الخليفة هارون الرشيد
والعصر الذهبي للدولة العبّاسية
أنشأ إمبراطورية إسلامية كانت الأغنى في العالم
وأطلق أكبر نهضة عمرانية وحضارية في التاريخ
كان يصب الماء بنفسه على أيدي العلماء بعد الطعام.
توقيراً منه للدين وتقديراَ لأهل العلم والفقهاء
خطط الرشيد جديا لشق قناة السويس ثم أحجم
خشية أن يسهِّل ذلك دخول الروم الأماكن المقدسة
ينظر العديد من المؤرخين إلى عهد الخليفة هارون الرشيد باعتباره يمثل العصر الذهبي للدولة العباسية وللدولة الإسلامية التي قامت في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى. بل أحد الكتاب المسلمين رفعه إلى مكانة لا يشاركه بها أحد عندما قال أنه “لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد”
ففي عهد هذا الخليفة الفاتح والمستنير أصبحت الدولة العباسية أكبر الممالك وأغناها على وجه البسيطة كما أصبحت مركز تقاطع الحضارات كلها من أسيوية وفارسية وبيزنطية ويونانية ومصرية، وأصبحت بغداد أكبر وأشهر مدن العالم كما أصبحت في الوقت نفسه أهم مركز للثقافة والعلوم والفنون في العالم.
وشهد عهد هارون الرشيد نهضة شاملة لكل نواحي الحياة بسبب تدفق الأموال إلى خزانة الدولة من أطرافها فعمّ الرخاء والازدهار وتقدمت العلوم والفنون وأنشئت “دار الحكمة” ونشطت حركة النقل والترجمة من الحضارات المختلفة وحصلت نهضة معمارية وحضارية غير مسبوقة فبنيت المساجد والدور والقصور وحفرت الترع والممرات المائية واتسعت رقعة بغداد وبلغ فيها الرخاء وطيب العيش مستويات كانت تدهش الزائرين للمدينة وخصوصا الوفود الأجنبية التي كانت تفد لزيارة الخليفة وعقد الصلات والمعاهدات مع الدولة الإسلامية وقيل أن نحوا من ألف حمام عام كانت تعمل في بغداد في أوج العصر الأول للدولة العباسية.
لكن رغم تلك الانجازات الهائلة فقد كان على الخليفة الرشيد أن يتصدى لقلاقل وفتن كثيرة قامت في وجهه نتيجة لملابسات نشأة الدولة العباسية والتمازج العرقي الواسع الذي قامت عليه وازدهار التشيّع وصحوة العنصر الفارسي والمرارة التي عبر عنها نتيجة للهيمنة السياسية للعنصر العربي، وهذا فضلا عن تعدد المذاهب والتيارات كالمعتزلة الذين أيد الخليفة المأمون (وهو ابن هارون الرشيد) مذهبهم، كل ذلك في دولة أصبحت شاسعة الأطراف ويبعد مركزها كثيرا عن الإمارات والولايات التابعة لها.
لكن رغم كل هذه الظروف فإن الخليفة هارون الرشيد تمكن من قمع الفتن وتوطيد سلطة الدولة الإسلامية وبناء جهاز إداري فعال وجيش كان الأقوى في زمنه والملفت أن انشغال الرشيد بالحروب ضد المتمردين وضد الدولة البيزنطية لم يشغله عن المهمة الأكبر وهي الإشراف على إحدى أكبر حركات العمران والثقافة والنهضة في التاريخ الإسلامي.
فمن هو الخليفة هارون الرشيد وما هي السمات الأهم لعهده والإرث الحضاري الذي تركه للأجيال التالية؟.


نسبه ونشأته
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة 148 هـ تولى الخلافة سنة 170 هـ (786 م) وكان عمره آنذاك 22 سنة. وحكم حتى وفاته في العام 194 هـ (809م) ولم يكن عمره قد تجاوز الـ 45 عاما.
كان في سن يافعة عندما ألقى به والده في ميادين الجهاد يرسله في الغزوات على الروم محاطا بقادة أكفاء يتعلم من تجاربهم وخبرتهم، ومن ذلك أنه خرج في عام 165 هـ (781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد مجللاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعِدّ لتولي المناصب القيادية في دولة الخلافة، وعهد به أبوه المهدي بن أبي جعفر المنصور إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وكان من بين أساتذته الكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو والمُفضل الضَبِّي وكان لُغَوِيّـًا، وعلّامة وراوية للأخبار وأيام العرب.
أحاط الرّشيد نفسه منذ سن مبكرة بأهل الرأي والمشورة السديدة في أمور الحكم والحرب من أمثال يحيى بن خالد البرمكي والربيع بن يونس و يزيد بن أسيد السلمي، وغيرهم وكانت هذه الكوكبة من الأعلام أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، فنهضوا معه بالدولة حتى بلغت ما بلغته من التألق والازدهار.
الخليفة العابد
على العكس من صورة الخليفة الماجن التي راجت عنه فإن الخليفة الرشيد كان قائدا شجاعا وعابدا ذا عقل راجح ملتزما بأحكام الشريعة موقرا للعلماء معظما لحرمات الدين مبغضا للجدال والكلام، يكفي القول أنه كان منشغلا معظم وقته في الدفاع عن الدولة وإخماد الفتن وفي الحج إلى بيت الله الحرام وكان يقول عن نفسه أنه يحج عاما ويغزو عاما واعتمر في وقت قلنسوة نقش عليها “ غازِ وحاجّ”.
وتعود الصورة الملفقة عن الخليفة الرشيد إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي جمعت حكاياته من التراث الفارسي ومن غيره بعد مئات السنين من العهد العباسي وجُعِلت شخصيّة هارون الرشيد وما يدور في بلاطه محورا من محاور الحكايات الخيالية ربما بتأثير العداء للعرب (الذي انتشر في العهود المتأخرة للخلافة العباسية) وبقصد إظهار الخليفة العربي بمظهر الجاهل المستهتر الذي لا يستحق أن يُولّى أمور الحكم.
الرشيد كما يراه المؤرخون
قال السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: “وكان أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج”
وقال الذهبي في ترجمته للرشيد ضمن كتابه “سير أعلام النبلاء” : وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة، وكان أبيض طويلاً جميلاً وسيما إلى السمن ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق بألف وكان يبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما إذا وُعِظ وكان يحب المديح ويجزل للشعراء وكان يقول الشعر.
قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي ورويت له حديثه “وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيَى ثم أقتل” فبكى حتى انتحب.
تولّيه الخلافة
بويع الرشيد بالخلافة في سبتمبر 786م بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وكانت الدولة العباسية حينها مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا حتى المحيط الأطلنطي وكانت تضم شعوبا كثيرة مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، وكانت لذلك معرضة لظهور الفتن والثورات وتحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة تفرض بسلطانها وحنكتها الأمن والسلام، وتنهض بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لتلك المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور فوق الرقعة الشاسعة للإمبراطورية الإسلامية أمرا مجهداً، لكن ساعَدَه على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، وما يلفت في هارون الرشيد أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وحولها إلى مثال باهر في العالم بمجدها وقوتها وإنجازها الحضاري.
“خاض الرشيد حروبا متواصلة ضد الروم حتى أخضعهم وفرض عليهم الجزية ونقل عاصمته من بغداد إلى الرقة القريبة من حدود الدولة البيزنطية”


الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان
كان شارلمان قد سيطر على معظم بلاد الفرنجة مما دفع بالبابا في روما إلى استرضائه عبر تتويجه إمبراطورا وقد بات يملك أغلب أجزاء أوروبا الغربية. وكان شارلمان منافسا قويا للدولة البيزنطية ومهتما بإضعافها وإبعاد خطرها عن مملكته ومستعمراته، فقرر لذلك مصادقة هارون الرشيد الذي كان أيضا عدوٌّ للبيزنطيين. وقد رحّب الخليفة الرشيد التفاهم مع شارلمان وأعاد السفارة التي أرسلها إليه في بغداد محملة بهدايا لم يشهد الأوروبيين مثيلا لها من بينها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، كما بعث إليه بمفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس تأكيداً لترحيبه بالحجاج المسيحيين . لكن أبرز الهدايا كانت ساعة تعمل بالماء ورد في سجلات ديوان شارلمان أنها كانت ضخمة وتعمل بطريق مذهلة، إذ عند تمام كل ساعة كان يسقط منها كرات معدنيه على عدد توقيت الساعة وكانت تلك الكرات تسقط بعضها في أثر بعض فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فتعطي رنيناً موسيقياً كالأجراس يسمع دويه في أنحاء القصر..وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس نحاسي يدور حول الساعة ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، وقد دهش شارلمان وحاشيته لهذه الساعة واعتبروها من أعمال السحر. وتؤكد مراجع تاريخية إن العرب وصلوا في تطوير هذا النوع من آلات قياس الزمن (الساعة) لدرجة أن الخليفة المأمون أهدى إلى ملك فرنسا ساعة أكثر تطورا تدار بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقال حديدية معلقة في سلاسل وذلك بدلا من القوة المائية. وهذا دليل واضح على مدى التقدم والتقني للعرب في تلك الحقبة الذهبية والتأخر الشديد لأوروبا في المقابل.


استقرار وثراء وعدل
بلغت الدولة الإسلامية في عهد الرشيد ذروة اتساعها وثرائها حتى قيل إن هارون الرشيد نظر يوما إلى سحابة مارة فقال: “اذهبي وأمطري أنى شئت فإن خراجك عائد لي” وكانت أموال الدولة تُحصّل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي أبو يوسف وهو تلميذ القاضي والمجتهد الأكبر أبي حنيفة النعمان نظامًا شاملاً للخراج يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه “الخراج” وقد تم وضع نظام الخراج استجابة لطلب الخليفة الرشيد الذي كان حريصا على تنظيمه بصورة قانونية تخفف عن الرعية وتدرأ المظالم في جباية المكوس.
وكان للفائض المالي الذي تحققه الدولة العباسية أثر كبير في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية. وأُنفقت الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع وتحويل الأنهر، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مجموعة مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق تأتيها البضائع والقوافل من كل مكان.
وروى السيوطي والذهبي أن هارون الرشيد فكّر في شق قناة السويس قبل أكثر من 12 قرنا من زماننا، لكنه أحجم عن تنفيذ مشروعه خشية أن يسهل شق القناة وصول جيوش الروم إلى البحر الأحمر والحجاز وتهديد تلك الجيوش الأماكن المقدسة وقيل أن وزيره المقرّب يحيى البرمكي لفته إلى ذلك المحذور بالقول “إن الروم سيختطفون الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز”، فصرف النظر عن الفكرة.
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رُسُلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة “شارلمان” ملك الفرنجة في سنة 183هـ (779م) من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين. (راجع : الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان)..
اتخاذه الرقة عاصمة لملكه
بالرغم من اهتمام الرشيد بالنهضة والعلم، إلا أنه كان لخلافته بعد آخر عامر بالغزوات والتنظيم الحربي، إذ قام بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية (وأطلق عليها “العواصم”) لتكون خط الدفاع الثاني عن الثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه المعتصم.