالكتيكي للحوار بهدف التوصل إلى المعرفة أو الحقيقة.
يعرض أفلاطون محاورة يوثيديموس ليس كحوار بين أشخاص المحاورة -كما يفعل في المؤلّفات الأخرى- بل على شكل رواية يقصّ سقراط وقائعها على صديقه كريتو وهي تتناول جلسة مع السّفسطائيَّين يوثيديموس وديونيسودوروس حضرها بنفسه مع جمع من الشبّان. وأفلاطون هنا لا يريد أن يعطي لهذين الشّخصين صفة المحاورين، لأنّهما حسب تقديره لا يستحقّانها وهو ما سيتّضح لاحقاً من خلال عرض مُجْريات “المحاورة”. .
يبدأ كريتو صديق سقراط بالسّؤال عن اؤلئك الأشخاص “الغرباء” الذين كان سقراط يتحادث معهم في اللّيسيوم وهو مكان للاجتماعات العامّة في أثينا القديمة. ويجيب سقراط بالقول أنهما “أُخرِجا” من المدينة التي كانا فيها ثم وجدا طريقهما إلى الديار الأثينيّة، وهذا الكلام يشير إلى العداء الذي كان عامّة الناس بدأوا يظهرونه للسّفسطائيين والذي كان يصل إلى حدّ سجنهم أو حتى قتلهم أو طردهم. لكنّ السّفسطائيين بدأوا مع ذلك يستفيدون من مناخ الديمقراطيّة اليونانية ويجولون في المدن عارضين خدماتهم لتعليم نهجهم في الجدل وكسب الحجّة. ويتّضح أنّ الرّجلين (يوثيديموس وديونيسودوروس) غريبان عن أثينا من قول كريتو لسقراط إنّه لا يعرف أيّاً من الرّجلين. ويردّ سقراط بتعريف ذي دلالة للرّجلين فهو يخبر كريتو أنّ الرّجلين لا يتمتّعان فقط بخبرة القتال بالدّروع والسّلاح ولكنّهما ماهران في “حروب القانون” فهما يعلِّمان من يدفع المال لهما كيفيّة سوق الحجّة القويّة أمام القضاء. وهما يمتلكان مهارة خاصّة في “حروب الكلام” لدرجة أنّ في إمكانهما أن يدحضا أيَّ حجّة سواء كانت صحيحة أو خاطئة. وإشارة سقراط الأخيرة تشير إلى علّة أساسيّة في تقنيّة السّفسطائيّين وهي إنهم على استعداد لهدم حجّة صحيحة ومحقّة من أجل كسب حرب الكلام، ولهذا السّبب بالذّات فقد شكّك أفلاطون بالمضمون الأخلاقيّ لتعليمهم واعتبر أنّ همّهم الأساسيَّ هو المبارزة بالحجّة والجدل وليس الوصول إلى الحقيقة أو الفضيلة.
يشرح سقراط لكريتو كيف تمكّن من حضور مجلس هذين السّفسطائيّين وما حصل بعد ذلك من حوار بينهما وبين الحاضرين، وبصورة خاصّة الشابّ كلينياس، الذي حضر بهدف معرفة ماذا يمكن لهذين الرّجلين أنْ يعلّماه. وكلينياس كما يصفه سقراط شابّ حقّق الكثير من التقدّم في المعارف وله معجبون كُثر رافقوه إلى مجلس السّفسطائيَّين. وهذا الوصف يجعلنا نفهم لماذا فشل الرّجلان في إقناع كلينياس بتعليمهما وبنهجهما. علماً أن أفلاطون يعطي حيّزاً مهمّا لحوار جانبيّ بين كلينياس وسقراط ليظهر الفارق الكبير في الطّريقة التي تعامل بها السّفسطائيون مع هذا المريد أو طالب العلم وبين الأسلوب الجَدَليّ المنطقيّ الذي يتّبعه سقراط.
النّقطة المهمّة التي سيبدأ بها سقراط استدراج السّفسطائيّيْن هي سؤالهما عمّا يُعلِّمانه، وهو كان يتوقّع أن يُجيبا بما يعلمه عن خبرتهما في فنّ الجدال والقانون مثلا أو الخطابة لكنّه فوجِئ بقولهما إنّهما “يعلّمان الفضيلة” وهو تصريح خطير في نظر أفلاطون الذي اعتبر أنّ من الجرأة بل الصّفاقة أن يُدليَ سفسطائي مهتمٌّ بكسب المال عبر تعليم المماحكة وقلب الحقائق بهذه الدّعوى، وهذا ما يجعله يعمد إلى عرض الحوار لإظهار كذب الادّعاء وتوضيح حجم الضّرر الذي يوقِعه السّفسطائيون في عقول العامّة وفي انتظام المجتمع والفضيلة.
يوثيديموس السّفسطائي لا يكتفي بادّعاء تعليم الفضيلة بل إنّه يزيد بالتّأكيد لسقراط أنّه وشقيقه يعلّمانها أفضل من أيِّ إنسان آخر.
صاح سقراط لدى سماعه لهذا الجواب: يا إلهي! أين تعلّمتم هذا الفنّ؟ كنت أظنّ أنّكما تتقنان فنّ القتال بالدّروع والسّلاح فقط ، لذلك أرجو أن تَعْفُوَا عن قلّة أدبي مع أشخاص عظام مثلكما، لكن هل أنتما واثقان فعلاً ممّا تقولان؟
يردّ الرّجلان بتأكيد دعواهما ويضيفان بأنّهما مستعدّان لتعليم الفضيلة لأيٍّ كان يطلب ذلك (وكأنهما يعنيان بذلك سقراط أيضاً). يردّ سقراط بأنّه متحمّس فعلاً للتّعلّم منهما وأنّ هناك أيضاً شباب مثل كلينياس وستسيبّوس ينتظرون للسّماع من الرّجلين.
يتابع سقراط مخاطباً يوثيديموس: ما يهمّني هو أن أعرف إنْ كان في إمكانكما أنْ تقنعا الشّباب الحاضرين هنا أنّ في إمكانهم تعلّم الفضيلة وأنّ عليهم أن يتعلّموها. ويشير سقراط هنا إلى وجود الشّاب كلينياس الذي يخاف عليه أنّ يسير في الطّريق الخطأ نتيجة تأثير بعض النّاس ويهمّه لذلك (على سبيل الجدل) أن يقوم يوثيديموس وشقيقه بأخذه إلى الطريق الصّحيح. بالطّبع سقراط هنا يستدرج الرّجلين وهو عالم بهشاشة منطقهما، لكنّه يريد للمجتمعين أن يلمَسوا ذلك من خلال الحوار نفسه، وهو سيلعب دوراً مهمّاً لاحقاً في هذا السّياق.

بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية
بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية

أحابيل السّفسطائيين
يبدأ هنا فصل مثير تظهر خلاله الأساليبُ الملتوية للسّفسطائيّة في ميدان المجادلة وما سمّاه سقراط “حروب الكلام”.
وافق يوثيديموس على طلب سقراط تعليم كلينياس لكنّه اشترط على الشّابّ أن يجيب على عدد من الأسئلة.
هنا يتابع سقراط رواية ما جرى لصديقه كريتو وهو يذكر أنّ يوثيديموس بدأ بطرح السّؤال التّالي على كلينياس:
يوثيديموس: أجبني يا كلينياس من الذي يطلب العلم هل هو الرّجل العاقل أم الجاهل؟
أصيب كلينياس بالحَيْرة والصّدمة لهذه البداية، لكنّ سقراط شجّعه على أن يجيب بما يفكّر به ولا يخاف!
هنا انحنى ديونيسودوروس حتى اقترب من أذن سقراط وهمس له ووجهه طافح بنشوة الفوز قائلا: مهما كان جواب الفتى فإنّني أتنبّأ لك يا سقراط بأنّه سيتمّ دحض جوابه”
يورد أفلاطون هذه اللّفتة من ديونيسودوروس ليظهرَ من أوّل الطّريق كذب السّفسطائيين في ادّعاء تعليم الفضيلة، وأنّ همّهم الأوّل هو ربح معركة الكلام وهدم المُحاوِر وليس إسداء خدمة التّعليم والإرشاد؟
أعطى كلينياس جوابه فقال إنّ الذي يطلب العلم هو العاقل.
أجاب يوثيديموس من فوره: هناك من يمكن تسميتهم المُتعلِّمون أليس كذلك؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: وهناك الأساتذة الذين يعلمون الشّباب اللّغة والقواعد أو عزف اللّير أو غير ذلك، وهؤلاء هم الأساتذة وأنتم الطلّاب؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: عندما كنتم طَلَبة في طور التَعلّم فإنّكم لم تكونوا عندها تعلمون شيئاً عمّا تتعلمونه؟
كلينياس : كلّا
يوثيديموس: وهل كنتم عقلاء عندها؟
كلينياس: لا، بالتأكيد
يوثيديموس: لكن إن لم تكن عاقلاً يومها فهذا يعني أنّك لم تكن متعلّماً
كلينياس: بالتّأكيد
يوثيديموس: إذن وبما أنّك كنت تتعلّم ما لا تعرفه فلا بدّ أنّك كنت جاهلاً عندما كنت تتعلّم؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: إذن يا كلينياس الجاهل هو الذي يتعلّم وليس العاقل كما تظنّ!
يكمل سقراط حديثه إلى صديقه كريتو فيذكر له أنّ أتباع السّفسطائيّين هبّوا في تلك اللّحظة في جوقة من الضّحك والتّهليل الحماسيّ ليوثيديموس الذي “سحق” الولد بعد سلسلة من الأسئلة التي تحمل الكثير من المنطق الشّكليّ والحيل الكلاميّة لكن التي تفتقد لأيّ محتوىً نزيه. كأنّ جمهور السّفسطائيّين كان يشهد مباراة في تسجيل الأهداف ربحها رجلهم يوثيديموس.
قبل أن يستفيق كلينياس من الصّدمة أخذ السّفسطائيّ الآخر، ديونيسودوروس بيده برفق وبدأ ما بدا أنّه فصل جديد في محاولة إذلال الشابّ. أمّا الحيلة فهي أن يظهر له ديونيسودوروس أنّ الجواب الذي أعطاه ليوثيديموس وبدا أنّه الجواب الصّحيح هو الخطأ وأنّ جوابه الأوّل الذي سفّهه يوثيديموس هو الصّحيح! وهذا هوتطبيق ما أسرّ به ديونيسيدوروس لسقراط قبل قليل عندما أكّد له بأنّ كلينياس الشابّ سيخسر الجولة مهما كان جوابه (!).
الحوار-الفخّ الذي نصبه ديونيسودوروس لكلينياس جرى كالتّالي:
ديونيسودوروس: أخبرني يا كلينياس ، عندما كان أستاذ اللّغة والقواعد يُملي عليك شيئاً ممّا يعلمه هل كان الأولاد العاقلون أم الجاهلون هم الذين يتعلّمون ما يمليه؟
كلينياس: العاقلون
ديونيسودوروس: إذن العاقلون هم الذين يتعلّمون وليس الجاهلون، وهذا يعني أنّ جوابك الأخير ليوثيديموس كان جواباً خاطئاً.مرّة أخرى. وكما روى سقراط لكريتو هبّ أنصار الرّجلين جَذلِين بالأسلوب الذي خَيّب فيه ديونيسودوروس الشابّ المسكين كلينياس مجدّداً.
أخذ يوثيديموس ناصية الحديث مع كلينياس وسأله: هل أولئك الذين يتعلمون يأخذون أشياء يعلمونها أم أشياء لا يعلمونها؟
وهنا -يقول سقراط – انحنى ديونيسودوروس باتّجاهه ليُسِرَّ في أذنه مجدّداً أنّ الأمر سيتكرّر أي أنّ كلينياس سيخسر الجولة مهما كان جوابه!
كلينياس: الذين يتعلّمون يتعلّمون الأشياء التي لا يعلمون عنها
يوثيديموس: أليست لك معرفة بالأحرف؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: كلّ الأحرف؟
كلينياس: كلّها.
يوثيديموس: إذن أنت لا تتعلّم كلّ ما يُملي الأستاذ بل الذي لا يعرف الأحرف هو الذي يتعلّم
بعد يوثيديموس تدخّل ديونيسودوروس ليبدأ جولة جديدة من هذه التّرّهات مع الشابّ الذي بدا عليه الضّيق أكثر فأكثر، وحسب سقراط بدا الشابّ مثل كرة يتقاذفها هذان السّفسطائيّان في لعبة مشينة ليس فيها شيء من تعليم الفضيلة بل كلّ ما فيها احتيال بالكلام واللّامنطق وهدف واحد هو تحطيم الطّرف المحاور. وقد ثارت الشّفقة على الشابّ في نفس سقراط وأدرك أنّه بات الآن في حاجة إلى المساعدة.
عند هذه النّقطة في المحاورة، وبعد أن يظهر سخافة الأسلوب السّفسطائي ينتقل أفلاطون ليقدّم حواراً مختلفاً تماماً يجري الآن بين سقراط وبين كلينياس، أي الشابّ نفسه الذي سعى السّفسطائيّان يوثيديموس وديونيسودوروس لإحباطه بمنطقهما الشّكلي الملفّق وأحابيلهما الكلاميّة. وقصد أفلاطون أن يقيم فوراً المقارنة بين أسلوب السّفسطائيين وبين الأسلوب السّقراطي في تربية الشّباب وتوجيهه نحو الفضيلة والسّعادة. من الناحية التقنيّة يبدو وكأنّ الحوار يجري جانباً بين سقراط والشابّ لأنّه يستمرّ لبعض الوقت، ممّا يعني أنّ الآخرين انشغلوا في نقاش آخر ممّا أعطى سقراط الفرصة لكي يحدّث كلينياس.
بادئ الأمر أوضح سقراط لكلينياس أن يوثيديموس وديونيسودروروس كانا يلعبان به ربما على سبيل تدريبه وشد عوده (سقراط يحاول دوماً إلقاء وجه إيجابي على أيّ أمر قبل أن يصل بمحاوره إلى النقطة التي يريد أن يخرج بها). واعتبر سقراط مناورات الرّجلين من قبيل “الرّقص الاحتفالي” حول كلينياس. وأضاف قوله إنّ الرّجلين غير جادّين وأنّهما يستخدمان علمها لنصب الشّراك للنّاس وتضليلهم عبر اللّعب على الكلام. وشبّه سقراط ما فعله السّفسطائيان بمن يسحب كرسيّاً من تحت شخص يهمّ بالجلوس عليها فيسقط الأخير أرضاً، فيغرق هذا في ضحك ساخر من صديقه الذي وقع على قفاه. وهذا التّشبيه الأفلاطوني لفعل السّفسطائيين فيه إدانة شديدة واتّهام لهم بسوء الأدب والرّعونة في التّصرّف.
ثم يبدأ سقراط هذا الحوار مع كلينياس يبدأ بسؤاله أولا: أليس ما يسعى إليه جميع الناس هو السعادة
كلينياس : لا يوجد إنسان على الأرض لا يسعى إلى السّعادة.
سقراط: بما أنّنا نسعى جميعاً إلى السّعادة فكيف نكون سعداء؟ ألا نكون سعداء إذا كان لنا العديد من الأشياء الجيّدة؟
كلينياس: بالتّأكيد
يسأل سقراط بعدها إذا كانت الصّحّة مثلا سبباً للسّعادة، وكذلك اليُسر أو الثّروة أوالوسامة أو الجمال وعلى كل هذه الأسئلة يجيب كلينياس بالإيجاب. يضيف سقراط عوامل مثل الأصل الشّريف والسّلطة وعُلُوّ المقام في وطن الإنسان كأسباب إضافية للسّعادة فيوافق كلينياس أيضاً.
سقراط: لكن ماذا تقول في اعتدال المزاج والشّجاعة والعدل، ألا يجب يا كلينياس أن نضيف هذه القيم إلى خانة الأمور الحسنة أي التي تعطينا السّعادة؟
كلينياس: بالتّأكيد
سقراط: فكّر يا كلينياس إذا كنا قد نسينا سبباً يحقق السّعادة أيضاً.
كلينياس: (بعد تفكير) لا أظنّ أنّنا نسينا سبباً وجيهاً من أسباب السّعادة
سقراط: لقد نسينا أهمّ سبب وهو حُسْنُ الطالع أو التوفيق. إنّ أبسط النّاس يعلمون أنّ التوفيق هو أهم سبب من أسباب السّعادة.
يوافق كلينياس على اقتراح سقراط، لكنّ الأخير يفاجئه بأنّ موافقته هنا في غير محلّها لأنّ كل ما ذكر من أسباب السّعادة قبل ذلك هي التّوفيق بعينه وحُسن الطالع، وبالتالي لم يكن ضروريّاً أن يذكر حُسن الطالع لأنّ في ذلك تكرار للأمر نفسه.
بعد ذلك سيُبيِّن سقراط لكلينياس أنّ الحكمة هي التي تجلب التّوفيق للمرء لأنه بفضل الحكمة فإنّه لن يضلّ المرء أبداً، وسيقوم بعمله جيّداً ويحقّق النّجاح. على هذا الأساس يبيِّن سقراط لكلينياس أنّ من يمتلك الحكمة لا حاجة له بحُسن الطالع أو الحظ.
يُذكِّر سقراط كلينياس بما كان قد بدأ به حديثه حول السّعادة وكيف تنجم عن امتلاك الأشياء الحسنة ، ثم يسأل الشّاب: هل تأتي السّعادة من امتلاك أشياء حسنة لا نستفيد منها أم من امتلاك أشياء حسنة نحقق فائدة منها؟
كلينياس: من أشياء نحقق فائدة منها.
سقراط: وهل نحقّق أيَّ فائدة منها إن لم نستخدمها؟
كلينياس: بالتّأكيد لا
سقراط: إذن أيّ إنسان سعيد لا يكفيه أن يكون لديه أشياء حسنة بل عليه أن يقوم باستخدامها.
هنا يبين سقراط أنّ المقصود هو استخدام الأشياء بالحقّ لأنّ استخدام الأشياء التي نمتلكها بالباطل هو أسوأ من عدم استخدامها، لأنّ الأوّل يفعل الشّرّ بينما الثاني لا يفعل خيراً ولا شرّاً.
سقراط يسأل بعد ذلك: أليست المعرفة هي التي توجِّهنا لاستخدام الأشياء الحسنة التي بين يدينا والعناية بها؟ وهو يبين لكلينياس أنّ المعرفة هي التي تعطي المرء ليس فقط التّوفيق بل أيضاً النّجاح. كما أنّه يظهر للشابّ أنّ الحكمة هي الخير الوحيد الذي يتحصّل للإنسان وليس الممتلكات، وأنّ الجهل هو الشرّ الوحيد الذي يصيبه. بناء على ذلك فإنّ كلّ إنسان عليه واجب تحصيل ما أمكنه من الحكمة قبل التّفكير بتحصيل المال وأنّ عليه أن يطلب الحصول عليها من أب أو من معلّم أو صديق سواء كان مواطناً أم أجنبيّاً.
هنا يثير سقراط نقطة تشكل مفترق خلاف أساسيّ مع السّفسطائيّين وهي أنّ الحكمة يمكن تعليمها ولا تأتي بصورة عفويّة للإنسان. على هذه النّقطة يسارع كلينياس للموافقة مؤكّدا لسقراط أنّه يؤمن بانّ الحكمة يمكن تعليمها، وهذا ما بعث السّرور في نفس الأخير.

أفلاطون الحكيم
أفلاطون الحكيم

سقراط يتحوّل لفضح السّفسطائيّين
بعد إعداد كلينياس وتوضيح الأمور له أخذ سقراط يمهّد لجولة مواجهة مع السّفسطائيَّيْن اللّذَيْن بدآ بمحاولة هدم معنويات الشابّ وإظهار تفوّقهما بحيل كلاميّة. سقراط أوصل كلينياس إلى أنّ كلّ امرئ يهدف إلى السّعادة، وأنّ السّعادة تأتي من الحكمة ومن المعرفة بكيفيّة التّعامل مع الأشياء، مثل الثّروة أو المهارات المختلفة. والأهمّ أنّ الحكمة أو المعرفة يمكن أن تتأتّى بالتّعليم. وفي هذا التّأكيد الذي أوصل سقراطُ كلينياسَ إليه تمهيد مهمٌّ للمواجهة لأنّ السّفسطائيّين لا يعتقدون بأن الحكمة أو المعرفة يمكن تعليمها.
توجّه سقراط هنا إلى الأخَوَيْن يوثيديموس وديونيسودوروس وقال:
أوَدّ أن أعلم رأيكما في ما إذا كان على هذا الشاب (كلينياس) امتلاك المعرفة كلها أو أن هناك نوعا من المعرفة يمكن أن يجعله صالحا وسعيدا وما هي تلك المعرفة في هذه الحال؟ وكما أوضحت سابقا فإننا نعلق أهمية كبيرة على أن نعطي هذا الشاب المزيد من الحكمة والفضائل.
على هذا السؤال البديهي كان جواب ديونيسودوروس صادما فعلا . فهو سأل سقراط: هل أنت جادّ في هذا السؤال أم إنك تمزح؟
أجاب سقراط: نحن جادّون تماما
ديونيسودوروس: أي أنكم ترغبون فعلا في أن يتعلّم كلينياس الحكمة؟
سقراط: بالتّأكيد

ديونيسودوروس: أليس كلينياس حكيماً بعد؟
سقراط: نحن نتمنّى أن يصبح كذلك وأن لا يكون جاهلاً.
ديونيسودوروس: أيّ أنّكم تريدون منه أن يكون ما ليس هو
دهش سقراط لهذا التّفلسف. لكن ديونيسودوروس أكمل منطقه الأعوج بالقول: أنت تريد من كلينياس أن يكون إنساناً آخر غير كلينياس أي أنّك تريد منه أن يموت؟
هذا الجواب من ديونيسودوروس فجّر الوضع إذْ هب ستسيبّوس وهو صديق حميم لكلينياس غاضباً مخاطباً السّفسطائيّ بالقول: لولا واجب الأدب أيّها الغريب لكنتُ قلتُ لك: ليذهبْ بك الطاعون! ما الذي يجعلك تردّد مثل هذه الأكاذيب عني وعن الآخرين.
أخذ يوثيديموس الحديث ليسأل ستسيبّوس: وهل تعتقد أنّ بإمكان إنسان أن يقول كذباً؟ ويبدأ نقاشاً طويلاً آخرَ لا يقلّ عقماً عن الحوارات السّابقة، لكن يظهر من خلاله مدى اعتماد السّفسطائيّين على المماحكة والجدل اللّامنطقي من أجل كَسب جولة النّقاش ستسيبّوس الذي يتمتّع بثقافة وبشخصيّة نقديّة وصراحة ردّ على يوثيديموس بالقول: ماذا تعني بقولك هذا يا يوثيديموس؟ لقد كنت أُدْهَشُ دائماً وأنا مندهشٌ الآن لسماع هذه المقولة التي تردّدها والتي استخدمها تلامذة بروتاغوراس وآخرون قبلهم، إنّها تبدو لي فكرة رائعة وانتحاريّة كما هي مدمّرة وهي قولكم: “لا يوجد شيء اسمه الكذب” لأنّ المرء إمّا أن يكون صادقاً في قوله أم ان يكون كاذباً. وأنا أسألك يا يوثيديموس: هل أنت جادٌّ في قولك أنّه لا يوجد هناك جهل أم أنّك تستخدم القول على سبيل المثال أو المجاز.
يوثيديموس: فلتدحض هذه المقولة إذن.
ستسيبّوس: كيف تطلب منّي أن أدحض قولك وأنت القائل بأنّه لا يمكن لأحد أن يقول كذباً؟!

“سقراط يخاطب السّفسطائيّ يوثيديموس: إنْ لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبـــــرني بحقّ السماء ما الذي أتيــت إلى هنا لتعلِّمه؟!”

الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثة
الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثةال

هجوم مباغت من سقراط
كان جواب ستسيبّوس مفاجئاً ومفحماً للسّفسطائيّ المغرور. وفي هذه اللّحظة قرّر سقراط التّدخّل، موجّهاً الكلام ليوثيديموس.
سقراط: إنّ لديّ فهماً شحيحاً لهذه الأمور المعقّدة وآيات الحكمة التي تأتي بها يا يوثيديموس، وأنا أبذل جهداً لكي أفهم تلك الأمور. لذلك أرجو منك أن تعذرني إن طرحت عليك سؤالاً أحمقَ وهو: إذا كان الكذب غير موجود وإذا كان الرّأي الخاطئ أو الجهل كذلك لا وجود لهما فإنّه لن يكون هناك عمل خاطئ لأنّه لا يمكن للمرء أن يرتكب خطأً في العمل، أليس هذا ما تعنيه؟
يوثيديموس: هذا ما أقصده
سقراط: سأطرح عليك الآن السّؤال: إن لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبرني بحق السّماء ما الذي أتيت إلى هنا لتعلِّمه؟ ألم تَقُلْ قبل قليل أنّ في إمكانك أن تُعلِّم الفضيلة أحسن من أي إنسان آخر لأيِّ شخصٍ يرغب في تعلُّمها؟
هذا السّؤال من سقراط يُعتَبرُ ذروةَ الحبكة الأفلاطونية وهو ولا شكّ النّقطة التي تهاوى عندها مثلَ بيت من الرّمال منطقُ السّفسطائيّين.
ماذا كان ردّ فعل ديونيسودوروس على هذه الصّفعة من سقراط؟
لنسمع كيف أجاب هذا الدّعيّ قال: هل أنت جاهل إلى هذه الدّرجة يا سقراط بحيث تثير الآن كلاماً قلتَه في أوّل الجلسة أوربّما كلاماً قلتَه في العام الماضي؟
أي أنّ هذا السّفسطائيّ لم يجد دفاعاً سوى لَوْم سقراطَ كيف يثير في وجهه كلاماً قاله قبل قليل، “أو قاله السّنة الماضية”! وهذا بالطبع تدليسٌ صريحٌ واستهزاءٌ بعقول الحاضرين كـأن ديونيسودوروس يأخذ بالقول المأثور “كلام الليل يمحوه النّهار” أي لا قيمةَ لأيّ كلام أوموقف فالمسألةُ كلُّها إذن لَعبٌ.
حافظَ سقراط على هدوئه متابعاً المناقشةَ، مضيِّقاً حلقة المنطق عليهم ومظهراً تناقض كلامهم في أيّ أمر يتحدّثون به. وبالطّبع فإنّ هدفَ سقراط لم يكن النّقاش للنّقاش بل لكي يُظهر للشّباب الحاضرين بمن فيهم كلينياس وستسيبّوس هُزالَ منطق هذين الغريبين عن المدينة كما أصبح يسمّيهما، مُسْدِياً بذلك خدمة الحكمة بصورة غير مباشرة للشّبان الحاضرين.
أحد الأمثلة على تهافت منطق الرّجلين كانت مثلاً رفض ديونيسودوروس أن يجيب عن أسئلة سقراط وإصراره أن يجيب سقراط بنفسه عن أسئلته. في مكان آخر يُحرج سقراط ديونيسودوروس في مسألة فيغضب يوثيديموس على أخيه مظهراً له أنّه أعطى بأدائه الضّعيف فرصة لكي يحشرهما سقراط ويظهر فشلهما.
هنا يعيب سقراط على يوثيديموس ضَعف منطق شقيقه، فماذا كان جواب يوثيديموس:
قال بكل صفاقة: وهل تزعم يا سقراط أن ديونيسودوروس هو شقيقي؟!!!
هذه عيّنة أخرى من اللّامعقول الذي ينحدر السّفسطائي إليه عندما يجد نفسه وقد وقع في الشّرَك الذي ينصبه للآخرين وهو سلوك يقترب من السّخف المطلق.
على هذا النوع من الهذر لم يتمالك ستسيبّوس نفسه فخاطب الرّجلين بالقول: أيُّها الغريبان! يبدو لي، وبغض النّظر عمّا تعتبران نفسيكما أنّه لا مانع لديكما أبداً لإطلاق كلام فارغ ولا معنى له!
هنا يدخل سقراط على الخطّ ليقدّم للشّباب المستمعين وصفاً آخرَ ممتعاً لهذين السّفسطائيّين. فيقول: هذان الرّجلان ليسا جِدّيّيْن على الإطلاق، لكنّهما مثل ساحر مِصرَ بروتيوس يستخدمان السّحرَ ليظهرا بصور مختلفة فيصيبا النّاس بالدّهشة والذّهول.
يغتنم سقراط هذه السّقطة المنطقيّة الأخيرة من يوثيديموس ليُظهرَ في المقابل نظرة الحكمة الحقيقيّة لأمرِ الفلسفة ولأسلوب تحصيل الفضيلة والمعرفة وهو يسهم بذلك في إظهار التّناقض بين العبث السّفسطائيّ وبين الفائدة الكبيرة التي تنجم للإنسان من تحصيل المعرفة.
وهو يخاطب كلينياس وستسيبّوس وأصحابهما مُذكّرا بأنّ الجميعّ اتفقوا على أهمّية دراسة الفلسفة باعتبارها طريق تحصيل المعرفة، لكنّه يوضح أنّ المَعرفة المطلوبة ليست أي معرفة بل هي التي تحقّق الخير لصاحبها. وهو يذكر الشّباب هنا بأنّه “لو عرفنا جميع الأماكن التي يوجد فيها ذهب في العالم أو لو وجدنا طريقة لتحويل حَصى الأرض إلى ذهب فإنّ ذلك العلم لن يكون له أيُّ فائدة إن لم نكن نعلم كيف نستخدم الذّهب”، أو “لو كان هناك علم يجعل النّاس يعيشون إلى الأبد لكنْ دون أن يزوّدهم في الوقت نفسه بعلم يرشدهم إلى الكيفية التي يستخدمون بها ذلك الخلود فما هو نفع ذلك العلم؟”. وكذلك فإنّ تعلّم أيِّ علمٍ لصُنع الأشياء مثل علم جمع المال أو الطب أو أي فن من الفنون الأخرى سيكون بلا فائدة إن لم نتعلم كيف نستخدم هذه الفنون ونفيد منها في طريق الخير. وبهذا المعنى فإن الفن الذي يصنع الأشياء هو غيرُ الفنّ الذي يعلّمنا كيف نستخدمها بالصورة المُثلى، وهذا مثل الفارق بين من يعرف كيف يصنع آلة موسيقيّة مثلَ العود وبين من يعرف كيف يَعزف عليها.
وسقراط يعيد عن طريق هذه الملاحظة التشديد على أهمّية العلاقة بين المعرفة وبين استخدامها، فلا فائدة من أيّ معرفة إذا لم يكن ممكناً استخدامها في أمر مفيد. وفي هذا تمهيد لتسديد ضربةً قاضيةً للسّفسطائيّة التي تتلهّى بالمعارك الكلاميّة وتسجيل النّقاط والظّهور بمظهر التّفوّق، لكن دون أن يكون لما تقوله أيُّ فائدة أو استخدام عَمَليّ. لقد كانت السّفسطائيّة مرض حقيقيّ ابتُليت به أثينا والمدن اليونانيّة في زمن سقراط وما بعده، لكنّه نَهْج لم يَطُل الأمر به حتى ظهر فساده للجميع فلم يبقَ من آثاره إلا ما ندر.

مؤسسة التراث الدرزي

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي.

مؤسّسةُ التّراث الدّرزيّ في إصدار جديد

“حَوْران في الوثائق العثمانيّة”

تُعتَبر مؤسّسة التّراث الدّرزي أحد أهمّ مراكز النّشر المهتمّة بتاريخ الشّرق الأوسط مع إيلاء اهتمام خاص بتاريخ الموحّدين الدّروز، وهذه المؤسّسة الّتي تأسّست عام 1999 بمبادرة من رجل الأعمال الشّيخ سليم خير الدّين الذي يرئس مجلس أمنائها، أظهرت استمراريّة في العمل ومهنيّة في اختيار المواضيع والتآليف. وتهدف المؤسّسة حسب ميثاق عملها إلى “إحياء التّراث الدّرزيّ بنواحيه التّاريخيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة وذلك بدراسته وتوثيقه ونشره في العالم العربيّ وبلدان الاغتراب وفي جامعات ومراكز ثقافيّة في مختلف أنحاء العالم. وهي أصدرت منذ إنشائها سبعة عشر كتاباً باللّغة العربيّة وستّة كتب باللّغة الإنكليزيّة.
واصلت المؤسّسة نشاطها في الفترة الأخيرة بإصدار كتاب بعنوان “بين المركز والأطراف: حوران في الوثائق العثمانيّة”، وقد أشرف على إعداده ووضع مُقدَّمتَه الدّكتور عبد الرّحيم أبو حسين، أستاذ التّاريخ في الجامعة الأميركيّة في بيروت. والكتاب هو المجلّد الأوّل في سلسلة ستصدر تباعاً عن المؤسّسة وتضمّ عدداً وفيراً من الوثائق التي تولّت المؤسّسة، بإشراف الدّكتور أبو حسين ومساعديه الاستحصال عليها من أرشيف السّلطة العثمانيّة في اسطنبول وترجمتها إلى اللّغة العربيّة. ويجري حاليّاً إعداد المجلّد الثّاني الذي سيتناول عهد القائمقاميّتين في جبل لبنان، وتبتغي المؤسّسة من هذا العمل الرّائد تسليط الضّوء على سياسة الدّولة العثمانيّة، ولا سيّما تجاه الموحّدين الدّروز، وتزويد الباحثين بمستندات تاريخيّة أوّليّة حول فترة الحكم العثمانيّ تُسْهم في إغناء البحوث التّاريخيّة عن تلك الحِقبة وتصويب بعض الاستنتاجات الرّائجة بشأن تاريخ جبل لبنان وبلاد الشّام.
كما أصدرت المؤسّسة أيضاً ترجمة إنكليزيّة لكتاب المرحوم الدّكتور سامي مكارم “العرفان في مسلك التّوحيد” الذي كانت المؤسّسة قد أصدرته عام 2006. وتهدف التّرجمة إلى تعريف القرّاء باللّغة الإنكليزيّة، لا سيّما الباحثين الجامعيّين والمغتربين، بهذا الكتاب الهامّ الذي يتناول المبادىء العرفانيّة ومسلك التّوحيد.
ورغبة من المؤسّسة بتعميم فائدة كتاب “تاريخ بيروت” لصالح بن يحيى، وهو أوّل كتاب وضعه مؤلف درزيّ في القرن الخامس عشر، بادرت، بموافقة دار المشرق، صاحبة الحقّ بطباعة الكتاب وتوزيعه، إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب الذي يتناول كما هو معروف أخبار أسرة آل بحتر من أوائل القرن الثّاني عشر حتى القرن الخامس عشر، وهو أحد مؤلَّفين تاريخيين تم وضعهما من قِبَل مؤرّخين درزيَّين يتناولان فيهما تاريخ طائفة الموحّدين الدّروز والمناطق الجنوبيّة من جبل لبنان والسّاحل. (الكتاب الآخر هو الذي وضعه حمزة بن سباط تحت عنوان “صدق الأخبار” وقد تولّت تحقيقه الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائدبيه).
وتناولت إصدارات مؤسّسة التّراث الدّرزي مواضيع متنوّعة مثل “التُّقية في الإسلام”، “الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة”، و “العرفان في مسلك التّوحيد”، و “الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة”، و “تطوّر قضاء الموحّدين الدّروز عبر التّاريخ”، و”المجاهدون الدّروز في عهد الانتداب”، و “فنّ العمارة والزّخرفة في الإمارة التّنوخيّة”، وبالإنكليزيّة ، “المرأة الدّرزية”، و “الموسيقى في الحياة الدرزيّة”، و “ظاهرة التّقمّص”، إلى جانب كتاب شامل عن مختلف العادات والتّقاليد الدّرزيّة بعنوان “أن تكون درزيّاً”. كذلك أصدرت المؤسّسة كتب سيرة لعدد من كبار الشّخصيّات التّاريخيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ضمّت سلطان باشا الأطرش والأمير مجيد أرسلان والشّيخ بشير جنبلاط ورشيد طليع وعارف النّكدي وسليمان أبو عزّ الدّين وسعيد تقيّ الدّين. كما أصدرت مرجعاً توثيقيّا لكلّ ما كتب عن الدّروز وما كتبه دروز. وتجدر الإشارة إلى إصدار خاصّ للمؤسّسة هو ترجمة عربيّة لكتاب الرّئيس الفرنسيّ السّابق نيكولا ساركوزي حول الحريّة الدّينيّة واحترام الأديان وتقريب الحضارات. (راجع لائحة منشورات المؤسّسة).
وإلى جانب إصدار الكتب تولّت مؤسّسة التّراث الدّرزي تنظيم مؤتمرين علميّين في جامعة أوكسفورد بالتّعاون مع كليّة سانت أنطوني لدراسات الشّرق الأوسط. عقد المؤتمر الأوّل عام 2002 بمشاركة مجموعة مميّزة من الباحثين من لبنان وبريطانيا والولايات المتّحدة وجرى فيه عرض مواضيع متنوّعة متعلّقة بتاريخ الموحّدين الدّروز وأوضاعهم الاجتماعيّة والثّقافيّة. وقد صدرت وقائع المؤتمر في كتاب صدر بالإنكليزيّة عام 2006. وعقد المؤتمر الثّاني في عام 2004 حيث واصل المشاركون الأبحاث التي بدأوها في المؤتمر الأوّل. وتعتزم المؤسّسة تنظيم مؤتمر خاصّ في العام 2017.

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالعربية

Picture of brochuere
Picture of brochuere

العرفان في مسلك التوحيد                                   سامي مكارم
التقية في الاسلام                                             سامي مكارم
الشيخ تقي الدين ابن تيمية                                   احمد حطيط
الاحوال الشخصية للطائفة الدرزية                         الشيخ مرسل نصر
تطور قضاء الموحدين الدروز                              الشيخ مرسل نصر
حوران في الوثائق العثمانية                                عبد الرحيم ابو حسين
تاريخ بيروت                                                 صالح بن يحيى
فن العمارة والزخرفة في الامارة التنوخية                 زينات بيطار
سلطان باشا الاطرش والثورة السورية الكبرى           حسن البعيني
المجاهدون الدروز في عهد الانتداب                      عزت زهر الدين
الامير مجيد ارسلان                                        عاطف ابو عماد
بشير قاسم جنبلاط                                           رياض غنام
نيكولا ساركوزي: الجمهورية، الاديان، الرجاء          حوارات مع تيبو كولان وفيليب فردان
سجّل: أنا رشيد طليع                                        منذر جابر
مشيناها خطى:                                               سيرة عارف النكدي فارس آشتي
سيرة الاديب سعيد تقي الدين                               سليمان تقي الدين
المؤرخ سليمان ابو عز الدين                               اميمة زهر الدين

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالإنكليزية

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2

The Druze Heritage: An Annotated Bibliography                                        Editor:Rana Y. Khoury
2nd edition                                                                                                  Introduction by Kamal Salibi
Mysticism in the Druze Faith                                                                      Sami Makarem
Being a Druze                                                                                            Fuad I. Khuri
The Druze: Realities and Perceptions                                                       Edited byKamal Salibi
Music in Druze Life                                                                                    Kathleen Hood
Gender & Religion: Druze Women                                                             Intisar J. Azzam

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1

هذه الكتب بالعربية وبالإنكليزية متوافرة في المكتبات ويمكن الحصول عليها مباشرة من مؤسسة التراث الدرزي على العناوين التالية:
هاتف: 01/739750- 01/347923
Email: info@druzeheritage.org
druzeheritage@hotmail.com
www.druzeheritage.org

اللغة والحياة

اللغة والحياة

لا يمكن لأي لغة مهما تحصنت ضد التغيير أن تنجو منه

لا يكابر احد في أن اللغة العربية، ابنة اللغة السامية، وقد نشأت في شبه الجزيرة العربية، خلافاً لما يراه الصديق الدكتور مروان المحاسني رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وجاء ذلك، في جميع المصادر الثابتة الدقة، والمراجع الصحيحة الاسانيد، حيث ذكرت “ان العربية من اللغات السامية، ترعرعت في قوم قحطان و عدنان، بين العرب العرباء والعرب المستعربة، وهم جميعاً في شبه الجزيرة العربية.
اما انها ابنة السامية،واخت السريانية و العبرية،فليس في ذلك ريب، الا عند الغلاة، او عند الذين ينشدون الامور السياسية، كصديقنا، قبل الالتفات الى الحقيقة العلمية والتاريخية، فالعربية من السامية، وهذا قاطع ولا نقبل الجدل فيه.
وبعد،،،فليست مشكلة اللغة العربية في ذاتها، بل في الذين يضعون مناهجها للطلاب،في المدارس ، والجامعات وليست هذه اللغة العظيمة،بحاجة الى من يدافع عنها،لا لانها لغة القرآن،ووعاء الايمان فقط،ولا لانها مخزون علوم العرب وثقافتهم وتاريخهم وخبرتهم الانسانية،وتراثهم الحضاري فحسب؛ بل لان فيها من الطواعية،والثروة اللفظية¹، والقدرة على استيعاب الفاظ الحضارة، ما يجعلها قابلةً للحياة والاستمرار.
فالمشكلة،اذاً، فينا وليست فيها. والعربية، – يا رعاك الله – لغة ثقافة، وعلينا ان نوازي فيها اليوم، بين الموروث والراهن، ونحن باستمزاجنا هذين معاً، انما نريد اثراءها بالدخيل من الالفاظ التكنولوجية، فلا تضيق (وهي اوسع اللغات) عن مواكبة هذا العصر التقني المتسارع، فللتطور احكامه في مضمار اللغة ما يجعلها وافية بحاجات عصرها. وفي برهة هائلة كالتي نعيشها، لا تكاد لغة، مهمت تحصنت ضد التعبير، ان تكون في نجوة منه.
ان نتاج هذا التقدم العلمي المكتسح، الذي يولد مئات المصطلحات الجديدة، هو حاجة تفرضها صيرورة الحياة على اللغات، فترغمها على المجاراة من اجل ان تعيش، فاللغة التي لا تتسع لحاجات عصرها مآلها الانقراض.
وانت، اذا اردت التعرف على الاطار الحضاري لشعب من الشعوب، في زمن من الازمان،فادرس لغته، ففي عروق اللغة يعيش نبض العصر.
ونعم، ان الاستجابة لمستلزمات التبدل داخل (الانسان) والتطور المحيط به من كل ناح، توجب اعادة النظر في الكثير من مسلماتنا اللغوية، فلا يضطر العرب الى البحث عن لغة صديقة، تفي بحاجات عصرهم وتحمل افكارهم الجديدة، فما تترجم عنه اللغات من عواطف وخواطر، لا يقف عند حد، ولا يمكن حبس اية لغة ضمن سياج وهمي من محتويات المعاجم، ومفردات الثقات، وتقارير المجامع العلمية، لان الميول الباعثة على التعبير، لا تأبه للمعاجم، ولا تعنى بآراء الثقات، ولا تتكيف بتقارير المجامع.. فخوالج الانسان هي لغة الحياة، ولغة الحياة فوق القواميس، واجدني في هذا السياق، مضطراً الى القول ان اعداء اللغة العربية هم اولئك الذين دفعتهم حماستهم (ربما) الى التحجر والانكماش والتصدي، بعصبية الجاهلية، لكل مفردة عصرية، غير عربية، تحتاج اليها الحياة؛ في حين تقضي محبتنا للغة وغيرتنا عليها، قليلاً من الملاينة والانفتاح، فاللغة كائن حي، يولد ويموت، وقدرها ان تأخذ وتعطي، لانه لا يمكنها ان تتطور وتستمرّ، الا اذا كانت لغة حية، تعبر بوضوح عن ثقافة الاحياء وشعورهم واغراضهم، ولكي تكون كذلك، علينا ان نجعلها تتفاعل مع اللغات الحية الاخرى، وان نقنع المتحمسين لها – على غير هداية – ان اللفظ الدخيل، ليس عدواً لنا، بل صديق.
اعرف تماماً، معرفة الخبير، ان العربية الفصحى، لا تعجز عن وضع تسميات عربية لكل ما يطرأ من الفاظ تقنية اجنبية، لأن في لغتنا من الموازين واشتقاقاتها، اي من حروفية الافعال² وتنوعها، ما يضمن لها ذلك، غير ان عدداً كبيراً من هذه التسميات، لا يفهمها اهل العروبة انفسهم، (وشبابنا الطالع بنوع خاص)، في حين ارى وظيفة اللغة (اصلاً) هي التواصل و التفهيم.
فماذا يمنعنا من استعمال اللفظ الاجنبي، بحروفه، او بحروف عربية، مثل:
“الكمبيوتر” و”الانترنت” و”التلفزيون” و”التلفون” وغيرها، كما سماها مخترعوها الاجانب، وانا ضمين لكم ان الوجدان لن يغترب، والقاموس لن يغضب، والعربية لن تبور.

ومشكلتنا اليوم، ان التسميات التي وضعتها وتضعها المجامع اللغوية³، غير كافية للدلالة على المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي للاجهزة التقنية، ما لم نشتق من الاسم – السهل اللفظ – افعالً تراعي الدقة العلمية والدلالة العملانية للوظيفة التي تقوم بها هذه الاجهزة، في حيز الاستعمال.
اننا – يعلم الله – نحب هذه اللغة العريقة حباً جماً، ونغار عليها غيرة بصيرة، ولقد احرقنا رؤوسنا في دراستها والتعمق في فقهها وعلومها ، وانفقنا اعمارنا بحثاً في تاريخها واصولها،غير اننا نحبها بموضوعية وانفتاح، لا بعصبية وانغلاق، ونريد لها ان تفي بمتطلبات العلم وما يحتاج اليه ذلك من جرأة وتصحيح، لأننا نريد ان نحافظ عليها بوعي مسؤول، وان نحرسها بعقولنا، خلافاً للذين يضعونها في صندوق مغلق ويحرسونه كمن يحرسون الضريح.
وبعد، فاننا على مذهب الشيخ عبد الله العلايلي، رحمه الله، ومع شعاره القائل: “ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً، التصحيح الذي يحقق المعرفة” .. واعلم ان (كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم4).
واذا كان بعض “الاصوليين” في اللغة، يأنفون الدخيل، فما رأيهم بموقف سماحة الامام الاكبر، شيخ الازهر – وهو الاخلص للعروبة، والاعلم بالعربية – حين قال: “اللغة العربية، اوسع اللغات مذهباً، وهي واسعة الصدر للدخيل، ما ان تراه حتى تخلع عليه ثوباً من ثيابها، وترده الى اوزانها، وتتخذه ولداً من اولادها، تعامله معاملتها، فتنشق منه، وتنصرف فيه”؟
واليك طائفة من الاسماء الجامدة، السهلة، التي وضعها علماء اللغة اللبنانيون، في عصر النهضة، ولم يزل العرب يستعملونها في شتى ديارهم – منذ اكثر من مئة عام – ويا حبذا، لو كان ما يولدونه اليوم مثل هذا، فالمشكلة في الجدد القدماء لا في القدماء المتجددين، واريد به “العقلية” وليس العصر.
فقد وضع احمد فارس الشديق لفظ (حافلة) مقابل (اتوبيس) Autobus
و وضع الشيخ ابراهيم اليازجي لفظ (مجلة) مقابل (جورنال) Journal
و وضع الشيخ ابراهيم الحوراني لفظ (مجهر) مقابل (ميكروسكوب) Microscope
و وضع الدكتور يعقوب صروف لفظ (صلب) مقابل (فولاذ)
و وضع الشيخ سعيد الشرتوني لفظ (قطار) مقابل (ترام سكة الحديد) Train chemin de fer
و وضع الدكتور بشارة زلزل لفظ (اللبونة) للحيوانات الولودة التي تغذي صغارها بلبنها
و وضع الشيخ عبد الله البستاني لفظ (عقيلة) مقابل (مدام) Madame
ولفظ (آنسة) مقابل (مدموازيل) Mademoiselle
و وضع الشيخ عبد الله العلايلي لفظ (الاستون) للماسورة تمر الرصاصة المنطلقة عبرها.
ولم ينشد احد من هؤلاء العلماء، استعمال الالفاظ الوحشية الجافية.
ومن الالفاظ (الدخيلة على العربية)التي تقبلتها لغتنا، وصارت من نسيجها، اقتصر على الالفاظ التالية:
بيدر – زبون – سفينة – سكين – ساقية – مسمار – سمسار – سوق (كلمات آرامية)
بارجة – كوب – منديل – ميل (كلمات لاتينية)
ترسانة – قنبلة – بكرة – عربة (كلمات تركية)
ابريق – ببغاء – برنامج – بستان – جاموس – جوهر – خليج – دستور- صندوق (كلمات فارسية)
بطاقة – اسطورة – اقليم – بارود – برج – حوت – زواج – درهم – سفير – قانون – قرش – قرميد – هرطقة (كلمات يونانية)
وبالمقابل فان بعض اللغات الاوروبية، دخلت عليها الفاظ من العربية، خصوصاً بعد الفتح العربي لأوروبا سنة 1453 ومن هذه اللغات: الفرنسية، الاسبانية، الانكليزية، اللاتينية، وسواها.

الشعر العامي

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

-الحلقة الأولى-

سُجّل أوّل نزوح لبني معروف الموحّدين إلى جبل حوران عام 1685 م عندما قدم من جبل لبنان إلى أطراف اللّجاة أحد الأمراء المعنيّين وهو على الغالب الأمير علم الدّين المعنيّ مع عدد من أنصاره الذين استقرّوا في نجران عاصمة اللّجاة، ولكنّ الأمير المعنيّ سرعان ما عاد إلى جبل لبنان تاركًا أمر أنصاره إلى وكيله حمدان الحمدان الذي سيصبح زعيمًا للقادمين الجُدد، ويشير الدّكتور عبد الله حنّا في كتابه “العاميّة والانتفاضات الفلّاحيّة في جبل حوران” إلى محاولات استكشافيّة سبقت هذا النّزوح لأُسَر استقرّت في نجران… وأنّ هذا النّزوح الدّرزي الأوّليّ إلى جبل حوران كان مرتبطًا بالصّراع الدّائر آنذاك في جبل لبنان بين الأسر الإقطاعيّة، وكان هذا الصّراع قد بلغ ذروته فيما بعد في معركة عين دارة 1711م وقد أسفرت تلك المعركة عن نزوح أوسع لليمنيّين ( أحد أطراف الصراع ) إلى جبل حوران حيث نزلوا ضيوفاً على إخوانهم النازحين عام 1685م ثم ما لبثوا أن انتشروا في القرى الشّمالية من جبل حوران بعد صراع دامَ سنوات مع البدو الذين لم يُعمِّروا بيوتًا ولم يزرعوا أرضًا.
وفي مطلع القرن التّاسع عشر 1811م وفد إلى الجبل نزوح درزيّ ثالث مؤلّف من ستمائة أسرة قدمت من حلب، وجاءالنّزوح الرّابع في أعقاب الصّراعات الاجتماعية وتحوّلها إلى صراع طائفيّ عام 1860 م في جبل لبنان، هذا النزوح الرّابع سكنت أسره في المنطقة الشرقيّة والجنوبيّة الشّرقيّة من الجبل وقد نجم عن تلك الهجرات تغيير أساسي في بنية الجبل الديموغرافية لأنّها ضمّت حسب رأي كرد علي بالإضافة إلى فلّاحين من جبل لبنان مجموعات من وادي التّيم والجبل الأعلى (من أعمال حلب) ومن صفد وعكّا وغوطة دمشق وإقليم البلّان، وحسب رأي كرد علي فإنّ الدّروز “أخذوا يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة من اللّبنانين الغربيّ والشرقيّ” والواقع أنّ هذا الانكفاء نحو أخلاق وثقافة البداوة مردّه الأوضاع التي عاشوها في جبل حوران وظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية1.
ومن خلال هذه اللّمحة الموجزة لتاريخ الحضور الدّرزي في جبل العرب ندخل إلى تاريخ الشعر العامّيّ (النّبطيّ) الذي أصبحَ مكوّنا أساسيًّا في الثُقافة الشّعبيّة أو الفولكلور الجمعيّ لأهل جبل العرب.

تطوّر الشّعر العامّي (النّبطي) في جبل العرب
يعودُ بنا هذا العنوان الواسع إلى مرحلة توطُّن الأجداد في جبل العرب والموجات البشريّة المتتالية التي اتّخذت من الجبل مقرّاً لها في نهاية المطاف، منذُ أوّل نزوح من لبنان في أواخر القرن السّابع عشر ومطلع القرن الثّامن عشر الميلاديّ خصوصًا بعد معركة عيندارة عام 1711 التي أدّت إلى أكبر موجة هجرة قسريّة أو اضطراريّة لدروز الحزبيّة اليمنيّة من لبنان بعد هزيمتهم على يد حيدر الشّهابي والدّروز القيسيّة.
وكان من الطّبيعي أن تنقل تلك الموجات معها اللّغة أو بالأحرى اللّهجة التي كان أفرادها يتداولون بها في موطنهم السّابق وهي كانت على العموم اللّهجة اللبنانية المميّزة لأهل جبل لبنان ولاسيّما الدّروز الذين كانت لغتهم أقرب ما يكون إلى اللّغة العربيّة لأجدادهم الذين قدموا إلى لبنان بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام. لكن كان من الطّبيعي أيضًا أن تتطوّر تلك اللّهجة تدريجيًّا بتغيّر الموطن والظّروف والتّفاعل الاجتماعيّ والسّياسيّ مع المحيط الجديد الجغرافيّ والسّكّاني والثّقافي. وقد تجلّى هذا التّأقلم في أشعارهم بل وصبغها منذُ البداية بالصّبغة البدويّة مع احتفاظهم باللّهجة المتداولة ذات الجذور اللّبنانية في حياتهم اليوميّة.
في البداية كانت لغة الشّعر العاميّ في جبل العرب هي اللّهجة اللّبنانية المحكيّة التي استقدمها النازحون معهم والتي استعارت من الشّعر الشّعبي اللّبناني (الزّجل) تشكيل القصيدة ولغتها، وهذه اللّغة لم تزل إلى الآن موجودة في أشعار الجبل ولكن بنسبة قليلة قياساً للغة البدو التي سيطرت على القسط الأكبر من الشّعر الشّعبي.. وتنقل لنا الوثائق التّاريخية أُولى هذه الأشعار وهي من نظم أسعد نصار المُتَوفّى عام 1825 م والذي جاء إلى الجبل من راشيّا الوادي في جنوب لبنان، وقد برزت شخصيّة الشّاعر نصّار في غُرّة القرن التّاسع عشر، إذ نظم مجموعة قصائد زجليّة لبنانيّة بحتة وهي لغته التي لم تزل محتفظةً بمعطياتها الأصليّة والتي حاكى من خلالها محبوبته في لبنان بعد أن أصبحت بعيدة عن ناظره وبعد أن حالَ جبل الشّيخ بينه وبينها ..ومنها قوله:
فوق الجبـــــــــــــــــــــــل يــــــا ريح ســــــافــــــــــــــــر بـــــــــالعجــــــــــــــــــــل
نجمي قَـــــــــــــــــــــــــــرّب عليك بْعيد خطوات المجال
غَطَــــــــــــــــــس فــــــــــــي بــــــــــــــــــــــرج عــــــالــــــــــــــــــــــي واختفـــــــــــــى
وْطَــــــــــــــــــــــــــــــــلّ وْنَفَذ من خلف ظَهْــــــرَك يــــــــــــــــــــــــا جبَل
ونلمس في هذا النموذج أسلوب الزّجل اللّبناني المتعارف عليه في إسقاط حرف المد من قافية القصيدة عندما يضطرّ إليها الشّاعر فتراه يوفّق بين “المجال” و “يا جبل” كقوافٍ وهو يعتمد بذلك على المَدّ اللفظي لمفردة (الجبل) وفي هذا شيء من الإلقاء الموسيقيّ الخاص بالزّجل، وهذا الأمر سيبقى أثرهُ جليّاً في أشعار الشّعراء المعاصرين في جبل العرب والذين جاؤوا بعد قرنٍ تقريباً من أسعد نصار أمثال ثاني عرابي وسلمان النّجم عمّار ونجم العبّاس (أبو اسماعيل) وحامد العقباني وغيرهم.
ولكن عندما بدأ أسعد نصّار يخوض غمار الواقع الجديد ووجد نفسه وسط دوّامة من النّزاعات والتّعاملات اليوميّة مع المحيط القَبَليّ البدويّ للجبل بدأ بتغيير (لغة قصائده) في محاولةٍ جادّة لتبنّي المفردات السائدة وصياغة الشّعر بما يمكّنه من إيصال الفكرة والصّورة إلى المحيط الذي يعيش فيه، وهذا ما نلمسه في قصيدةٍ يفخر من خلالها بقومه بني معروف مخاطباً فيها الشّيخ البدويّ فندي الطيّار (قبيلةولد علي من عنزة) إثر نزاعٍ امتدّ لفترة من الزمن بين الفريقين ومنها :
حِنّا بني معروف نحمي الجار لـــــــــــــو جار
نِـــــــــــــقْنـــــــــــى المــــــــزَنَّـــــــــــــــــــــــد2 فْتيـــــلـــــــــــــــــــكْ مـــــا نْـــــــــــــــــــداريــــــــــــــه
وسيــــوفنا الحــــــــــــــــُدبْ تقــــــــــــــــطـــــع كـــــــــــــــــــــــــــــل زِنّــــــــــــــــار
وســـــــــــــــــــــــلاحنـــا لـــــــــــو صَـــــــــــدَى بـــــــالـــدّم نجــــــــــــــــــليـــــــــــه
مـــــــــــا تُذكُــــــــــــــر يـــــــــــــوم مُـــــــــــــــــــرْدُك والـــــــــــــــــــــــــذي صــار
ويــــــــــــوم الجنينـــــــــــــة يــــــا فنــــــــــــــــــــدي اِنـــــــــــت نـــــــــــاسيه؟3
وهذه القصيدة تعتبر من الإرهاصات الأولى للشّعر العاميّ “النّبطيّ” في جبل العرب، ومن الواضح أنّ لغة الشّاعر الأصليّة لم تزل مسيطرةً عليه فتجد القصيدة تحمل خليطاً من المنحى اللّبناني والمفردات البدويّة على حدٍّ سواء، كما أنّه من الواضح أنّ وزن أبيات القصيدة مُضطرب في كثير من المواضع وذلك أنّ الشّاعر نظم في وزنٍ فُرِضَ عليه وهو لم يتعامل معه من قبل وهذا الوزن هو “الشّروقي” كما يُعرف في جبل العرب وأصل تسميته “المسحوب” عند البدو.
وفي تتبّعنا لحركة الشّعر العاميّ (النّبطي) في جبل العرب ندخل في شطرٍ آخر من القرن ذاته، وذلك من خلال قصائد الشّيخ أبو علي قسّام الحنّاويّ المتوفّى عام 1884م والذي برزت شخصيّته في حروب اللّجاة ضدّ ابراهيم باشا المصري في أواخر النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر أثناء الحملة المصريّة على بلاد الشّام والتي امتدّت من عام 1832 حتى 1840، وكانت قصائد الشّيخ الحنّاوي تحمل الخليط اللغوي ذاته الذي حملته قصائد أسعد نصّار، فبين أيدينا مجموعة قصائد تدُلّ على زيادة تأثّر الشّعر الشّعبي في الجبل بلغة البدو نتيجة التّعامل الأطول والأعمق مع القبائل البدويّة وبالذات “السّْمير من ولد علي من عنزة” والسّمير من ولد علي هم فرع من قبيلة الرّوَلَة الكبيرة العنزية الأصل، وكان للشّيخ الحنّاوي دورٌ تاريخيّ في هذا المجال إذ تميّز بالفروسيّة والحنكة السّياسيّة، وعلاقاته العشائريّة الواسعة كما نستدلّ على ذلك من قصائده وأشعاره ومثالنا على هذا أبيات من ملحمته الشّعرية الشّهيرة بـ “ملحمة اللّجاة” التي نظمها في العام 1838م حول حروب اللّجاة ومقاومة بني معروف لحملة ابراهيم

باشا التي قادها ضدّ الموحّدين في جبل حوران، يقول:
من بعــــد ذا ابراهيــــم جرَّد علينـا
يبغى الحرايب عســــكرًا” جرّار
دخل اللّجــا زحفًا بجيشٍ عَرمــرم
و نحنا قـــــــــــلايل و العـدوّ كثـــــــــار
صِحْنـــا كما تهدر سبـــــــــــاع الكواسر
عَ القــــــوم بــــــــــــــالبلـــــــطات و البتّــار3
وبرج الغضب جانــــــــــــــا ابراهيـــم باشا
بـــــــــــالأرناؤوط والتّـــــرك و البلغار
ذَبَحْنا الوزير وكلّ ضباط عسكـــــرو
وثلثين جيشه راح قـَصف اعْمـــــــار
ستّيـــــن كون نـــقابـــــلو و ما نهابــــــــو
و نكســـــر جيوشـو بـــــــقوّة المختار
اخذنا المدافع و الجباخان والذُّخَـر
و الذّبـْــــــح لا يُحصــــــــى لهُ مِقــدار
و كـــــم بطــــل منّا خلاوي إذا لَكـَــد
ْ على الجمع يدعي الجـــيوش دَمـار
يفعل بهم ما يفعل الـــــذّيب بــــــالغنـــــــم
بْضَرْب اليمانـــــــــي الصـّارم البتـّـار
هذي قــــــــلــــــــعتنـــــــا و هذي لجاتنـــــــا
تربـــــة اعْــــــــدانا من دخلـها حـــــار
ترى جدّنا النّعمان خليفة سمـــــــا لخــم
ومنـــــــــذر و هـــــاني ســــادةً أخيار
سلمان والمقداد أيضَـا جــــدودنـــــا
أبو ذر و رفاعـــــة وكــــــــذا عمّــار
وهذه القصيدة تجاوزت المئة بيت وثّقَ من خلالها الشّيخ الحنّاوي مرحلةً تُعَد من أخطر مراحل تثبيت الوجود المعروفيّ في جبل العرب، وهذا النّموذج من القصائد يُسمّى “الهلالي” وسيكون لنا وقفة مع هذا الوزن ومصدرهُ وسبب تسميته في فصلٍ تالٍ من هذا البحث، وفي التّدقيق بالمنحى العامّ لقصيدة الشّيخ الحناوي نجد أنها مستقرّة الوزن أكثر من تجربة أسعد نصّار في “النّبطي “ ولكنّ المفردات والتراكيب المحلّية ذات الجذور اللّبنانية لم تزل تسيطر على جسد القصيدة بشكلٍ واضح مثل ( جرّد علينا ) و (عسكرو ) (ستين كَون) إلخ، مع بروز المنحى النّبّطي الجليّ .وللشّيخ الحناويّ مجموعة قصائد تُعدّ في الطبقة الأولى من الشعر التوثيقيّ أو شعر الأخبار.
ومن ثمّ نصل إلى مرحلة الشّعر النّبطي الأوّليّ لشعراء الموحّدين الذي تحوّل مع الوقت إلى الرّكيزة الأولى للشّعر العاميّ في جبل العرب من حيث لغة القصيدة وجزالة صورها واستعاراتها ومحاكاتها للواقع. وشيخ هذه المرحلة بلا منازع هو الزّعيم شبلي بك الأطرش المتوفّى عام 1904م، والذي استطاع من خلال قصائده توثيق مرحلة وافية من مراحل الكفاح ضد الاضطهاد العثمانيّ. وشبلي الأطرش عاصر الشّيخ الحنّاوي في أواخر حياته وتعرّض للسّجن من قبل العثمانيين وخاض في نزاعاتٍ وثورات محلّية كادت أن تنهي زعامة آل الأطرش في جبل العرب وعلى رأس تلك النّزاعات الحركة الفلّاحية 1885ـــ1890 م (الثورة العاميّة الثانية)، فنجد لدى شبلي الأطرش مجموعة قصائد تخصّ هذه الشّؤون، وفي سياق تتبّعنا لحركة تطوّر الشّعر العامّيّ في الجبل نجد أنّ شعر شبلي يتربّع على عرش مرحلة النّتاج الأوّلي للشّعر النّبطي في الجبل، إذ أرسى هذا الشّاعر قواعدَ مازالت إلى الآن مستخدمة لدى شعراء الجبل بشكلٍ جليّ وذلك من خلال الأوزان المتنوّعة التي نظم بها ومن خلال الأسلوب والشّكل، ولو أخذنا مثالاً من شعره لوجدنا هذه السّمات جليّةً ومنها قوله :
يــــــــــــــــــا راكباً من عندنا فوق سـَــــحوان
حُرًّا مْعنّى يَسـْـــهــــــــــــج الدَّوّ حايل
من ساس عَيْرات اللّحاوي شْعيلان
مثــــــــــل العَنود اللّي يقود الجمـايل
إنسِفْ عليه الكُورْ وِحْــــــزام وِبْطــان
والمَيْـــرَكَهْ أمّ الهَـــــــــــدَب والظّلايــــــــل
الصّبــح من سيناب والضَّوّْ ما بــــــــــــان
ثَـــــــــوِّرْ ودونـــــــــك للنّبـــا والرّســــايل
وهذه الأبيات مُختارة من مطلع قصيدة يرسلها من سجنه في سيناب من الأراضي التركيّة إلى صديقه أبو عجاج من آل بحصاص الرّياشنة في الجبل، ونلاحظ هنا اعتناء الشّاعر بوصف النّاقة (الذَلول الحرّ بلغة البدو) التي يُقدّمها لنا بصيغة المُذكّر ـــ هذه الصّيغة التي ستأخذ مداها فيما بعد عند شعراء الجبل المعاصرين وذلك من خلال قصائدهم الغزليّة النّبطية ـــ والشّاعر هنا يُكلّف راكب النّاقة بإيصال القصيدة، وهذه الناقة كما يصفها سريعة (سحوان) وأصيلة (حُرًّا) وتقطع الفيافي (يسهج الدّوّْ) وغير منتجة أي (حايل) لم تَلِدْ فهي قوِيّة وهذه الصّفة يحبّذها البدو في الناقة التي تُخَصَّص لقطع المسافات الطّويلة، وهي أيضاً من إبِل قبيلة الشَرارات (قبيلة اللّحاوي) الذين عُرِفَ عنهم تربية النّوق المنخوبة المؤصّلة، وهي ذات لون مائل إلى الحُمرة (شعيلان) وهي كالغزال الذي يقود الغزلان (العنود اللّي يقود الجمايل) والجميلة هي مجموعة المها التي كانت تعيش في البراري العربيّة، ومن ثمّ يدخل الشّاعر في وصف كساء النّاقة من (كور) و (حزام) و (بِطان) و (ميركة) .في أبيات مختارة تتخللّها في الأصل أبيات يُمْعن من خلالها بشكلٍ دقيق في وصف كلّ ما يخصّ هذه النّاقة، ومن ثمّ يَصف الدّرب الذي ستقطعه إلى أن يصل إلى صديقه (أبوعجاج) فيمدحه بما يليق به ومن ثمّ يطرح موضوع القصيدة، وهذا الأسلوب مأخوذ عن شعراء البدو المشهورين في نجد وشمال الحجاز وبوادي الشام وهم الذين شَكّلوا مصدر التّجربة الشّعرية النّبطية لشعراء بني معروف في جبل حوران، ومن أولئك الشّعراء البدو محسن الهزاني وابن لعبون ومحمّد القاضي وغيرهم،..وما يهمّنا تبيانه هنا هو مدى تأثر الشعر العامي في جبل العرب بمعطيات ومفردات الحياة البدويّة وأيضاً إبداع الشّاعر في توظيف هذه المكوّنات والمفردات التي أصبحت من معطيات حياته اليوميّة مع التّأكيد على مفارقة لافتة وهي أنّ شاعر جبل العرب لا يتكلّم اللّهجة البدويّة إلّا في شعره، فهو لا يستخدمها في حياته اليوميّة وكلامه النّثري، وسنعرّج على هذا الموضوع في مرحلةٍ قادمة إن شاء الله.
وقد نظمَ شبلي الأطرش أيضًا في الشّعر المحلّي “المَحكيّ” وهذا المَحكي كان بلغته (لهجته) التي يتداولها ولم تحمل قصائده التي نُظمت بالمَحكي الخليطَ اللّبناني البدويّ بل كانت تعبيرًا صريحًا عن لغته الأصلية الدارجة في الحياة اليوميّة ومثالها

بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر
بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر

قومْ يـــــــا مـرسال يـــــــا طَيْر الحَمــــــــام
عا بلاد الشّــــــام وَدّيلـــــــــي سَـــــــلام
إنْ كان هجرك طال يا بدر البُدور
نَفسي عَزَت منّي عَلى الدُنيا السَلام
إِنْ كان هَجرك طال يا بَدر البُدور
يا نُور عيني وَمُهجَتي جُوَّا الـصُّدور
يا ريت لَو كُنـــــا هْفينا بـــــــــالقبــــــور
خان فينا دَهـــــرنا وَالــــــوَقت جـــار
بيظل فكـــري فيك يـــــا نــارًا وَنورْ
دُومْ دايـــــمْ يـــــا حلــــــوْ ليل وَنــــــــــــــــهـار
يا بو خدود معطّرة وَعيون حُــور
يـــــا بَدر يـــــا ريـــّان بــــــــــــانور النـّْـــــــوار

وهذا الأسلوب هو الأسلوب اللّبناني بعينه وهو امتداد للموشّح الأندلسي، ولكنّه باللّهجة المَحكيّة في جبل العرب، اللّغة التي انسلخت عن اللّبنانية والتي بقيت في منأىً عن الانصهار في لهجة البدو والتي هي في المحصّلة اللّهجة المَحكيّة في جبل العرب. ومن هنا كان إبداع شبلي الأطرش الذي عَرَف ماذا يكتب وبماذا يكتب .
وهنا نصل إلى المرحلة التي شهدت ولادة الشّكل النّهائي أو المكتمل للشّعر النّبطي في جبل العرب وهي مرحلة الشّاعر اسماعيل العبد الله الذي عاصرَ شبلي الأطرش في خواتيم حياته وأكملَ مسيرته الشّعرية، وقد لعب العبد الله دورًا كبيرًا في وضع اللًمسات الأخيرة على شكل ومضمون الشّعر النّبطي الجَبَليّ، وذلك بعد أن تمّ الانسلاخ بصورة أتمّ عن اللّهجة اللّبنانية التي نقلها الآباء والأجداد، ونتيجة التّوغّل في الأحلاف والنّزاعات مع البدو. واسماعيل العبد الله شاعر فارس برز في عشيّة القرن التاسع عشر ومطلع العقد الأوّل من القرن العشرين من خلال قصائده التي لاقت انتشارًا منقطع النّظير والتي كانت الوسيلة الإعلاميّة والسّلاح اللّغوي الأمضى في استنهاض الهمم والتصدّي بشعره للإعلام المعادي المحيط بواقع الجبل إن جاز التّعبير .. وقد ساهمَ اسماعيل العبد الله من خلال قصائده وحضوره في توثيق مرحلة تهاوي السّلطنة العثمانية والتي انتهت بسقوطها عام 1918م. وقد عانى الشاعر ما عاناه من السّجن وخوض المعارك في أواخر عهد الاحتلال العثماني، إلا أنّه لم يكحّل عينيه برحيل آخر جندي عثماني عن الأرض العربيّة حيث توفّي عام 1915 على ما يُرجّح .. ومن المادّة التي تركها لنا هذا الشّاعر العملاق نأخذ مثالاً بسيطاً من قصيدةٍ له يجيب من خلالها على قصيدةٍ أرسلت من قبل “اللّحاوي” أحد شيوخ قبيلة الشّرارات حيث تهكّم اللّحاوي فيها على بني معروف في جبل العرب وعلى أحلافهم من العشائر البدويّة المجاورة لهم بقوله :
من الجبــــل جِتْنا جـــــــــــــــــــموعٍ تِبَنّـــى4
مثل سَـــــعاع الجِيْـــــــجْ مِخْتِلف الاجناس5
الكنــــج وابـــــــــن مــــــــــــاضي دليلـــــهنَّه
واهل الجبل ودروز قطّــــاعة الـــــــــــــرّاس6
كــــــــــم واحـــــدٍ منهم لَابلْــنــــــــــــــــا تَمنّــى
مـــــــــــــــا يدري اِنـّـــــــــــه دومْ عَ اللّـــــــوح دَرّاس
حِنّا اليـــــــــاصــــار العدو في وطنّــا
رَصاصْنا ينزل على العظــم والــرّاس7
ومن جواب اسماعيل العبد الله على هذه القصيدة :
قم يا حَمَــــــدْ وَفِّقْ من الهِــجِن دَنّا
سِتّة رَكــــايب يا ولد نُبْــــــل القياس8
يا مَسندي جَدّي الـــــرّكـــــايب9 مْعَنّى
يَمّ اللّحــــــــــاوي شوق مدقوق الْلّعــــــاس
الشّيــــــــــخ تَوَّهْ مظـــــهرًا بَـــــــــــدوْ فَنّـــــــــهْ
من قبل واللهْ ما وَحينـــــاه بقيـــاس
سَوّى علينــــــا قـــــــــــالة الدَّرس لَــنّــــه10
كــــــــــار الفِتى يا قَرْمْ ما عَذْرَب النّاس11
نَذْرِي علـــــى كـــــــل المخاليــــــق حِنّا
الحَضَر راعـــــوا يا فتى وابن عبّاس12
عدوّنـــــــــا فـــــــي عيـــــــــــشــــته ما تهنّــــا
لوْ هو بَعيدٍ من ورا بلاد مِكْنــــــاس

الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل
الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل

نلاحظ هنا أنّ الشّاعر لم يضع من شأن عدوّه بل امتدحه بالفروسية والسّيادة وهذه من أدبيّات الشّاعر الذي يأبى أن يكون عدوّه قليل الشّأن فهو يقارع الأبطال لا ضعاف الهِمّة والعزيمة ومن النّاحية الفنّية نلاحظ أنّنا أصبحنا بحاجة إلى شرح الكثير من المفردات والتّراكيب اللّغوية التي وردت في القصيدة وهذا ما سيأخذ أبعاداً أخرى في مستقبل “الشّعر الجبلي النّبطي” عندما تتفرّع عنه مذاهبٌ شعرية عديدة.
إنها القصيدة البدويّة النّبطية بأسلوبيّتها ولهجتها المكتملة والتي ستصبح لغة الشّعر العامّي الأكثر استخداماً والأوسع انتشاراً في جبل العرب، وطبعًا هذا الكلام لا ينفي وجود الأشعار الجبليّة باللّهجة المحكيّة والتي تجلّت في الفنون القصيرة والعتابا والمطاليع وأشعار النّدب ولكن أعود للتّأكيد على أنّ هذه قليلة بالمقارنة مع هيمنة الشّعر النّبطي .
هذا مثالٌ بسيط عن تحوّل منحى الشّعر بشكلٍ تامّ من اللّهجة المَحكيّة المتداولة (المتحدّرة من اللّهجة اللّبنانية) إلى لهجة البداوة خلال أربع مراحل امتدّت عبرَ أكثر من قرنٍ من الزّمن تقريبًا إلى أن أصبحت السِّمة العامّة لفولكلور جبل العرب، ومن هذه المقدّمة المُبسّطة والتي جسّدنا من خلالها ملامح من مراحل الشّعر النّبطي في جبل العرب ندخل في العدد القادم من “الضّحى” بإذن الله إلى التّعريف الخاصّ بهذا الشّعر وإلى الشعر النّبطي المعاصر في جبل العرب.

دروز سوريا والبداوة

دروز سوريــــا والبــداوة

غّلَبَةُ الشّعر النّبطي والأخـلاق العربيّــة في جبــل العــرب
عنوان لأكبر عملية تفاعـــل ثقافــي في تاريــخ المنطقــة

بيـن الدروز وقبائل الباديـة قامـت علاقـات إعجــاب ونفـور في آن
لكن الدروز أدركوا أهمية التفاعـل مـع الثقافـة والقيـم البدويـة

يعتبر تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب من اللّهجة اللبنانية التي حملها النازحون الأوائل إلى جبل حوران إلى اللهجة النَّبَطيّة البَدوية إحدى أعجب ظواهر تكيّف اللّغات المحكية وتحوّلها، والأعجب في هذه الظّاهرة أنها لم تستغرق أكثر من قرن من الزمن تحوّل فيها شعراء العامية في جبل العرب (جبل الدروز) بصورة تدريجيّة من لغة الزّجل أو الشعر اللّبناني المحكي إلى الشعر النَّبَطي السّائد بين القبائل العربية التي كانت تجوب القفار المحيطة بجبل حوران وتتفاعل مع المجتمع الحوراني الدّرزي بأشكال مختلفة. لقد كانت هناك التّبادلات التّجاريّة والأحلاف القبلية التي عزّز بعضها شوكة بني معروف، وكانت هناك أيضًا المساكنة القلقة على التّخوم ونزاعات الأراضي أو علاقات الجوار التي تتراوح بين مراحل هدوء وتفاهم وبين الاحتكاكات والغزوات والصّراعات الدامية. وكما في كل آن فقد كانت هناك الجهات الخارجيّة التي تسعى بين الحين والآخر لتأجيج النّزاع بين المجتمعين.
لكن مما لا شكّ فيه أنّ تاريخ دروز الجبل لم يكن تاريخًا منعزلا لأنّه كان في جزء منه تاريخ تطوّر علاقات السّكان الوافدين بالمجتمع البدويّ والقبائل الكثيرة التي كانت تحيط بهم وتهددهم أحيانا، وكان لهذه العلاقة أثر حاسم ومباشر في إعادة تشكيل هُوّيّة الجبل وثقافته. وربما ازداد هذا التفاعل وبلغ أقصاه خلال القرن التّاسع عشر عندما ضعفت سلطة الدّولة وانتشر الفساد في أوساط الإدارة العثمانيّة فكان على الموحّدين أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم مع البدو الذين اعتادوا حياة الغزو والتجاوز على حياة الحضر والزّراعة وأن يطبّقوا السّياسات والإجراءات الآيلة إلى احتواء التّهديد الخارجي عبر نوع من “تعايش الأقوياء” مع المحيط القبلي طالما أنّ الدّولة لم تكن قادرة على حمايتهم.

“بيئة الجبل تتشارك مع البيئة البدويّة في القيم والعادات والخصال العربية رغم الاختلاف الظاهر في أســـــلوب الحياة أو في المعتــــقد”

إن الكثير من سمات حياة البداوة يتحدّد بالتّناقض والتّعارض مع نمط حياة المجتمع الحضريّ وهذا الصّراع البدويّ الحضريّ كان على الدوام، كما أوضح ابن خلدون، من أهمّ سمات طبيعة حياة المجتمعات وتحوّلها وانهيارها أحيانًا. بالمعنى نفسه فقد طغى التّعارض الحَضَريّ البدوي على العلاقة بين النازحين الدّروز الذين اهتمّوا بإعمار القرى الخَرِبة وبناء مجتمع زراعي مستقر وبين القبائل البدويّة التي تتميز حياتها بعدم الاستقرار المكاني وقدر كبير من الشّظف والحياة الخشنة كما تقوم على عادات الغزو والتنظيم الاجتماعي الحربيّ، وقد كان البدو يتمتعون بحريّة تقليدية في التّنقّل واستغلال الفيافي والمراعي لكنّهم لم يلبثوا أن اصطدموا بـ “الجدار” الدّرزي وببُنية اجتماعيّة تشدها عصبيّة لا تقلّ أبدًا عن عصبية القبيلة وتماسك شديد وقوّة بأس وخبرة قتالية بل وشراسة عندما يتعلق الأمر بحماية الدّيار والذّمار والأرزاق والكرامة.
لقد حدّ الانتشار الدّرزي في بلاد حوران ونجاح الدّروز في حماية مواطنهم الجديدة من حرية الحركة التي كانت للبدو في السّابق في الجبل ومحيطه، وقلّص إلى حد ما وصول هؤلاء إلى بعض أخصب الأراضي في الجبل تلك الأراضي التي كانت مجرّد مراعي موسمية لمواشيهم في الماضي قبل قدوم النازحين من بني معروف إلى الجبل.
بذلك ارتسمت على الأرض حدود جغرافية واجتماعية وثقافية مائعة بين الفريقين وقد فرض الدّروز احترامًا متبادلًا بينهم وبين البدو إذ عاملوهم بتهيُّب واحترام وتعلّموا منهم الكثير، وفي بعض الأحيان قامت بين الفريقين علاقات إعجاب ونفور في آن واحد، وساهم هذا في نشوء إطار للتّعامل السّلمي لأكبر عملية تفاعل مجتمعي وثقافي بين بيئتين يجمع بينهما الكثير في القيم والعادات والخصال العربيّة رغم الاختلاف الظّاهر في أسلوب الحياة أو في المعتقد.
في هذا التّفاعل المجتمعي لعب عامل اللّغة أو لهجة التّخاطب مع الوقت عاملًا حاسما في صياغة العلاقة بين الطّرفين. لقد كان البدو، كما كان عرب البادية دومًا، شعب فخور وفصيح في آن، وهو شعب يكاد يتخاطب في جميع أموره العامة والمهمة بلغة الشّعر حيث كان الشّعر لغة “الدّبلوماسية” القبليّة وهو وسيلة الإعلام الوحيدة والتّواصل بل هو عماد هُوّيّة الشّخصيّة البدويّة ومصدر اعتزازها وعنوان خصوصيّتها. وقد وجد الدّروز في وقتٍ مبكّر الحاجة ماسّة للتّواصل والتّعايش مع تلك البيئة التي تغطّي القسم الأكبر من شمال شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام وتتشابك عشائرها في تحالفات تجعل منها قوّة يحسب حسابها، كما أنّهم اكتشفوا في الوقت نفسه أهميّة الشعر في التّخاطب وتعزيز روابط الانتماء إلى البيئة الجديدة. لكنّ الظاهرة الملفتة هي أنّ خيار الدروز العفوي ومن دون صعوبة كان التّفاعل مع لغة البداوة وصيغة الشعر البدويّ (النّبطي) في تعبيراتهم الشّعرية حتى أصبح الشّعر الشّعبي في الجبل بمعظمه شعرًا نبطيا فكيف حصل ذلك وما هي دلالاته؟
لقد وجد نازحو بني معروف إلى جبل حوران أنفسهم أمام واقعٍ مختلف وفي محيطٍ تحكمه التّقاليد والأعراف واللغة البدويّة القبلية، لذلك فهم لم يتأخّروا في الاندماج مع الواقع الجديد، ولم تكن من حدود إثنية بينهم وبين مجتمع البلاد التي أعمروها، فقد كانت غالبيّة القبائل البدوية من حولهم من أصول يمنيّة، كقبيلة زبيد على أطراف الجبل الشمالية، وقبيلة السّرديّة في البادية الجنوبية للجبل، وهم اضطرّوا للنزوح من لبنان بسبب حزبيّتهم اليمنيّة، لذا فهم في موطنهم الجديد، جبل حوران، لم يكن بينهم وبين جوارهم حاجز لغة، وكان التباين يتمثّل بالدّرجة الأولى بالتعارض بين حياة التحضّر وحياة البداوة، هذا التباين الذي دخلت عليه السلطة السائدة وحولته أحياناً إلى تنازع ضمن سياسة فرِّق تسد. ورغم هذا كلّه فقد كانت العلاقات الطيّبة تغلب في نهاية الأمر على التناحر والقطيعة سواء مع البدو أو مع سكّان السّهل الحوراني من الفلّاحين.
في الجبل تفاعل الموحّدون مع لهجة المحيط من حولهم، لأنه كان المحيط الغالب ولأنهم كانوا غريزيا يسعون لأن يكونوا مقبولين في الوسط الحورانيّ من خلال الانسجام مع الثقافة السائدة التي لم يكونوا عنها ببعيدين من حيث المبدأ لأنهم جميعًا أبناء البوتقة العربية على تمايزاتها.
ولقد عبرت تلك العملية عن تكيّف تام للدّروز مع البيئة البدويّة والحوارنيّة الأوسع من حيث تفاعل الموحّدين مع ثقافة البادية الأصيلة وقيمها الرّاسخة. وسهّل ذلك عليهم تبنيهم الكثير من مفاهيم منظومة التعبير البدويّة في عمليّة التفاعل اليوميّ مع المحيط، كما أنّ ذلك سهل بلورة الهويّة المستحدثة للنازحين الدّروز في إطار البيئة السّورية الأوسع وفرض في نهاية المطاف الاعتراف بالدّروز في جبل حوران كواقع له شرعيّته غير المنقوصة كما فرض احترام خصوصيّتهم ودورهم في الإطار الوطني. ولنلاحظ أن عمليّة التناغم الدرزي مع البيئة الحورانية وبيئة البادية الأوسع تمثلت أيضًا بتبني بعض مظاهر الزِّي البدوي كالعباءة والكوفيّة والعقال، بالإضافة إلى التأثّر بتقاليد الرّقص الشعبي لمواطني سهل حوران الحوارنة، والأشعار الاحتفاليّة المنقولة من بيئة البادية وسهل حوران، بالإضافة إلى التفاعل مع كثير من تقاليد البادية مثل تقاليد الضيافة والاعتزاز بالعشيرة وتقاليد إعداد الوليمة الجامعة(المنسَف)، وغيرها ..
لكن اللّافت للنّظر مع ذلك أنّه بينما اعتنى الدروز بقوة بإتقان الشّعر النبطي واستخدموه بوفرة في المخاطبة اليوميّة الوديّة أو المتحدّية لأقرانهم من قبائل البادية فإنّهم لم يسحبوا ذلك التّبنّي على لغتهم اليومية المحكيّة، والتي بقي فيها الكثير من سمات اللّهجة اللبنانية الجبلية التي حملوها معهم (ولكن مع دخول اللّكنة السورية). لقد كان في هذه التسوية الفذّة ما مكن دروز الجبل من الاحتفاظ بالمكوّن الأساس لهوّيّتهم الاجتماعيّة والثقافية (تلك التي يعتمدون عليها في ممارساتهم الاجتماعية وعباداتهم ومعاملاتهم في ما بينهم) في الوقت ذاته الذي اعتنوا فيه بتطوير الشّعر البدويّ باعتباره “اللّغة ــ اللّهجة الرّسمية” للمخاطبات السّياسية والاجتماعية في مجتمع البادية الذين كانوا قد أصبحوا جزءا مميّزّا من مكوّناته.
أعددنا هذه المقالة الموجزة على سبيل التّقديم للبحث الجاد والموفّق للشاعر الباحث السوري الأستاذ حازم ناصر النّجم بشأن تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب، والذي يعرض فيه لمراحل تفاعل التعبير الشّعري في الجبل بين اللّغة ــ اللّهجة المحكيّة التي حملها النازحون بنو معروف من لبنان وبين اللغة ــ اللّهجة النّبطية البدويّة الصّرفة، والدّور الذي لعبه شعراء الجبل في حقبات متتابعة في عملية التّفاعل الذي انتهى إلى حالة من التوسّط بين الحالتين. وفي ما يلي الحلقة الأولى من هذا البحث القيّم وسيتبعها في العدد المقبل من الضّحى الجزء الثاني والأخير.

رئيس التحرير

مأساة اليهود العرب في اسرائيل

المَشـروعُ الصّهيونـــيّ
ومأساةُ اليَهود العَرب

نصوص للكاتب الإسرائيليّ العراقيِّ الأصل رَؤُبين سنير

المؤسّسة الصّهيونيّة تتعامل مع الثّقافة اليهوديّة – العربيـــّة كما لو كانت وباءً يجب عزل المُصابين به عن المُجتمع

أجبر النّظام التّعليمي الإسرائيليّ أبناء الأسر اليهوديّة العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنه محرقتهم الذاتيّة وألقى بالهويّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إســرائيل في ســلّة مهملات التّاريخ
(رؤوبين سنير)

تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.

[su_accordion]
[su_spoiler title=”النص الأول” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مأساةُ اليهودِ العرب في إسرائيل

اكتشاف الهُوِّيّة اليهوديّة – العربيّة
كانت توبتي في “باب التّوبة” من “الرّسالة القُشَيْرِيّة” يَرِدُ القول إنّ الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التّوبة (وربّما أضحى ذلك واحداً من هُوّيّتي المُبتكرة الحاليّة) يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1984، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالساً في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللّغة العربيّة حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صِرت أتقن العربيّة، محرّراً للأخبار توفيراً للُقمة العيش. أمّا في أبحاثي الأكاديميّة فكنت منهمكاً في تحقيق نصوص الزُّهّاد والصّوفيين القُدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس – لم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أيّ حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبريّة (وهناك من يُصرّ أنّ هذا التصوّر ما زال سائداً هناك حتى الآن) هو أنّ العرب المعاصرين ليسوا إلاّ “ أمّة بائدة”، أي أمّة ذات ماضٍ عريق حضارياً، ولكن بلا شيء ذي قيمة حالياً. في ذلك اليوم الشّتائي، أبلغَنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904-1984) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مُقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فوراً بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العِبري، إذ ظننت أنّ من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونيّة المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العبرية أيضاً خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. “أنور مَنْ؟” سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنّها سرعان ما قالت: “هذا لا يعني مستمعينا بتاتاً” لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرا يهودياً عربيّاً آخر هو مراد ميخائيل (1906-1986) ، ثمّ في السّنوات اللاّحقة أدركت المنيّة المزيد من الشّعراء والكتّاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933-1997)، يعقوب بلبول (1920-2004)، إسحاق بار موشيه (1928-2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأُصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، و أدعو كل من يعتقد أنّي أبالغ بحكمي النّقدي أنْ يحتفظ بتحفّظاته إلى أنْ يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة “نزولة وخيط الشيطان” التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم ممّا حدا به، قبل موته المُبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عُزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: “لا أعتبر نفسي كائناً حيّاً في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنّني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)”. ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910-2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924-2006) في حيفا.
لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عُرضةً لمؤسّسة ثقافية عبرية ــ صهيونية سائدة، فَرضت هيمنتها المُطلقة على كافّة الكيانات الثقافيّة الأخرى تحت قناع اللّبيرالية اليساريّة، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشّرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافيّة الغربيّة عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي Thomas Babington Macaulay 1800- 1859 في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامّة للتّعليم العام. متحدّثاً عن الأهداف التعليميّة للبريطانيّين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون “هنديّاً بالدّم واللّون، وإنجليزيّاً في الذّوق، الأخلاق والذكاء”. لقد حقّقت الحركة الصهيونيّة نجاحا باهراً بالضّبط حيث عجزت حتّى بريطانيا عن تحقيقه ــ خلق نموذج جديد للإسرائيليّ: شرقيّ في دمه ولونه، وصهيونيّ وإشكينازيّ وغربيّ في الذّوق والرأي. هكذا، مثلا، أجبر النّظام التّعليميّ الإسرائيليّ نسلَ العوائل اليهودية العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذّاتيّة ــ وأستطيع أنْ أضيفَ أحياناً، كما لو أنّها روح تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هُوّيّتهم الثقافيّة. الهُوّيّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إسرائيل حضاريّاً وثقافيّاً أُلقيت في سَلّة المُهْمَلات التاريخيّة.

حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914

نقد الهُوِّيّة الأشكينازيّة الغربيّة
صار المدافعون عن الميول الغربيّة للهُوِّيّة الإسرائيليّة المُخْتَرَعة يتفجّعون خوفاً من “خطر” تشرّق” و”تمشرق” المجتمع الإسرائيليّ. فعلى سبيل المثال كتب الصّحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة “هآرِتس” الإسرائيلية يوم 22 أبريل 1949 ما يلي:
“نحن نتعامل مع أناسٍ في غاية البدائيّة، مستوى معرفتهم يقترب عملياً من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك، إنّهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أيِّ شيء عن الثّقافة”.
أحدُ هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنّهم “لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أيّ شي عن الثقافة “كان نسيم رجوان (ولد عام 1923)، الذي كتب باستمرار في الأربعينيات لصحيفة “Iraq Times” الإنجليزية (وكانت تصدر في بغداد) وكان يهتمّ خصوصاً بشؤون الأدب الإنجليزي. وبالرّغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالباً ما يعامَل ككاتب يفتقر للقابليّات الثقافيّة المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربيّة، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة جيروزاليم بوست Jerusalem Post، أمّا رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرّسميّة التي سعت إلى شطب الهُوِّيّة اليهوديّة العربيّة واستهانت باليهود العرب، يقول:
“إنّها المؤسّسة السّياسيّة ــ الثقافيّة (الصهيونيّة) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيّون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع “الغربيين” الأصليّين ــ هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشّرقيّين إلى عملية منظّمة من احتلال الهًوِّيّة والتّطهير الثّقافي فأجبرتهم على التّنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب – بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”.

“أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بحيث يرحّب بها الجيران العرب، بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”
(نسيم رجوان: كاتب إسرائيلي من أصل عراقي)”

فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي
فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي

اسطورة اضطهاد اليهود العراقيّين
ومن جانب آخر، أرفض تماماً الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكلّ عناية، ومفادها أنّ يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عمليّة إنقاذ خياليّة قامت بها أجهزة الدّولة اليهوديّة الجديدة. فالحقيقة هي أنّ يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتّى مطلع عام 1950، بل وحتّى حينما أصدرت الحكومة العراقيّة قراراً يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسيّة العراقيّة أو ما سُمّي بـ “التّسقيط” وقد طُرح خيار تسقيط الجنسيّة المذكور لفترة سنة واحدة فقط، ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟؟ سؤال حَرِج، وبالفعل، لا أعرف، وربّما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكلِّ ثقة، إنّ مُعظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أيُّ شكّ حول هُوِّيّة الجهة الفاعلة، أو على الأقل هُوِّيّة الجهة التي حقّقت أكبر المنافع من وراء تلك الأحداث، حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة لإسرائيل.

وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967
وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967

ووفق هذه العجالة التاريخيّة المنسوجة بمذكّراتي الشّخصيّة، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثّقافة والهُوّيّة اليهودية ــ العربية. كان العنصر الأساسي في “التّكافل الخلّاق” creative symbiosis 1 بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتّى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنَّوْا اللّغة العربيّة كلُغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التّكافل لأنّ العربية أصبحت تتلاشى الآن كلُغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديّاً يتحدّث العربية بطلاقة، فكُن على ثقة بأنّه إمّا أنْ يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنّه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنّخبة اليهودية ــ الإسرائيلية، سواء كانت الرّسميّة أو الثقافيّة، لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزاً حضاريّاً، وليس هناك، مثلاً، ولو كاتب يهودي واحد وُلِد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيّاً تراثٌ حضاريّ نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ أمام أعيننا، الإجهاز بشكل مُنظّم على هذا التّراث الحضاريّ الرّائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناءً على تآمر غير مُعلن تشارك فيه الصهيونيّة، من جهة، والقوميّة العربيّة المتعصّبة، من جهة أخرى، وكلٌّ منهما يجد دعماً لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأنّ الإسلام واليهوديّة يُجمعان على ضرورة مَحْو هذا التّراث الحَضاري اليهوديّ ــ العربيّ العريق المُشترك.
بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهوديّة ــ العربيّة مثل الوباء الذي ينبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حَجْر صحّي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المُصابين.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أنْ يُطلق عليهم، من باب لُطف التّعبير اسم “مزراحيم” (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قِبَل الصّهيونيّة والقوميّين العرب وعملائهما السّياسيّين والاجتماعيّين والثّقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحياناً، وربّما بسبب ما مَرّوا به من شطب لهُوِّيّتهم الأصليّة وإحلال هُوِّيّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيّين.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”النص الثاني” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يهودُ العراق
والمشــروع الهاشمــي لبنــاء العــراق الحــديث

الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل
الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل

لو أنّ بغداد نجحت في أن تُوَرّث لأهالي الشّرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تَشكّل منها ربيعها المُشرق في مطلع القرن العشرين لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفاً بالرّفاهية والازدهار بعيداً عمّا جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضّغينة المُتبَادلة خلال القرن الماضي.
كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظمِ الفُرص التي تمّ تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الرّبيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حَدت بهم إلى الاعتقاد بأنّ المُجتمع المحلّي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (1883-1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكلّ ما أوتيَ من قوة.
هكذا وقبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطاباً أمام النادي العربي في حلب في 9 حزيران 1919 قال فيه: “نحن عرب قبل موسى ومحمّد وعيسى وابراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت”.
وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكاً على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1921، زعماء الجالية اليهوديّة قائلا: “لا شيء في عرف الوطنيّة اسمه مُسْلم ومسيحيّ وإسرائيليّ، بل هناك شيء يُقال له العراق. إنّني أطلب من أبناء وطني العراقيّين أن لا يكونوا إلا عراقيين لأنّنا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام وكلّنا منسوبون إلى العنصر السّامي ولا فَرق في ذلك بين المسلم والمسيحيّ واليهوديّ. وليس لنا اليوم إلا الرّابطة القوميّة العظيمة التأثير”.
كما أكّد ساطع الحُصَريّ (1880-1986) يومها أنّ “كلّ من يتكلّم العربيّة هو عربي” وكان الحُصَري المدير العام للتّربية والتعليم في العراق، بين 1923-1927، هذه التّصريحات من قِبَل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكّان من الأصول المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابيّة والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السّلبيّة والاختلاف. وقد أسهمت التّصريحات “التأسيسية” للملك فيصل في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلوَرة هُوّيّته العراقيّة العربيّة المتفرّدة.
وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع لعراقيّ الجديد في عشرينيّات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التّغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التّحوّل حاسماً لأنّه شمل هُوّيّات متفرّدة مختلفة ولم يكن مشروطاً بالتخلّي عن الأُطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينيّة، اثنيّة أو مهنيّة وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقيّ الكلدانيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950) في مطلع عام 1924 كتاباً بعنوان: “ نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق” (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطّبقات الاجتماعية والمهنيّة للجالية اليهوديّة أنّ يهود العراق يمارسون كافة المهن: “إلاّ أنّك لا تجد بينهم من حَمَلة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أنّ اليهوديّ يرمي إلى ما به نفعه وسوق التّأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنّهم في هذا الباب يتّبعون المثل اللاتيني القائل “عِشْ أوّلا ثمّ تفلسف”.

الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات
الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات

ولكنْ بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 1924 بالضّبط صدر العدد الأول من مجلّة “المصباح” العربيّة. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتّابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلّة أنْ تكون جزءاً من الثّقافة العراقيّة العربيّة ومن تيّار الصّحافة العربيّة السائد دون أن تكون لها أيّة غاية يهوديّة ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور “المصباح” التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافيّة لأبناء الجالية اليهوديّة التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشّباب يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمّة العراقيّة – العربيّة الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أنْ أقول، مستخدماً مفردات غنيمة، أنّ اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في “القضايا الفلسفيّة”، وبالذّات حول الأشياء ذات الاستقلاليّة النسبيّة عن الحقول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي غالباً ما تتجسّد بأشكال جماليّة كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها.
ومنذ البداية تأثّر المثقّفون اليهود العراقيّون الشّباب بالرّؤية الثقافيّة التي كان “الدّين لله والوطن للجميع” شعارها. هذا الشّعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1919، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لأنجيل مرقص 12، 17: “ أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين ــ السّوريين المسيحيّين في القرن التاسعَ عشَرَ “حبُّ الوطن من الإيمان”. وقد تبنّته أيضا مجلّة الجِنان، أوّل نشرة دورية عربيّة عموميّة تأسّست ببيروت عام 1870 من قِبَل بطرس البستاني (1819-1883) وصدرت حتى عام 1886؛ وحُرّرت أيضاً من قِبَل نجله سليم البستاني. ووفقاً لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرّابطة الدينية بالرابطة القومية.
ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيّين المارّ ذكرهم، شعار “الدّين لله، والوطن للجميع”، كما حفزتهم الآيات القرآنيّة التي تدعو للتّسامح الدّيني والتعدّديّة الثقافية مثل “لا إكراه في الدّين” (البقرة 256) و“لكم دينكم ولي ديني” (الكافرون 6). واصطفّت نُخْبَتهم، وخاصّة المثقّفون العلمانيّون الشّباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قوميّة حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشّيعة والسّنة، والكُرد، والتُّركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصّهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهوديّة قوميّة في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمراً غير مرغوب به إطلاقاً في صفوف مُعظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أيّة وثائق تاريخيّة تعكس تحمّساً لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينيّات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقيّ العربيّ. يكفي بنا أنْ نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson)، المفوّض المدنيّ المؤقت في بلاد الرّافدين في الفترة ما بين 1918، 1920 في سجّلاته عن تلك الفترة:
“ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهوديّة الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلدٌ فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسّكن. وبلاد الرّافدين جنّة مقارنة بفلِسْطين. قال أحدُهم: “العراق جَنّة عدَن ومن هذا البلد طُرد آدم ــ أعطونا حكومةً جيّدة وسنجعل البلد يزدهر ــ وادي الرافدين وطننا؛ وطن قوميّ سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفّر في فِلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة”.
وقال التّربوي والصّحفي اليهوديّ عزرا حدّاد (1900 – 1972) في أواخر الثّلاثينيّات: “نحن عرب قبل أنْ نكون يهوداً”. كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920- 2004 ): “لا يتوقّع الشّاب اليهوديّ في البلدان العربيّة من الصّهيونيّة غير الاستعمار والهيمنة”. عاش معظم السّكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيّين والحقبة الملكيّة المُبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنّه: “يمكن أن يقول المرء بكلّ ثقة إنّ بغداد كانت يهوديّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، كما كان يقال إنّ نيويورك مدينة يهوديّة”. كان الأفق الحقيقيّ ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النّخبة المثقّفة، عراقيّاً وعربيّاً. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقيّة جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصّدد: “لم يطلق يهود العراق على العراقيّين من غير اليهود تسمية “عرب”، وإنّما استخدموا مفردات “مسلم” و”مسيحيّ” وحينما كانوا يتكلّمون عن “عرب” فالمعني في أذهانهم كان “البدو” فقط

ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925
ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925

إذا عدنا إلى “المصباح”، نرى أنّ رئيس التّحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار “ابن السموأل”، إشارة إلى الشّاعر اليهوديّ الجاهليّ السّمَوْأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السّموأل (هكذا تسرد الروايات العربيّة القديمة) تسليم أسلحة عُهِدَ بها إليه، وبالتّالي فقد شَهِدَ مصرعَ ولَدِه على يديّ شيخ القبيلة البدوي الذي فَرضَ حِصاراً على قصره كي يجبرَه على تسليم الأسلحة التي تُرِكت بحوزته. وبفضل ذلك خُلِّد السّموأل في ذاكرة العرب إذ أصبح يُقال “أوْفَى من السّموأل”. ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقيّ ــ العربيّ الذي كان، من منظاره، المَوْقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقيّة.
ولقد عَثرت، ودون أيِّ جهدٍ خاصّ، على نصوص تتناول ذلك الرّبيع ببغداد في عشرينيّات القرن الماضي بقلم السّنّي معروف الرّصافي (1875-1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997 ) والكردي جميل صدقي الزّهاوي (1863- 1936) والمسيحيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885 ــ 1950). لا أحدَ منهم تباهى بأنّه عربيّ أو عراقيّ إذْ كان ذلك بديهيّاً كما كان بديهيّاً بالنّسبة لأنور شاؤل إذ كان انتماؤهم جميعاَ يستند إلى كون كلّ منهم جزءاً من الأمّة العراقيّة وكانت لغتُه الأمّ هي العربيّة وكان مستقرُّه الأوحد هو الوطن العراقيّ، ولم يكن للاختلاف في الدّين أيّة أهميّة إذ إنّ الإيمان الدّيني، في المنظور السّائد في تلك الفترة، كان أمراً بين الفرد وخالقِه “الدّين لله، والوطنُ للجميع.

رؤبين سنير

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

المرأة عند الموحدين الدروز

كرامة المــــرأة عنــــد
الموحّــــدين الـــــدّروز

الموحّدون الدّروز يحرّمون تعدّد الزّوجات توخّياً للعدل
ويحظرون إعادة المطلّقة بل مقابلة الرّجل مطلّقته

نساء جبل العرب اخترقْنَ صفوف المقاتلين يستَنْهضْهنَم للقتال
فكُنّ بذلك سبباً مهمّاً في تغيير مجرى الكثير من المعارك

للمرأة في كلّ المجتمعات دورٌ خاصّ قد يتفاوت من حيث الأهمّية حسب التّنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ومنظومة العقائد والقيم والتقاليد، لكنّ مجتمعَ الموحّدين الدّروز جعل للمرأة مكانةً تتميّز بها عن غيرها من النساء، وهذه المكانةُ مستمدّةٌ من صُلبِ مذهب التّوحيد الذي خصّها بقواعد ووصايا، فكان الموحّدون بذلك سبّاقون في إعطاء المرأةَ دورَها الكاملَ في المجتمعِ، وقد تكرَّست لها تلك الحقوقُ بنصوصٍ مكتوبة وأحكام مُلْزِمة.
من الفروضِ التّوحيدية أنّه عندما يتزوج موحّدٌ موحّدة، عليه أن يجعلَها مُساويةً له في كلّ شيء، وأن يُقسّم بينه وبينها كلَّ دَخْله، وأن يستشيرَها في كلّ أموره، وعليه احترامُها بحيثُ لا يُسمِعُها أيَّ كلمةٍ نابية.
كما أقَرّ مذهبُ التّوحيدِ الموحّدين على ألاّ يظلموا النّساءَ، ولا يسيئؤوا معاملتهنّ ، وأوصى النّساء بالعدل والتّعَفُّف، وعلى المؤمن أن يتّقي اللهَ في النّساء، ومن جانب آخر فإنّ المولى قد نهى النّساء عن التهتّكِ والظّهورِ بمظهر المُسْتهترات، أو أنْ تسلك إحداهنّ سلوكاً في الطّريق لِلَفْتِ النظر سواءَ في مَشْيتها، أو لبسها وكلامِها، أم في صوتها الذي يجب ألاّ يرتفعَ، وعليهنّ عدمُ لبسِ الفاقع من الألوان والمكشوفِ من الثياب1.
وقد حَرَّمَ مذهبُ التّوحيد تعدَّد الزّوجات. لذلك، فالمرأة الدّرزيّة هي سيّدةُ بيتها من دون أن ينازَعها منازع. كما حَرَّمَ المذهبُ أيضاً الزّواجَ بطريقةِ التّهديد أو التّرغيب إذْ “لا يتزّوجُ أحدٌ بالرّغم منه”. وإذا أَجبر وَليُّ أمرِ فتاةً على الزّواج، فلها الحقُّ في إبطالهِ أمام أولي الأمرِ من الموحّدين، ويُعاقَبُ الأبُ ــ الوليّ ــ عقابا” أدبيّا”.

مكانة اجتماعية رفيعة
إنّه لَأمرٌ مُشتَهر أنّ أكبرَ إهانةٍ في نظر الموحّدين الدّروز هي التعرّضُ للعِرض ــ النّساء ــ وتستوي في ذلك نساؤُهم ونساءُ غيرهم، حتى الأعداء. فهم يوجِبون لهنّ الصَّوْنَ والاحترام، حتى إنّ قاطعَ الطّريق منهم الذي ثارَ على الفرنسيين في عهد انتدابهم على لبنانَ، وأطلق الناسُ عليه لقبَ “روبن هود” كان يرفعُ يدَه عن المرأة الفرنسيّة أو غيرها من النّساء باحترامٍ، ويعفُّ عمّا مع أيّ منهنّ، وهو يعلم أنّ رفقاء السفر حين رأوه خبّأوا محافظَ نقودِهم في مطاوي ثيابِ النّساء.

“من الفروضِ التّوحيديّة مساواة الرّجل لزوجته بنفسه في كلّ شيء وأن يقسّمَ بينه وبينها كلَّ دَخْلِه وأن يستشيرَها في كلّ أموره وأن يحترمها”

النصّ والصورة
الصّورة في باحة القرية: مناديلُ بيضٌ كسربِ حمامٍ حطّ على دوحة، مناديلُ تنحدرُ من على الرّأسِ التفافاً حول الكتفينِ إلى ما دونِ الخَصرِ. ثيابُ المرأةِ هادئةُ الألوانِ، أمْيَلُ ما تكونُ إلى العمقِ والقتامة، بسيطةٌ تتهدّل بحرّيّة في خطوط تسيلُ هَوْناً حتى لا تعلو عن سطح الأرض إلاّ قليلاً، وتستديرُ المناديلُ البيض استدارةَ الهالاتِ بوجوه – إنْ هي التمّت على فرحٍ ــ ففي بشاشةٍ رَضِيّة، أو على حزنٍ ففي أسىً وَقور.
من باحة المناديلِ هذه يستطيع بحثُنا أنْ يستمدَّ حقائقَه ونماذِجَه للمرأةِ الدّرزيّة، فهي هناك في بيئتِها الأصلية على سجاياها وخصائِصِها المُمَيّزة.2
تمثّلُ المرأةُ في مجتمعها الدّرزيّ رمزاً للشّرفِ والكرامة3. كما تمثّلُ العنصرَ الأوّلَ والضروريَّ في إقامةِ عائلة متماسكة. إنَّ هذه المكانةَ مُستقاةٌ بصورةٍ رئيسيّةٍ من تعاليمِ المذهب التوحيديّ ومبادئه، والذي أمر بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ وضروريّ، حيث يُعتبرُ التّعليم حقّاً لها لمساواتِها بالرّجل. كما خصّص لإنصافهن العديد من الوصايا.
لقد يسّرَ المذهب أو المسلك التّوحيدي الأمرَ على المرأة الموحِّدة، وساعدها في الرّياضة الرّوحيّةِ التي أوجبَها عليها. فهو صريحٌ في إِعزازِه لها وتكريِمها، فأعطى في ذلك المثلَ، ورسمَ الطّريقَ للمجتمع وللرّجل خاصّة. قال لها في ما قال:” إنّ المقصود بمخاطبة النّساء ودعوتهنّ للمسلك القويم لم يكن فقط حُنُوّاً عليهنّ، بل “اجلالاً وشرفاً وإعزازاً”.
ويظهر جلِيّاً في التراث التوحيدي، ورواد المسلك القويم للنّساء أسلوب الاحترام ومناداة العقل، كما يظهر فيه معنى التّشاورِ والاستفتاء، ومعنى موقفِ العاقلِ من العاقل، وتكليف الإرادة الحرّة في الاختيار. إذ أن مسلكها الذي سيغدو دستورَ حياتها، ومرتكزَ إيمانِها لا يتقرّر بضغطٍ، بل بإرادة واعية من المرأة، وعقلٍ ومَلَكَة تمييز.
إنّ عدَم تعدّدِ الزّوجاتِ في مجتمع الموحّدين الدّروز، زاد من اقدام المرأة، وعمّقَ شعورَها بالعزّة والكرامة والاستقرار النفسيّ. وقد حـرَّم مذهب التّوحيد تعدّدَ الزّوجاتِ لتحقيق العدل وفقاً للآية الكريمة” وإنْ خِفْتم أنْ لا تعدلوا فواحدة”، وقد رافق هذا التّحذير توكيد من الله تعالى بقوله “ولن تستطيعوا ان تعدِلوا بين النساءِ ولو حرِصْتم”. ومن نصائحِ الخليفةِ المعزّ لدين لله لأتباعه أنْ “لا يميلوا إلى التكثيرِ من النساء، بل يكتفي الرجلُ بزوجةٍ واحدة، فحسبُ الرّجلِ الواحدُ المرأة الواحدةَ”. ويقول المؤرّخون إنّ ما يسترعي الانتباهَ هو إشارةُ المُعزِّ لدين لله إلى زوجته كرفيقةٍ يبحث معها الشؤونَ العامّةَ وكشريكة في مجالسه، وإنْ كان ذلك من وراءِ حجاب4.
فالمرأةُ في مجتمع الموحّدين هي” سيّدةُ بيتها، تتمتّع بالاحترامِ والكرامة والطمأنينة على مصيرها فلا ينازعُها منازعٌ، بل تحظى بمحبّة زوجِها وأولادِها وعائلتِها. وكانتِ البنتُ تُربّى منذُ نعومةِ أظفارِها لتكونَ زوجةً صالحة، لأنّ العائلةَ تُعتبر مؤسّسةً مقدّسة، فعليها أن تعيشَ بوئامٍ وفضيلة مع زوجها ومن أجل استقرار أسرتها وهنائها وصلاح أولادها.
والعمل بين الزّوج والزّوجة تعاونيٌّ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. المرأةُ شريكُ الرّجل، ولم تقتصر مساهمتُها على حفظ التّراثِ والتقاليد وتربية الأطفال، والمحافظةِ على كيان الأسرة من حيثُ التّماسكُ الاجتماعيُّ والأخلاقيُّ فحسب، بل ساهمت مساهمةً فعليّةً في الإنتاجِ الاقتصاديّ والماديّ. فكانت اليدَ اليمنى للرّجل من حيثُ المشاركةُ في أعمال الحقل والأرزاق، أو إدارة المنزل وتأمين الغذاءِ والكساء للعائلة.

المرأة في ميادين الحياة
في مجتمع الموحّدين الدّروز، هناك الكثيراتُ من النّساء ممّن اتّبعنَ سيرةَ التّقوى والتّقشّف، وابتعدنَ عن الحياةِ الدّنيا ليكرّسنَ وقتَهنّ للصّلاة والعبادة؛ ففي قرى الشوف وعاليه والمتن وحاصبيا وراشيا وجوارها، وفي بيروت سيّداتٌ تقيّاتٌ تصعبُ الإحاطةُ بهنّ جميعاً، وعلى سبيل الذّكر لا الحصر نذكر:
على الصّعيد الدّينيّ، “ السّتُّ سارة والأميرَة نفيسة التنّوخيّة التي حفظت الكتابَ العزيزَ عن ظهر قلب وهي بنتُ سبعِ سنوات”5. وعلى الصّعيد السّياسيّ، نذكر الأميرةَ “طيبة معن” والدة الأمير قرقماز، وأم دبّوس أبي اللمع والسّيّدة نَسَب التّنوخيّة والدة الأمير فخر الدّين الثاني والسيّدة حبوس أرسلان زوجة الأمير عبّاس أرسلان، والتي اغتالها الأميرُ بشير الثاني بكمين أعدّه خِصّيصاً لها. والسيّدة نايفة ابنة الشّيخ بشير جنبلاط وزوجة الشيخ خليل شمس. والسّيّدة نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط التي لعبت دوراً” سياسيّاً كبيراً” في لبنانَ خلال الانتدابِ الفرنسيّ، وبدايةِ عهد الاستقلال.
وقد قيلَ كثيرٌ في تقييم السّتّ نظيرة، ومن ذلك القولُ الشائع: إنّ الكُبراءَ والأجانبَ الّذين يزورون لبنان لا يكونون قد أنصفوا أنفسهم ما لم يزوروا مَرْجِعَين هما: البطريرك المارونيّ، والسّتّ نظيرة جنبلاط في المختارة.
وفي هذا الأطار، لا بُدّ من الإشارة إلى بعضِ العلاماتِ البارزة في مسيرةِ بعضهنَّ، كالسيّدة نايفة جنبلاط مثلاً، والتي قال فيها الدكتور حَريز” كانت السيّدةُ نايفة جنبلاط على جانب عظيم من الذّكاء والحصافةِ والرّصانة. وكانت تقيّة جدّاً” وعملت على درءِ المخاطرِ والنّوازل عن أهل حاصبيّا، وخفّفت الكثيرَ من الوَيلات والمصاعب”، كما يتكلّم أحدُ معاصريها، وهو الشّيخ جمال الدّين شُجاع قائلاً بأنّ”العطفَ الفائق والثورةَ النفسيّة العنيفة التي ألمّت بالسيّدة نايفة، أثناء محنة 1860 في حاصبيّا نفسها، برهنت على أنّ السيّدةَ قد ارتقت إلى أرفعَ مستوياتِ الإنسانيّة. لقد برزت أريحيُّتها، وانفجر حنانُها وعطفُها على المشرّدين المنكوبين من إخوانِها المسيحيين، بشكل لم ترهُ عينٌ. لقد فتحت منزِلَها غرفةً غرفة، وقدمّت كلَّ ما في وسعها من عَوْن وغذاء. ثمّ إنّها لمّا حوصرت قلعةُ آل شهاب اندفعت بشجاعة فائقة تحت زخّات الرصاص، فوصلت إلى القلعة، وانقذت كلَّ من فيها من نساء وأطفال، وحَضَنتهم بحنان الأمّهات، حتى انقشعَ الأفقُ وزال القتال”. وقد زار الأمير شكيب أرسلان حاصبيّا، والتقى السيّدة نايفة وهي في آخر عهدها فكتب عنها:”لقد زرت كثيراً من الكُبَراء البارزين والفُصحاء، فلم يعتَرِني تأثيرٌ، كبعض ما أثارتني شخصيّةُ هذه السيّدة”6.

المرأة في المعارك
وعلى الصّعيد العسكريّ، كانت المرأة الدّرزيّة تقف في كثير من الأحيان إلى جانب إخوتِها وأبيها وأقاربِها، تساعدُهم بمختلف الوسائل، حتى إنَّ بعضَهنّ خُضنَ المعاركَ في ساحات القتال، واندفعنَ بين المقاتلين، يَحثُثْنَهُنَّ على القتال ويبثُثْنَ النّخوةَ والشّجاعةَ في نفوسهم، ويفرِضنَ وجودَهُنّ عاملاً هامّاً في تغيير مجريات الأحداث. وقد كانت هذه حال سعدى ملاعب مثلاً أثناء معركة “عيون” بين بني معروف في جبل العرب وبين الجنود العثمانيين عام 1895، إذ حصل في تلك المعركة التّاريخيّة أنْ تقهقر فرسان الدّروزُ القليلو العدد في بداية المواجهات أمام جحافل الجيش العثماني، وإذا بشبح يخترق الجموعَ المبعثرةَ ويصرخ فيهم:” إلى أين؟ رَمّلوا نساءَكم ويتِّموا أطفالكم. ولا تتراجعوا فَتُهتَكُ أعراضُنا؟؟ قالتها باللهجة العاميّة، وكأنّ حبّاتِ قلبِها تتناثر مع الكلمات، وما زالت تصْرُخ بهم وتستقبل نار العدوّ، حتّى ارتدَّ المقاتلون مُستميتين وتواثبوا، وصمدوا، وتلاحموا تلاحُماً أحبَط هجوم الجحفل العثماني الذي انكفأ جندُه وتبعثروا، فنال منهم المجاهدون قتلاً كبيراً، وعاد هؤلاء بهتافات النّصر والزغاريد. كذلك كانت الحالُ بالنّسبة لبعضِ الفتيات والنّساء الأُخرياتِ اللواتي لعبن دوراً استنهاضيّاً مماثلاً خصوصاً في معركة المزرعة الظّافرة ضدّ جيوش الفرنسيّين الحديثة عام 1925، وقد حفظ التّاريخ المواقف المجيدة للسّيّدة “بُستان شلغين” و “شمّا أبو عاصي” و “عبلا حاطوم” و “ترفة المحيثاوي” وغيرهنّ، واعتبر المؤرخون دورهنَّ التّعبوي، وتحرُّكهن البطولي بين خطوط القتال، وأناشيدهنّ الحماسيّة التي تحذّر الرّجال من العار في حال التخاذل من العوامل المهمّة التي ساهمت في انتصار مجاهدي سلطان باشا الأطرش في أكبر معارك الثورة، وإلحاقهم هزيمةً مُذِلّة بجيوش الفرنسيين الثّقيلة التّسليح. وما زال الدّروزُ يردّدون حتى اليوم هتافَات تلك المعركة:
لعيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك عبلا و شمّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منــــــــــــــــــــحطّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الدبــــــــــــــــّابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
والمدفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع مــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّوا إلا بّْيْــــــــــــــــــــــــــــــــض الشّـــاشيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّات7

وبرزت عَمشة القنطار أيضاً في البقاع، وتميّزت بالقوّة والشجاعة والسّطوة والبطش، واشتُهرت شجاعتُها في طول البلاد وعرضها حتّى اليوم، فكان بنو معروف إذا تفرّدتْ امرأةٌ بالقوّة والسّطوة يطلقون عليها لقبَ “عمشة”، فهي عنترةُ النّساء8. كما تميّزت فاطمة حسام الدّين زوجة حسن حمّود عابد من كفرنبرخ، واشتهرت بأمرين هما: أوّلاً، شدَّةُ تديّنها وصِحّةُ تقواها. ثانياً، قوّةُ بُنْيَتها ومتانةُ عضلاتها9.

رائدات في العمل الاجتماعي
وكذلك على الصّعيد الاجتماعي، لعبت المرأةُ الدّرزّية دوراً مُهمَّاً في تأسيسِ الجمعيّات، والمساهمة في إنشاء الحركات الاجتماعية. ومثّلث السيدةُ زاهية سلمان والدة الوزير السابق صلاح سلمان، والسيّدة نجلا صعب، والسيّدة أنيسة النجّار، زوجةُ الوزير السابق فؤاد النجّار. أهمّ العلاماتِ البارزةِ على هذا الصّعيد. فقد ساهمتِ السيدةُ أنيسة النّجّار في تأسيس جمعيّة “نهضة المرأة الدّرزيّة”، كما انْتُخبت السيّدة زاهية سلمان رئيسةً لـ “جمعية رعاية الطّفل في لبنان”، والتي كان لجمعيتِها هذه مدارسُ ابتدائيةٌ، وروضاتٌ للأطفال في القرى النائية. كما انتُخبت السيّدة نجلا صعب رئيسةً لـ”المجلس النّسائي الّلبناني” الذي يضمّ ستّاً وتسعين جمعيّةً من جميع أنحاء البلاد.

المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية
المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية

نظيرة زين الدين السبّاقة
وليس خافياً أيضاً تلك الانتفاضةُ الأدبيّة والاجتماعية التي قامت بها السيدة نظيرة زين الدين ابنة القاضي الكبير سعيد زين الدين وزوجة محافظِ مدينة بيروتَ سابقاً السيد شفيق الحلبي، وكان لأفكارِها عن الحجاب، وتحرر المرأة، تأثيرٌ كبيرٌ أدّت لردّةِ فعلٍ كبيرة، انقسم على أثرِها رجالُ الفكر والدين إلى قسمين، أيّدها أحدُهما بينما عارضها القسمُ الآخر.
وكانت السيدة نظيرة زين الدين من اوائلِ من أسّسَ الحركةَ النسائيّة الإسلاميّةَ في لبنان. كما ساهمت في تأسيس “اتحاد النساء العرب، واضعةً في ميثاقِه موادَ ذاتَ قيمةٍ عالية، تختصُّ بحقوقِ المرأة المسلمة وحريّتِها وتربيتها.
وفي ميدانِ الفنون كان الدروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفظ. وكان للمرأةِ من التصوّفِ والتحفظِ النصيبُ الاوفى، وهي الموصاةُ “بألا تضحكَ من الفرحِ ولا تبكي من الخوفِ والجزع”. فلم نعرف بها أدباً أو غناء في هاتيك الحقبة من الزمن إلاّ الزغاريدَ في الأفراحِ والندبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتسجيلِ والدراسة، لما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصدقِ التعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولما ينبضُ به جيّدهُ من نفحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في ميدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النساء الدرزياتِ كنَّ على العمومِ يعرفنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النهضةِ الصحيحةِ إلى أواخرِ القرن التاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين:
وفي مَيْدانِ الفنون كان الدّروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى، لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفّظ. وكان للمرأةِ من التّصوّفِ والتّحفّظِ النّصيبُ الأوفى، وهي المُوصاةُ “بألاّ تضحكَ من الفرحِ، ولا تبكي من الخوفِ والجَزَع”. فلم نعرف منها أدباً أو غناءً في هاتيك الحقبة من الزّمن إلاّ الزّغاريدَ في الأفراحِ، والنّدبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنّه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتّسجيلِ والدّراسة، لِما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصِدقِ التّعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولِما ينبضُ به جَيِّدُهُ من نفَحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في مَيْدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النّساء الدّرزياتِ كُنَّ على العمومِ يعرفْنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدّينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النّهضةِ الصّحيحةِ إلى أواخرِ القَرن التّاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين.

” مذهب التوحيد أمرَ بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ واعتبره حقّاً مُصانا لهنّ لمساواتِهن مع الرجــال. كما خصّص لإنصافـــهن العديد من الأحكام والوصـايا.  “

دور الإرساليات
في أواخرِ القرنِ التّاسعَ عشَرَ ظهرفي لبنان رجل أميركيّ اسمُه “مستر برد”، وهو أوّلُ رئيسٍ لمدرسةِ البناتِ الأميركيةِ في صيدا، وكان يجوبُ القرى الدّرزيةَ بحثاً عن فتياتٍ درزيّاتٍ يقبلُ ذووهُن بإدخالهنّ هذه المدرسةَ، فيكنَّ طليعةً تتبعُها أُخْرَياتٌ، ويتخيّرُ وجيهَ كلِّ بلدٍ فيزورُه. وكان أوّلَ من استجابَ للمستر “بِرْد” من الآباءِ الدّروز رجلٌ عصاميٌّ ذو ثقافةٍ لُغَويّةٍ، وشَغفٍ بالشّعرِ العربيّ وسَعيٍ جادٍّ بطلبِ الكتبِ وتثقيفِ نفسِه عليها، واستقلالٍ فكريّ وإرادةٍ صلبة، اسمه الشيخ أبوعلي محمود حسن من عثرين – الشوف. في غدوةٍ من شهر تشرين الأول عام 1890، كنتَ ترى فتاتين تركبان فرساً، يصحبهُما أخوهما وأجيرٌ بينهما، يأخذون طريق جِزّين ــ صيدا، يسجّلون أوّل فتاتين درزيّتين داخليّتين في تلك المدرسة. وتلحقُ بناتُ آل تلحوق بمدرسةِ شملان الإنكليزيّة، وغيرهُن بمدرستيّ عين زحلتا وبعقلين الإنكليزيّتين. وكُنّ طلائعَ لطلبِ العلمِ تميّزن بالنَّهمِ في التّحصيل. واتّصفت خَزْما يونس بالعقلِ المتوقّدِ والتّفوّق، وحاولت نظمَ الشّعرِ بالإنكليزيّة، وهي خالةُ الشّيخ نسيب مكارم. وكان آباءُ هؤلاء الفتياتِ يتلقَّوْنَ بسببِ هذه الأسبقيّةِ سهامَ الأذى والتّجريحِ بشجاعةٍ وصدورٍ رحبة.
بهؤلاءِ الطّلائعِ ترتبطُ اليوم الأجيالُ المتلاحقةُ في المدارسِ صعوداً إلى الجامعاتِ، وأصبحَ لنا منها نماذجُ وبشائرُ في المِهنِ العلميّة.

” نايفة جنبلاط زعيمة الرّحمة إبّان أحداث 1860 ونظيرة جنبلاط مِحور السياسة الّلبنانيّة ونموذج الزّعامة المحنَّكة والآســـرة للقلـــــوب “

المرأة والــــزواج
يشجّعُ الموحدون الدّروزُ الزّواجَ ولا سيّما الزّواجُ المبكرْ، وقد كان الزّواج من الأقرباءِ شائعاً جدّاً نظراً لطبيعة مجتمعِ الموحدّين الصّارمةِ، وعدمِ سماحِهم بالاختلاط بين النساءِ والرّجال إلا ضمنَ حدودٍ دقيقةٍ وضيّقة. وفي الماضي غيرِ البعيد، لم يكن باستطاعةِ طالبِ الزّواج أن يتعرّفَ على عروسِه أو يراها قبلَ ليلةِ الزفاف. لكنّ ظروفَ العيشِ التي تطوّرت مع اقترابِ الموحّدين من الحياةِ العصريّة، سهّلت عمليّةَ التعارفِ التي تسبقُ الخِطْبة، وأصبحت عمليّةُ زيارةِ الشّابِّ لمنزلِ الفتاةِ للتعرّفِ عليها أوّلا،ً وطلبِ يدِها ثانياً، من الأمورِ الدارجةِ والطبيعيةِّ في مجتمعِ الموحّدين.
بعد الزّيارة، أو الزياراتِ التّمهيديّة من قِبَل طالبِ الزّواج، يُفاتحُ ذوو العريسِ أهلَ الفتاةِ برغبةِ العريس في الزّواجِ بابنتِهِم. عندئذٍ يقومُ أهلُ الفتاةِ بالتقصّي عن وضعِ العريسِ الاجتماعي والمادي والعائلي، وعن سمعتِه وسمعة أهله الأخلاقيةِ وطبيعةِ عملِه، إلى غيرِ ذلك، وقد يذهبون بزيارةٍ استطلاعيةٍ إلى بيتِ العريس للتعرفِ مباشرةً على وضعه، فإذا رأى أهلُ الفتاةِ أنّ طالبَ يدِها في وضعٍ ملائم، يحدّدون مَوعداً لإعطائِه الجوابَ المبدئيَ بالقبول. وإذا كان وضعُه غيرَ ملائمٍ لهم، فإنّهم يرسلون الجوابَ بالاعتذار بواسطةِ أحدِ الأصدقاءِ المقرّبين من الأُسرتين. وفي جميعِ الحالات، يكون رأيُ الفتاةِ صاحبةِ العلاقةِ هو الأساسَ الأوّلَ للرّفضِ أو القبول. لأنَّ القواعد التوحيدية تشدّدُ على وجوبِ قبولِ الفتاة بالعرضِ وموافقتِها على الزّواجِ من طالبِ يدها.
يجتمعُ أهلُ العروس، وبعضُ الأقرباءِ والأصدقاء، وتُشْهَر نِيّةُ أهلِ العروسِ بالموافقةِ على طلبِ العريس. ويُعتبَرُ هذا الإشهارُ بمنزلةِ وَعْدٍ للعريسِ بأنّ العروسَ “أصبحت على حسابِه” وعند ذلك تُقرأُ الفاتحةُ ويُقدّمُ الشّراب المُحَلّى، وتُسمّى المرحلةُ بمرحلةِ “التتميم”.
وتعقبُ هذه المرحلةَ فترةٌ من التّداولِ والتفاوض، يتّمُ الاتّفاقُ فيها على مَهرِ الزّواجِ من مُقدَّم ومؤخّر. والمَهْر ليس ركناَّ من أركانِ الزّواج أو شرطاً من شروطِه. لأنَّ عقدَ الزّواجِ يقوم ويتمّ بين الرجلِ والمرأة بمجرّدِ تبادلِ الإيجابِ والقبولِ بينهما10، شرطَ أن يتمَّ وفقاً للأحوالِ الشّرعيّةِ التي تنظّمُه وترعاه.
والمَهر يُقسم إلى نوعين:
“المُعجَّلُ والمُؤخَّر” والمَهْرُ المُعجَّلُ هو ما يقدَّمُه الزّوجُ لزوجته عند إجراءِ العقد، أمّا المَهرُ المؤخَّرُ فهو الذي يؤجَّلُ دفعُه إلى حينِ حلولِ أحدِ الأجَلَين: الطلاق أو الوفاة”11. وبعدَ الانتهاءِ من الاتّفاقِ على المَهرِ تُعْلَنُ الخطوبةُ في احتفالٍ عَلنّيّ، ويتمُّ إلباسُ خاتَمِ الخطوبةِ وبعضِ الحُلى الّتي يقدّمها الخطيب، أو بعض أفراد أهلِه وأهلها على سبيل المباركة، وإظهار السّعادة بالمناسبة.
ولا توجَدُ قاعدةٌ تحدّدُ مقدارَ المَهرِ من حيثُ حدُّه الأدنى أو حدُّه الأعلى. لكنّ القضاءَ المذهبيّ يوصي بعدمِ المُبالغة في طلبِ المهورِ الكبيرة، مُستنداً إلى الأحاديثِ النّبويّةِ الشريفةِ وخطى السلف الصالح التي تُوصي بعدمِ المغالاة في المهور، ومنها:
الأوّل:” إنّ أعظمَ النّكاحِ بَرَكةً أيسرُه مَؤونة”. والثّاني:” إنّ خيرَ الصّداقِ أيسرُه”12.

رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا
رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا

وبعد مرحلةِ الخِطْبةِ الّتي يُسْتحسنُ أن تكونَ قصيرةً، تأتي المرحلةُ الحاسمةُ وهي مرحلةُ عقدِ القِران. وعَقدُ القِران يتمُّ عادةً في المحكمةِ المذهبيّةِ للعامّةِ، وفي منزلِ العروس، إذا كان العروسان من الأجاويد. ويقوم بكتابةِ العقدِ شيخٌ مأذون. وقد يُجرى عقدُ القرانِ بحضورِ العَروسين شخصيّاً أو بحضورِ وكيلين عنهما كما هي العادةُ عند المُتديّنين. وبعد كتابةِ العقدِ وتوقيعِ الشّهودُ تُقرأُ سورةُ الفاتحةِ ثم سورةُ الإخلاصِ ثلاثَ مرات، تبدأُ كلٌّ منهما بالبَسملة، ثم تُتّلى خُطبةُ الزّواجِ التّالية:” الحمدُ الله الذي أبدعَ الكائنات، وأفاضَ من رحمتِه الخَيرات، وخلقَ الإنسان على أحسنِ صورةٍ فكان أشرفَ المخلوقات، سبحانَه وتعالى عن وصفِ الواصفين وإدراكِ الأنام، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدِنا محمّدٍ سيّدِ المُرسَلين، في كلِّ بدءِ وخِتام. وبعدُ: فإنّ الزّواجَ سُنّةٌ من سُننِ الأنبياء، وشِرعةٌ من شرائعِ البقاءِ، وصونٌ عن الفحشاء، ووقايةٌ من ربّ الأرض والسّماء. وقال تعالى:” ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجَين”13، و”ومن آياتِه أنْ خَلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعلَ بينكُم مودةً ورحمة”14.
وقال سيّدُنا الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسلام:” تزوّجوا وتكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُممَ يومَ القيامة”15، فأسألُه أن يلقيَ بين الزّوجين المحبّةَ والوداد، وأن يرزُقَهما النّسلَ الصًالحَ من الأولادِ، وأن يوسِّعَ عليهما الرّزقَ، وأن يحفظَهما من مكائِد الخَلق، وأن يباركَ هذا العقدَ الميمونَ إن شاءَ الله”16.
بسطتُ هذه الخُطبةَ بالتّفصيلِ لبيانِ الرّوحِ التي تحيطُ بهذه العتبةِ الفاصلةِ في حياةِ الموحّد؛ ومع عقدِ القرانِ يصبحُ مفعولُ الزّواجِ بين العروسين نافذاً، لكنَّ إقرارَه الفعليَّ يتمُّ بالاجتماعِ الصّحيح.
يتّضحُ ممّا تقدَم أنَّ الموحّدين يتزوّجون على سُنةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلّم، وأنّ أحكامَهم في الزواجِ أحكامٌ شرعيّةٌ إسلاميّةٌ مستمدّةٌ من القرآنِ الكريم والحديثِ، ومن المذهب الحَنَفي مع احتفاظِهم بخصوصيّةٍ اجتهاديّة تقضي بعدمِ تعدُّدِ الزوجاتِ تمسّكاً بقولهِ تعالى:”ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساءِ ولو حرصْتُم”17.
أمّا الخصوصيّةُ الاجتهاديّة الثّانية، فهي في عدمِ السماحِ للموحّدِ بإعادةِ المطلّقة. وهذهِ القاعدةُ قائمةٌ أصلاً على الاجتهادِ لا على النصّ. ويدافعُ الموحدون عنها بالقولِ: إنها تجعلُ الزّوجين يفكّران مليّاً قبلَ الإقدامِ على هذه الخُطوة. كما يذكرُ أحدُ العلماءِ الموحّدين إنَّ التوراةَ تنصُ على عدمِ رجوعِ المُطّقة18. ويشرحُ أحدُ الكتّابِ الدّروزِ مسوّغاتِ هذا التصرّف، فيقولُ إنّ الموحّدين لا يجيزون إعادةَ المطلّقةِ بوجهٍ من الوجوهِ تفسيراً للآية القائلة:” فإن طلَّقَها فلا تحلُّ له من بعد، حتى تُنْكَحَ زوجاً غيره، فإنْ طلّقَها فلا جُناحَ عليهما أَن يتراجعا، إنْ ظنّا أَنْ يُقيما حدودَ الله”19.
والتّحريمَ ناشئٌ عن تفسيرٍ للفقرةِ الأخيرة من هذه الآية، لأنّ عودة المُطَلّقَيْن إلى بعضهما هي اختياريّة، (فلا جُناح عليهما) إلاّ أنّهما حسب اعتقاد الموحّدين يصعب عليهما بعد الطّلاق والجفاء، وزواج المرأة بغير بعلها أنْ يقيما حدودَ الله، وأن يعودا لبناء أسرة متحابّة، وقد صدق الشاعر إذْ قال:
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدّها مثل الزجاجةِ كسرُها لا يُجبَرُ
وهكذا، فاجتهاد الموحّدين المتعلّق بالزواجِ يحكمُه تفسيرٌ مُدقّقٌ وخاصٌّ لآياتِ القرآنِ الكريمِ يتوخّى الموحّدون من جرّائِه اجتناب الشُّبُهات، واعتمادَ ما يعتقدون أنّه أفضلُ السّبلِ للتّمسّكِ بهدي الكتّاب وتمتينِ روابطِ الأسرة20.

المرأة والطّـــلاق
لقد سمحَ مذهبُ التّوحيدِ بطلب الرّجل الطّلاق في حالاتٍ مُعيّنة، كما سمحَ للزّوجةِ بالحقِّ في طلبِ التّفريق، وفسخِ العقد إذا تعذّر استمرارُ الحياةِ الزّوجيّةِ لأسبابٍ حدّدها قانونُ الأحوالِ الشّخصيّة. فالطّلاق عند الموحّدين الدّروز لا يحصل بإرادة منفردة من الزوج لا تحتاج إلى تبرير منه، بل يمكن أن يحصل فقط بحكم قضائي من قاضي المذهبِ بعد النّظر في مُجريات دعوى الطّلاق، والحيثيات المُقدّمة من كلٍّ من الزّوجين المتخاصمين.
وبالطبع فإن هذا يتطلبُ وقتاً من الزمن، قد يعودُ الزوجان خلالَه عن نية الطلاقِ ويتوصّلان بواسطةِ المصلحين من الأهلِ والأصدقاء أو من تعيّنُهم المحكمةُ المذهبية، إلى وفاقٍ يكونُ لصالحِ العائلةِ والأولادِ وللزوجين أيضاً. أمّا إذا تعذّرَ إصلاحُ ذاتِ البينِ بين الزوجين، فقانونُ الاحوالِ الشخصية الصادر عام 1948، المستمدُّ من التعاليمِ الدينيّة ومن التقاليدِ والتراث، يشترطُ على الزوجِ أن ينصفَ زوجتَه، وكذلك أن تنصف الزوجةُ زوجها.
فأعطى القانون المذكور القاضي حق التعويض على المتضرر من الزوجين بما يزيد عن قيمة المهر وفقاً لتقدير الظروف والأسباب، أو العكس بإنقاص المهر، استئناساً لقاعدة حق الإنصاف بالملكية بين الفريقين الذي يكرسه مذهب التوحيد تبعاً لمبدأ التساوي بين الزوجين بحيث يحق لكل منهما نصف ما يملكه الآخر إذا كانت الفرقة بلا ذنب. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها اختيارياً إذا أراد الزوجين ذلك ضمن الشروط الخاصة في عقد الزواج، وللمرأة ثروتها الخاصّة بها والتي ورثتها، وفي الكثير من الأحيان الثروة التي كونتها في عملها خارج البيت أو داخله.
كما أنًّ التّعاليمَ لم تكتفِ يتحريم إعادة المُطلّقةِ، بل حُرّمَت رؤيتها على الزّوج بعد الطّلاق، وذلك لاجتناب الأسباب الّتي قد تًسهم في بعث الخلافات وتفاقمها، وكذلك على سبيل الحيطة في أن يعود الزّوجان للّقاء ببعضهما وهما مُطلّقَين بعد أنْ تكون قد هدأت انفعالاتُهما.
وبالرّغم من أنًّ حالاتِ الطّلاقِ قد زادت نِسبيّاً في مجتمعِ الموحّدين الدّروز عن السّابقِ لأسبابٍ عديدة، من أهمّها النّزوحُ إلى المدينةِ لطلبِ العلم والرّزقِ والانفتاحِ على العالم الغربي علماً وثقافةً، وعن طريق وسائلِ الاعلامِ بجميع انواعِها المكتوبةِ منها والمرئيةِ والمسموعةِ، والسّينما وخصوصاً التّلفزيونَ والفيديو والخليوي والإنترنت التي دخلت كلها المنازلَ بإذنٍ أو بدون إذن.
ولا شكّ في أنّ طموحَ المرأة للمزيدِ من العلمِ والتّخصّص، حتى بعدَ الزّواج، ودخولَها ميدانَ العملِ خارجَ البيت، وما يتبعه من حريّةِ التّصرّف، أو التّقصيرِ من حيثُ الاهتمامُ بتربيةِ الأولاد ورعايتِهم، أو إهمالُ الزّوج، أو التّفاوتُ الحاصلُ بين الزّوجين من حيثُ المستوى العِلْمِيُّ والثّقافيُّ والمِهنيّ، وأيضاً بسبب مُتطلّباتِ الحياةِ المتزايدة وضغوط الحالةِ الاقتصاديّة وغلاءِ المعيشة، كلّ ذلك يضاعف الضّغوط الماديّة والنفسيّة على الزّوجين، فتزداد بسبب ذلك حالاتُ التفكّكِ العائّلي، وبالتالي عددُ حالاتِ الطّلاق.
رغم كلّ هذا لم يتفسّخْ مدماكُ العائلةِ، ولم يتصدّعْ النّسيجُ الاجتماعيّ عندَ الموحّدين الدّروز. لأنَّ بعضاً من الموروثِ كالنّسغِ ما يزالُ مخزوناً احتياطيّاً، ويظهرُ هذا أكثرَ ما يظهرُ عندما تقومُ المرأةُ الدّرزيّةُ بدورِ الأمّ، فيصبحُ الأملُ في أولادِها، ويتحوّلُ حِرمانُ الماضي وما افتقدَت من إمداداتٍ للنّفسِ تعويضاً بأولادِها، ويأخذُ البدرُ استدارةً أوسعَ، وشخصيتُها المُهابةُ تكبر في عائلتِها ومجتمعها عندما تلبسُ ثوبَ الدّينِ كفعلِ يقين. فيصبحُ إيمانُها ثوبَ رِفْعَتِها الجديد، لاسيَّما إذا كانت تقفُ على أرضٍ صلبةٍ من الإيمانِ والثّقافةِ والعلمِ. ابتدأتْ رحلتُها هي لتستمرَّ الحياةُ، “نور على نور” وكأنّي هنا أرى طيفَ أميّ، وغيري كذلك…

يوثيفرو

يوثيفرو

سقراط يحرج مدعي المعرفة بالتقوى والقداسة

يوثيفرو: كل ما يرضي الآلهة هو من أعمـــــــال التقوى
سقراط: لكنهم كما تقول يختلفون ويتقاتلون فكيف نعرف؟

سؤال محيِّر من سقراط إلى محاوره : هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبوب من الآلـهة؟

هناك تعريف شهير لسقراط يقول فيه إن “المعرفة الحقيقية هي أن يعرف المرء أنه لا يعرف شيئاً” وبالطبع قليلون ربما يدركون المعنى البعيد لهذا التعريف وربما استحسن البعض استخدام سقراط للكلمات واستخدامه لأسلوب المفارقة لكي يحضّ الناس على ترك ما يعتقدونه ويفكروا بطريقة جديدة. الهدف الحقيقي لسقراط هو أن يبيّن أن المعرفة الحقيقية وهي معرفة ما يتعدى الظواهر لا تحصل إلا لمن طهر باطنه من كل العلوم السابقة وكل الأفكار والتصورات والأوهام، وبات في حال من الفراغ يقول فيه فعلاً وعن قناعة راسخة أنه «لا يعرف شيئاً” فإذا بلغ هذا القدر من كمال “التخلية” فإنه يصبح عندها مثل صفحة بيضاء قابلاً لتلقي العلم اللدني وهو العلم الحقيقي غالباً من مرشد كامل إجتاز كل مراقي التحقق العرفاني.
كانت رسالة سقراط في الحياة لذلك هي تقديم البراهين على خواء العلوم الكتبية ومدارك المنطق والعلوم الظاهرة مشيراً على الدوام إلى «علم العلوم” كلها وهو إن كان لك حظ الحصول عليه فإنك ستبلغ من خلاله معرفة كافة العلوم والحقائق الظاهرة والباطنة.
في محاورة يوثيفرو يقدم أفلاطون نموذجاً بارزاً بل وساطعاً على الأسلوب السقراطي في إظهار سهولة الوقوع في وهم “المعرفة” وكيف يمكن للمرء أن يكون تحت سلطان الوهم وهو مقتنع بل واثق تماماً من أنه على العكس إنما يمتلك أعلى درجات المعارف. وكون المرء يعتقد أنه يعرف (وهو لا يعرف) هو أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب الناس، وبما أن أكثر الناس هم مثل بطل محاورة يوثيفرو يعتقدون أنهم يعلمون وهم في الحقيقة لا يعلمون، وبما أنه لا يوجد دوماً مرجع مؤتمن (مثل الحكيم أو إمام العقل) يحكم بينهم فيجمعهم على الصواب والحقائق، فإننا سنجد الناس دوماً في صراعات والمجتمعات في تناحر دائم «كل حزب بما لديهم فرحون» حسب قول القرآن الكريم (الروم:32). وسنلاحظ أن سقراط، كما في أكثر محاورات أفلاطون لا يعطي بنفسه الجواب على السؤال الذي أحرج مدعي المعرفة يوثيفرو لأن القصد الأهم لسقراط هو التأكيد على نسبية المعارف الإنسانية وإظهار حدودها وليس تقديم الجواب العرفاني على المسائل. بذلك تنتهي محاورة يوثيفرو ليس بجواب شاف من سقراط بل بتخلص يوثيفرو من المأزق الذي أوقع نفسه فيه عبر اختلاق عذر للإنسحاب من المواجهة.

المحاورة
تعتبر محاورة «يوثيفرو» لأفلاطون بين الأعمال المبكرة التي كتبها والتي تركز بصورة خاصة على تقديم الحكيم سقراط وقد كتبت على الأرجح في العام 308 قبل الميلاد بعد موت الحكيم تنفيذ الحكم المحكمة الأثينية. والمحاورة تدور كلها حول لقاء بالصدفة بين سقراط وبين يوثيفرو على مدخل محكمة أثينا المتخصصة في الشأن الديني وقد تطور اللقاء إلى محاورة مهمة بين الحكيم سقراط وبين يوثيفرو الذي بدا للحكيم بمجرد أن بدأ الحديث مثقفاً سطحياً لكنه يعتقد في نفسه ميزات فريدة.
المفارقة الأهم اللافتة في يوثيفرو هي أن الرجلين حضرا للمثول أمام المحكمة نفسها لكن لسببين مختلفين، فسقراط استدعي بسبب إدعاء أحد مواطني أثينا ويدعى ميليتوس عليه بتهمة إفساد الشباب، وميليتوس هذا شخص مغرور لا شأن له لكن من مفارقات الديمقراطية الأثينية أن التهمة التي بدت مجرد تصرف وقح ضد حكيم أثينا الأكثر شعبية في زمانه عادت وتفاعلت لتؤدي إلى الحكم عليه بالموت بتجرع السم..
أما يوثيفرو مدعي الحكمة والعلم بكل شيء فقد لفت سقراط أنه حضر إلى المحكمة لتقديم دعوى ضد والده بتهمة قتل أحد العمال الذين كانوا يساعدون يوثيفرو في أعمال الزراعة. حقيقة الأمر في شكوى يوثيفرو هي أن عاملاً زراعياً كان يعمل عند الأخير قام وهو في حالة سكر بذبح عامل آخر وهو أمر أغضب والد يوثيفرو فقام بتقييد القاتل بسلاسل ورماه في جب، وأرسل في طلب المحقق لكي يوثق الجريمة ويتابع أمر العقوبة لكن قبل أن يصل المحقق إلى دار والد يوثيفرو كان الرجل قد مات من البرد والجوع في حفرة التراب. المفارقة التي قصد أفلاطون التشديد عليها هي التناقض البديهي بين شخصية من يعلم وشخصية من لا يعلم ويعتقد أنه يعلم. فسقراط أتى المحكمة متَّهَماً لأنه لفرط شعبيته خصوصاً بين الأجيال الشابة جعل الكثيرين في أثينا يخافون تأثيره ويسعون لإسكاته. وقد كان هذا سبب وجوده أمام المحكمة ربما تمهيداً لاستجوابه من قاضي الشؤون الدينية في التهم الموجهة إليه من خصومه. أما يوثيفرو فقد كان سبب وجوده في المحكمة أنه جاء ليدعي على والده بتهمة القتل وهو يعتقد أنه إنما يعمل بذلك وفق مبدأ التقوى وأخذ جانب الحق والعدل. ونحن نعرف من سياق القصة أن والد يوثيفرو لم يرتكب جريمة القتل وإنما قام باعتقال القاتل الذي ذبح عاملاً آخر وألقى به في حفرة مقيداً في انتظار وصول المحقق لكي يتخذ الإجراءات اللازمة. ويبدو أن الرجل لم يستطع تحمل البرد ونقص الطعام فمات قبل وصول المحقق. وبما أن يوثيفرو يعلم كل تلك التفاصيل فإن سعيه لملاحقة والده بتهمة القتل يمثل عنواناً لمدعي العلم يفرقه بوضوح وهو أنه يعتقد فعلاً أنه على الصواب في وقت يبدو ضلاله جلياً لكل من لديه حد أدنى من التمييز.
كأن أفلاطون يريد عبر شخصية يوثيفرو أن يعطينا فكرة عن انتشار الحماقة بين الناس وندرة الحكمة والعقلاء وكأن الذين حضروا في محكمة أثينا لينتهوا بإدانته بصورة اعتباطية لا يختلفون كثيراً عن يوثيفرو فهم مثله يظهرون ثقة كبيرة في ما يعتقدونه ولا يبدون مهتمين بالأخذ ممن يتقدمهم معرفة أو خبرة، وهم مستعدون (كما هي حال العوام دوماً) لإتباع الهوى وغالباً ما ينجم عن اجتماعهم شتى أنواع الكوارث والمظالم، أما زعماؤهم فهم كالأعمى الذي يقود عمياناً. ومثل كل من يتبع الهوى فإن يوثيفرو سيبدو لنا بعد قليل من تطور الحوار شخصاً تناقض أعماله ما يدعيه من إلمام بالحكمة وبالمعارف.
تبدأ المحاورة بإظهار يوثيفرو استغرابه لوجود سقراط في المحكمة، ويداخله الشك بأن أحداً ما ربما يدعي عليه بأمر إذ إن سقراط حسبما يعلم يوثيفرو لا يمكن أن يأتي المحكمة ليدعي على أي إنسان، لذلك فهو يبدأ بسؤال الحكيم عن طبيعة التهمة الموجهة إليه.
سقراط: ما هي التهمة؟ حسناً إنها تهمة جسيمة
يبدأ سقراط الإجابة بلهجة ساخرة فهو يقول: إن ميليتوس يجب أن لا يلام لاتهامنا بإفساد الشباب، لأن الرجل يعلم من الذين يتم إفسادهم ومن هم المفسدون فهذا الرجل يجعل أول همه مصير الشباب ويسعى لإزالتنا نحن الذين نقوم بتدميرهم.
يعود يوثيفرو إلى السؤال: ولكن حسب هذا الرجل ما هي الكيفية التي تقوم أنت فيها بإفساد عقول الشباب؟
سقراط: إنه يأتي بتهمة رائعة ضدي، وهو يقول عني إنني شاعر أو إنني أخترع آلهة جدداً وأنكر وجود الآلهة السابقين (آلهة أثينا) وهذا هو جوهر التهمة.
يوثيفرو: أفهم من ذلك يا سقراط، إن هدف الرجل هو أن يلصق بك تهمة الهرطقة أو الابتداع وأنه يريد أن يأخذك إلى المحكمة بهذه التهمة لمعرفته بأن هذا النوع من التهم يلقى فوراً آذاناً صاغية، وهذا أمر إختبرته بنفسي لأنني عندما أبلغ الناس عن الأمور الإلهية وأتنبأ بالمستقبل لهم فإنهم يسخرون مني ويرمونني بالجنون، هذا مع العلم أن كل كلمة أقولها هي الحقيقة لكنهم يحسدوننا ويجب علينا لذلك أن نكون شجعاناً وأن نردّ عليهم بقوة.
هنا يجعلنا أفلاطون نقرأ المكتوب من عنوانه كما يقال، إذ إن يوثيفرو من أول الطريق يضع نفسه في مصاف سقراط (إذ يقول: «يحسدوننا») وهو يبلغ الحكيم بشيء من السذاجة عن إحاطته بالعلوم الإلهية وقدرته التنبؤ بالمستقبل. بالطبع لا يوجد شخص حكيم يتفوّه بمثل هذه الادعاءات؛ وسنرى أن سقراط يبدأ بأن يجاري يوثيفرو في دعواه كما هو أسلوب الحكيم دوماً، إذ إنه لا يناقض محدثه ولا يبين له خطأه أو يسفّه تفكيره بل يقوده، من خلال أسلوبه الفريد في الحوار، ليكتشف بنفسه خطأ مقولاته وعندما يتضح للشخص خطأه فإنه على الأرجح يصبح مستعداً أكثر لتبين الحقيقة وللإستماع بصورة أفضل لسقراط والخضوع لأسلوبه في السير بمحدثه خطوة خطوة في طريق المعرفة.

هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟
هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟

“سقراط تعجّب لقيام يوثيفرو بملاحقة والده بتهمة القتل فسأله: هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وما هو إثم معرفة دقيقة؟”

سقراط: إن سخريتهم يا صديقي يوثيفرو لن تنال منك في شيء لأن الناس قد ترى في رجل ما حكيماً لكنهم لن يتعرضوا له بشيء إلى أن يبدأ بعرض حكمته على الآخرين، يحصل ذلك لسبب أم لآخر لكنه قد يكون شعور الحسد هو الذي يجعلهم ينقمون.
يوثيفرو: بالتأكيد، لذلك فإنني أسعى جهدي كي لا أستفزّهم بتلك الطريقة.
سقراط: أنت رجل رصين ومتحفظ في عرض حكمتك على الآخرين، لكن على العكس فإن لدي تلك العادة وهي أنني أقدم نفسي لكل الناس، حتى إنني قد أدفع المال لمن يرغب في الاستماع إليّ، وأخشى نتيجة ذلك أن ينظر الأثينيون إليّ باعتباري ثرثاراً. مع ذلك فإنهم لو اكتفوا بالهزء مني كما يهزأون منك لهان الأمر، لأنهم على الأرجح ينوون أمراً أكبر وهذا الأمر حتى قارئو المستقبل قد لا يفلحون في توقعه.
يوثيفرو: إنني لأجرؤ على القول إن هذه القضية ستنتهي بسلام وإنك يا سقراط ستربح الدعوى.
يظهر أفلاطون هنا أن يوثيفرو رجل مدع فعلاً فهو يتنبأ بأن سقراط سيربح القضية وهو عكس الذي سيحصل فعلاً. لكن الحكيم المشهور بحلمه وأناته يتابع الحوار مستفسراً عن سبب مجيء يوثيفرو إلى المحكمة وهل هو مدعٍ أم مدعى عليه.
يوثيفرو: ربما تظنني مجنوناً إن أخبرتك.
سقراط: لماذا هل للمتهم الفار أجنحة؟
يوثيفرو: إنه والدي.
سقراط : وما هي التهمة؟
يوثيفرو: القتل.
يحاول سقراط كبت شعور الدهشة الذي يعتريه وهو يرى هذا الشاب يلاحق والده بتهمة خطيرة وهو أمر مستهجن في الأعراف الأثينية لأن للوالد كرامة كبيرة وشبه قداسة في هرم الأسرة وفي المجتمع وهو يستحق الخضوع والاحترام التامين. لكن سقراط يغتنم الفرصة للبدء بالمحاورة وهو يستدرج يوثيفرو إلى الموضوع بإظهار العجب من عمل يوثيفرو الذي لا بدّ أن تكون لديه معرفة كبيرة بما هو حق وما هو باطل من الناحية الدينية لكي يقوم بهذا العمل غير المسبوق وهو ملاحقة والده أمام القضاء.
سقراط: لا بدّ لمن يقوم بمثل هذا العمل الجريء أن يكون رجلاً استثنائياً سار أشواطاً طويلة في طريق الحكمة !
يوافق يوثيفرو سقراط على فرضيته مؤكداً له أنه “ضليع جداً بمختلف شؤون الدين” فيتابع سقراط السؤال عن “الضحية” إذ لا بدّ أن تكون من أفراد أسرة يوثيفرو أو أقربائه لكي يكون غاضباً إلى حدّ ملاحقة والده، لكن يوثيفرو ينفي الأمر وشعور الغرور لديه على حاله فيقول:
يوثيفرو: عجباً يا سقراط، هل تريد أن تميز فعلاً في شأن الضحية بين من هو قريب ومن هو غريب؟ لأن شر القتل لا يتبدل وجوهر الموضوع هو هل أن الضحية قتلت لسبب وجيه أو ظلماً؟
بناء على سؤال من سقراط يشرح يوثيفرو تفاصيل الحادثة وكيف قام أحد عماله وكان تحت تأثير السكر الشديد بقتل زميل له، وقد نجم عن ذلك أن قام والد يوثيفرو الغاضب بتقييد القاتل بالسلاسل ورميه في حفرة ليومين أو ثلاثة ريثما يأتي المحقق لاستجوابه، وما حدث بعد ذلك من موت الرجل في الحفرة بتأثير البرد والجوع . واضح بالطبع أن والد يوثيفرو لم يقصد القتل وإن كان تصرف بغلظة بتأثير الجريمة التي ارتكبها العامل، لكن يوثيفرو يصرّ على ملاحقة والده والادعاء عليه لأنه بذلك (حسب ادعائه) يأخذ جانب التقوى والحق الإلهي، وهو يعترف لسقراط بأن والده وأسرته غاضبون عليه بسبب موقفه الشاذ، لأن من أكبر الآثام في أثينا أن يقوم ولد بملاحقة والده لكن يوثيفرو يؤكد لسقراط أنه لن يعبأ بكل هذا في سبيل سعيه لإحقاق الحق.
هنا يدخل سقراط في الموضوع بسؤال مهم:
سقراط: لكن هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وبين ما هو إثم معرفة دقيقة، وبناء على الظروف التي شرحتها لي ألست قلقاً من أن يكون أيضاً في ما تفعله من ادعاء على والدك إثم كبير؟
يوثيفرو: أفضل ما في يوثيفرو يا سقراط وما يميزه عن الآخرين هو أن علمه دقيق وصحيح في كل هذه الأمور وأي قيمة لي من دون هذا العلم؟
كل جملة جديدة يتفوه بها يوثيفرو تزيد المتابع اطلاعاً على شخصية مدعي العلم وهي الثقة التامة بعلمه وعدم قبوله للنصيحة أو استعداده لمناقشة ما يقوم به. وقد بلغ اعتداد يوثيفرو حداً لم يدع لسقراط تعليقاً سوى الطلب منه أن يكون مُعَلِّمه. وفي هذا الطلب بالطبع سخرية مبطنة من الحكيم ولكنه الطريق الذي سيأخذه ليكشف لمحاوره أنه لا يعلم شيئاً في الوقت الذي يظن نفسه أعلم العلماء.
سقراط: أيها الصديق النادر الوجود أعتقد أن أفضل شيء يحصل لي هو أن تقبلني مريداً!
هنا يتوسع سقراط في سبب سؤاله يوثيفرو أن يكون مرشداً له بالقول إن ذلك سيمثل دفاعاً جيداً له ضد تهمة ميليتوس لأنه سيتحدى الأخير عندئذ بالقول إنه مريد ليوثيفرو المفكر العظيم وإنه إذا كان يوثيفرو على صواب فإنه لا بدّ أن يكون هو على صواب أيضاً وإن كان ميليتوس والمحكمة يرون في أفكاره ما يستوجب الاتهام والعقوبة فإن يوثيفرو باعتباره «معلمه» أجدر بأن يلاحق ويتهم لأن سقراط لا يفعل سوى التعبير عن أفكار مرشده يوثيفرو!!
اللافت أن يوثيفرو يسارع إلى قبول سقراط تلميذاً له في بادرة تدل على أن جهله يقارب حدود الحماقة. لكن سقراط يمضي في خطة الحوار ويبدأ بصورة مواربة الدخول في جوهر الموضوع.
سقراط: إنني أرجوك أن تبين لي أولاً طبيعة التقوى وطبيعة نقيضها وهو الإثم أو الفساد وهي أمور قلت إنك تعرفها جيداً كما تعرف عن غيرها من أشكال الزلل في العلاقة مع الآلهة. أليست التقوى هي نفسها التي نجدها في كل عمل من الأعمال؟ وكذلك الإثم أو الضلالة أليس ذلك هو نفسه في كل الأعمال التي يمكن وصفها بأنها تناقض التقوى؟
يوثيفرو: التقوى هي أن تعمل كما أعمل، أي الإدعاء على الشخص المتهم بالقتل أو بأي إفساد في الأرض سواء كان المتهم والدك أو والدتك أو أي كان، فذلك يجب أن لا يحمل أي اختلاف في الحكم وبالتالي فإن عكس التقوى هي أن لا تلاحق هؤلاء الناس أمام المحكمة.
يتابع يوثيفرو فيعطي أمثلة من الأساطير اليونانية القديمة يعرض فيها لحالات قام فيها الولد بتقييد أبيه (الإله زويس ووالده (كرونوس) لأنه التهم أولاده، كذلك فعل كرونوس نفسه بوالده أورانوس.إذ قام بخصيه وهذا من الأفعال الفظيعة لولد بوالده، وهنا يبدي يوثيفرو وجهة نظر طريفة، إذ يقول: إذا كان يجوز للإله زويس تقييد والده وإذا جاز لكرونوس فعل أمر شنيع بوالده الواجب أن يعلن الناس تأييدهم له عندما يقوم بعمل مماثل لعمل الآلهة وهو ملاحقة والده أمام قضاء أثينا.
سقراط: أعترف لك بأنني لا أعرف شيئاً عن تلك الآلهة لكنني أسألك: هل تعتقد أنها كائنات حقيقية؟
يوثيفرو: بالتأكيد أنهم حقيقة ولدي علم بأشياء رائعة كثيرة الناس جاهلون بها تماماً.
سقراط: لكن هل تعتقد حقاً أن الآلهة يصارع بعضهم بعضاً وأنهم خاضوا معارك ضروساً في ما بينهم وما شابه كما يقول الشعراء أو كما جاء في أعمال بعض كبار القصاصين والرواة أو كما تراها مشخصة في مختلف المعابد، فهل كل هذه الروايات في نظرك يا يوثيفرو حقيقية؟
يوثيفرو: نعم يا سقراط، وفي إمكاني أن أقصّ عليك إضافة إلى ذلك قصصاً عن الآلهة سوف تذهلك !
يبدو واضحاً من سؤال سقراط أنه يتعجب من أن يوثيفرو يعتقد فعلاً بوجود الآلهة الأسطورية التي جاءت في قصص هوميروس مثلاً أو هيسيود Hesiod أو غيرهما وهذا التصديق لأدب خرافي والاعتقاد بشخصياته يظهر محدودية في التفكير ونوعاً من الاعتقاد الجامد الشبيه بما يشار إليه في أيامنا بالـ «أصولية» الدينية فهذه الأصولية مخلصة في اعتقادها لكنها تبني حجتها على إيمان متطرف بأمور وتقاليد وأشخاص دون تمحيص. لكن سقراط ليس مهتماً بهذا الجانب من “علم” يوثيفرو بل بالجانب المتعلق بادعائه العلم، لذلك

كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان
كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان

فإنه يعيد محاوره إلى الموضوع فيسأله مجدداً عن تعريف دقيق
لـ «التقوى» ونقيضها.
سقراط: ما أودّ الحصول عليه منك هو جواب أكثر دقة (لم أحصل عليه منك حتى الآن) على السؤال: ما هي التقوى؟
وهنا يعيب سقراط على يوثيفرو تعريفه التقوى بأنها أن يعمل المرء مثله أي أن يدعي على إنسان حتى ولو كان والداً أو والدة! لأن ما هو في صدده ليس إعطاء مثل أو مثلين على فعل التقوى بل الحصول على تعريف لـ «التقوى».
سقراط: قل لي ما هي طبيعة هذه الفكرة (التقوى) وعندها سيكون لديّ معيار أقيس به الأعمال سواء أعمالك أم أعمال أي إنسان آخر وعندها سيكون في إمكاني أن أقول إن عمل هذا أو ذاك هو من التقوى أو عمل آثم أو فساد.
يوثيفرو: التقوى هي أن تقوم بأعمال تحبها الآلهة والإثم أما الفساد هو كل عمل تكرهه الآلهة.
هذه بالطبع أول محاولة من يوثيفرو لتعريف التقوى، وهو أعطى الحكيم سقراط بذلك أول مستند لمواجهته بتناقضات منطقه.
أول ما سيفعله سقراط هو أن يستخدم قناعات يوثيفرو نفسها ليظهر له كم يعتريها من التناقض وكيف أنها لا تصلح لتعريف التقوى أو الفضيلة. إذا كانت التقوى هي كل عمل محبب للآلهة فإن كل الآلهة التي يؤمن بها يوثيفرو يجب أن يجتمع على رأي واحد وأن تكون لهم نفس الصفات الإلهية أو العصمة من الخطأ. وهنا يستدرج سقراط يوثيفرو للإقرار بأن آلهة الإغريق (على فرض كونهم حقيقيين وهو ما لا يؤمن به سقراط) لديهم أطباع وأمزجة وهم يتصارعون ويقاتل بعضهم بعضاً حال اختلافهم شبيهة باختلاف البشر، وبالتالي العمل الذي قد يروق لإله ما قد لا يروق لإله آخر مما يعني أن محبة الآلهة لعمل ما كمعيار لاعتباره من أعمال التقوى لا تستقيم كمعيار شامل، لأن ما قد يروق للإله زويس قد لا يروق للإله كرونوس وما قد يروق لكرونوس قد لا يروق للإله ترايدنت أو أورانوس.
يتابع سقراط لأن مقياس يوثيفرو للتمييز بين التقوى ونقيضها مقياس واه وهو يذكره أن الاختلاف حول الأرقام يحل بعلم الحساب والاختلاف حول مقاييس الأشياء يحلها الكيل، والاختلاف حول الأوزان يحلها الميزان لكن يقول سقراط: ما هي الاختلافات التي لا يمكن حسمها بهذا القدر من الموضوعية؟ ما هي الاختلافات التي قد تثير فينا شعور الغضب وتخلق العداوة بيننا؟ ويجيب سقراط على السؤال بالقول إن هذا النوع من الاختلافات يظهر عندما يتعلق الأمر بالعدل أو الظلم أو يتعلق بالخير ونقيضه الشر، أو يتعلق بما هو شريف وما هو غير شريف. أليست هذه الأمور التي يختلف حولها الناس؟
يوثيفرو: حقاً يا سقراط تلك هي الأمور التي نتنازع بشأنها كما تصف.
سقراط: وصراعات الآلهة، ايها الرجل النبيل يوثيفرو، عندما تحصل، أليست من طبيعة مشابهة؟
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط: أي إن بينهم اختلافاً في الرأي حول ما هو خير وما هو شرّ، ما هو عادل وما هو ظلم، ما هو شريف وما هو غير شريف، ولولا تلك الاختلافات لم نكن لنرى قيام النزاعات والصراعات بينهم أليس كذلك؟
يوثيفرو: يبدو الأمر كذلك.
سقراط: هذه الاختلافات سواء بين الآلهة أو بين البشر تعني أن الأمر نفسه قد يكون من التقوى وعكسها في آن معاً.
التعليق: إلى هنا يكون سقراط قد أطاح بالفكرة الأساسية ليوثيفرو في تعريف التقوى على أنها كل عمل يروق للآلهة. وبالطبع فإن سقراط لا يؤمن بتلك الآلة أصلاً أو بوجودها لكنه استخدم حجة يوثيفرو نفسها من أجل هدم نظريته. الخطوة التالية لسقراط ستكون اقتراح بديل فوري للفكرة السابقة وهو لذلك يسأل يوثيفرو:
سقراط: عند الحديث عن الناس (كبديل لموضوع الآلهة) هل سمعت في حياتك إنساناً يجادل في أن القاتل أو الشرير يجب تركهما وشأنهما؟ وهل يمكن لأي مجرم أن يعترف بذنبه ثم يحاول إقناع الناس أن عليهم أن يتركوه وشأنه دون عقاب؟
يوثيفرو: كلا بالتأكيد
سقراط: وأن مرتكب الذنب لا يناقش لإقناع الناس بأن الذنب ليس عملاً شائناً بل يحاول فقط تبرئة نفسه بأنه ليس الفاعل، أليس كذلك؟
يستنتج سقراط بأن الآلهة مثل البشر لا يمكن أن يختلفوا في حقيقة أن المجرم -أي مجرم- يجب أن ينال العقاب العادل، أي إنهم لا يمكن أن يختلفوا حول مبدأ العدل، لكن يمكن أن يختلفوا حول تقدير الوقائع أي إنهم -مثل ما قد يحصل داخل هيئة محلفين- قد يختلفون في تقييم فعل معين وهل تتوافر فيه مواصفات الجرم المستحق للعقوبة أم لا.
يوثيفرو: هذا صحيح.
هنا وقع يوثيفرو في فخ سقراط لأن الحكيم سيتحداه أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل حصلت وفق الظروف التي شرحها يوثيفرو بنفسه.
سقراط: كيف تثبت أن جميع الآلهة دون استثناء يوافقون على عملك؟ أثبت لي ذلك وسأثمن عالياً حكمتك ما حييت!
يوثيفرو: هذه مهمة صعبة
هنا يقترح سقراط تعديل التعريف الأولي للتقوى كما جاء به يوثيفرو (كل ما هو محبب للآلهة) إلى صيغة جديدة أقوى مفادها أن كل ما تجمع عليه الآلهة على أنه تقوى فهو تقوى وكل ما تجمع على اعتباره إثماً أو فساداً فإنه إثم وفساد.

سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق
سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق

مفارقة “يوثيفرو” الأساسية
عند هذه النقطة يعود سقراط ليشرح ليوثيفرو أنه حتى على فرض أنه أثبت له أن جميع الآلهة يوافقون على عمله وهو ملاحقة والده بتهمة القتل (وهو بالطبع أمر مستحيل) فإنه لم يجب حتى الآن على السؤال الأساسي المتعلق بطبيعة «التقوى» وهنا يرمي سقراط بالمفارقة الأساسية التي حيرت يوثيفرو وباتت المسألة المحورية في محاورة أفلاطون هذه.
ما هي تلك المفارقة؟ إنها في السؤال التالي الذي وجهه سقراط ليوثيفرو:
سقراط: إن النقطة التي أودّ أن أفهمها هي: هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من أعمال التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبّب إلى الآلهة؟
يريد سقراط هنا أن يشرح ما هو الأسبق وما هو مصدر عمل التقوى. هل محبة الآلهة لعمل التقوى سابقة له أي إنها السبب في تعريفه كذلك أم أنها لاحقة بمعنى أن العمل يأتي من الإنسان فتحبه الآلهة فيصبح من أعمال التقوى؟
يوثيفرو: لم أفهم ماذا تعني يا سقراط؟
يشرح سقراط بأن هناك دوماً فارق بين أن تَرى أو أن تُرى بين أن تَحمُل أو أن تكون محمولاً بين أن تُقود وأن تكون مُقاداً..
يوثيفرو: أعتقد أنني أفهم ما تعنيه
سقراط: بنفس المعنى السابق أن تكون محبوباً هي حالة تابعة لفعل الحب وليس فعل الحب تابعاً لها.
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط : وماذا تقول في التقوى يا يوثيفرو أليست التقوى حسب تعريفك محبوبة من جميع الآلهة.
يوثيفرو: نعم
سقراط: هل هي محبوبة بسبب قدسية التقوى أم لأي سبب آخر؟
يوثيفرو: كلا هذا هو السبب
سقراط: أي إن التقوى محبوبة من الآلهة لأن لها قدسيتها وليست للتقوى قدسية لأنها محبوبة من الآلهة.
يوثيفرو: بالتأكيد
يقدم سقراط بعد ذلك سلسلة من الأدلة تؤكد ليوثيفرو أن كل هذا السعي لتعريف التقوى بأنها ما يجمع الآلهة على محبته مازالت قاصرة عن تعريف كنه أو جوهر التقوى نفسها لأننا ما زلنا نعرف التقوى بشيء آخر خارجها مثل محبة الآلهة لها لكن يوثيفرو فشل حتى الآن في إعطاء تعريف حقيقي للتقوى كمفهوم أو كحقيقة سماوية (قدسية).بعد موضوع التقوى ينتقل سقراط في محاورته إلى موضوع القداسة Holiness .

البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية
البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية

“سقراط يتحدى يوثيفرو أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل!”

سقراط: يبدو يا يوثيفرو أنه في كل مرة أسألك عن طبيعة القداسة فإنك تقدم لي صفة من صفاتها وليس جوهرها أو ماهيتها الحقيقية.(والتي تجعل من عمل قدسي محبوب من الآلهة جميعاً)، لكنك مازلت ترفض أن تشرح لي حقيقة القداسة. وإنني لأسألك أن لا تخفي كنوز معرفتك عنا وأن تخبرني ما هي حقيقة القداسة وما هي حقيقة التقوى .
يوثيفرو: في الحقيقة لا أعلم يا سقراط كيف أعبّر لك عمّا أعنيه إذ لسبب ما فإن حجتنا في أي موضوع نتحاور فيه تدور في مكانها ثم تجدها تذهب بعيداً عنا.
سقراط: يبدو لي يا يوثيفرو أنك كسول فعلاً، لذلك سأحاول بنفسي أن أظهر لك كيف يمكن أن ترشدني في ما خص موضوع التقوى، وأنا أودّ أن أسألك : أليس كل تصرف يتميز بالتقوى هو أيضاً تصرف عادل.
يوثيفرو: نعم
سقراط: فهل كل ما هو عادل أيضاً من التقوى أو أن كل ما هو تقوى يتصف بالعدل بينما فقط بعض ما يتصف بالعدل هو من التقوى؟
يوثيفرو: إنني لا أفهم ما تقوله يا سقراط
سقراط: مع ذلك فإنني أعلم أنك أعقل وأكثر حكمة مني، لكن يبدو أن غزارة حكمتك تجعلك كسولاً فأرجو يا صديقي أن تتملك نفسك وتجتهد أكثر. السؤال الذي أودّ أن أسأله هو : هل ما هو عدل دوماً من التقوى أم أن كل عمل تقوى يتصف دوماً بالعدل؟ وهل لا يوجد هناك عدل حيث لا توجد التقوى -إذ إن العدل مفهوم موسع حيث تشكل التقوى جزءاً منه- هل تخالف هذا القول؟
يوثيفرو: لا بل أعتقد أنك على حق في ما تقول.
سقراط: والحال، إذا كانت التقوى جزءاً من العدل فإن علينا أن نسأل أي جزء؟ أي أنني أودّ منك أن تقول لي ما هو الجزء من العدالة الذي يمثل التقوى أو القداسة، لعلني بذلك أقنع ميليتوس أن لا يوقع بي الظلم ويتهمني بالإفساد.
يوثيفرو: التقوى أو القداسة تبدو لي يا سقراط ذلك الجزء الذي يهتم بالآلهة بينما نقيض التقوى والقداسة يهتم بالإنسان.
هنا يتساءل الحكيم سقراط عن معنى كلمة «اهتمام» التي أوردها يوثيفرو. ما معنى أن يهتم الأتقياء أو الأولياء بالآلهة؟ وماذا يمكن للإنسان أن يقدم للآلهة. وهو يعطي أمثلة اهتمام السائس بالأحصنة واهتمام الصياد بكلاب الصيد واهتمام صاحب الثيران بثيرانه، وهو يسأل يوثيفرو: هل هذا النوع من الاهتمام هو ما قصدته؟ يسارع يوثيفرو إلى النفي مؤكداً أنه لم يقصد عقد مقارنة بين الاهتمام بالآلهة وبين الاهتمام بالأحصنة أو الثيران !!
سقراط: وأنا أيضاً يا يوثيفرو لم أقصد ذلك، لكنني أسألك عن طبيعة الاهتمام بالآلهة الذي اعتبرته تعريفاً للتقوى ، فأنت لم توضح ذلك.
يوثيفرو: إنه نفس الاهتمام الذي يظهره الخادم أو العبد لسيده.
سقراط: أي أنه نوع من خدمة الآلهة.
يوثيفرو: تماماً
يتساءل سقراط هنا عن الفوائد التي تقدمها الآلهة بفضل اهتمام أهل التقوى بخدمتها؟
يوثيفرو: هناك الكثير من الأعمال المفيدة التي تقدمها الآلهة منها على سبيل المثال تمكيننا من النصر في الحرب.
سقراط: لكن بين تلك الفوائد ما هي الفائدة الأساسية والأهم التي تقدمها الآلهة؟
يوثيفرو: قلت لك سابقاً يا سقراط بأن تعلم كل هذه الأمور بدقة أمر مرهق، لكن دعني أقول إن التقوى أو القداسة هي تعلم كيف ترضي الآلهة بالأعمال والأقوال، بالأدعية والابتهالات والأضاحي، وبفضل أعمال التقوى هذه يتحقق الخلاص للعائلات وللدولة كما إن الفساد (أو غياب التقوى) يتسبب بإغضاب الآلهة ودمار العائلات والدول.
سقراط: هل تعني أن التقوى هي نوع من علم الدعاء للآلهة والتضحية لها؟
يوثيفرو: نعم هذا ما أقصده.
سقراط: وهذا يعني أن التضحية هي العطاء للآلهة وأن الدعاء هو الطلب منهم.
يوثيفرو: نعم يا سقراط.
سقراط: بناء على تلك النظرة فإن التقوى هي علم الأخذ والعطاء!
يوثيفرو: أنت تفهمني تماماً يا سقراط.
سقراط: لكن ما طبيعة تلك الخدمة لهم هل تعني أننا نسألهم عن أشياء ونقدم لهم هدايا في المقابل؟
يوثيفرو: نعم هذا ما قصدته.
لكن سقراط لا يبدو راضياً بهذا التعريف لأنه يبدو وكأن الناس تقوم بصفقات أو تجارة مع الآلهة، لكنها صفقات غير متكافئة، لأن الآلهة تعطينا نحن البشر عند سؤالها، وهذا متفق عليه، لكن ما الذي نعطيه نحن لها وإذا كنا نعطيهم فمن قال إنهم يريدون عطيتنا أو إنهم في حاجة إليها؟ وهل تعطي أياً كان شيئاً لا يريده وتعتبر ذلك هدية؟

محاكمة-أوديسوس---لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية
محاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينيةمحاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية

سقراط: ليس لدي أي شك في أن الآلهة تعطينا وليس هناك خير أو إنعام إلا وهم يقدمونه، لكن كيف يمكننا أن نعطيهم أشياء حسنة قيمة في المقابل؟ فهذا الأمر الأخير غير واضح البتّة لي!.
يوثيفرو: أو تعتقد حقاً يا سقراط أن هناك أي فائدة تنجم من أضحياتنا للآلهة؟
سقراط: لكن إذا لم تكن هناك فائدة للآلهة مما نقدمه فما هو معنى الهدية وما الذي تناله من هديتنا؟
يوثيفرو: لا شيء سوى أننا نكرِّمُهُم ونقوم بما يرضيهم.
سقراط: إذاً التقوى ليس فيها أي فائدة للآلهة لكنها تسرهم
يوثيفرو: هذا صحيح
سقراط: أي إن التقوى تسرّ الآلهة لكن ليس فيها فائدة لهم كما إنها لا ترضيهم بشيء.
يوثيفرو: بل يمكنني القول ليس هناك أعز على الألهة وأقرب إلى قلوبهم من التقوى.
سقراط: لكن ألم نتفق قبل قليل على أن ما هو من التقوى أو القداسة ليس بالضرورة هو نفسه ما هو محبب للآلهة؟ هل نسيت؟
يوثيفرو: لا بل أذكر ذلك.
سقراط: ألست من تقول إن ما تحبه الآلهة له قداسة لكنه أليس كل ما تحبه الآلهة قريب إلى قلوبها؟
يوثيفرو: صحيح
سقراط: إذاً إن ما اتفقنا عليه من قبل كان خطأ وإما أن نكون على صواب الآن.
يوثيفرو: أحد الأمرين لا بدّ أن يكون صحيحاً.
سقراط: إذاً علينا أن نبدأ من جديد بالسؤال: ما هي التقوى، وإن كنت لم تستطع بشيء من الثقة تعريف ما هي التقوى وما هو نقيضها فكيف يمكنني أن أثق بأنك تعلم ما أنت فاعله عندما تقوم بالنيابة عن أحد الخدم بملاحقة والدك بتهمة القتل، لو أنك تعرف فإنك لم تكن لتأخذ مثل هذه المخاطرة بارتكاب ما هو إثم في نظر الآلهة بملاحقتك والدك وكنت ستظهر احتراماً أكبر لرأي الناس، مع ذلك فإنني ما زلت موقناً انك تعرف طبيعة التقوى ونقيضها أي الفساد في الأرض، فلتقل لي يا عزيزي يوثيفرو ولا تُخفِ عني علمك !!!
يوثيفرو: ربما في وقت آخر يا سقراط لأنني على عجلة من أمري وعلي أن أذهب.

مقالات ثقافية