-
العقل في اللّغة (1)
أشار الخطاب القرآني إلى أهميّة الاستفادة من خصائص اللغة العربيّة واصطلاحاتها في فهم معاني آيات الكتاب المنزل حيث قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). لذا، أجد من المفيد، قبل الخوض في تحليل الآيات القرآنية، تقديم بعض المعاني اللغوية للفظة “عقل” كما وردت في أمّهات المعاجم التراثية، لما يساعد ذلك في توضيح كثير من التفسيرات التي سَتَرِدُ لاحقًا في هذا البحث عن علاقة العقل بالدين والإيمان. عَرَّف الجوهري “العقل” في صِحَاحِه بأنَّه: “الحِجر والنُهى. ورجل عاقل وعقول. وقد عقل يعقل عقلًا ومعقولًا أيضًا، وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة(2)” . وفي تعريف الجوهري كما سيتبيّن لاحقًا دلالة على وظيفة العقل الخُلقيّة، بحيث هو القوة الداخلية الوازعة التي تَنْهَى النفس وتحبسها عن متابعة الشهوات الجسمانيّة والاندفاع وراء الغضب بغير رويّة ولا بصيرة.
أمّا الفيروزآبادي فقد عرَّف “العقل” في القاموس المحيط بأنّه:
العِلم بصفات الأشياء، من حسنها وقبحها، وكمالها ونُقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرّين، أو مطلق لأمور أو لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن ولمعانٍ مجتمعة في الذهن يكون بمقدِّمات يستتبّ بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه، والحقّ أنّه نور روحانيّ به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظريّة … يكْمُل عند البلوغ، ج: عُقُول، عَقَلَ يعقل عقلًا ومعقولًا وعقَّل، فهو عاقِل من عُقلاء وعُقَّال… والشيء فَهِمَه، فهو عَقُول(3).
ويشير تعريف الفيروزآبادي إلى وقوع العقل على فعل الإدراك للعلوم الضروريّة والنظريّة من جهة، وعلى القوّة الإدراكيّة التي تُمكِّن النَّفس من نَظَرِ هذه الأمور اللَّطيفة؛ ويقع أيضًا على قوة التمييز. غير أنَّه أشار أيضًا إلى وقوع العقل على “هيئة محمودة للإنسان في كلامه وحركاته”، أي مسلكه في الحياة، ما يجعل العقل صفة لطريقة محمودة في العيش.
وأمَّا ابن منظور فقد أورد في لسان العرب عن معاني العقل: [عن] ابن الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وهو الـجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه، وقـيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسه ويَرُدُّها عن هواها، أُخِذَ من قولهم قد اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلامَ، والـمَعْقُول: ما تَعْقِله بقلبك… والعقل: التثبُّت في الأمور. والعقل: القلب… وسُمّي العقل عقلًا لأنّه يَعْقِل صاحبه عن التورُّط في المهالك أي يحبسه(4).
تتَّفق هذه المعاني مع ما ورد في الصحاح عن الوظيفة الخلقيّة للعقل، ولكن يضيف ابن منظور بُعدًا آخر مهمًّا، وهو أنَّ العقل صفة تطلق لا على قدرة المرء على ضبط مشاعره وأعماله على نظام الحقيقة وحسب بل وضبط فكره ، لأنَّ العاقل “هو الجامع لأمره ورأيه”. إذًا، وبحسب هذا المعنى، باكتساب العقل يتمكَّن الإنسان من جمع نفسه بكلّيتها على نظام الحقّ ومن منعها عن الباطل. وسيظهر لاحقًا أنَّ جميع هذه المعاني مفيدة في فهم الأبعاد المتعدّدة لمعنى العقل في الخطاب القرآني وعلاقته بالدين والإيمان.
-
العقلُ والهُويَّةُ الإنسانـيّةُ
يُخاطب القرآنُ الإنسانَ في مواضِعَ عدَّة بما هو نفسٌ عاقلةٌ، كما في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ (الأنفال/24). بالطبع، تلك الدعوة مُوجَّهة إلى بشرٍ أحياءٍ في أجسامهم؛ وهي بالتالي تشير إلى حياة غير الحياة الجسمانيَّة. كما أنَّ التعاليم الدينية هي معانٍ روحيةٌ لا تُـحيي أجسامًا طبيعية، بل تُؤثِّر في الإنسان من خلال طبيعته الـمُدركة للأشياء غير الحسيَّة، والتي هي النفس العاقلة. فوَحْدَهَا العُقُولُ تحيا بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام/122). مِنَ الواضح أنَّ الخطاب القرآني يربط بين الحياة والنور الذي هو العلم الحقُّ، ويجعلهما نقيضَي الموت والظلمة اللَّذَيْن هما على التوالي الكفر والجهل. وفي ذلك دلالةٌ واضحة على أنَّهُ قصد بالحياة حياة النفس العاقلة لا حياة الجسم.
وممَّا يُثبت أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قَصَدَ عند استخدامه عبارتي الحياة والموت حياةَ النفس العاقلة وموتَها إطلاقُه صفة الموت على الكُفّار في أكثر من موضع، مثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ… أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ (النحل/20-21). وهؤلاء أيضًا أحياءٌ في أجسامهم ولكنَّهم موتى في نفوسهم العاقلة، لأنَّ الإيمان والكفر كليهما من أعمال القلب، أي النفس العاقلة، كما في قوله عن الإيمان: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات/14)، ومثل قوله: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل/106)
وقوله عن الكفر: ﴿وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ (النحل/106)؛ وقال أيضًا: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ (النحل/22).
ثمَّ إنَّ الخطاب القرآني أوضح أنَّ القلوبَ لها أعمالٌ خاصة بها بمعزل عن الجوارح الجسمانيّة، بدليل قوله: ﴿وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة/225)، أي النفوس العاقلة. وبما أنَّ القلوب تكسب الأعمال يعني أنّها عاملة ومُتحركِّة، أي حيّة.
إذًا هناك نَسَقٌ واضحٌ في الخطاب القرآني يجعل النفس العاقلة هويةَ الإنسان وجوهرَهُ؛ ويجعل حياته حركةَ تلك النَّفسِ في النور والخير والحقّ، والفساد والموت حركتها في الظلمة والشرّ والباطل. ويستتبع من ذلك أنَّ الخطاب القرآني عندما يخاطب الإنسان إنّما يخاطبه بما هو تلك الهوية، وعندما يصف أحواله من حياةٍ وموت، وبصر وعمى، وطيب وخبث، وغيرها إنّما يصف أحوال تلك النفس العاقلة بالذات.
-
العَقْلُ هُوَ قُوَّةُ الإدراكِ المُخْتصّةُ بحَقائِقِ الوحْي
ولـمَّا جعل الخطاب القرآني النفسَ العاقلة للإنسان هويته الحقّة كان من الطبيعي أن يجعل للعقل دورًا رئيسًا في إدراك هذه النفس لحقائق الوحي. وقد أشار الخطاب القرآني إلى محوريَّة العقل من حيث هو قوة الإدراك المختصَّة بحقائق الوجود في غير آية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا… فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج/46)، أي العقل وهو البصيرة القلبية أو بصيرة النفس التي بها تُدْرِكُ حقائق الوجود. وتبيّن الآية أن بالعقل يحصل الاعتبار وإدراك الحقائق وبفساده يتعطَّلان. وكيف لا تكون حقائق الوحي معانيَ معقولة أيضًا وقد قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). فهذه الآية تبيِّن بوضوح أنَّ السبب من وراء نزول الوحي بلغة العرب هو أن يتمكَّنوا من عَقْلِ معانيه، أي فهمها؛ ما يعني أنَّ حقائق الوحي هي معان معقولة. وقال كذلك: ﴿قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ 9 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10 فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾ (الملك/9-11). من الواضح أنَّ هذه الآيات تَربِط بين العَقْل بما هو فعل الإدراك للمعاني المعقولة وبين إدراك حقائق الوحي وتعلُّمها وذلك بجعلها علّة التكذيب بتعاليم “النذير”، أو النبي المرسل، عَدْمَ عَقْلِ الكفار لمعاني الوحي لقولهم “لو كنّا نسمع أو نعقل”. ودلالات هذا الربط واضحة أيضًا، فهي تشير إلى أنَّه لا يمكن الناسَ أن يَفهموا معاني الآيات وحقائق الوحي إلًّا بواسطة العقل. لذا، وبخلاف ما اعتقده الغزالي بأنَّ العقل عاجز عن إدراك حقائق الوحي، بأنَّه يمكن الناس فهم حَقائقه من دون الاعتماد على العقل، يوضّح الخطاب القرآني أنَّ العقل هو قوة (أو أداة) الإدراك المختصَّة بهذه الحقائق؛ وبالتالي، وحدهم أصحاب العقول السليمة يمكنهم تحقيق مثل هذا الإدراك.
كذلك، لا ينسجم الخطاب القرآني مع مقولة ابن رشد بأنَّه يمكن للناسَ الذين ينتمون إلى صنف الخطابيين والجدليين الوصول إلى معرفة الله والإيمان به من دون الحاجة إلى فهم الحقائق المعقولة للوحي، وبخاصة عندما يكون ظاهره مُنافيًا لأحكام العقل، لقوله: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ﴾ (يونس/32). وتشير هذه الآية بوضوح إلى أنَّه عند وجود اختلاف بين ظاهر الوحي وأحكام العقل أو المعاني المستنبطة من الآيات بواسطة العقل، يُضاف هذا الظاهر اللامعقول حكمًا إلى الباطل، ولا يمكن الباطل أن يكون طريقًا إلى معرفة الله وسبيلًا لنيل السعادة الأبدية لقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (العنكبوت/52). فبحسب هذه الآية، إنَّ من يؤمن بالباطل يكفر بالله ويخسر السعادة الأبدية. وكذلك، فإنَّ حقائقَ الوحي لا يمكن أن تختلف وتتناقض بعضها مع بعض كما يحدث عند اختلاف الظاهر اللامعقول مع المعنى المؤوّل المعقول، لأنَّ الخطاب القرآني قد أشار إلى استحالة وجود اختلاف بين معاني آيات الكتاب المنزل، لقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء/82). والتدبّر هو عمل عقلي إذ يعرّفه الفيروزآبادي في القاموس المحيط (1998) على أنَّه “النَّظَرُ في عاقِبةِ الأمرِ، … وتدبَّر الأمر رأى في عاقِبتهِ ما لم يرَ في صَدْرِهِ، وتدبَّر القول أي فهم غايته” (ص 390). وبالتّالي، تفيد هذه الآية أنَّ من يقارب الوحي بواسطة العقل لا بدَّ من أنْ يجد معانيه مُتّسقة ومتجانسة لا تحمل فيما بينها اختلافًا ولا تناقضًا، لأنَّ الحقّ الذي من عند الله متجانس المعنى لا اختلاف فيه.
-
العَقْلُ غايةٌ مِنْ غَايات الرِّسالَةِ النَّبَوِيَّةِ
وإذا ما تتبَّعنا في النصّ المنزل الآيات التي تُوضّح أغراض الوحي والرسالة النبويّة، نُلاحظ أنَّها تجعل تَيْقِيْظَ النفس العاقلة في الإنسان وتنميَتها أحد أبرز أغراضها. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ الغاية من التعاليم التي يحملها الوحي هي تنوير العقل الإنساني بقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ﴾ (الأنعام/104)؛ ومقصد الكلام بصيرة النفس، أي العقل. فقد دلَّ الخطاب القرآني على التعاليم الإلهيّة التي يحملها الوحي بالآلة التي تُدْرَكُ بها – أي بصيرة النفس – فأسماها بصائر لكونها تُمكّن هذه البصيرة، أي العقل، من نظر المعاني المعقولة كما يُمكِّن نور الشمس العين من نظر الأشياء المحسوسة، لأنَّ غرض الرسالة هو تعليم الناس الحق كما في قوله: ﴿أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/151). كذلك، أشار في غير موضع، وبطريقة مباشرة، أنَّ غاية الوحي بآياته وأمثاله وقَصَصِهِ هو إرشاد الإنسان إلى تحقيق فضيلة نفسه العاقلة من خلال تغذيَتِها بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/242)، أي كي تعقلوا. فجعل غاية الآيات وبيان معانيها اكتسابَ المؤمنين القدرةَ على عقل حقائق الوجود.
وأضاف الخطاب القرآني إلى هذه الغاية اكتسابَ المؤمنين القدرة على القيام بأنواعٍ أخرى من أعمال الطبيعة العاقلة وإتقانها من حُسن التفكُّر، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة/266)، وقوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف/176)؛ واليقظة العقليَّة أو الذكر، كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، أي ليتذكر الحقائق أولو العقول (ص/29)؛ وحُسن الفهم، كما في قوله: ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونََ﴾ (الأنعام/65). ثمَّ جعل ذلك كلَّه، أي العقل وحسن التفكُّر والتذكُّر وحسن الفهم، شرطًا للإيمان لقوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ… لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام/154)، أي بعد عَقْلِهِم لمعانيه؛ ليصبح الإيمانُ هو التصديق بمعانٍ عقليَّة غائبة عن الحسّ، أي التصديق بالغيب المعقول وليس بالغيب اللامعقول. فقد ربط الخطاب القرآني بين الإيمان والعَقْل (الفعل) في غير موضع، كما في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس/100). وبحسب هذه الآية، فإنَّ من عَجَزَ عن العَقْل عَجَزَ عن الإيمان. فصار العقل شرطًا لتحقيق غاية من غايات الدين وهو الإيمان. لذا، من الواضح أنَّ الخطاب القرآني قصد بالإيمان التصديق بغيب معقول، أي الذي ينسجم مع أحكام العقل ولا يتناقض معه.
-
والعَقْلُ هُو نَظَرٌ سليمٌ للوجود
ولم يقتصر الخطاب القرآنيّ على جعل التفكُّر في آياتِ الكتابِ وأمثاله وقصصه وعقل حقائقها غذاءً للنفس العاقلة وسببًا لحياتها، بل نبَّه إلى أنّ الوجود الماديّ المحسوس كُلّه آيات حسيَّة ماثلة أمام نظر المؤمن لإيقاظ هذه النفس العاقلة وتنميتها وإحيائها بعد أن يُدرك بعقله دلالتها وممثولاتها من الحقائق. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ كثيرًا من الظواهر الطبيعية المألوفة تحمل دلالات تساعد الإنسان على إدارك حقائق الوجود متى أعمل عقله في فهم معانيها وممثولاتها، كما في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ 10 يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 11 وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 12 وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (النحل/10-13).
فبحسب هذه الآيات فإنَّ جميع هذه الظواهر المألوفة في العالم المحسوس لها دلالات ومعانٍ، والناظر نظر الاعتبار يمكن أن يعلمها بواسطة العقل. ولنا في قصّة النبي إبراهيم الخليل مثال مفيد على كيفية درك حقائق الوجود من خلال الاعتبار بالظواهر الطبيعيَّة:
﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام/75-79)
فقد نظر إبراهيم إلى كوكب(5) منير في السماء وبعده إلى القمر والشمس معتقدًا فيها الألوهة واحدًا بعد الآخر، فلمَّا أفلت، أي غابت عن النظر، أدرك بعقله أنَّ الإله لا يمكن أن يكون من جنس الآفلين، فيلحقه عجز أو فناء، فنزّه الإله عنها وعلم أنَّه يجب أن يطلب الألوهة في الذي لا يلحق به عجز وفناء، أي الله. بالطبع، كان ظنُّ النبي إبراهيم أنَّ في الكوكب ألوهة وليد النظر الحسّي الذي رأى في علو مكانه في السماء شرفًا وفي أنواره فضلًا، ثمَّ اعتقد بالقمر لكونه أكبر وأشدّ نورًا منه، وانتهى إلى الاعتقاد بالشمس لأنّها أشدُّ من الاثنين نورًا وفضلًا. وأمَّا ما أدركه من معاني غيابها ووقوع التغيير في أحوالها ودلالات ذلك من عجز وضعف، وتنزيهه الخالق عنها فهو وليد النظر العقليّ. وكأنَّما أراد الخطاب القرآني أن يقول إنَّها جميعًا فُطرت على أحوالٍ ظاهرة تساعد الإنسان الناظر إليها بعقله على الاعتبار بها ومعرفة أنّها ليست الخالق.
ثمَّ أشار الخطاب القرآني إلى مثل آخر من الطبيعة له أهميّة كبيرة في الدين لكونه يوضّح للإنسان الناظر بعقله فناء الدنيا كي يعلم فضلَ الآخرة عليها فيطلبها، كما في قوله:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس/24).
والعبرة من وراء المثل المذكور أنَّ كلّ شيء ينمو في العالم الماديّ المحسوس، ومن ضمنه جسم الإنسان، وينجذب إليه الإنسان الناظر بعين حسه لحسنه وجماله، هو سائر إلى الفناء، وهو بالتالي أقلُّ فضلًا ممَّا هو باقٍ إذا ما نظر إليه الإنسان بالعقل. إذًا يساعد النظر العقلي إلى الظواهر الطبيعيَّة والاعتبار بها الإنسان على التمييز بين الفناء والبقاء ليعلم بعقله الناظر في العواقب والغايات فضل ما هو باقٍ فيختار طلب الآخرة اختيارًا عقليًّا، أي عن علم ودراية بخيرها وبقائه كما في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/32).
-
العُقَّال مقصد الرسالة النبويّة
ويلاحظ أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قد جعل في غير آيةٍ أصحابِ العقول الحيّة المقصد الحقيقي للرسالة النبويَّة، فقد أشار إلى أن غرض آيات الكتاب المنزل هو تذكير القلوب الحيّة بالحقائق الإلهية، كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ أي في آيات الكتاب، ﴿لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ (ق/37) أي لمن كان له قلبٌ حيّ. ثمَّ أوضح معنى ذلك في قوله: ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا﴾، أي في قلبه أو نفسه العاقلة، ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (يس/70)، أي لتقوم حجّة البيان على الأموات في نفوسهم العاقلة. وهذان القولان يُفيدان التخصيص لأنّهما يشيران إلى أنَّ القلوب الحيَّة هي وحدها تتذكَّر معاني الآيات المنزلة وتنتذر بوعيدها كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص/29)، وقوله ﴿هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (إبراهيم/52)، أي أصحاب القلوب أو النفوس العاقلة الحيّة. وهذه الآية تشير أيضًا إلى أنَّ النفس العاقلة هي التي تحمل التوحيد معتقدًا بعد عقلها لحقائق الرسالة.
ثمَّ أوضح الخطاب القرآني أنَّ هذا التخصيصَ ليس من باب التَّمييز المسبق بين الناس، فيستحيل ضربًا من ضروب الظلم الناتج من عدم المساواة بينهم في التبليغ والبيان؛ بل هو لتبيان أنَّ من أهمل طبيعته العاقلة وأفسدها يحرُم نفسَهُ بنفسِهِ من القدرة على عَقْل الحقائق الإلهية والتصديق أو الإيمان بها، وبالتالي الانتفاع بها دليلًا للنَّجاة، كما في وصفه للكفّار بأنَّهم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171)، أي أنَّ كفرهم حرمهم القدرة على النظر العقلي فيه وفهم معانيه، بدليل قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ (6) (النساء/155).
إذًا، تَرِدُ الرسالة على جميع الناس من باب إقامة العدل فيهم؛ ولكن لن يقبلها وينتفع بها إلَّا ذوو العقول الحيّة، أو العقّال، فيصبح هؤلاء هم مقصدها الحقيقي لقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (الأنفال/22-23). وليس من الحكمة والعدل إطلاق الذمّ على من لم يتسبَّب لنفسه بما يوجب الذمّ؛ وبالتالي، لا بدَّ من أنَّ الخطاب القرآني قد قصد بـ”شرِّ الدواب” مَنْ أُعْطِيَ القدرة على عقل حقائق الوحي، أي الإنسان العاقل بالفطرة، ثمَّ أفسد هذه القدرة وعَدِمَها بما اكتسب من أعمال سيئة، كما في قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا 125… وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ﴾ (طه/123-127). تُثبت هذه الآيات أنّه قصد بِـ”شَرِّ الدواب” مَنْ كَفَر بحقائق الآيات المنزلة مع وجود القوة على عَقْلِها والتصديق بها، وأنَّ هؤلاء مسؤولون عمَّا وصلوا إليه من عجزهم عن عَقْلِ المعاني بسبَب إهمالهم لتغذيَة نفوسهم بحقائق الوحي. وإذا كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، يُصبح خير الدواب كل من سمع الحقّ ونظر معانيه بعقله فأدرك حقائقه المعقولة.
-
الطَّبيعَةُ العاقلةُ تنفَعِل بالأعمال
ثمَّ أوضح أيضًا أنَّ هذه البصيرة القلبيَّة التي هي العقل، تَنْفَعِل بأعمال الإنسان سلبًا أو إيجابًا ، فإمَّا أن تصفو وتزكو وتزداد بالأعمال الحسنة أو تتَّسخ وتضعف نتيجة للأعمال السيئة، وقد تبلغ درجة عالية من الفساد فتعمى، أي تعدم القدرة على نظر الحقائق المعقولة بدليل قوله: ﴿بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الإنفطار/14)، أي يكسبون من أعمال السّوء. والرَّانُ هو “الصدأُ الذي يعلُو الشيءَ الجَلِيّ كالسيف والمرآة ونحوهما، ورَانَ الذَّنْبُ على قلبه… غلب عليه وغطاه، كلّ ما غطى شيئاً فقد رانَ عليه” (إبن منظور، 1994/13، ص192)، فيحجبه؛ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 6 خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة/7).
وإذا كان للنفس العاقلة حياةٌ كما سبق أن ذُكر، فهي إمَّا تكتسب العافية أو تعرض لها الأمراض، أو يحلّ بها الموت. وقد أشار الخطاب القرآني في مواضع عدّة إلى مرض القلوب كما في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (البقرة/10). ثمَّ أوضح أنه يتحدَّث عن أمراض روحيّة وليس جسمانيّة، بوصفه مواعظ الكتاب بأنَّها: ﴿شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس/57)، أي شفاءٌ للقلوب أو للنفوس العاقلة من الأمراض المتَّصلة بطبيعتها الخاصة. وقد ربط الخطاب القرآني المرض بالنفس العاقلة والإيمان كما في قوله: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ﴾ (المدثر/74). وسؤالُ الكافرين والذين في قلوبهم مرض يُعبِّر عن عَجزهم عن فهم معاني الأمثال لكونها معاني معقولة بدليل قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت/43). وفي هذا دليل آخر على ما سبق أن ذكر بأنَّ النفس العاقلة هي هوية الإنسان الحقيقية، لأنَّ الخطاب القرآني أشار إلى فسادها (أو مرضها) عند حديثه عن فساد الإنسان. وقد ربط الخطاب القرآني بين كثير من مظاهر الفساد التي تحلُّ في الإنسان بفساد العقل وعدمه كما في قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران/58)، أي أنَّه جعل علّة اتخاذهم الصلاة هزوًا عجزهم عن إدراك المعاني المعقولة؛ وقوله أيضًا: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171). ويظهر هذا التحليل بوضوح عدم انسجام الخطاب القرآني مع ما ذهب إليه الغزالي من فَصْل نفس الإنسان وأمراضها عن طبيعتها العاقلة.
-
العَقْلُ غرض التقوى
أشار الخطاب القرآني أيضًا إلى أنَّ الغرض من إلزام المؤمنين اجتناب النواهي، وهو فعل التقوى، الحفاظ على سلامة القلوب وحفظ حياتها، لأنَّ ما نُهِيَ عنه من أقوالٍ وأعمالٍ ومعتقداتٍ هو ما يُمرض الطبيعة العاقلة ويُفسدها، بدليل قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ… وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/151)، أي كي تعقلوا. وتربط الآية بشكل واضح بين الإرادة الإلهيّة بتحريم المعتقدات الخاطئة والأعمال السيئة، والتي يطلق عليها شرعًا “النواهي”، والقدرة على العقل؛ ويتضح بالتالي أنَّ المقصد من الدعوة إلى اجتناب هذه النواهي هو صيانة العقل من أسباب الفساد. لذلك، كانت التقوى – وهي مُشتقَّة من وقاية – من أكثر الفرائض الدينية ذكرًا في النصّ المنزل، لأنّها تحفظ قلب الإنسان – وهو مركز الإيمان والعبادة – سليمًا ومعافًى بتجنيبه كلّ ما يضرّ بطبيعته العاقلة.
ولإثبات ارتباط فريضة التقوى بالحفاظ على حياة النفس العاقلة وسلامتها، أوْرِدُ أبرز ما أشار إليه الخطاب القرآني من أسباب فساد النفس العاقلة وهلاكها. فقد أوضح أنّ الظَنَّ السوء بالإله – أي المعتقد الخاطئ ومن ضمنه ما ذكر من الشرك – يُميت هذه النفس لقوله: ﴿وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ (المؤمنون/41). والرَّدى هو الهلاك والموت، والإنسان كما سبق أن ذكر هو نفسه العاقلة، فيصبح غاية هذه الآية الدلالة على سبب من أسباب موت النفس العاقلة. وقد فسّر الخطاب القرآني ماهيّة هذا الظن المردي بقوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (آل عمران/154)؛ هو الظنُّ المبني على الجهل بخلاف ما هو المبني على العلم، أو الحقّ المعقول. ويوضّح هذا التحليل ما أشرتُ إليه في بداية البحث عن اعتباري أنَّ الفَصْل بين الدين والحقيقة وبين الإيمان والعقل يشكّل أخطرَ التحدّيات أمام الدين في العصر الحديث، لأنَّه بفَصْلِ الإيمان عن العقل وبنائه على الجهل بدل العلم هلاكٌ للنفس العاقلة التي هي هوية الإنسان.
ثمَّ ذكر أنَّ عدم التصديق واتباع الأهواء، أي النَّزْعات اللاعقلانيّة، هو أيضًا من أسباب هلاكها، كما في قوله: ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ﴾ (طه/16). وقد سبق أن ذكر من أنّ للعقل وظيفة أخرى خلقيّة تتمثَّل بكونه الوازع الداخلي الذي ينهى النفس عن متابعة الأهواء، ولأجل ذلك سُمي النُّهى كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ﴾ (طه/54)، أي أولي العقول الحيّة. فهذا الوازع الداخلي يمنع مشاعر الإنسان اللاعقلانية من شهوات وغضب من السيطرة عليه وعلى أفعاله كيلا يعمل عمل الجاهلين، بدليل قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ (الفتح/26)، والحميّة الأنفة. وقد رَبَطَ الخطاب القرآني بين عجز بعض الذين يستمعون إلى الآيات المنزلة عن عَقْلِ معانيها وبين تعطّل العقل وغيابه واتّباع الأهواء في قوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (محمد/16). فبحسب الآية فإنَّ السبب وراء عجز هؤلاء عن حمل حقائق الوحي المعقولة هو مرض نفوسهم العاقلة نتيجة اتباع الأهواء. وكذلك، ذَكَر سببًا آخر وهو الظُّلم. فقد أشار إلى حال الظالمين في دار الآخرة بقوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾(إبراهيم/42-43)، أي قلوبهم أو نفوسهم العاقلة مَيْتَة بسبب خلوّها من العقل. ثمَّ إنَّ خلاف الظلم هو العدل، والعدل وليد الحق لقوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (آل عمران/159)، والحقّ معقول. هذا يعني أنَّ العقل وفق الخطاب القرآني هو أيضًا شرط للحياة المنسجمة مع حقائق الوحي، فلا تحفظ حياة للنفس العاقلة وتصحُّ ديانة ويُنال فَلَاح مع سيرة منفصلة عن العقل وقائمة على الجهل والظلم ومتابعة الأهواء. من هنا أيضًا يمكن فهم ما أورده الفيرزآبادي في قاموسه عن استخدام كلمة “العقل” في التعبير عن طريقة محمودة في العيش بقوله إنَّه يستعمل “لهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه”.
-
مَسْلكُ العقل
ويُظهر الخطاب القرآنيُّ أيضًا أهميّة إعمال العقل في فهم الدين والوجود فهمًا صحيحًا وفي حفظ النفوس العاقلة سليمة من أسباب الفساد عند وصفه المؤمنين الأحياء بالعُقَّال الذين يتثبَّتون من أمورهم – وما يختص منها بالرسالة تحديدًا – ويَنْقَدُوْنَها قبل القبول بها أو اختيارها لِئلَّا يتبعون ما هو باطل ويجلبون الشرّ والضّرر بدل الخير والنفع، فهم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر/18)، أي العقول الحيّة. ثمَّ نهى عن السلوك الجاهل والاتباع الأعمى، أي التقليد، بقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ﴾ (الإسراء/36)، أي لا تتَّبع أمرًا أو أثرًا إلَّا بعد عَقْلِه ومعرفة حقيقته والتأكُّد من خيره. لذلك، قال عن أصحاب العقول الحيّة: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام/122)، أي هم يعقلون حقائق الوحي فيسلكون في الحياة عن علم ودراية.
وأمَر الخطاب القرآني باتباع مسلك العقل لا مسلك التقليد في الإيمان، وذمَّ مسلك التقليد واتباع ما هو مألوف بين الناس ورَبَطَهُ بالجهل الناتج من عدم العقل بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة/170). وربما تُوفّر هذه الآية أحد أقوى الإثباتات على محوريّة العقل في فهم الوحي وبناء الإيمان والسلوك الديني؛ فتساؤل الخطاب القرآني عمَّا إذا كان هؤلاء قد تثبَّتوا أولًا من أنَّ آباءهم الذين يتبعونهم في دينهم أو معتقداتهم قد بنوا ما يعتقدونه عن عَقْلٍ، يعني ضمنًا أنَّه لا يجب على الإنسان أنْ يتَّبع إلَّا ما بُني على العقل السليم وتوافق مع أحكامه، أي الحق المعقول. ويتضمَّن هذا السؤال أيضًا استهجانًا من الجهالة التي يعبّر عنها سلوك هؤلاء. كما ويستتبع من هذا أنَّ الخطاب القرآني يدعو جميع الناس، بمعزل عن المكان والزمان، أن لا يكتفوا باتباع ما وجدوا آباءهم عليه من معتقدات وطرق عيش قبل التثبّت من صحتها أولًا كي لا ينتهي بهم الأمر باتباع ما هو مخالف للعقل، أي باطل، فيضلّون عن سبيل الحقّ والخير. وهو بالتالي يدعو الناس، وحتى من كان آباؤهم يتبعون معتقدات صحيحة أو ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، إلى أنّْ تكون مقاربتهم للوحي وقبولهم لتعاليمه من خلال العقل فعلًا مُتجدِّدًا جيلًا بعد جيل كي يصيبوا الهدى والرشاد ويجتنبوا الوقوع بالجهل والضلال.
-
العقل شرط للسعادة الأبدية
ثمَّ أنَّه أوضح لنا السبب وراء تركيزه على تزكية القلب وصيانته من الأمراض بالربط بين سلامته والفوز بالسعادة الأبدية في دار الآخرة بقوله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء/88-89)، أي إلَّا من أتى للقاء الله بنفسٍ عاقلةٍ حيَّةٍ سليمةٍ من الأمراض. فَمَنْ أفسد بصيرته القلبية بارتكاب السيئات في الحياة الدنيا حَضَر الآخرة وهو أعمى البصيرة فلا يقدر على أن ينظر وجه الله ويحقّق السعادة الأبدية كما في قوله: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الإسراء/72)، والعمى هنا في بصيرة القلب أي العقل. والمقصود بالسعادة هنا هي تلك التي عبّر عنها في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة/22-23)، أي إلى وجه ربها ناظرة؛ والشرط في تحقيق هذا النظر هو سلامة القلب، أي العقل. ومما يثبت أنَّ نظر وجه الله هو عنوان السعادة الأبديّة قوله عن عذاب المكذّبين بحقائق الوحي واليوم الآخر: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ 10 الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 11وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 13 كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14 كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين/10-15).
وتفيد هذه الآيات الخمس بأنَّ عاقبة من أفسد نفسه العاقلة وأهلكها باتباع سيرة ظالمة وعَجَزَ نتيجة لارتكابه الأعمال السيئة عن عَقْلِ حقائق الوحي والتصديق بها، فأنكر القيامة وظنّ الوحي وهمًا مضافًا إلى أساطير الأولين، هي الحجبة عن نظر وجه الله في الدار الآخرة. وبما أنَّ الدار الآخرة هي دار خلود، فالحُجبة فيها أبديّة أيضًا. ولا يمكن تعليل مثل هذا الحجبة إلَّا بفساد القوة المختصَّة بهذا النظر فسادًا كليًّا وهو ما تعبّر عنه بموت الطبيعة العاقلة للإنسان. وإذا كان العذاب الأليم الذي ينذر منه الخطاب القرآني هو الحجبة عن نظر وجه الله، فلا بدَّ من أن يكون النعيم هو نظر وجهه، وهو يشترط كما ذكر حياة النفس العاقلة وسلامتها من الأمراض. ومن المنطقي أن يكون هذا هو النعيم كونه عنوان البقاء الوحيد لقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن/26-27). غير أنَّ الخطاب القرآني لم يُبْق الأمر مشكلًا بل أوضح بشكل صريح وفي غير آية أنَّ الغاية من سعي الإنسان في فعل الخيرات والإحسان في دار الدنيَا هو تحقيق هذا النظر في الدار الآخرة، كما في قوله: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّ﴾ (البقرة/272)؛ أي طلبًا للفوز بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة نظر المُبصر المُغتبط.
-
خاتمة
يُظهر هذا البحث الموجز وجود ترابط وثيق بين الطبيعة العاقلة للإنسان بأبعادها كافّة وبين حقائق الوحي والإيمان والسيرة الإنسانيّة ومصير البشر الروحي. فقد تبيّن من خلال دراسة الروابط التي أقامها الخطاب القرآني بين المفردات والمفاهيم المتعلّقة بالعقل وبين تلك المتعلّقة بالذات الإنسانيّة وأحوالها أنَّ النفس العاقلة هي جوهر الإنسان وهويته الحقيقية، فحياته حياة هذه النفس وحركته حركتها وموته موتها. وتبيّن أنَّ العقل هو قوة الإدراك التي تبصر فيها هذه النفس حقائق الوحي ومعاني الوجود لأنَّ هذه المعاني والحقائق هي صورٌ معقولة لا صورٌ محسوسة. ثمَّ بيَّن ارتباط قدرة البصيرة القلبية، التي هي العقل، على درك المعاني المعقولة بالسيرة الإنسانيّة لأنَّها تنفعل بأعمال الإنسان فتحيا بطلب العلم والحكمة والأعمال الحسنة وتنمو، وتحفظ سلامتها وتزكو باجتناب الكفر والشرك والأعمال السيئة واتباع الأهواء، فتقوى على العقل، أو تمرض وتموت بالاسترسال بالجهل والسيرة القائمة على الإسراف والظلم، فتضعف عن العقل أو تعدمه. وأظهر أيضًا أنَّ إحياء هذه النفس العاقلة وتزكيتها وتنميتها وحفظها من الأمراض والهلاك هو غرض الرسالة النبوية والغاية من الأوامر والنواهي التي اشتملت عليها، وهو ما يجعل الكتاب المنزل دليلًا علميًّا وخلقيًّا ومسلكيًّا للعيش العقلي الموصل للسعادة الأبديّة التي هي فعل تلك الطبيعة العاقلة – أي نظر وجه الله. وعلى هذه الخلفيّة، يمكن القول إنَّ الدينَ عقلٌ، فالنفس العاقلة هي حاملة التوحيد والإيمان بعد إدراكها لمعاني الوحي وفهمها لحقائق الوجود بالنظر العقليّ. والعقل أيضًا هو الوازع الداخلي الذي يحبس النفس عن متابعة الأهواء التي تمنعها عن إدراك هذه الحقائق. وبالعقل أيضًا يحقِّق الإنسان غاية الإيمان وهي السعادة الناتجة من النظر إلى وجه الله.
ومن شأن نتائج هذا البحث أن تُعيد الاعتبار إلى المنهج العقلي في تفسير النَّصّ المنزل وتأويله لما يُظهر الخطاب القرآني من شرعيّة منهج كهذا وأصالته، الأمر الذي يفتح الباب أمام مقاربة جديدة للنصّ محرّرة من قيود التراث ومألوفاته. ومن شأن نتائجه أيضًا أن تساعد الباحثين على دراسة النصّ المنزل مجالًا معرفيًّا لاستكشاف الذات الإنسانيّة وعلاقتها بالله وفهم طبيعتها العاقلة وقواها الإدراكيّة والعمليّة والأحوال المختلفة التي تعرض لها واختباراتها وانفعالاتها والمؤثّرات التي تفعل فيها والمصير الذي ينتظرها، الأمر الذي يجعل المعرفة الدينيّة ودراسة النصّ الـمُنزل مطلبًا أشدّ التصاقًا بحياة الإنسان العمليّة واهتماماته العلميّة وهواجسه الوجوديّة. ومن شأنه أيضًا أن يوفّر الأدوات المعرفيّة التي يحتاج إليها الباحثون للقيام بقراءات فلسفية للنصّ المنزل لما يتضمّنه من خلاصات تتَّصل بالطبيعة الإنسانيّة ونظرية المعرفة ونظرية الأخلاق ومفهوم السعادة الإنسانية وغيرها من أغراض المباحث الفلسفيَّة. ولا شكَّ في أنَّ مثل هذه البحوث والقراءات تغني الدّراسات الإسلاميّة خاصّةً والدينيّة عامةً وتوسع أفق البحث فيها ومجالاته.
المراجع:
(1)- وهنا لا بدّ لي من الإشارة إلى مسألة منهجيّة تتّصل بتقديم عرض مقاربة ابن رشد على مقاربة الغزالي. فمع أنَّ الغزالي تقدّم زمنيًّا على ابن رشد، غير أنّي فضّلت البدء بابن رشد لكونه الأقرب إلى المنحى العقلي من الغزالي. وأجزت لنفسي ذلك لأنّي لا أقدّم دراسة تاريخيّة عن تطوّر نظرة علماء المسلمين لعلاقة العقل بالدّين، بل أعرض فقط نموذجَيْن بارزين لمقاربة الموضوع في التراث الإسلامي.
(2)- أبو الوليد محمد بن أحمد إبن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق ألبير نصري نادر (بيروت: دار المشرق، 1991)، ص 128. التسويد في الاقتباسات من كاتب المقال.
(3)- المصدر نفسه، ص 34.
(4)- المصدر نفسه، ص 35.
(5)- المصدر نفسه، ص 36.
(6)- المصدر نفسه، ص 52.
(7)- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، توثيق أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006)، ج 7: ص 66.
(8)- المصدر نفسه، ص 66.
(9)- المصدر نفسه، ص 71.
(10)- المصدر نفسه، ص 72.
(11)- المصدر نفسه، ص ص 66-67.
(12)- المصدر نفسه، ص 72.
(13)- المصدر نفسه، ص 72.
(14)- المصدر نفسه، ص 67.