الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ثوابت ومتغيّرات

 ترتبطُ الثوابتُ، في حياةِ مجموعةٍ بشريَّة، بما يختزنُه وجدانُها من ذخائر المفاهيم المكوِّنة لوجودها، ليس فقط في أبعادها الذاتيَّةِ، بل وخصوصاً في آفاقها المفتوحة على المشترَكات الإنسانيَّة ماضياً وحاضراً ومستقبلًا. وأيضاً، ما تحفظه ذاكرتها التاريخيَّة من قِيَم ومبادئ وأصُول انتماء كافحَت بها عبر تقلُّب العصور ووجوه السلطان، وناضلت وعمَّقت جذورها في عمق الأرض، إزاء كلّ الأزمات العاصفة والمِحَن العارضة والتحديات تأتيها من هنا وهناك لسلبها أغلى ما تملكه أي الكرامة والحرّيَّة ونَخوة الحياة.

 وأمَّا المتغيّرات، فهي مرتبطة بالظروفِ الآنيَّة، وتعاقُب الأحداث، واختلاف عوامل الأزمات وتقاطعات مصالحها. وفي كلِّ حال، فإنَّ المواقفَ التي يمكنُ اتِّخاذها تحت وطأةِ ضغوط أيّ “واقع راهن”، لا يجوز أن تمسّ الثوابت، وأحوال الزمانِ عابرة، في حين أنَّ المبادئ المرتبطة بتكوين الجماعة وسجلّ شرفها فهي راسخة كالصخور الصلبة في جوف الجبل.

 إنَّ توجيه الانتباه النافذ لهذه المسألة الحيويَّة هُوَ أمرٌ ضروريٌّ، وواجبٌ لازم، لكلِّ من له اكتراث بالمصالح العليا لأهلِنا في حِماهُم، بل وفي وطنهِم، من حيث أنَّ صحَّةَ كيانهم هو من صحَّةِ مكوِّناتِ الوطن. وهذه قاعدة جوهرية لا يجبُ أن تغيبَ عن بالٍ أحد.

 الكلُّ عالِمٌ بالأوضاع الحرجة التي يمرّ بها بلدُنا وبلدان الجوار وسط عالَمٍ يتزعزعُ “نظامُه الدوليّ” شيئا بعد شيء. ولا يجبُ بأيِّ حال من الأحوال أن يغلبَ الانفعالُ عند كلِّ أزمة ناشبة على منطق الحكمة والتروّي وحسن التدبير ومن واجب الجميع الجميع الحرص البالغ على الترفع والتضحية لما فيه مصلحة أبناء العشيرة وخيرهم وكرامتهم، بل وسائر أبناءِ البلد واستقرارهم وسلامهم.

 إنَّ تاريخ الموحِّدين من بني معروف حافلٌ برُوح المروءةِ والشهامَة وانسجام المواقِف، لا سيّما حين اشتدَّتْ عليهم خُطُوب الدَّهر، وما كان أكثرها عبر ألف عام من وجُودهم الَّذي حافظوا عليه بكرامةٍ وحكمةٍ وسدادِ تدبير. وبهذا، حافظُوا على الأرضِ، ليس بحَميَّةِ التَّعصُّبِ الفئويّ، بل برُوح المشاركة في حيِّز المكان والحاضِنَة الإنسانيَّة التي بها بقيت الإمارة أشبه بنواةٍ صلبة بُنيَ عليها بعد ذاك الكيانُ الوطنيّ اللبنانيّ. وبالرُّغم من تبايُن العصبيَّات داخل مجال النفوذ السلطويّ في البيئة المحليَّة التي فرّقت كلمتها ووحدتها، فإنَّ الشّعورَ بوحدةِ المصير ظلَّ حاضراً في الوجدانِ والخواطر في السياق العام لمجرى الأحداث.

 إنَّ أبناءنا اليوم، في ديارهم وفي بلاد الانتشار، بحاجةٍ إلى استلهامِ الحسّ التاريخيّ الراقي الذي تحلَّى به أسلافُهُم، سواء في ذلك الزّعماءُ والأمراءُ والشّيوخُ والأعيانُ وعامَّة الشّعب الذي أعطى وقدَّم من الشجعان والأشاوس والشرفاء وذوي الفضل الكثير الكثير فداء عن حماهُم، بل وحمى بلادهم وأمَّتهم كما هو مسطور في صفحات التاريخ بلا منَّةٍ من أحد.

 على الجميع ان يدرك ان المشكلات لا تعالج الّا بالتجرد والإخلاص والبحث عن مسارب النور في ظلام تلك المشكلات، والسبيل السوي لتخفيف حدّة الخصومات ومعالجة ازماتنا والخروج من ذلك بحلول لها هو الخطاب اللّين، فليس كالكلمة الطيبة الفيّاضة بالاحترام مفتاح للمعضلات المغلقات.

 إنَّ من مقوِّمات البقاء والثباتِ والفلاح التحلِّي بالقيَم المعروفيَّة النبيلة، في الذاتِ وفي الجماعة، أي في الثــقافةِ اللائقة التي تتجنَّب سيْل الأغاليطِ والمقاربات الخاطئة لتراثـنا الأثيل، وفي التربية التي لا بدَّ أن تترسَّخ أصُولها في حرم الكنف العائليّ الذي لا بديل عنه سوى الشتات الفكريّ والهَجانة الرُّوحيَّة. وهي مسؤوليَّات تقع على عاتق كلّ فرد، وكلّ عائلة، وكلّ منتدًى، وكلّ جهة ناشطةٍ في الشأنِ الاجتماعيّ وفي الحقل العام ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْـمَلُون بَصِيرٌ﴾.

 رسالتنا الى بني معروف ستبقى على الدوام رسالة تعزيز ما فيه عزتهم وشجب ما فيه انتقاص لكرامتهم، وليس لنا إلَّا التذكير بالحكمةِ القديمة التي تمسَّكَ بها قولا وعملا حكماؤنا الأفاضل على مرِّ التاريخ، وهي الحذر الأكبر من تفرُّق الكلمة وتشتُّت الصفوف، وإنَّما الظفرُ والفلاح في التمسُّك المصيريّ بوحدةِ الجهود الآيلة إلى الخيْر العام، في جبلنا وفي وطننا بالسويَّةِ ذاتها. ■

الزمن… فرصة لاكتساب الزاد

الزمن ركن من انتظام الكون. والحياة هبة من الله لعبيده وفرصة لاكتساب الزاد. وقديماً قيل الوقت من ذهب ان لم تقطعه قطعك، ورأسمالك هو عمرك. جاء في كتابه الكريم:”من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره”.
وسواء كان العام ميلادياً او هجريا،ً يبقى لكل امرىء أمنيات دون ان ننسى قول الشاعر:
ما كل ما يتمنـــى المرء يدركــــه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

أمنياتنا لمجتمعنا ولوطننا ولعالمنا:
֍ أن يمن الله على مجتمعنا بنخبة كافية من أصحاب القدوة الصحيحة في التوجيه والتعليم والتدريب سواء في البيت او المدرسة او المجتمع، فلا نستطيع تربية اولادنا على خلق قويم ما لم نكن نحن على مثله. ولا ان نعلّمهم حسن المعاملة الذي هو من جوهر الدين في حين لا نحسن تعاملنا امام الغير. والقدوة الصالحة في العبادة فريضة على ملتزميها قبل الآخرين. وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليــــك اذا فعلت عظيم
وأول أهداف التربية بناء الشخصية السويّة للناشىء الذي هو كيان انساني برسم المستقبل. إن عامل التوازن الداخلي هو من اهم المكونات للفرد في مواجهة الحياة وتقلباتها. ولكن، كيف السبيل لتأسيس التوازن؟ إن التهافت الخلقي لا يُعالج بالوعظ فقط، بل بتثبيت أواصر الكنف العائلي بالألفة والتفهّم والتفاهم وتبادل العلاقات الواعية، وأيضاً بالتعاضد الاجتماعي عبر قيام الفعاليات والمؤسسات والجمعيات بالدّور الحضاري المتعدِّد الأوجه، بانفتاح رشيد على هواجس الأجيال الصّاعدة وهمومها بعيداً عن ترسّبات العصبيّة والفئويّة، وبالمثابرة على بذل الجهود المضاعفة حفاظاً على كلَ ما من شأنه أن يُبقي أنوار المُثُل العليا مضاءة في القلوب والعقول.
إننا نرى إنّ الخطر الاكبر الذي يُهدِّد الاسرة هو التفكُّك، وأكثر تجليّاته وضوحاً هو الطلاق. لقد تكاثر هذا الحلال البغيض الذي نحذّر من التمادي به. كما نطالب بتسهيل التكاليف المادية التي تفرضها مراسيم الزواج.

֍ أن يمنّ الله على وطننا بالعيش الواحد والامن والاستقرار فنحن ندرك هويتنا الحقيقية كأبناء بلد جمعتنا فيه أقدارنا، وبرغم كلّ الصعوبات حقّقنا صيغة العيش فيه، وظلّلتنا امارة الجبل عبر مئات السنين، بنينا عبره وطناً جميلا، وإمكاناً حضارياً، بل حلماً عشناه كان لبنان فيه درّة الشرق، وأمل النهضة الموعودة التي أضاء أنوارها كلّ بنيه.
وقدرُنا أن ندخل مصهر النّار نتيجة صراع الأمم، لكنّ قدرنا أيضاً أن نجدّد العهد، وأن نستلهم العبرة العظيمة التي يقدمها لنا تاريخنا، وخاصيَّتُها أنّه بوحدتنا، وارداتنا الجامعة، وميثاقنا الوطني، نصون لبنان، وندرأ عنه رياح الفتن والويلات. وهذا هو اليوم استحقاقنا كي يكون لنا الوطن. نعم، أن نعود الى الله سبحانه وتعالى، وكلُّنا يقدّسه بإرثٍ هو من عين الحضارة الانسانية وينابيع خيرها. فكم من ردّ فعلٍ على رزيئة أصابتنا سمعنا صوتَ المؤذّن وقرعَ الأجراس متلاحمَين. وكم من مناسبة تجمع شمل اللبنانيين في الافراح والاتراح كلٌ يحترم الآخر ويقدّر الأصول. فعلينا ان نكرّس الاحترام والمحبة بين مختلف مكونات هذا الوطن.
֍ وأخيراً نسأل الله تعالى أن يرزقنا في بصيرتنا الالتزام بحدوده كي يليق بنا العروج في المرقى الإنساني الأكمل. فجديرٌ بالمرء أن يتساءل عن مآل هذا العالم المعاصر المفتخر بما حقّقه في حقول العِلم والسِّياسة والفنون. تساؤل يعمُّ النتائج في كلّ مناحيها، خصوصًا الأخلاقيَّة منها، إذ أنَّ الانجازات الكبرى، إنْ أردنا الحقيقة، تحقّقت لصالح تجّار الأسلحة والادوية والاحتكارات الكونيّة لمصادر الثروة والطاقة وغيرها. لقد انعكس هذا حتمًا على كلّ ثوابت التراث القديم المتعلّق بالكرامة الإنسانيَّة، وأشدّه فتكًا الانحلال الأخلاقي، وتزعزع مفهوم الأسرة، وسهولة انزلاق الدول في نزاعات يذهب ضحيّتها مئات الآلاف من البشر، مقابل عجز المجتمع الأممي عن فرض إرادةِ الحقّ الإنساني في الحياة والحرية والكرامة. ويقيننا المترتِّب عن إيماننا بالله العليّ القادر، أنَّ الرّسالات السماويَّة قدّمت في الأصل، حدودًا تحفظ للإنسان حقوقه الأساسيَّة، وأنَّ تعامي التقدُّم التقني المحكوم بالجشع وشهوات التسلُّط، أدَّى فيما أدَّى إليه إلى الاستهتار الشنيع بكلّ تلك الحدود. وإنْ أنصف المرءُ في حكم ضميره، لأدرك أنَّ كلّ المآسي التي تُضرَبُ بها الإنسانيَّة هي ناتجة عن تجاوز الحدود التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون رادعًا للشرور، وحفظا لكلّ وجوه الخير.

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ }(الطلاق 1)

ومَا يَنْطِقُ عن الهَوى

      إنَّ أقلَّ ما يُقال في مسألة “الإدلاء والتَّصريح بالرأي” فيما يتعلَّق بتراث الموحِّدين خارج إطار قواعد العِلم في المنهج ومعرفة الأصول، إنَّها الفوضى العبثيَّة. وما يساهمُ في مفاقمة هذه الفوضى إلى حدٍّ غير معقول هو الإمكان المُباح لارتكابِ هذه الموبقات عبر وسائل التواصُل الاجتماعي، وعبر الخفَّة التي ينزلقُ إليها بعضُ العاملين في “الميديا” سعياً إلى ما هو فعلا “قـفشة” تدعو إلى الرّثاء.

        ترتبطُ مفاهيمُ التُّراث بتراكُمٍ معرفيّ عريق له جذور عميقة في علوم التاريخ والاجتماع واللغة والفقه والفكر بكلِّ حقولِ اهتماماته، ولا نقولُ إنَّ المعرفةَ موقوفةٌ على العُلماء وحسب، بل غاية القصد التأكيد على وجوب الإلمام بالحدّ الأدنى من مقوِّمات تكوين الرأي السليم، سواء أكان ذلك في التوضيح أو في النقد، كي لا يخرجُ الأمرُ إلى مهاوي التَّضليل والسفسطة، وهي مهاوٍ وخيمة ومؤذية، أوَّلا لذاتِ القائل، وثانياً لوعي المتلقّي خصوصاً إنْ كان مبلغُ عِلمِه في الموضوع نزيراً لا يُمكِّنهُ من المَـيْز.

        ولا يتورَّعُ البعضُ عن كتابةِ رأي في “صفحتِه” على الشبكة، أو تعليقٍ هنا وهناك، بشكلٍ جازم يوحي بأنَّهُ متربِّعٌ على “كرسيّ المعرفة” أو عالِمٌ بحقائق الأمُور، وجلَّ ما في الأمر أنَّ الكلام المكتوب ناتجٌ عن مجرَّد انفعالٍ نَزِق لا أساس له في الموضُوعيَّةِ، ولا ركيزة له في المصادر الموثوقة. والأهمّ من كلِّ هذا انعدام الرؤية التي يجبُ أن يكوِّنَها في الأصل اطّلاعٌ واسع، وبحث دقيق، ودرس متعمّق، واستبصار عقلانيّ رصين، ومعرفة عِلميَّة بالتراكُم المعرفيّ بأصُول التراث الخ. ولكن، ما نجدُه هو انطباعات عاجلة، وأحكام لا يُمكن تصنيفها إلا في باب السفسطة عبر النقد المنهجيّ السليم. وترانا قائلين: لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليّ العظيم.

        ويتعمَّقُ الالتباسُ، بل تزدادُ الفجْوةُ بين القارئ والحقيقة، حين يتعلَّقُ التأليف بإصدار كتابٍ في مواضيع التراث فكراً وتاريخاً وتأويلات تلفيقيَّة يستلُّها “الكاتبُ” من دفق المعلومات المتوافرة، ويراكمها بعشوائيَّةٍ في غياب المؤهَّل الأكاديميّ ومنهجيَّاته الدقيقة في كلِّ حقل معرفيّ. سواء كانت هذه “المنشورات” صادرة في عقودٍ ماضية من “كتَبَة” يقرُّون بعدم اختصاصهِم العِلميّ، وبافتقارهِم إلى الاختبار الرُّوحيّ المسلكيّ، وباعتمادِهم على قراءات متعدِّدة، وتفسيرات هي في واقعها “شخصيَّة” مفتقرة إلى العُمق الثقافي المطلوب، والمعالجة الموضوعيَّة السليمة، أو التي تصدر حالياً وتظهر بوضوح “الأنا” لكاتبها. والنتيجةُ الوحيدة لأعمال هؤلاء هي المزيد من التوغُّل في متاهات الضياع. والانطباعات التي نسمعها من هنا وهناك عنهم وعن “كتاباتهم” تؤكِّدُ لنا سوء الحال وبئس المقال. ويؤسفني بأن أؤكِّد أن بعض النشاطات التي تُـقامُ في هذا المنتدى أو ذاك المُلتقى لا يعدو كونه ترويجاً –عن قصد أو عن غير قصد- لهذا الخطَل (ولا أجدُ تعبيراً عن هذا الواقع سوى هذا الوصف).

        إنَّنا، ومنذ تولِّينا لخدمة المسؤوليَّة الدقيقة لمهامنا، توخَّينا في كلِّ مناسبةٍ، وفي كلِّ كلمةٍ، وفي كلِّ موقفٍ، وفي كلِّ مشاركةٍ في المؤتمرات (عبر ممثـلينا)، وفي كلِّ تصريح (تحديداً في باب التراث التوحيديّ)، أن يكون نسيجُ الكلام معبِّراً عن ثوابت الأصُول، وانعكاساً صادقاً لحقائق المأثور وفقاً لأسانيد الكبار من مرجعيَّاتِ الأعراف القديمة، ومسالك السَّلف الصالح التي يمثّـلُها بدقَّةٍ الأميرُ السيِّد التنوخيّ الجليل.

        ونودُّ أن ننبِّهَ الرأيَ العام، والمعروفيِّين خصوصاً، إلى الأهميَّة القصوى لاجتناب هذا النفق المظلم من الالتباسات والتأويلات البعيدة عن منطق العِلم ومصداقيَّة المعرفة. ونؤكِّد على الملأ أنَّنا براء من كلِّ من يعتمدُ “الرأي والقياس” وفقا لمسوِّغات المزاج والعبث، ومن كلِّ تـلفيق ومغالطات تُطرحُ على الشاشات وغيرها وهي في الواقع لا علاقة لها على الاطلاق بالحقيقة التي لا بدَّ من البحث عنها بتواضُع وأناة وصدق ونزاهة وعقْـل وثبات، ليس فقط بتداول المعلومة، بل بإحياء القلبِ بحُبِّ الفضيلة في ذاتها بلا غايات سوى التحقُّق الإنسانيّ الأرفع.

        نحن نقاربُ، في كلِّ ما يمسّ جواهرَ “التراث الأثيل”، مقاربةَ الذي يستذكرُ على الدوام ما قالته الآيةُ الكريمة من سورة النَّجم ﴿وَ مَا يَنْطِقُ عن ِ الهَوى﴾، والهوى هو الميْل مع نوازع النَّفس الأمَّارة إلى ما ينزغُ في ماهيَّتها من العنادِ والشهوة من دون التقيُّد بما يقتضيه الحقّ والعقل السليم. كما نستشعرُ، سائلين الله تعالى التوفيق، وصايا السَّلف الصالِح وفي رأسها أنَّ التقوى تجمعُ كلَّ خيْر. ﴿وتَزَوَّدُوا فإنَّ خيْرَ الزَّادِ التَّــقوَى وَاتَّـقُونِ يَا أُولي الألباب﴾ صدقَ الله العظيم.

نحو أنوار الأمل والثّقة والمصداقيّة

يجابهُ مجتمعُنا العديد من التحدّيات الكبرى في المستويات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والبنيويَّة والثقافيَّة وما يتفرَّع عنها، أو ما يُعزى إلى مردِّها في كلِّ حقل.
والتحديات تلك، ما هو منظور مشخَّص منها، وما هو مغفول عنه أو مُهمَل، باتت تتنامى في وتيرةٍ متصاعدة من “تسارُع” ما يحدثُ في الزمن؛ تسارُع تُسهم فيه اندفاعة التطوّرات التقنية ومؤثّراتها الشموليَّة، وشبه “انهيار” العالَم السياسيّ القديم تحت وطأة جموح الدول العظمى في صراعٍ محموم ما فتئ يشحن العالَم برمَّته بكافَّة أشكال التوتُّر في شتَّى الميادين.
ما يهمّنا بشكل خاص هو موقع عالَمنا العربي والإسلاميّ في هذه الصُّورة، وهو موقع يغلبُ على أحوالِه مع الأسف تلقّي الفِعل، والترنُّح الفاجع تحت وطأة الحروب التي تتداخلُ فيها العواملُ المحليَّة والاقليميَّة والدوليَّة بأشكال فائقة الشبهة. وما يهمّنا، بالتالي، موقع لبنان الدقيق وسط العواصف والمؤثرات المختلفة، منها ما هو قائم فعلا، ومنها ما يهدِّده بأخطار داهمة من دون أن تتوقَّف المحاولات الدؤوبة من رجال الحُكم فيه لتجنُّب ما هو أسوأ، في ظلّ جيشٍ يؤدي واجبه الوطني، وشعبٍ يتمسك بما تميَّز به نظامه منذ الاستقلال.
هذا الإطار المضطرب يُملي عليْنا، قيادات ومؤسَّسات قائمة وفعاليات اجتماعيَّة ونُخَباً من مختلف الحقول ونُشطاء في كافَّة المجالات، أن نضفي على حركة النُّهوض في مجتمعنا طابَع الفعالية والابتكار والمبادرة السديدة والمشاركة بالحيويَّة الإيجابيَّة، وبالرّوح الوثّابة نحو الأحْسن، وذلك عبر التحرُّك باتّجاه آفاق جديدة لرؤية أحوال مجتمعنا بواقعيّة علميّة ورؤيويّة. لكن ذلك لا يمكن أن يكون ذا جدوى إلا بتطوير آليّات المقاربات الهادفة إلى إحداث الفعاليّات المثمرة، والنتائج المرجوَّة، والإنجازات المفيدة.
في هذا الإطار العام، يتضمَّن العدد الراهن من “الضحى” ملفّاً عن آفة خطيرة ذات مستويات متعدّدة من وقوع الأذى على الأفراد وعلى بُنية المجتمع في الآن عينه، هي آفة الإدمان بشكل عام، وتعاطي المخدّرات بشكل خاص. وعلينا أن نذهب بعيداً في طرح الأسئلة الجدّية بشكل واسع، بموضوعيَّةٍ وبشعور عميق بالمسؤوليّة، وهي أسئلة تتعلّق بالدوافع والمسبّبات وارتباط ذلك بالعديد من مستويات الاشكاليّات والأزمات الاجتماعيّة مثل البطالة، والمؤثّرات السلبيَّة في سوء استخدام شبكات التواصُل، والتفكُّك العائلي كما يُستدلّ من صعود مؤشّرات حالات الطّلاق في المحاكم، وبالتالي، انحلال روابط النظام التربويّ وما يُنتج عنه من الأخذ بنسبيَّة المفاهيم الأخلاقيَّة، ناهيك عن النزوع إلى مدارك سطحيّة للشؤون الثقافيّة الفكرية في كثير من أوساط الشباب، وما تعلّق منها على وجه الخصوص بمسائل مرتبطة بكيفيّات التعاطي مع “أجندة العالم المعاصر”، في الوقت الذي ترزحُ فيه معظم “الدول المتلقية” تحت وطأة تصاعد الأرقام المخيفة للدَّيْن العام، وما يعكسه ذلك من تأزم في الأوضاع الاقتصادية.
في هذا الزمن الذي تنحط فيه على نحو متسارع إنسانية الانسان، نستنهض المخلصين للمُثُل النبيلة، الغيارى على بقاء القيم الأخلاقية واستمرارها، الى عمل ينقذ هذه الُمثُل من الاضمحلال المتزايد يوماً بعد يوم. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.
إعادة تفعيل ” التعليم بالقدوة” هي القاعدة الصحيحة لكل توجّه سليم، في البيت كما في المدرسة او المجتمع. انها مسؤولية الجميع، الدولة والمجتمع المدني (جمعيات وأندية) ووسائل الاعلام والأسرة وكل فرد آخر.
لا نستطيع ان نربّي أولادنا على خُلُقٍ قويم، الّا إذا كنا نمارس عزّة النفس وإبائها. فالطفل الذي يرى اباه يدخّن ويشرب الكحول، ويسمع الكلام البذيء في كل يوم، ويرى الخلاعة على شاشات التلفزة، لن يؤثر فيه بعد ذلك ان تشرح له أضرار ذلك كلّه. لا نستطيع ان نعلّم الناس الصدق ونحن نكذب عليهم، ولا الوفاء ونحن نخونهم، ولا الحشمة والحياء ونساؤنا يتزيّنّ بما اتصل، دونما احتراز، بمفاتن الجسد، ولا شيء غير ذلك.
كذلك، علينا الخروج من “الطابع الاستعراضي” لكثير من النشاطات العامّة نحو التوقّف مليّا أمام الأسئلة الصعبة التي تواجهنا بشكل تحديات يومية. يتطلّب هذا الأمر، وعلى سبيل المثال، عقد مؤتمرات عدّة يتناول كلّ منها جانباً من جوانب أحوالنا، أوّلها في “الأزمات الاجتماعيَّة” الآنفة الذكر، شرط أن تكون الموضوعات مدار بحث ودرس وتحضير وتشخيص عملي واقتراح حلول لها من قبَل أهل الفِكر والاختصاص والخبرة. فالأهميَّة لا تكمن في مجرَّد تنظيم المناسبة وانعقاد جمْعها وحسب، بل في ثمارها وما تحمله من توصيات عملية قابلة للتنفيذ والمتابعة والتحقّق. َ
بهذا وحده تُقدَّم بعضُ الإضاءات للجيل الشاب وأهمّها أنوار الأمل والثقة والمصداقيَّة.

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
القدس
والإسلام «السمْح»

تمثلُ القدس للديانات الابراهيميَّة أرضاً مباركة، ومكانةً لها دلالاتها الإيمانيَّة في الذاكرة التاريخيَّة، وبالتالي الوجدانيَّة، لكلٍّ منها. وفي التاريخ العام، من صدر الإسلام إلى العام 1967، أي طيلة ما ينيف عن أربعة عشر قرناً من الزمان، كانت “مدينة السلام” إسلاميَّة عربيَّة ما خلا عقود عديدة حاول فيها “الصليبيُّون” الاستيطان في المنطقة فما فلحوا، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح.
وإن أنصف المرءُ في النظر إلى سياق التاريخ، لوجد أن الأحياء الكبرى التي تكوّنُ واقع المدينة وهي: اليهودي والمسيحي والأرمني والعربي، فضلا عن امتداد مساحة المسجد المذكور في القرآن الكريم، والذي منه أسرى الله سبحانه وتعالى بعبده رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما جاء في الآية الكريمة، إزاء تلك الأحياء، بشكلٍ مميَّز مشهود يدمغُ المدينة، مع الصروح الدينيَّة الأخرى، بطابع حضاريّ لا مثيل له، لوجدَ إذًا، أن تلك المكوّنات نشأت ونمَت وتعايشت طيلة قرون، في ظلّ الحكم الإسلامي (العربي ثم العثماني)، من دون أن تزلزلَ أساسات وجودها عواصف الأزمات والنزاعات.
هذا عائدٌ إلى المقاربة العامَّة لإسلامٍ “سَمْح” تجاه مكوّنات النسيج الاجتماعي في أيّ بلادٍ انتشر فيها الإسلام. والمقصود هنا هو النهج العام الذي مكَّن من حفظ الكثير من الموروثات الحضاريَّة لكثير من الشعوب والأمم (قياساً إلى ما فعله الأوروبيون في القارة الأميركية بعد اكتشافها)، بالرغم من التعرُّض لأخطار الصراعات الناشبة بين المتنازعين عبر تعدُّد الحِقَب والمراحل التاريخية، وبالرغم من التعرُّض أيضاً في بعض الأوقات لمِحن سبَّبتها ظروفٍ عصيبة وقاسية.
هكذا، بقيت “القدس” ملاذًا إيمانياً ذا منزلةٍ سامية، بعيداً عن عواصم “السلطان” سواء أكانت في دمشق أم في بغداد أم في القاهرة. وهو ملاذ كرّسه نهج عمر، خليفة رسول الله، الذي أعطى لسكّان المدينة ما سُمِّي “العهدة العمريّة” بعد وصول المسلمين إليها، وقال: “يا أهل إيلياء، لكُم ما لنا، وعليكم ما علينا”، واستدرك بحكمةٍ راقية أمْرَ صلاته حين أدركه وقتها وهو يتفقّد كنيسة القيامة مع البطريرك صفرونيوس قائلا: ” ما كان لعمر أن يصلّي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلَّى عمر ويبنون عليه مسجدا.”
يجسِّدُ هذا الموقف الحضاري بامتياز، معنى “السماحة” في الاسلام، وهو موقف يرقى إلى مستوى “ثوابت الضمير والوجدان” لدى كلّ المؤمنين، وذلك بقوَّةِ صحَّة الموروث “الإيماني” الأثيل.
إنَّ القرار الأميركي الأخير بشأن “القدس”، يناقض بشكله وبمضمونه وبروحه وبمقاربته محمولَ التاريخ الذي هو، بكلِّ حال، في ذاكرة المدينة وحقائق تاريخها. وليس على المرء أن يسترسلَ في وصف “مساوئ” القرار المذكور، وآفاق نتائجه الوخيمة، وانحجاب الرؤية فيه عن كلِّ معنى حضاريّ شامل، وانحيازه التام لمقولةِ فئةٍ تحاولُ بمفهوم القوَّة أن تفرضَ سلطتها عبر العمل المحموم لتغيير هويَّة المدينة بكلّ الأشكال المتاحة لها.
إنَّ نتائج التصويت الأخير حول القرار المذكور في هيئة الأمم تكرِّسُ الدلالات التي طالما مثّلها الإسلام “السمح” كما مرَّ آنفاً. وهي نتائج تبيِّنُ مدى وضوح الحقّ الفلسطيني والإسلامي والعربي أمام العالم قاطبة. وعلينا أن نواصل النضال متسلّحين بالقيَم وبالمبادئ التي حملها تراثنا العريق، بل والتي تمثّل وجه الإنسانيَّة الحضاريّ إزاء كلّ محاولات تزوير التاريخ، وإهمال كلّ التراكم الذي مثله يوماً “المشروع الأممي” الذي يهدمه في عصرنا الحالي “الحق التعسّفي بالنقض” للدول العظمى. وليس لنا إلا أن نؤكِّد إيماننا الوطيد الراسخ، بأنَّ ربَّ الحقّ هو العظيم القدير، وبأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه.
وإذا كانت رسالتنا اليوم القدس. فلا بدّ من أن نعرب عن تمنياتنا بالتوفيق لرئيس التحرير الجديد الدكتور محمد شيّا والمدير المسؤول الأستاذ نجيب البعيني في مهامهما. كما نتوجه بالشكر لرئيس التحرير السابق الأستاذ رشيد حسن على جهوده في إعادة انطلاق الضحى.

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

سماحة شيخ العقل يضع النقاط على الحروف
في الاحتفال الحاشد تكريماً للشيخ محمد أبو شقرا

أقول للبعض حسِّنوا نواياكم

نحن طائفةُ العقل المنفتح على كلِّ ما من شأنه حفظ لبنان
ولا يمكن لأحد أن يقيسنا بالعدد والنسب الكمية

تنشر “الضحى” في ما يلي نصّ الكلمة المهمة التي ألقاها سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في الاحتفال الوطني الحاشد الذي أقيم في قصر الأونيسكو يوم 20 أيار الماضي إحتفاء بذكرى مرور 25 عاماً على غياب الشيخ محمد أبو شقرا الذي شغل منصب شيخ عقل الطائفة لأكثر من 43 عاماً بين سنة 1949 وحتى سنة 1992.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله في كل بدءٍ وختام نحمدك ونستغفرك ونستعينك يا رب العالمين،
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

وبعد
إنّنا إذ نكرِّمُ اليوم كبيراً من رجالات لبنان، نُكرِّمُ فعلًا، في الآن عينِه، معنًى أساسيّاً من معاني كينونةِ وطنِنا العزيز. لقد كان بلدُنا الغالي على الدوام بيئةً خصبة لكبار الرِّجال، وفي ذاكرةِ كلّ منّا مثالٌ، بل مثالات لهؤلاء الّذين تميَّزوا بفسحة العقل والرُّوح، فكرَّسوا حيواتِهم للتأسيس والبناء من دون أن يغيبَ عن بالِهم، في عمق مقاصدِهم، الصَّرحُ الوطنيُّ من حيثُ هو غاية تسمو في قيمتها وجدْواها على كلِّ المصالحِ الفئويَّة الضيِّقة.
عندما نذكرُ سماحةَ الشيخ محمّد ابو شقرا، فإنّنا في الحقيقة نستحضرُ شيخاً وقوراً وحضوراً وازناً في التقاليدِ الوطنيَّة تُرجَّحُ كفَّتُه على أيّ حضورٍ آخر.
من بناء دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت التي أرادها أن تكون مدماكاً وطيداً ثابتاً في بنيان وطننا لبنان الى المؤسّسة الصِّحيّة في عين وزين، مسيرة توحيدية وطنية مثمرة رسَّخت علاقاتٍ وطيدة، خصوصاً بين القادة الروحيّين مُسلمين ومسيحيّين، وهو ما تمَّت ترجمتُه لاحقاً في سياقيْن مُهمَّيْن في إطار تأكيد الثوابت الوطنيَّة الجامعة، والثوابت الإسلاميَّة التي يُمكنُ أن نراها اليوم مقدِّمات باكرة وضّاءة لما نشهده في وقتِنا هذا من حيويَّة فكريَّة في إطار التعاطي مع مفاهيم المواطنة والحرّية والاحترام المتبادَل ودعم كلّ ما من شأنه تثبيت قواعد الدولة العادلة القويَّة والحاضرة بكلّ مقوِّمات الفاعليّة في العالم المعاصِر.
كان سماحتُه مسكوناً بـإرادة الإصلاح الاجتماعي على قاعدة أنَّ الخيرَ أفعالٌ وإنجازات وليس مقصوراً على هاجس خلاص الذات وحسْب، وتلك إرادةٌ استندت إلى إيمانٍ بضرورة التفاهُم على المبادئ لتكونَ أساساً متيناً لوحدةِ الصّفّ، فكان المبادر الى مأسسة القضاء المذهبي الدرزي ومشيخة العقل وإنشاء المجلس المذهبي. ومِن حسِّه التاريخيّ بالتقاليد المعروفيَّة عزَّز الموقفَ السياسيّ العام، وطنيّاً، بالشعور العميق أنَّ تاريخَ الجبل يحفظُ لبنِيه الأشاوس أنَّهُم مُكوِّنٌ ذو عراقة من مُكوِّنات لبنان الوطن، وعموماً بأنَّهُم معتزّون بعروبتِهم، متجذّرونَ في تراثِهم الإسلاميّ الحضاريّ المتنوِّر، وبأنَّ حضورَهُم الجوهريّ هو في المدى الإنسانيّ الفسيح بما يحملونه والحمد لله من فضائل وتقاليد شريفة وأخلاق حميدة يحافظُون عليها كلَّما لاقَت بهم الحياة.
هذه كلُّها ثوابت في الوجدان والضَّمير والذاكرة.

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته
سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

الحضور الكريم
في ذكرى الشيخ الجليل، نتطلّع الى واقعنا اليوم والأسى يعتمر القلب على كل حال، وبكل صراحة، نحن في طائفة الموحدين الدروز يمتلكنا الحسِّ السياسيّ الوطني الجامع الذي كوّن لبنان والّذي أثمرَ لنا ذات يومٍ مضى ما اتَّفق الوطنيُّون على تسميته آنذاك بـــ”الميثاق الوطنيّ”. نحنُ نتمسَّكُ، ليس بالميثاق تحديداً وحسْب، بل بروحِه، وبفلسفته، وبمقاربتِه الفذَّة التي مكَّنتِ اللبنانيّين من بناء وطن ذي “رسالة” وقناعتُـنا المستندة إلى قراءة التاريخ برويَّةٍ وتبصُّر، تدعونا إلى القوْل إنَّه ما من ظرفٍ زمنيّ ملتبس اهتزَّت به أركانُ الوطن بالأزمات والصّراعات، إلَّا وكان ذلك نتيجة إهمال روح الميثاق، والمكابرةِ على النصوص الدستوريَّة بما يتجاوزُ مقاصدَها الوطنيَّة التي من أجلِها اعتُمِدَتْ، والذّهاب بعيداً في لعبة المصالح السياسيَّة الفئويَّة.
إنَّ العالمَ من حولِنا يعبُر الآن في فترةٍ يتسارعُ فيها إيقاعُ التاريخ، ونرى عبر ذلك أنَّ دولًا كبرى تعبِّرُ عن مخاوف ومخاطر وتهرعُ إلى لعبة الحفاظ على مصالحها بأيّ ثمن في حين أنَّ منطقتَنا العربيَّة والإسلاميَّة تحدق بها الأزمات المعقَّدة من كلِّ اتّجاه. علينا أن نحصِّنَ بلدَنا حماية وصوناً لأهلِنا وشعبنا. إنَّ المسارعة في وضع حركةِ الحُكم ومؤسَّساته في الطريقِ الدستوريّ السليم هو طريق النجاح للعهد الذي نريد له النجاح وللحكومة التوفيق، أولاً في تحصين جيشنا الوطني الذي يتصدى لأكثر المهمات بنجاح والحمد لله، ولاستقرار الوضع الاقتصادي الذي يرهق كاهل المواطنين.
لقد عبرنا مرحلةَ التعطيل والجمود بفضل شجاعة الإقدام على تفاهمات مشترَكة. إن علينا، وأعني هنا القادة السياسيّين خصوصاً، الدَّفـع بهذه التفاهمات إلى فسحة المناعَة الميثاقيَّة التي لا يقوم بلدُنا إلَّا بها سالمًا من أيّ انتكاس، ولكن إذا كان قانون الانتخاب مدخلاً لتصويب الحياة الديموقراطية وتجديد المؤسسات بقرارٍ من الشعب، فإن ما شهدناه في بعض الطروحات ليس إلا مزيداً من الفرز والتقسيم، بدل الجمع والتقريب.
في مسلكنا التوحيدي ما من ميزان راجح بالخير دون نيّة طيبة معقودة به. أقول للبعض حسِّنوا نواياكم، وتابعوا التواصل والحوار فلا بدّ بعد العسر يسرَ.
أما لجهة مجلس الشيوخ، وللتاريخ ومع ارادتنا بالترفّع عن أي سجال طائفي، نذكِّرُ توضيحاً للحق، أنه بتاريخ 21/4/1983، وبمبادرة آنذاك للخروج من التجربة المفجعة ومرارة القلب الى رحاب الحقل الإنساني الجامع، وقّع كل من المرحومين الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان مع قائد المسيرة الأستاذ وليد بك جنبلاط مذكرة بالمطالب الوطنية والسياسية والأمنية للموحدين الدروز، وزِّعت على المراجع المختصّة في حينه، وتضمنت مطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ مع تفصيل لصلاحياته وأن تكون رئاسته للطائفة الدرزية، ونحن نعتبر مع عموم أبناء الطائفة أن مجلس الشيوخ قد أوجد في رحم الطائف وأن ولادته مرتبطة أصلاً بإلغاء الطائفية السياسية، ونرى ان أي خطاب لإدخال هذا الموضوع في جدليات، يكون بداية تخلي عن المبادئ العامة والأساسية بوجه طائفةٍ تأسيسيةٍ تاريخيةٍ في وطننا لبنان.
إننا نرى ان اللّحمة الحقيقية لهذا البلد هي في المصالحة الوطنية والعيش المشترك والثوابت الميثاقية التي نادى بها القادة الروحيون على الدوام، وفي المبادئ الدستورية المتجددة في الطائف، وروحها الميثاقية، ونحن ننادي بها أيضاً كي يكون لكل ملامح الشعب اللبناني ملاذ عزيز قوي مصان للعيش المشترك، والمساحة الحرة التي نحافظ بها على قيمنا ومثلنا الإسلامية – المسيحية المبنية على الإيمان بالله الرحمن الرحيم، بالله المحبة، بالنعم التي أوجد بها الإنسان، قادراً على معرفة الآخر ليكون له مرآة روح، وإمكان شراكة في الوجود الحي، على النقيض تماماً من كل نوازع النفس الأمَّارة بالسوء والعنف والبغضاء.
لا بدّ لنا في هذا اليوم المشهود من أن نذكِّر بأنَّ طائفةَ الموحِّدين الدّروز، هي الخميرةُ الطيِّبة التي بها نضجَ كيانُ لبنان كما يعرفُ ذلك (اذا اراد) كلُّ من له متابعة تاريخية وثقافة وطنيَّة، ولا يُمكنُ أن يُقاس تراثها بالعددِ والنّسبةِ الكمِّيَّة بل هي طائفةٌ في موقعِ الإتزان الوطنيّ والميثاقيّ، إذ كان مشروعُها على مرّ التاريخ هو الوطن بعيداً عن كلِّ تعصُّبٍ طائفيّ. همُّها الأساسيّ هو كيان الدَّولة بكلِّ مؤسَّساتها. إنَّها طائفةُ العقل المنفتح على كلِّ ما من شأنه حفظ لبنان بعيداً عن أخطار التشرذم والفئويَّة والإنعزال والتمترس الطائفيّ. إنَّها طائفةُ المصالحة والحوار والعيش المشترك. يدُها على الدّوام ممدودةٌ بشجاعةٍ لتبقى جسورُ الألفة والتفاهُم والوحدة الوطنيَّة ضمانة ضروريَّة لحرِّيَّة كلّ اللبنانيّين وكراماتهم. إنَّها طائفةُ مهيَّأةٌ بقياداتها ورجالاتها وكبارها لكلِّ ما من شأنه أن يعزِّز الرُّوحَ الميثاقيَّة اللبنانيَّة كما عبَّر عنها الدّستور، وكما عاشها رجال الاستقلال. هكذا كنا وهكذا نكون.

معكم يا أصحاب السماحة والغبطة، لنزرع جميعاً في كل خطبةٍ وعِظةٍ بذور التعاضد والتلاقي والمحبة والتكافل والتضامن والمواطنة، لأن هذا دورنا وهذه رسالة أدياننا السماوية، وبذلك فقط خلاصنا وخلاص الوطن، ونتوجَّه بالدُعاء لله عزَّ وجلّ أن يحفظ بلداننا وشعوبنا، وأن يمنَّ على أقطارنا العربية بالاستقرار والسلام، مؤكِّدين تضامننا مع القضية الفلسطينية، وخاصة موضوع الأسرى الفلسطينيين، والرفض القاطع لتهويد القدس الشرقية، وأن يمنّ المولى بالسلام على أرض السلام، إنه هو السميع المجيب.

 

كلمة شيخ العقل

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الموحِّدون الدّروز مكوِّن
أساسيّ لنشوء لبنان

يطالعُ زائرُ اليرزة عند مدخل وزارة الدفاع نُصباً منحوتاً لفارسٍ امتشق سيفه المرفوع في حركةٍ تعبِّرُ عن الشجاعةِ والإقدام، ذلك هو تمثالُ الأمير فخر الدّين الثاني الكبير. وليس من قبيل التلقائيَّة أن يتمَّ اختيار هذا الرَّمز ليكون معبِّراً عن حقيقةِ العقيدة الوطنيَّة التي يتمّ بها صهر اللبنانيَّين في مدرسة الشرف والتضحية والوفاء دفاعاً عن وطنهم الغالي لبنان، بل هو خِيارٌ دقيق لأنَّ الحصيلةَ الجوهريَّة التي حقَّــقها الأميرُ الكبيرُ، وبذل من أجلها حياته قبيل منتصف القرن السابع عشر، هي حصيلةٌ كان من شأنها أن تحوِّلَ الإمارةَ الموزَّعة في إقطاعات إلى فكرة وطنيَّة جامعة حملت الإمكان الفعليّ لقيامةِ وطنٍ يرفعُ رايته الواحدة التي تظلِّل كلّ أبنائه دون تمييز.

إنَّه لا يمكنُ لأيّ باحثٍ منصفٍ في التاريخ اللبنانيّ إلَّا أن يُدرج سيرة هذا الأمير الاستثنائي في الإطار الواقعي الذي يجب أن يُدرج فيه وهو المرحلة التأسيسيَّة لتجسُّد الكيان اللبناني واقعيّاً. ذلك أنه، بإنجازاته المتعدِّدة، وطموحاته البعيدة، وشجاعته البطوليَّة، وحسِّه الحضاريّ، وتجاوزه المدهش لأيّ غريزةٍ طائفيَّة، وكفاحه المتواصل، كان على يقين راسخ بأنَّ الشتات الشعبي، الموزَّع في الامارة وجهاتها الطبيعيّة في امتدادها الجغرافي الأوسع، لديه قوَّة الإمكان بأن يكون موحَّداً بشعور انتماءٍ إلى أرضٍ واحدة وجيش واحد، وتاليا، إلى وطن واحد هو لبنان.

إنَّنا لا نستسيغ فكرة التوظيف الطائفي في كتابة تاريخ لبنان، ولكن لا يمكن أن نتجاهل الوقائع الموضوعيَّة التي أدَّت إلى قيامة الوطن استناداً إلى روحٍ ميثاقيَّة سبقت عهد الاستقلال عبر أجيال وأجيال. فحُسن إدارة الحكم بحكمة ومسؤوليّة وطنيَّة من المعنيِّين، ومن قبلهم التـنوخيّين الكبار الَّذين حافظوا على ميزة الإمارة طيلة قرون عديدة. لذلك، لا بدّ من القول، بأنَّ هذه المقدِّمات هي الخلفيَّة التاريخيَّة العريقة الأثيلة التي تؤكِّدُ ما يُقال اليوم من أن الدّروز كانوا على الدوام من المكوِّنات الأساسيَّة للكيان اللبناني بأرفع معاني الحسّ الوطنيّ الجامع الَّذي يرفع قيمة الولاء للوحدة الوطنيَّة فوق كلّ نزوع طائفي إلى التسلُّط أو غيره.

لقد كان الحضور الحكيم لأسلاف الموحِّدين في جبل لبنان بآفاقه الجغرافيَّة المفتوحة، امتداداً طبيعياً للحضور الاسلامي في المستوى العام الّذي كان يجسّده حكم السلاطين في ظل الخلافة المتوارثة. وكان من عظيم حكمتهم السياسيَّة أن حافظوا دائماً على التوازن الدقيق الصعب بين مسؤوليَّاتهم تجاه “حكّام السلطنة”، وبين إيمانهم العميق بضرورة الحفاظ على أوسع حدّ ممكن من إمكان أن تنعم الإمارة وسكانها من مختلف الفئات بالحريَّة التي تمكّنهم من الحياة الكريمة غير الخاضعة لأيّ استبداد. وكان هذا التبصُّر قاعدة رسَّخت إطار التعامل مع ولاة الإمارة، وشكَّلت بمرور الزمن صيغة واقعيَّة لوجود الكيان الوطني.

إنَّ إيماننا بالوطن الواحد القويّ، وبدولته المتماسكة القادرة، وبمؤسَّساته الدستوريَّة المنتظمة قانوناً، يعزِّزُ من تمسُّكنا بالثوابت التي طالما مكَّنت لبناننا العزيز من الصمود والنهوض وتجاوز الصعاب والمحن. وعلينا أن نحافظ، في المجال الوطنيّ العام، على المكوِّنات الوطنيَّة التي بانسجامها يكون لبنان، ليس فقط رسالة للحوار والاعتدال والعيش المشترك الآمن، بل وطناً عزيزاً حرّاً لا تزعزعه رياح ولا تهدّده مخاوف شتّى. وإيماننا راسخ بضرورة مبادرة كلّ بنيه إلى التعاضد والتعاون ليبقى لبناننا بلداً “لا غنى عنه” بما يمثّله ماضياً وحاضراً من صيغة فذّة للتعايُش والتواصُل والحرّية والسَّلام.

رسالة سماحة شيخ العقل

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

المسؤوليـــــة وثوابتهــــا فــــي خدمــــــــة الخيــــــــر العـــــــــام

ترتبطُ المسؤوليَّةُ بمعناها الاجتماعيِّ بفكرة وحدة المصلحة العامَّة. ويحملُ هذا الارتباطُ بُعدًا إنسانيًّا وجوديًّا حين نعي خضوعه، توحيديًّا، لثوابت الاستقامة والأخلاق والعدل والصدق ونقاء السَّرائر والضمائر والذمم والقانون وغيرها.

والمسؤوليَّة يجبُ ألا تنفصمُ عن احتسابِ أبعادها العامَّة الكبرى. وأثرها في النواة الأولى للمجتمع الإنساني، أي الأسرة، يتشابك مع الخلايا الناشئة وفقا لمسار تطوُّر البنيات الاجتماعية وصولا إلى المستوى الوطني. وهذا يعني أن الفرد مسؤول عن تصرُّفه الشخصي ومسؤول عن تصرُّفه العام في شؤون أية مسؤوليَّة أمام الجماعة من نواحٍ عدَّة متعلّقة بمفهوم الخير العام. وتصطدم المسؤولية بفكرة العصبيَّات المحليَّة التي تنفعلُ وكأن العالَم يبدأ وينتهي عند حدود البلدة أو الحيّ أو العائلة وكثيراً الأنا الشخصية.

ولا بدَّ لنا من مواجهة صادقة شجاعة وحقيقيَّة مع الإشكاليَّات الكبرى التي تعوِّقُ، في الواقع العمليّ، المسيرة نحو نهضةٍ فعَّالةٍ من شأنها أن تؤتي ثمارها المرتجاة في كافَّة حقول الخير وخدمة المجتمع. إنَّ أحدى هذه الإشكاليَّات المؤذية في نطاقِ مجتمعنا هي نزعة الارتجال والاعتداد بالرأي ولو في غير مُكنةٍ منه عِلمًا وعقلًا. وأكثر ما نعنيه هنا هو الانخراط هنا أو هناك، لهذا او لذاك، في الإدلاء بانطباعٍ عام في مسائل الدِّين ومقارباته الفقهيَّة والتربويَّة والاجتماعية مع حبّ الظهور. نتحدَّث هنا عن حالات كثيرة تداهمنا إمَّا في الاعلام وإمَّا بإبلاغنا عن العديد من التجاوزات السيّئة في الشكل والمضمون في وسائل التواصل الاجتماعي وما شاكل، ومعظمها يدخل في إطار المغالطة والسفسطة وتجاوز الحدّ والمبالغة التي في غير محلِّها، ناهيك عن ركاكة الرأي ووهن القدرة العلميَّة ورداءة الذوق.

إنَّ مثل هذه الأمور، وبأسفٍ بالغ، تحدث. ونحن هنا نوضح بصوتٍ واضح، أنّها لا تمثِّـلنا، ولا تمثِّـل تراثنا الأثيل، لا في حقائق المعرفة فيه، ولا في دقائق لطائف معانيه، ولا خصوصًا في رزانة مسالكه العمليَّة والخُلقيَّة.
نودّ، بهذه الإشارة إلى بعض مظاهر هذا الإفراط المعيب، أن نستحضرَ معنى المسؤوليَّة الفرديَّة، خصوصًا في محلِّها الخُلقيّ والمسلكيّ، وبالتالي الروحيّ، من كينونة الإنسان. لقد جمع التَّوحيد الخلاصة الجوهريَّة للقيَم الإنسانيَّة. وتحدَّد مسارُه في تفاعل المعاني اللطيفة لتلك القيَم في قلب الإنسان وسريرته. نتيجة لذلك، فإنَّه من الضرورة الحتميَّة انعكاس ذلك التفاعُل في الأعمال والأقوال والحركات والسكنات. لان سياق الوجود متولد من الصراع الكبير بين الخير والشر. إنَّ القاعدةَ الأساسيَّة في تقليدنا الرُّوحيّ المسلكي هي الصدق، يعني أن تكون الفاظُ المرء وأقواله متطابقة مع نوايا القلبِ وحركة الخواطر والأفكار منه. على الطريق المستقيم ضمن قواعد الحلال والحرام. فإذا، لا سمح الله، تناقضت الأقوالُ مع النوايا والمسالك الحسنة او العكس، يكونُ الباب مشرّعًا نحو ظواهر الكذب وبواطنه، وتلك آفة كبرى من شأنها أن تميت النفس عن كلِّ نسمة حياة. وما يتبعها من رياء ونفاق وطمع وغيبة ونميمة وغيرها من الآفات التي تهدم مقوّمات المجتمع الإنساني. وليس هذا على الإطلاق نهج الموحِّدين الصادقين الَّذين عرفوا في دواخلهم الانسجام العميق بين غاية العلوم من جهة وما يتحقَّق في ظاهر العيان من عملٍ ومسالك. والفاضلُ من كان للحق حُجَّة بشهادته الصادقة المعبَّر عنها في نزاهته وشهامته، ليس فقط في ذات نفسه، بل أيضًا في سائر معاملاته وتصرفاته مع الآخرين، في محيطه ومجتمعه، وفي ايّة مسؤولية يتحملها في المستوى الوطنيّ العام.

إنَّ العمل بمنهاجية الصدق ومعانيه وهي مدرسة كبرى هو واجبٌ تقتضيهُ الحقيقة والأصُول، بل هو المسارُ الأسلم لبراءة الذمَّة ونقاء الضَّمير. وعلى العاقل أن يحذر أشدّ الحذر من انخداع النفس والتباس المفاهيم في طواياها تحت وطأة الإغراءات الدنيويَّة، والنزعات الأنانية، التي تدفع نحو الانغلاق في زاوية ضيّقة هي خدمة المصلحة الشخصيَّة في غفلةٍ عن فسحة الخير العام. فطوبى لعائلةٍ تربي أولادها على الاخلاق، وطوبى لدولةٍ تنشئ ابناءها على الوطنية، وهنيئاً لمن عرف حدّه ووقف عنده.

الالتزام بحقِّ الكلمة ومعناها

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
الالتزام بحقِّ الكلمة ومعناها

المُعجَم، في المفهوم الحديث لعِلم الدَّلالة، هو فُسحة لغويَّة “تمُوج بالحياة والحركة” في حال النَظر فيها بعين التَّدقيق المُعمَّق، ذلك أنَّ مدلولَ الكلمة يبقى قابلًا لمحمولات متجدِّدة في المعنى. سنكتفي هنا بإيراد نبذةٍ من سيرة الشيخ الفاضل1 حين قال له شيخُه أبو عبادة زاكي الَّذي رعاه في البداية (وكان فتًى في حداثته): “إنْ قُلنا لكَ يا محمَّد، نرى ذلك قليلًا عليك. وإنْ قُلنا لك يا شيْخ محمَّد نرى ذلك كبيرًا عليْك. فنقولُ لكَ يا أبا فُلانٍ بكُنْيته المشهورة.”
لقد كان مدلولُ الكلمة كما بدا واضحاً انه مرتبط بالنُّضْج الَّذي يحقِّـقُه المرءُ في سلُوكِه وديانتِه ومعرفته بحيْث يكونُ الإدراكُ مستويًا في سجايا الخيْر، لا سيّما منها حضُور العقل في الحركاتِ والسكَنات، وغَلبَة الحِلم، أي الرزانة والأناة والتبصُّر، على نوازع النَّفس وانفعالاتها وعواطفها. وأيضًا، استقرار جَنَان السالك، أي قلبه وداخله، في هدْأة التَّواضُعِ، بنُور المعرفة. ثمَّ الثَّبات عليه، فلا تُـقلقِلُ سكينتَهُ في الفضيلة تلك أيُّ حادثةٍ من حوادث الأيَّامِ العابرة في الزَّمن، لأنَّ الاطمئنان الرُّوحيّ يعلو عليه بلطافته وقيمتِه وجوهريّته.
كذلك في هذه المناداة محافظة على سداد المعنى، من غير إفراط في استخدامه، ويعني هذا إخلاصه في التَّوحيد، لأنَّ التَّوحيدَ لا يصِحُّ في الحقيقةِ دون ثباتِ المعنى في المقاصدِ السَّديدة لهُ مهما عصفَت بها عوارضُ الأزمان. والعقلُ يستدركُ تصعيد المعنى دون أن يخونه. ويُحيطُ بتنوِّعات دلالاته من دون ضلالٍ عن جذوره الأصيلة. وهذا مبحثٌ له حديث وأبحاث تطُول.
هذا مثالٌ على كثير من المصطلحات الجوهريَّة التي لا يمكنُ لأيِّ مُوحِّدٍ أن يكتفي منها بظواهر الشَّكل والكُلْفة، بل من الواجب اللازم أن يحقِّقَ مقاصدها في سلوكه، ولا يحدث هذا إلَّا باتِّحادِ معناها في خلجَاتِ نفسه، وتأثُّرها به وجدانيًّا وامتثالًا في العملِ، كي يحقّقَ معنى التَّوحيد وفق قدْرته واستطاعته بعد بذل الجهد مخلصًا ومتشوِّقًا إلى الارتقاء به على الدَّوام. بهذا نبتعد عن الاعتباطية التي يبني البعض عليها الآراء ويتخذها منظاراً نحو الآخرين فتجمح عواطفه وتجعله يعيش في مجتمع مضلل مخدوع.
علينا أن نتطلَّع، بشجاعةٍ، في مرآة الحق بحثًا عن مكاننا من المفاهيم الأصيلةِ لكثيرٍ من المصطلحات، ومنها: التَّواضع، الحياء، النّزاهة، الإيثار، الأخُوَّة، العفاف، القناعة، الطِّيبة، الاعتدال، الإنصاف، المَيْز، الحِلْم، الصَّبْر، التوكُّل، الإخلاص، الرِّضى، الخشُوع، الإصغاء، المروءة، الوفاء، وبالإجمال الكثير من الآداب والأخلاق اللائقة بمعنى التَّوحيد. وفي كلِّ حال، فإنَّ كلَّ القيَم المذكورة هي برسم كافَّة شرائح المجتمع المتطلِّع إلى نهوضٍ لائقٍ بمعنى الحضارة. فالأخلاق الحميدة سمات إنسانيَّة نبيلة، بها تكون الأسرةُ نواةً قويَّة صالحة، وأساسًا متينًا لكلِّ بناءٍ حضاريّ لائقٍ بمعنى المَدَنيَّة الرَّفيع.
قال تعالى في كتابه الكريم﴿ اللهُ وليُّ الَّذين آمَنُوا يُخرجُهُم منَ الظُّلُمات إلى النُّور ﴾(البقرة 257)، أي أنَّ الله تعالى ينصرُ المُصَدِّقين بحقائق دعوته وتوحيده، ويوفّقهُم في سعيهِم المخلِص وصولًا إلى نور الحقّ والهداية والاستقامة. والتَّصديقُ السَّليمُ هو لبُّ صحَّة الدّيانات. ولو امتثل المرءُ معنى التَّصديق بحقيقته لَتَبدَّى ذلك واضحًا في عملِه وسلوكه مع خاصَّة نفسه، وبالطّبع مع نظرائه في الخَلق في بيئته ومجتمعه.
إنَّ التشوُّهات التي تظهرُ هنا وهناك، في العديد من التصرُّفات والممارسات، لدى بعض من التَبَست عليهم حقائق الأمور، مردُّها إلى انفكاك النَّفس في سرائرها عن حقائق المعاني، وهذا استدراجٌ إلى غضبِ الله. ولا نعرفُ في تراثنا العريق عن الأفاضل الكبار، وأصائل الرّجال إلَّا أنَّهُم كانوا يقدِّرون حقَّ الكلمة، ويضعونها في ميزانها العدْل. لذلك كانت نواياهُم في ألفاظهم، وكلامُهُم في غاية الانسجام مع أفعالهم، وهيبتُهم من صدقهم وإخلاصهم وصفاء ضمائرهم. ولنا أن نقتدي، وأن نحفظَ هذه الرُّوح قبل كلّ شيء، بعقولنا ونفوسنا ومسالكنا وتصرّفاتنا وأعمالنا، لا بعواطفنا وانفعالاتنا، ولا يغِيبنَّ عن بالِنا﴿ إنَّ اللهَ بما تعملُون بَصِير﴾ (البقرة 110).
أيّها الشباب والشابات
حذار ان تتحكم فيكم عواطفكم، فهي كالجواد الجامح إذا ما اندفع وانطلق يعدو لا يرى امامه، فالعواطف لا تبني ولا سيما إذا كانت مطاياها الألسن والآذان.
“طوبى لمن جعل العقل عقال العواطف. وجعل الصدق مسلكاً وشعاراً”

المسؤوليَّة العامَّة وشروطها

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

المسؤوليَّة العامَّة وشروطها

يتَّخذُ مبدأُ المسؤوليَّةِ صفة شموليَّة في الإسلام كما جاءَ في الحديث الشَّريف: “كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه”. وهذا المبدأ، على خطورةِ فهمه بمقاربةٍ نسبيَّة، يقيِّــدُه بشكلٍ مُحكَم العديدُ من قواعد الأصُول في الشَّرع من جهةٍ أولى، وأيضًا في منظومة الحقوق بالمفهوم المدنيّ الحديث من جهاتٍ مختلفة. ف”الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّـته” كما يُكمِلُ الحديثُ الآنف الذِّكر، وهذه مسؤوليَّة الحاكم المرتبطة وجوبًا بتحقيق العدْل، “والرَّجُلُ راعٍ في أهله” وهذا مقيَّدٌ بكلِّ واجبات الرِّعايةِ الخُلُقيَّة والتربويَّة والمادِّيَّة الخ. “والمرأةُ راعيةٌ في بيت زوجها” بحفظ المودَّة والرَّحمة والألفة وحسن التَّدبير وما إلى ذلك ممَّا يوفِّرُ الاستقرار النفسيّ والعاطفيّ والعائليّ للنواة الأولى في بنيان أيّ مجتمع بشريّ.

إنَّ الرِّعايةَ -التي هي واجب الحفاظ على أمانةٍ معيَّنة-بكافَّة وجوهها، مرتبطٌة بالمسؤوليَّة التي يتحمَّلها مسؤولٌ ما. فهو مسؤول لأنَّه يُسأَلُ عن أعماله وعن تصرُّفاته وعن حسن أدائه وعن إخلاصِه في تحقيق ما هو واجبُ أن يؤدّيه وفقا لمقتضيات المقام. جاء في الآية الشريفة﴿ وَقِفُوهم إنَّهم مَسْؤُولون﴾(الصافات 24)، أي احبسوهم في الموقف لتتمّ مساءلتهُم عن عقائدهم وأعمالهم. ومأثورٌ في أدبِ الدِّين أن مقامَ السؤال أمام الحقّ هو من أصعب المقامات.

والمسؤوليَّة من بابِ الشَّرع قائمة على مثُـل عالية يمكن اختصارها بقاعدة الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكَر وإحقاق الحقّ. أمَّا من باب السياسة المدنيَّة فهي مرتبطة بمبادئ العدْل والمساواة واحترام حقوق المواطنة وواجباتها، والعمل على تحسين شروط مستوى المعيشة في كافَّة حقول الخدمات والرِّعاية إلى ما هنالك. وليس من اللائقِ للمرءِ في أيِّ موقع من مواقع المسؤوليَّة أن يتورَّط في مزالق الفساد وسوء أداء الأمانة والاستهتار بمصالح النَّاس وتلويث مفهوم الحياة نفسها.

                                                                                     * * *

لا بدَّ من الوقوف أمام المعاني المقدَّم ذكرها لكلِّ من يهمّ بالمبادرة إلى تحمُّل المسؤوليَّة والمشاركة في الأنشطة العامَّة في موسم الانتخابات البلديَّة والمخاتير. ولا بدّ ان نؤكِّدَ على شرط الضَّرورة في هذا السِّياق، وهو حفظ أمانة الصِّدق، ونيَّة الخيْر، والتَّجرُّد الخالص فوق كلِّ العصبيَّاتِ الفئويَّة، وعدم الانزلاق بشكلٍ لا يقاربه التباس في أيِّ خلافٍ أو مشاحنة أو تحديات. والقصْدُ ليس السَّعي إلى المواقع، بل العمل، إن اقتضى الأمر ذلك، على تعزيز الإقدام على كلمة سواء، وعلى جمع الشَّمل، وعلى تغليب مفهوم المصلحة العامَّة على المصالح الخاصَّة في هذا المجال.

يهمّنا هنا بالأخصِّ بعض الَّذين ينغمسون في خوض هذا الخِضمّ من الملتزمين بالمسلك الدّينيّ، لنذكِّرَ بتلك المعاني ودقائق محمولها المعنويّ الّذي يزدادُ في فاعليَّته وشروطه تجاههم بشكل خاصّ. ونحنُ لا يمكننا أن ندعو إلى اعتزال شؤون الخدمة العامَّة، لكنّه ليس من واجب رجل الدِّين الموحِّد الانخراط في معتركٍ تتشابكُ فيه الغرضيَّات الدنيويَّة، بل عليه، إن أمكن، أن يكونَ مثالًا في مجتمعه للكلمة الطيِّبة التي توحِّد ولا تنثر بذور الشقاق. وأن يكون كالميزان العدْل، يُقصَد لتعزيز الألفة، ولا يُستخدَم طرفًا في الخصومات وما شابه، بل يمكنه المساعدة على اختيار الاكفأ. إنَّ المحافظة على أدبِ الدِّين هي الغاية الشَّريفة التي تشغل قلبَ الموحِّد. وما علينا إلَّا أن نذكِّر بهذا الأصل الأصيل في المسلك﴿ فإنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنِين ﴾(الذاريات 55).

الصدق هو النهج القويم

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الصدق هو النهج القويم

صدق عند الموحدين الدروز هو الركن الأساسي في قاعدة السلوك الأخلاقي التي يجب على كل انسان الالتزام بها تجاه ذاته أولا وتجاه الآخَرين في كلامه وأفعاله ومقاصده الظاهرة والباطنة في كل حال. فالصدق عندهم وما يعنيه من إخلاص في الأداء هو روح العمل، وعليه، إمّا أن يكون العمل حركة طيِّبة في صالح خير الفرد والجماعة، أو يكون مُشبعا بالخبث لا يتأتَّى به إلَّا تشويش الأذهان، وزرع بذور الشكوك والشقاق، وإثارة البغضاء في النفوس. والمرء بنواياه، فإنْ قصَد سبُل الإصلاح فإنَّه بادئ بنفسه، وإنْ أضمر الشرور فهو في ظلمة نفسه، وحاشا لنور الصلاح والإصلاح أن يتبدَّى من سواد الظلام.

وإن كان الإنسانُ مُطَالبًا بصدق القال والحال في ذاته، فهو أحرى أن يكونَ مُطالَبًا به إنْ تجاوزت حركةُ أفعاله إلى الحقل العام. هنا، يرتبطُ الأمرُ بمسؤوليَّةٍ عامَّة تُضافُ إلى المسؤوليَّة الخاصَّة المتعلِّقة بضمير المرء وحقيقة سريرته. ومن بديهيَّات الأمور أن يعتبرَ الشخصُ، السّاعي إلى الإصلاح في مجتمعِه، نفسَه صادقًا، وذا مروءةٍ وحَميَّة، مندفعًا في مبادرتِه لتقويم الخلل. فإن لم يكن متأصِّلا بهذه الصِّفات فهو خادعٌ نفسه قبل أن يخادعَ الناس.

ان مقومات أي اصلاح اجتماعي حقيقي صحيح، يبدأ بمراقبة كل امرء لنفسه ولصدق لسانه وتعامله مع الآخرين. وهذا يوجب على المخلص تقديم النصيحة لأخيه اولاً عملاً بمبدأ حفظ الاخوان. ان قاعدة ادب الدين قبل الدين هو الأساس في الشرع التوحيدي وهو ادب الحياة أما اللسان الذي اعتاد المراوغة واستحسان الخداع يكون آفة كبيرة للنفس التي تصير اولى ضحاياه باعتيادها الكذب المؤدي بها الى اغتراب خطير.

فانتقاد الخطأ او التقصير يجب ان يكون قد استند الى وقائع قائمة فعلاً، اما إذا ارتكز على الاغلاط والشبهات والاوهام والظنون، فيكون في حقيقة الامر أكثر سوءاً لأنه يكون منطلقاً من دوافع الحقد والضغينة.

النهضويُّ في مجتمعه يجب أن يتحلَّى بمزايا الصِّدق والصَّراحة والشجاعة الأدبيَّة، انّ أصول احترام الآخَر والتعامُل في مسائل الشأن العام بشكلٍ يقدِّمُ الدلالات على أنَّ المطالبة بالإصلاح متأتية من رؤيةٍ جدّيَّة وواضحة وقويَّة الحجج في الحقول التي تتناولها، يتطلَّبُ بعض الأمور كي يؤتي ثمره في خدمة المصلحة العامَّة، ومن أهمِّها التعاون والتواصُل والبحث الدائم والدؤوب عن نقاط مشتركة من أجل البناء عليها لتحقيق الأهداف المرجوَّة. فإن لم يكن ذلك كذلك، فهو التعطيل والمقاطعة وتكريس الانقسامات وما شابه، وهذا يقود إلى أوضاع عبثيَّة الكلُّ فيه خاسر، وبالتالي، تتحوَّل المطالبة بالإصلاح إلى نقيضها، بل إلى ما هو أسوأ. فليست المسألة هي في ممارسة نشاطٍ عقيم يتغلَّبُ فيه حبّ الظهور على الغايات المفيدة، ويطغى فيه حبُّ الكلام من أجل تمتين علاقاتٍ عامَّة محدودة على حساب القيام بخطواتٍ حقيقيَّة، وإنجازاتٍ فعَّالةٍ تخدم النَّهضةَ المطلوبة من أجل مصالح المجتمع والوطن.

هذه من الحقائق التي يجب أن لا تغيب عن بالنا جميعًا في هذا المجال، ويكفي لكلِّ ذي ضمير الوقوف مليّا أمام الحقائق والوقائع، وبالتجرُّد التام عن كلّ عصبيَّةٍ وفئويَّةٍ وضغائن مكبوتة، ليكون الصّدق هو النهج القويم تجاه الذات وتجاه الآخرين، وهو الدلالة على النوايا الصادقة، وهو التعبير الناجع عن نيَّة الخير لكلِّ من يريد أن يدلي بدلوه في مواضيع الشأن العام. والله سبحانه وتعالى عليمٌ بذات الصدور.

اللهم قدّرنا على معرفة الحق واتباعه والدرء لعكسه واجتنابه.

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين

تحيَّة إلى الموحِّدين في شمال سوريا

قلوبنا اليوم هناك، في كفتين وفي معرَّة الإخوان وفي قلب لوزة وفي كلّ القرى الأبيَّة التي طالما عرفها الموحِّدون عبر تاريخهم المشرِّف جدًّا في ذلك الجبل المشرف على انطاكيا. قلوبنا مع أهلنا وأحبَّائنا الذين حملوا مثلنا تسمية خاطئة (دروز حلب) أصحاب النخوة والشَّرف والكرم والضيافة والإيثار الَّذين حوَّلوا بيوتهم وصدورهم إلى مضافات حضنوا فيها عشرات الآلاف من النَّازحين من جيرانهم، ولا غرو في ذلك، فلطالما عاش الموحِّدون هناك وفي كلِّ مكان في ظلّ مبادئ العروبة الأصيلة والإسلام السَّمح الحنيف الَّذي يتجلَّى في الأرض بتحقُّق إنساني أمثل، وبأخلاقٍ روحيَّة تقتدي بها الأمم، وبفضائل شريفة لا يقبلون عنها انزياحا.

قلوبنا معكم يا أهلنا في جبلٍ يعني لنا ولكم الكثير. يا من تتشبَّثون بالأرض التي تعرفون. فمن هناك حيث أقامت قبائل عربيَّة أصيلة قبل الفتح، وحين لبَّتْ نداء الإيمان، صقلوا أشرافُها وصناديدُها قلوبَهُم بمعاني الكتاب، ونفوسَهُم بالأعمال الطيِّبات التي تُرضي الله عزَّ وجلَّ، وسيوفَهُم دفاعًا عن الأمَّة وعزَّتها، فارتحل منهُم الكثير ليقيموا في ثغور ساحل بلاد الشَّام، ويقدِّموا التضحيات عبر مئات السنين دون انفكاك عن جذورهم ذودًا عن عزَّة الجمـــاعة والأمّـــَة.

اقـــرأوا التاريــــــخ، اقــــــرأوه جيـــِّدًا، اقــــــرأوه بإخــــــلاص فــــــي ضـــوء كلمـــة الحقّ ورسوله. هؤلاء في ألف عام لم يعتدوا على حرمةِ أخ لهُم في “الجماعة” أو في غيرها. هؤلاء أهـــل عفَّة ودِين وفضل وشهامة وتواضع، ما خانوا عهدًا، ولا طعـــنوا ظهـــرًا، ولا تواطأوا إلا مـــع الكـــرامة والـــمروءة.
اقرؤا التاريخ. اقرأوه عيانًا حاضرا أمام أعينكم. شاهدوا كم حملوا فوق طاقاتهم المادّيَّة المتواضعة من أحمال عجز عنها بلدٌ بأسره. انظروا في ضمائركم قبل بصائركم في ثمرات أخلاقهم، وولائهم للحقّ، وحفظهم الذِّمم، والتزامهم الإنساني الشَّريف بحدِّ تحريم الاعتداء على أحد، وامتثالهم مقاصد رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم في ما أودعه المسلمين من وصايا أثيلة بها قام الاسلامُ، وبها يبقى على مثاله النقيّ إلى يوم الدِّين، قال ص: “إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَليكُم دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم كَحُرمَةِ بَلَدِكُم هَذا.. اتَّقُوا اللهَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم.. الـمُسلمَ أخو الـمُسلم ، لا يَغُشُّهُ، ولا يَخُونُه ، ولا يَغْتَابُه ، ولا يَحُلُّ لَهُ دَمُهُ ، ولا شَيءٌ من مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبِ نَفسِه…”

هؤلاء صامدون، صابرون، لا يريدون لبلدهم سوريا العزيزة إلا الخير، و لا لشعبها-وهم من صلبه- إلا الكرامة، ولا للأمَّة إلا أن يكفيها الله سبحانه وتعالى شرّ الاقتتال والتناحُر والعودة بإخلاص القلوب إلى نعمة التآلُف والوحدة. هؤلاء كانوا، كما أسلافهم، أوفياء، أنقياء القلب واليد والضمير والسَّريرة، ولا يستحقُّون من كلِّ مؤمن، ومن كلِّ أحد، إلا الاحترام والوفاء عينه.

يا أهلنا الأعزَّاء، أنتم في محلّ الاهتمام البالغ، والمتابعة الدقيقة، لكلِّ ما يستجدُّ في أوضاعكُم من أمور. إنَّنا في المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدّروز ومشيخة العقل ، بكلّ ما يمثِّلون، مقدِّرين عاليًا صبركم وحكمتكم وحِلمكُم ، نحن نعلم أنّكم على خطى السلف الصالح سائرون، وبالمحافظة على حرمة الجار متمسكون، وبحبل الله نحن واياكم معتصمون، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يسدِّد تدبيركُم، ويثبِّت قلوبكم، ويكفّ عنكُم كلّ ضيْم، ويفرِّج عنكم كلّ همّ، ونسأله أن يجمعنا في طاعته ورضوانه ورحمته، إنَّه هو الحكيم الخبير.

كلمة سماحة شيخ العقل