الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المرحوم المؤرّخ د. عباس أبو صالح

كتاب «دور الدروز في المنطقة: 1842 – 1958» للمؤرّخ الرّاحل الدكتور عباس أبو صالح (1943 – 2011)، صادر عن دار نيلسن في بيروت عام 2017 باللغة الانكليزية بعنوان: The Role of The Druze in the Region (1958 – 1842) هو موضوع هذه المراجعة. يناقش المؤلّف في كتابه ويدرس دور طائفة الموحّدين الدّروز في المنطقة خلال مئة سنة تقريباً، ابتداءً من العام 1842، غداة الحرب الأهليّة الطائفيّة الأولى الكبرى التي اشتعلت في جبل لبنان بين الدروز والموارنة، وصولاً إلى العام 1958 يوم اندلعت الثورة الشعبيّة في وجه كميل شمعون – رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك في غير منطقة لبنانية، ولا سيّما في مناطق الجبل، بسبب سياسته الداخلية والخارجية.

يُقْسَم الكتاب إلى أربعة أقسام، إضافة إلى مقدَّمة وخاتَمة وعدد من الوثائق الأجنبة التي كانت بعض ما استند إليه البحث، وذلك على الشّكل التالي:

القسم الأوّل: الدّروز في لبنان،

القسم الثاني: الدّروز خلال الحرب العالميّة الأولى وبعدها،

القسم الثالث: الدّروز وأبطال الاستقلال اللبناني،

القسم الرابع: (كمال جنبلاط) أمير الدّروز غير المُتَوَّج والأزمة السياسية في خمسينيّات القرن العشرين.

قبل الدّخول في استعراض مُفَصّل لهذا الكتاب القيّم وفقاً للتقسيم الذي أراده المؤلف، ومن خلال قراءتنا الكاملة له، لا بدّ من التوقّف هنيهةً أمام الإتقان والدقّة والاتّزان الذي يتحلّى به الكاتب، فتراه يروي كلّ أحداث تلك المرحلة بطريقة موضوعية تخلو من أيّة مُجانبة أو ممالأة أو مُحاباة سواء لهذا الطرف أو ذاك، حتى ولو كان أبناء جِلدته هم أحد طرفيّ كل حدث أرّخ له الكتاب، فلم تأخذه غفلةٌ أو نشوةٌ أو ألم، بل حافظ على اتّزانه وموضوعيّته، وكان ينظر إلى سائر الأحداث والوقائع نِظْرة العالِم المحايد والمؤرّخ المدقّق والأكاديمي العريق، فما انحاز إلاّ للحقيقة ولو كانت ضد أهله وأبناء قومه، وما انتصر لسواها على الإطلاق.

لكنّ الملاحظة البارزة التي يخرج بها القارئ، وتراها ترافق سائر الأحداث التي شهدتها هذه المنطقة، أنّ الموحدين الدّروز كانوا باستمرار يحافظون على هُوِّيِّتهم الدينيّة ويؤكّدون على إخلاصهم لأُصولهم العربيّة.

الموحدون الدروز، على الرّغم من عددهم القليل نسبيّاً، قد لعبوا دوراً هامّاً في تاريخ المنطقة، إذ كانت مهمّتهم العسكرية التي كُلِّفوا بها حماية الواجهة البحريّة الغربية للدولة العربية – الإسلامية.

الدّروز في لبنان

في عرضه لتاريخ الدّروز في لبنان، في القسم الأوّل من الكتاب، يعود بهم الدكتور أبو صالح إلى أصولهم العرقيّة العربيّة وبداية هجرتهم من جنوب الجزيرة العربية إلى الحيرة في العراق شمالاً، ثم إلى المعرّة في شمالي سوريا في القرن الثامن، وليستقروا أخيراً في منتصف القرن الحادي عشر في جنوبي جبل لبنان ووادي التّيم، وليتمدّدوا مع مرور الزمن الى حوران والجَولان في جنوب سوريا والجليل الأعلى في شمال فلسطين.

والموحدون الدروز، على الرّغم من عددهم القليل نسبيّاً، قد لعبوا دوراً هامّاً في تاريخ المنطقة، إذ كانت مهمّتهم العسكرية التي كُلِّفوا بها، وهي حماية الواجهة البحريّة الغربية للدولة العربية – الإسلامية. فاستمرّ التنّوخيّون الدروز، على حد تعبير أبو صالح، لمئتي سنة في الخطوط الأمامية بمواجهة الحملات الصليبيّة. وكانت عائلة بُحْتُر التّنوخيّة تحتفظ بمركز القيادة بين العائلات الدرزية الأخرى، وتحافظ على علاقات متينة مع مختلف الحكّام المسلمين في الشرق الإسلامي وذلك بسبب دورها العسكري البارز وبسبب ولائها السياسي للسّلالات الإسلامية الحاكمة لأكثر من أربعمئة سنة لحين انتهاء عهد المماليك في بداية القرن السادس عشر. وهكذا استمرّت الإمارة التَّنوخيّة – الدّرزية ما بين العامين (1147-1516) وامتدّ نفوذها من طرابلس شمالاً إلى صفد جنوباً. ومع انتقال المنطقة إلى الحكم العثماني، استمرّ الدروز في حكمهم للبنان ضمن الإمارة المعنيّة الدرزية (1517-1697) التي شهدت ذروة قوتها مع الأمير فخرالدين المعني الثاني، الذي وحّد اللبنانيين من مختلف الطوائف وسهّل قدوم الكثير من المسيحييّن من شمال لبنان والتوطن داخل الإمارة الدرزيّة، ويُعْتَبر المؤسّس الحقيقي لفكرة الدولة اللبنانيّة المستقلّة.

وهكذا، يستنتج الدكتور أبو صالح، أنّ هجرة الدروز الأوائل إلى لبنان في القرون الوسطى قد حصلت بطريقة طوعية ولأسباب سياسيّة واستراتيجيّة عسكريّة قررتها الدولة العربية – الإسلامية آنذاك. كما يفترض أبو صالح أنّ إخلاص الدروز السياسي للدولة العربية الإسلامية في مختلف مراحلها بالتوازي مع كفاءتهم العسكرية وتضحياتهم خلال تلك الحقبة من الزمن قد منحتهم نوعاً من المناعة تجاه تعرّضهم للاضطهاد وتهجيرهم إلى أماكن أُخرى في الشرق. إلّا أنّ الهجرة الدرزية سيُقَدّر لها أن تحدث لاحقاً خلال القرن الثامن عشر جزئياً إلى حوران بسبب خلافاتهم السياسية الداخلية في ما بينهم (بين القيسيين واليمنيين) إبّان حكم الشهابيين، الذين اختارهم الدروز أنفسهم بعد وفاة الأمير أحمد المعني دون وريث، كونهم أنسباء للمعنيين. وبانتقال الحكم إلى الأسرة الشهابية السنّية التي كانت تقطن حاصبيّا، وبالأخص في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني (1788-1840) الذي اعتنق الدين المسيحي، والذي عمل على إضعاف الدروز، فعرفت البلاد صعوداً بارزاً للكنيسة المارونية مقابل تراجع مُتَعمّد في دور الدروز سيبلغ ذروته بأحداث العام 1860 رغم رجحان كفّتهم العسكرية في تلك الأحداث.

ساهم تدخل الدول الأوروبية في شؤون لبنان والدولة العثمانية عموماً في تغيير موازين القوى بين اللبنانيين. فعلى أثر وصول القوّات الفرنسيّة إلى بيروت لنُصرة المسيحييّن وتأديب الدروز، وبازدياد الضغوط التي مارستها السلطات العثمانية عليهم، سيشهد جبل لبنان هجرة عدد لا يستهان به من الدروز وعائلاتهم الى حوران لينضمّوا إلى الذين سبقوهم في الهجرة إلى هناك بعد معركة عين داره بين القيسييّن واليمنييّن سنة 1711. وهكذا وبعد تأسيس حكم المُتَصرِّفية لحكم لبنان على أنقاض نظام القائم مقاميتين الذي كان معمولاً به، وكان على رأس المتصرّفية مُتَصرّف مسيحي، خسر معها الدروز موقعهم التقليدي المُسيطر في جبل لبنان لمصلحة الموارنة.

قابل تراجع سلطة الدروز في جبل لبنان، وهجرة الكثيرين منهم إلى حوران، توثيق علاقاتهم بدروز حوران الذين كانوا يسلّمون قيادتهم لآل  الأطرش، الذين سبق وشاركوا دروز جبل لبنان ووادي التّيم في حوادث الستينيّات تلك. لكنّ الفرنسيين والعثمانيين قرّروا إخضاع الدروز في جبل حوران وفرض الضرائب والتّجنيد الإجباري عليهم، لا سيّما وإنّ هذا الجبل أصبح موئلاً للدروز الهاربين من ظلم العثمانيين أو الذين فقدوا سلطتهم في جبل لبنان. وهكذا اشتدّ عَضُدُهم هناك، ولا سيّما بقيادة شبلي الأطرش وخاضوا عدة  مواجهات عسكريّة مع العثمانيين لمنعهم من السّيطرة على جبل الدروز أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أدّت تلك المواجهات إلى فقدان الثقة بين العثمانيين والدروز، والتي ستظهر أكثر في الانحياز الكامل للدروز إلى الثورة العربية ضد الأتراك خلال الحرب العالميّة الأولى.

الدروز خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها

يَعْتَبر الدكتور أبو صالح أنّ اندلاع الحرب العالميّة الأولى شكّل نقطة فاصلة في تاريخ سوريا عموماً والمجتمع الدرزي فيها خاصةً. وفي الوقت الذي كان فيه دروز جبل لبنان يعانون المجاعة، كان دروز جبل حوران ينخرطون في الصراع الدائر بين العثمانييّن ودول المحور من جهة ودول الحلفاء من جهة ثانية. وفي حين كان الطرفان بحاجة لقمح حوران، قام الأتراك، ورغبة منهم بإظهار حسن النيّة تجاه الدروز بإعفائهم من التجنيد الإجباري ومن الضرائب. لكنّ الدروز لم ينسَوْا قُسْوة العثمانيين عليهم، فرَأَوْا في الشريف حسين مُخَلّصاً، بينما فضّل فريق آخر منهم الإبقاء على علاقة طيّبة معهم؛ فقاد سلطان باشا االأطرش الفريق الأوّل وسليم لأطرش الفريق الثاني. أمّا المُثَقّفون من دروز لبنان، فقد انغمسوا في السياسة بصورة فعّالة، وانضمّ بعضٌ منهم إلى حركة إصلاح الامبراطورية العثمانيّة أو إلى الحركة القوميّة العربية مثل الأميرين شكيب وعادل أرسلان وعارف بك النكدي. في حين كان فؤاد سليم أوّل ضابط درزي ينضمُّ إلى الثورة العربية، وكذلك سلطان الأطرش الذي قاد ثلاثمئة مقاتل درزي إلى ساحة المعركة لقتال الأتراك في معركة بصرى – الشام، حيث تمكّن من هزيمتهم وتقدم الى دمشق قبل وصول قوات الشريف حسين اليها. كذلك يوسف الحكيم

وزير الشهير في حكومة الأمير فيصل العربية، والذي ذكر في مذكراته أنّ دروز حوران كانوا الأكثر اندفاعاً وحماسة لوحدة سوريا تحت حكم الأمير فيصل وقاتلوا الأتراك في العديد من الأماكن. وهذا الأمر انسحب على دروز حاصبيّا وراشيّا الذين أعلنوا تأييدهم لحكومة فيصل العربية. وكذلك الأمر فقد أعلن دروز جبل لبنان، بفريقيهم الجنبلاطي واليزبكي تأييدهم لفيصل، وكان الأمير عادل أرسلان أكثر المقرّبين منه. لكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى خابت آمال القومييّن العرب بتأسيس دولة عربية مستقلة من خلال البدء بتطبيق اتفاق سايكس – بيكو السِّرِّي الإنكليزي – الفرنسي. ووفقاً لهذا الاتّفاق، شنّ الفرنسيّون هجوماً ناجحاً على جيش فيصل العربي وهزموه في معركة ميسلون الشهيرة وأنهَوْا بذلك الحكم العربي في دمشق. أمام هذا الوضع اجتمع دروز الجبل المؤيدون للحكم العربي في السويداء لتنظيم الدفاع عن دمشق، إلّا أنّ خروج فيصل إلى درعا، ومنها إلى حيفا أفسد مُخطط الدروز.

ومع إدراكهم للأهمية الاستراتيجيّة لجبل الدروز، حاولت سلطات الانتداب الفرنسيّة أخذ موافقة زعماء الجبل على مُخطَّطهم لتقسيم سوريا إلى أربعة دول طائفية من ضمنها دولة درزية في جبل الدروز. وعلى الرغم من قبول بعض وجهاء جبل الدروز للعرض الفرنسي وعلى رأسهم سليم الأطرش، في حين أنّ فريقاً كبيراً من الدّروز كان معارضاً من حيث المبدأ للانتداب الفرنسي، وكان يشجّعه في ذلك دُعاة القوميّة العربية كسلطان الأطرش في سوريا، ورشيد طليع وعادل أرسلان وفؤاد سليم في لبنان.

لكنّ الحدث الأكبر في مواجهة الفرنسييّن سيكون ثورة سلطان الأطرش في تموز 1922حماية لضيفه الشّيعي من جنوب لبنان أدهم خنجر المُتّهم بمحاولة اغتيال المُفوّض السامي الفرنسي غورو. فنجح سلطان والثوّار في مواجهاتهم الأولى مع الفرنسيين، ومن ثمّ هَزْمُهم للحملة الفرنسيّة في قرية الكفر في 21تموز 1925 وواصلوا هجومهم إلى السويداء، حيث تراجع الفرنسيّون وجرى حصارهم في قلعة المدينة، ومن ثمّ تصدّى سلطان ورجاله لحملة فرنسية كبيرة في محلَّة المزرعة وأنزلوا بهم هزيمة كبرى وقتلوا المئات منهم. أعطى هذا الانتصار الثورة الدرزية أبعاداً تجاوزت حدود الجبل، خاصّة في بيروت ودمشق، ولا سيّما بعد أن أذاع سلطان نداءه الشهير الذي يدعو فيه جميع السورييّن للانخراط في الثورة.

لكنّ الفرنسيين جرّدوا حملة أخرى كبرى تمكنت من هزيمة الثوار في سهل المسيفرة، وتقدمت إلى السويداء. ورغم الدّمار الواسع للقرى الدرزية ومقتل الكثير من الرّجال، إلاّ أنَّ ثورة الدّروز تمكّنت في النهاية من إفشال المخطّط الفرنسي لتقسيم سوريا وأجبرت الفرنسيين في النهاية على منحها الاستقلال. وبعد أن وقّع القادة السوريّون مع السلطات الفرنسية اتفاقية باريس 1936 التي أقرت باستقلال سوريا، جرى في العام 1937 في دمشق استقبال حافل لسلطان باشا الأطرش ورفاقه لم تشهد المدينة مثيلاً له.

يقول الدكتور أبو صالح إنّ سوريا بعد نيلها الاستقلال، وبعد عدم انتظام الوضع الداخلي لأسباب متعدّدة، ولمّا كان للدروز دور هام في حكومات ما بعد الاستقلال نظراً لدورهم في تحقيق الاستقلال، سيتعرّض جبل الدروز لهجوم عنيف أثناء حكم الشيشكلي. فقد جرّد أكثر من عشرة آلاف جندي لاحتلال الجبل، مدمّراً القرى والبيوت وقتل الكثيرين. ويقول أبو صالح إنّ هدف الهجوم كان إزالة دَوْر سلطان باشا الأطرش كأيقونة وطنية، وضرب آل الأطرش وإزالة التأثير الدرزي على السياسة الوطنية في سوريا.

الدروز وأبطال الاستقلال في لبنان
الأمير مجيد أرسلان

تناول الدكتور أبو صالح استقلال لبنان منذ إعلان الجنرال كاترو، نيابة عن الجنرال ديغول في 8 تموز 1941، عن رغبة فرنسا الحُرَّة في منح سوريا ولبنان استقلالهما مدعوماً من بريطانيا، إلى حين تحقُّق الاستقلال اللبناني فعليّاً في العام 1943. لكنّ تسويف الفرنسيين ومحاولاتهم التهرُّب من هذا الالتزام، أطلق ما سُمِّي بأزمة الاستقلال، التي تمثَّلت باعتقال مُعظم رموز الدولة اللبنانية في قلعة راشيا، والدور المحوري الذي لعبه الأمير مجيد أرسلان في هذه الفترة. فلدى لجوء من تبقّى من حكومة الاستقلال إلى قرية بشامون، محاولة الفرنسيين مهاجمة البلدة، جرى تعبئة أعداد كبيرة من المواطنين الدروز لحماية الحكومة، فسقط شهيد الاستقلال الأول سعيد فخر الدين من أبناء بلدة بشامون أثناء التصدّي للفرنسيين في بلدة عين عنوب القريبة من بشامون. دفعت هذه التطوّرات إلى إعلان إضراب واسع في جميع أنحاء البلاد، إلى حين تدخّل بريطانيا وإنذارها الفرنسيين لإطلاق المُعتقلين وإتمام عمليّة الاستقلال. فجرت الأمور من ثمّة على ما يرام، وأطلق على الأمير مجيد أرسلان يومها لقب بطل الاستقلال.

أزمة الخمسينيّات السياسية

يتناول الدكتور أبو صالح في القسم الأخير من الكتاب تقلّبات السياسة اللبنانية بُعيد الاستقلال، والفساد الذي ضرب إدارة الرئيس بشارة الخوري، والمعارضة القوية له من كثير من الشخصيّات اللبنانية، ولا سيّما من الجبهة الاشتراكيّة التي تشكّلت من شخصيّات مُعارضة برئاسة الزّعيم كمال جنبلاط.

ففي العام 1952، تعرّض لبنان لأزمة اقتصادية فشلت حكومة سامي الصلح في مواجهتها، واندلعت المظاهرات كنتيجة للبطالة وغلاء المعيشة والفضائح التجارية. كما ازدادت الشكوى من الضغوط السياسية والرّشوة والفساد وانعدام الشفافية في الإدارة عموماً. فتمكنت المعارضة من إسقاط الرئيس الخوري وانتخاب نائب رئيس الجبهة الاشتراكية كميل شمعون رئيساً للجمهورية.

لكنّ وصول شمعون إلى الرئاسة لم يؤدِّ إلى استقرار الأوضاع الداخليّة، ولم يحصل التغيير على النّحو الذي توقعه اللبنانيون. بل ازدادت الانقسامات السياسية وتعمقت لأسباب مختلفة ومتعدّدة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي. فالتعدّدية الطائفية أصبحت نقمة على لبنان، بحيث أنّها استُخدمت لضرب الوحدة الوطنية ولتسهيل فساد الإدارة وتخريب علاقات لبنان العربية والخارجية. يُضاف إلى ذلك، الخلافات الشخصية وعدم تصرّف المسؤولين كرجال دولة، والارتباطات التي وُسم بها كثيرون من سياسيي لبنان. أمّا الأسباب الخارجية فقد لعبت دوراً هاماً وسبباً مباشراً للانقسامات والتوتّرات بين اللبنانيين. وفي هذا المُناخ كانت تدور سياسة لبنان خلال ولاية الرئيس كميل شمعون والمعارضة الشّرسة التي تزعّمها كمال جنبلاط.

لكنّ رغبة كميل شمعون بتعديل الدستور لتمكينه من إعادة انتخابه رئيساً لمرّة ثانية، دفعته إلى ممارسة مختلف أنواع الضّغط والتدخل وتزوير انتخابات العام 1957 ليحصل على أكثرية نيابية، ما أدى إلى سقوط مُعظم رجال المعارضة وعلى رأسهم كمال جنبلاط. شكّلت هذه الانتخابات عاملاً إضافيّاً لازدياد التوتّر في البلاد، إضافة إلى عوامل أخرى، يَعتبرها أبو صالح كانت السبب لأزمة العام 1958 التي انتهت باشتعال الثورة على كميل شمعون. فمن هذه الأسباب: الشّكوى الاقتصادية – الاجتماعية للمسلمين اللبنانيين التي تضمّنت حرمان المناطق الإسلامية من أبسط المساعدات الاقتصاديّة وعُزلتها الثقافية، عدم الرّضا عن سياسة شمعون الخارجية التي تخالف المبادئ الأساسية للميثاق الوطني، وتزويره للانتخابات الأخيرة.

انتهت الثورة على الرّئيس شمعون بتوافق أميركي – عربي (جمال عبد الناصر) على انتخاب قائد الجيش، ذي السّمعة الطيّبة والمواقف الوطنيّة اللّواء فؤاد شهاب صديق كمال جنبلاط، رئيساً للجمهورية. وهذا ما حصل في 23 أيلول 1958 قبل انتهاء ولاية الرئيس شمعون بعدة أشهر.

يخلص الدكتور أبو صالح إلى أنّ المجتمع الدرزي، رغم الازدهار الذي عرفه في خمسينيّات القرن الماضي، إلّا أنّه لم يستطع تحقيق مكاسب سياسية كبرى بسبب جمود النظام الطائفي في لبنان. لكنّ تأثيرهم السياسي فاق حجمهم العددي كأقليّة، بسبب الدور القيادي الذي لعبه بعض الساسة الدروز على المستوى الوطني مثل الأمير شكيب أرسلان، الأمير مجيد أرسلان و كمال جنبلاط. فكمال جنبلاط على وجه الخصوص، لم يحفظ المركز السياسي التقليدي لعائلته فقط، بل أخذ دور القائد القومي العربي في لبنان وفي الشرق العربي. فقد أيّد الرئيس جمال عبد الناصر ضد الإمبريالية الغربية. وكان مُصلحاً سياسياً، وأسّس الحزب التقدّمي الاشتراكي منذ العام 1949، وتزعم الخط العربي في لبنان بما فيها ترؤسّه للجبهة العربية لدعم المقاومة الفلسطينية، واستمر على الدوام داعماً بقوة للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، كما أحيا في الواقع الدور التاريخي الطليعي للموحدين الدروز في تبني القضايا العربية المشروعة، مثل شكيب أرسلان، عادل أرسلان، سلطان الأطرش وغيرهم من القادة الدروز في الفترة الزمنيّة المبكّرة للتاريخ العربي الحديث. ويتابع أبو صالح بالقول إنّ اغتيال جنبلاط في آذار 1977، شكّل صدمة سياسية للدروز، وللبنان وللعالم. ويستنتج بعد ذلك أنّ الدروز في لبنان توحّدوا خلف قيادة وليد جنبلاط الحكيمة بعد استشهاد والده وتمكنوا من الانتصار في حرب الجبل التي هددت وجودهم فيه، وبسبب من كفاءتهم العسكرية التقليدية ووحدتهم السياسية.

يستنتج الدكتور أبو صالح في النهاية، أنّ تاريخ الدروز السياسي في القرن العشرين بمعظمه قد تقدم من التأييد للعثمانيين بدايةً، إلى تأييد الخط القومي العربي فيما بعد. وبرغم هجرتهم الواسعة إلى مناطق كثيرة في العالم، ومن ضمنها الغرب، فإنّهم حافظوا على خصوصياتهم السياسية والاجتماعية. وبرأيه فإنّ الحفاظ على الصفات الدرزية في المُستقبل يبقى ضروريّاً لبقاء الدروز في عالم يتغيّر بسرعة خلال القرن الحادي والعشرين. والسلام.

رحيل سمير أمين

رحل… المفكر المصري الماركسي سمير أمين، عن عمر ناهز 87 عاماً، في داكار/السنغال، حيث كان ترأس لفترة من الزمن معهد الأمم المتحدة للتنمية فيها.
ولد سمير أمين في بور سعيد سنة 1931، لأب مصرية وأم فرنسية، كان كلاهما طبيبين. أنجز سمير أمين دراسته للعلوم السياسية ثم الاقتصادية في السوربون، حيث غدا ماركسياً، فانتمى لبعض الوقت للحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن يغادره، بل ويغادر الفكر الشيوعي الكلاسيكي برمته، رغم أنه ظل وحسب توصيفه شخصياً لموقعه: ماركسياً مستقلاً.
تميز فكر سمير أمين بنقده البنيوي الشديد الذي لم يفارقه للرأسمالية، في أشكالها كافة، حتى في مزاعمها الليبرالية، وفي تحميلها المسؤولية، وبخاصة في مرحلة النهب الكولونيالي، عن كل التخلف والتأخر والتردي الاقتصادي والاجتماعي اللذين أصابا بلدان العالم الثالث، واتسّع أكثر في مرحلة الهيمنة الامبريالية، ثم في مرحلة العولمة الراهنة، حيث الولايات المتحدة هي التجسيد التام للرأسمالية المتوحشة الأخيرة، وفي تحولها الجامح نحو العسكرة – كخيار حتمي للرأسمالية في مرحلتها الامبريالية.
لكن نقد سمير أمين للرأسمالية ذاك لم يحجب، بالنسبة له، حقيقة أن الفكر الماركسي التقليدي، وبخاصة في نسخته الشيوعية (السوفياتية) الرسمية، كان قاصراً عن تقديم التحليل الصحيح لأزمة التطور في العالم الثالث والبلدان الطرفية خارج المركز الغربي وتبعيتها له. فأخفق لذلك في تلبية الحاجات النظرية والعملية التي كان يحتاجها التطور السياسي والاقتصادي للعالم الثالث، والمتصلة خصوصاً بتحديات التأخر والتبعية والطرفية الهوية والتنمية اللامتكافئة.
واستناداً إلى مقدمتيه، التوحش الرأسمالي، وعجز الفكر الشيوعي التقليدي، طوّر سمير أمين لاحقاً وفي أكثر من عمل له نظريته الخاصة حول “التطور اللامتكافئ”، بين بلدان المركز والبلدان الطرفية، وفيها نقد واضح للأطروحة الماركسية التقليدية أن بإمكان بلدان العالم الثالث والبلدان الطرفية المتأخرة تجاوز تخلفها واللحاق بتقدم المركز بمجرد الأخذ الآلي بالخيار الاشتراكي السياسي. ولا يقل عنها أيضاً نقده للأطروحة الليبرالية في أن الثورة التكنولوجية ممكنة في العالم الثالث من دون تغيير سياسي وأنها الطريق للحاق ببلدان المركز المتقدمة. كذلك يقدّم عمله المميّز “نحو نظرية للثقافة”، قراءته لصراع الأطراف مع المركز الغربي لانتزاع استقلاليتها وهويتها الثقافية، ومقدار التزييف والاستبعاد اللذين يمارسهما المركز الغربي على المستوى الثقافي.
استمر سمير أمين، وإلى آخر يوم من عمره، في نقده الشديد ل”الإمبريالية الأمريكية” التي أزدادت مع العولمة الراهنة قوة وهيمنة واستئثاراً عمّا قبل، حتى في وجه الحلفاء الأوروبيين. ويفضح أمين زيف التفوق الأمريكي الشامل، فيقول إن التفوق الأمريكي إنما هو في المجال المالي، لا الصناعي ولا الزراعي. فالنظام المالي الأمريكي “يمتص الجزء الأكبر من فائض الأموال في العالم”، وهي سبب سيطرته على أسواق المال الفرعية، وعلى السياسات الوطنية للبلدان الأخرى.
أما أفكار سمير أمين السياسية، ويخاصة ما اتصل منها بالعالم العربي، فنقتطع بعضها من مقابلة له مع جريدة قاهرية، وكان في الخامسة والسبعين من عمره، أي في مرحلة الاستقرار الأخير لأفكاره، فنجملها في هذه العجالة كما يلي.
يقول أمين “إن غياب الديمقراطية هي العيب الأساسي القاتل في التجربة الناصرية وقد حال دون بناء الاشتراكية، وهذا أيضاً ما حدث في الاتحاد السوفيياتي.”
ويقول: “أرفض الخطاب الفكري السائد الذي يتصور أن الثورة التكنولوجية ستؤدي إلى إنهاء الطابع الاستعماري للرأسمالية”.
وأيضاً، “عسكرة العولمة خيار استراتيجي أمريكي يسعى إلى تعويض التدهور في قدرتها على الاستمرار في المنافسة بالوسائل الاقتصادية.”
وحول الإسلام السياسي، لا يخفي سمير أمين نقدة الشديد لتيارات الإسلامي السياسي الحديثة، ومنها “الإخوان المسلمون”. فالتيارات تلك، وإلى كراهيتها العميقة، برأيه، للديمقراطية، على “صلة مباشرة بالرأسمالية العالمية”، وعليه فهي لا تملك الخيارات الحقيقية التي تحتاجها الشعوب العربية، وبخاصة لخلطها الواضح “بين الدولة والدين”.
هذه هي بعض أفكار سمير أمين نستذكرها كعناوين غداة وفاته في 14 آب 2018 في دكار/السنغال.
أعمال سمير أمين وفيرة وكثيرة، وربما بلغت في أشكالها المختلفة ما يزيد عن المئتين والخمسين عنواناً – بين كتاب وبحث ودراسة.
بين أهم أعماله تلك، والمتصلة خصوصاً بفكره الاقتصادي والسياسي، نذكر، وبالتدرج الزمني:
֍ التراكم على الصعيد العالمي
֍ التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة
֍ التطور اللامتكافئ
֍ الأمة العربية، “القومية وصراع الطبقات”
֍ الطبقة والأمة في التاريخ، وفي المرحلة الإمبريالية
֍ قانون القيمة والمادية التاريخية
֍ الاقتصاد العربي المعاصر
֍ أزمة الإمبريالية
֍ أزمة المجتمع العربي
֍ ما بعد الرأسمالية
֍ نحو نظرية للثقافة
֍ حوار الدولة والدين (مع برهان غليون)
֍ في نقد الخطاب العربي المعاصر”
أما أهم المراكز التي شغلها سمير أمين، إضافة للأستاذية في السوربون وجامعات أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فمنها:
عضو مركز البحوث العربية والإفريقية في القاهرة
مدير معهد الأمم المتحدة للتنمية في داكار/السنغال
أحد مؤسسي “المنتدى الاجتماعي العالمي”، كبديل ونقيض للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس/سويسرا.
وشخصياً، أسعدني الحظ أن استضيفه محاضراً في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت، وأن التقيه مرات عدة في باريس، وطرابلس الغرب، والقاهرة.
سمير أمين، المفكر الاقتصادي المصري العالمي، شخصية أكاديمية موسوعية منتمية وملتزمة قضايا الأكثرية الساحقة للناس، عمل على ترقية وعيها كي تمسك بزمام أقدارها بكل الوسائل الفكرية والنظرية والعملية، وظل كذلك حتى آخر سني حياته.

(نشرت في جريدة الأنباء الألكترونية غداة الوفاة)

الشيخ هاني باز رضوان (1903 – 1996)

ولد الشيخ هاني باز رضوان في مدينة “عاليه” في الثالث من شهر شباط، في سنة 1903. في تلك الفترة من الزمن كان الفقر والجوع يخيمان على معظم المناطق اللبنانية ومنها “عاليه” وكانت يومها مركز المحكمة التركية، وكانوا يسمونها بالعامية “العرفة” وفيها مشنقة لمن تراوده نفسه العصيان والتمرد على أوامر حكم الأتراك في الدولة التركية.
وكان معظم الناس يعيشون على الزراعة وخيرات الأرض. وقد نشأ الشيخ هاني في هذه البيئة وأحاطت به ظروف شظف العيش على هذا النمط. وما أن بلغ السادسة من عمره حتى التحق بالسنة الأولى الابتدائية في مدرسة الجامعة الوطنية في عاليه، وكانت في بداية تأسيسها إذ تأسست في سنة 1907م.
وكانت المدرسة كناية عن بضع غرف وعدد من المقاعد الخشبية البسيطة وكان العلم فيها هو المرتجى والمطلوب. وقد ظهرت على الشيخ هاني منذ حداثته علامات النجابة والذكاء فكان الأول في صفه طوال سنوات دراسته، وقد قال عنه رئيس الجامعة الوطنية الأستاذ إلياس شبل الخوري: «كان التلميذ هاني ينهي صفين في كل سنة ويفوز بالأولية في صفه».
وهكذا أنهى التلميذ هاني المرحلة الابتدائية ثم انتقل إلى المرحلة المتوسطة، فكان ينهي دراساته في كل سنة صفين. ثم اندلعت الحرب الكونية الأولى في سنة 1914 وازدادت حالة البلاد سوءاً فاضطر هاني إلى الرحيل عن بلدة “عاليه” تخلصاً من شبح الحرب والفقر والجوع متجهاً نحو السويداء في سوريا حيث كانت تقيم عائلة رضوان، حيث بقي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918، ليعود في نهايتها إلى موطنه لبنان.
التحق بعد عودته بمدرسة الجامعة الوطنية، وطلب من مدير المدرسة الأستاذ إلياس شبل الخوري العمل في أثناء العطل المدرسية لقاء قبوله في المدرسة، فكلّفه بمساعدة النجَّار الذي كان يصلح مقاعد المدرسة في خلال العطلة الصيفية. وأخذ هاني يعمل ويجتهد ويسهر الليالي الطوال منكبّاً على دروسه لا يضيِّع دقيقة من وقته، حتى أنهى الصفوف الثانوية ونال شهادتي البكالوريا القسم الأول والقسم الثاني بتفوق ملحوظ وبدرجة امتياز بين تلاميذ صفه.
انتقل بعدها إلى سوريا لإكمال دروسه الجامعية، فالتحق بجامعة الحقوق في دمشق مكمِّلاً دراسته العليا.
ولكن القدر الغاشم أبى أن يصبح الطالب الجامعي محامياً، إذ أصيب “بداء الجنب” بعد إتمام نصف المرحلة الجامعية وعاد إلى لبنان ليدخل المستشفى الألماني في بيروت ويبقى سنة كاملة طريح الفراش. وقد نصحه طبيبه المعالج عدم العودة إلى دمشق لإتمام دراسته، وكان طُلب منه التدريس في سوريا في السويداء، فنصحه الأستاذ إلياس شبل الخوري قائلاً له: “ما دمت تريد التدريس فمدرستك الجامعة الوطنية أولى بك من غيرها”. ونزولاً عند طلب الأستاذ إلياس بدأ هاني باز رسالته التعليمية في الجامعة الوطنية في “عاليه” حيث بقي يدرِّس ويعلِّم ويهدي ويرشد. وكان محباً مخلصاً لتلاميذه مقدراً محترماً من الأساتذة والطلاب.
وبالإضافة إلى تدريسه في الجامعة الوطنية أسس الأستاذ هاني باز مدرسة أسماها: “روضة التهذيب الخيرية”. تزوج الآنسة هنا سليمان عبيد من عاليه في العام 1930، وهي من بيت تقوى ودين، تربت على أخلاق فاضلة وتسامح لا يوصف، فكانت من الموحدات الطاهرات الدرزيات. وقد أُقيم لوالدتها مقام أو مزار للتبرك به بإمرٍ من المشايخ الأتقياء المعاصرين لها.
رزق الأستاذ هاني وزوجته هنا ثلاثة أولاد حليم وواصف وسامية، تربوا على أساس الصالح العام، وعلى التقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق، متأثرين بوالدهم ووالدتهم بسلوكهم الصراط المستقيم.
استمر الشيخ بالتدريس والتعليم في الجامعة الوطنية، فكان مثالاُ يُحتذى للمربي الفاضل والمرشد والمعلم والموجه. أسس في عام 1965 بالإضافة إلى تدريسه في رحاب الجامعة الوطنية مدرسة راقية أسماها “كلية عاليه الجديدة” مع أخوته، فأقبل عليها الطلاب من جميع أنحاء جبل لبنان، اتسعت رقعة المدرسة وكبرت نشاطاتها.
بعد مضي ثلاث سنوات على استلامه وإخوته الثلاثة مدرسة الجامعة الوطنية ولأسباب خاصة اتفقوا على إعادة مدرسة الجامعة الوطنية في “عاليه” إلى عهدة الأستاذ إلياس شبل الخوري.
سافر الشيخ هاني في العام 1965 مع ابنته سامية إلى الولايات المتحدة الأميركية لحضور حفل تخرج ولده واصف كمهندس في الكيمياء. وفي أمريكا التقى بجميع أفراد الجالية اللبنانية فأقيمت له ندوات تكريم وقف فيها واعظاً مرشداً وهادياً في أبناء طائفته الموحدين الدروز القاطنين في الولايات المتحدة الأمريكية والذين توافدوا للقائه والاجتماع به من مختلف الولايات، وقد أمضى عدة أشهر متنقلاً بضيافة هؤلاء ملبياً دعوة جميع الأصدقاء والمحبين.
بعد عودته من الاغتراب إلى أرض الوطن. عيِّن عضواً في المجلس الروحي الأعلى بعهدة الشيخ محمد عبد الصمد، وكان أميناً للسر في المجلس الروحي المذهبي.
وعندما أُنتُخب الشيخ محمد أبو شقرا شيخاً للعقل للطائفة الدرزية جيء به عضواً في المجلس المذهبي للطائفة الدرزية. كما أنه ترشح لمشيخة عقل عندما شغر مقام المشيخة اليزبكي. وقد أجمعت آراء نواب الدروز على انتخاب الشيخ هاني باز شيخ عقل عن المركز اليزبكي الشاغر، ولكن الانتخابات لم تتم في ذلك الحين لأن حالة البلاد كانت في وضع حرج.
مثَّل الطائفة الدرزية مع رفيقين له في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القاهرة والذي دعا إليه شيخ الأزهر الشريف في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
وقد أُقيمت لقاءات واحتفالات تكريم لهذا الوفد في هذه المناسبة. وكان للشيخ هاني قصيدة في مدح الرئيس جمال عبد الناصر، نالت إعجاب الحاضرين.

كتب ومخطوطات

انصرف الشيخ هاني في أواخر سنيّ حياته إلى الكتابة وتحبير المقالات والخطب والمحاضرات، وكان يقضي معظم أوقاته في البحث والتنقيب والتأليف. والكتاب الوحيد الذي طبع بعد وفاته في سنة 1999 كان لدار إشارات للطباعة والنشر والتوزيع لصاحبها المرحوم الشيخ سليمان تقي الدين الذي أسس هذه الدار وسعى إلى انتشارها في جميع الأقطار العربية وخاصة في لبنان، كان تحت عنوان: “المصير الإنساني”. وهنا، نترك الكلام لصاحب “التوطئة” د. أنور فؤاد أبي خزام، فماذا قال عن المؤلف وقد عرفه في حياته معرفة حقيقية:

«… ينتمي الشيخ هاني باز رضوان إلى جيل من المثقفين عرفه لبنان والبلاد في العقود الأولى للقرن العشرين، فهو أستاذ متمكِّن في اللغة العربية، وفكره مُنتسب إلى هذه الشريحة المثقفة التي كوَّنت مجموعة الأدباء والشعراء العرب في بدايات القرن المعاصر. إنَّ هاجس هؤلاء الأدباء كان هاجساً متعلقاً باللغة والأخلاق، فمن الزاوية اللغوية كان هنالك تشديد كبير على قيم أخلاقية سابقة للتطور السريع الذي حدث في القرن العشرين. أمّا الذي يجعل الأعمال الفكرية للشيخ هاني تأخذ منحىً فريداً ومستقلاً فهو أنه تمسك بالنظرة الدينية التوحيدية للكون والوجود واعتنقها بإيمانٍ خالص وتصديق تام وأضافها إلى رؤيته للقيم الروحانية والأخلاق. لقد كان صورة صادقة لأبناء عصره من حيث التقوى والورع من دون تقوقع وانطواء، وتأكيده على وجوب تسهيل السلوك الديني والتخفيف من وطأة التقاليد والعادات التي لا تتعارض مع جوهر الدين جعلته من روّاد النهضة الدينية الداعية إلى جعل الدين سلوكية جادَّة وعملاً فعلياً وأسلوباً للعيش، وليس شكليات وتقاليد».
أمضى الشيخ هاني في التدريس والتعليم فترة خمس وعشرين سنة متواصلة، ونستطيع القول بأنه أدّى رسالة تربوية تعليمية على أكمل وجه، بكل عناية ومحبة وإخلاص وجهاد. فأحبه الجميع من طلاّب وأساتذة وأهل واحترموه. وكان سبَّاقاً إلى المكرمات يقضي معظم أوقات فراغه متنقلاً في رحاب الجامعة الوطنية وردهاتها وغرفها وملعبها ناصحاً مصلحاً هادياً مرشداً في بيئته ومجتمعه، فأحبَّه الجميع وأخلصوا له كل الإخلاص. ولم يكن له عدوّ واحد وإنما كان له حاسدون وليس أعداء.
أما كتبه التي بقيت مخطوطة فإنها تشمل المؤلفات العلمية والأدبية والروحانية، وهي جاهزة للطبع:
1- ديوان شعري، احتوى على قصائد روحانية تحت إشراف ابنته سامية.
2- كتاب علمي رصين بعهدة ابنته سامية.
3- في سيرة الشيخ الفاضل.
4- في الأمير فخر الدين المعني الكبير.
5- مسرحية تحت عنوان: “نحن والتاريخ” قدِّمت في عاليه، عام 1964.
6- مخطوطات متفرقة.
7- عشرات الخطب والمقالات والمحاضرات في مواضيع مختلفة.
كتب الشيخ هاني باز رضوان موضوعاً شيِّقاً في جريدة “الصفاء” بعث به من “عاليه” بتاريخ 15 آب 1932، ونشر في الجريدة بتاريخ 28 آب سنة 1932، العدد رقم 1364 تحت عنوان: “الفوضى الطائفة بالطائفة”. ضمَّنه شعوره وما يحصل من تفرقة وانقسام وتباعد حول شؤون الطائفة الدرزية، وقضية المدرسة الداودية في “عبيه” ومشيخة العقل، إلى غيرها من القضايا التي كانت ولا تزال عالقة منذ زمن ولم تتخذ بشأنها تدابير معالجتها والحؤول دون وقوع ما لا تحمد عقباه حولها.
وكان الشيخ هاني يرسل مقالاته وكتاباته، بين الحين والحين، إلى الشاعر أمين آل ناصر الدين لنشرها في جريدة “الصفاء” لتكون الصوت الداوي عند بحث الأمور المستعصية وشؤون الطائفة العالقة، وما أكثرها في ذلك الوقت.

روحانياته:

انصرف إلى كتابة القصائد الروحانية في أواخر حياته، إذ كان همَّه الأكبر أن ينظم الشعر، إلى جانب القيام بفرائض التوحيد عاملاً بمضامينها. عاش حياته بجدِّية وبجهد وتعب منذ نشأته حتى نهاية جيله. واجهته المصاعب فاستطاع بقوة إرادته وصبره وصلابة مواقفه وجرأته أن يطرد شبح الجوع والفقر والعوز وأن يردّ مظالم الحرب الكونية الأولى ما اضطره إلى الارتحال إلى جبل الدروز في عام 1914، معتمداً مسلك التوحيد منذ حداثته حتى أواخر أيامه.
وعندما استقر في لبنان، بعد عودته من “السويداء” حيث بقي فيها إلى العام 1991، بدأ يكتب أشعاره ويردد “روحانياته” بينه وبين خالقه.
وهذه القصائد، حسب ما نعلم، جُمعت في ديوان لا يزال مخطوطاً قامت بجمعه ابنته الست سامية التي نكنُّ لها احتراماً وتقديراً على جمع هذا التراث الغالي.
ونحاول هنا، أن نستشهد ببعض مقطعات روحانية، ذكرها الأخ الكبير الأستاذ عفيف سالم باز في كتابه: “ذكريات في حياتي”، عاليه، في سنة 2007. قال في قصيدة روحانية هذه الأبيات:

المسكيةُ في الحياةِ رسالةٌ

يحتاجُها الإنسانُ كلَّ زمانِ

فيها النجاةُ لكلِّ منْ يُعْنى بها

ويُقِرُّها في السِّرِّ والإعلان

عاليهُ إنْ عزَّتْ بفضلِ شُيوخِها

فَلَها الفَخارُ بهم بِكلِّ مكانِ

أبْقاهُمُ الرَّحمنُ أضواءً لنا

بِهِمُ نتوِّجُ التوحيدَ بِالعرفانِ

في الحكمةِ الفُضْلى خُلاصَةُ ما مَضى

إنْ كانَ في الإنجيلِ والقرآنِ

وعلَيْنا أن نُجْتني دَواني قُطوفِها

فالحِكمةُ الزَّهراءُ كالبستانِ

وقد قرض شيخنا الجليل البيتين السابقين بما يلي:

دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ

اعقِلْ ولا تَعْمَلْ فإنَّكَ فاني

العمرُ مَحدودٌ وعيشُكَ زائِلٌ

إنَّ الحياةَ دَقائِقٌ وثَواني

فاعْمَلْ لِنَفْسِكَ ما يُخلِّدُ ذِكرَها

نَهْجُ الخُلودِ عِبادَةُ الرَّحمانِ

إنَّ التقيَّ مُخَلَّدٌ في قَومِهِ

والذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثاني

وفاته:

ألمَّ به مرض شديد أقعده مدّة سنتين بعد عودته من “السويداء” في سنة 1991، لكنَّ الله منَّ عليه بعد ذلك بالصحة التامة والعافية الكاملة إلى يوم دنا فيه رحيله فانتقل إلى دنيا الآخرة، وذلك في العاشرة من صباح يوم السبت في الثالث من شهر آب في سنة 1996.
فارقتنا روحه الطاهرة في رحلة أبدية وإلى حياةٍ سرمدية. وقد أقيم له مأتم حافل مهيب في مسقط رأسه “عاليه” مشى فيه الأعيان ورجال الدين والسياسيون وأهل الفكر والأدب ووفود من قرى وبلدات “عاليه” وبلدات الجوار والشوف والمتن وبيروت.
هذا هو الشيخ الفاضل هاني باز رضوان، الذي سعى في حياته إلى توحيد الكلمة بما يملكه من قوة وإرادة وبأس، بحيث استطاع بكل محبة وإخلاص أن يجمع حوله مئات التلاميذ ممن أحبوا الهداية والوعظ والإرشاد وكانوا بأمس الحاجة إلى العلوم والدين والمعرفة والفضائل الأخلاقية في مجتمعاته، فكان أستاذاً ومعلماً وهادياً لم يبخل أبداً بالعطاء والخير والهداية والتقويم، واظب على مجالس الذكر يُهدي ويرشد ويصحح، منكباً على الكتب الدينية الدرزية يستخرج كنوزها وجواهرها ولآلئها.
ألم يعطِ الأديب الكبير والناقد الفذّ مارون عبود فيه شهادة صادقة في كتبه وأمام تلاميذه وأمام الأساتذة، وكان مارون عبُّود مدير الدروس في الجامعة الوطنية في عاليه، إذ قال: «كان هاني باز المؤسس الحقيقي للجامعة الوطنية، فكان نعم المؤسس وأنا الباني على مدماكه.
كان أبيّ النفس، تقياً، عفيفاً، ورعاً، يخاف الله. مندفعاً إلى مساعدة الغريب، محبّاً للفقير، ناصحاً للمحتاج، يكاد لا يرفض طلباً لأحد»
رحمك الله رحمةً واسعة أيُّها المربي الفاضل، أيُّها التقيّ الورع، وسلامٌ عليك يوم ولدت ويومَ دُفنتَ ويومَ تبعثُ حيّاً.

جلال الدين الرومـي في تعليمـه الحكمي

لا تبــــــع نفســـك رخيصـــــاً وأنــت نفيـــسٌ جــدّاً فــي عيـــــن الحـــقّ!

يُعتبر جلال الدين الرُّومي مؤسِّس الطريقة المولويَّة، أحد أعظم مشايخ الصوفية؛ كما أنه يُعتبر شاعرها الأكبر وهو الذي خلَّف السفر النفيس «مثنوي»، و«ديوان كبير» و«شمس تبريز» وغيرها. لكن الرومي كان في الوقت نفسه مُرشِداً تتحلَّق حوله نخبة السالكين والباحثين عن الحقيقة. وقد جُمعت حواراته مع مُريديه في كتابٍ نفيس أُطلق عليه اسم: «فيه ما فيه»، وأصبح أحد أبرز المؤلَّفات التي تشرح حِكمَة الرومي وخُلاصة تعليمه. ويتطرَّق جلال الدين في هذه الحوارات _ التي ننشرها _ إلى أهمية الإخلاص في العبادة وإلى التقرُّب من الصالحين وأهل السرّ؛ كما يتناول «علماء زماننا الذي يفلقون الشَعرَة في العلوم»، وبينما ما هو أهمّ وأقرب إلى الإنسان من كلِّ تلك الأشياء، وهي النفس أو الذات، فلا يعرفونه.

سأل أحدهم جلال الدين الرومي: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصّلاة؟
أجاب: الصّلاة أيضاً؛ ولكن الصلاة ليست هذه الصورة الظاهرة فقط. فهذه هي قالب الصلاة، لأنَّ لهذه الصلاة بدايةً ونهاية. وكلُّ شيءٍ له بداية ونهاية يكون قالباً. لأنَّ التكبير بداية الصلاة، والسلام نهايتها. مثل ذلك الشهادة، فإنَّها ليست الصيغة التي تُقال باللسان فقط؛ لأنَّ تلك الصيغة أيضاً لها بداية ونهاية. وكلُّ شيء يُعبّر عنه بالحَرف والصوت ويكون له أول وآخر يكون صورة وقابلاً؛ أما روحه فغير محدَّدٍ ولا متناهٍ، وليس له أول ولا آخر.

ويروي جلال الدين هذه الحكاية للتأكيد على أهمية الإخلاص وحضور القلب في العبادة، مقارنة مع صورة العبادات. فيقول: “يُحكى أنَّ سلطان العلماء، بهاء الحق والدين، كان في أحد الأيام بين أصحابه لكن في حال من الاستغراق التام. ولمَّا حان وقت الصلاة نادى بعض المريدين هذا العارف الربَّاني أن: “حان وقتُ الصلاة”.

لم يلتفت الشيخ إلى قولهم، فنهضوا وانشغلوا بالصلاة، لكنّ اثنين من المريدين وافقا الشيخ فلم ينهضا للصلاة وكان واحد من أولئك المريدين المنشغلين بالصلاة يسمى خواجكى، وقد كشف له بعين السرِّ أنَّ كلَّ الأصحاب الذين كانوا في الصلاة كانت ظهورهم إلى القبلة، وأنَّ ذينك المريدَين اللذين كانا قد وافقا الشيخ كان وجههما إلى القبلة. تفسير ذلك أنَّ الشيخ عندما غاب عن (نحن) و(أنا) وفنيت هويته وتلاشى واستهلك في نور الحق “موتوا قبل أن تموتوا”، صار نور الحق. وكلُّ من يدير ظهره إلى نور الحق ووجهه إلى الجدار لا بُدَّ أن يكون قد جعل ظهره إلى القبلة. ذلك لأنَّ نور الحق هو روح القبلة.

تمسَّكوا بأذيال أهل الحق

قال أحد الملوك لدرويش: “في تلك اللحظة التي يكون لك تجلٍّ وقرب من الحق تذكَّرني”، فأجاب الدرويش:”عندما أصل إلى تلك الحضرة ويسطع عليّ ضياء شمس ذلك الجمال لا أعود أتذكَّر نفسي. فكيف أتذكَّرُك؟ ولكن إذا اختار الحق عبداً، وجعله مُستغرقاً فيه تماماً، فإنَّ كلَّ من يتمسَّك بأذياله ويطلب منه حاجة، يُلبِّي له الحق مطلبه من دون أن يذكره ذلك العظيم عند الحق ويعرضه عليه.
يُحكى أنه كان هناك مَلك وكان له عبدٌ خاص جداً، وعندما كان ذلك العبد يتوجَّه ناحية قصر الملك، كان أهل الحاجات يُسلِّمونه التماسات أو رسائل طالبين منه أن يعرضها على الملك. كان يضع تلك الالتماسات والرسائل التي فيها حاجات القوم في محفظته، لكنه كُلَّما دخل في حضرة الملك كان لا يستطيع أن يتحمَّل ضياء جماله، فيقع مغشياً عليه. وكان الملك يُدخِل يده في جيبه ومحفظته على سبيل الدعابة، قائلاً: “هذا العبد المندهش فينا المستغرق في جمالنا، ماذا لديه؟ كان يأخذ تلك الرسائل ويأمر بتنفيذ الحاجات المطلوبة فيها كلَّها بالكتابة على ظهورها، ثمَّ يُعيدها إلى محفظة عبده. وهكذا كان يلبّي حاجات الجميع من دون أن يعرضها العبد عليه، على نحو لا يرفض فيه أياً منها، بل كانوا يحصلون على مطلوبهم مُضاعفاً وأكثر من ذلك الذي كانوا يطلبونه. أمَّا العبيد الآخرون الذين كانوا واعين وقادرين على عرض التماسات أهل الحاجات على جناب الملك، فنادراً ما تُقضى حاجة واحدة من مئة حاجة أو مسألة من تلك التي كانوا يعرضونها.
يتابع جلال الدين الرومي القول: “هناك شيء واحد في هذا العالم لا ينبغي أن يُنسى، وإذا نسيت الأشياء كلها ولم تنسَ ذلك الشيء فلا داعي للخوف؛ ولو أنك أنجزت الأشياء كُلَّها وتذكرتها ونسيت ذلك الشيء، فكأنك ما فعلت شيئاً البتَّة. وهذا تماماً مثلما لو أنَّ الملك أرسلك إلى قرية من أجل عمل مُعيَّن، فذهبت وأدَّيت مئة عمل آخر، فإن لم تؤدِّ ذلك العمل الذي بعثك الملك من أجل تأديته، فكأنك ما أدَّيت شيئاً”. وهكذا، فإنَّ الإنسان جاء إلى هذا العالم من أجل عملٍ مُعيَّن، وذلك مقصوده وهدفه، فإن لم يؤدِّ هذا الذي جاء من أجله، فإنه لا يكون قد فعل شيئاً. وعندما يفعل ذلك العمل ُينفى عنه الظلم والجهل. وإذا قلت: “صحيح أنني لم أؤدِّ ذلك العمل، لكنِّني قمت بأعمال كثيرة غيره”؛ فإنَّ الإنسان لم يخلق من أجل تلك الأعمال الأخرى. كما لو أنك أتيت بسيف فولاذي من سيوف الهند التي لا تُقدَّر بثمن كتلك التي تتواجد في خزائن الملوك، ثمَّ جعلته ساطوراً لقطع اللحم الفاسد، أو كما لو أنك أتيت بقِدر مصنوعة من الذهب واستخدمتها آنية للطبخ في الوقت الذي تستطيع بحبة واحدة من ذلك الذهب أن تشتري مئة قدر، أو كما لو جعلت خنجراً مُرصَّعاً بالجواهر مسماراً لتعليق قرعة مكسورة قائلاً: “استفيد منه وأُعلِّق القرعة عليه”. أَلاَ يكون ذلك مُحزناً ومُضحكاً؟ عندما يمكن تعليق القرعة بمسمار من خشب أو حديد؟
الحق تعالى جعل لك قيمة عظيمة، إذ يقول:
{ إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهُمُ الجَنَّة } (التوبة:111)
أنتَ في القِيمةِ أَسمى من العالمين فما حيلتي إِن لم تكن تعرف قدرك؟
لا تبع نفسك رخيصاً وأنت نفيس جداً في عين الحق!
يقول الحق تعالى: “لقد اشتريتكم أنتم وأوقاتكم وأنفاسكم وأموالكم وحيواتكم. إذا ُصرِفت كلها في سبيلي وإذا أعطيتموني إيَّاها فإنَّ ثمنها جنَّة الخُلد. قيمتك عندي هي هذه”. لو بعت نفسك لجهنم لكنت قد ظلمت نفسك، مثل ذلك الرجل الذي دقَّ خنجراً قيمته مئة دينار في الجدار وعلَّق عليه جرّة أو قرعة”.
لنعد إلى ما كُنَّا قد بدأناه: “أنت تقدِّم تبريرك، قائلاً: “استنفذ طاقاتي في أداء أعمال عالية نبيلة. أدرس علوم الفقه والحِكمة والمنطق والنجوم والطب وغير ذلك، لكنك تفعل كلّ هذا من أجلك أنت. فإذا كنت تدرس الفقه فإنَّ ذلك من أجل أن لا يسرق أحد الرغيف من يدك، أو ينزع عنك لباسك أو يقتلك. باختصار من أجل أن تكون في أمان. وإذا كنت تدرس النجوم وأحوال الفلك وتأثيرها على الأرض من خِفَّة وثقل، فإنَّ هذه الأشياء من أجلك أيضاً”.
عندما تتأمَّل جيِّداً تجد أصل الأشياء كلّها نفسك. وهذه الأشياء جميعاً فرع لنفسك. وعندما يكون لفرعك الكثير من التفاصيل والعجائب والأحوال والعوالم العجيبة التي لا نهاية لها، فتأمل ما يكون لك، أنت الأصل من أحوال. عندما يكون لفروعك عروج وهبوط

 

الصلاة ليست الصورة الظاهرة فقط، بل في الإخلاص وحضور القلب مع المولى

وسعدٍ ونحس، فتأمل نفسك أنت الأصل ماذا يكن لك من عروج وهبوط في عالم الأرواح، من سعد ونحس ونفع وضر!
إنَّ لك غذاءً آخر غير هذا الغذاء من النوم والأكل. قال النبي (عليه الصلاة والسلام):
“أَبيتُ عند رَبِّي يُطعمني ويسقيني”.

في هذا العالم الوضيع نسيتُ الغذاء السماوي، وشغلت بهذا القُوتِ المادي. وأخذت ليلاً ونهاراً تغذي جسمك. والآن فإنَّ هذا الجسم هو جوادك وهذا العالم الوضيع إصطبلك. إنَّ غذاء الفرس لا يكون غذاءً للفارس، إذ إنَّ للفارس نوعاً خاصاً من النوم والطعام والتنعّم. ولكن لأَّن الحيوانية والبهيمية غلبتا عليك فقد تخلَّفت عن جوادك في إصطبل الخيل، ولم يكن لك مقام في صفّ ملوك عالم البقاء وأمرائه. قلبك هناك، وعندما غلب عليك الجسد صرت خاضعاً لحُكمِهِ، وبقيتَ أسيراً له.
وهذا مثلُ ما يحكى من أنَّ أحد الملوك أَسلم ولده إلى جماعة من أهل البراعة حتى يعلِّموه علوم النجوم والرمل وغير ذلك، حتى غدا أستاذاً كاملاً، على الرغم من غبائه المُطبق وبلادته. وفي يوم من الأيام أمسك الملك في قبضته خاتماً وامتحن ابنه.
“تعال، قل ماذا في قبضتي؟”
قال الأمير: “الشيء الذي تمسكه مدوَّر وأصفر ومجوَّف”.
قال الملك: “أمَّا وقد قدَّمت العلامات الصحيحة، فقرِّر الآن أي شيء ذلك؟”.
أجاب الأمير:”ينبغي أن يكون غربالاً”.
قال الملك: “حقاً، أعطيت كلّ هذه العلامات الدقيقة الكثيرة ما يحيِّر العقول، وإذ لك كلّ هذا القدر من قوَّة التحصيل والعِلم، كيف فاتك أنَّ الغربال لا تتسع له قبضة اليد؟”.
ومثل هذا الآن حال علماء زماننا الذي يفلقون الشَعرَة في العلوم وقد عرفوا غاية المعرفة أشياء عديدة لا تَعلّق لها بهم، وصارت لهم إحاطة كاملة بها؛ وأمَّا ما هو مهمٌّ حقاً وأقرب إلى الإنسان من كلِّ تلك الأشياء، أي نفس الإنسان، فلا يعرفه ذلك العالم؛ لا يعرف نفسه. يحكم على الأشياء كُلَّها بالحِلّ والحرمة قائلاً: “هذا جائز وذلك غير جائز، هذا حلال وذلك حرام. لا يعرف نفسه إن كانت حلالاً أم حراماً، جائزة أم غير جائزة، طاهرة أم غير طاهرة”.

المصدر: “فيه ما فيه” لمولانا جلال الدين الرومي

الحكيم سقراط في حياته وتعليمه

حتلُّ المعلم الأكبر سقراط موقعاً محورياً في وجدان أهل التوحيد ومعتقدهم. وهذا الموقع الأساسي الذي يحظى به بين مشايخهم وزُهَّادهم والسالكين الجَّادين منهم، له بالطبع أساسه المتين في ما نُقِلَ عبر التاريخ، وخصوصاً عبر مؤلَّفات معاصريه أو تلامذته (أفلاطون وزينوفون وغيرهما) من أخباره وحِكمته وزُهده وإِبائه وتعليمه وأثره الهائل الذي طبع كافة التيَّارات الفكرية والفلسفية بعده؛ كما أنَّ تعظيم الموحِّدين الدروز لـ سقراط الحكيم، هو في الوقت نفسه دليل بين دلائل كثيرة على الجذور الكونية لمسلك التوحيد، كما أنه برهان على الصلة بين التعليم السقراطي وبين ما انطبع عليه الموحِّدون الدروز من نسق خاص في العبادة والتأمُّل والمجاهدة والمراقبة، وما تاق إليه شيوخهم التقاة على الدوام من فقر واحتقار للدُّنيا واستقامة وصدق وتسليم وخضوع تام للخالق العلام. ولهذا السبب وجدنا أنَّه من الفوائد الكبرى للموحِّدين أن يطلعوا بصورة أفضل على حقيقة سقراط وأن يحيطوا جيداً بشخصيته وسلوكه وشمائله وتعليمه، ليروا فيها إعزازاً للمسلك وتوضيحاً للطريق ورفعاً للأوهام وحثّاً على الجِدِّ والاستقامة في العبادة، اقتداءً بهذا المُعلِّم وبإرشاده السامي للطالبين والمجاهدين في كلِّ زمان ومكان.

نشأته وظهوره

بعد مضي أكثر من 2480 عاماً على ولادته لا تزال حياة الحكيم سقراط لغزاً كبيراً، لكن المعروف عنه أنَّه وُلِدَ وترعرع وعاش وعَلَّم الأثينيين الحِكمة في ما اعتبر العصر الذهبي لأثينا، وهي الفترة التي امتدَّت بين العامين 469 و399 قبل الميلاد والتي تمكّن اليونانيون خلالها، ليس فقط من صد توسُّع الفرس في معركة ماراثون في العام 490، بل إلحاق هزيمة كبيرة تالية بهم في العام 480 ق.م. في معركة سالاميس، ثم في بلاتاي في العام 479 ق.م. وقد نجم عن هاتين المعركتين ردُّ الفرس على أعقابهم وتمتَّع اليونان بمرحلة طويلة من الأمن والازدهار.
وكما يحصل دائماً فإنَّ البحبوحة والسلام يجلبان معهما المتناقضات. فهناك من جهة مظاهر البذخ والإسراف والتعلّق بزينة الحياة مثل المال والجاه والتسابق على الفوز بمغانمها، لكنه وبالنظر لتحرّر الناس من جهد العمل (وقد كان الاقتصاد اليوناني قائماً على جهود العبيد)، فإنَّ العديد منهم ستتاح له فرصة الإطلاع والبحث في الفلسفة والفنون والترقِّي بنفسه في معارج العلوم. وليس صدفة أن تكون المدرسة الأثينية ازدهرت في تلك الحقبة بالذات لتُخلِّف للبشرية إرثاً هائلاً ما زلنا إلى اليوم ننهل من نفائسه.
في هذه الحقبة الخاصة بالتاريخ اليوناني عاش سقراط، ويمكن القول مع بعض أهل الحقّ أنَّ وجوده في أثينا كان في حدِّ ذاته رحمة جلبت لها ولليونانيين المِنعة والقوَّة والازدهار، رفعت عنهم السيف المُسلَّط للتوسّع الفارسي. وقد عاش سقراط في أثينا 70 عاماً تقريباً، وعَلَّم فيها بلا انقطاع طوال أربعين عاماً ممَّا يعني أنه كان بلغ أعلى مراتب الحِكمة وهو بعد في سن الثلاثين.

شغفه بالحقيقة وتعلُّقه بالحُكماء

ينقل أفلاطون عن معلمه سقراط أنه «كرّس حياته كلها لمعرفة الحِكمة وأنه لم يصرف أيّ وقت للهو أو المِتع أو لشؤون البيت، وإنه لهذا السبب كان في فقر دائم بسبب تكرّسه لخدمة ربَّه. وفي كتاب فيدو لـ أفلاطون يشرح سقراط تطوّر تعلّقه بالعِلم ومسيرته كالتالي:
«عندما كنتُ شاباً كان لديّ شغف كبير باكتساب الحِكمة، إذ بدا لي أنَّ من أروع الأمور أن تعرف أصل كل شيء. لماذا يخلق الشيء ولماذا يختفي من الوجود، أو لماذا ظهر إلى الوجود». يضيف سقراط أنه قلَّب الأمور على كل الوجوه، وحاول إيجاد تفسير للوجود عن طريق علائق الأشياء وقوانين الأسباب، لكنه لم يصل إلى نتيجة. لكن حدث أن كان في جمع واستمع لأحدهم يقرأ نصاً لـ «أناكزاغوراس» يقول فيه أنَّ الفكر هو الذي يرتِّب

ويتسبَّب بظهور كل شيء. و«عندها شعرت بالرضى لهذا القول، وبدا لي مقنعاً بالفعل القول بأنَّ الفكر هو في أساس وجود كل شيء لأنني كنتُ في قرارة نفسي أعتقد ذلك». هذه الشهادة لـ سقراط ساهمت مع غيرها في اعتقاد العديد من أهل عصره، بأنه أخذ الحِكمة على يد أناكزاغوراس بينما ذكرت أنباء أخرى وبعض المقاطع في كتابات أفلاطون أنَّ سقراط تعرّف على بارمنيدس، أحد أشهر فلاسفة التوحيد في عصره، عندما كان في يفاعه. وقد ذكر سقراط في ما بعد أنه لاحظ استخدام بارمنيدس لأسلوب السؤال والجواب (الديالكتيك)، بينما قال ديوجين لـرتيوس أنَّ سقراط تعلَّم على يد أناكزاغوراس ودايمون وأرشيلاوس.
في جورجياس يشرح سقراط للحضور أنه كان مُتعلِّقاً بالحقيقة طوال عمره، «وأنّ من الأفضل لي أن يكون العَالم كلّه ضدِّي ويعارضني، على أن أكون أنا متعارضاً مع نفسي أو أن أناقضها» وفي دفاعه عن رفضه الهرب من السجن يقول سقراط أنَّ الحياة في حدِّ ذاتها ليست ثمينة إلى هذا الحدّ، بل الحياة السعيدة أو الفاضلة. لذا فإنه لن يقوم بما هو مذموم أو شرير ردّاً على ما قد يوقعه الآخرون به من شرٍّ. ولهذا قرَّر عدم الفرار من السجن وبالتالي قبول الموت.

توحيده وكتمه لعقيدته

على الرغم من إيمانه الراسخ، فإنَّ سقراط اتّبع سياسة كتم عقيدته بسبب طغيان العقائد الفاسدة لدى حُكَّام أثينا وعامتها. ومن مظاهر كتم الإيمان ما ذكره في دفاعه أمام هيئة المُحلِّفين من أنه يحترم عقيدة الدولة ويدعو الآخرين لاحترامها، وأنه كان يقدِّم الأضاحي في المناسبات الدينية اقتداءً بالكُهَّان وخادمات معبد دلفي. ومن مظاهر تكييف إيمانه حديثه عن الإله بصيغة الجمع (الآلهة)، لكن مع التأكيد لأهل أثينا أنهم «يعلمون الغيب وكل ما تخفي النفوس من أعمال أو خواطر وأنَّ وجودهم محيط بكلِّ شيء، وأنهم يوحون للإنسان بما يعينه على طاعتهم أو يهدونه بالوحي». ولو رفعنا صيغة الجمع التي كان سقراط مضطراً لاستخدامها ووضعنا محلها صيغة التوحيد التي كان يؤمن بها وأسرَّ بها دوماً إلى المُقرَّبين منه لكان كل وصفه لآلهة اليونان هو في الحقيقة وصف للحقِّ تعالى.
على العكس من تصريحه العلني، فإنَّ حديث سقراط في مجلسه الخاص أو مع مريديه الخلص كان يشير إلى الله دوماً بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع. وعلى سبيل المثال نرى سقراط يُعرب في كتاب أفلاطون «دفاعاً

تكرّس بكامله للمعرفة، ولم يصرف أيّ وقت للهو أو مشاغل البيت أو كسب ما يفوق حاجته، وعاش حياته لذلك في فقرٍ دائم

عن سقراط «عن شكِّه في المحاكمة وفي نتائجها المحتملة، لكنه يضيف القول كل ما أرجوه هو أن يكون في هذه المحاكمة مرضاة لربي لأنَّ مشيئته (شريعته) لا بُدّ من أن تُطاع. وأضاف سقراط القول إنه حتى ولو قرَّرت المحكمة تبرئته فإنه لا يمكن أن يتوقَّف عن حثِّ الناس على اتِّخاذ طريق الحِكمة والفضيلة والاعتناء بالروح، وأنه يُفضِّل الموت على أن يعصى الله لأنه مؤمن بأنَّ الله بعث به إكراماً لأثينا وأنَّ الأثينيين لم يحصلوا في حياتهم على قدر الخير الذي حمله إليهم بسبب طاعته وخدمته لربِّه. بل إنَّ سقراط أضاف القول أنه لن يغيِّر طريقه حتى ولو تعين عليه الموت مرات عدة. وحتى عندما كان يواجه الموت لم يكن في قلب سقراط أيّ ذرَّة خوف لاعتقاده بأنَّ الإنسان الصالح لا يمكن أن يمسّه سوء لا في الحياة ولا في الموت، لأنَّ الله لا يمكن أن يهمل عباده». وكان سقراط مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال.
من أبلغ الأدلَّة على توحيد سقراط هو أنه دفع حياته في النهاية ثمناً له. فالتهمة التي وُجِّهت إليه من قِبَل ثلاثة أشخاص هم: مليتوس، وكان يمثِّل الشعراء، وأنيتوس، وكان يُمثِّل الحِرفيين والسياسيين، وليكون، وكان يُمثِّل فئة الخطباء هي حرفياً التالية:
«سقراط لا يؤمن بالآلهة الرسمية التي تؤمن بها الدولة وهو أحلَّ محلَّها ربّاً جديداً، كما أنه وبسبب ذلك مُتَّهم بإفساد عقول الشباب في أثينا عبر زعزعة معتقداتهم».
وقد ذكر زينوفون في ما بعد أنَّ اهتمام هيئة المُحلَّفين التي حاكمته، كان منصباً على معتقد سقراط الديني وما كان يُردِّده من أنه يحمل رسالة ذات مصدر إلهي».

كان مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يُحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال

بين الدُّنيا والدين

يخبر زينوفون عن سقراط قوله أنَّه من الحماقة الاعتقاد بأنَّ العقل البشري يمكنه الإحاطة بكافة الأمور من دون معونة أو هدي من الله. لكن سقراط كان يعتبر أنَّ من الحمق أيضاً اللجوء إلى المشيئة الإلهية في كل شاردة وواردة، مثل أن يسأل إنسان ربًّه مثلاً هل يستأجر لرحلته قائد مركبة مجرب أم آخر لا خبرة له. أو كأن يسأل هل يركب سفينة يقودها قبطان ذو خبرة أم سفينة أخرى يقودها قبطان مبتدئ، أو أن يسأل في أمور الحساب أو القياس أو غيرهما ممَّا هو في متناول المعرفة العقلية. وفي رأيه أنَّ ما وهبه الله لنا ممّا يمكن تعلّمه يجب تعلّمه، لكن ما هو محجوب عن البشر العاديين فلا بُدَّ من السعي لكشفه عن طريق الوحي أو عن طريق رجل عارف يحظى بفضل الله بالبصيرة والإلهام لمعرفة تلك الأمور.

زهده وفقره

كثير من الفلاسفة وطلاُّب الحقيقة ربما أهملوا الكثير من مظاهر الحياة المادية، لكن لا يوجد في تاريخ الحِكمة اليونانية من عاش ببساطة وفقر مطلق كما عاش سقراط. وقد كان الحكيم عظيماً في نفوذه ومشهوراً وكان الناس يتهافتون لعرض المساعدة والمال عليه، لكنه كان يرفض بإصرار. في المقابل كان العديد من السفسطائيين يعيشون في أبهة وبحبوحة من جرّاء الأموال التي كانوا يتقاضونها لقاء إعطاء الدروس في كسب الحجج الباطلة، وكان سقراط لا يخفي احتقاره لهم.
وصف أريستوفان سقراط بأنه كان «سائحاً في الأرض» عاري القدمين، بينما أشار تلميذه زينوفون بأنَّ معلمه كان دائم التجوّل وأنه كان يبدأ يومه بالخروج صباحاً إلى الحدائق والطرق العامة وأماكن التدريب، وأنه كان يقضي منتصف النهار في الأسواق وبقية النهار في أيِّ مكان تواجد فيه الناس. وكان عادة يقدّم حِكمته إلى من شاء الاستماع من دون أيِّ قيد.
شرح سقراط أثناء محاكمته كيف أنه أهمل تحصيل المال أو امتلاك الأرض، وهي أمور يحرص معظم الرجال عليها، لأنه أشرف من أن يضيِّع الوقت على هذه الأمور الجوفاء في وقت يمكنه أن يُنفِق الوقت على تقديم أعظم خدمة للناس وهي تشجيعهم على سلوك درب الحِكمة والخير. وأخبر زينوفون أنَّ كلّ ممتلكات سقراط كان يمكن بيعها بخمس دوانق ذهبية، مع ذلك فقد كان سقراط يؤكِّد بأنه يشعر دوماً بأنه غني فعلاً لأنه ليس في حاجة للمزيد من المال. وفي كتبه عن ذكريات عن سقراط وروى ديوجينوس لـرتيوس أن سقراط رفض عرضاً من شارميدس منحه بعض العبيد الذين يمكن أن يحقِّقوا له عائداً يُعينه في عيشه. كما سعى صديقه ألسيبيادس لمنحه قطعة أرض كبيرة ليبني عليها بيتاً، لكن سقراط رفض العرض وأجاب صديقه بالقول: لنفرض أنَّ بعضهم قدَّموا لي جلد بقرة ذبيحة لأصنع منه زوجاً من الأحذية، ألن يكون من المثير للسخرية أن أقبل بتلك الهدية. وهو كان يعني أنَّ قطعة الأرض ستفرض عليه إيجاد المال اللازم لبناء بيت وهو ما سيفرض عليه التخلِّي عن فقره.. . وذكر ديوجينوس في كتابه عن حياة أريستيبيس أنَّ هذا الأخير كان الأول من تلامذة سقراط الذي جلس للتعليم وتقاضى المال عليه. وفي إحدى المرات أرسل إلى سقراط 20 ديناراً لكن المُعلِّم رفض استلامها وأعادها إليه قائلاً إنَّ الهاتف الإلهي يمنعه من أخذها؛ ويضيف ديوجينوس أنَّ مجرد عرض المال من أريستيبيس كدّر خاطر سقراط على تلميذه.
ويروى أنه كان يمرُّ في الأسواق ويرى جملة البضائع والأشياء المعروضة فيها، فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لك كم من الأغراض أعنتني على تركها»؛ وكتب ديوجينوس لـ رتيوس أنَّ حياة سقراط تميَّزت بدرجة عالية من الانضباط، حتى أنه حصل في أكثر من مرّة أن انتشرت أوبئة في أثينا لكن سقراط كان الرجل الوحيد الذي لم يصل إليه المرض. وعلى الرغم من أنه لم يقبل أخذ المال أبداً فإنه عندما كان البعض يرسل إليه قمحاً أو زاداً

كان يأخذ منهما القليل ويردّ الباقي.

السيطرة على النفس

كان لـ سقراط مقدرة غير عادية على احتمال التعب والجوع، ثمَّ وبصورة خاصة احتمال البرد. وكل هذه الخصائص اختبرها زملاؤه خلال الحملة العسكرية التي شارك فيها سقراط على منطقة «بوتيده» وكانت في الشتاء وفي منط

قة تتميَّز بالثلوج والصقيع. وقد ذكر صديقه ألسي

بيادس كيف كان سقراط غير مُبالٍ بالجوع فيما كان الآخرون يتضوّرون من قِلَّة الطعام. أما عن احتماله للبرد فقد ذكر أنه بينما كان الجميع يختبئون في الداخل من الصقيع وإن خرجوا يرتدون الثياب الصوفية السميكة ويلفون أرجلهم باللبَّاد والصوف، فإنَّ سقراط كان يتنقل على الجليد حافي القدمين وبثوبه العادي بخِفَّة وسهولة تفوق أولئك الذين تدثَّروا الصوف وانتعلوا الأحذية الجلدية، وكان هؤلاء يرمقون سقراط بنظرات غريبة قد ظنوا بأنه بسلوكه هذا إنما كان يستهين بهم.
كان حليماً إلى أقصى الحدود، ولم يُرَ إطلاقاً غاضباً أو حانقاً. هذا على الرغم من أنَّ طريقته المُحرجة في طرح الأسئلة والحوار كانت تثير بعض صغار العقول، فكانت تأخذهم الحمية فيتعرَّضون له بالكلام النابي أو حتى بالعنف. لكن سقراط كان يستقبل هذا العنف الجسدي أو الكلامي بطيبة خاطر، وغالباً ما تمكَّن من تغيير الجوِّ بفضل أسلوبه المرح وروح الدعابة التي كان يظهرها. وقد سأله بعض أصدقائه يوماً: أَلاَ تجد بعض الناس من الغلظة بحيث لا يمكن احتمالهم. فأجاب: كلاَّ لأنَّ أيَّ شجار يحتاج إلى اثنين. فهم إن أظهروا عيوبنا فقد أفضلوا علينا، وإن لم يظهروها فإنهم لن يمسّونا بسوء.

تواضع الحُكماء

أهمّ صفة رافقت عِلم سقراط وحِكمته العظيمة كانت صفة التواضع والورع الشديد، مثل تأكيده الدائم لتلامذته وأصحابه أنه «ليس معلِّماً وإنَّما مجرد هاو للعلم» وهذا في الوقت الذي كان حريصاً فيه على مدح الآخرين وتعظيم شأنهم وشأن معرفتهم. بعض الناس في زمانه اعتبروا ذلك تصنُّعاً أو تظاهراً، لكن سقراط كان كمُعلم يقدّم المِثَال للآخرين بأنه لا يمكن لأحد أن يتعلَّم الحِكمة ما لم يعتبر نفسه جاهلاً في الأصل ولا يعتدُّ بعِلمه أو بما حصَّله قبل ملاقاته للحكيم. عُرِف عنه أنه لم يقل أبداً في حوار «لا أوافق»، بل كان ردُّه المؤدَّب أحياناً: لم استوعب النقطة أو الردّ بسؤال هدفه مساعدة المُحدِّث؛ وهو لم يوقف أي محادثة من تعب أو نفاد صبر وكان يرفق حجته بالكثير من الاحتياط والتحفُّظ بحيث يمكن

قبولها لمن يفهم أو تجاوزها أو اعتبارها مجرد محاولة لإيجاد حلٍّ أو تفسير. وفي كتاب أثيديموس لـ سقراط يعتذر سقراط لأصحابه عن «قصور فهمه» لهذه الأفكار المُعقَّدة ،حتى عندما تكون صائبة؛ مضيفاً القول: «إنني مُفكِّر خامل بل ربما قد أجنح أحياناً للإدلاء بآراء غريبة، لذا أرجو منكم أن تسامحوني».

نبوءَتُه وعِلمهُ بالغيب

كان سقراط يؤمن بقوَّة بأنَّ الله يهديه في كل خطوة يقوم بها، وأنه كان في بعض الحالات يستوحي مباشرة من الحضور الربَّاني معه. وفي آخر كتاب كريتو لـ أفلاطون يقترح سقراط على الحاضرين أن يقبلوا بنتائج الحِجَّة التي قدَّمها على اعتبار أنَّ الله إنَّما يهديهم عن هذا الطريق (أي عن طريق وضع الآيات الهادية على لسان سقراط). وقد أكَّد سقراط مِراراً بأنَّ مواهبه كلها وقدراته إنَّما هي إنعام عليه من الله.
وأبرز ملامح الاختبار الروحي لـ سقراط كان حديثه الدائم عن الروح المُرشد الذي كان يسميه daimon باللغة الإغريقية، وهو يؤكِّد في كتاب الجمهورية لـ أفلاطون أن ندرة من الناس أو ربما لا أحد أنعم عليه بالروح المُرشد الذي يقوده في كلِّ شيء. ويشرح زينوفون في مواضع عدَّة كيف أنَّ الحِسَّ النبوئي لـ سقراط كان من الوضوح والدِقَّة بحيث أنَّ العديد من أصدقائه وجلسائه كانوا يلجأون إليه، حيث كان ينصحهم

بفعل شيء ما أو الإحجام عنه وفقاً لوحي الروح العلوي، وقد حدث دوماً أنَّ الذين اتبعوا نصيحته نجحوا بينما الذين تجاهلوا نصيحته ندموا بعد ذلك. ويقول زينوفون أنه من الحماقة على أيِّ إنسان يرى عِلم سقراط للغيب ولا يؤمن من دون أيِّ شك أنه يتلقَّى ذلك مباشرة من الله. ويذكر سقراط أنَّ الروح المُرشد صدّه مرتين عندما بدأ يفكِّر في إعداد دفاعه أمام محكمة أثينا، وهو ما جعله يقرِّر أن لا يتقدَّم بأيِّ دفاع مُعدٍّ سلفاً.
ويذكر شيشرون في كتابه “عن التنبؤ” عدداً من القصص التي تؤكِّد حدس سقراط النبوئي وانكشافه على غيب الأمور. ففي إحدى المرَّات كان كريتو يهم بأخذ طريق تقع على جانبه شجرة كبيرة، وقد هرع سقراط لتحذيره من أخذ ذلك الطريق، لكن كريتو تجاهل تحذير سقراط ولم يكد يسير مسافة حتى سقط عليه غصن شجرة يابس وأصابه في وجهه. ورجع في اليوم التالي مُضمَّداً إلى سقراط الذي ذكره بتحذيره له. في حادثة أخرى كان سقراط ولاشيس قائده العسكري عائدين من معركة ديليوم عندما بلغا مفترقاً يتفرَّع منه ثلاث طرق، وقد رفض سقراط أخذ إحدى الطرق التي اقترحها لاشيس والآخرون فلما سألوه لماذا أجاب: إنَّ الله يحول دوني وذلك»، والحال الذين أخذوا الطريق الذي رفضه سقراط واجهوا فجأة فرقة من خيَّالة العدو.
في مؤلَّف للكاتب بلوتارك يورد الكاتب حواراً مُفصَّلاً لـ سيمياس عن «الهاتف الإلهي لـ سقراط»، ويذكر بصورة خاصة حادثة مثيرة وهي أنَّ سقراط حذّر مجموعة من الرجال عن أخذ طريق ما. لكن هؤلاء رغبة منهم في إثبات أنَّ تحذيره لا أساس له، قرَّروا أخذ ذلك الطريق لكنهم ما إن قطعوا مسافة صغيرة حتى واجههم قطيع هائج من الخنازير البريَّة، ونظراً لضيق ذلك الطريق فقد نشرت حوافر الخنازير الوحل على ثياب الرجال، كما أُلقي بعضهم أرضاً.

محاكمتهُ واستشهادهُ

تُعتبر محاكمة سقراط وما سبقها أحد أعظم الفصول التي يمكن لحكيم عظيم أن يختم بها حياته. وما زالت محاكمة سقراط من قِبَل هيئة محلَّفي أثينا محطةً بارزة في تاريخ البشرية وتاريخ الحِكمة والمواجهة بين الحقِّ والباطل. وما زالت وقفة سقراط وأسلوب مواجهته للموت والمواقف التي أعلنها خلال المحاكمة وبعدها مصدر إلهام لا ينقطع لأهلِّ السمو والمجاهدة والتسليم الحقيقي.
أول ما ميّز محاكمة سقراط أنه رفض الأخذ بخطاب دفاع قويٍّ أعدَّه أحد مريديه لاستخدامه خلال المحاكمة، وقد ردَّ سقراط على مريديه بالقول إنَّ الخطاب لا يلائمه. ويذكر زينوفون أن تلميذ سقراط هرموجينس حاول بدوره إقناعه، وهو أبرع من تحدَّث المنطق وقوَّة الحِجَّة بإعداد دفاعه الذي ينبغي أن يلقيه أمام لجنة المُحلَّفين؛ لكن المُعلم ردَّ عليه بالقول، أنه كلَّما بدأ التفكير في إعداد دفاعه فإنَّ الإشارات

الإلهية التي تَرِده كانت تصدّه عن ذلك.
بدلاً من خطاب مُعدٍّ سلفاً ألقى سقراط خلال المُحاكمة دفاعاً عفوياً وغير مُحضَّر بُنِيَ على العقل، وشرح للمُحلَّفين الأسباب التي دفعته لعدم الطلب من زوجته وأولاده الحضور وإلتماس البراءة له –كما كانت العادة في أثينا- وقد أدين سقراط بأكثرية ستين صوتاً من هيئة مُحلَّفين بلغ عدد أعضاؤها 501 عضو.
وطلب المدعي العام في القضية الإعدام لـ سقراط، وهي عقوبة يؤكِّد زينوفون أنها كانت مخالفة لقانون أثينا الذي يحصر إيقاع عقوبة الموت فقط بحالات الجُرم المشهود بالسرقة الموصوفة والخطف وسرقة المعابد.
وحسب القانون اليوناني فقد كان لـ سقراط الحقّ بالرد واقتراح عقوبة بديلة. وقد استخدم سقراط هذا الحقّ ليقترح –وهو المتأكِّد من أنه لم يرتكب ذنباً- أن تحكم هيئة المُحلَّفين بتقديم وجبة غذاء مجَّانية على حساب الدولة. وبالطبع فقد رفضت هيئة المُحلفين التي كانت أدانته هذا الطلب الذي يكاد يتَّسم بالسخرية منها؛ كما رفض سقراط النفي أو السجن باعتبارهما لا يليقان به، وانتهى إلى اقتراح تغريمه ديناراً ذهبياً واحداً. وكانت اقتراحات سقراط تعكس شخصيته القوية وفي الوقت نفسه عِزَّة نفسه الكبيرة، لكن هذه الاقتراحات قوبلت بالمزيد من الحنق من لجنة مُحلَّفين يسيطر عليها صلف النخبة وشعور السلطة، كما لا يوجّهها حقيقة مبدأ العدل وهي التي حكمت على العديد من الأبرياء في السابق. وقد ردَّ المُحلِّفون على سقراط بتصويت جاء نتيجته أسوأ من التصويت الأول، إذ بدل 80 من المُحلِّفين موقفهم ليصوِّتوا ضدَّ سقراط ويؤيِّدوا العقوبة.
وضع سقراط في السجن لكن تنفيذ عقوبة الموت به تأخُّر بسبب أعياد دينية مهمة، إذ كانت حكومة أثينا تُرسل سفينة إلى ميناء ديلوس كل عام لإحياء ذكرى مقدَّسة، وكان مُحرّماً تنفيذ أيَّة عقوبة بالموت طيلة المدة التي تستغرقها الرحلة وإلى حين عودة السفينة من مهمتها. ويبدو أنَّ إعصاراً وعواصف أخّرت رحلة عودة السفينة، وأعطت سقراط وتلامذته ومحبيه الفرصة لزيارة المُعلِّم يومياً والاستماع إليه في آخر أيَّامه. في هذه الأيام القليلة انصرف سقراط إلى كتابة شِعر بناه على حكايات أيزوب، كما ذكر لأصدقائه رؤية أوحي إليه فيها العمل على الموسيقى.

لا مُبالاته وهدوؤه التام في مواجهة الموت

في اليوم المُحدَّد لتنفيذ عقوبة الموت لـ سقراط أُزيلت الأغلال من قديه وأدخلت عليه زوجته زانتيبه وولده الصغير، كما أُدخل عليه من شاء من أصدقائه وتلامذته، وقد عرض أفلاطون الحكيم لتلك اللحظات الأخيرة بالتفصيل في حواريته الشهيرة فيدو. وكان سقراط يمضي في الحوار مع زائريه قبل تجرُّع السّم من كأس مُذهَّب؛ ويبدو أنَّ الحرس الأثيني اعترض على ذلك، مشيراً بأنَّ الحديث وما يرافقه من مشاعر

زينوفون:المُريد المُحبّ الذي سجَّل العديد

من جوانب شخصية وحياة سقراط

كان يمرُّ في الأسواق ويرى جُملة البضائع والأشياء المعروضة فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لكَ كَم من الأغراضِ أعنتني على تركها»

 

 

وانفعال قد يؤخِّر مفعول السمّ، لكن سقراط رفض التوقّف عن الحديث وعرض على الحَرس استعداده لتجرُّع السمّ ثانية وثالثة إذا اقتضى الأمر. ومع اقتراب الغروب توجَّه سقراط للاستحمام حتى يوفّر على النساء مهمة غسل جثته، وعندما سأله كريتو كيف يريد منهم أن يدفنوه قال سقراط: «عليك لكي تدفنني أن تُمسِك بي أولاً»، (وكان يعني بهذا القول الرُّوح، وأنَّ سقراط الروح لا يمكن دفنه)، لكنه أردف قائلاً: «أمَّا الجسد فيمكنكم دفنه بالطريقة التي ترونها مناسبة». وبعد أن استحمّ وَدَّعَ سقراط زوجته وولده الصغير، ورفض تأخير الإجراءات واتبع تعليمات الحَرس في تجرُّع السمّ وبالمشي في الغرفة إلى أن يشعر بثقل في رجليه، بعدها استلقى على ظهره وغطَّى نفسه ورأسه بالكفن القطني الأبيض، ثمَّ رفع الغطاء للحظة سائلاً صديقه كريتو أن يدفع نذراً بذِمَّته إلى إسكولابيوس، قديس الشفاء، ثمَّ غطَّى رأسه مجددا وأسلم الروح.
يُسجِّل زينوفون أنه لم يحصل في التاريخ أن واجه إنسان الموت بمشاعر النُبل والرضى التام التي أظهرها سقراط. ويضيف أنَّ سقراط شعر بأنَّ النِعمَة الإلهية شاءت أن توفِّر عليه مشقَّة الكهولة، مثل أن يفقد البصر أو السمع، أو أن يتبلَّد ذهنه أو يصاب بالخَرف. كما أنَّه بموته بهذه الطريقة، فإنه سيبقى أكثر وإلى الأبد في ذاكرة البشرية وأجيالها القادمة. ويتَّفق زينوفون مع أفلاطون في أنَّ سقراط رفض اقتراح عقوبات مُخفَّفة على هيئة المُحلَّفين، لأنَّ ذلك كان يعني إقراره بالتهم التي وُجِّهت إليه.

حوار سقراط الشهير مع السفسطائي أنتيفون

روي زينوفون هذا الحوار الخالد بين المُعلِّم سقراط وبين أحد السفسطائيين المدعو أنتيفون، والذي خاطب سقراط بالقول أنَّ الثمار التي يجنيها من الفلسفة هي مزيج من المرارة والتعاسة. فهو يحصل على أفقر الطعام والشراب ولا يمتلك سوى ثوباً واحداً يلبسه صيفا وشتاءً، ولا يمتلك معطفاً يقيه البرد أو حذاء. كل ذلك نظراً لأنه يرفض تقاضي المال على تعليمه، مع كلِّ ما يوفِّره المال من وسائل للسعادة والاستقلال، وما يشبع به حاجاته. وأضاف أنتيفون القول بأنَّ المُعلِّم يدفع تلامذته عادة للاقتداء به، ولهذا فإنَّ سقراط يمكن اعتباره مُعلِّماً للشقاء.
بماذا ردَّ سقراط على أنتيفون؟
قال: «يبدو يا أنتيفون أنك تعتقد حقاً بأنَّ حياتي بائسة للغاية، وأنا على يقين بأنَّك لو كنت في مكاني لكنت فضَّلت الموت على هذا النوع من الحياة. فلننظر إذاً ما هي مظاهر البؤس التي رأيتها في حياتي. ألا ترى أنَّ الذين يأخذون المال ملزمون بتنفيذ العمل الذي تقاضوا المال من أجل القيام به؟ وبما أنني أرفض تقاضي المال فإنه ليس في إمكان أي إنسان أن يلزمني بشيء لا أرغب به؛ أو أنك تظنُّ بأنَّ طعامي بائس لأنه ليس كاملاً مثل طعامك، أو ليس مغذِّياً؟ أو أنه من الصعب عليَّ الحصول على اللحم الذي تحصل عليه نظراً لنُدرته ولارتفاع ثمنه؟ أو أنَّك تظنُّ بأنَّ طعامك بصورة عامة ألذّ وأطيب من طعامي؟ لكن أَلاَ تظنُّ أنَّ المرء الذي يتمتّع بطعامه في كلِّ حال لا يحتاج إلى المرق مثل غيره؟ وأنَّ من يتمتّع بالشراب مهما كان قليلاً تقلُّ حاجته للبحث عنه عندما لا يكون متوفِّراً؟ أمَّا بالنسبة للأثواب، فإنَّ الناس تُبدِّل ثيابها كما تعلم وفقاً لحالات البرد أو الحرّ، كما أنَّ المرء ينتعل الحذاء حماية لقدمه من التشقّق أو صعوبة المشي. فهل بلغك أنني بسبب هذه النواقص أمضي وقتي في المنزل لا أخرج إلى الناس خوفاً من البرد؟ أو أنني أُنازع أي إنسان على الظلِّ في وقت الحرّ، أو أنني عجزت عن المشي والذهاب إلى أيِّ مكان أريده بسبب تقرّح قدميّ؟
ألاَ تعلم أنه في إمكان أيِّ شخص نحيل أو ضعيف الحال أن يمتلك وبفضل التدريب المناسب، قوَّة تفوق بكثير أيِّ شخص مفتول العضلات لكن لا يتبع التدريب المناسب؟ وبما أنَّك ترى كيف أني أُدرِّب جسدي على احتمال كافة الظروف، أَلاَ تعتقد بأنني في إمكاني احتمال أيّ ظروف شاقَّة قد تطرأ أفضل منك بسبب نقص التدريب لديك؟
أَلاَ تعلم أنَّ اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دوماً إذا أمكن للمرء اكتساب متع أكبر وأرفع، وهذه المِتع ليست فقط مصدراً للفرح الحقيقي، بل لأنَّ في الإمكان إدامتها والحفاظ عليها؟

اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دومـــــاً إذا أمكن للمرء اكتساب المِتَع الأرفع والفرح الحقيقي الذي يدوم

وأنت تعلم أيضاً أنَّ من يعتقد أن لا شيء في حياته يسير على ما يرام، هو إنسان شقي حتى ولو كان يعيش في يُسرٍ مادي وبحبوحة، وأن من يعتقد بأنه موفَّق في مهنة الزراعة أو الملاحة أو أيِّ عمل آخر سيكون سعيداً بمجرد اعتقاده بأنه موفَّق في هذه الأمور؟ وهل تعتقد أنَّ هناك في الحياة أجمل من فكرة «أنني أرتقي كلَّ يوم في طريق الخير وأنني أكسب أصدقاء أفاضل»، وهذا في الواقع هو اعتقادي الدائم؟ أضف إلى ما سبق أنه لو احتاج أصدقائي أو احتاجت مدينتي إلى المعونة فمن هو الأقدر على التلبية؟ الشخص الفقير مثلي الذي يملك كلَّ الوقت والحرية، أو ذلك التي تصف حياته بأنها مليئة بالسعادة؟ من الذي سيجد الانخراط في الجندية دفاعاً عن المدينة أسهل عليه؟ هل هو الذي لا يمكنه العيش دون الطعام غالي الثمن، أو الذي يرضيه الحصول على أيِّ شيء يسدّ جوعه؟ ومن ذا الذي بحال تعرُّضه للحصار سيستسلم أولاً؟ ذاك الذي تتعلّق نفسه بالحصول على أشياء من الصعب الحصول عليها في ذلك الظرف، أم الذي يكتفي بأيِّ شيء يجده آنذاك؟. يبدو لي يا أنتيفون أنك تعتبر أنَّ السعادة هي في الحصول على أفخر الأشياء والإسراف في العيش، لكن اعتقادي بالمقابل هو أنه من ليست له حاجات هو في مقام ربَّاني، وأنَّ من يملك أقل شيء ممكن يأتي في المرتبة التالية من الرِفعة المعنوية لأنَّ المقام الربَّاني هو أعلى المقامات وأنَّ أيَّ سلوك يقترب منه يكون بالتالي أقرب إلى ذلك المقام.

غزوة بدر

غزوة بدر الكبرى

الموقعة التي غيّرت وجه التاريخ

لا الله الا الله
لا الله الا الله

 

 

مهّدت لسقوط مكّة بعد ست سنوات وفارس والعراق بعد 10
وسقوط الحكم الرومي في بلاد الشام ومصر وفلسطين

الرسول أدخل في بدر لأول مرة تكتيك القتال بالصفوف
والدفاع بدل الهجوم وكان لقيادته أثر السحر في المجاهدين

توافق جميع المؤرخين، وليس المؤرخون المسلمون فقط، على اعتبار موقعة بدر أو غزوة بدر الكبرى التي حصلت في السنة الثانية للهجرة الحدث الذي غيّر وجه التاريخ البشري بكل معنى الكلمة. فلقد خرج الرسول (ص) والمسلمون إلى تلك الغزوة وهدفهم المباشر الإستيلاء على قافلة تجارية ضخمة لقريش عائدة من بلاد الشام ويقودها الزعيم القرشي أبو سفيان بن حرب، وخرج المسلمون لأول مرة بقوة كبيرة فاقت الثلاثمائة مقاتل بسبب المعلومات التي وصلتهم عن وجود 40 مقاتلاً من قريش يحرسون القافلة من أي اعتداءات محتملة، لكن قائد القافلة أبو سفيان كان من الخبرة والفراسة بحيث تمكّن من كشف نيّة القوة الإسلامية المغيرة وحوّل طريق القافلة ساحلاً وتمكن بالتالي من إيصالها بسلام إلى مكة، لكنه وبينما كان يناور بالقافلة بهدف

رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال
رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال

إنقاذها أرسل على عجل إلى مكة أحد رجاله لينذر أهلها بالخطر القادم ويحثهم على إرسال نجدة ضخمة يمكنها أن تواجه جيش المسلمين. وبالفعل استنفرت قريش وأرسلت جيشاً كبيراً يضم خيرة فرسانها وقادتها لمواجهة حاسمة مع المسلمين.
المفارقة هي أن أبا سفيان أرسل إلى قريش طالباً من القوة العودة إلى مكة على اعتبار أن القافلة وصلت الحمى بأمان، لكن أبا جهل كان مصراً على قتال المسلمين خصوصاً بعد أن بلغه الفارق الكبير في القوة بين الجيشين لصالح قريش، كما إن حكيم قريش عتبة بن ربيعة وافق أبا سفيان بضرورة عودة الجيش إلى مكة واجتناب سفك الدماء وهو حذر قومه بالقول: “يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا”.
رغم كل تلك النداءات مضت قريش إلى المواجهة معتدّة بقوتها وفرسانها وأموالها لتلقى على يد المسلمين الفقراء هزيمة نكراء قضت على 70 من صناديدها وأعطت المؤمنين والرسول (ص) نصراً عزيزاً قلب موازين القوة ومهّد لانتصار المسلمين وانتشار الإسلام في زوايا المعمورة بأسرها.
لهذا السبب، اعتبرت غزوة بدر من الأحداث التي غيّرت مجرى التاريخ، أي أنها في حدّ ذاتها كانت غزوة عادية وموقعة بين المسلمين والمشركين لكنها بسبب التوقيت الذي حصلت فيه وحجم الهزيمة التي لحقت بقريش تحوّلت إلى شرارة لأحداث هائلة لم تكن ربما في حساب المسلمين أنفسهم. ومن الأمور اللافتة أن الله سبحانه أطلق على نصر بدر في القرآن الكريم وصف “يوم الفرقان” وهو اليوم الذي فرّق به الله تعالى بين عالم قديم متخلف وبين مشروع الدولة الإسلامية التي أرست غزوة بدر قواعدها على أسس من العزة والهيبة والثقة بالنفس.
ولنذكر أن غزوة بدر حصلت يوم 17 رمضان وبعد سنتين من هجرة الرسول (ص) والمسلمين من مكة إلى المدينة نتيجة اضطهاد لا يطاق من قريش وقيام المجتمع الإسلامي الصغير في مدينة يثرب وسط قبيلتي الأوس والخزرج وعشائر اليهود. يومها كان الرسول (ص) قد بدأ يشن من قاعدته في المدينة نوعاً من حرب استنزاف لقريش من خلال سلسلة من الغزوات التي استهدفت إرهاق تجارتها والاستيلاء على بضائعها بهدف تمويل اقتصاد المدينة المتواضع والقيام بحاجات المجتمع الإسلامي الناشئ، لكن تلك الغزوات كانت معزولة وضعيفة الأثر باستثناء غزوة مهمة حصلت قبل قليل من موقعة بدر وسميت “سريّة نخلة” وقد حصلت في آخر يوم من رجب للسنة الثانية من الهجرة على مسافة بعيدة من المدينة المنورة وقريبة من عقر دار قريش مكة، وقد تميّزت الغارة بجرأة كبيرة وأدت لأول مرة إلى مغانم مهمة للمسلمين وقتل فيها أحد الحراس الأربعة للقافلة وأسر اثنان وفرّ الرابع. وبالنظر إلى التحدي الذي حملته الغزوة فإنها أحدثت توتراً غير مسبوق في قريش ودخل اليهود الذين كانوا متضايقين من وجود المسلمين في المدينة على خط تحريض قريش على الانتقام للغزوة وإخراج محمد (ص) أصحابه منها.

وبصورة عامة، فإن وضع المسلمين في المدينة، بعد سنتين من الهجرة، لم يكن مستقراً لأنهم كانوا لا يزالون أقلية وسط قبيلتي الأوس والخزرج وقبائل اليهود، وكانت قريش في مكّة في أوج قوتها وقبائل الأعراب تحيط بالمدينة من كل جانب، وهذه الأخيرة كانت تعيش قبل ذلك على الإغارة والسرقة، إلا أن قيام مجتمع إسلامي في المدينة حدّ من نشاطها وأثّر عليها اقتصادياً.
وبصورة عامة، فقد كان المسلمون يتحلّون بإيمان لا حدّ له وولاء مطلق للرسول (ص)، لكنهم كانوا لا يزالون بعيدين عن أن يصبحوا قوة يحسب حسابها ويمكن أن تبدّل واقع الجزيرة العربية، لكن المسلمين حالفهم التوفيق بسبب غرور القوة الذي كان يسيطر على قريش باعتبارها القبيلة الكبرى في الجزيرة، وبسبب عدم تقدير تلك القبيلة المنيعة لخطر الثورة الأخلاقية والروحية التي كان يحملها الإسلام، لذلك استهانوا بالرسول (ص) وصحابته وقتاً كان كافياً لتعاظم قوة المسلمين وتحولهم في وقت لاحق إلى تهديد لم يعد في إمكان قريش ردِّه أو حتى إنقاذ نفسها من سيله العرم.

رسم توضيحي لغزوة بدر
رسم توضيحي لغزوة بدر

تكتيك حربي غير مسبوق

ابتكر الرسول (ص) في قتاله في يوم بدر أسلوباً جديداً في مقاتلة الأعداء، لم يكن معروفاً من قبلُ عند العرب، إذ قاتل بنظام الصفوف، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في سورة الصف في هذه الآية: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ{ (الصف:4) وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة، وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعاً لقلة المقاتلين أو كثرتهم، وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، واتبع الرسولُ (ص) أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده سبباً في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر على العدو برغم تفوقه الكبير عدداً وعِدّة.

نصر يبدّل الموازين
لكن كيف تحول مشروع غزو لقافلة تجارية إلى معركة عسكرية تواجهت فيها لأول مرة على نطاق كبير جماعة المؤمنين المستضعفة مع سلطان قريش؟ لقد خرجت أكبر قبائل العرب بقضها وقضيضها لمواجهة المسلمين، أما هؤلاء فرغم أنه كان في إمكانهم حشد جيش كبير فإنهم قدموا في ثلاثمائة رجل فقط وفرسين على اعتبار أن ذلك العدد كاف للسيطرة بسهولة على قافلة أبي سفيان، كما إنهم اصطحبوا معهم سبعين بعيراً كانوا يتناوبون ركوبها بينما يتابع الباقون الرحلة سيراً على الأقدام. لقد جاء المسلمون للغزو ولم يكونوا يتوقعون مواجهة عسكرية مع أقوى قبائل العرب.

تفوق قريش عدداً وعدّة
علم الرسول الكريم بنجاة قافلة أبي سفيان كما إنه علم بأمر الجيش القادم لقتال المسلمين وكان يمكن للمسلمين في ضوء ذلك أن يقرروا أن الغزوة فقدت مبررها وأن يعودوا بالتالي إلى المدينة بدل المواجهة، لكن الرسول (ص).قرر استشارة أصحابه في الأمر وبدأ بالمهاجرين الذين أجمعوا على الفور على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو، ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب والمقداد بن الأسود، إذ قال المقداد بن الأسود (وهو من الصحابة المهاجرين) للرسول (ص): “يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: }قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{ ولكن امضِ ونحن معك”. إلا أن هؤلاء القادة الثلاثة الذين تكلموا كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب الرسول (ص) أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، فقال: “أشيروا عليَّ أيها الناس”، وقد أدرك الصحابي الأنصاري سعد بن معاذ (وهو حاملُ لواء الأنصار) مقصد الرسول من ذلك، فنهض قائلاً: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله”، فقال الرسول (ص): “أجل”، قال:“لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد”.

الرسول (ص) أمر بقتل اثنين من قادة قريش الأشد عداء للإسلام وقبل فدية أسرى آخرين ودفع بالباقين إلى أهل المدينة وأوصى بهم خيراً

وقام سعد بن عبادة، فقال: “إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا”، فقال الرسول(ص): “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم”.

التحضير للمعركة
بعد قرار المسلمين مواجهة قريش بدأ الرسول (ص) الاستعداد للمعركة فدفع لواءَ القيادة العامة إلى مصعب بن عمير، وكان هذا اللواء أبيض اللون، وقسّم جيشه إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علياً بن أبي طالب (ع) وكتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعداً بن معاذ وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن الأسود- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده هو.
كان قوام جيش قريش نحو ألف مقاتل، وكان معه حسب بعض الروايات مئة فرس وستمائة درع، وجِمال كثيرة لا يُعرف عددُها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل وهو عمرو بن هشام المخزومي القرشي، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل.1 وكانوا اصطحبوا معهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنّين بهجاء المسلمين.
وقبل وصول قريش إلى بدر قرر الرسول بناء على نصيحة أحد أصحابه السيطرة على ينابيع الماء بهدف منعها عن المشركين ثم اقترح سعد بن معاذ عليه بناء عريش له يكون مقرّاً لقيادته ويأمن فيه من العدو، فأثنى عليه الرسول ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش للرسول محمد على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر الصديق، وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون العريش.
وبدأ الرسول بالتحضير للمعركة، فصفَّ المسلمين مستقبلاً المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبل أعداؤه الشمس، أي جعل الشمس في ظهر جيشه وفي وجه أعدائه حتى تؤذي أشعتها أبصارهم، كما أخذ يعدّل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، ثم بدأ بإصدار الأوامر والتوجيهات لجنده، ومنها أنه أمرهم برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، وليس وهم على بعد كبير، فقد قال: “إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل”، كما نهى عن سلّ السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال: “ولا تسِلّوا السيوف حتى يغشوكم”، كما أمر الصحابةَ بالاقتصاد في الرمي، قال: “واسْتَبْقُوا نَبْلَكم”.
وكان لتشجيع الرسول لأصحابه أثرٌ كبيرٌ في نفوسهم ومعنوياتهم، فقد كان يحثهم على القتال ويحرضهم عليه، ومن تشجيعه أنه كان يبشر أصحابه بقتل صناديد قريش، ويحدد مكان قتلى كل واحد منهم، كما كان يبشر المسلمين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: “أبشر أبا بكر”، وقد دعا الرسول للمسلمين بالنصر فقال: “اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني”.

بداية المعركة
بدأت المعركة بخروج رجل من جيش قريش هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي قائلاً: “أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه”، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة وأثخنه في ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخُب رجلُه دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تُبَرَّ يمينُه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
وردّاً على ذلك، خرج من جيش قريش ثلاثة رجال هم: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة، ولكن الرسول أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، وقيل إن رجال قريش هم من رفضوا مبارزة هؤلاء الأنصار، فقالوا لهم: “من أنتم؟”، قالوا: “رهط من الأنصار”، قالوا: “أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا”، ثم نادى مناديهم: “يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا”، فقال الرسول محمد: “قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي”، وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى الرسول محمد، ولكن ما لبث أن تُوفّي متأثراً بجراحه، وقد قال عنه الرسول محمد: “أشهد أنك شهيد”.
ولما شاهد جيش قريش قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة غضبوا وهجموا على المسلمين هجوماً عاماً، فصمد المسلمون للهجوم وثبتوا في صفوفهم الدفاعية، وهم يرمون المهاجمين بالنبل كما

موقع معركة بدر اليوم
موقع معركة بدر اليوم

أمرهم الرسول محمد (ص) وكان شعارُ المسلمين: “أَحَد أَحَد”،ثم أمرهم الرسول بالهجوم قائلاً: “شدّوا”، وواعداً من يُقتل صابراً محتسباً بأن له الجنة، ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول الرسول محمد: }سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ{ (القمر:45).
ومن العوامل التي ساعدت المسلمين على النصر ما أوحى به الله من أنه ألقى في قلوب المشركين الرعب في غزوة بدر، وأنه أنزل ملائكة تقاتلهم إلى جانب المؤمنين، وقد جاء في سورة الأنفال: }إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ{ (الأنفال:12) وكذلك قوله سبحانه في سورة آل عمران:}وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون{َ ثم قوله }إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ{ كما قال الرسول (ص) يوم بدر: “هذا جبريل آخذُ برأس فرسه عليه أداة الحرب”،وروي عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس بن عبد المطلب: “يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم”، فقال الأنصاري: “أنا أسرته يا رسول الله”، فقال: “اسكت فقد أيدك الله بملك كريم”.

حال فشل واضطراب
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف قريش، واقتربت المعركة من نهايتها، وبدأت جموع قريش تفِرُّ وتنسحب، وانطلق المسلمون يأسرون ويقتلون حتى تمت على قريش الهزيمة.
وقُتل القائد العام لجيش قريش، وهو عمرو بن هشام المخزومي المعروف عند المسلمين باسم أبي جهل، فقد قتله غلامان من الأنصار هما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ويروي الصحابي عبد الرحمن بن عوف قصة مقتله فيقول:
“بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: “يا عم هل تعرف أبا جهل؟”، قلت: “نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟”، قال: “أُخبرت أنه يسب رسول الله (ص)، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا”، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: “ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي

مقبرة شهداء بدر
مقبرة شهداء بدر

تسألان عنه”، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله(ص) فأخبراه، فقال: “أيكما قتله؟”، فقال كل واحد منهما: “أنا قتلته”، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟”، قالا: “لا”، فنظر في السيفين فقال: “كلاكما قتله”.

بعد المعركة
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على قريش، وكان قتلى قريش سبعين رجلاً، وأُسر منهم سبعون آخرون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، وقُتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ولما تمّ النصر وانهزم جيش قريش أرسل الرسول (ص) عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بانتصار بدر وهزيمة قريش.
ومكث الرسول محمد (ص) في بدرٍ ثلاثة أيام بعد المعركة أشرف فيها على دفن قتلى المسلمين في أرض المعركة، ولم يُدفن أحد منهم خارج بدر. ووقف الرسول (ص) على القتلى من قريش فقال: “بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس”، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطُرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: “يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً”، فقال عمر بن الخطاب: “يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟”، فقال: “والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”.

أسرى قريش
لما انتصر المسلمون يوم بدر ووقع في أيديهم سبعون أسيراً، قال الرسول (ص): “ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟”، فقال أبو بكر الصديق: “يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم”، وقال عمر: “يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قرِّبهم فاضرب أعناقهم”، وقال عبد الله بن رواحة: “يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً”، فقال العباس: “قطعت رحمك”، فدخل الرسول محمد (ص) ولم يَرُدَّ عليهم شيئاً، فقال ناس: “يأخذ بقول أبي بكر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عمر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عبد الله بن رواحة”، فخرج عليهم الرسول محمد (ص) فقال: “إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: “فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: “إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: “وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: “وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ”
لقد كانت معاملة الرسول محمد للأسرى بأساليب متعددة، فهناك من قتل، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم. وكان الذين قتلهم المسلمون من الأسرى في بدر: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، ويرى المسلمون أن قتلهم ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية، فقد كانا من أكبر دعاة الحرب على الإسلام، فبقاؤهما يعدّ مصدر خطر كبيراً على الدين الجديد، فقد كان النضر بن الحارث يؤذي الرسول (ص) وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفُرس وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس الرسول محمد مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبْلَهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: “أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه”، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: “بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟” فلما أسره المسلمون أمر الرسول محمد بقتله، فقتله علي بن أبي طالب (ع).
ولما رجع الرسول محمد (ص) إلى المدينة المنورة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: “استوصوا بهم خيراً”، وقد روي عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير أنه قال: “كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله (ص): “استوصوا بالأسارى خيراً”، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله”.
وقال أبو العاص بن الربيع: “كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ”، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: “وكانوا يحملوننا ويمشون”.
وبعثت قريش إلى الرسول محمد في فداء أسراهم، ففدى كلُّ قوم أسيرَهم بما رضوا، وكان ناس من الأسرى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل الرسول فداءهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة، وبذلك شرع الأسرى يعلِّمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلِّم عشرة من الغلمان يفدي نفسه.

نتائج المعركة
كان من أهم النتائج المباشرة لغزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وما جاورها، كما أصبح للدولة الإسلامية الجديدة مصدرٌ للدخل من غنائم الجهاد، وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي بما غنموا من غنائم بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهراً.
بالنسبة لقريش كانت نتيجة المواجهة في بدر هزيمة كارثية قُتل بنتيجتها أبو جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم من زعماء قريش الأكثر شجاعةً وقوةً وبأساً، ولم تكن غزوة بدر خسارة حربية لقريش فحسب، بل خسارة معنوية أيضاً، لأنها كسرت شوكة أكبر قبائل الجزيرة في الحجاز، ونتيجة لذلك فإن المدينة لم تعد تهدد تجارة قريش فقط، بل أصبحت تهدد أيضاً سيادتها ونفوذها في الحجاز ككل.
تلك كانت النتائج المباشرة للغزوة لكن نتائجها البعيدة كانت استراتيجية بكل معنى الكلمة، فحسب المفكر الإسلامي د. راغب سرجاني فإن أيّ محلل عسكري في ذلك الوقت لم يكن ليرى في تلك المعركة أكثر من مواجهة بين قبيلتين أو مجموعتين من الناس، أو مشاجرة بين عائلتين، لا تحمل أيَّة خطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك. فقد كانت جيوش الروم في ذلك الوقت تقدَّر بالملايين، وجيش فارس يزيد على مليوني جندي، وكانت الدولتان البيزنطية المسيحية والفارسية المجوسية تشكلان إمبراطوريتين راسختي الأركان منذ مئات السنين..ولكن من الذي كان يمكنه أن يتوقع يومها وبعد بدر أن مكة ستفتح بعد ست سنوات فقط ويسود الإسلام في الجزيرة كلها وأن المسلمين سيفتحون فارس بكاملها بعد 12 عاماً من ذلك التاريخ وأن إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف ستقوم بعد أقل من 20 عاماً لترث ممالك الروم والفرس والرومان ولتجعل من الدين الجديد أقوى قوة على وجه الأرض. لقد أنتجت بدر أكثر من انتصار عسكري محدود فهي أسست لحضارة عظيمة ستغير مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد.

الإستشــراق و صياغة ذاكرة المغلوبين

الإستشــراق
و صياغة ذاكرة المغلوبين

المشروع الإستعماري للمنطقة تطلب تقديماً متحيزاً وجاحداً للإسلام
وتقديم أوروبا كقوة تمدين لشعوب متأخرة يحكمها الإستبداد

آرنست رينان رفض إعطاء أي فضل للعرب أو للإسلام
وهيغل رأى فضلهم في حفظ الحضارة الإغريقية للأوروبيين

برغم دفاع الأفغاني عن دور الحضارة الإسلامية

إلا أنه قبل تحليل رينان عن أسباب تأخر المسلمين

سياسات التدخل الغربي في شؤون المشرق العربي ( الإسلامي – المسيحي) وشمال أفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين لم تأتِ فجأة ومن دون مقدمات، بل مهّد لها خطاب معرفي إستشراقي حاول استبطان نقاط القوة والضعف في مجتمع الخصم المراد إضعافه قبل السيطرة عليه وإخضاعه، وكان من الضروري لنجاح ذلك المشروع الاستعماري، إعادة صياغة ذاكرة المغلوبين من موقع المركزية الأوروبية التي تفهم تشاركية العالم الجديد كرسالة تحضر يحملها المجتمع الأوروبي إلى الإنسان الآخر البربري المطلوب تمدينه.
والباحثون الغربيون في شؤون الشرق والإسلام في استخدامهم المنهج التجريبي الوضعي، كانوا دائماً ينفون وجود أهداف سياسية لعملهم البحثي ويصرون على أنهم منحازون الى الواقع فقط، فهم يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها، أما في الحقيقة فإن الحصول على هذه المعرفة يستلزم دائماً اللجوء إلى إطار نظري معين أو اتخاذ موقف للتفسير.
وأول أساطير الفكر الإستشراقي التي تكشف زيف موضوعيته، كانت ادعاءه تجانس هويته العرقية والحضارية بالقول بوجود استمرارية تاريخية بين حضارة اليونان القدماء وفكر عصر التنوير وأوروبا الامبريالية والتي أصبحت مصدر النزعة الإنسانية العلمانية، والادعاء بأنه ما نتج عن تلك الحضارة من فلسفة وعلوم كان وليد تطور الفكر اليوناني وحده ، ولكن الكثير منا بات يعرف الآن أن الإغريق بالحقيقة تأثروا بشدة في ثقافة جيرانهم الأقدم والأغنى والأقوى واقتبسوا منهم، ومن بين هؤلاء حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
أما الأسطورة الثانية التي بناها الفكر الإستشراقي حول أصوله الثقافية، هي أن حضارة الإغريق كانت أول تجربة ديمقراطية مقابل مجتمعات آسيا المستبدة، أما الحقيقة فهي أن المدن الإغريقية كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وكانت مجتمعات يحكمها طغاة أو حكومات أقلية أو نخب تنتمي الى عائلات أو قبائل محلية قوية أو مسيطرة على قبائل منافسة، أما المواطنون الأحرار فكانوا أقلية والعبيد هم الأكثرية.
حتى إنه في رحلة بحثه عن الأصول قام فكر الإستشراق بتهميش تاريخ الإمبراطورية الشرقية ( البيزنطية )، بسبب التأثيرات الشرقية والعربية التي أفسدتها !
كما تمّ تجاهل وطمس ما للعرب من حضارة مميزة في العصور الوسطى تمّ الحفاظ فيها على تراث الحضارتين اليونانية والرومانية وتطويره، الأمر الذي سمح لأوروبا في القرون الوسطى لاحقاً الاتصال بذلك التراث وبعث نهضتها من جديد. وليس غريباً أن نجد اليوم من يقول بأن ذلك التراث قد تمّ اختراعه لأنه ليس له وجود أصلاً1.

بدايات الإستشراق
في القرنين الخامس والسادس عشر بدأت تظهر دراسات عن لغات وأديان وثقافات هذا الشرق وكان للإسلام النصيب الأوفر منها، وقد ساعدت الاعتبارات السياسية والتجارية للدول الأوروبية على تطور حركة الإستشراق، فاستحدثت في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في منتصف القرن السابع عشر كرسي للغة العربية، وفي فرنسا استحدثت أول كرسي للغة العربية في العام 1539، وبشكل عام إحتوت تلك الدراسات على تقييمات نزيهة موضوعية بل كانت أحياناً مفتونة بالدولة والمجتمع العثمانيين.
وفي نهاية القرن السادس عشر وبسبب انحطاط الدولة العثمانية بدأت تتغير وجهات النظر فكل ما كان يعتبره الأوروبيون جديراً بالإعجاب في المجتمع العثماني أصبح عيوباً وأخذوا يصورون الأتراك بشكل متزايد كمستبدين وفاسدين.
وفي القرن الثامن عشر بدأت الدول الأوروبية التدخل في الأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني، وأصبح المفكرون السياسيون في عصر النهضة يعتبرون مجتمعهم قائماً على الحرية والقانون، وفي المقابل أصبحت الإمبراطورية العثمانية تعتبر المثل المعاصر للإستبداد.
وعلى يد المفكر الفرنسي مونتسيكو (1689-1755) تطور المفهوم ليصبح ( الإستبداد ) سمة عامة للشرق كله الأمر الذي أفسح في المجال لظهور مصطلح “الاستبداد الشرقي” وهو الذي عرض له مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) L’esprit des lois حيث رأى أن المناخ والجغرافيا في أوروبا يجعلان الناس يميلون للحفاظ على حريتهم، بينما المناخ الحار في الشرق يدفع بهم ليكونوا أذلاء لذلك كانت السلطة في آسيا إستبدادية.
في عصر التنوير الأوروبي تمّ الكف عن النظر للإسلام كنقيض للمسيحية بل أصبح ينظر إليه كمشروع حضاري مختلف و منافس، لذلك كانت الدراسات الاستشراقية في تناولها لحضارة الإسلام أكثر موضوعية وإنصافاً. أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ يغلب الدافع السياسي على المعرفي في فكر الاستشراق وتحول إلى مؤسسات بحثية متخصصة. ففي باريس أقيمت مدرسة للغات الشرقية العام 1795، وفي العام 1873 انعقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين ومنذ ذلك التاريخ انتظم عقد هذه المؤتمرات.

الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين - الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية
الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين – الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية

1758- 1838 ) دوراً مهماً في تطوير فكر الاستشراق سواء على صعيد المنهج أو نوعية الأبحاث المقدمة حيث نشر أبحاثاً وترجمات كثيرة بالعربية والفارسية والتركية وتتلمذت على يديه أجيالٌ من الباحثين والمترجمين وقدم المشورة في الشؤون الإسلامية للحكومة الفرنسية. وكان المنهج المسيطر على هذه الدراسات المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة التاريخي المقارن) بينما تمّ العزوف عن استخدام المنهج الأنثروبولوجي – (الذي ستظهر أهميته السياسية لاحقاً كعلم خاص بالشعوب المستعمرة أو التي تخلصت منه، حيث سيتم التركيز في تلك الدراسات على الظاهرتين العرقية والقومية) – وعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ حيث كانت تعدّ هذه العلوم لا شأن لها بالموضوع .
كان لانعطافة الدول الأوروبية باتجاه التدخل العسكري المباشر في شؤون المشرق العربي دورٌ حاسمٌ في تغيير وظائف الفكر الاستشراقي. (فنابليون بونابرت) الذي قام بغزو مصر سنة(1798م) استقى الكثير من معلوماته عن مصر من خلال روايات الكونت دي فولنى المنشورة سنة (1787م) عن رحلته في مصر وسوريا، وبما أن بونابرت كان يؤمن بالدور التمديني لفرنسا فقد جلب معه فريقاً من الباحثين والعلماء الذين أجروا دراسات شاملة صدرت لاحقاً في مجلدات بعنوان (وصف مصر).
وعلى يد الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) اختلفت الرؤية لتاريخ العالم من تعاقب دول وإمبراطوريات إلى تعاقب حضارات، حيث كل حضارة تحمل عبقريتها المميزة، وتضمحل هذه الحضارة بتحرك الروح المطلق التي كانت بالشرق في مرحلة الطفولة لمرحلة البلوغ بعد انتقالها إلى الغرب. كان هيجل يرى أن الدور المميز للإسلام يكمن في حماية تراث الحضارتين الإغريقية والرومانية من الاندثار والضياع، ونقله لأوروبا وهو بذلك يكون قد ساهم في نهضة أوروبا الحديثة، ولكن في تاريخانية هيغل تبقى المقارنة قائمة بين غرب يتمتع بفضائل العقل الإغريقي في مقابل جمود الشرق وانغلاقه باعتباره سمة لليهودية وللإسلام المتعصب ( بريان تيرنر 1081/15)2.

المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية
المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية

الإستشراق همّش تاريخ الإمبراطورية البيزنطيّـــة وتجاهلــــه لإعتباره أن التأثيرات الشرقية والعربية «أفسدتها» !

وخلال القرن التاسع عشر وبسبب النشاط الاستعماري المحموم لأوروبا تأثر الفكر الاستشراقي بالعرقية البيولوجية، وكان أبرز مروجيها المستشرق الفرنسي (آرنست رينان) حيث بلور في محاضرة له سنة 1883 تحت عنوان: “الإسلام والعلم” أطروحة تقول بـ “انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعاليمها إلا من هذه الديانة. وانغلاق عقل كل مؤمن صادق)، أما كيف لذلك المسلم البدوي المتعصب والغبي بحسب زعمه أن ينتج علماً وفكراً فلسفياً في العصور الوسطى؟ فإنه يجيبنا على هذا اللغز بقوله: “إن هذا المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدون باللغة العربية، هو في الحقيقة تراث إغريقي ساساني وقد يكون أكثر دقة أن نصفه إغريقياً احتفظ بهما المسيحيون المحليون والملاحدة الحرانيون تحت القشرة الإسلامية، وان ذلك كان لحظة تفوق مؤقتة للشرق انقلبت بعد ذلك إلى دونية متأصلة” ..”فالعربي البدوي هو أكثر الناس شاعرية ولكنه أقلهم ميلاً للتأمل والتصوف، وعندما كان الإسلام منحصراً بالعرق العربي طوال الفترة الممتدة من الخلفاء الأربع إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافية مستقلة عن الدين” . فمجيء “الدولة العباسية مثَّـل انبعاثاً جديداً لمُلك كِسرى، وكانت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسية المنبعثة من جديد”.
آراء رينان سالفة الذكر هذه مارست تأثيراً كبيراً داخل الفكر الاستشراقي وخارجه كما إنها ساهمت إلى حد كبير في إعادة صياغة فكر النخب المغلوبة لحوالي قرن من الزمان أو يزيد قليلاً، بل يمكننا القول إنها ما زالت تمارس تأثيرها حتى يومنا هذا.
مناظرة الأفغاني- رينان
جرت محاولة مهمة للرد على أفكار رينان السالفة الذكر، قام بها المفكر الإسلامي الإصلاحي (جمال الدين الأفغاني) فدحض ما تضمّنته تلك المحاضرة من مقولات عرقية دونية بحق العرب والإسلام، وتمّ نشر الردّ بالفرنسية في صحيفة “المناظرة” Le Debat بتاريخ 18/5/1883، وقام رينان بالتعقيب عليه لاحقاً في نفس الصحيفة في اليوم التالي، فتحولت بذلك إلى مناظرة بين الشرق والغرب، لكن نسيت في ما بعد كل الردود بإستثناء ردّ الأفغاني أو تمّ تناسيها وإغفالها قصداً. وكانت المفارقة الكبرى أن هذا الرد أثار عند نشره سخط المسلمين المحافظين، بينما حظي بإعجاب رينان والمثقفين الفرنسيين. وبدأ الحملة ضد الأفغاني الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) عندما انتقى عبارات من رد الأفغاني بشكل مبتور، ثم نقل عنه اغلب الدارسين هذه الصورة المشوهة للنص. وبقي النص الحقيقي للرد مجهولاً ومعتّماً عليه حتى تاريخه بسبب خطورته، والخطورة تكمن في أن الأفغاني برغم دفاعه عن الإسلام والعرب، إلا أنه سلم لأرنست رينان بصحة الكثير من انتقاداته الحادة تجاه الإسلام والمسلمين .
جاء رد الأفغاني على رينان مسلِّماً بالقضايا التالية (أقر بأن الإسلام الرسمي – أي كما مورس من الحكام في عصور متأخرة) حاول خنق العلم وعرقل تطوره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وردع العقول عن البحث في الحقائق العلمية) وأضاف الأفغاني القول: “لكن الديانة المسيحية لم تكن على علم براء مما شابه هذا. وإني لأدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية، والمؤمن عندهم مدعو للابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية. أدرك هذا تمام الإدراك، لكنني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية قائلاً يتحول بتقدم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. ولا ينكر احد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات” ثم يتوقف الأفغاني في ردّه متسائلاً (كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظل هذا المشعل منطفئاً والعرب غارقون في لجج الظلام؟”
“هنا تبدو الدولة الإسلامية مسؤولة، ومن الواضح أن الاستبداد أعانها إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين.”

أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق
أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق

منطق تبشيري
وجاء تعقيب رينان على الأفغاني ليقول مادحاً صاحبه الذي وافقه الرأي تقريباً في كل ما ذهب إليه (إن الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضد الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: “إن أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمة بعد اليابان، إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة محل خلاف بيننا. لا كل ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كل ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتاج الدين المسيحي ولا كل ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام، هذا هو المبدأ الذي اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس” ثم يختم رينان تعقيبه بالقول: “خلال رحلاتي في المشرق وجدت أن مصدر التعصب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوة للممارسات الدينية، وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من السلطة الدينية”.
بذلك المنطق التبشيري الذي يعطي للمستعمر الأوروبي الحق باستخدام القوة ضد الشعوب المغلوبة، وتغطية مصالحه الاستعمارية برسالة التمدين والمدنية، سوف يختم رينان رده على الأفغاني.

مفهوم الأمة والمصالح المشتركة
وفي محاضرة ثانية له بجامعة السوربون في 11 آذار 1882 تحدث رينان عن مفهوم الأمة باعتباره شيئاً جديداً على التاريخ نافياً أن يكون للعرق أو اللغة أو الدين أو الاشتراك بالمصالح المشتركة أوما تكون أجنبية أو إثنيه تسيطر على نحو استبدادي على الكتلة الاجتماعية، لذلك توجد هوة واسعة بين الحاكمين والمحكومين وقد اعتبرت تلك المجتمعات مفتقرة إلى الوحدة العضوية والتماسك المميزين للمجتمعات الغربية فهي على العكس خليط متنافر أو بشكل أكثر تأدباً (فسيفساء) من جماعات دينية وإثنية وعشائرية وقبلية ومهنية وعرقية تحكم نفسها إلى حد كبير وغير مترابطة وغالباً متعادية. تلك هي الصورة بحذافيرها التي استحضرها المستشرقان ( جيب وبوين) عن المجتمع العثماني في مراحله الأخيرة والذي يربط المجتمع ببعضه ويمنعه من الانهيار هو وجود الإسلام والمؤسسة الدينية واللذين يعملان كغراء اجتماعي يمنع المجتمع المسلم من التفسخ إلى أجزاء .
ويؤكد جيب وبوين في بحثهما المشترك (1950) فرضية المستشرق الألماني غرونباوم (1970) بأن تاريخ الإسلام هو تاريخ انحطاط، وإن الحضارة الإسلامية لها سمة أساسية هي الركود والاستبداد.
وفي أبحاث له حول (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) انطلق جيب من فرضية وجود “عقل عربي” أو “عقل مسلم” ثابت ومميز وكلاهما مشتقان من العقل السامي الأكثر بدائية حيث كتب يقول (وبالتالي فإن رفض أنماط العقلانية وأخلاق المنفعة التي لا تنفصل عنها لا تكمن جذورها في ما يسمى ظلامية اللاهوتيين المسلمين، وإنما في تذرّر وتفكك الخيال العربي ) .
على قسم مهم من فرضيات آرنست رينان وهاملتون جيب سوف يبني المفكر العربي( محمد عابد الجابري) مشروعه في نقد العقل العربي بالتسليم بوجود عقل عربي مشرقي له بنية تاريخية هرمسية منعته من إنتاج الفلسفة والتأمل العقلي ودفعت به إلى الغنوصية أو العرفان يقابله عقل مغربي برهاني ( بياني) هو فكر إغريقي الأصول، دخل في قطيعة مع الأول وقد عرفته بلاد المغرب على يد فيلسوف قرطبة ابن رشد شارحاً مؤلفات الفيلسوف أرسطوطاليس.
ثم جاء بعد جيب المستشرق (برنارد لويس) ليوظف كل الفرضيات المنحازة والنظرة العرقية الدونية لتاريخ الشعوب العربية في أبحاثه بدأها بسلسلة محاضرات سنة 1963 5 فبرأي لويس التناقض الأساسي بالشرق هو العداء والصراع المستمر بين الرعاة والمزارعين وهو عداء مستحكم قديم وأقدم تاريخ مسجل لهذا العداء بينهم، موجود في بعض مقاطع سفر التكوين بين (هابيل) الراعي و( قابيل ) المزارع أما في الشرق الأوسط على العكس الرعاة هم الذين سوف يقتلون المزارعين ويبنون حكمهم على أشلائهم (1965م/ص 5 ) وهو الذي سيدافع عن دولة (سايكس بيكو) ودورها التحديثي وهي التي سيحاربها الفكر الإسلامي باعتبارها وثناً أو صنماً يدعو إلى الإلحاد و العلمانية، لذلك يجب هدمه حين فرقت بين المسلم وأخيه المسلم، لذلك كانت (أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط)6.
وهي وجهة نظر سيتم اعتمادها من قبل الباحث (محمد جابر الأنصاري) في أبحاثه عن الدولة القُطْرية7مراهناً على دورها الايجابي والتحديثي في نقل المجتمعات العربية من طور البداوة إلى طور الحداثة، والتجزئة هنا ليس مردها لوجود الدولة القُطرية، بل بسبب وجود الفراغات الصحراوية غير المأهولة بالسكان والتي يناسبها نمط الاجتماع القبلي والعشائري أي طور الاجتماع في مرحلة ما قبل (الدولة/الأمة). والدولة القُطرية هنا سوف تستعيد نفس الدور التجميعي الذي لعبته الإمارة الإقطاعية في أوروبا قبل الانتقال لمرحلة (الدولة/ الأمة)، وبذلك نجد أنفسنا من خلال وجهة النظر التي يتبناها الباحث، أمام ضرورة التسليم بكونية المسار الأوروبي للتطور كنموذج حتمي ووحيد، يجب على كل تجارب الأمم الحديثة استعادته في المستقبل، هذا هو الوهم الاستشراقي الكبير الذي غذى شعور التفوق لدى الغربيين والذي تحول مع الوقت إلى المبرر الأخلاقي الضمني لفلسفة الاستعمار ولعملية اقتسام العالم بين الدول الكبرى الغربية، كما إنه لا يزال هو الدافع الأول للصراع الدولي المحموم حول هذه المنطقة ولمشاريع التفتيت التي نشطت بصورة غير مسبوقة للسيطرة عليها.

المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين
المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين

الجباعي عاب على الفكر القومي العربي خلطه بين العرق واللغة والدين ومفهوم الأمة وركز على العقد الاجتماعي والمصلحة المشتركة كـأســـــاس لقيام الكيانات الحديثة

الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية
الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية

 

سلامة علي عبيد

سلامة علي عبيد

المناضل الوطني والمفكر والشاعر والمؤرخ
رائد الشعر الحديث ومؤلف المعجم الصينــي

قاوم الفرنسيين وعهد الشيشكلي وأيّد الوحدة العربية
لكنه صُدم بالسياسة وفضّل التفرغ للأعمال الإبداعية

كانت ولادة سلامة عبيد في مدينة السّويداء عام 1921، في أسرة معروفيّة ذات تاريخ نضالي عريق، فجدّه حسين عبيد قاوم العثمانيين في جبل لبنان واضطر للنزوح مع أسرته إلى جبل حوران ليستقر ّ في السويداء وذلك في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، ومن ثمّ ليصير أوّل رئيس بلديّة للمدينة عام 1890؛ أمّا والده علي فقد كان من أركان الثورة السوريّة الكبرى عام 1925 ــ 1927 إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش ومن رفاقه في المنفى الصحراوي من أراضي المملكة العربيّة السعودية التي استضافت الثوّار السوريّين آنذاك وحتى عام 1937.

بيئة تحرر ونضال
كانت أسرة علي عبيد أسرة جهاد وتضحيات، فاثنان من أخوة سلامة كانا من الشّهداء، أخوه الأكبر نايف استشهد في معركة السويداء الثانية عام 1926، وأخوه رشيد اعتقله الفرنسيون عام 1930 وكان عائداً من مهمة سرّية من القدس، إذ كانت هناك علاقة وطيدة بين الثوّار السوريين والحركة الوطنيّة الفلسطينية التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني، وكان علي عبيد والد رشيد أحد أبرز عناصر التواصل بقادة الحركة الوطنية الفلسطينية. وعلى هذا كان اعتقال رشيد من قبل الفرنسيين وبالتواطؤ مع المخابرات البريطانية وسيلة مباشرة للضغط على الوالد الثائر خصوصاً، وعلى الثوّار السوريين عموماً.
سجن رشيد في درعا وبتأثير التعذيب ساءت صحته، وعندما تأكدوا من قرب وفاته أخرجوه من السجن مشياً على الأقدام من درعا الى السويداء ليتوفّى سريعاً في منزل الأسرة في السويداء بتاريخ 28/5/1930 بعد خروجه من السجن، وقيل إنّ الفرنسيين دسوا السمّ له؛ أمّا أخوه الأصغر من سلامة، كمال، وهو الضابط الطيّار في سلاح الجوّ السوريّ فقد كان من شهداء حرب تشرين عام 1973.

طفولة سلامة في المنفى الصحراوي
عاش الطفل سلامة ردحاً من طفولته في صحراء النبك في الأراضي السعوديّة مع الأسرة المنفيّة، وهناك تعرّف عن كثب على قادة الثورة الكبار، سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من الثوّار وهم رفاق أبيه، ومنهم معلّمه الأوّل الذي تعلّم منه القراءة، إلى جانب أطفال الثوّار في الصحراء، المجاهد الشيخ أبو زين الدّين صالح أبو عاصي (لبناني ثائر من معاصر الشوف)، وعن أولئك الرّعيل من الثوّار تعشّق سلامة حب الوطن وأحبّ الحرية والنّضال في الدفاع عنها.
تقول ابنته الأستاذة المثقّفة سلمى عبيد في مقابلة أجرتها معها “الضحى” ربيع 2017 في معرض حديثها على نشأة الوالد:
“كان لجدّتي شريفة منصور عبيد، والدة أبي الأثر الواضح في حياته، إذ كانت الوارثة الوحيدة لأحد كبار ملاّك الأراضي في جبل لبنان آنذاك، وبالرّغم من اعتيادها حياة الترف فقد رضيت حياة المنفى الصحراوي التي عاشها زوجها إلى جانب رفاقه المجاهدين، وتحمّلت مرارة الجوع والعطش والحرمان في حياة صحراويّة بالغة الشّظف والقسوة”.
> كيف سارت الحياة بالأسرة على أثر لجوء جدّكم إلى المنفى عام 1927، وكيف كانت حياة الطفل سلامة حينذاك؟
عاش والدي مع الأسرة في المنفى حتى عام 1930 وحينها أُرسِل به إلى لبنان للتعلّم في بيت اليتيم الدرزي، بمنحة خاصّة لأولاد المجاهدين الذين فقدوا ثرواتهم أيام الثورة. كان بمفرده بادئ الأمر وقد كتب عن تلك الفترة قصّته الرائعة “هديّة أم”، عندما لم تجد الوالدة التي كانت حينها في السويداء ما ترسله لابنها في لبنان هديّة أو نقوداً ولو ليرة واحدة، فقد أرسلت له مع المعلّم الشيخ هاني باز رضوان فرنكين. لم يكن معها غير ذلك (المبلغ!) من المال. بعد تلك الفترة القاسية على الطفل سلامة قالت أم نايف لزوجها وهي التي لم تتخلّ عنه في فترة الثورة والمنفى بأنها ستذهب إلى لبنان لتبقى مع أبنائها وتهتم بتعليمهم، أجابها الزوج:”أنا رجل معروف ولا أستطيع أن أترك بيتي بلا زوجة “، قالت السيّدة بحزم: “أنت تستطيع أن تجد زوجة غيري، ولكن أولادي لن يجدوا أمّاً سواي!”، وذهبت السيدة شريفة مع أبنائها جميعاً ليعيشوا في عاليه، سكنوا في قبو غير بعيد عن قصر والدها الذي كان قد بيع لتمويل الثّورة التي استهلكت أملاكاً كانت منتشرة بين بيصور وصوفر بيعت للثورة. اصطحبت جدّتي أبناءها إلى موطنها الأوّل في لبنان لتمكينهم من الدراسة وذلك بين عامي 1930 و1940، وفي نهاية تلك الفترة حصل والدي على الشهادة الثانوية ومن ثمّ عاد ليعمل في التّعليم الابتدائي في السويداء، وفي تلك الفترة، فترة الدراسة في الجامعة الوطنيّة وما تلاها تفتحت موهبته الشعرية. كانت أشعاره الأولى أناشيد تطفح بمشاعر الثورة على الاستعمار الفرنسيّ، ففي عام 1943 كتب مسرحية شعرية عنوانها “اليرموك” مستلهماً التاريخ العربي الإسلامي، وعرضت المسرحية فعلا في مدينة صلخد رغم معارضة الفرنسيّين لذلك، وهذا يدل على مدى تصميم شباب الجبل آنذاك الذين كانوا يلتفون حول عصبة العمل القومي التي كان الوالد من نشطائها البارزين (مؤسّسها اللبناني علي ناصر الدّين وقد انتشرت فروعها آنذاك في بلاد الشام) وكان يرأس تنظيمها في السويداء السياسي والأديب سعيد أبو الحسن، وتربطه علاقة وثيقة بالوالد، فكلاهما شاعر وسياسي نهضوي، وثائر على سلطة الاحتلال الفرنسي.
> ما المدارس التي درس فيها الوالد سلامة بعد بيت اليتيم؟
درس أبي في الجامعة الوطنية في عاليه، وكان من أساتذته الأستاذ هاني باز والأديب مارون عبّود الذي اكتشف مواهبه ورعاها وشجّعه على أن يكون كاتباً”.
> وماذا عن دراسته الجامعية؟
وصل والدي إلى بيروت نهاية عام 1946 وبداية 1947، يعني الفصل الثاني من السنة الجامعية، بمنحة قُدّمت له من الجامعة الأمريكية، في حينها كان معلماً وأباً وقد استفاد من نظام الساعات المعتمدة في الجامعة ومن دورات الصيف فكثف دراسته واستطاع ان ينهي دراسته بأقل من خمس سنوات إذ حصل على شهادة الماجستير بدرجة امتياز وقد أنهى دراسته في خريف 1951 ولمّا لفت تفوّقه نظر أساتذته ومنهم د. نقولا زيادة فقد حاولوا إقناعه البقاء في لبنان والتدريس في الجامعة الأمريكية ولكنه أصر على العودة إلى السويداء.
> ماذا عن حياة الوالد الأسريّة؟
تزوّج عام 1945من أمّون نعيم قائد بيه، ابنة خالته من عين عنوب، وتنتمي لعائلة لبنانيّة عريقة تعود بنسبها للأمراء اللمعيين، (وقد نوّه الرّحابنة بدور أمراء آل قائد بيه في مسرحيّتهم التاريخيّة “صيف 1840”. كان لتفاني تلك الأم الوالدة وتحمّلها أعباء ومشاكل الحياة اليومية لأسرتنا الدّور الكبير في تمكين والدي من التفرّغ للكتابة والعمل السياسي والنّشاط الفكري الذي مارسه لفترة من الزّمن قبل سفره إلى الصين. ، وقد أنجب الوالدان ستّة أبناء هم (أنا) سلمى 1946، وليلى 1949، وأكرم 1953، و ضحى 1957 وعامر 1959- 1994 ، وناصر 1963
> ما الوظائف التي شغلها الوالد بعد حصوله على الماجستير؟

منظر عام لمدينة السويداء
منظر عام لمدينة السويداء

> هل كان لدى المرحوم والدكم تخوّف ما على دولة الوحدة بسبب ممارسات سلبيّة في إدارة الإقليم الشمالي مثلاً؟
لم يسكت والدي على ما كان يراه خطأ في دولة الوحدة، كانت تلك الدولة حلم غالبية الشعب العربي في ذلك الزمن، ومع ذلك وبسبب صراحته في نقد مواطن الخلل في إدارة الدولة فقد كان قيد المراقبة الشديدة من عبد الحميد السرّاج وزبانيته الممثّلين بدائرة المباحث (أمن الدولة في ذلك الزّمن ) فهو كعضو مجلس أمّة قريب من السلطة المركزية في الإقليم الجنوبي، وهذا يجعله موضع حذر من السرّاج الممسك بمفاصل السلطة في الإقليم الشّمالي، والذي يكاد يكون الرئيس الفعلي لسورية آنذاك. أذكر يوماً أنّني كنت أمشي في حديقة بيتنا فشاهدت رجلاً يجلس القرفصاء خلف شباك مضافتنا يتنصّت إلى أحاديث والدي وزائريه، ظننته يقضي حاجة، وعندما أخبرت والدي ابتسم بمرارة وقال: “ بابا هذا موظف”، ولم يزد على ذلك. كان ذلك الرجل المريب يكاد يكون مقيماً خلف شباكنا. وقد قدم الوالد الكثير من الاعتراضات على الممارسات القمعية للمباحث آنذاك، وعلى تسريح ضباط الجيش ممن لم يرض عنهم السرّاج وغير ذلك كثير. وكنا نحن أسرته نشعر بأنّه مهدّد بالاعتقال في كل لحظة لولا التخّوف من ردود فعل المجتمع في حينه… من أغلاط الرئيس عبد الناصر اعتماده على السّراج ومن هم على شاكلته في التصرّف بإدارة الإقليم الشمالي. كان الوالد يتذمّر بشدة من عمليّات القمع وخنق الحرّيات واستيراد آلات تعذيب كانت جديدة على سورية حينها.

سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له
سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له

صدمة انهيار الوحدة المصرية السورية
لكنّه صُدم بانقلاب الانفصال الذي كان يحذّر من مسبّباته المنذرة بالخطر على دولة الوحدة. بعد الانفصال لم يتولّ والدي أيّة وظيفة حكوميّة، ومع أنّه شارك في التحضير والتأييد لثورة الثامن من آذار وعُرضت عليه مناصب وزارية أو دبلوماسية، إلا أنه آثر التركيز على التوعية الفكريّة والابتعاد عن السياسة، ثم وبعد سفره إلى الصين بعد عام 1972 عرض عليه أن يكون سفيراً لسورية في الصين فرفض العرض مكتفياً بالعمل الأكاديمي في جامعة بكين.
> كيف توصل الوالد إلى العمل في الصين؟
بعد تعرّف المسؤولين في السفارة الصينيّة عليه من خلال تعليمه لطلاّبهم وقد وثقوا به وبقدراته؛ اقترحوا عليه أن يشرف على إنشاء قسم للّغة العربيّة في جامعة بكّين، وعلى هذا فقد عمل بمساعدة بعض الأساتذة الصينيّين على تنفيذ تلك المهمّة، ولما لم يكن هناك من كتب مناسبة فقد قام بنفسه على إعداد الكتب المطلوبة في أصول تدريس اللغة العربيّة والأدب العربي واللغويات وأصول الترجمة، وتاريخ الديانات الإبراهيمية الذي أولاه القادة الصينيّون عنايتهم كمعنيين بالسياسة الدوليّة. وبذلك فقد وضع منهاجاً كاملاً للقسم معظمه بمجهوده الشّخصي،
وعندما لم يجد قاموساً صينيّاً عربيّاً تطوّع مجّاناً بتأليف قاموس صيني عربي إنكليزي مستنداً إلى معرفته العميقة باللغات الثلاث، فقد كان يتقنها بالإضافة إلى اللغة الفرنسيّة، ولم يكتفِ بذلك بل عمل على ترجمة مختارات من الأدب الصّيني إلى اللغة العربيّة.. ومن جانب آخر فقد بقي على علاقة طيبة بالسفارة السورية في الصين خاصّة أثناء وجود مواطنه، ابن بلده الدكتور جبر الأطرش سفيراً لسورية هناك. وكان الطلاب السوريون يعتبرونه أباً لهم، حيث كان يعمل على متابعة دراستهم وحلّ أيّة مشكلة تعترض أحدهم مع السفارة الصينيّة.

حياة تنقل دائم

جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربية
جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربي 1966 …
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه

قاموس سلامة عبيد
العربي الصيني الإنكليزي

من أضخم أعمال سلامة عبيد تأليفه القاموس العربي الصيني الإنكليزي الذي عمل عليه بدأب 10-14 ساعة يومياً لأكثر من عشر سنوات ليظهر إلى النور بعد ذلك بـ 2264 صفحة من القطع الكبير.
ساعده عبيد على ذلك فريق من الأساتذة الصينيّين، ولمّا كان الطبيب الصينيّ يحذره من أثر ذلك المجهود على صحّته المتعبة، كان يجيبه: “ هذا القاموس ينهيني أو أنهيه”. وهكذا كان فقد دفع سلامة عبيد فعلاً حياته ثمناً لذلك المجهود الجبّار، إذ توفّي في اليوم التالي لعودته إلى سورية من الصين.

رائداً للقصيدة العربيّة في الشعر الحديث
من المعروف أنّ والدك من روّاد القصيدة الحديثة والتفلّت من الوزن الشعري وهو شرح موقفه هذا في وصفه لحالة الشعر في بغداد أيام بني العباس بهذا البيت:
عـــــــــــــــرف الشعـــــــــــــــر زمـــــــــاناً طيّبًاً
مطـــــــلق النهضة يزري بــــــــــــــالقيود
فما قولكم؟
عام 1946 ولدت (أنا)، ابنته سلمى، ويومها بمناسبة ولادتي كتب الوالد قصيدته المعروفة “إلى ابنتي”، والتي مثّلت حينها أوّل قصيدة تنتمي إلى شعر التفعيلة، يقول فيها:
يا بْنَتي؟ فتّحْتِ عينيكِ على دنيا ضياءٍ وحَنانٍ
وأناشيدٍ حِسان، فتطلّعتِ كئيباً وبكيتِ
وهبوكِ الثّديَ ريّانَ شهيّاً فأبَيْتِ، فلماذا يا بْنَتي جئت حزينة؟
عالماً لاتعرِفينَه ؟؟.
لانيوبَ لدهر آذتكِ، ولا أعوان دهرك
وطيوفُ الهمّ لمّا تتململ فوق صدرك
بيتُنا جرّبْتُ أن يبدوَ في أحسنِ زينهْ، في بياضِ الياسمينه
وفؤادي كان جذلانَ لمرآكِ، طروبا، لا عَبوساً أو غَضوبا
فلماذا يابْنتي جئت حزينهْ؟ عالماً لاتعرفينَهْ ؟؟
كانت تلك القصيدة أسبق من قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة التي نظمت عام 1947، وكذلك مما كتبه بدر شاكر السياب في دواوينه من شعر ينتمي إلى شعر التفعيلة بعد عام 1948 وما بعدها.
قبل ذلك كانت قصيدته من شعر التفعيلة “من دمانا”، وقد نظمها على أثر قصف القائد الفرنسيّ أوليفا روجيه لمدينة دمشق والمجلس النيابي بالطيران والمدفعية، ومما قاله فيها:
من دمانا، أيّها السفّاحُ، من دمع اليتامى والأيامى
أترِعِ الكأس مُداما، وأدرها بين أشلاء الضّحايا
واستغاثات الثّكالى والسّبايا، وزئير المدفع الطّاغي وأنّات الشّظايا
أترع الكأس وناولها النّدامى، من دمانا أيّها السّفاحُ
من دمع اليتامى والأيامى
أمطرِ الشّام حديداً ولهيبا، واسْتَبِحْ فيها هلالاً وصليبا
واذبح المرضى ولاتخْشَ عذولاً، أو رقيبا

مجدد الشعر العربي
يرى الدكتور رضوان القضماني أن سلامة عبيد كان الرائد في الخروج من العمود الشعري في المشرق العربي بدءاً بقصيدته “يا بلادي” التي نظمها عام 1943 وكانت بمثابة “ثورة في التّجديد إذا ما قورنت بأشعار عصرها سواء في المضمون أو في الأسلوب” ثم قصيدته “إلى ابنتي”، التي نظمها عام 1946، هي مثبتة في ديوانه لهيب وطيب، بينما قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة تعود لعام 1947، وللأسف فما زالت المناهج المدرسيّة والجامعيّة تتجاهل حقيقة أنّ سلامة عبيد هو أوّل من أدخل التجديد إلى الشعر في المشرق العربي.
ولقد جمع الرجل في إبداعه بين الشعر والأدب والتاريخ، فهو مؤرخ صادق ومن أعماله المرجعيّة كتابه “الثّورة السّورية الكبرى، في ضوء وثائق لم تُنشَر” ويضمّ كتابه ذاك كمّاً كبيراً من الوثائق الغنيّة بالمعلومات التي عمل على جمعها وتدقيقها على مدى عشرين عاماً تناولت أحداث الثورة التي كان قد تعرّف على أركانها عياناً في المنفى، وفي مراحل حياته التالية بحكم كونه ابنا لعلي عبيد أحد أركانها البارزين، وقد طُبع الكتاب في بيروت عام 1971، ولا يمكن لباحث جادّ في شأن تلك الثورة وفي سيرة سلطان باشا الأطرش قائدها العام أن يتجاهل أهمّية ذلك الكتاب وقيمته المرجعية.

شعره مرآة نفسه
نتلمّس مزايا الشاعر من خلال قصائد ديوانه “لهيب وطيب” وقد قدّم له أستاذه الأديب الكبير مارون عبّود بقوله: “الديوان عنوانه (لهيب وطيب) وهو كذلك، فلو لم يحترق سلامة عبيد في جحيم الآلام لما خرج من رأسه هذا الشعر الفصيح الذي لم تفسده رطانة وميوعة هذه الحقبة، قلنا إنّه تألُّم والألم معصرة القلوب والعقول، عفواً فلنقل إنبيق، لأن الطيب يُستَقْطَر استقطاراً على اللّهيب، وأيُّ لهيب أحرّ من لهيب النّبك في صحراء نجد التي عرفها سلامة طفلاً مشرّداً مع أبيه والعائلة بعدما وضعت الثورة السوريّة أوزارها؟”…

الموظف المسؤول والمثالي
بالإضافة إلى عمله مديراً للتربية في السويداء شغل سلامة عبيد مهمّة مدير بيت اليتيم وكان عضواً في اتّحاد الكتاب العرب وعضواً في جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ورئيس تحرير لمجلّتها، وقد عمل على تأسيس ومتابعة عدد من الأنشطة الثقافيّة والرياضية في المحافظة كالكشافة والمسرح المدرسي والمنتديات الثقافيّة والمكتبات المدرسيّة والمعارض.
وعمل على الاهتمام بالآثار والتعريف بها وطباعة أدلّة للتعريف بالمحافظة. كذلك شارك في كثير من المؤتمرات الأدبيّة والثقافية وألقى عشرات القصائد في مؤتمرات ومنتديات في سورية ولبنان والعراق ومصر والمغرب والإمارات كما شارك في مؤتمر الأدباء الآسيويين والإفريقيين في بكّين عام 1964
كما كان له دور كبير في إنشاء قسم اللغة العربية في بكّين وكتب عشرات الكتب التعليمية لتعليم الصينيّين اللغة العربية.

سلامة عبيد ولبنان
عاش سلامة عبيد تلميذاً وطالباً في لبنان بين عامي 1930 و1940، ووثّق عن تلك الفترة أحداثاً جمّة سجّلها في كتابه “ذكريات الطفولة”، وفيما بعد درس في الجامعة الأمريكية بين عامي 1947و1951، وفي شعره يتجلّى حنينه ألى لبنان وطن الأجداد إلى جانب ذكرياته في دمشق
في “ديوانه لهيب وطيب” قصيدة “تحية لبنان”، نظمها على أثر استقلال لبنان هذا بعض ما جاء فيها:
لبنــــــــــان والآلام تجــمعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ورؤىً معطّــــــــــــــــــــرة اللمــــــــى خضــــــــــــــــــــر
وصنـــــــــــائــــــــــــــــــــع بيــــــــــــــــــــض تعشّــــقـــــــــــها وهفـــــــــــــــــــا لمثل أريجــــــــــــــها الزّهـــــــــــــــر
ودم تعصبــــــــــــــت العــــــــــــصــــور لــــــــــــــه فبدت وحـــــــــــــــــــــــــول جبينــها فــجر
يــــــــــــــرضي العروبة مــــــــــا بذلت لها وتعــــــــــــــود بـــعــــــــــــــد الفـــجر تفتــــــــــــــــــــــــرّ
لــــــــــــــبنــــان جئــــــــــــــــت بنيك معتــذراً عنّــــــا وليـــــــــــــــــــــــــس لمثــــــــــــــلنـا عـــــــــــــــــذر
هــــــــــــــم للســـيــــــــــــــادة والحياة مشـــــــوا وسيــــــــــــــوفـــــهم رعّــــــــــــــافــــــــــــــــــــــةٌ حمـــرُ
هبّــــــــوا إلى اســــتقـــــــــــــلاله ومشــــــوا وعلـــــــــى أكبادهم مكلومة مرّوا

سلامة عبيد في شبابه
سلامة عبيد في شبابه

قصيدته في الشهيد عادل النكدي
وهو لاينسى الشهيد البطل عادل النكدي من بلدة عبيه في لبنان، الطالب الجامعي الذي كان يدرس في لوزان في سويسرا وهو على أبواب التخرّج من الجامعة، ترك الجامعة ليلتحق بالثورة السورية مجاهداً، واستشهد بطلاً بعد معارك خاضها في غوطة دمشق، وبمناسبة نقل رفاته في احتفال مهيب عام 1945 ألقى الشاعر هذه القصيدة ومنها:
لــــــــــــي مثـــــــــــــــــــــلُ ما لَكَ أعمــــــــــــــــــام وإخـــــوان في حــــومة الحــــقّ ما ذلّوا وما لانـوا
ضجّوا من القيد بعد القيد يحكــمه معربــــدٌ من خمــور السّــين1نشـــوان
فاستنصروا البيض والجــــــــرد العتاق فما هانت على جيشه الطاغي وما هانوا
أكـــــــــــــــــــــــــــــــــــرم بــــــــها ثـــــورةً دوّت مجـــــــلجلـــــــــــــــةً كمـــا يتفـــــجّر في الظلمـــــــاء بــــــــــــــــركان
فــــــــــي ذمّة الله مــــــــــــــــــن صانوا كـــــــــــــــــرامتــــنا إمّا استُفِـــــزّت ومن قربانـــــــــــــــها كانـــوا

قصيدته «المنارة الهاوية» في رثاء الأمير شكيب أرسلان
يقول فيها:
قضى من تحدّى الدهــر دهراً فما انثنى ولا هادنتــــه أو تراخت نوائبـــــه
سعــــــــــى طـــالبــــــــــاً حـــــــــــــقّ الحيـــــــاة لقومـــــــــه ومــوج المنايا دون مــــــــــا هو طالبــه
فكــــــان بــــــــوجـــه الطامعيـــــــــــــــــن غضنفــــراً هصوراً ثقيل الوقع مذ طرً شاربه
ينـــــــــــــــازلهــــــــــــــــم في أرضـــــهم بعــد أرضـــــه وحيــــــداً فما لانوا ولا لان جانبه
فما انفكّ حتى حصحص الحق وانبرت زلالا لأقـوام عطاش مشاربــــــه

رثاء الأمير عادل أرسلان
في قصيدته” أمل قضى” يرثي الأمير البطل فيقول منها:
هيهــــــــات لا قلمي يـــــكـــــــاد ولا فمـــــــــــــي يقوى علــى بث الأســى المتضرّمِ
سيــــــــــف العروبة لا العروبة وحدها تبــــــــــــــــــكي عليك ولا هـــلال محــرّمِ
أيُّ الأســـــــــود يطيـــق مـــــــــــــــــــــا جابهتـــــــــــــــــــــه تحت الغبار المـرّ في بـــــــــــــــــــــرك الــــدّمِ
أيُّ السيوف يظــــــــــــــلّ مثلك مرهفـــــــــــــــــــــــاً لــــــــــم ينــــــــــــــبُ فـــي أمــــــــــــــــرٍ ولـــــــــم يتثــلّـــــــــمِ
عرفَ الزعامــــــــــــــة عفّـــــــــــــــــــــةً ومــــــــــــــــــــــــــــــروءة لا وطـــأة مـــــــــــــــــــــــن صـــولةٍ وتــحَــــــــــــــكّمِ

وفاته
في اليوم التالي لعودته من الصين توفي الأديب والشاعر والمؤرخ والباحث سلامة عبيد، كان ذلك يوم 25 آذار 1984 واختتم هذا الرجل الفذّ بذلك حياة حافلة بالنضال الوطني والإسهام الفكري والثقافي والاجتماعي.

التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي

مسؤولون وأكاديميون وخبراء يقيَّمون وسائل التواصل الاجتماعي

كيف تصدّ طوفانا؟

مؤتمر البلمند شخّص المخاطر لكن غابت الحلول

زين الدين: شبه مستحيل محاولة الرقابة عليها
رامي الريس: الأنباء أصبحت رقمية منذ 2012

كيف يمكن احتواء تسونامي الإنترنت وتفرعاتها في وسائل التواصل الاجتماعي والمقصود بها حسابات الفيسبوك وتويتر وإنستغرام والواتس أب وغيرها ومن التطبيقات التي جعلت التواصل بين الناس بالكلمة والصوت والصورة ممكنا في أي وقت من الأوقات وبتكلفة زهيدة؟ سهولة الاتصال والتواصل الرقمي قهرت الأسوار وكافة أشكال الرقابة وخلقت حرية تامة للمستخدمين للتعامل بالمعلومات والصور والفيديو وارتبطت هذه الثورة بشيوع الأجهزة المحمولة التي تصبح لصيقة بالمستخدم يحملها أين يشاء ويستخدمها كيف يشاء خارج أي رقابة. وهذه الحرية التي أتاحها التقدم التكنولوجي بدأت تعيد تشكيل القيم والعقول والعادات وتنخر في الثقافات بل وفي التقليد الاجتماعي وهي تلقي بثقلها بصورة خاصة على الأسر التي بدأت تعاني من مشكلات اجتماعية وسلوكية لأنها لم تعد هي السلطة الحقيقية في تنشئة الأولاد.
لكن الكلام عن الخوف الأسري صحيح بالمعنى النسبي فقط، لأن أرباب الأسر أنفسهم نساء ورجالا، أمهات وآباء وأولياء أمور دخلوا بدورهم في الدوّامة أيضا وباتوا من المستخدمين النشطين لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وكثيرا ما يشتري الأهل الهواتف الذكية لأطفالهم الذين لم يبلغوا سن الخامسة أو يقدمونها لهم كهدية في عيد ميلادهم (!) وهؤلاء الأطفال يتربون في البيت على استخدام مختلف التطبيقات بإشراف من أهلهم . فالمشكلة إذن ليست في إدمان الأحداث والمراهقين على وسائل التواصل الاجتماعي بل في وجود الأهل داخل الدائرة نفسها وقبولهم بهذه الوسائل، ليس باعتبارها تهديداً، بل باعتبارها تمكيناً ومكونا أساسيا من مكونات الحياة المعاصرة. وهذا الاندماج بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين حياة الأسرة هو الآن المشكلة الحقيقية.
في جميع الحالات فإن التحدي الذي أبرزته وسائل التواصل الاجتماعي كبير، وهو حتماً أكبر من قدرة الأهل أو المدرسة أو حتى الدولة على توفير الضبط المناسب. وربما بسبب الشعور العام بالعجز وبخطورة الظاهرة حظي المؤتمر الذي نظمته جامعة البلمند في سوق الغرب بالتعاون مع منتدى الفكر التقدمي بإقبال كثيف من أكاديميين وإعلاميين وسياسيين ورؤساء بلديات وقادة حزبيين وجمهور ووسائل إعلام.
المؤتمر الذي انعقد في قاعة الشيخ توفيق عسّاف في حرم الجامعة تصدى في جلسة أولى لموضوع “التأثيرات الاجتماعية لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي” وهذا الموضوع المهم كان

 

جانب-من-الحضور
جانب-من-الحضور

يحتاج إلى تركيز أوسع ومشاركة خبراء ونفسيين وأهالي ويتطلب بالتأكيد أكثر من جلسة، لكن المنظمين فضلوا تنويع البحث وأدرجوا موضوعاً ثان منفصلاً هو “مستقبل الإعلام في ظل حرية التواصل الاجتماعي”.
الموضوع الأول بدا تحديّا كبيرا للمتحدثين الذين كان معظمهم ملما بصورة عامة بالمحاذير والمخاطر ، لكن دون إحاطة كافية بأساليب المواجهة القانونية والتقنية لاحتوائها. وربما كان المجتمعون (المخضرمون في معظمهم) في حاجة إلى خبير في تقنيات وآليات عمل الإنترنت يكون أيضا مطلعاً على الحلول التي أخذت بها دول عديدة لجهة ضبط التداولات عبر الشبكة، كما كان من المفيد إشراك ممثل عن الشباب المنخرطين بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي لينقل للمشاركين بعض ما يحصل في كواليس هذا العالم الرقمي ويقدم ربما من وحي التجربة اليومية بعض النصائح والاقتراحات.
بسبب غياب المُكوِّنين التقني والشبابي (مع تمثيل طاغ للإعلام) استُغرِق البحث في التركيز على المخاطر، وهذا الجانب عبر عنه الدكتور هشام زين الدين رئيس منبر الفكر التقدمي الذي أقر بأننا “نقف عاجزين أمام التطور المتسارع الذي يأتينا في كل يوم بجديد ونحن لمّا نهضم قديمه بعد”. مشيرا إلى أن تقنيات التواصل الاجتماعي هي جزء من نتائج عولمة شاملة لسنا جزءاً منها بل تم إقحامنا فيها، كذلك الأمر بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي التي “فرضت علينا كقدر” بل أصبحت الشريك مع البيت والمدرسة والجامعة في عملية تربية الأجيال”.
وزير الإعلام ملحم رياشي الذي ألقى كلمته الأستاذ أنطوان عيد اهتم بإعلان موقف مبدئي في دعم الوزارة لحرية التعبير “وهي الرئة التي يتنفس منها لبنان” و”الميزة الأساسية للإعلام اللبناني” ولا خلاف بالطبع في ذلك لكن حرية الأعلام لم تكن هي الموضوع بل المشكلات الاجتماعية والأخلاقية التي يسببها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. ولا خلاف أيضا حول تأكيد الوزير على ضرورة “المزاوجة بين الحرية والآداب العامة”. لكن كيف يتم ذلك؟ وما هي الإجراءات والقوانين التي تمتلكها الدولة للتعامل مع الإنترنت وشبكات التواصل؟
الدكتور هشام زين الدين تبنى في هذا المجال وجهة نظر واقعية تقول بأنه لا جدوى من محاولات فرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي لأن تحديد المعايير وضوابط الرقابة مهمة صعبة وتكاد تكون مستحيلة، وهو ما يعني أن الخيار الأفضل هو تركيز الجهود على التوعية والإرشاد من خلال التربية والإعلام.

تشخيص إعلامي
الإعلامي بسام أبو زيد أشار إلى أن وسائل التواصل أصبحت في حد ذاتها مصدرا لكثير من الأخبار، لكنه حذَّر من سوء استخدامها في نشر الأخبار الكاذبة والشائعات. كما حذرت الإعلامية ريما كركي من دور سلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأسر وفي مجال نشر الشائعات. واعتبر الإعلامي وليد الداهوك إن الإفراط في استخدام تلك الوسائط أدى إلى تفكك الأسر وتشويه العلاقات وتدني التركيز الدراسي وتفشي أمراض نفسية واجتماعية.
الإعلاميان رامي الريِّس وجورج صليبي وخبير التواصل الاجتماعي في جامعة البلمند ركزوا في الجلسة الثانية على تقييم التأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي على صناعة الإعلام، هذا التأثير الذي يجعل سياسيا مثل رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط يتحول إلى مصدر أول للأخبار والمواقف عبر استخدامه لخدمة “تويتر” الأمر الذي قلل حاجته لإجراء مقابلات مع وسائل الإعلام. بينما أكد الإعلامي رامي الريّس على أن انتقال الصحف والمجلات المطبوعة إلى الصحافة الرقمية “مسألة وقت” مذكرا بأن جريدة “الأنباء” التي يرأس تحريرها تبنت موقفا رائداً عندما أوقفت النسخة الورقية في العام 2012. ونوّه بالفعاليّة التي أظهرتها وسائل التواصل الاجتماعي في إسماع صوت الشباب المختلف والدور الذي لعبته في الحراك السياسي لعدد من المجتمعات العربية مثل تونس ومصر.

شمس العرب تسطع على الغرب

قراءة في كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكِه1

شمسُ العرب تسطعُ على الغَرب

مساهمــة العــرب الكبيــرة في انطلاقـة الحضــارة الأوروبيــــة

لم يبدأ خروج الغرب من الظلمات وازدهاره ونهضتــه
إلاّ بعـد احتكاكــه بالعــرب سياسيــاً وعلميــّاً وتجاريــّاً

بينمـــا كـــان العالـــم العـــربي يتّجـــه نحـــو ذروة عصـــره الذهبــــــي
كانـــت أوروبا منشغلة بعودة وشيكة للمسيح للإقتصاص من البشـر

“هكذا وجب أن يظهر الحقّ ويعلو، كما نجح في هذا مُحمّد الذي أخضع العالم كلّه بكلمة التوحيد»
(الشاعر الألماني غوته)

يعتبر كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه أحد أعظم الشهادات المنصفة التي جاءت من مؤلف أوروبي ليس فقط في عظمة الحضارة العربية الإسلامية فهذا الأمر يكاد يجمع عليه أكثر المؤرخين المنصفين بل في أثر هذه الحضارة العظيمة في نهوض وتقدم الحضارة الأوروبية، وكانت هونكه بذلك أول شخصية علمية أوروبية تسلط الضوء على أمر يميل الأوربيون إلى تجاهله والتغطية عليه وهو ما تعتبره هونكه الدَّيْن الذي يترتب عليهم للعرب والمسلمين في الكثير من مجالات العلوم والثقافة. يذكر أن الإسم الأصلي لكتاب هونكه هو “شمس الله تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا2 وهو يتناول بالإضافة إلى تأثير الحضارة العربية-الإسلامية وعلمائها واختراعاتهم على الحضارة الغربية تأثّر اللغات الأوروبية باللغة العربية وحضارة الأندلس.
وزيغريد هونكه مستشرقة ألمانية أحبّت العرب، وهي زوجة المستشرق الألمانيّ صديق العرب والمطّلع على آدابهم وآثارهم ومآثرهم الدكتور شولتزا، وقد عاشت مع زوجها سنتين في مرّاكُش وقامت بعدد من الزيارات للبلدان العربيّة دارسة فاحصة، وهي ردت في مقدمة كتابها قرارها إعداد مؤلفها إلى ما لحظته من تجاهل تام في الأوساط الغربية للإسهام الكبير العربي والإسلامي في الحضارة العالمية، وهو ما جعل قليلون خارج العالم العربي يعرفون فعلاً عن تلك الحضارة وأهميتها للتراث الإنساني. وقد جمعت الكاتبة مادة الكتاب على مدى سنوات طويلة أمضتها في رحلات متوالية إلى مختلف أنحاء العالم العربي حيث بنت شبكة واسعة من الصداقات وحققت بنفسها العديد من مواد كتابها، وهي أرادت لكتابها أن يكون بالفعل “سجلاً لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة”.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في العام 1964، وأعيد طبعه مراراً منذ ذلك الحين وصدرت طبعة ثامنة منه في العام 1986، وقد راج الكتاب بشكل متميّز بين الناطقين بالعربية فطُبع مراراً وتكراراً، وتحول إلى أهم مرجع جامع يعرِّف العرب بتاريخهم بأكثر ما يعرفونه هم، ويضع بين يديهم الحِجّة البالغة في أكثر ما يختصّ بماضيهم الزاهر وأسبقيتهم في الكثير من المجالات التي عادت أوروبا وبفضل جدها وتقدمها الاقتصادي والعلمي فسبقتنا فيها جميعاً.
فما الذي جاءت به زيغريد هونكه وأثار ذلك الاهتمام الكبير وشعور الاعتزاز في الأوساط العربية لكنه مع الأسف لم يلق الاهتمام نفسه من الأوساط الغربية السياسية والأكاديمية على السواء؟

1. – منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثامنة 1986، نقله عن الألمانيّة فاروق بيضون و كمال دسوقي راجعه ووضع حواشيه: مارون عيسى الخوري

2. – بالألمانية Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe)

قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية
قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية

تقول المؤلفة في مقدمة كتابها:”أردت أن أكرّم العبقريّة العربيّة وأن أقدّم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصّب ديني أعمى أو جهل أحمق”.
تعرض هونكِه أولاً مئات المفردات والمصطلحات التي أخذها الأوروبيون عن العرب وتدل على مدى النفوذ الثقافي والعلمي العربي في أوروبا في العصور الوسيطة وهي تخلص إلى القول: ”إن في لغتنا كلمات عربية عديدة وإننا لندين ــ والتاريخ شاهد على ذلك ــ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زيّنت حياتنا بزخرفة محبّبة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوماً من الأيام قاتماً كالحاً باهتاً”.

العصور الوسطى إنفتاح عربي وانكفاء أوروبي
على أثر اندفاع الفتوحات العربية الإسلامية الأولى تقول هونكِه:” حين انطلقت من جنوب الجزيرة العربيّة جحافل العرب الرّحل، تحدوها قوّة عارمة، ويعمّها تنظيم مدهش بثها الرّسول محمّد (ص) في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط على شواطئ الأطلسي وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، فتُخرج ذاك العالم القديم من بوتقته الثقافية السابقة، فإن الغرب كان قد أحاط نفسه إحاطة مُحكمة بستار حديديّ لمئات من السّنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأمّا في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربيّة الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرةً إيّاه على أن يعزل نفسه”.

تسامح الرّشيد يقابله جحود أوروبي
أغلقت أوروبا على نفسها منافذ النّور والهواء أمام عينيها (ص25)، ولكنّ الحجّاج المسيحيين كانوا يتمكّنون من الحج إلى كنيسة القيامة من دون إزعاج أو خطر، ففي ذلك الوقت قدّم الخليفة هارون الرشيد مفاتيح المدينة المقدّسة وشرف الهيمنة عليها إلى القيصر شارل الكبير على يد بطريرك القدس الذي كان يتواجد في منصبه رغم الهيمنة الإسلاميّة، من دون أن يناله حيف أو مكروه ومع هذا، فإنّ الأوروبيين لم يحجموا عن إلصاق تهم انتهاك حُرمة المدينة المقدّسة نفسها من جانب “الكفّار” قصد إلقاء الذعر في نفوس المؤمنين والمسافرين لمنعهم من السّفر. ولعل مثل هذا الحقد الأوروبي كان في أساس تجريد الحملات الصليبية على الشرق.
أمّا الخليفة الفاطميّ المستنصر وصديق المسيحيّين فقد أمر بإخلاء قسم كامل من مدينة القدس للحجّاج والتجار الأوروبيّين.
وكان التجّار البنادقة يحملون لأوروبا القطن السّوري والتوابل والكافور والبخور والنيلة من مراكز التجارة المصرية (ص 35) وتمتع الغربيّون بأفضل التوابل والعطور وأردية المُخْمَل والحريرالناعمة، وعلى هذا فإن أساس كلّ رخاء في بلاد الغرب قد نبت في سلال التوابل العربيّة.
تقول هونكِه، (ص37) “إنّ مدينة البندقية لم تكن لتحقق ما حققته لولا تبادل التجارة مع العرب فلولا قرفتها وكراوياؤها وقرمزها ونيلتها لم يكن في وسعها بتةً أن تمثّل دور المسيطر وأن تظهر في مظهر أكبر قوة اقتصادية في الغرب”.

في مدرسة العرب
تؤكّد الباحثة أنّه بفضل العرب عرف الغربيون الورق الذي “وصل إليهم من الأندلس العربية” ففي عام 751 نقل العرب جماعة من أسرى الحرب الصّينيين إلى سمرقند، وكان بعضهم بارعاً في صناعة الورق، وهكذا انتقلت هذه الصناعة إلى بغداد، زمن الخليفة المنصور (754 ــ 775م) الذي اعتمد الورق ومنع استعمال ورق البردى المجلوب من مصر، أمّا في ظل ولده الرشيد فقد

ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-
ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-

ثبتت مكانة هذا الاختراع الجديد، الأمر الذي حدا بوزيره يحيى بن الفضل البرمكي (794)م أن يبني أولى مصانع الورق في بغداد.
أجل، لقد فتح ورق العرب هذا عصراً جديداً، لم يعد العلم فيه وقفاً على طبقة معيّنة من الناس بل غدا متاحاً للجميع ودعوة لكل العقول لأن تعمل وتفكر.
تنقل هونكه عن أبو بكر الطرطوشي رسول ملك الأندلس العربي إلى بلاد الفرنجة أنه صادفته أشياء اقشعرّ منها بدنه وهو المسلم الذي فُرض عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يومياً يقول: “ولكنّك لن ترى أبداً أكثر منهم قذارة ! إنّهم لا ينظفون أنفسهم ولا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد وأمّا ثيابهم فإنّهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها حتى تصبح خِرَقاً بالية مُهلهلة”… فيما كانت بغداد آنذاك “تزدحم في القرن العاشر بآلاف الحمامات مع المُولَجين من مدلِّكين ومزيّنين(حلاّقون) كانوا في الزبائن للإعتناء بأجسامهم وبراحتها أسبوعياً أو يومياً، وبفضل العرب عاد الاعتناء بالصحّة إلى بلاد الغرب عن طريق الصّليبيين والمسافرين القادمين من إسبانيا وصقلّية على الرغم من ضغط السلطة الشديد وتزمّت الكنيسة. وهكذا خُرق الحصار الذي فرضته المسيحية ضد الإسلام وأصبح سكان أوروبا عن طريق الإقتناع تلامذة الحضارة العربية.

البابا يحسب بالعربيّة
تتناول الكاتبة أثر العرب في علم الحساب، إذ لم يقتصر الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، فقد تخطّى تلك المرحلة إلى المعقّد من مشاكل الرياضيات وما زالت القاعدة الحسابية (Hlgorithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها، أمّا الألمان فقد جعلوا من الخوارزمي “شيئاً” يسهل عليهم نطقه، فأسموه(Algorizmus) ونظموا الأشعار باللاتينية تعليقاً على نظريّاته.
وتذكر هونكِه أنّ البابا سلفستروس الثاني، قبل اختياره لمنصب البابوية، زار الأندلس نحو عام 970م، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبا ليحلم أن يسمع بها، وكان أهم ما تعلّمه نظام الأرقام والأعداد العربية، وكان عالماً بالرياضيات ومعلّماً لها.

العرب وعلم الفلك
تقول المؤلفة: “لم يأخذ العرب العلوم التي ورثوها عن طريق الاقتباس كما إنهم لم يأخذوا الآلات العلمية ومواد العلم القريب من دون مناقشة أو تحقيق، فمنذ البدء أدهشوا العالم بالانفتاح الموضوعي والشجاعة العلمية التي استقبلوا بها نتائج السالفين وآراءهم ليشبعوها بحثاً ونقداً وتفنيداً.. ولقد شهد الفرنسي سديوّ Sedillot بقوله “لقد توصّل فلكيو بغداد في نهاية القرن العاشرإلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما يدور فيها من كواكب بالعين المجرّدة من دون اللجوء إلى عدسات مكبّرة أو منظار. ومن بين العرب الذين وصلت آثارهم إلى مواطن العلم الغربي العالم الفرغاني الذي قام بقياس طول خط الأرض المستقيم، وكان أول من أدرك أن مدار الشمس والكواكب على مرّ الزمن يجري في اتّجاه خلفيّ، وكان يُسمىّ في القرون الوسطى Al- Fraghanus “ ومن المشتغلين بعلم الفلك ثابت بن قرّة الذي قام بقياس علوّ الشمس ومدة السّنة الشمسيّة ومن أولئك البتّاني 877 ــ 918م الذي قام بقياسات جنوح الشمس بشكل أدق، وكان كثابت بن قرّة من أتباع الصابئة، وقام بإكمال النتائج التي توصل إليها بقياساته الدقيقة لمُدد السنوات الاستوائية والقطبية المختلفة بعد أن قام بقياس دوران الأرض حول الشمس بطريقتين مختلفتين. أما الحسن بن الهيثم 965 ــ 1039م فكان أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثراً وتأثيراً، وهو صاحب نظريّة انعكاس الضوء، والأهم اكتشافه القائل: إنّ كل الأجسام السماوية بما فيها النجوم الثابتة لها أشعّة خاصة ترسلها ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من الشمس. وقد أعلن ابن الهيثم خطأ قول إقليدس وبطليموس أنّ العين المجردة ترسل أشعة إلى الأجسام التي تريد رؤيتها فقال “ليست هناك أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها”.
وابن الهيثم هو صاحب فكرة إقامة سدّ على نهر النيل موضع السد العالي، وقد استقدمه الخليفة الحاكم من البصرة لتنفيذ هذه الفكرة لكنه بعد درس أولي أدرك استحالة تنفيذ تلك الفكرة بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية اللازمة لتنفيذ ذلك المشروع في ذلك العصر. أمّا العالم الأندلسي البطروجي فقد نقد نظريّة بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري وبالتالي مهّد السبيل للعالم كوبرنيكوس.

النسخة الألمانية الأصلية لكتاب هونكه وهي بعنوان شمس الله تسطع على الغرب
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة

 

“كان الأوروبيون لا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد، فيما كانت بغداد تعج بآلاف الحمامات العامّــــة والمسلمون يتطـــــهَّرون خمس مرات في اليوم”

أسبقية العرب في رصد الفلك
تشير هونكِه إلى أنّ الوسائل التي وضعها العرب في متناول الأوروبيين كانت أكثر أهمية في مجال رصدهم للسماء وحل أحاجيها، لقد كان العرب أساتذة خلاقين في علم الرياضيات على خلاف الرومان الذين لم يأتوا في هذا الميدان إلا بنتائج ضعيفة قليلة. كان الخليفة المأمون 786 ــ 833 قد ابتنى مرصدين على جبل قاسيون وفي الشماسية ببغداد، وفي عهده ومن بعده أنشئت عدة مراصد في البلاد الإسلامية، وأنشأ الفاطميون مرصداً على جبل المقطم عرف بإسم المرصد الحاكميّ وبنى نصير الدين الطوسي مرصد مراغة بأمر من هولاكو، وهو المرصد الأهم مما سبق ومنها مرصد الشاطر بالشام والدّيْنَوَري في أصبهان والبيروني وأولوغ بك بسمرقند والبتّاني بالشام وغيرها كثير في مصر والأندلس وأصبهان.
ومن العلماء العرب الرواد الطبيب الفذ والفيلسوف المشهور الشيخ الرئيس إبن سينا 980 ــ 137م، وأما الفارابي 780ــ 950م الملقب بالمعلّم الثاني بعد أرسطو” فقد كان فيلسوفاً فذّاً ذائع الصيت بالإضافة إلى كونه موسيقياً بارعاً .
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدّاً قريباً من الكمال وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلّثات الدائريّة وبصريّاتهم الدقيقة كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبا عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية من ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.

“ابن الهيثم بيَّن خطأ قول إقليدس وبطليموس بأنّ العين ترى بواسطة أشعة ترسلها إلى الأشياء مؤكِّداً أن الأشيـاء هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصـــــرها”

عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري - رثص
عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري – رثص

الأيدي الشافية
في مجال علم الطبّ تخلص الباحثة إلى القول: “لذلك استقبلت كتب ابن سينا والرازي وابن رشد بالثقة نفسها التي استقبلت بها كتب أبوقراط وجالينوس ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول امرؤ ما ممارسة الطبّ من دون الاستناد إليها اتّهم بالإضرار بالمصلحة العامّة.
كان طب الفرنجة مزيجاً من الممارسات البدائية والخرافات بينما كانت المشافي العربية في قرطبة وبغداد والقاهرة قبل ألف عام تشبه إلى حد بعيد ما كنا نراه في القرن العشرين. ويروى أن السلطان المنصور قلاوون بنى المستشفى المنصوري في القاهرة وعند إتمام بنائه قال: إنني قد وهبت هذا المستشفى إلى أندادي وأتباعي وخصصته للحكام والخدم، للجنود والأمراء، للكبار والصغار والأحرار والعبيد، للرجال والنساء على السواء.

أثر العرب في الطب الغربي
تذكر هونكِه أنّه “من المحاضر والتقارير في مستشفيات بغداد الكبيرة وغيرها خلال الربع الأول من القرن العاشر خرجت إلى الوجود موسوعة طبية ضخمة استعملها الأطباء الأوروبيون خلال مئات السنين ككتاب للتعليم استعان بها صاحبها في تصريف أموره الخاصة وتعليم تلاميذه وكان واضع تلك الموسوعة الهائلة رجل ذاعت شهرته في الآفاق حتى لقّب بأعظم طبيب في القرون الوسطى و” بأحد أطبّاء العصور كلّها” إنّه الرازي..!

أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً !!
قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم لا تحتوي إلاّ على مؤلّف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير، كان ملك المسيحية لويس الحادي عشر قد دفع ثمنه غالياً من الذهب والفضة وكان هذا الأثر الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد، وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدّة تزيد على الأربعمائة عام بعد ذلك التاريخ من دون أن يزاحمه مزاحم أو تؤثّر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب في صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبار الذي خطّته يد عربي قدير.
وقد اعترف الباريسيون بفضله فأقاموا له نصباً في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جرمان حتى إذا ما تجمع فيه اليوم طلاب الطب وقعت أبصارهم عليها ورجعوا بذاكرتهم إلى الوراء يسترجعون تاريخه. إنه الرازي أو Rhases كما سمّته بلاد الغرب، و أمّا اسمه الحقيقي فهو أبو بكر محمد بن زكريّا.
ومن هنا فلا عجب أن يشهد مؤرخ الطب نويبرجر Neuberger بـ “أن العرب هم الذين أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقصه التسلسل .. صنّف العرب كتباً مختصرة جامعة عظيمة التماسك صبّوا فيها كل المواد الدراسية الخاصة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة وصاغوا في لغتهم الحيّة التي لم تمت فيها كلمة تعابير علمية مثالية”، لهذا كله، فضّلهم الغربيون أول الأمر على غيرهم فأصبح العرب أساتذتهم الذين أخذوا عنهم العلوم الطبّية أكثر مما أخذوه من كتب اليونان المبعثرة الغامضة، فكان العرب أعظم معلّمي الغرب خلال سبعمائة سنة!!
وفي نحو أواخر القرن الثاني عشر تدفق سيل الترجمة تدفّقاً متواصلاً لم يكن بوسع أحد أن يوقفه، وانطلق من إسبانيا وصقلية ومن شمالي إيطاليا. فمن مدينة بادوا جاءت ترجمة كتاب الكلّيات لابن رشد وكتاب التيسير لابن زُهَر الأندلسيّ الذي عُرِف باللاتينيّة بـ Avenzoar مرّتين على التوالي.
ومن صقلّية جاءت ترجمة أضخم كتاب للرازي”الحاوي” والمسمّى باللاتينية Continens Rhases عام 1279 وقد أمضى اليهودي ابن سليم المتعلم في سالرنو بصقلّية نصف حياته في ترجمته؛ وظلّت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية على أشدّها حتى القرن السادس عشر وأضيفت أشياء جديدة لم تكن معروفة، وأعيدت ترجمة كتب أخرى مرة ثانية ككتابي “القانون” و”زاد المسافرين” لابن الجزار وكتب أخرى للرازي ولابن رشد. وبهذا انطلقت حركة فكريّة جبارة لم يقدر أي من العلماء في القرون التي تلت إلاّ أن يتأثّر بها.
وفي ذلك الوقت، كان كل تفكير خلاق يقف عاجزاً أمام طريقة التفكير الجامدة للكنيسة والتي كان على الأجيال الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … كان رجال العلم الأوروبيون يتبعون رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ماعدا جماعة سالرنو ــ صقلّية ــ وجماعة نابولي وذلك على عكس الأطبّاء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في الحياة غير مقيّدين إلا بقيود الحقيقة والعلم. أمّا ابن سينا والرازي خاصة فقد امتدت شهرتهما حتى القرن السابع عشر وأصبحت نعوتهما Annma Avicenne أو Avicennista Insinis (روح ابن سينا) ألقاباً يفتخر بها كل طبيب غربي.
وتشير هونكه إلى أن فنّ الجراحة يدين بتقدّمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن “الحقيرة” الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهن الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، وكان مؤلف ابن سينا أكثر كتاب طبي درسه طلاب المعرفة في تاريخ العالم، أما شروحه والتعليقات عليه فقد كان لا يحصيها عدد.
وفي القرن التاسع الميلادي لمع نجم في سماء الحضارة العربية وسجّل لها أكبر الأثر في سجلّ الفتوحات العلمية في عصر طار فيه صيت الرازي، ألا وهو جابر بن حيّان الذي كانت له شخصية سياسية على قدر كبير من التأثير، إذ كان أحد القادة الروحيين للإسماعيلية وكتب مؤلّفات دعاوية في قالب فلسفي علمي بشكل يلفت الأنظار الأمر الذي اضطرّ أحد أعداء العرب أن يعترف بعظمته فقال: “ لقد كان عالماً عظيماً بالرغم من أنّه كان عربيّاً”.(ص 325 )
وبرع العرب كل البراعة بكل ما قدّموه من أنواع الضّمادات والمساحيق واللزوق وغيرها وقد كان اهتمامهم منصبّاً على معالجة الخراجات والدّمامل وإنضاجها ثم شقّها ومداواة كثير من الأمراض الجلدية والجروح، كما إنهم سعَوْا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها باستعمال الخمرة المعقّمة التي يوازي تأثيرها تأثير البنسلين وغيره من المواد المضادة للميكروبات(ص328)

“كتاب الحاوي في الطب لأبو بكر الرازي بقي المرجع لتعليم الطبّ في أوروبا لمدة 400 عـام”

أول من أنشأ الصيدليات
كان العرب أوّل من افتتح الصيدليات العامة في ظل حكم الخليفة المنصور العباسي نحو 780م، وكان في كل مدينة مفتّش خاص يفتش تحضير الأدوية ويراقبها برفقة شرطة الصحة إلى جانب فحص المواد الغذائية.. في حين كانت الكنيسة في أوروبا ترفض مثل هذه الإجراءات وتعتبرها تعدّياً على مصالحها.
وفي عام 999 نشر أبو القاسم الزهراوي ـ (توفّي 1013) مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة، وشرح البيروني، “ارسطوطاليس العرب” ، للفكر العلمي دوران الأرض حول الشمس واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والاسطوانية المخروطية.
وبينما كان العالم العربي يتّجه نحو ذروة عصره الذهبي وقف الغرب مذهولاً وقد تولاّه الفزع يترقّب نهاية العالم عمّا قريب ويعظ القيصر الشاب أوتو الثالث وهو ابن العشرين ربيعاً الناس فيقول: “ والآن سيأتي المسيح ويحضّر الناس ليقتص من هذا العالم”.. وبينما أوتو الثالث يتشدّق بهذه الكلمات الجوفاء كان ابن سينا وهو حينذاك فتى في العشرين من عمره وقد بدأ يملأ الدنيا بأنباء فتوحاته العلمية الباهرة.
لقد أتى سادة الحضارة الجدد من قلب الصحراء الجدباء ليتبوّأوا فجأة مركز الزعامة بين حضارات العالم بلا منازع مدة ثمانية قرون وبهذا ازدهرت حضارتهم أكثر من حضارة الإغريق أنفسهم .
في ذلك الزمن كانت أوروبا تعلن أنّ الطريق الوحيد لتطهير الروح هو طريقها والضلال هو البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدّس، لقد كان عالماً أدار ظهره للعلم، “فالإسكندريّة كنز المعرفة الإغريقية والتي أصبحت مركزاً للمسيحية إلى جانب روما حُرِقت فيها نفائس ثمينة لا تعوّض من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم والثقافة الإغريقية حرقتها وأبادتها جموع من المسيحيين المتعصبين”، أمّا ما اتّهم به عمرو بن العاص فاتح الإسكندرية عام 642م “فهو مجرّد اختلاق لا أساس له من الصحّة.. فهو قد ضُرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، إذ حَرّم النّهب والسّلب على جنوده، وعمل ما كان غريباً عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء : لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرّية ممارسة شعائرهم الدينيّة المتوارثة “.

امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية
امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية

“العرب أدخلوا النور على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقص التسلسل، وهم صنّفوا كتباً جامعة عظيمة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة صاغوها بلغتهم”

تسامح العرب
تقرّ هونكِه بتسامح العرب }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ (البقرة: 256)، هذا ما أمر به القرآن الكريم وبناء على ذلك، فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام فالمسيحيون والزرادشتيّة واليهود لاقَوْا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصّب الديني وأفظعها، وقد سُمِح لهم جميعاً من دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم من دون أن يمسّوهم بأدنى أذى.
طلب العلم عبادة
في ص 368 وتحت عنوان طلب العلم عبادة تقول هونكه:” لقد أوصى مُحمّد (ص) كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم وجعل من ذلك واجباً دينيّاً فهو الذي يقول للمؤمنين “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” ويرشد أتباعه دائماً إلى هذا فيخبرهم بأنّ ثواب العلّم كثواب الصيام وأن ثواب تعليمه كثواب الصلاة”.

في السياسة، والعلم سفير للسلام تقول هونكه: لقد أحاط العرب الكتب بقلوبهم حتى المؤلّفات الفنيّة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة .. وهكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله أنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة وكانت الحركة الثقافية قد بدأت مبكرة أيام الأمويين على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد الذي بدأ بدعوة المتعلّمين من الإغريق والعرب من الإسكندرية، وعهد إليهم  بترجمة أعمال يونانيّة ومصريّة إلى اللغة العربيّة.
وفي العصر العباسي ازدهرت حركة الترجمة على يد السريان أبناء موسى بن شاكر الثلاثة الذين خصصوا ربع أملاكهم الضخمة للترجمة وجمع الكتب فضربوا بذلك المثل لغيرهم أمثال الطبيب قسطا بن لوقا البعلبكي، وكذلك حنين بن أسحق الذي قال عنه يحيى بن ماسويه رئيس المترجمين في عصري الرشيد والمأمون: “إنّ الذي فعله لا يستطيع عقل بشري أن يصوغه تلك الصياغة الرائعة، إنّه والله الإلهام من الروح القديم”. وبأعمالهم تلك “حمى المترجمون العرب آثار القدماء العلمية من الضّياع والزوال”.

شعب يذهب إلى المدرسة
لو أردنا دليلاً على مدى الهوّة العميقة التي كانت تفصل الشرق عن الغرب لكفانا أن نعرف أنّ نسبة 95% على الأقل من سكان الغرب في القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر كانوا لا يستطيعون القراءة والكتابة، وبينما كان شارل الأكبر يجهد نفسه في شيخوخته لتعلّم القراءة والكتابة وبينما أمراء

الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية
الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية

الغرب %

حول نظرية الأصل الخزري لليهود

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

التوسّع الصهيوني إستند دوماً إلى الضعف العربي
أكثر من استناده إلى حقوق تاريخية مزعومة

لم تبرز نظرية تحدُّر اليهود الأوروبيين من الشعب الخزري الآسيوي إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن هذه النظرية التي لم يتبناها إلا عدد محدود جداً من الكتّاب وأحد علماء الجينات اليهود تحوّلت إلى أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل والتعليقات داخل الوسط اليهودي وخارجه أيضاً واستقطبت النظرية بصورة خاصة إهتماماً واسع النطاق في العالم العربي حيث تحمّس لها كثيرون باعتبارها توفّر حجة بالغة في الجدل حول شرعية الكيان الصهيوني ودولة إسرائيل. وبالنظر إلى الحيز الذي احتلته في نصف القرن الماضي ثم تبني عدد كبير من المفكرين والمؤرخين العرب لها فإننا وجدنا من المفيد تخصيص هذا المقال لتمحيص هذه النظرية ومحاولة تحليل الحسابات والدوافع التي شجّعت على صياغتها وانتشارها.
رغم وجود بعض الآراء المتفرقة في الموضوع مثل أفكار بنجامين فريدمان في خمسينيات القرن الماضي فإن الفضل في الترويج لفكرة أن اليهود الأوروبيين ليسوا من أصل يهودي سامي يعود للكاتب اليهودي الهنغاري الأصل آرثر كوستلر ولكتابه الذي أصدره في العام 1976 ونال شهرة واسعة وهو بعنوان “السبط الثالث عشر”.
حسب كوستلر، فإن اليهود الغربيين (الأشكناز) لا ينتمون عرقياً إلى شعب إسرائيل التاريخي المذكور في الكتب المقدسة، بل هم متحدِّرون من شعب ذي أصول آسيوية تركية الذي كان يعيش في ما عرف بإمبراطورية الخزر التي قامت بين البحر الأسود وبحر قزوين والتي تبنّى شعبها اليهودية في القرن الثامن الميلادي، ثم نزح بعد ذلك، وبعد انهيار مملكة الخزر، إلى أوروبا الشرقية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر وخصوصاً إلى أوكرانيا وبولونيا وبيلاروسيا وليتوانيا وهنغاريا وألمانيا، وبناء عليه، اعتبر كوستلر ثم كتّاب آخرون يساريون مثل شلومو ساندز بأن الغالبية العظمى من يهود أوروبا يعودون في جذورهم إلى شعب الخزر وليسوا بالتالي ساميين.
هذه النظرية التي تعتبر “ثورية” فعلاً إن في مؤداها أو في نتائجها السياسية ضعيفة من الأصل وقد أسقطتها لاحقاً مختلف الدراسات الجادة التي قامت بها مجموعات من علماء وباحثين استخدمت أحدث تقنيات علوم الجينات البشرية (وسنأتي على ذكر بعض تلك الدراسات بعد قليل)، فآرثر كوستلر الذي كان له الدور الأهم في الترويج لهذه النظرية، رغم كونه مفكراً لامعاً، لم يكن مؤرخاً ولا عالماً طبيعياً وهو بنى نظريته على مصادر ثانوية وعلى إنتقائية إستخدم فيها ما يلائم النتائج التي يريد أن يتوصل إليها، وقد سُفِّهت نظريته على نطاق واسع لكنها مع ذلك حققت شهرة كبيرة بسبب طابعها المثير للجدل وترجمة كتبه إلى عدد كبير من اللغات بما فيها اللغة العربية، وانتشرت مقولات كوستلر

“من مفارقات نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز الإقرار ضمناً بحق يهود الشتات بإستيــــــطان فلسطين”

في الصحف والإعلام العربي، وأفاض الكتّاب والمعلقون في استقراء النتائج السياسية التي تترتب على تلك النظرية وأبرزها دحض الإدعاء بأن اليهود الأوروبيين هم من مكونات الشتات اليهودي وهو ما يهدم “شرعية” الهجرة إلى فلسطين أو شرعية إدعاء اليهود حق العودة إلى فلسطين. وقد تبنّى هذا الموقف بصورة خاصة عالم ومؤرخ عربي كبير هو عبد الوهاب المسيري الذي أصدر في العام 2008 كتاباً بعنوان “ من هم اليهود، وما هي اليهودية”؟ يعتبر من أهم الكتب التي يجب قراءتها لفهم المسألة اليهودية والعوامل التي ساهمت في إطلاق الفكرة الصهيونية ومشروع الإستعمار الغربي لفلسطين. وفي كتابه يعتبر المسيري أن نشوء إسرائيل تمّ نتيجة توافق من أوروبا المسيحية على “تصدير المشكلة اليهودية إلى الشرق بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره إلى فلسطين ليس محاولة للتخلص منه وإنما هو عودة إلى أرض الميعاد إلى آخر هذه الترهات، وبالفعل قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية لتستوعب هذا الفائض ولتكون قلعة أمامية تدافع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة العربية”.
إن المسيري محق بالتأكيد في اعتبار إسرائيل واليهود الذين تبنوا التفكير الصهيوني مجرد “جماعة وظيفية” لخدمة مصالح الدول الغربية في تقسيم العالم العربي والسيطرة على هذه المنطقة التي أصبحت بلا مرجعية بعد انهيار السلطنة العثمانية، لكنه وهو المعروف بدقته التاريخية لم يستطع مع ذلك مقاومة إغراء العائد السياسي الجاهز لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين فمال بالتالي إلى تبنّي النظرية. ولأن دراسة إران الحايك، وهو عالم جينات إسرائيلي مثيرة للجدل1 لم تكن قد نشرت بعد، فإن ذلك يعني أن المرجع الأهم الذي قد يكون المسيري استند إليه هو كتاب آرثر كوستلر “السبط الثالث عشر.
لكن قبل الدخول في عرض النظريات والأبحاث الكثيرة التي تتناول الأصول الأثنية لليهود الأوروبيين من المفيد أن نعرض هنا إلى أن كوستلر نفسه إعترف في وقت لاحق لصدور كتابه أنه أراد منه خدمة هدف سياسي هو إلغاء الذرائع العرقية التي بنيت عليها معاداة السامية (أي معاداة اليهود) في أوروبا، فهو أخبر صديقه عالم البيولوجيا الفرنسي بيير دوبريه ريتزن بأنه “على يقين بأنه إن أمكنه أن يثبت أن غالبية يهود أوروبا (الأشكناز) هم متحدِّرون من شعب الخزر البائد وليس من بني إسرائيل التاريخيين فإن ذلك سيزيل الأساس العرقي الأهم لمعاداة السامية وبالتالي المشاعر المعادية لليهود في أوروبا”.

أجندة كوستلر السياسية
إن الواقعة السابقة توضح بأن كوستلر الذي لم يكن مجهزاً للكتابة في موضوع معقّد مثل الأصول العرقية لليهود الأوروبيين كان يتحرك بهدف سياسي هو رفع الضغط العنصري عن اليهود الأشكناز من خلال تبرئتهم من وزر أساسي هو تهمة صلب المسيح واضطهاد المسيحية وهو إرث جعل اليهود تاريخياً في موقع العدو للشعوب المسيحية..
كان كوستلر قد بدأ حياته شيوعياً ستالينياً ثم انقلب على الشيوعية وعمل مع الأجهزة الغربية2 وتحول إلى أحد أبرز مناهضي الشيوعية مع شيوعي سابق كسب شهرة أوسع هو جورج أورويل الذي صوّر بشاعة الدكتاتورية الستالينية في كتابه الشهير “مزرعة الحيوانات”، كما أصدر أشهر كتبه عن هيمنة الدولة على الفرد في كتابه الشهير الآخر “1984” ، وقد فوجئ كوستلر بأن نظريته التي أراد أن تخفف الضغط عن اليهود الغربيين تلقفتها على الفور الأوساط التي تعادي الدولة الصهيونية بإعتبارها تزيل أي شرعية عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أثارت هذه المضاعفات غضب الأوساط اليهودية التي اتهمت كوستلر بالتفكير المغامر والأخرق الذي أضرّ بالقضية اليهودية أكثر مما نفعها لذلك، سارع كوستلر للدفاع عن نظريته بالقول إنه لم يقصد بها نفي حق إسرائيل بالوجود معتبراً أن هذا الحق وبالتالي شرعية إسرائيل- لا يستندان إلى مبررات دينية أو عرقية بل إلى قرارات الأمم المتحدة وبالتالي فإن الجدل حول أصل اليهود لا يجب أن يكون له أثر على حق اليهود في الانضمام إلى المجتمع الإسرائيلي.
لكن، وفي جميع الأحوال، فإن احتفال الكتّاب العرب بنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين كان فيه استعجال لأن النظرية نفسها تنطوي على مزالق بل على فخ محكم لم يتنبه إليه المتحمسون لها وهذه المزالق تكمن في ما يلي:
1. إن نظرية الأصل الخزري ضعيفة جداً من الناحية العلمية وإن كانت مناسبة في نظر البعض من الناحية السياسية، وسنبيّن بعد قليل أن أكثر الدراسات الجادة كذبتها، فهي لذلك ليست أرضاً صلبة يمكن الوقوف عليها في مناهضة الصهيونية ومشروعها في إسرائيل..
2. إن بناء الحق الفلسطيني ليس على أن إسرائيل في حدّ ذاتها مشروع باطل وغاصب للحق بل على حجة فرعية هي أن اليهود الذين يهاجرون إليها من الدول الأوروبية لا يحق لهم ذلك لأنهم ليسوا من يهود الشتات، يعني الإقرار ضمناً بأن من حق يهود الشتات أي أولئك الذين ينتمون فعلاً إلى الشعب اليهودي الأصلي أن يطالبوا بحق العودة، وهذا من أغرب المفارقات.
3. إن أكثر من نصف السكان في إسرائيل اليوم هم من المزراحين Mizrachim أي الذين كانوا في فلسطين العربية أو هاجروا إليها بصورة خاصة من الدول الإسلامية والعربية التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية خصوصاً بعد حربي 1948 و1967. فما هو في نظر أصحاب نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين حكم هؤلاء اليهود (وهم بصورة أكيدة ينتمون إلى الشعب اليهودي الأصلي)؟ هل لأنهم كذلك يعني أن من حقهم الهجرة إلى إسرائيل؟
إن الواقع الديمغرافي للسكان في إسرائيل اليوم يشير بوضوح إلى أن الاستثمار في نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز (الذين يمثلون اليوم أقل قليلاً من نصف سكان إسرائيل) لا فائدة منه لأنه حتى ولو افترضنا جدلاً أن قسماً كبيراً من هؤلاء لا يعودون بأصولهم إلى اليهود الساميين فإن ذلك لن يتناول إلا نسبة معينة من سكان إسرائيل اليوم، وسنكون قد وضعنا أنفسنا في مأزق كبير بحيث قبلنا بصورة غير مباشرة بشرعية إسرائيل ككيان، لكن مع الدخول في جدل بيزنطي حول من يحق له ومن لا يحق له الهجرة إليها واغتصاب حقوق سكانها الأصليين!

حقيقة اليهود الخزر
إن أسطورة الأصل الخزري لليهود الغربيين تقوم على مغالطة أساسية هي الخلط بين اعتناق خاقان (ملك) الخزر والنخبة المحيطة به لليهودية في القرن التاسع الميلادي لأسباب سياسية وبين الإدعاء بأن شعب الخزر جميعه إعتنق اليهودية وهو ادعاء تظهر كل البراهين التاريخية أنه باطل، لأن هذا الشعب الآسيوي كان في غالبيته الكبرى من المسلمين والمسيحيين وبعض الوثنيين، وقد كان الخزر جزءاً من الإمبراطورية التركية الغربية في آسيا الوسطى في حوالي منتصف القرن السادس الميلادي قبل أن تعتنق الشعوب التركية الإسلام.
ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن الخزر حصلوا على درجة كبيرة من الاستقلالية في ظل الحكم العربي الإسلامي، وأقاموا دولة خاصة بهم وأن ملك الخزر (الخاقان) إعتنق الديانة اليهودية في القرن الثامن للميلاد وتبعه بعض حاشيته لسبب سياسي هو وقوع الخزر بين فكي صراع شرس بين الدولة الإسلامية العبّاسية في ظل الخليفة هارون الرشيد وبين الدولة المسيحية البيزنطية، فأراد الخاقان أن ينأى بمملكته عن الصراع ووجد في تبني الدين اليهودي الذي كان معترفاً به كدين كتابي حلاً يبرر له الوقوف على الحياد بين الإمبراطوريتين النصرانية والإسلامية، لكن تهوّد الخاقان وحاشيته لم يتجاوز نطاق الطبقة السياسية إلى الشعب الخزري الذي كانت تنتشر وسطه الديانتان الإسلاميّة والمسيحية إلى جانب بعض المعتقدات الوثنية، ولم يكن في وسع الخاقان –أو مصلحته- أن يجبر المجموعات الدينية المختلفة

آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا
آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا

في المملكة على تبني اليهودية بالقوة لأنه كان سيستفز بذلك العباسيين والبيزنطيين معاً. ويذكر الاصطخري3 أن دولة الخزر كانت تديرها “طبقة حاكمة” من اليهود، وأما شعوبها فأغلبهم من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، وأن المساجد كانت تنتشر في أرجاء المملكة إلى جانب الكنائس المسيحية والمعابد، كما إن المحكمة العليا كانت مشكلة من أعضاء من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، ورغم تعاظم الدولة الإسلامية وانتشار الدين الحنيف فقد هادنت الدولة الإسلامية مملكة الخزر وقامت علاقات قوية تجارية وثقافية بين الطرفين لكن قامت بعد ذلك حروب انتهت بزوال مملكة الخزر واستيلاء العرب المسلمين على معظم أقاليمها وتحول الخزر نتيجة لذلك إلى شعوب تعيش في ظل الدولة الإسلامية الواسعة المترامية الأطراف وعلى سبيل المثال، فإن أحد أبرز علماء المسلمين وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب تفسير الطبري هو من طبرستان في مملكة الخزر.
إن الوقائع السابقة الواردة في روايات المؤرخين العرب خصوصاً تظهر أن شعب الخزر بقي رغم تهوّد الخاقان وحاشيته في أكثريته الساحقة من غير اليهود، وأن هذه الأكثرية كانت قد تحوّلت إلى الإسلام في القرن الثاني عشر. وقد لا ينفي ذلك هجرة فئة من يهود الخزر إلى أوروبا الشرقية أو الغربية، لكنه يظهر أن تلك الهجرات كانت محدودة وربما نتج عنها اختلاط بين اليهود الخزر وبين اليهود الذين كانوا قد قدِموا من الشرق الأوسط إلى أوروبا منذ أيام الرومان، لكن هذا التمازج كان محدوداً كما بيّنت لاحقاً الدراسات الجينية التي أثبتت أن العنصر الخزري لم يظهر إلا بنسبة ضئيلة في التكوين الجيني لليهود الأوروبيين، بينما

مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال
مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال

“خاقان الخزر وحاشيته تهوّدوا في القرن التاسع سعياً للحياد في الصراع بين بيزنطة والدولة الإسلامية لكن أكثرية الشعب بقيت على الديانتين الإسلامية والمسيحية”

تبين بوضوح أنهم يحملون بأكثريتهم البصمات الجينية لليهود الساميين المنتمين إلى بلدان الشرق الأوسط.
وسنسرد في ما يلي مقتطفات من أبحاث جينية تمت في العقدين الأخيرين في ما يتعلق بالأصول الأثنية لليهود الأوروبيين والتي تثبت جميعها عدم صحة فرضية الأصل الخزري.

1. في العام 1999 صدر بحث علمي بعنوان “يهود وشعوب الشرق الأوسط غير اليهودية يشتركون في مجموعة واحدة من الكروموزوم Y البياللي” لهامر وآل4 نشر في محاضر الجمعية الأميركية للعلوم وجاء فيه: “على الرغم من إقامتهم لمدة طويلة في بلدان مختلفة وبعزلة بين مجموعة وأخرى، فإن معظم السكان اليهود لم يظهروا اختلافاً كبيراً في ما بينهم على مستوى الخصائص الجينية”، وأضاف التقرير العلمي

الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهودي
الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهوديعن نتائج البحث القول:”إن معظم الجماعات اليهودية بقيت في عزلة نسبية عن محيطها غير اليهودي خلال الشتات وما بعده” و”إن اليهود الغربيين (الأشكناز) يشتركون في أصولهم مع الجماعات اليهودية الشرق أوسطية بدرجة أكبر من اشتراكهم في تلك الخصائص مع الجماعات غير اليهودية القاطنة في أوروبا الشرقية وألمانيا”.

2. أظهرت دراسة نشرت في العام 2006 بعنوان “التركيبة الثانوية للشعب الأوروبي : خصائص الأقوام الجنوبية والشمالية” أن اليهود الأشكناز (الأوروبيون) والسفارديم (الشرقيون) أظهروا أنهم يشتركون في ما لا يقل عن 85% من خصائص الجماعة الجنوبية وهو ما ينسجم مع القول بوجود أصل متوسطي مشترك للجماعتين.

البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز
البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز

3. في نيسان سنة 2008 بعنوان “ إحصاء الأسلاف: الخصائص الجينية المشتركة للشتات اليهودي” خرج الباحثون بنتيجة أن 40% من اليهود الأشكناز يتحدّرون من أربع جدّات نساء جميعهن من أصل شرق أوسطي.
4. في كانون الثاني 2009 صدرت دراسة حول أسلاف الشعب اليهودي في المجتمع الأوروبي الأميركي وانتهت إلى القول “إن الأفراد اليهود الذين أظهروا انتماءهم الكامل إلى سلالة يهودية شكلوا مجموعة مختلفة تماماً عن أولئك الذين لا ينتسبون إلى أصول يهودية” وأظهر البحث “أن اليهود الأشكناز والسفارديم أظهروا إنتماءهم إلى مجموعة أثنية واحدة” وهذا الافتراض سيكون مستحيلاً في حال الأخذ بنظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز.
5. في شهر كانون الأول 2009 خرجت دراسة حول الأصول المشتركة بين يهود الشرق الأوسط واليهود الغربيين5 بالاستنتاج التالي: “ إن المجموعات الأثنية اليهودية تظهر مستوى عالياً من التماثل الجيني في ما بينها، وهذه النتيجة تدعم القول بأن الجماعات اليهودية تشترك في أصول شرق أوسطية وأنهم حققوا خلال تاريخهم درجات مختلفة من الإمتزاج مع الأعراق غير اليهودية ذات الأصول الأوروبية”.
6. في دراسة صدرت في كانون الأول 2009 بعنوان “ التركيب الجيني للشعب اليهودي” انتهى الباحثون إلى القول: “إن العينات التي تمّ درسها من أوساط مختلفة من يهود الشتات أظهرت أن معظمها يعود بأصوله إلى بلدان المشرق”.
7. في حزيران 2010 أظهرت دراسة بعنوان6: “أبناء أبراهام في عصر الجينوم: “إن معظم جماعات الدياسبورا اليهودية ذات أصول شرق أوسطية” وقد جاء في الدراسة أن الأبحاث التي جرت على 7 مجموعات يهودية من إيران والعراق وسوريا وإيطاليا وتركيا واليونان واليهود الأشكناز (الأوروبيون) أظهرت وجود خصائص لكل من تلك المجموعات تعود إلى أصول شرق أوسطية لكن مع وجود درجات متفاوتة من التمازج مع العنصرين الأوروبي والشمال أفريقي” وتضمّنت الدراسة رفضاً صريحاً لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين بالقول:”إن القرابة الجينية بين المجموعات المدروسة لا تتوافق مع النظريات التي تقول بأن اليهود الأشكناز متحدِّرون مباشرة من الخزر السلاف الذين اعتنقوا اليهودية”.
وهناك في الحقيقة مصادر عديدة وأبحاث لا يتسع المجال لذكرها في هذا المجال تظهر كلها أن لليهود الأشكناز جذوراً مشتركة مع يهود بلدان المشرق الذين عاشوا طويلاً في أنحاء الدولة الإسلامية واندمجوا بمجتمعاتها، كما إن الدراسات اللغوية (الألسنية) تظهر أن كلمات عديدة تنتشر بين اليهود الأشكناز والسفارديم على السواء وأن المفردات الخزرية تكاد تكون مفقودة من لغة اليديش (العبرانية-الألمانية) واللهجات العبرية الأوروبية الأخرى كتلك التي سادت بين يهود إسبانيا وشمال أفريقيا.
صك براءة لأوروبا؟
إن هناك حلقة مهمّة مفقودة في الجدل الذي أثارته نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين وهي حلقة تبيّن ربما لماذا سعى الإعلام الأوروبي للترويج إلى تلك النظرية، ولماذا حصل ذلك التبني للكاتب آرثر كوستلر إلى حدّ تحوله إلى نجم في المجتمع البريطاني؟ هذه الحلقة تتعلق بأن الأكثرية الكبرى من يهود أوروبا الشرقية لم يأتوا من بلاد الخزر بل من دول أوروبا الغربية التي قامت بتهجير الجماعات اليهودية على مراحل، الأمر الذي دفع بهم للتوجه إلى مجتمعات أوروبا الشرقية التي استقبلتهم للإستفادة من خبراتهم ومهاراتهم التجارية والحرفية. ومعروف أن أكثر اليهود الأوروبيين هم ساميون ينحدرون من أصول شرق أوسطية وكان معظمهم قد هاجروا على مراحل مختلفة من بلدان الشرق الأدنى ثم إبان الحكم الروماني خلال القرون الأولى للميلاد.
إن نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين فضلاً عن أنها في اعتقاد أصحابها تخدم أغراض اليهود في جعلهم من أصول غير سامية وتنفي بالتالي صلتهم باليهود الساميين الذين يتهمهم المسيحيون بصلب المسيح، فإنها تخدم المجتمعات الأوروبية من خلال التغطية على فصل مظلم في تاريخ تلك المجتمعات يتعلق بإضطهاد اليهود ودفعهم بالتالي الى الهجرة باتجاه أوروبا الشرقية التي أصبحت لهذا السبب (وليس لقدوم مزعوم ليهود الخزر) تضم النسبة الكبرى من اليهود الأشكناز والتي شكلت لاحقاً (مع روسيا) المصدر الأكبر للهجرات اليهودية إلى فلسطين.

خلاصة
إن الحماسة التي أثارتها داخل العالم العربي نظرية ضعيفة وتدحضها البراهين العلمية حول أصل خزري لليهود الأشكناز تمثل نموذجاً عن نمط في مواجهة التحديات الوجودية يتَّصف بالتسرّع والسهولة وإهمال واجب التمحيص والتدقيق في الوقائع قبل إصدار الأحكام، كما إنه انسياق وراء الأماني والآمال الخادعة في حرب وجود شرسة لم نستطع منذ البدء أن نكون في مستوى المسؤوليات التي تفرضها. إن التوسع الصهيوني في فلسطين والمنطقة يستند بالدرجة الأولى، ومنذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، إلى ضعف العرب وتمزق صفوفهم وتخلّف حكوماتهم ولم تكن دعوى الحقوق التاريخية المزعومة فيها إلا حجة القوي الغاصب في وجه المغصوب الضعيف. وها نحن نمضي في إضاعة بلداننا التي تغتصب أو تنتهك تحت أنظارنا دونما حاجة للغاصبين حتى لتقديم حجة أو لتبرير أفعالهم بـ “حقوق تاريخية” أو ما شابه من الأعذار.

الحوار الاسلامي المسيحي

قراءة في كتاب الدكتور الشيخ سامي أبي المنى

الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان
رؤية الموحِّدين الــدّروز1

مرجع لفهم قضية مركزية في العلاقة الإسلامية المسيحية
ودليل إلى فهم الموحِّدين الدروز وتاريخهم وثقافتهم الحوارية

يعتبر الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان من أبرز المواضيع التي يشارك فيها مثقفون ورجال دين وسياسة من مختلف الطوائف المنتمية إلى الجماعتين الروحيتين في لبنان. وهناك شخصيات حوارية ومجالس حوار وندوات حوار تشكّل في مجموعها بيئة مميزة في لبنان. ويعتبر الشيخ سامي أبي المنى الشاعر والأديب من الشخصيات الحوارية المعروفة بسبب ما يتميز به من شخصية هادئة ولباقة وأسلوب راق في التعبير عن الاختلافات، وهو من الشخصيات التي تدعى بإستمرار للمشاركة في الندوات الثقافية أو في الحوارات التلفزيونية، وقد ساهم بمداخلاته المتَّزِنة في تقديم صورة إيجابية ومضيئة عن الموحِّدين الدروز خصوصاً من خلال الأقنية الفضائية التي تصل إلى قسم كبير من الجمهور اللبناني والعربي.
نهج الشيخ سامي أبي المنى الحواري والتوفيقي طبع بوضوح مؤلفه الجامع حول موضوع الحوار، لكن الكتاب متأثر أيضاً بوظيفته الأصلية كأطروحة للدكتوراه الجامعية، والتي لا بدّ من اتباع منهجية معينة في إعدادها وفق المعايير السائدة في الوسط الجامعي، لذلك جاء جيد التبويب، شديد التفصيل، مدعَّماً بلائحة من مئات المراجع استغرقت 12 صفحة، بل إن من الممكن وصف الكتاب باعتباره عدة كتب في مجلد واحد، وهو لهذا يحمل فوائد عدة ويترك للقارئ خيار التوقف أكثر عند الموضوع الذي يرتدي أولوية بالنسبة له. خذ مثلاً الفصل الوافي عن الموحِّدين الدروز الذي قصد الشيخ أبي المنى من خلاله تقديم دفاع عقلاني عن موقف طائفته من خلال البحث بعمق في هويتها الروحية الإسلامية والعربية ودورها التاريخي في الدفاع عن الدولة الإسلامية وتنظيمها الاجتماعي ومسلكها الروحي والأخلاقي وتسامحها الشهير، وهو يقدّم دليلاً موجزاً عن الموحِّدين الدروز لمن ليس له إلمام كاف بحقيقتهم أو من يحمل أفكاراً مغلوطة عنهم متأثرة بالأغراض السياسية وتاريخاً طويلاً من التكاره بين الفرق في الإسلام، وهو يصف قومه بأنهم “أهل تسامح وعرفان وتصوف” وهم قبل كل ذلك مُوحِّدون وأتباع مذهب يدين بالإسلام.
وفي ما يحمل الموحِّدون الدروز هوية ثقافية وروحية يتمسكون بها وهي متأصلة فيهم فإنهم من الناحية الاجتماعية منفتحون يتقبلون الآخر بسهولة بل يتفاعلون معه ويأخذون من نواحي تميزه كما يظهر من العلاقة التاريخية مع الطوائف الإسلامية ثم وبصورة خاصة مع الموارنة الذين استقدم العديد منهم من قبل أمراء الدروز لأهداف اقتصادية لكنهم أُعطوا في الوقت نفسه كل ما يمكنهم من ممارسة شعائرهم والتعبير عن هويتهم. وفي هذا السياق، يلفت وصفه للمثقفين الدروز بأنهم “ينسجمون مع فكرة الحوار والانفتاح، فهم ذوو عقل ليبرالي متحرر يميل إلى العلمانية في التفكير، وبذلك ينسجون علاقات فكرية ووطنية واجتماعية مع نظرائهم من اللبنانيين، وهذا ما يفسر انخراط العديد منهم في المنظمات والأحزاب اللاطائفية، وفي الحركات النضالية على مستوى البلاد والوطن العربي (وهو هنا يشير على الأرجح إلى دورهم في الثورة العربية وفي الجهاد في فلسطين ثم الثورة السورية الكبرى وفي غيرها من أعمال النهضة العربية، والأهم من ذلك اهتمامهم الفعلي بالحوار، ولعب دور فاعل ووسطي وتقريبي بين جميع المواطنين”.
وفي سياق عرض تقاليد التسامح والحوار لدى الموحِّدين الدروز يضيف الشيخ أبي المنى فصلاً خاصاً عن المعلم كمال جنبلاط، إذ يعتبره النموذج الأكمل على التنوع والغنى في مصادر ومقومات التوحيد الدرزي وعلاقته التقدمية والإنسانية مع الآخر.
وهو يورد شرح المعلم الشهيد للأسس التي يقوم عليها تلاقي المسيحية والإسلام على ثلاثة أركان هي: 1- ملتقى العقائد 2-منحى التجمّع البشري والاجتماع الحياتي 3- مستوى الحضارة العربية الشرقية الواحدة.
ويزيد المؤلف هذا الوصف البليغ من قبل المعلم كمال جنبلاط لأبرز معوقات الحوار والتعايش الحقيقي (لا “التكاذبي”) والتي يصفها على هذا النحو في كتابه “في ما يتعدى الحرف” إذ يقول: “إن أزمة لبنان غير المعلنة هي في ازدواجية التعاطي والأخذ والردّ، والقول والعمل، وهو عقدته النفسية العميقة التي تمنع المواطنين من التوحّد والتكامل والانصهار في بوتقة الخليّة الاجتماعية والوطن والدولة” (كمال جنبلاط: “في ما يتعدى الحرف” – ص 14).
ويبرز الشيخ سامي في الفصل الخاص عن كمال جنبلاط رؤية المعلم المتقدمة لتكامل المسيحية والإسلام فيورد أولاً تأكيد كمال جنبلاط على أن الرسول محمد بن عبد الله (ص) هو مؤسس الحضارة العربية وهو ذاته مؤسس الإسلام.. لكن الحضارة العربية لم تقتصر على الشعب العربي وحده أو على المسلمين لأن النصرانية أسهمت إسهاماً ضخماً في الحضارة العربية الإسلامية لهذا، فإن النصرانية حسب كمال جنبلاط هي “وديعة الإسلام الحقيقي، وهو بدوره وديعتها في ما يتحلى به من قيم وحضارة في بلاد المشرق” داعياً الجميع لأن يدخلوا “في سياق مجرى تطور الجماعة نحو علمنة الدولة واشتراكية الاقتصاد وازدهار الفن والأدب وتنمية روح الكشف عن الكنوز الدفينة وتجاوز حدود المكان والزمان لنرى الحقيقة على الدوام كما هي” (في ما يتعدى الحرف).. والاشتراك الحقيقي بين النصرانية والإسلام بحسب كمال جنبلاط هو في النهاية “الاشتراك في التوحيد الحكمي والفلسفي والمعرفي والإنساني والعرفاني”.
يقدّم الشيخ سامي في خواتيم الكتاب مجموعة اقتراحات تتعلق بترسيخ مناخ الحوار ومفهوم المواطنة عبر إصلاح التعليم مثلاً وعدم التدخل في كتابة التاريخ وتعليمه بتأثير العقائد والأهداف السياسية حتى ولو كانت نبيلة مثل دعم فكرة الوحدة الوطنية، لأن التاريخ علم قائم بذاته يعتمد بالكلية على الوقائع والموضوعية في العرض والتحليل.
نعود إلى القول إن كتاب الشيخ سامي أبي المنى واسع وغني بالتفاصيل وهو مكتوب كرسالة طويلة في الإقناع وفي تبيان أسس الحوار وقواعده وغاياته، لكن المؤلف لا يترك القارئ قبل أن يضع لكتابه خاتمة يمكن اعتبارها بمثابة “مانيفستو” يتضمن مجموع القواعد التي يجب أن يقوم عليها الحوار والتضامن الوطني والاجتماعي بين اللبنانيين ومنها بصورة خاصة:
1. إن تلاقي الأديان هو السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية وإنقاذ الإنسان

الكتاب
الكتاب

2. إن لبنان لا يمكن أن تحكمه طائفة واحدة على حساب الآخرين وإن النزاعات المكلفة التي قامت من حين لآخر بين اللبنانيين تفرض عليهم أن يتوجهوا نحو الدولة المدنية أو “دولة المواطنة الجامعة”.
3. إن تطبيع العلاقات بين المسلمين أنفسهم أصبح اليوم أكثر إلحاحاً وإن المصالحة الإسلامية-الإسلامية ضرورة أساسية لإنقاذ الحوار الإسلامي المسيحي نفسه.
4. إن المسالمة الحقيقية لدى الموحِّدين الدروز هي مسالمة داخلية مع الذات ومسالمة مع الآخر وهم منفتحون على المستقبل وقابلون بإجراء النقد الذاتي، وهم لذلك يعتبرون أن الحوار يجب أن يبدأ مع الذات وتنقيتها لكي يصحّ مع الآخر.
5. إن الموحِّدين الدروز يعتبرون أن مسلكهم الإسلامي التوحيدي العرفاني هو نقطة الاشتراك مع كلّ الأديان والمعتقدات
6. إن رسالة الموحِّدين الدروز الجديدة يجب أن تشمل في نظر العديد من مثقفيهم المشاركة في تجديد الخطاب والفكر الإسلاميين ومقاومة التطرف.
ر.ح.

مقالات ثقافية