الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

صورة من التراث

صورة من التراث

النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين
النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين

    النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين

حكايات الامثال

قصص الأمثال

الحلقة 8

قسم كبير من الحكايات والأمثلة الشعبية يتناول المبالغات، فهؤلاء «الفشارين» أو «الفنّاصين» هم غالباً من البسطاء المهمشين الذين يسعون إلى شدّ انتباه الناس إليهم عبر رواية حكايات مفبركة تقوم على مبالغات مكشوفة فيظن هؤلاء أن الناس يصدقونها. وأكثر من يستمع الى هذه القصص يلعب اللعبة كما يقال فيتابع القصة وهو يبدي دهشته من فصولها ويهزّ برأسه تصديقاً لكي يشجع الفناص على المزيد من دون أن يدري الأخير أن الناس اجتمعت حوله لتستمتع بقصصه الخيالية وليست لأنها تصدق خبرياته المثيرة.
في جانب آخر تتناول حكايات الأمثال قصص التجار الفاشلين وهم غالباً يأتون إلى مهنة البيع والشراء دون خبرة ومنهم من تنقصه الفطنة فتنتهي تجارتهم إلى خباء وخسائر. وقصص التجارة الفاشلة مسلية ومفيدة لأنها جزء من الخبرة الجماعية وفيها حث على الفطنة وسخرية من الغباء في الأعمال.
في ما يلي بعض الحكايا التي تتناول حالتي المبالغة في الرواية والتجار الفاشلين:
(الضحى)

حَطِّط عن جَحْشتَـك

هي عبارة تقال للرجل الذي يحاول التدخل في شؤون الآخرين، أو يحاول تقديم مساعدة غير مرغوب فيها ولم يطلبها أحد منه، فيعرضون عنه بقولهم: « حطط عن بغلتك » أي لا نريد نصيحتك أو مساعدتك .
وقد روى سلام الراسي حكاية هذا المثل، وذكره برواية : «حطط عن جحشتك» . فقال :
يروى أن رجلاً كان على خلاف دائم مع زوجته، حتى ضجر منها . وقُدر لها أن ماتت . فأخذ يشعر بالفراغ لفقدها، وأحس بقيمة الزوجة، وسوء حال من يفقد زوجته . فأسف على ما بدر منه تجاهها، وقرر أن يتجول في المدينة، فيسدي النصائح للرجال حتى يحسنوا معاملة زوجاتهم، كي لا يصيبهم ما أصابه، فتوجه إلى سوق المدينة، واشترى جحشة ليركبها لهذا الغرض .
ويبدو أن عدداً كبيراً من الرجال كانوا يعانون من علاقاتهم السيئة مع زوجاتهم، فاجتمعوا في ساحة المدينة يتداولون في طريقة الخلاص من زوجاتهم، فتذكروا الرجل الذي ماتت زوجته، فقالوا: لا بدّ أنه قد تدبر أمر موتها بطريقة ما . وقرروا التوجه إليه لسؤاله كيف تخلص من زوجته، فوجدوه يشدّ البردعة على ظهر جحشته، فسألوه :
ـ إلى أين تمضي ؟
فأجابهم :
سأتوجه إلى الرجال ليحسنوا معاملة زوجاتهم، كي لا يصيبهم ما أصابني. عندئذٍ قالوا له:
ـ حطط عن جحشتك . أي لا داع لكي تشد بردعة الجحشة وتمضي في مشوارك لأننا لسنا بحاجة لنصيحتك .
فغدت عبارتهم قولاً سائراً1

جازة حمزي براس الإمّان

والمثل معروف في أنحاء الجبل كافة، وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد2 في أمثاله على نحو مختلف « جازة حمزي براس المعناي3.
ويضرب المثل في الرجل إذا ألحّ في طلب الشيء دون مراعاة الوقت المناسب وحكاية المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الأستاذ عبيد . ولم أقع على المكان الذي جرت فيه واقعة الحكاية غير أنهم يذكرون أن حمزة هذا خطر له أن يتزوج في موسم الحصاد، لأمر ما بينه وبين عروسه، ولما أنه لم يكن من المنطق أن يتوقف عن الحصيدة ليتزوج، فقد طلب منه أهله التريث ريثما ينتهون من عملية الحصاد، لكنه أبى، وأصرّ على الزواج قبل إتمام الحصاد، فذهبت زيجته مثلاً في الأمر إذا أُلح في طلبه في وقت غير ملائم فقالوا : « جازة حمزة براس الإمَّان « والإمّان هو مساحة من سهم الحصيدة يباشره الحصاد في كل شوط، ويقدر عرضه بحوالي المتر لكل حصاد، أما طوله فلا يزيد على خمسين متراً وعندما يتعاون عدد من الحصّادين في حصاد الحقل يأخذ كل منهم مسؤولية خط معين ويتقدمون بالتوازي في عملية الحصاد من أول الحقل وحتى نهايته أي حتى «راس الإمَّان». والمقصود بالمثل أن حمزة لا يريد أن ينتظر إلى ما بعد الحصاد بل يريد بمجرد بلوغ نهاية الخط في حصاد حقل القمح أن تكون عروسته قد حضرت فيتسلمها في «راس الإمان» وهذا دليل الإلحاح وقلّة الصبر.

حنا من فروع طوال، والما يطول يقطع!!

يضرب هذا المثل في معرض التفاخر حين يغمز أحدهم من قناة الآخر، لقصر قامته أو نحو ذلك .
وحكاية المثل أرويها عن والدي في معرض حكاية بدوية تقول إن عمير الضيغمي وإبن عمه عرار كانت بينهما منافسة على زعامة قبيلة الضياغمة في الجزيرة العربية، وكان عرار طويل القامة لكنه قليل الحيلة، بينما كان عمير قصيراً غير أنه راجح العقل ومحبوب أكثر من ابن عمه عرار، ما أثار حفيظة عرار، وجعله يتحين الفرص للتقليل من شأن عمير .
وصادف أن خرج عرار وعمير إلى الصيد مع بعض الرجال، فاصطاد عرار غزالاً فيما كان عمير ما يزال يبحث عن صيد ما . وذبح عرار الغزال، وقطّعه، وشوى قسماً منه وجلس للغداء مع بعض الرجال، وأفرد قسماً من الغزال، فعلقه في غصن شجرة عالٍ، وقال لرجاله :
الآن سيأتي عمير، فنقول له إن نصيبك من الغزال معلق في الشجرة، وسيقفز عمير لتناول حصته من اللحم مثل الكلب دون أن يستطيع إدراكه، وهذا ما يمكننا من النيل منه .
وحين أتى عمير قال له عرار :
ـ دونك نصيبك .
وأشار إلى اللحم المعلق فما كان من عمير إلا أن امتشق سيفه، وضرب الغصن الذي علق فيه اللحم، فإذا هو أمامه . وقال مخاطباً عرار :
ـ حنا من فروع طوال، والما يطول يقطع .

خبز بكماج ولا لحم الجاج

الكماج : الخبز الإفرنجي
والمثل يضرب لمن لا يميزالجيد من الرديء
وحكاية هذا المثل كما رواها سلام الراسي تقول : إن قروياً أمّ المدينة لأول مرة في حياته، فبهرته المدينة بتنوع سلعها، وشموخ أبنيتها، وزحمة الناس فيها . . واتفق أن مرّ أمام بائع خبز إفرنجي، وسأله :
ـ ما هذا ؟ . فأجابه البائع :
ـ هذا كماج .
فقال القروي في نفسه : لا بدّ أن يكون « الكماج « مأكولاً لذيذاً حتى أطلقوا عليه هذا الإسم العجيب الغريب . ومن دون تردد اشترى الرجل رغيف كماج دون أن يعرف حقيقته وفتح زوادته من الخبز المرقوق، وراح يغمس خبزاً مرقوقاً بكماج . على بركة الله .
وعندما رجع الرجل إلى القرية، وقدم القوم للسلام عليه، أخذ يحدثهم عن مشاهداته وانطباعاته في المدينة، حتى وصل إلى « الكماج « فأسهب في وصفه ولذته، فسألوه :
ـ وهل يؤكل الكماج وحده، أم مغمساً بالخبز ؟
فهز الرجل رأسه وأجاب :
ـ « خبز بكماج، ولا لحم الجاج »
فذهب قوله مثلاً4

خبز وبصل مأكول الأصل

وتطلق هذه العبارة في معرض القناعة بما هو موجود لعدم توفّر ما هو أفضل . وأصل العبارة كما كان يرويها لنا الكبار أن ثلاثة رجال جمعتهم مهمة ما، فحمل كل واحد زوادته ومضوا . وحين حان موعد طعامهم فتحوا زواداتهم وبدأوا يأكلون . كان الأول يحمل خبزاً وبصلاً، فصار يأكل الخبز والبصل قائلاً معزياً نفسه : « خبز وبصل مأكول الأصل5 » .
أما الثاني فكان يحمل خبزاً حافاً وماء، فأخذ يبل لقمته بالماء ويقول ـ « خبز وماء مأكول العلماء».
فقال ثالثهم ساخراً :
ـ « كله فلاس من قلة الغماس »، أي كل هذا الكلام لأنه لا يوجد مرق (أي غماس) يغمس به الخبز.
وقد أورد سلامة عبيد المثل وجعل أحدهم يحمل خبزاً وزيتوناً، وجاء برواية : « خبز وزيتون أحلى ما يكون6» .

خمَّنــا الباشا باشا

يضرب هذا المثل في الرجل الذي ترسم له في مخيلتك صورة ناصعة جراء ما سمعت عنه، فإذا رأيته وجدته أقل شأناً مما تصورت .
وقد أورد سلامة عبيد المثل دون الإشارة إلى حكايته، غير أن سلام الراسي ينقل حكاية المثل على النحو التالي :
عندما تولى الأمير بشير الشهابي الثالث إمارة جبل لبنان، كانت صورة سلفه الأمير الشهابي الكبير ما تزال ماثلة في أذهان اللبنانيين . لحية غضة كثيفة، وعينان مشرقطتان تحت حاجبين متنافرين، وسيف مذهب، وعباءة مزركشة، وصوت جهوري يقصم الظهر .
لذلك لم يملأِ خلفه الأمير بشير الثالث عيون مواطنيه . فقد كان حليقاً، نحيلاً، خافت النبرات، تعوزه مظاهر الرجولة، فثاروا عليه، وأرغموه على الفرار . وانتهى بذلك حكم الإمارات المتعاقبة على لبنان من تنوخيين ومعنيين وشهابيين خلال أجيال عدة .
وعيّنت الدولة العثمانية بعدئذٍ عمر باشا النمساوي، وكان لقب باشا يعني في نظر اللبنانيين أكبر من لقب أمير، بالنظر لما رسخ في أذهانهم من عظمة أحمد باشا الجزار، ومحمد علي باشا، وابنه إبراهيم باشا، وسائر باشوات ذلك الزمان، الذين كان أمراء جبل لبنان يخضعون لهم في أغلب الأحيان . لذلك أكبر اللبنانيون مبادرة الدولة العلية بتعيين أحد الباشوات حاكماً على جبل لبنان، إلا أنهم ما لبثوا أن أصيبوا بخيبة أمل عندما رأوا الباشا يطل عليهم من فوق صهوة جواده، فقالوا : «خمنا الباشا باشا، تاري الباشا زلمي» . وجرى كلامهم مجرى المثل إلى يومنا هذا7 .

داوي الحاضر بالحاضر

يضرب المثل في الرجل الذي يحاول حل مشاكله بالمتاح بين يديه، فإذا احتاج شيئاً ما تدبره بما بين يديه من دون ان يتكلف عناء البحث عن وسائل بعيدة .
وأصل المثل كما يروي سلام الراسي عن أم سعد إحدى عجائز عين مريسة في بيروت أن الدكتور يوحنا ورتبات أحد مؤسسي معهد الطب في الجامعة الأميركية في بيروت جاء مرة يزور أحد المرضى، فوجد حالته قد تحسنت عما كانت عليه في الزيارة الأولى، فسأل ذويه ماذا فعلوا من أجله ؟ . فقالوا :
ـ نحن جماعة فقراء، نداوي الحاضر بالحاضر، أحضرنا له كمية من البطيخ، ورحنا نطعمه منها باستمرار، ونضع قشور البطيخ الباردة على جبينه الحار، فيرشح جسمه بالعرق من أكل البطيخ، ويتندى جبينه بالبرودة من قشوره الباردة . بهذه الطريقة نعالج المريض إذا ارتفعت درجة حرارته . فصار الدكتور ورتبات كلما رأى مريضاً ارتفعت حرارته قال له : « داوي الحاضر بالحاضر « فصارت العبارة قولاً مأثوراً .

الحق على برقة لكن القاضي بو حسون

مثل يضرب في الحق الضائع، حينما يتواطأ القاضي مع المحقوق لإماتة الحق . والمثل معروف في أنحاء الجبل، وحكايته أرويها من الذاكرة ..
و«برقة» إسم إمرأة اتهمت بسرقة دجاجة فاشتكتها صاحبة الدجاجة إلى «بو حسون» شيخ القرية وقاضيها . وكانت تقوم بين برقة وأبي حسون صداقة فحاول إحراج المدعية لإظهار بطلان دعواها.
قال للمرأة الشاكية : أنت تقولين أن برقة سرقت دجاجتك لكن هل وجدت دجاجتك بين دجاجات برقة؟ .
قالت المرأة : لا، ولكنني وجدت ريشها .
القاضي بو حسون: وما أدراك أنه ريشها ؟
قالت المرأة : دجاجتي وأعرفها .
قال بو حسون : إذن إبعثي لي دجاجة أخرى من دجاجاتك، وسأذبحها، وأضع ريشها بين ريش من دجاجات أخرى، فإذا استطعت أن تنتقي ريش دجاجتك من بين الريش الآخر يكون ادعاؤك صحيحاً .
فخرجت المرأة من بيته وهي موقنة بأن صداقة القاضي للسارقة أضاعت حقها وكانت تقول :
ـ « الحق على برقة لكن القاضي «بو حسون» !!» .
أي كيف يمكن أن يحكم «بو حسون «على برقة وهي صديقته ؟! .

الدعسة دعسة عجيلة . والشغل شغل حجيلة

يضرب المثل في حال عدم كفاية الأدلة لاتهام أحدهم، مع الاعتقاد بتورطه في الفعل، وحكاية المثل نقلها سلامة عبيد. إذ أورد أن فتاة أرادت أن تسرق الشعير من معلف الحصان، ولإخفاء أثر أقدامها كانت تركب على ظهر عجلة8 . وأضاف عبيد أن المثل يضرب في اتهام شخص تنقصه البراهين الواقعية9.
والمثل في صيغته يشبه مقولة سعد بن أبي وقاص حينما رأى فرسة البلقاء تكر في المعركة وفوقها فارس يشبه أبا محجن الثقفي، مع أن أبا محجن كان محبوساً في سجن سعد بجريمة شرب الخمر، فأطلق سعد عبارته قائلاً : « الكر كر البلقاء، والضرب ضرب أبي
محجن»، ليتبين بعد نهاية المعركة أن زوجة سعد قد أخرجت أبا محجن من الحبس، وأسرجت له البلقاء في حكاية تناقلتها كتب الأدب .
من جانب آخر، فإن حكاية الفتاة في سرقة الشعير تشبه حكاية الرجلين اللذين عزما على سرقة العنب من أحد الكروم . فركب أحدهما ظهر الآخر وقطف العنب . وحين شكاهما صاحب الكرم إلى القاضي أنكرا فعلهما، ما دفع القاضي إلى إلزامهما باليمين، عملاً بالقاعدة الفقهية : اليمين على من أنكر . ورضخا للأمر فأقسم الراكب أنه لم يدس الكرم بقدميه وأقسم الآخر أنه لم يقطف عنقوداً واحداً فكان قسمهما صحيحاً مع تورطهما في جريمة السرقة .

حكايات الامثال

حكايـات الأمثال

حكايا الناس والملوك

تعتبر حكايا الملوك من أكثر الأقاصيص التي كانت تحبها العامة وتتناقلها لما كان يرمز إليه الملك من ثروة عظيمة وسطوة وجبروت، فهو الآمر المطاع في كل أمور مملكته وهو المنعم أو المنتقم وهو العادل والكريم أحياناً والظالم والسفيه في أحيان أخرى وقد يكون أيضاً ظالماً وأحمق وفي كل هذه الحالات فإن الناس كانت تنظر إلى الملوك نظرة الرهبة. لذلك ليس صدفة أن القصص الشعبية وحكايا الجدات والرواة كانت غالباً عن الملوك وما يحصل لهم أو ما يحصل للناس معهم، وكانت أكثر الحكايات تشويقاً هي التي كان يتواجه فيها إنسان بسيط من فقراء الناس أو من عامتهم مع الملك وينجح في كسب ودّه بأعمال أو أقوال ذكية أو شجاعة. وقد لعبت تلك القصص أحياناً دوراً تربوياً عند روايتها للأبناء والبنات لأن في معظمها عبرة تنبّه الشخص البسيط إلى أن يكون فطناً وأن لا يخشى الملوك والأقوياء إذا كان لديه ما يسرهم أو يثير إعجابهم.
في هذه الحلقة من قصص الأمثال عدد من قصص الملوك فيها الكثير من العبر تجمع بين الملك وسلطانه وبين أشخاص ضعاف من الرعية لكن حباهم الله بالفطنة فكانت عوناً لهم على الملك وعلى مزاجه المتقلب.

(التحرير)

أصل هذا المثل في ثقافة الإحتجاج الصامت على الضرائب التي غالباً ما كانت ترهق الناس، لكنهم كانوا لا يجرأون على إظهار نقمتهم إلا في حالات الثورات والقلاقل التي كانت تنفجر عندما يبلغ الظلم درجة تفوق احتمال الناس. في بعض الحالات كانت القصة تضيف إلى الدراما شخصية الوزير الحكيم الذي يوفق في نصح الملك، كما يحصل في هذه الحكاية دون أن نعرف إذ كان قد نجح في نصحه أم لا.

يحكى أن ملكاً كان يزيد الضرائب سنة بعد سنة، وينفقها على بناء القصور والضياع وينفق منها أيضاً على البطانة والندماء والمحاسيب حتى عمّ الفقر، وانتشر الخراب، وراح الناس يهجرون قراهم وأملاكهم إلى حيث يذهبون ولا يرجعون.
وفي أحد الأيام نصحه وزيره أن يعتدل في التحصيل، ويقتصد في الإنفاق لافتاً إياه إلى أن الناس تترك الضياع ولن يبقى من يدفع الضرائب إذا افتقر الناس واستمرت هجرة الرعية.. لكن الملك بدل التمعن في النصيحة غضب على وزيره لجرأته وأمر بشنقه ليكون عبرة لمن يفكر بالإعتراض على أوامر الملك. وأتى بوزير سواه، وسأله رأيه في سياسة التحصيل والإنفاق، فأيد الوزير الجديد رأي الوزير القديم فلاقى المصير نفسه . وهكذا أخذ يشنق كل وزير يشير عليه بتقليص الضرائب وخفض الإنفاق، حتى أصبح جميع من له عقل راجح أو رأي سديد من أهل بلاطه يعتذر عن قبول منصب الوزير ويختلق شتى الأسباب حتى لا يلحقه ما لحق بالسابقين من الوزراء.. لكن في أحد الأيام قبل أحد الذين عرض عليهم منصب الوزير بحمل المسؤولية، ومن أول يوم تسلم فيه مهامه هرع إلى الملك وبدأ ينصحه بزيادة الضرائب. قال له:« يا طويل العمر، البلاد بألف خير والضرائب قليلة أمام مستلزمات الحكم، لذلك لا بدّ من زيادة الضرائب المعمول بها أو استحداث ضرائب جديدة»، وأضاف الوزير أنه لا بد من تحصيل مداخيل أكبر لكي يستطيع الملك القيام بواجباته تجاه الرعية ويعظم شأن مملكته . انبسط الملك من الوزير الجديد وقال في نفسه: هذا وزير عاقل ينفعني ويؤكد أن الوزراء الذين تخلصت منهم كانوا غير مخلصين ولا عارفين بشؤون الخزينة.
لكن ذات ليلة استيقظ الملك من نومه على جلبة خفيفة، وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى وزيره المخلص يقف على شرفته الواسعة أمام النافذة التي تطل على غرفة نومه، راعه الأمر وهبّ من فراشه وتوجه نحو وزيره وسأله عن سبب وقوفه في هذه الساعة من الليل قرب النافذة . فقال له الوزير :
ـ أطال الله عمرك يا مولاي ! رأيت في ما يرى النائم بومتين تتحادثان، فراعني ذلك، وخشيت أن يكون خلف مناجاتهما مصيبة . فقال الملك :
ـ وبمَ كانتا تتحدثان ؟
قال الوزير :
ـ قالت البومة الأولى للثانية هل توافقين على أن يكون ابني عريساً لابنتك ؟ . فأجابتها الثانية :
ـ بكل سرور . ولكن مهر ابنتي غال. فقالت الأولى :
ـ وكم تريدين مهراً لابنتك ؟ . قالت الثانية :
ـ ثلاث خرائب لتسرح فيها ابنتي وتمرح . فقالت الأولى :
ـ لك مني مئة خربة « إن طال عمر الملك ستصبح كل البلاد خراباً نرتع فيه كما نشاء لأن الضرايب خرايب». فصار كلام البومة مثلاً يقال في حالة التنديد بالسلطان الذي يجور على الشعب بضرائب لا يستطيع احتمالها.

الملك والوزير والحائك

وحكاية هذا المثل تقلب الموازين فتجعل الملك ووزيره وجهاً لوجه مع حائك عنده من الفطنة والحيلة ما يتمكن بهما من دخول أبواب القصور ونيل المآرب، بل إن هذا الرجل البسيط ينتهي في مقام رفيع بسبب ذكائه. بالطبع هذه القصة وغيرها نسجها العامة كنوع من الأحلام التي يتخيلون فيها أموراً غير واقعية لكنها تفرج عنهم وتعطيهم أملاً وربما تسلّيهم وهذا هو الهدف.
في الرواية أن أحد الملوك خطر على باله في أحد الأيام أن يصدر أمراً غريباً. وقد أرسل المنادين ذات يوم ليعلنوا على الناس أنه وبأمر من الملك بات ممنوعاً العمل في الليل، لأن الملك يريد راحة رعيته ولهذا فقد منع ايضاً النار والنور في البيوت بعد حلول العشاء.
ثم أراد الملك أن يعلم أثر ذلك الأمر على الرعية ومدى التزامهم به فطلب من وزيره أن يصطحبه في جولة ليلية ليرى بنفسه كيف تقبّل الناس ذلك الفرمان.
أثناء الجولة الليلية للملك ووزيره لاحظ الرجلان بصيص نور خلف نافذة أحد البيوت على أطراف المدينة. إقتربا، ونظرا من النافذة فإذا بحائك يجلس وراء نوله يعمل على ضوء الشمعة.
قال الملك للوزير عدّ أنت في سبيلك لأنني أريد أن أدخل على هذا الحائك لوحدي.
انصرف الوزير، فدخل الملك على الحائك. وقف الأخير للترحيب بالملك وقد تعرف عليه على الفور معرباً عن تقديره لبادرة الملك الكريمة بتشريفه في تلك الساعة.
قال له الملك: لم آتِ لزيارتك، بل لأسألك ألم يبلغك أمرنا بمنع النور والنار؟
قال الحائك: بلى وصلني أمركم يا ملك الزمان لكن الضرورة لها أحكام .
قال الملك: ما هي ضرورتك؟
قال له: إن علي أن أجني كل يوم على الأقل أربعة دنانير، وعمل النهار لا يكفيني لذلك فإن عليّ أن أعمل ليلاً لكي أتمكن من تحصيل الدنانير الأربعة.
قال الملك :ماذا تفعل بهذه الدنانير ؟
قال الحائك: دينار أنفقه على حاجتي ودينار أسدّد به ديناً عليّ ودينار أقرضه، ودينار أرمي به في البحر.
قال الملك: دينار تنفقه على حاجتك فهمنا، لكن الدنانير الباقية لم نفهم ماذا تفعل بها بالتحديد.
قال الحائك: يا مولاي ! عندي أب رباني وتعب عليّ، وهو اليوم عاجز وملازم للبيت، وعليّ أن أنفق عليه وأعتبر ذلك بمثابة تسديد لدين، وهذا هو الدينار الثاني. أما الدينار الثالث فإن لي ولداً أقوم بتربيته وتعليمه لعله يكون مرضياً وينفعني في آخرتي، وهذا هو الدينار الثالث أنا أعتبره بمثابة قرض لولدي لعله عندما أكبر يسددني كما أسدد والدي دينه، أما الدينار الرابع يا مولاي: فإن لي بنتاً أتولى تربيتها أيضاً وأنفق عليها في انتظار أن تكبر وعندها سيأتي رجل من الغيب يتزوجها فيأخذها مني ويمشي، وفي هذا فإن إنفاقي على ابنتي كمثل من يرمي ديناره في البحر لأنه على الأرجح لن يأتي من ابنتي نفع بعد أن تصبح جزءاً من عشيرة زوجها.
تعجّب الملك من عقل الحائك وإجاباته، وسر كثيراً منه فناوله كيساً من الدنانير وقال له ـ لكن لي عندك شرط .
قال الحائك:ما هو شرطك يا مولانا ؟
قال الملك: لا تبعِ رخيصاً!
قال له الحائك: لا توصِ حريصاً.
وأضاف الملك: ولا تفعل ذلك إلا بحضور شخصي.
عاد الملك إلى القصر ونادى الوزير وقال له :
هذا الحائك يبدو لي محتالاً، فاذهب وتحرّ لي ما هي قصته؟ فهو يزعم أنه ينتج أربعة دنانير في اليوم، ينفق أحدها ويسدّد ديناً بدينار ويقرض ديناراً ويرمي ديناراً في البحر فما هي حكايته الغريبة يجب أن تأتي لي بها في ثلاثة أيام وإلا فإنني سأقطع رأسك!! .
إكتأب الوزير لهذه المصيبة وهذا الطلب غير المعقول وتحيّر في الطريقة التي يمكن أن يأتي للملك بالجواب على هذه الألغاز، ثم قال بنفسه. ليس لي إلا الحائك فهو من سيرشدني إلى الإجابات.
توجّه إليه في صباح اليوم التالي ودخل حانوته فرحّب به الحائك وسأله عن مراده.
قال الوزير: لا أهلاً، ولا سهلاً، بل أريدك أن تجيبني أولاً الدينار الذي تقرضه لمن ؟ والذي تسدّد فيه ديناً لمن؟ والذي ترميه في البحر لماذا؟
قال الحائك: لا يمكنني أن أجيبك على هذه الأسئلة.
حاول الوزير الضغط عليه دون فائدة، أخيراً رفع سيفه مهدداً الحائك بالقول: إما أن تجيبني وإلا فإنني سأقطع رأسك.
قال الحائك من دون أي وجل: اقطع عنقي إذا شئت لكنني لن أتكلم! مهما فعلت بي فإنني لن أتكلم!!
فكر الوزير بنفسه: إذا قتلت هذا الرجل لن أستفيد شيئاً على العكس الجواب عنده وأنا في حاجة إلى الجواب قبل ثلاثة أيام وإلا فإنني سأخسر رأسي. لا بدّ إذاً من أن أجد طريقة أخرى وهي إغراؤه بالمال.. ثم أخرح كيساً من الدنانير وألقى به في حضن الحائك، وقال له: هل ستتكلم الآن؟ فتح الحائك الكيس فوجده محشواً بالدنانير الذهبية والتي كان مضروباً عليها صورة الملك فبدّل عندها رأيه وقال للوزير: الآن أصبح في إمكاني أن أتكلم.. بالفعل شرح الحائك للوزير سرّ الدنانير الأربعة، وانطلق الأخير عائداً للقصر وقد شعر أنه أنقذ رأسه فعلاً من سيف الملك. دخل عليه وألقى السلام والاحترام ثم قدّم له الحل الذي يطلبه وشرح له قصة الدنانيرالأربعة.
سأل الملك وزيره: من أين أتيت بالحل؟
قال الوزير لقد جئت به بالطبع من الحائك نفسه فهو صاحب القصة.
غضب الملك وبعث في طلب الحائك، الذي جاء على وجه السرعة ليرى أمامه كبار أهل الديوان والقواد والحاشية مجتمعين. أحسّ أن في الأمر خطباً ما لكنه لم يخف ووقف أمام الملك في انتظار أن يعرف ما الحكاية.
قال الملك : لا بدّ أنك تعلم لماذا بعثت في طلبك.
قال له الحائك: أبداً يا مولاي، لكنني رهن إشارتك.
قال الملك: لقد بعثت في طلبك لأنني قررت أن اقطع رأسك .
قال الحائك: خير إن شاء الله يا مولاي. ماذا فعلت لكي أستحق هذا العقاب؟
قال الملك: انت تعلم ما هو الشرط الذي وقع بيننا؟
قال الحائك: نعم يا مولاي لكن حاشا أن أكشف عنه لأحد أو أن أخلّ به
قال الملك: كيف ؟! .
هنا توجه الحائك في كلامه للوزير وقال له: أيها الوزير لقد جئتني لتسألني عن جواب لحكاية الأربعة دنانير، أليس كذلك؟
قال الوزير: نعم .
قال الحائك : وقد رفضت رفضاً باتاً أن أحدثك بالحل فهددتني بالقتل أليس كذلك ؟
قال الوزير : صدقت.
قال الحائك: ورفعت سيفك تريد ضرب عنقي؟
قال الوزير: حقاً
قال الحائك: أتذكر ما كان جوابي؟
قال الوزير: أذكر أنك رفضت رفضاً باتاً أن تكشف لي عن الجواب.
قال الحائك: ماذا فعلت أخيراً وجعلتني أقبل بأن أبوح لك بالجواب؟
قال الوزير: أعطيتك كيساً من الدنانير الذهبية.
قال الحائك: وما هو الرسم المنقوش على هذه الدنانير؟
قال الوزير: منقوش عليها صورة مولانا الملك.
فقال الحائك موجهاً كلامه هذه المرة إلى الملك: يا مولاي ؟! أنا لم أخلّ بالشرط . فأنت قلت لي لا تبع برخيص وأنا لم أبع برخيص، واشترطت علي أن لا أبيع إلا في حضور شخصك، وأنا لم أقبل أن أجيب الوزير إلا بعد أن قدم لي الدنانير ورأيت عليها صورتك فكان هذا بالنسبة لي بمثابة حضور لشخص جلالتكم فقمت عندها بإعطاء الوزير الجواب.
تعجّب الملك من قدرة الحائك، وأخذ بدوره كيساً من الدنانير ودفع به إليه.
بدأ الوزير عندها يشعر بالحسد تجاه هذا الحائك الذي اقتحم القصر عليه وباتت له حظوة عند الملك. فأراد أن يوقع بالحائك فقال للملك:
ـ يا ملك الزمان ! هذا الرجل محتال، ولا يستحق كل هذه الدنانير إلا إذا تمكّن من أن يجيبني على ثلاثة أسئلة فلنر ما هو قدر فطنته وذكائه.
قال الملك: أنا موافق .
بدأ الوزير بسؤال الحائك : أجبني، كم هو عدد نجوم السماء؟
قال الحائك الأمر بسيط، وتوجّه إلى الملك قائلاً:
ـ يا مولاي يلزمني جلد ماعز.
أحضر جلد الماعز فقال الحائك للوزير: عدد نجوم السماء بقدر عدد شعر هذا الجلد، وإن كان عندك أي شك فما عليك إلا أن تعدّ بنفسك..
أسقط بيد الوزير فطرح على الحائك السؤال الثاني:
قال: أين يقع وسط الدنيا؟ .
قال الحائك: وسط الدنيا مكان عرش مولانا الملك . وإن كان لديك شك خذ القياس بنفسك..
سأل الوزير أخيراً: ماذا تعرف عن قدرة الله تعالى؟
قال الحائك:الأمر بسيط أعطني ثيابك وخذ ثيابي.
تردّد الوزير فأمره الملك بأن يفعل.
تبادل الرجلان الثياب، فإذا بالحائك يتوجه صوب كرسي الوزير ويجلس عليه ثم يقول له: الآن يمكنني أن أجيبك: إن الله يعزّ من يشاء ويذل من يشاء ولا مردّ لحكمه.
قال الملك وقد دهش من براعة الحائك: أمرنا أيها الحائك بتعيينك وزيراً لدينا، وأنت أيها الوزير أمرنا لك بجعالة محترمة وسنبعث بك إلى معلم ماهر في السوق لكي يعلمك الحياكة.

وهذه القصة تدور حول مثل معروف هو: يا بيموت الحمار يا بيموت الملك يا بموت أنا . أما الحكاية فهي أن ملكاً كان لديه جحش أبيض يحبه فكان يحتفظ به في قصره، ويشتري له أفخر الزينة والخلاخيل وعقود الياقوت وقد أطلق له الحبل على الغارب، فأخذ يجول في القصر كما يشتهي، ويدخل على الملك بين جلسائه ولم يكن أحد ليستطيع أن يتذمر أو يشكو، فالجحش جحش الملك، وكرامة الجحش من كرامة المملكة .
ولأن قصور الملوك تزدحم بالمتملقين، فقد أخذ ندماء الملك يطرون هذا الجحش، ويشيدون بجماله وذكائه، وقربه من القلوب . وكانوا يبادرون إلى القول حال دخوله إليهم :
ـ خزاة العين عن هالجحش، جحش ولا كل الجحاش .
يا عمي ! مش كل الجحاش جحاش .
ـ مش ناقصو إلا يحكي .
ـ حرام ما يتعلم القراءة . لازم مولانا يخصص له معلم. يعلمه لغة البشر بحيث يقدر أن يخاطبنا أو يفهم علينا عندما نخاطبه. فهذا الجحش يبدو عليه الذكاء وقد لا يكون ذلك عليه صعباً.
وقعت النصيحة الأخيرة موقعاً حسناً عند الملك . فاستدعى معلمي اللغة ووعد بجزيل العطاء لمن يعلم الجحش القراءة والكلام بلغة بني آدم.. إلا أن هؤلاء أنكروا أن يكون ذلك ممكناً، فالجحش جحش، هكذا خلقه الله . ومن ذا الذي يستطيع أن يغير في خلق الله؟
غضب الملك، وأمر بحبسهم جميعاً . ونادى في المملكة مناد: من يستطيع أن يعلم جحش الملك القراءة فإن له جائزة كبيرة . ولم يأت الملك جواب لعدة أيام ثم حضر بعد ذلك إلى قصر الملك شيخ عركته السنون لكنه كان نبيهاً وواثقاً. وقف بين يدي الملك وقال له يا مولاي : إنه لم يحدث منذ قديم الزمان أن وجد حمار يعرف القراءة كما لم يوجد من حاول أن يعلم الحمير القراءة لأن في الأمر صعوبة كبيرة لكنني بعد أن درست طبائع الحمير واستفتيت في أمرهم وجدت أن هناك طريقة لتعليمهم القراءة والنطق بلغة بني آدم، لذلك أقول لجلالتكم أنني مستعد لهذه المهمة.
فسُرّ الملك غاية السرور غير أن الشيخ المسن أكمل قائلاً:
كما شرحت لجلالتكم الأمر صعب للغاية ويتطلب تدريباً كما يتطلب أن يكون الجحش مسروراً على الدوام ومدللاً. لهذا فإنني أحتاج يا مولاي إلى وقت كما أحتاج إلى بعض المصاريف . فقال الملك :
ـ اطلب ما تشاء، ومعك الوقت الذي تريد . فقال الرجل:أحتاج إلى خمس سنوات كي أتمكن من تعليم الجحش، وأحتاج إلى بعض الأغذية والأشربة التي تشحذ ذهن الحمار وتساعده على التركيز والإستظهار ؛ كالجوز واللوز والصنوبر والزنجبيل وشراب البيلسان والعسل والحليب وذلك كل يوم، ولي أمل كبير أن أستطيع إنجاز مهمتي خلال تلك المدة، فأعود إليك وشهادة التخرج في رقبته .
أمر الملك بفتح اعتماد خاص بتعليم الجحش، ووضعه تحت تصرف الرجل . ولما لامه أصدقاؤه ومعارفه لدى خروجه من القصر، على القبول بالمهمة المستحيلة كان جوابه لهم :
« بعد خمس سنوات يا بيموت الملك , يا بيموت الحمار، يا بموت أنا »
وقد روى سلام الراسي الحكاية لكننا أوردناها بصيغة مختلفة..

حكايات الامثال

قصص الأمثال

حكايات الفشارين والفاشلين

قسم كبير من الحكايات والأمثلة الشعبية يتناول المبالغات، فهؤلاء «الفشارين» أو «الفنّاصين» هم غالباً من البسطاء المهمشين الذين يسعون إلى شدّ انتباه الناس إليهم عبر رواية حكايات مفبركة تقوم على مبالغات مكشوفة فيظن هؤلاء أن الناس يصدقونها. وأكثر من يستمع الى هذه القصص يلعب اللعبة كما يقال فيتابع القصة وهو  يبدي دهشته من فصولها ويهزّ برأسه تصديقاً لكي يشجع الفناص على المزيد من دون أن يدري الأخير  أن الناس اجتمعت حوله لتستمتع بقصصه الخيالية وليست لأنها تصدق خبرياته المثيرة.
في جانب آخر تتناول حكايات الأمثال قصص التجار الفاشلين وهم غالباً يأتون إلى مهنة البيع والشراء دون خبرة ومنهم من تنقصه الفطنة فتنتهي تجارتهم إلى خباء وخسائر. وقصص التجارة الفاشلة مسلية ومفيدة لأنها جزء من الخبرة الجماعية وفيها حث على الفطنة وسخرية من الغباء في الأعمال.
في ما يلي بعض الحكايا التي تتناول حالتي المبالغة في الرواية والتجار الفاشلين:

(الضحى)

بدي إدحلها دحل

أصل هذه العبارة أن رجلاً معروفاً بالمبالغة أثناء حديثه عن مغامراته ومعاركه الوهمية أخذ ذات يوم يسرد ما جرى له في إحدى المعارك والغزوات فقال إنه أثناء هجومه في إحدى المعارك أصابت رصاصة إحدى قوائم فرسه، لكن الفرس لم تخذله، وتابعت الإغارة، لكن رصاصة ثانية أصابت قائمة أخرى من قوائم الفرس، واستمرت الفرس بالهجوم، ولم تخطء الرصاصة الثالثة قائمة الفرس الثالثة، لكن الفرس ظلت تقتحم المعركة كأن شيئاً لم يكن . وهنا تدخل أحد الحاضرين مستنكراً أن تستطيع الفرس بعد إصابة قوائمها الثلاث الاستمرار في السير، فكيف بها تعدو؟! . . وهنا قال الرجل لمحدثه : «أنا حر ! بدي إدحلها دحل» أي أنني سأجعلها تستمر في المعركة ولو زحفاً على بطنها.
وهناك حكاية مشابهة عن الفشارين رواها لي أحد الصيادين، والصيادون معروفون بتزويدهم في الأخبار . قال الصياد :
إن أحد الصيادين حدّث جلساءه عن نشاطه في الصيد، إذ عرض له في إحدى المرات رف من الحجل، ومعه بارودة خلع (بخرطوشتين) فصوب نحو ديك حجل فرماه . فما لبث أن عرض له ديك آخر، فبادر إلى رميه، فعرض له ثالث، وهكذا حتى اصطاد أربع أو خمس طرائد متتابعة . فصاح به أحد الجلساء :
ـ «دِكّها يا رجال دِكّها» أي حط بالبارودة خرطوش فهي بارودة خلع ومَنْها رشاش.

الله يضيّق على يلّلي بيضيق

ولدت هذه العبارة في معرض التهكم على حالات المبالغة الفجة، والعبارة معروفة ومنتشرة في أنحاء الجبل، وأصلها كما هو متداول أن رجلاً كان معروفاً بمبالغته الشديدة أثناء حديثه، وأراد ولده أن يحدّ من هذه المبالغة التي تجلب لوالده السخرية في المجالس واقتنع الوالد بأن هناك مشكلة فعلاً واقترح على ولده أن يتابع حديثه في المجالس حتى إذا شعر بأن والده بدأ يبالغ فتح أصابع كفه ثم ضمها.
وحدث أن جلس هذا الرجل يحدّث جلساءه عن مضافة بناها حديثاً، فقال :
ـ « يا غانمين ! طولها خمسين ذراع» .
ونظر بطرف عينه إلى ولده الجالس قبالته، فإذ به يفتح كفه ويضمها، إشارة إلى المبالغة في طول المضافة . فأردف الرجل بالقول (في محاولة لتصويب المبالغة في طول المضافة):
«وعرضها ذراعين» .
فتح الحاضرون أعينهم تعجباً واستغربوا كيف يمكن لأحد أن يبني مضافة بطول خمسين ذراعاً وبعرض ذراعين فقط!!!
بالطبع الولد أراد من والده أن يصحح طول الخلوة بحيث يبدو مقنعاً ولم يكن يقصد اختصار عرضها بهذا الشكل، أما الوالد الذي بوغت ارتبك ووقع في خطأ أشنع فقد شعر بالخجل لكنه أراد وسط ارتباكه أن يضع اللوم على ابنه الذي قطع حكايته وأوقعه في هذا التناقض الواضح فنظر إليه منزعجاً وقال:
«الله يضيِّق على يلّلي بيضيِّق «!!!

أم علي تقلع وبو علي يزلع

يضرب المرء بالذين لا يصبرون على تحضير الطعام بسبب جوعهم أو حبهم لطعام معين فيمضون يأكلون منه وهو قيد التحضير حتى لا يبقى منه شيء قبل أن يوضع الطعام على المائدة، وهذه علامة الطمع وعدم إظهار أي اهتمام بالآخرين. ويحدث ذلك في كل أصناف الطعام الذي يعدّ مباشرة مثل الشوي أو القلي أو الخبز أو غيره.
وتجمع الروايات المتداولة لهذا المثال على أصله وهو أنه في إحدى سنوات الجفاف والقحط استدان أبو علي، وهو رب إحدى الأسر، صاعاً من الطحين ليسدّ رمق عياله الذين أصابهم الجوع، وقامت زوجته بعجن الدقيق، ثم أخذت تخبزه ليلاً لتتحف الصغار به عند الصباح .
وكان زوجها أبو علي إلى جانبها بهدف «المساعدة» كان يساعدها في أثناء الخبز، فكانت كلما قلعت رغيفاً عن الصاج تناوله أبو علي، فليس لإشعال النار تحت الصاج، لكن كان هناك على ما يبدو لهدف آخر. وهو أنه ما أن يكون رغيف الخبز قد نضج وقلعته الزوجة من على الصاج حتى يكون قد تناوله وازدرده من دون أي عناء.فإذا نضج الرغيف التالي يكون مصيره كمصير الرغيف الذي سبقه. كان الرجل قد تمادى ونسي نفسه وهو يلتهم الرغيف بعد الرغيف وحانت من الزوجة التفاتة إلى معجن الخبز وهالها أنه كان ما زال فارغاً. نظرت إليه زوجته التي كانت تمني نفسها بتقديم الخبز لأطفالها، وقالت ساخرة :
ـ شو بو علي ؟! . أم علي تِقلع وبو علي يزلع ! وين حصة الاولاد؟!.
ففطن الرجل إلى أولاده وكف عن التهام الخبز، وذهبت عبارة المرأة مثلاً في الإشارة إلى من ينسى نفسه بسبب شراهته لأكل معين فلا يفكر بالآخرين. وهناك في لبنان صيغة طريفة مماثلة لهذا المثل ظهرت ربما بسبب حب الأولاد أو أهل البيت المفرط للبطاطا المقلية أو غيرها من المأكولات التي يتم تحضيرها وسط اجتماع الأسرة أوالعائلة مثل كعك العيد وصيغة المثل هي «أمّي طش طش وبيي لش لش» والتعبير الأول (طش طش) يسترجع صوت البطاطا عندما تلقى بالزيت الحار أما الشق الثاني (لِش لِش) فالمقصود به التهام الطعام المحضَّر لأن كلمة لَش تستخدم في العامية بمعنى التناول السريع للأكل أو إلتهامه.

باع بالقرد ومقرعته

عبارة تطلق في حالة بيع حاجة غير مرغوب فيها، يبيعها صاحبها بما تيسر، وبأردأ الأثمان . وإذا سئل بكم بعتها ؟ قال : « بعتها بالقرد ومقرعته» .
وحكاية هذه العبارة كما يرويها سلام الراسي عن فندي أبو سيف من لبنان : أن رجلاً من جبل لبنان هاجر إلى جبل حوران، حيث اشتغل عدة سنوات، عاد بعدها إلى قريته بجمل . ولم يكن اقتناء الجمل شائعاً في المناطق الجبلية في لبنان ذلك الزمان، فاجتمع أهل القرية حول الجمل يتفرجون، وأخذ الرجل يطري مزايا جمله :
ـ إنه يحمل ثلاثة أضعاف ما يحمله الحمار .
ـ يأكل الشوك، ويشرب مرة واحدة في الأسبوع .
ـ لا يحرن، ولا يرفس . ولا يقيقب ولا يعنفص .
ـ يستطيع الولد أن يجره إلى حيث أراد .
وأقبل من جملة المتفرجين زعيم كبير، يركب جواداً كريماً، ورأى وسمع، فترجل وتقدم، وعرض على صاحب الجمل مبادلته بفرسه الأصيل ، فرفض .
لكن صاحبنا هذا ـ صاحب الجمل ـ ما لبث أن فطن إلى أن باب بيته أوطى من ظهر الجمل، والذي سيعمل جمالاً عليه، أن يعلي باب داره . فالوقت شتاء، ويجب تأمين مبيت للجمل، ولا مناص من هدم أحد جدران البيت، وفتح باب عال، وفي ذلك الكثير من المشقات والتكاليف، فأرسل ابنه إلى صاحب الفرس يقول :
« الوالد راجع أفكاره، وقبل مداكشة الجمل بالفرس ».
فقال صاحب الفرس :
ـ وأنا راجعت أفكاري، وأريد أن أحتفظ بالفرس . لكن عندي هذا الكديش، لعل والدك يقبل مداكشته بالجمل .
فرفض صاحب الجمل، ثم ثبت عنده أن جمله لا يصلح للعمل في تلك المناطق الجبلية، لأن أقدامه لا تساعده على السير في المسالك الوعرة والطرق المتعرجة، وبالتالي لا خير فيه يرتجى، فأرسل ابنه مجدداً إلى صاحب الكديش يقول :
ـ الوالد راجع أفكاره وقبل مداكشة الجمل بالكديش .
فقال صاحب الكديش :
ـ وأنا راجعت أفكاري كذلك، ووجدت أنني ما زلت بحاجة إلى الكديش، لكن عندي هذا الجحش الكر، لعل والدك يقبل مداكشته بالجمل . فرفض صاحب الجمل هذا العرض .
ولم تمضِ فترة حتى شعر بأعباء مسؤولية الجمل، إذ عليه أن يرعاه في النهار، ويؤمن له عليقاً في المساء، فجرّ الرجل رجله، وذهب إلى صاحب الجحش قائلاً :
ـ أنا محسوبك، الجمل مقدم، باركلنا بالجحش .
فقال صاحب الجحش :
ـ لكني تذكرت المثل : « إذا جار عليك الزمان داكش فرسك بحمار» فتشاءمت، وخفت من جور الزمان، فدعني وشأني، وخذ جملك عني .
وهكذا لصق الجمل بذقن صاحبه، وبدأ أهل القرية يشمتون :
ـ يا بو مسعود ! عندي جدي أعرج . بتداكش ؟ .
ـ يا بو مسعود! عندي قرقة وشرشوحة . بتداكش ؟.
ـ يا بو مسعود ! عندي كلب جعاري ختيار، لا بيهش ولا بينش . بتداك؟.
ويا ويل من استوطي حائطه إذ أخذوا يقولون :
ـ أبو مسعود غاب وجاب .
ـ يا عمي بو مسعود ترقى، استكبر ونقّى .
ـ عليم الله ابو مسعود صار شيخ، بدو يعلي باب داره .
أخيراً قرر أبو مسعود أن يتخلص من الجمل بأية وسيلة ممكنة .
وحدث أن قدم إلى القرية رجل غريب « قراد» معه قردة يؤدي بعض الرقصات، ويقلد بعض الحركات . فيجمع الرجل بواسطته بعض المتاليك والبارات . فاستفرده صاحبنا، وعرض عليه مداكشة الجمل بالقرد ومقرعته التي يهوي بها عليه لإخافته كي يؤدي الحركة المطلوبة.
وهكذا باع صاحب الجمل جمله « بالقرد ومقرعته» . وغدت هذه البيعة مثلاً في البيعة الخسيسة.

تجارة المجدلاني

هذا المثل معروف في بلدة عرمان وما حولها . ويضرب في الرجل إذا أتجر فخسرت تجارته . وحكاية المثل ما زلت أتتردد على الألسنة عند كل خسارة تلحق أحد الناس جراء غفلة أو خطأ في الحساب.
والمجدلاني رجل فقير الحال، وفد إلى الجبل وكان يتعاطى تجارة العنب على حماره مقايضة، فحدث أن اشترى حمل العنب بمدِ من القمح (مد القمح يساوي بمعايير اليوم 20 كلغ)، وبعد بيع العنب بالمفرق تجّمع لديه ثلاث أرباعِ المد من القمح،.فاحتار لكنه لم يدرك خسارته وظن أن في طريقة حسابه خطأ ما إذ لا بد أنه وقد باع العنب كله أن يكون لديه فائض ربح. لكن لماذا القمح الذي حصله لا يزيد على ثلاثة أرباع المد؟ ذهب يستعين بمن هو أكثر خبرة منه قائلاً : ـ « احسب لي هالحسبة ؛ إذا قلنا: اشترينا حمل العنب بمد قمح، وبعناه بثلاث أرباع؛ قديش بنكون ربحنا؟

ان خوثوا ربعك عقلك ما بيكفيك

حكاية الرجل يتبع قومه على ضلال، لا قناعة منه بصحة ما يرون، وإنما لأنه أصبح وحيداً في موقفه .
وعلى ذمة سلام الراسي فإن حكاية هذا المثل تقول :
إن وجيهاً قروياٌ أرسل ابنه ليتعلم في المدينة، فانخرط الولد في إحدى الفرق الموسيقية، وأهمل دروسه، ولم يتعلم سوى التزمير بالمزمار .
وعاد الولد إلى قريته مع مزماره، فاقبل عليه الفتيان معجبين، ثم ما لبث أن كثر عدد الزائرين، فقال أبوه::
ـ تسوكر مستقبل الصبي يا أم حنا، الجايين لعنا أكثر من الرايحين، هيك تكون الوجاهة».
وأخذت حفلات المزمار تتكرر كل مساء، وتزايد عدد القادمين، فقلق بعض وجهاء القرية وبات لسان حالهم يقول: ـ «بو حنا بدّو يعمل وجيه على صوت المزمار، لازم نلحق حالنا ونجيب دربكة!! بكرة ما منعود نمون على ولادنا، إذا أخذوا كسرة على بيت بو حنا» .
وهبط في اليوم التالي أحدهم إلى المدينة واشترى دربكة . وبدأ في الحال تصريف الأعمال؛ فإذا هب هؤلاء إلى التزمير رد عليهم أولئك بالضرب على الدربكة .
ولم يمض سوى القليل من الوقت حتى انضم نصف أهل القرية إلى حزب الدربكة، والتحق النصف الآخر بفريق المزمار. ووأصبح شباب القرية الذين تقع عليهم مسؤوليات العمل والرزق مشغولين بالدربكة والتزمير وتعطلت مصالح القرية وتوقفت الأعمال.
رجل واحد احتفظ بعقله، وأبى الانخراط في أيٍ من الحزبين، وكان يسخر من قلة عقلهما وينعي توقف الأعمال وانقسام البلدة بين مدربك ومزمر. لكن بدل الاستماع إلى نصيحته فقد استحق الرجل غضب الفريقين ونبذه الناس وأعتبروه منحرف العقل وأصبحوا يتهجمون عليه: يا معنا، يا علينا .
واعتصم الرجل بحياده، لكنه عاش وحيداً منبوذاً، حتى خشي أن يموت مكسور الخاطر . وذات صباح شوهد الرجل يشد طبلاً على تارة غربال عتيق، فسالوه :
ـ «شو عدا ما بدا حتى قررت أن تصير طبالاً في آخر الزمان؟! ».
فقال لهم :
ـ « إن خوثوا ربعك عقلك ما بينفعك »
فجرى جوابه مثلاً

حكايات الامثال

احمد معهن يا بعدي

باقي بالساقي

بتحصد هوا وغمر ماش

يا للي أجره عفارم بياكل ببلاش

يا منقطع رأس العروس

حكايات الأمثال

قصص الأمثال

حكايات الأغبياء

يتركّز الكثير من الحكايات الشعبية على قصص الأغبياء، لأن الغباء فيه مما يثير الشفقة وما يثير الضحك في آن معاً ، كما إن فيه قدراً لا بأس به من التعليم غير المباشر لأن كل فرد مهما كان حصيفاً يقع أحياناً في مقالب يلوم نفسه بسببها بل إن فينا من يتهم نفسه بالغباء إذا وقع في شراك رجل ماكر أو أخذ على حين غرة في تجارة أو أي أمر من الأمور. بالطبع معظم قصص الأغبياء فيها شيء من المبالغة قد يبلغ حد اللامعقول أحياناً، وهذه المبالغة سمة أساسية في ثقافة الفكاهة لأن وظيفة النكتة هي أن تضخم العيب حتى يبدو للناس بصورة تجعلهم يضحكون منه وتجعل من قد يصاب بالعيب خجلاً وحريصاً على اجتناب ما كان سبباً للسخرية.
وهناك هدف إيجابي من التهكم على المغفلين هو ربما أن نسرّ بعقلنا ونحمد الله أننا لسنا في صف أولئك الذين حرموا من الإدراك والفطنة، هذا مع العلم أن هناك حديثاً شريفاً جاء فيه «أكثر أهل الجنة البُلُه» (أي المجاذيب) والمقصود بهم الذين لا يفقهون شيئاً من أمور الدنيا لكنهم أعطوا قلباً سليماً ليس فيه ذرة من الشرّ.
(الضحى)

يا منقطع راس العروس يا منكسر رجلين الفرس

يضرب هذا المثل في معرض الإشارة إلى قلّة الحيلة، كأن تعترض أحدهم مشكلة بسيطة، فيبادر إلى حلها بطريقة معقدة وتنم عن قصور الفطنة. والمثل معروف في أنحاء جبل العرب مع أن حكايته ليست واقعية لكنها طريفة في ما تدل عليه.
والحكاية هي أن العروس في الجبل كانت ُتزف إلى بيت زوجها على فرس، سواء أكان بيت العريس في القرية نفسها، أو في قرية أخرى، وذلك لعدم أهلية الطرق من جهة، ولعدم وجود السيارة من جهة أخرى وكجزء من مراسم الزفاف.
وزعموا أن إحدى العرائس زفت إلى بيت عريسها، وحين وصل المحتفون إلى باب دار العريس، توقفت الفرس لأن بوابة دار العريس لم تكن بارتفاع يكفي لمرور الفرس والعروس على ظهرها، فما العمل؟ .
اجتمع أهل الرأي والمشورة وأخذ كل واحد يدلي بدلوه، قال أحدهم:
ما إلنا غير نقطع راس العروس، حتى تقدر تمر من تحت البوابة .
فردّ عليه آخر مستهجناً :
شو هالحكي الأحمق؟ أنا عندي حل ثاني .
سألوه عن الحل قال :
ليش ما منكسر رجلين الفرس ؟
أقبل رجل عاقل وقال لهم:
ـ يعني يا منقطع راس العروس، يا منكسر جرين الفرس؟! . طيب ليش ما بتوطي هالعروس راسها وبتمر؟! .
فذهبت عبارته مثلاً في التعبير عن الغباء وقلّة الحيلة.

«باقي» بالساقي

كانت هناك امرأة في غاية السذاجة إسمها «باقي» ذهبت إلى الساقية (الساقي) وحملت معها مواعين الطبخ والغسيل، حتى تغسل وتطبخ جنب المياه، فيظل بيتها مرتباً ونظيفاً ، ولما وصلت على الساقية خاطبت نفسها قائلة :
لم لا أنام قليلاً، وبالفعل إتكأت على جذع شجرة ودخلت في نوم عميق
جاء زوجها يتفقدها في البيت فقيل له:
باقي بالساقي .
توجّه إلى الساقية فوجد زوجته تغط في نوم عميق ووجد ما جلبته من طعام ولحوم وقد خطفته الكلاب الجائعة ولم يبق منه شيء. أخذ من جيبه مقصاً فجز شعرها وعاد إلى البيت والمرأة تغط في نومها السعيد.
أفاقت بعد حين لتجد الطعام وقد ذهب ومواعين الفخار محطمة لكن هالها أن وجدت شعرها أقصر بكثير من المعتاد.
قالت لنفسها:أنا لست «باقي» لأن باقي لها شعر طويل !! وقررت العودة إلى البيت لتسأل عن باقي وعزمت أنه إذا قيل لها «باقي بالساقي» فتكون هي باقي بالفعل :
رجعت إلى المنزل وسألت زوجها : أين باقي ؟
أجابها: باقي بالساقي.
سرّت الزوجة بأنها هي فعلاً باقي، لكنها تذكرت أن «باقي بالساقي» حسبما أخبرها زوجها، فوجهت وجهها نحو الساقية لتعود وتجد «باقي». ذهل الزوج من «غشمنتها» وقال لها: سأذهب وأجول في البلاد ولن أعود إلى هذا البيت إلا إذا رأيت من هو أغشم منك!
وبالفعل إنطلق الرجل في طريقه وسار لساعات طويلة حتى إذا انتصف النهار .
رأى نسوة يصرخن ويولولن . سألهن: خير ان شالله ؟ ما هي قصتكن ؟
قلن إنهن اشترين أحذية لأولادهن، لكن الأولاد ركضوا فاختلطت أرجلهم ولم نعد نعرف كيف نستهدي على رجلي كل واحد من الأولاد لكي نعطيه حذاءه!
أخذ الرجل عصا فضرب على أرجل الأولاد ففروا جميعاً وعاد كل ولد إلى أمه وحلّت المعضلة وتعرفت كل امرأة على ولدها وأعطي كل منهم الحذاء العائد له.
مضى الرجل في سبيله فوجد نسوة على مقبرة يبكين على ميت
سألهن: ماذا يجري وما الذي يبكيكن
فأخبرنه أنهن يبكين ميتهن.
قال لهن: إنني قادم للتو من عند ميتكم ولكم أن توصوني إذا كانت لكم حاجة عنده.
تقدمت امرأة كانت ابنتها قد توفيت وهي بعد عروس فقالت له:
أريد أن أرسل معك مصاغ ذهب ابنتي إليها.
ثم ذهبت وعادت بعد قليل وقد حملت مصاغ ابنتها وقالت له :
ـ رجاء، أن تسلمها هذا من يدك ليدها وانتبه أن لا يضيع في الطريق.
حمل الرجل المصاغ الثمين ومشى في طريقه.
رجعت المرأة إلى البيت وأخبرت زوجها بما حصل
ضحك الرجل حتى كاد أن يقع على ظهره من جهلها وقال:
أتصدقين أن رسولاً يأتي من عند الموتى؟
قرر الرجل أن يلحق بالرسول المزعوم فركب فرسه وانطلق حتى أدركه لكنه لم يعرفه فسأله:
بالله عليك هل رأيت رجلاً مرّ من هنا قبل قليل؟
أجابه: نعم رأيت رجلاً مرّ من هنا لكنك لن تلحق به على هذه الفرس.
سأله زوج المرأة الغشيمة: «لم ذلك؟»
قال له: أنت ممتط فرساً والفرس تمشي على أربع أرجل لكنها تضع رجلاً على الأرض ثم ترفع الأخرى لتضعها ولأن لها أربع أرجل فإنها تأخذ وقتاً طويلاً، في غضون ذلك يكون الرجل ضالتك قد ابتعد كثيراً ولن تدركه لأنه يسير على قدمين! ثم نصحه أنه من الأفضل له أن يترك الفرس معه وينطلق على قدميه.
اقتنع الرجل وسلم الرجل الفرس وطلب منه الاهتمام بها إلى أن يعود من مهمته.
عندها فكر الرجل زوج «باقي» لنفسه وقال هذه الدنيا مليئة بالحمقى والأغبياء وكثير منهم أغبى بكثير من باقي. رجع إلى المنزل وسلّم على زوجته وقال لها:
يا امرأة يبدو أن نصيبنا هو أن نعيش سوياً طول العمر، فحضري لنا العشاء.

جاءك من يعرفك يا بلوط !!

مثل يضرب للدلالة على الرجل المدعي، يتفاخر في مكان لا يعرفه فيه أحد، فإذا حضر من يعرفه، وكشفت ادعاءاته قال الناس له: «جاءك من يعرفك يا بلوط » . وأخذوا يستعيرون العبارة فيخاطبون بها اللاعب الذي يهزم العديد من اللاعبين في لعب الورق او الشطرنج ونحوهما، فإذا حضر لاعب جديد وتمكن من هزيمة اللاعب المتفوق خوطب بهذا المثل أيضاً.
وأصل العبارة كما يروي سلام الراسي عن المطران بولس الخوري في كتابه النفيس « أمثال وأقوال مأثورة » أن رجلاً من بر الشام أي سوريا كما يسميها المصريون ـ كان ماراً بأحد شوارع القاهرة حيث التقى صديقاً مصرياً، فعاتبه المصري بقوله:
«إنكم ترسلون إلينا من بر الشام مختلف أنواع الفاكهة، وهي جميعها ممتازة، ما عدا الكستناء الشامية التي بدأتم مؤخراً ترسلونها إلينا، وهي غير جيدة » .
فتعجب الرجل الشامي وقال:
ولكن الكستناء لا تنبت في «بر الشام» . فقال المصري:
إذاً تعال معي، لأريك أين تباع الكستناء الشامية.
ومشى الرجلان إلى حيث كان رجل يجر عربة عليها عرمة من البلوط، يشويه، ويبيعه، وهو ينادي « شامية يا كستناء » .
فصاح الشامي :
ـ ولكن هذا بلوط لا كستناء .
فنظر المصري إلى عرمة الكستناء المزعومة وقال:
ـ « جاءك من يعرفك يا بلوط » .
فجرى جوابه مثلاً 1.

أحصد هوا وغمّر ماش

سمعت حكاية هذا المثل من والدي في قرية خازمة، وكثيراً ما كان يروي لنا هذا المثل في معرض تعريضه بالموسم السيئ، و كان يرويه لنا ونحن نلتقط سنابل القمح الضعيفة في الحقل. ويضرب المثل خصوصاً للتعريض بالمواسم الرديئة جراء الإهمال وعدم دراية الفلاح بما هو مطلوب منه تجاه الأرض لكي تعطيه في المقابل. وربما ضربوه في تعبيرهم عن الجهد الضائع.
وحكاية المثل بحسب والدي هي أن رجلاً مرّ بصديقه، وإسمه «شلاش» وهو يحرث أرضه على زوجين من الحمير اللذين دب فيهما الهزال من قلة العلف. كانت الدابتان تكافحان لجر سكة المحراث التي كانت بالكاد تنزل في الأرض قيراطاً، فسخر الرجل من حرثه بهذه الطريقة ارض صديقه وتنبّأ له بموسم رديء . وقد ترجم توقعه بهذين البيتين من الشعر:
شـــــــــــــــــو هـــــــــــالفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاحـــــــــة يـــــــــــــــــــــــــــــا شـــــــــــــــلاش عــــــــــــــــودك زاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل أبيســـــــــــــــــــــــــــــــــــواش
بـــــــــــــــكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى بتجـــــــــــــــي الحصيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي أحصــــــــد هوا..وغمـــــــــــــــــــــــــــّر مـــــــــــــــــــــــــــاش2

أحمد معهن يا بعدي

هذا المثل معروف في أنحاء الجبل وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد في كتابة « أمثال وتعابير شعبية» برواية وضع لها عنوان:«أحمد معاهم » . وهي لا تتفق مع محكية الجبل . وقد اكتفى بذكر مجال استخدام المثل، دون التطرق إلى حكايته3.
والمثل يضرب في الرجل الذي يحضر في أمر فيكون وجوده مساوياً لعدم وجوده . وأنقله من الذاكرة، ومفاده أن امرأة أرملة قد انقطعت لولد وحيد اسمه أحمد، ونشأ أحمد في كنف أمه الأرملة لا يستطيع تحمل مسؤولية، ولا يسعى إلى مبادرة .
وحدث أن أغار قوم على القرية فأخذوا الحلال والمال، فتنادى رجال القرية لاسترجاع حلالهم، فهرع أحمد تلبية للنداء من دون أن يدري ما الحكاية، وحين بدأ القتال وحمي وطيسه انهارت قواه من الخوف وأغمي عليه، وحمله الرجال في ما حملوا حين عادوا بأرزاق القرية .
فصارت النسوة يزغردن ويفتخرن بشجاعة الرجال الذين استطاعوا أن يستردوا حلال القرية، وصارت أم أحمد تقول: «يقبرني، أحمد معهن يا بعدي» مفتخرة بابنها ظانة أنه قد ساهم في إعادة الحلال، ولم تدرِ أنه كان مغمياً عليه لشدة خوفه4. .

الذي أجرُهُ «عفارم» بياكل بلاش

يضرب هذا المثل لبيان حق العامل الذي يعمل مقابل أن يتناول طعامه بلا مقابل . وكثيراً ما كنا نسمع حكاية هذا المثل في «الفزعات» والفزعة (أو «العونة») هي أن يذهب شباب القرية لمعونة أحد أهالي القرية على الحصاد أو أعمال البيدر أو رفع الربد، وبعد الانتهاء من العمل يقدم صاحب العمل الطعام لمعاونيه ممازحاً إياهم بالقول : «الذي أجره «عفارم» بياكل بلاش».
وحكاية هذا المثل أن رجلاً فقيراً كان يعيل أسرة كبيرة ويعمل جاهداً ليقيم أودها. ضاقت به الأحوال، فقرر أن يسافر في بلاد الله الواسعة عسى أن يفتح الله عليه، فودع أهله وقال: «سبحان من فتح الطريق»  وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة، حتى وصل إلى إحدى المدن، فرأى مجموعة من العمال ينقلون الحجارة، بينما رب العمل يقف في مكان عال ويراقبهم.  فتقدم نحوه، وسأله أن يعمل عنده، فرحّب به رب العمل، وانخرط بين العمال، يعمل بجد ونشاط. .
بذل جهداً كبيراً في العمل، في حين كان رفاقه العمال يتباطأون في عملهم، ما استرعى انتباه رب العمل الذي أبدى سروره وارتياحه من نخوة الرجل .
عند انتهاء العمل اصطف العمال لياخذوا أجرهم، فكان كل عامل يتقدم من  رب العمل، فيثني على جهوده قائلاً: «عفارم» (بمعنى : «أحسنت عملاً») فيمضي العامل في سبيله، حتى جاء دور صاحبنا، وحين تقدم من رب العمل أثنى عليه بقوله: «عفارم … عفارم … عفارم» . ففرح وظن أن أجره سيكون مضاعفاً، لكنه فوجئ حينما قال له رفاقه العمال إن أجرهم «عفارم» فقط .
على الفور توجه صاحبنا إلى السوق، وانتقى أفخم مطعم، وطلب طعاماً كثيراً، وأكل ما شاء له أن يأكل، ثم طلب من أصناف الحلوى والمشروبات حتى اكتفى . عند ذلك نهض وحمد ربه وتقدم من صاحب المطعم قائلاً: «عفارم، عفارم، عفارم» .
فاستغرب صاحب المطعم وقال له :
عفارم فهمناها، لكن أين ثمن الطعام ؟!  .
أجابه  دون تردد:
إن لم يعجبك الأمر تعال معي وليحكم بيننا القاضي!!
توجها إلى القاضي، وسرد كل منهما قصته، فقال لهما القاضي:

اللي أجره «عفارم» بياكل بلاش .

هيك عريضة بدها هيك ختم

هذا المثل يضرب لشيئين تشابها في الرداءة، أو لفعل قبيح رداً على فعل قبيح آخر، وهو يشبه المثل القائل «هيك خطاب بدو هيك جواب» لمن يسأل سؤالاً تافهاً فيردّ عليه بجواب أتفه .
وحكاية المثل هي أن رجلاً كتب عريضة يطلب فيها أن يمتنع الناس في القرية عن شراء حاجاتهم من الشام، انتقاماً من أهل الشام الذين لا يحترمون الفلاحين. وذهب إلى مختار القرية ليختم العريضة. قرأ المختار العريضة وفكّر قليلاً ثم ما كان منه إلا أن خلع حذاءه وضرب على العريضة بكعب الحذاء. بُهت صاحب العريضة وقال للمختار: لقد جئت لأختم هذه العريضة بختمك فلم فعلت هذا؟ إنه عمل غير لائق منك!
أجابه المختار: لا تؤاخذني يا صديقي لكن هيك عريضة بدها هيك ختم !!

حكايات الامثال

حكايــــــــات الأمثــــــــــال

الحلقة الرابعة

في هذه الحلقة الرابعة نعرض لبعض حكايات الأمثال الطريفة عن النساء القديرات وتحكمهن برجالهن وما ينجم عن ذلك من مواقف محرجة.

من قِلة الرجال سمينا الديك بو قاسم

مثل يضرب في الرجل الضعيف يحتل مكاناً مرموقاً، لا لعلو همته ومقدرته، وإنما لعدم وجود من يحتل هذا المكان غيره لسبب ما . وحكاية المثل وردت عند سلام الراسي وأنقلها بتصرف:
فما روي أنه بعد خلق الخليقة كان لا بدّ من تنظيم مملكة الطيور فوجه الملاك «جبريل» عليه السلام نداء إلى ذوات الأجنحة للمثول بين يديه، لإنتخاب أركان دولتهم .
وبلغ الخبر مسامع الديك، فجمع حاشيته من الدجاج، ومشى أمامهن مختالاً، وأخذ يحادث نفسه:
« النسر هو أعظم الطيور، ولا يجوز أن أنافسه، حتى لا يحدث انشقاق في المملكة، فهو الملك. أما الباز فله الإمارة . وتبقى لي مشيخة الدجاج لأنه لا يوجد ديك غيري . وهنأ نفسه سلفاً وقال: قبل أن تغيب الشمس سيصير إسمي « أبو قاسم الديك».
وصار يتبرع بالألقاب فيوزّعها على الدجاجات : هذه شيخة وهذه شويخة، وهذه فرخة وهذه فريخة . فدب الحماس في نفوس الدجاجات، وانتظمن في صف واحد يغنين:
« يا شيخ بو قاسم يدوملك هالعز القمح المصوَّل فضلتك والرز»
وحدث أن هوجم الخم، فهربت الدجاجات وبقي الديك وحيداً في المعركة، فأخذ يصيح: « يا شيخة يا شويخة . يا فرخة، يا فريخة فسمعته البومة، فجاءت إليه تقول:
« يا شيخ بو قاسم الديك! شيخة وشويخة، وفرخة وفريخة، لشو هالدويخة، من عازة الرجال سموك بو قاسم، وعند الضيق لا رفيق ولا صديق» .
فأصبح كلام البومة قولاً مأثوراً1 .
غير أن سلام الراسي نفسه وفي كتابه « حيص بيص» يورد للمثل حكاية، ربما تكون ملفقة هي الأخرى، لكنها أكثر وجاهة من حكايته السابقة . وهو يرويها عن لسان أبي يوسف، فيقول:
يحكى أن امرأة كانت قد تزوجت رجلاً من أصحاب الغنى والوجاهة، وعاشت معه سنوات قليلة بالعز والكرامة، ثم انقلب دولاب الزمان، وانسدت أبواب الرزق في وجه زوجها، وما لبث أن مات وانقطع الناس عنها، حتى أخوتها وأقاربها فانطوت على نفسها وعاشت وحيدة .
وحدث أن اختل الأمن في البلاد، وكثر اللصوص وطارقو الأبواب. فتزايد قلق المرأة على كرامتها، وعلى ما تبقى من أسباب عيشها ، فلجأت إلى حيلة تردّ عنها كيد الأشرار الذين قد يخطر على بال أحدهم التعرّض لها أو إيذاءها. .
وكان عند المرأة ديك في مزرب داخل البيت، يصيح في الليالي، ويؤنسها في وحشتها، فسمته «أبو قاسم» وصارت إذا سمعت ليلاً وقع أقدام قريبة من منزلها، أو أوجست خيفة من أبناء السوء، راحت تحادث الديك أبو قاسم بإسمه، بصوت مرتفع، بحيث يظن قاصد السوء من خارج البيت أن رجلاً اسمه أبو قاسم موجود في الداخل، ويقول في نفسه: «لعل أبو قاسم هذا من صناديد الرجال، ولا يؤمن جانبه في النزال» فيمضي في سبيله.
وحدث أن جاءت إحدى جاراتها ليلاً تستعير منها بعض الحاجات، فسمعت المرأة في الداخل وقع أقدام جارتها في الخارج، فظنتها رجلاً يريد بها سوءاً، وأخذت تنادي أبو قاسم: « يا بو قاسم طبخت لك مهلبية، أتريد يا بو قاسم أن تتعشى الآن؟ البارودة في الخزانة، إذا فتحت الخزانة انتبه للبارودة يا بو قاسم».
التقطت الجارة وهي في الخارج اسم «أبو قاسم» ورجعت وأخبرت أختها . والأخت أخبرت أمها، والأم أخبرت جارتها . وما لبث خبر أبو قاسم أن بلغ مسامع الأخوة فقالوا: «هذا عار لا يغسله إلا دم أبو قاسم» وصبروا حتى أرخى الليل ستاره وجاؤوا بكامل أسلحتهم . وقبل أن يطرقوا باب أختهم سمعت هي من الداخل وقع أقدامهم، فقالت: « لعل هؤلاء من أبناء السوء أيضاً» وراحت تنادي أبو قاسم مراراً وتكراراً حتى تيقن أخوتها من وجود أبو قاسم في الداخل، عند ذلك اقتحموا الباب، ودخلوا، وصرخوا بأختهم : اخرجي أبو قاسم هذا الذي تخبئينه عندك!!
قالت المرأة:
-مهلاً سأدلكم عليه كي تفعلوا به ما تشاؤون، ولكن انتم أشقائي، والشقيق وقت الضيق، وأنتم تعلمون أن زوجي قد مات منذ سبع سنوات، وقد ساءت ظروفي، وما زالت تسوء يوماً بعد يوم . بينما كثر عدد المتلصصين في الليالي، بالإضافة إلى فارضي الضرائب والخوات، وهادري الأعراض والكرامات، فلم يتحرك وجدانكم، ولم تدبّ النخوة في رؤوسكم إلا عندما بلغتكم أخبار أبو قاسم؟! .
ونهضت المرأة وفتحت المزرب، وأطلقت أبو قاسم الديك في وجوه أخوتها وقالت:
-هذا هو أبو قاسم، إن كنتم رجالاً فاذبحوه. فذهل القوم، وعندما هدأ روعهم سألوها
ـ ولمِ سميتِ الديك أبو قاسم ؟! . فقالت:
ـ «من قِلّة الرجال.
ومنذ ذلك الزمان صرنا نقول : «من قلة الرجال سمينا الديك بو قاسم 2 »
ويقولون في هذا المعنى : «من قلة الخيل شدوا عالكلاب سروج» والمثل الأخير ورد في معجم تيمور بالرواية نفسها .

إلي بيطاوع مرتو بيضمن آخرتو

يضرب هذا المثل في معرض التندر من الحالات التي تقوى فيها سلطة المرأة على سلطة الرجل، والمثل يفترض أن المفروض، وفق قواعد الطبيعة وأحكام الشرع والأعراف أن تكون الكلمة العليا في البيت للرجل، فإذا اختل هذا الميزان أصبح الرجل وضعف شأنه في البيت مثار تندر في المجتمع.  وغالباً ما يتهم الرجل المستسلم لأمر زوجته بالبساطة أو بالغفلة لأنه لو كان «قد حاله» لما سمح للأمور أن تفلت من زمامه.  وحكاية المثل التي سأرويها تتضمن هذا المعنى، إذ يبدو الرجل الضعيف في بيته غشيماً للغاية. وقد سمعت هذه الرواية من الكبار عندما كانوا يتسلون بذكر حالات مماثلة ويعلقون عليها. وفيها أن فلاحاً بسيطاً أراد أن يشتري حماراً ليركبه ويضع على ظهره عدة العمل حين يذهب إلى كرمه، أو حينما يقصد صديقاً بعيداً أو يطلب أغراضاً أخرى، وقال في نفسه إن هذا الحمار سيخفف عني عناء السير وحمل العدة وسيكون لي عوناً على قضاء أموري.
لكن الفلاح المسكين لم يكن «يمون» على المصروف لأن زوجته كانت هي المتصرفة في شؤون البيت، وتقوم بدور وزير الداخلية والخارجية والمالية  فتضع مصروف البيت في زنارها، ولما كان خائفاً من أن «تكسفه» فلا تنقده المال اللازم لشراء الحمار فقد احتال وغافل يوماً امرأته أثناء نومها  واقتنص ثمن الحمار من الزنار، ومضى إلى السوق يطلب حاجته . وبالفعل سرعان ما وقع على حمار معتبر، فدفع الثمن وأخذ يقتاد الحيوان وعاد به مسروراً إلى البيت .
وكان أن ترصّده لصان محترفان فتبعاه حتى خرج من السوق، وغدا وحيداً في الزقاق المؤدي إلى بيته . فتقدم أحد اللصين وانتزع الرسن من رأس الحمار، ووضعه في رأس زميله، ثم مضى بالحمار بعيداً، بينما تابع اللص الآخر السير وراء الفلاح مقوداً بالرسن على أنه الحمار المزعوم .
وحينما وصل الرجل إلى البيت، وأراد أن يفاجئ زوجته بالحمار الذي اشتراه، أسقط في يده، فقد غدا حماره رجلاً فالتفت إليه قائلاً:
-على حد علمي أنني اشتريت حماراً، فمن أنت؟ . فاجاب اللص
-أنا ذلك الحمار الذي اشتريته يا سيدي . فذهل الفلاح وقال له :
-وما الذي جعلك الآن رجلاً . فقال اللص :
-اعلم يا سيدي أنني رجل، لا حمار، لكنني أغضبت زوجتي يوماً حينما طلبت مني حاجة، فلم ألبها لها ولأن غضب النسوان من غضب الرحمن كما يقولون، فقد غضبت مني زوجتي، ودعت علي أن أصير حماراً،  فاستجيب دعاؤها فصرت في هيئة حمار.  لكن يبدو أنها الآن قد ندمت على فعلها، ورضيت عني، فأعدت بقدرة قادر إلى صورتي السابقة.  فأرجوك يا سيدي أن تتركني حتى أعود إلى زوجتي وأولادي الذين ينتظرونني .
رقّ قلب الفلاح الساذج للرجل، وأطلقه، بعد أن أوصاه ألا يغضب زوجته مرة أخرى . وعاد في اليوم التالي إلى السوق، يبتغي شراء حمار جديد، ففوجئ بحماره الذي كان قد اشتراه البارحة، وقد اقتاده اللص الآخر يريد بيعه . فأمسك بالحمار من أذنه، وقال له:
-كأنك عدت إلى إغضاب زوجتك فمسخت حماراً من جديد. ألم تتعلم من المرة الأولى؟! وتابع الفلاح البسيط نصحه للحمار الذي كان يظنه السارق بالقول:  يا بني ! سأعطيك هذه النصيحة لوجه الله فاحفظ دوماً هذا المثال واعمل به: «إللي بيطاوع مرتو، بيضمن آخرتو»

فجرت عبارة الفلاح مجرى الأمثال.

بدك تستريح، شو ما قالت مرتك قول مليح

يضرب المثل في حال التندر بسلطة المرأة على الزوج، وذلك بوجوب عدم مشاكسة المرأة لأن المرأة لا تُعانَد وإن عاندتها فلن يأتيك من ذلك إلا وجع الرأس وفي النهاية ستقبل بالأمر الواقع!!
تقول الحكاية إن أحد الملوك كان يعيش في قلق دائم وتفكير عميق، يكادان يجعلانه ينصرف عن شؤون الرعية وسبب ذلك أن زوجة الملك المحبوبة كان لها رأيها في إدارة شؤون المملكة، تتدخل بالصغيرة والكبيرة وكانت تصدر الأوامر والتعليمات لأهل البلاط والحاشية ولقواد الجيش: أنت اعمل كذا، وأنت لا تعمل كذا، والملك يتفرج حائراً لا يدري كيف ينتهي من هذا الواقع الذي بدأ يسترعي انتباه أهل القصر وتتسرب أخباره إلى الناس. فهو يحب زوجته ويقدرها ولا يريد أن يغضبها لأنها تحبه أيضاً وتخلص له لكنها لا تقبل أن تكون زوجة فحسب بل تريد نفسها «ملكة» مثل الملك بل تظن أنها ربما أقدر منه على إدارة شؤون الحكم والرعية وإن لم تكن تقول ذلك له صراحة على سبيل الاحترام واتقاء المشاكل.
المشكلة أن جميع المحيطين بالملك كانوا بدأوا يخشون الملكة ويسايرونها فلم يجرأ أحد منهم أن يعطيه النصيحة أو يقدم له رأياً في كيفية مواجهة الوضع. أخيراً بلغ الضيق بالملك حداً جعله يوماً يقرر أن يتنكر في ثياب الدراويش ويخرج من القصر فيزور بسطاء الناس لعله يجد بينهم من يعينه بنصيحة أو فكرة تساعده على معالجة الوضع الذي يؤرقه. وقد ساقته قدماه إلى بيت أحد الفلاحين خارج المدينة فرآه سعيداً يتنقل بين ماشيته وبيته وقبو الغلال بنشاط وهو يغني المواويل.تعجب الملك من منظر هذا الفلاح فقرر أن يسأله عن سبب سعادته فأجابه هذا على الفور دون أن يعرف انه الملك:
-سبب سعادتي أنني لا أخالف لزوجتي أمراً، ثم نصح له قائلاً:«بدك تستريح؟ شو ما قالت مرتك قول مليح»!
فجرى كلام الفلاح مثلاً إلى يومنا هذا .

طبخة بهلول

تقال في طعام المضيف إذا تأخر نضوجه، أو تأخر إعداده، وقد يحدث ذلك لأن اللحم المطهو لحم دجاج عتقي «أي كبير العمر» أو لحم شاة كبيرة وربما كان تأخر النضوج سوء تدبير من المشرف على الطبخ، وأياً كان الشأن، فيضرب هذا المثل عند تأخر تقديم الطعام .
بطل الحكاية شخص يدعى بهلول وهو أحد مجانين الكوفة وقد جعلته الأسطورة مثالاً على المجنون العاقل3 الذي يكون مظهره وربما طريقة عيشه الجنون لكنه يخفي في داخله حكمة وهو غالباً من الصعاليك الزاهدين بالدنيا والذين لا يعيرون أي اهتمام لقواعد سلوك المجتمع فهم «أحرار» في ما يفعلون. .ومن هذه القصة ومثيلاتها قيل «خذوا الحكمة من أفواه المجانين» كما قيل أيضاً إن الجنة نصفها بهاليل».
وقد حاكت شخصية بهلول شخصية جحا من حيث طبيعة الرجلين الساخرة لكن التي تحمل دوماً حكمة عميقة من حكم الحياة. وقد ذكر الجاحظ بهلول فقال عنه:
« هو من مجانين الكوفة، وأنه كان يغني بقيراط، ويسكت بدانق4 ».
والحكاية التي نحن في صددها هي أن رجلين تباريا في أيهما أصبر على البرد، فاشترط أحدهما على الآخر أن يبيت الليلة في رأس الجبل، عارياً، شريطة ألا يشعل ناراً ـ وكانت ليلة باردة من ليالي الشتاء ـ وبعد ذلك ينال مكافأة اتفقا عليها .
وفي صباح اليوم التالي للرهان جاء الرجل إلى صاحبه في أعلى الجبل، فوجده كما اشترطا، لم يشعل ناراً . فأقسمه على أنه لم ير النار تلك الليلة، فقال له :
ـ بلى ! لقد رأيت ضوءاً في ذلك الجبل البعيد، لا أدري ما هو، لعله كان ناراً أو ربما ضوء سراج أو قنديل بيت. فسارع رفيقه عندها إلى القول:
-لقد بطلت مكافأتك، لأنك أخللت بالشرط وأنت تعترف أنك البارحة تدفأت على نار .
وبعد جدال، اتفقا على التقاضي، فقصدا بهلولاً وقصّا عليه حكايتهما واشتكى الرجل الذي قضى الليلة الباردة في الجبل من سعي رفيقه لحرمانه من مكافأة يستحقها وقد تعب من أجل الحصول عليها. لكن الرجل الآخر أصرّ على أن رفيقه أخلّ بالشرط.
استمهلهما بهلول وقال لهما اعذراني فقد حلّ وقت الغداء فلم لا تبقيان هنا وتتناولان الغداء معي وسأقضي إنشاء الله بينكما بعد ذلك. وأفهمهما بهلول أنه وضع قدر الطعام على النار .
لكن مرّ الوقت، وحان الظهر، ثم اتجهت الشمس إلى المغيب، لكن الطعام لم يحضر. أخيراً جاع الرجال فعلاً فسألاه متى سيأتي الطعام؟ قال لهما:
ـ إنه على النار لكنه لم ينضج بعد
ولما نفد صبرهما قالا له :
ـ ما هذا الطعام الذي يطبخ يوماً كاملاً لكنه ما زال حتى الآن لم ينضج ؟!
عندها اصطحبهما بهلول إلى حيث القدر، ففوجئا به وقد وضع قدراً مرفوعاً على قائمتين بعلو شجرة عالية والنار تشتعل على الأرض، تحت القدر . فقال الرجل الذي عليه أن يدفع الشرط
ـ سبحان الله! كيف تظن أن هذا الطعام سينضج والنار بعيدة عنه ؟!
فأجابه عندها بهلول:
ـ كيف تزعم إذاً أن صاحبك تدفأ على نار توقد في الجبل المقابل؟ إن حكمي هو أنه عليك أن تدفع له الشرط. وقد فوجئ الرجل بمكر بهلول وحنكته. لكنه بعد تلك الحادثة أصبح يقول في من يؤجل دفع الحقوق أو يتباطأ في عمل: «مثل طبخة بهلول»
فذهب قوله مثلاً.

حلّة حبل

عبارة تقال حين تهبط المصائب فجأة على قوم وهم لا يعرفون من أين أتت لأنها غالباً تبدأ من حادث صغير سرعان ما يتطور إلى فتنة كبيرة. وعندها يحصل مثل هذا الأمر فإنهم يصفون تنامي المصائب بالعودة إلى المأثور الشعبي بقولهم على سبيل التعجب «حلِّة حبل» وربما قالوا في هذا المجال : «الله يجيرنا من حلة الحبل» . فما هي حكاية حلة الحبل؟ .
يقول سلام الراسي نقلاً عن الخوري يوحنا سكّاب في إحدى عظاته :
كانت هناك قرية تعيش في سلام ووئام، وكان عند الشيطان ولد بلغ سن الرشد، فأراد الشيطان أن يمتحن شيطنة ابنه هذا، فطلب منه أن يستعمل شيطنته بأيسر السبل لإثارة فتنة في القرية الآمنة .
وما هي إلا ساعات حتى نشب خلاف في القرية، تطور إلى شجار، فعراك وانقسم أهل القرية بموجبه إلى فريقين متقاتلين . فاستدعى الشيطان ابنه، وسأله: ماذا فعلت لإثارة هذه الفتنة في القرية ؟ فقال الشيطان الصغير :
-حللت الحبل فقط، وتركت الباقي على أهل القرية .
فسأله أبوه:
-أي حبل حللت ؟ . فقال :
رأيت إحدى نساء القرية تحلب البقرة بعدما منّعت 5 عجلها وربطته جانباً . فتسللت وحللت الحبل الذي ربطت به العجل، فأفلت العجل، وركض يرضع ضرع أمه، فقلب سطل الحليب، فانسكب الحليب على الأرض، فغضب الزوج واتهم زوجته بالإهمال، وأنها لم تحكم ربط الحبل جيداً حتى أفلت العجل . وأضاف الشيطان الصغير: بقية القصة تعرفها الآن.
وبالفعل نتيجة لحلّ الحبل وهدر الحليب على الأرض وقعت الزوجة المسكينة في مأزق كبير مع زوجها. وقد حاولت عبثاً التأكيد لزوجها أنها ربطت العجل جيداً كما تفعل كل يوم، لكن الرجل لم يكن لديه تفسير كيف أن الحبل حلّ «من دون سبب» ولم يكن بالطبع يعرف انه بفعل الشيطان الصغير فأصرّ على اتهام زوجته البريئة وبلغ به الإنفعال والغضب حد ضربها، فصاحت المرأة خوفاً من أن يصعد الزوج تأديبه، فوصل صوتها إلى أخوتها الذين يقيمون في الجوار فهرعوا لنصرة شقيقتهم، وأطبقوا على الرجل.
وبسبب الهرج والمرج الذي ارتفعت أصواته في الحي بلغ الخبر أهل الرجل، فجاء أخوته ينتصرون له، واشتبك هؤلاء مع أولئك وما لبثت المعركة أن تطورت، حتى شملت جميع أبناء القرية .
منذ ذلك الوقت، صرنا نقول كلما وقع حادث وحاولنا تطويقه خشية أن يؤدي إلى أزمة أكبر «حلّة حبل» أي أن السبب لا يستأهل أن يسارع الناس للتقاتل من أجله لأنهم لو عرفوا أصل المشكل لهدأت مشاعرهم، أما إذا خشينا أن تفلت الأمور ولا تفلح كل محاولات الصلح وثارات الإنفعالات فإننا عندها نقول: « الله يجيرنا من حلة الحبل6».

صورة من التراث

صورة من التراث
صورة من التراث

قصة رضا

قصّــــــة رضـــا
عاشق النّاي زارع الفرح والحب.

في فولكلور كل شعب، تظهر بين الحين والآخر شخصيات فريدة سرعان ما يجد فيها الجميع تعبيراً حياً وخلاقاً عن ميزات الجماعة وثقافتها وخصالها. غالباً ما يكون في رأس تلك التعبيرات أشخاص بسطاء بلا أطماع ولا أوهام، لكن مع قلوب مضطرمة بحب الخلق والرغبة في العطاء. إحدى تلك الشخصيات التي اشتهرت في منطقة راشيا وما زال الناس يتداولون اسمها بكثير من الحنين والتأمل هي شخصية رضا، تاجر الكشة وعاشق الناي أو البنجيرة لم تفارقه حتى فارقها. وقد اشتهر أمر رضا ليس فقط بسبب خصاله الرقيقة وبشاشته الدائمة وأدبه وتواضعه ومحبته للناس، وخصوصاً الأطفال، بل بسبب حياته التي قضى قسماً كبيراً منها في التجوال بين القرى أو في الحضور مع كشته إلى سوق الاربعاء ليصبح في وقت قصير نجم ذلك السوق، حتى لم يعد يتصور السوق من دون رضا وأنغام شبابته العذبة.
تزوج رضا وبنى أسرة كريمة لكنه لم يكن في حياته طامعاً في الثروة، فقد اختار في سره طريقة عيش أحبها هي العيش بين الناس، مثل الرعاة الذين كانت ترافقهم أيضاً شبابتهم وتساعدهم على تمضية نهار الترحال الدائم بين القمم والأودية، كانت شبابة رضا رفيقة يومه لكنها كانت لغة الحب والعذوبة التي كان يخاطب بها محيطه. لم يكن كثير الكلام بل كان غالباً يميل إلى الصمت البشوش كأنه يخفي سراً، وكان أكثر كلامه أنغاماً شجية تحرّك القلوب وتبعث الفرح في قلوب الناس.
مؤكد أن الشبابة وأنغامها وتوزيع المحبة والإلفة بين الناس كانت هي محور حياته، أما العمل وبيع الكشة وغيرها فلم تكن إلا أمراً ثانوياً يجنبه مشقة العوز، بل ربما كانت وسيلته لكي يبقى على تماس دائم مع الناس. وبهذا فقد كان رضا ولا شك ظاهرة فريدة في زمن فقدت فيه الإلفة وطغت الفردية وضعفت المروءة. فكان بذلك بقية من عصر مضى أكثر من كونه منتمياً إلى زماننا المضطرب.
الضحى

كثيرون اليوم في منطقة راشيا يتذكرون كلماته القليلة التي لا تنسى: “العوافي..كيفكن” و..” شو بنا نعطيكن اليوم”، كان أديباً حتى في عرض بضاعته البسيطة، خفيف الظل، متكلاً في رزقه على استجابة الناس ومحبتهم وليس على السؤال أو الشطارة في البيع أو الإلحاح. أما وقد غاب عنهم قبل أن يبلغ سن الكهولة فقد ترك ذلك ولا شك فراغاً في الأماكن التي اعتاد أن يظهر فيها، من سوق الأربعاء إلى شوارع القرى إلى مداخل البيوت التي كان يطرق أبوابها بألحان شبابته قبل أن يعرض على الأصحاب والمعارف من بضاعته البسيطة. فمن هو عاشق الناي هذا وزارع الحب الذي كانوا يدعونه بإسمه الأول تحبباً: رضا؟
ولد في بلدة العقبة قضاء راشيا في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وعاش طفولته الأولى كسائر أطفال القرن المنصرم يساعد والديه في الزراعة لتأمين حاجات المنزل وأود الأسرة. كان الطفل الأصغر في العائلة لكن بدا منذ سنه المبكرة أنه ليس كسائر أشقائه أو أقرانه من الأطفال، إذ كان دائم المرح وشغوفاً بالطبيعة لكنه محب ايضاً للناس، فكان يوزع أيامه بين الحقول والروابي أو في أزقة البلدة وحواريها.
بسبب حبه للإلفة والرفقة، فقد كان يقضي معظم أوقات طفولته مع رفاقه الذين كانوا غالباً ما يتأثرون بأفكاره السباقة التي كانت تبعد الملل وتجعلهم في حركة دائمة وبحث واختبارات. كان يذهب إلى الحقول ويعود بأغصانها يبريها سيوفاً ليمارس لعبة كانت تعرف بالابرة والصنارة، وكان إذا تسلل السأم إلى رفاقه جاء بفكرة جديدة ولعبة جديدة يوزع أدوارها على أترابه.

حكاية القصب
ذهب مرة إلى ضفاف أحد الأنهار المجاورة ليعود ببعض القصب. أخذت الدهشة رفاقه وهم يرونه يأخذ قطعة من القصب ليحدث فيها ثقوباً بمسافات متساوية. وما هي إلا دقائق حتى بدأ يعزف على القصب يخرج منه الحاناً عذبة. بالنسبة لرفاقه الأولاد كان ذلك اختراعاً عجيباً لم يروا مثله من قبل. يومها لم يكن أحد ليدرك أن الشبّابة التي يصنعها رضا ستصبح رفيقة عمره وسوف تطبع مسيرة حياته لأنه كان بالفعل عاشق الشبابة أو عاشق الناي، كما سمّاه كثيرون.
أصبح رضا الفتى اليافع، الشخص الذي لا يستغنى عن وجوده في حفلات الزفاف، وكان قد أتقن فن العزف والانتقال من لحن الى آخر بأسلوب يشوق مستمعيه. وقد بلغت شهرة رضا حداً جعل أهل القرى جميعاً يقصدونه لإحياء حفلات الأعراس، وكان رضا بنخوته المعروفة وطيبة قلبه يندفع ساحباً شبابته من خصره من دون تكلف فيبادر الى العزف وبث النشوة والحماس في صدور الرجال والنسوة الذين يبدأون بالرقص ويصدحون بـ”الزلاغيط”.
فجأة، وعلى وقع أنغام الناي الساحرة مال إليه قلب فتاة أعجبت بخفة ظله وروحه المرحة ومال إليها، واجتمع أبناء القرية وعقدوا قرانهما في حفل زفاف جامع وعامر بمشاعر الفرح والعفوية. إذ كان أفراد القرية جميعاً يعتبرون رضا بمثابة ولدهم أو شقيقهم، ويرغبون برد جميل الفرح الذي يزرعه في قلوب الناس. وها هي عائلة رضا تكبر وقد أصبح له أولاد في عمر الشباب يشقون طريقهم في الحياة.
اتسعت الأسرة ومعها متطلبات الحياة . لم يهجر رضا شبابته لكنه اصطحبها إلى طريق الرزق الحلال عبر التجارة. لكن أي تجارة؟ لم يتخيل رضا نفسه جالساً في دكان أو محل، فقد كانت الحياة التي ألفها هي التجوال ومعاشرة الناس وبث الفرح في نفوسهم. لم يكن من النوع الذي يمكنه السكون أو القبول بحياة رتيبة، فقد كانت روحه الجياشة وأحاسيسه المرهفة تأنس بالطبيعة، كما تأنس بالناس، صغاراً وكباراً، لذلك لم يتردد في خياره. وهو أن يكون بائعاً متجولاً. فصنع لنفسه “كشة” يحملها على ظهره ويجوب بها القرى المجاورة، وقد جعل فيها أصنافاً كثيرة من التسالي التي يطلبها الناس. ولعلّ أكثر الأصناف التي حظيت بالإقبال كانت “الترمس”، فكان دخوله أياً من القرى يدفع الأطفال الى التراكض والتحلق حوله يتدافعون للحصول على هذه التسلية المغذية والمفيدة. وكان للترمس، الذي يبيعه رضا، طعم خاص لا يقوى أحد على مقاومته.

العوافي
إن لم يحالفه الحظ في بيع كل ما في كشته، كان رضا يقرع باب منزل، وكان من في الداخل يستبشرون عندما تكون الإجابة على سؤال: من الطارق؟ معزوفة موسيقية تصدح بها شبابته الشهيرة، وكان الجميع بالتالي يهبون إلى كشته ليأخذوا ما تبقى فيها، وكان هو بلباقته الشهيرة يخاطب الناس: “العوافي”، “ذقلنا هل ترمسات”، وكان يدفع في يدك ما تيسر من جعبته على سبيل المجاملة تاركاً لك القرار بالشراء.
كان رضا يقضي وقته متنقلاً من منزل الى آخر، ومن بلدة الى أخرى عارضاً بضاعته، وعندما يدركه التعب كان يمتطي “حماره” الأغبر ويضع على ظهره الخرج ثم يضع في كلا جانبيه بضاعته، وعندما يصل الى المكان أو القرية المنشودة كان الصبية يستقبلون زائرهم بالتصفيق ويبدأون بمناحرته حتى يُخرجوه عن صمته فيحاول هو بدوره مطاردتهم لإبعادهم لكن دون جدوى فيرضي شقاوتهم بما تيسر من “الخرج”، متذكراً أنه في يوم من الأيام كان هكذا فيأخذ المنجيرة عازفاً ومتابعاً المسير.
وبعد إنتهاء موسم الترمس لا يحار رضا بما يضع في كشته فتراه يملأها بنوع آخر يستهوي الكبار والصغار على حدٍ سواء، وهو “القضامي”، حيث يتم تحويل الحمص الى أنواع مختلفة من القضامي الصفراء أو المالحة وما الى ذلك، وتراه مع كل سلعة يتكيّف ويعوّد الناس على البديل، لكن الإسلوب لا يتبدل مهما تبدّلت السلع، وعفوية رضا لا تتغيّر وإبتسامته الساحرة تبقى هي هي . وإذا إفتقدته يوماً فسوف تجده في سوق الأربعاء الذي يؤمه ابناء المنطقة، منهم من يعرض بضاعته ومنهم من يبتاع حاجاته، لكن رضا هو دوماً العلامة الفارقة في هذا السوق الذي اصبح بسببه فعلاً تجربة ومسرحاً للأنغام ونشوة القلوب.

فرح يوم الأربعاء
كان يوم الأربعاء في مفكرة رضا يوم عزيز على قلبه، يترقبه بشوق فيستيقظ له باكراً ليحلق ذقنه ويرتدي ثيابه ويضع كوفيته البيضاء على نغم طلعة ميجانا أو موال عاطفي. كان يوم الأربعاء بالنسبة له يوم عيد وكان رواد السوق عائلته الكبيرة، فكانت مشاعره لذلك تصل إلى ذروتها فعلاً، وهو يستعد لمغادرة المنزل باتجاه ذلك اللقاء الأسبوعي الحميم. حقيقة الأمر أن لكل فردٍ في المنطقة قصته مع رضا وعلاقة مودة خاصة به، وكان الباعة في السوق ينتظرون بفارغ الصبر قدوم رضا ويعرضون عليه الإغراءات لكي يجلس بالقرب منهم، وقد كان كثيرون باتوا على قناعة بأن وجوده يجلب لهم الحظ.
تلك كانت حياة رضا البسيطة لكن الزاخرة بنغم الروح وأمواج المحبة على إيقاع شبابته. وفي يوم توقفت شبابة رضا عن العزف، افتقد الناس أنغامها، كما افتقدوا رضا الذي كان بلغ السبعين من عمره. علموا يقيناً أن شيئاً ما فادحاً قد حصل، وأن الرجل الباش المحب الرقيق المشاعر خرج من السوق ومن هذه الدنيا إلى ميدان أرحب تاركاً شبابته إلى أهل بيته الذين يعرضونها باعتزاز مع صورته بالكوفية البيضاء المميزة في ركن عزيز من المنزل. ترى كيف استقبل أهل السماء عاشق الشبابة؟

عماد خير

صوت من التراث

بيروت-عام-1900
بيروت-عام-1900

حكايات الأمثال

حكايات الأمثال في جبل العرب
الحلقة الثالثة

في هذا العدد من “الضحى” حلقة ثالثة مستمدة من كتاب الأديب السوري فوزات رزق، الذي تناول فيه حكايات الأمثال في الأدب الشعبي في جبل العرب وفي بلاد الشام بصورة أعم. يلفت الكاتب إلى تفضيله أحياناً استخدام اللهجة العامية حفاظاً على طرافة القصة وأصالتها، كما يلفت إلى أن التباين الذي قد يجده القارئ بين روايته لبعض الحكايات وبين روايات أخرى متداولة أمر طبيعي بسبب الطابع الشفهي للحكايات، وما قد يخالطها من زيادات وتحويرات مصدرها خيال الراوي واجتهاده، كما أن الرواية المعينة قد تستعير من البيئة المحيطة مواداً ومعطيات تكون أكثر واقعية وتساعد أكثر على فهم المثل والعبرة التي يحملها.

إذا وقع القدر عمي البصر

يضرب هذا المثل في حالة الإستسلام للأمر الواقع، حيث تعز الوسيلة لتفادي ما قد حصل. وحكاية هذا المثل كما نقلها سلام الراسي عن الشيخ أبي حمد الحرفوش مفادها: أن سيدنا سليمان عليه السلام كان قد صادق نسراً عظيماً، هو ملك طيور زمانه. وكان يركب بين جناحيه، فيطير به فوق أجزاء مملكته، كلما أراد التنزه أو الاستكشاف.
وفيما كان النسر محلقاً في أحد الأيام، سأله عمّا يرى تحته، فقال سليمان: إني أرى هيكلي العظيم، والناس يدخلون ويخرجون.
ثم حلق به عالياً وسأله ثانية عمّا يرى، فقال له: إني أرى مدينة القدس مثل رجمة من الحجارة، ولا أميّز هيكلي من سواه.
ثم انطلق النسر إلى أعالي الجو وسأله عمّا يرى. فقال سليمان: إني لم أعد أرى شيئاً. فضحك النسر، وقال: ولكنني أرى كل شيء على الأرض، إلى درجة إني أرى الآن في ما أرى بالقرب من إحدى الأشجار في جبل الزيتون، نملتين تتقاتلان على حبة حنطة.
قال سليمان: “يا للعجب ! أيمكن أن يكون هذا ممكناً ؟! أنزلني إذاً لأرى بعيني فأصدق كلامك. فهبط النسر بسليمان إلى حيث أراه حبة الحنطة والنملتين، اللتين لا تزالان تتنازعانها تحت شجرة الزيتون. فذهل سليمان، وأخذ يثني على صديقه النسر حتى ركب هذا الأخير الغرور، وأخذ يختال تيهاً واعتداداً، ولم ينتبه لشرك كان منصوباً أمامه، فلم يلبث أن وقع فيه، فصاح: “بالله عليك يا نبي الله انقذني من هذه الورطة”.
فابتسم سليمان، وقال له: “كيف قدرت، وأنت في أعالي الجو أن ترى النملتين وحبة الحنطة، ولم تقدر الآن، وأنت على الأرض، أن ترى هذا الشرك المنصوب أمامك؟!
فأجاب النسر: “حقاً، لكن إذا وقع القدر عمي البصر”، وجرى كلام النسر مثلاً منذ ذلك الزمان1 .

ألف “وِشْت” بـ “سالِة”، ولا قولة “ناوله” بالسويدا!

“وِشْت”: صوت يزجر به الكلب. و”سالة”: قرية من قرى محافظة السويداء تبعد 25كم إلى الشرق من المدينة.
ويضرب هذا المثل في المقارنة بين أمرين كلاهما صعب، واختيار أقلهما صعوبة. وهذه الصيغة منتشرة في الأمثال الشعبية مثل قولهم: “مية قولة جبان، ولا قولة الله يرحمه” في تفادي الهلاك جراء اقتحام المخاطر. ويقولون: “ مية عين تبكي، ولا عين أمي تدمع” تعبيراً عن تفضيل المصلحة الشخصية.
وحكاية هذا المثل، كما يرويها قاسم وهب، أن عدداً من الكلاب الضالة في قرية سالة أضر بها الجوع، وكان الواحد منها إذا دخل داراً طردوه بقولهم: “وشت”. فقررت الكلاب الرحيل إلى السويداء، لأنها سمعت من القادمين أن اللحم والعظم متوافران فيها.
فلما وصلت إليها وقف أحدها أمام أحد دكاكين الجزارين، منتظراً أن يرمي إليه بعظم من عظام الذبيحة. وعندما اقترب من باب الدكان سمع اللحام يقول لمساعده: “ناوله”، فظن المسكين أنه سيناوله شيئاً من الذبيحة، ولكنه فوجئ بضربة ساطور هشمت قائمته، فولّى هارباً يندب حظه، فبادر إليه رفاقه يسألونه عمّا حصل، فقال لهم: “ألف “وِشْت” بسالة ولا قولة “ناوله” بالسويدا2 .

إللي بيخلي الثعالب شهودو بتضيع حدودو
إللي بيخلي الثعالب شهودو بتضيع حدودو

إللي بيخلي الثعالب شهودو بتضيع حدودو

يضرب هذا المثل في الرجل الذي يقيم على حجته شهداء زور، فيكون مصير دعوته الإخفاق، لأنه لا يصح عند الله غير الصحيح في نهاية الأمر.
وحكاية هذا المثل عثرت عليها عند سلام الراسي، يرويها عن علي الضاوي، بائع خضار متجول، يقول: يحكى أن رجلاً كان يسهر مع زوجته على المصطبة أمام باب بيته، وكان عنده خروف معلوف مربوط إلى حائط، وكلب اسمه صنصيل يرقد قرب الباب، وكانت المرأة حبلى، في لياليها الأخيرة، فقال لها زوجها:
إذا ولدت لي ابناً سأذبح لك الخروف، وإذا ولدتِ بنتاً سأذبح لك الكلب.
وكان صنصيل يسمع، فقال لنفسه:
“ الحرمة رايحة بالعرض، شوفتي معها بنت، إلحق حالك يا صنصيل، بلاد الله واسعة “ .
وعندما نام الرجل وزوجته نهض صنصيل، وأيقظ الخروف، وودعه بعدما أطلعه على السر. فقال الخروف مستهجناً:
ماذا لو أن المرأة غيّرت رأيها وولدت صبياً، عندئذٍ يعلقني الرجل بعرقوبي، ويفصفص لحمي عن عظمي.
وطلب الخروف من الكلب أن يساعده في فك رباطه، فجز صنصيل الحبل بأسنانه، وقال للخروف: اتبعني على بركات الله.
مشى صنصيل، ومشى الخروف وراءه، وهو خائف ذليل، حتى بلغا محلة وادي القرقمان، فقال الكلب للخروف:
العشب هنا كثير، والدنيا أمامك سدح مدح، انتظرني هنا حتى أذهب في طلب الرزق، لعلي أجد ما أقتات به، وأعود إليك في الحال.
وحدث أن ذئباً مرّ بالمكان، ورأى الخروف، فنوى أن يأكله، وبحث عن سبب فقال له:
من آذن لك بالدخول إلى أرضي؟. قال الخروف:
إذا كانت هذه أرضك، فأين شهودك لإثبات حدودك؟ قال الذئب:
سأذهب وأجلب شهودي، وسيكون لي معك حساب بعد ذلك. ولم يبتعد الذئب كثيراً حتى حظي بشرذمة من الثعالب الجائعة، فطلب منهم أن يشهدوا له بأن الأرض التي يرعى فيها الخروف هي أرضه، وسيتنازل لهم عن حصة من الوليمة.
اندفعت الثعالب وراء الذئب حتى أتى إلى حيث الخروف، يريد أن يقول له:
الأرض أرضي، وهؤلاء شهودي.
في هذه الأثناء رجع الكلب صنصيل، وكان عظيم الهامة، ووجد الخروف يرتعد من الخوف وقد أخبره بما حصل له، فطيب خاطره، وقال:
ابقَ حيث أنت ولا تخشَ شيئاً. ثم إن الكلب اتخذ له مجثماً خلف رجمة من الحجارة بانتظار ما يمكن أن يحدث. وحينما وصل الذئب مع شهوده، صاح بهم:
أليست هذه الأرض أرضي أباً عن جد كما تعلمون؟.
فهمر3 صنصيل عندئذٍ من وراء الرجمة، فتراجع الثعالب إلى الوراء وصمتوا. فقال الذئب:
ما بالكم لا تتكلمون؟! أليست هذه الأرض أرضي؟! فهمر صنصيل مرة أخرى.
عندئذٍ تقدم كبير الثعالب، وقال: نعلم أن ذلك الجبل جبلك، وتلك الرابية رابيتك، لكن الوادي الذي يقف فيه الخروف لا نعلم لمن هو.

انصرف الذئب خائباً ومرّ على مغارة قريبة للضبع، الذي كان يتابع ما يجري من بعيد. فقال له هذا: يَلّي بيخلي الثعالب شهودو، بتضيع حدودو”، فجرى كلام الضبع مجرى الأمثال 4 .

يلِّي مش ذايق المغراية ما بيعرف شو الحكاية

 

يلِّي مش ذايق المغراية ما بيعرف شو الحكاية
يلِّي مش ذايق المغراية ما بيعرف شو الحكاية

مثل يضرب في الرجل ذي التجربة القليلة، أو لمن يستهين بالصعاب، لا قوة، بل جهلاً بعواقب الأمور. وحكاية هذا المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، إذ طالما سمعتها في معرض التعريض بمن يستخف بالأمر فيقع المحظور.
خلاصة الحكاية أن الأسد ملك الغابة سأل أعوانه وحاشيته من الفهود والنمور والذئاب وغيرهم من الحيوانات:
في حدى أقوى مني؟! .
فقالوا له:
معلوم! في واحد أقوى منّا كلنا.
فقال الأسد :
ومين هوي؟!
فقالوا له:
الإنسان، أقوى منّا كلنا.
فقال الأسد:
وين هو ؟ دلوني عليه.
فقالوا له:
بتلاقيه بالغابة عم يقطع شجر.
توجه الأسد إلى الغابة، فشاهد حطاباً بيده فأس، فسأله:
أنت الإنسان؟
أجاب الحطاب:
نعم أنا الإنسان، شو بتريد؟!.
زمجر الأسد ثم قال للحطاب متحدياً:
هات لنشوف ! قرّب وصارعني، لنشوف مين فينا بيغلب.
أدرك الحطاب أنه وقع في ورطة، وبعد تفكير قال للأسد:
أنا مستعد للمنازلة لكن ما بجيب قوتي معي لمن بروح عالشغل، إذا بدك بروح على البيت، بجيب قوتي وبجي. قال الأسد:
ما في عندي مانع، أنا ناطرك هون. قال له الحطاب:
لكن بخاف إنك تهرب بس تشوف قوتي، لذلك أنا عندي شرط . قال الأسد:
وشو هو شرطك؟ أجاب الحطاب:
بربطك بالشجرة حتى إرجع، قال الأسد المعتد بقوته:
أنا موافق، ربوط!
أخذ الحطاب الحبل الذي كان سيحزم به الحطب، ولفه حول جذع الأسد وربطه إلى الشجرة، ثم انطلق إلى بيته فأحضر قدراً كان يغلي فيه غراء، وأشعل ناراً تحت القدر وغلى الغراء، عند ذلك أخذ المغراة وغرف من القدر وسكبها على ظهر الأسد قائلاً:
هذي قوتي، ما رأيك؟!
صاح الأسد مذعوراً من الألم، وهرب الحطاب ناجياً بنفسه بعد أن علّم ملك الغاب درساً لن ينساه.
اجتمعت حيوانات الغابة على زئير الأسد الذي كان يتلوى من الألم، وحين رأوه على تلك الحالة بادروا إلى فك وثاقه ومعالجته، لم يخبرهم الأسد بقصته لكنهم وقد رأوه مكبلاً ذليلاً أيقنوا أن ذلك من فعل الحطاب لكنهم تأدباً لم يعلقوا.
بعد أيام كان الأسد يتجول في الغابة مع حاشيته، فرأى الحطاب، فاندفع إليه يريد الانتقام منه، فصعد الحطاب إلى أعلى شجرة في الغابة ليحمي نفسه. غير أن الأسد وقف إلى جانب الجذع، وأمر النمر والفهد والحيوانات الضارية الأخرى كي يصعد كل منها فوق ظهر الآخر ليصلوا إلى الحطاب، وما إن أصبح آخر حيوان على مقربة من الحطاب حتى صاح هذا:
هات المغراية يا ولد!!
وحين سمع الأسد نداء الحطاب دبّ في قلبه الذعر فتملص وولّى هارباً، فوقع الجميع. ولما سأله النمر بعد ذلك عن سبب هروبه، قال له:
“إللي مش ذايق طعمة المغراية، ما بيعرف شو الحكاية “

من أيمتى كان بو علي الحصيني فرّا؟

مثل يضرب للرجل الذي يندب نفسه لعمل أكبر من طاقته وهمته، فيثير بذلك سخرية الناس، وثمة مثل آخر أفرزته حكاية هذا المثل نفسها، وهو” مثل فروة السبع”، وهو مثل يضرب للحاجة إذا كلفت صاحبها أكثر مما ينبغي، وطال أمر تجهيزها وإعدادها .
وحكاية هذين المثلين واحدة، أسوقها من الذاكرة البعيدة وترددت على مسامعنا كثيراً.
وأصل الحكاية أن أسداً كان يعيش في الغابة. وخطر له أن يقتني فروة يضيفها إلى فروته ربما لتزيده وقاراً أو لتقيه برد الشتاء القارس. وفيما هو يبدي رغبته هذه أمام الثعلب “بو علي الحصيني” ضرب الحصيني على صدره قائلاً:
فروتك عندي يا مولاي، بس بدي منك الجلود.
وصار السبع يصطاد الخرفان، ويرسلها إلى الحصيني، والحصيني مسرور لهذه الرزقة التي أرسلها له الله من السماء، إذ يأتيه رزقه كل يوم على بارد وسلام، خروف بتمامه.
وصار السبع يسأل الحصيني:
وين الفروة؟. وأيمتى بتخلص؟! .
والحصيني يسوّفه:
بقي عليّ الصدر، بقي الكم اليسار، بقي الكم اليمين. حتى ضجر السبع وبدأ يتأفف، فقال له الحصيني:
إذا كنت مستعجل روح لعند غيري. وهو يعلم أن السبع لا حيلة له في الأمر.

وأخذ السبع يشتكي لمن حوله تسويف الحصيني له، ومماطلته في إنهاء الفروة. وذات يوم كان السبع غاضباً من الحصيني الذي طلب منه مزيداً من الخراف عندما مرّ به الذئب، فرآه على حاله من الضجر، فسأله:
ـ شو القصة يا ملك الزمان، شايفك ضجران على غير عادتك؟.
فروى له حكايته مع بو علي الحصيني، وإنه كل يوم يأخذ منه خروفاً ليصنع له فروة، وحتى الآن لم يرَ الفروة.
فضحك الذئب، وقال:
يا مولاي: “إيمتى كان بو علي الحصيني فرّا؟! .
وذهب تعليق الذئب مثلاً، فصاروا كلما كلفهم أمر أكثر من حده الطبيعي، قالوا: “ صار مثل فروة السبع”، وكلما ندب أمرؤ نفسه لما ليس أهلاً له، قالوا ساخرين: ”إيمتى كان بو علي الحصيني فرّا”.
وقد ورد في صيغة أخرى عن هذا المثل إن صداقة نشأت بين الطائر”بو سعد” و”بو علي الحصيني”، وكان الاثنان يحبان الدعابة فصارا يتبادلان المقالب في ما بينهما، كل واحد يحاول الإيقاع بالآخر، إلى أن جاء دور “بو سعد “، فزعم أنه يريد أن يدرب الحصيني على الطيران من دون جناحين. فأركبه على ظهره، وطار به، وأخذ يرتفع، وعلى ارتفاع معين سأله:
كيف شايف الأرض؟
فقال له الحصيني:
وسع البساط. فارتفع أكثر وسأله:
كيف شايف الأرض؟ فأجابه:
وسع الطبق. فارتفع أكثر وسأله:
كيف شايف الأرض؟ فأجابه:
وسع الصحن. فارتفع أكثر، وسأله:
كيف شايف الأرض؟ فأجابه:
هلق ما عدت شايف شي.
فرماه عن ظهره وبدأ “بو علي الحصيني” يهوي نحو الأرض، ولشدة فزعه كان يقول:
يا لله عباي، يالله فروي. يالله عباي، يالله فروي.متمنياً أن يقع على فروة أو عباءة لتخفيف الصدمة.
وبالفعل وقع الحصيني على راعٍ، فهرب الراعي مذعوراً، تاركاً فروته، وسقط الحصيني في الفروة.
لبس “بو علي الحصيني” الفروة، وفي الطريق رآه الذئب فقال له:
مين سوالك هالفروة؟. أجاب:
أنا سويتها لحالي. فقال له الذئب:
وبتقدر تساويلي مثلها؟ فقال له:
أكيد، جبلي شي سبع ثماني نعاج وتعال.
فأحضر له الذئب ثماني نعاج، وأخذ الحصيني يماطله مستجراً أكبر عدد من النعاج والخراف، إلى أن مل الذئب، وأخذ يطالب الحصيني بالفروة بإلحاح، فنادى الحصيني إحدى بناته:
فوتي يا ثمنية جيبي الفروة. فدخلت الثمنية ولم تخرج، فنادى الأخرى:
فوتي يا ربعية جيبي الفروة. فدخلت ربعية ولم تخرج، فنادى الصاع، والمد، ولما لم يبقَ أحد من أولاده في الخارج برز إلى الذئب متبسماً بدهاء، وقال له:
أيمتى كان بو علي الحصيني فرّا؟! .
غير أن الذئب أمسكه من ذيله فانقطع الذيل، وأصبح “بو علي الحصيني” أزعر. فقال له الذئب:
روح ! وين ما شفتك راح أعرفك يا أزعر.
فكر الحصيني بحيلة أخرى يتخلص بها من ملاحقة الذئب، وجمع جماعته الحصينية، وقال لهم:
صاحب هالكرم بخيل، وشو رأيكن نغزي عليه الليلة؟. قالوا له:
موافقين. فقال لهم:
بس على شرط، بخاف إنكن تنهزموا بس يجي صاحب الكرم، ومن شان إضمن إنكن ما بتنهزموا، وتتركوني لحالي، راح أربط كل واحد منكن بدالية.
وافق الجميع على اقتراح “بو علي”، وأحضر كل واحد خيطاً فربط كل واحد من ذيله بالدالية. ولما جاء صاحب الكرم صاح بهم:
إجاكن صاحب الكرم، اهربوا!
ففر الجميع تاركين ذيولهم في الدوالي، وأصبح الجميع متماثلين، ولن يستطيع الذئب أن يميز غريمه بعد الآن.

قال له مين علمك هالذوق قال له هذا المعلق فوق 2
قال له مين علمك هالذوق قال له هذا المعلق فوق 2

سأله مين علمك هالذوق؟ قال له: المعلق فوق

يضرب هذا المثل في الرجل الذي ينصاع إلى الأمر بعد عناد، جراء تهديد أو مشاهدة نتيجة من عاند قبله، وفي هذا المعنى يتردد مثل مشابه فيقولون:” ما متنا، لكن ما شفنا مين مات؟!” .
وحكاية هذا المثل أرويها من الذاكرة، وهي حكاية معروفة، ربما كانت من حكايات كليلة ودمنة، أو نسجت على منوالها.
خلاصة الحكاية أن الأسد والذئب والثعلب خرجوا في صيد، فاصطادوا ثوراً وغزالاً وأرنباً. فقال الأسد للذئب (وكان بالطبع يختبر أطباعه):
– قسّم الصيد بيننا.
فقال الذئب، وهو يعتقد أنه يقسم بصورة عادلة:
الثور لك، والغزال لي، والأرنب للثعلب
اعتبر الأسد ذلك فوراً تجرؤاً على ملك الغاب ووقاحة من الذئب الذي كان يجب أن يعتذر عن القسمة ويترك للأسد أمرها. فعاجله بضربة، فصل رأسه عن جسده، وعلقه في أعلى الشجرة لكي يكون عبرة لجميع حيوانات الغاب، ولمن ينسى مقامه الوضيع في حضرة الأسد.
بعد ذلك توجه الأسد للثعلب، ثم قال له:
– أنت اقسم لنا الغنائم.
فكر الثعلب قليلاً ثم قال:
– يا ملك الغاب، أنت الملك ذو القوة والسلطان كيف تكون لنا حاجة لطعام إن كنت أنت جائعاً؟ إني أرى الأرنب لفطورك، والغزال لغدائك، والثور لعشائك.
استحسن الأسد ذلك بل تعجب لأدب الثعلب فسأله:
– من علَّمك هذا الذوق؟
تبسم الثعلب، وقال من دون تردد وهو يرفع عينيه إلى الشجرة:
– هذا المعلق فوق!
وقد وردت الحكاية بصيغ مختلفة في الكثير من المصادر5.

 

حكايات الأمثال

حكايات الأمثال في جبل العرب

تنشر مجلة “الضحى“ في هذا العدد حلقة ثانية مستمدة من كتاب الأديب السوري فوزات رزق الذي تناول فيه حكايات الأمثال في الأدب الشعبي في جبل العرب، وفي بلاد الشام بصورة أعم. وقام المؤلف بجمع قصص الكتاب بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر المكتوبة والروايات الشفهية التي حققها في قرى جبل العرب بصورة خاصة. ومن المصادر التي يعترف المؤلف بفضلها مثل كتاب “أمثال وتعابير شعبية من السويداء” لمؤلفه سلامة عبيد، وكذلك معجم أحمد أبو سعد ومعجم أحمد تيمور باشا، ومؤلفات الكاتب التراثي اللبناني سلام الراسي.
ويلفت الكاتب إلى تفضيله أحياناً استخدام اللهجة الشعبية في بعض القصص أو في مقاطع حوارية منها بهدف الحفاظ على طرافة القصة وأصالتها، كما يلفت إلى أن التباين الذي قد يجده القارئ بين روايته لبعض الحكايات وبين روايات أخرى متداولة أمر طبيعي في أي أدب شعبي، وذلك بسبب الطابع الشفهي للحكايات الأمر الذي يؤدي غالباً إلى زيادات وتحويرات مصدرها خيال الراوي واجتهاده، كما أن الرواية المعينة قد تستعير من البيئة المحيطة موادَّ ومعطيات تكون أكثر واقعية وتساعد أكثر على فهم المثل والعبرة التي يحملها.

فوق القرق حَطوا له ثقّالة
ويروى: “ فوق القرقرب ثقالة “

والقرق هو انتفاخ في الخصيتين . حطوا له : وضعوا له . ثقالة : ثقلاً
ويضرب هذا المثل في الرجل إذا جاءته مصاعب أو متاعب تضاف إلى الأعباء التي ينوء بها كاهله. وقد سمعت هذه الحكاية سنة 1975من المرحوم نجيب الحكيم، من قرية خازمة وقد أخبرها كالتالي:
كان هناك زلمي مقروق، وهالزلمي محتار كيف بدو يتخلص من هالقرق، وهالقرق كان ملبكه كثير سواء في المشي أم في القعود، وبالليل وبالنهار..
وبيوم من ذات الأيام راح هالزلمي يدوّر على حكيم، بلكي يخلصه من هالقرق، وطلع من ضيعته لضيعة ثانية . وعلى الطريق ما شاف إلا جماعة مقبلين صوبه عم يغنوا ويعيطوا، وهالدَربَكي قايمة ، خاف الرجال وقال لحاله : يا ولد تخبى عن طريقهن أحلى ما يبتلوا فيك لبين ما يمروا ، وراح نقّى له صخرة ولبد وراها .
ولما قربوا وصار صوتهن واضح، عرف إنهم جماعة الأربعين أزعر، وسمع شو عبيغنوا ؛ وكان زعيمهن قدامهن يرفع إيدو ويقول : ” يومنا يوم الأنيس … يومنا يوم الأنيس ” . قال لحاله : ليش ما بطلعلهن بجملة على القافية . بلكي بيستحسنوها، وهيك بخلص منهن . وعند ما صاروا قراب، قفز في وجهن، ولما قالوا: ” يومنا يوم الأنيس … يومنا يوم الأنيس” طلعلهن : ” والثلاثا والخميس ” . هذول فرحوا بهذه الإضافة وأخذوا هالجملة وصاروا يغنوا ” يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس ” .
وكان زعيم هالجماعة حكيم عربي ماهر فأخذ المقروق، وحكّمه وخلصه من القرق وفوق ذلك عبّى له خرجه مصاري، وقال له : سلم على خوالك المراشدي (وهذا مثل يضرب للرجل إذا قضيت حاجته). هالزلمي رجع على الضيعة صاغ سليم ، وفوق هذا وكله خرج معبّى مصاري سألوه أهل الضيعة كيف تخلص من قرقو قام حكى لهن قصته من طقطق للسلام عليكم .
وكان بالضيعة واحد ثاني مقروق، ولما شاف الزلمي راجع ما شالله عنو، راح يسأله :
ـ دخيلك ! شو سويت ؟ . شو عملت ؟ . دلني .
وقام يوصف له المكان، والطريق يلي بيمرقوا منه الأربعين أزعر . والزلمي ما كذب خبر، حمل حاله وراح على نفس المكان، وعلى نفس الطريق . شوي … شوي وإلا مقبلين الجماعة، وعبيغنوا مكيفين:
“يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس ” . لبد الزلمي بظل الصخرة، وصار يرتب له جملة مناسبة . وبس صاروا عند الصخرة فز بوجهنن، وعند ما قالوا : “ يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس” صاح : ” والجمعة والسبت ” . الجماعة هن سمعوا هالجملة، وجن جنونهن . مسكوا هالزلمي المسكين، وهاي تضرك، وهاي تنفعك، حتى نزّلوا له قرق ثاني، وقالوا له سلم . رجع الزلمي على الضيعة يمشي فرشخة. وصاروا أهل الضيعة يسألوا : شو صار مع فلان ؟ وأهله يقولوا : مسكين … فوق القرق حَطوا له ثقالة . وصارت مثلاً.
ولقد وقعت على حكاية مشابهة في كتاب عبد الله البردوني ” الأدب الشعبي في اليمن “، وتقول الحكاية اليمنية:
إنه كان في بعض أحياء المدينة رجل أحدب فقير. وكان يجد في الحمام العام دواء لوجع ظهره، وصقيع مفاصله، إلا أن بدل دخول الحمام على ضآلته لم يكن متوافراً له في أكثر الأيام . فألجأه الفقر إلى الاحتيال، فكان يقصد الحمام بعد إغلاقه بساعتين، فيفتحه بمسمار طويل.
وذات يوم فتح الحمام، فسمع أصواتاً كثيفة، فقرر أن يدخل مهما كان الثمن، لأن زحام الحمام يجعل الناس العاملين في الحمام يهملون الفقير. ولكن ذلك الفقير استغرب خلو “مخلع الحمام” وغياب الثياب المطروحة فيه. ولكن الأصوات كانت تتعالى في الداخل، فاقتحم خوفه وولج، وتبين له أن عند الجان حفلة عرس. وأنهم يتحممون في مثل هذه المناسبات كالإنس. وعندما اقترب من الحوض صاح عليه أحدهم :
ـ لا تقرب الماء حتى تزف معنا . وكانوا يرددون ” يومنا يومٍ أنيسا … يوم الربوع والخميسا”. وقالوا للأحدب:
ـ زدنا أياماً تلحق بصوت الزفة على حرفها السين. فقال :
ـ زفوا . فرددوا:
ـ” يومنا يومٍ أنيسا … يوم الربوع والخميسا “. فصاح الأحدب:
ـ والجمعة والسبت والأحد.
فضحكوا لخروجه عن حرف السين. فأضافوا إلى حدبته حدبة ثانية.
وأورد سلام الراسي حكاية مشابهة لهذه الحكاية تحت عنوان
” حيصو بيصو “. وتقول الحكاية:
من طرائف قصص الجن أن رجلاً أحدب استوطى حيطه صبيان الحي، وأخذوا يعيرونه كلما مرّ بهم: ” يا بو حردبة بوبعة … يا بو حردبة بوبعة “. فصار يتجنّب المرور في الأزقة المكتظة بالأولاد ويسلك المعابر المظلمة بين الأشجار. وحدث إن ضل طريقه في إحدى الليالي، ووصل إلى حيث كانت جماعة من الجن يقيمون عرساً لابن مليكهم وهم يحدون: “حيصو بيصو، والعريس لابس قميصو”، ويكررون هذه الردة إذ كانوا لا يعرفون غيرها.
وكان أبو حردبة هذا شاعراً، فهتف قائلاً: ” والأربعا والخميسو “. فلقيت الردة استحساناً عند ملك الجن، وسأله أن يطلب ويتمنى، فطلب أن يرتاح من الحردبة الموجودة على ظهره. فانتزعها ملك الجن من ظهر الرجل، ووضعها في قرقارة إحدى الأشجار، وعاد الرجل مسروراً وأخبر بما جرى معه.
وحدث إن أحدباً آخر من رجال المحلة سمع بما حدث، فتوجه تواً إلى حيث كان جماعة الجن ما زالوا في مهمة العرس، وهم يحدون: ” حيصو بيصو .. والعريس لابس قميصو .. الأربعا والخميسو ” فصاح بهم: ” والجمعة والسبتو ” . فانتهره ملك الجن قائلاً: ” يا قليل الذوق كسرت القافية”، وتناول الحردبة من قرقارة الشجرة، وألصقها في ظهر الرجل، فصار عنده حردبتان.

قاضي الاولاد شنق حالو

يضرب المثل في الرجل الذي يحاول إصلاح ذات البين بين الأولاد الذين يختلفون لأتفه الأسباب، ثم لا يلبثون أن يرتضوا من دون وسيط. والمثل معروف في أنحاء الجبل. وحكايته أرويها من الذاكرة.
تقول الحكاية إن ملكاً كان لديه عدد من النساء، ولكل زوجة عدد من الأولاد. وكان الأولاد يكثرون من التشاجر، وكل أم تحاول أن تنتصر لأولادها، وتستعدي الملك على أولاد ضرائرها فانشغل الملك بهذه النزاعات بين الأولاد، ما ألهاه عن شؤون مملكته. وكان لا بدّ أن يجد وسيلة يتفرغ بها لشؤون المملكة، فما كان منه إلى أن عهد لقاضي القضاة محاولة مراعاة شؤون الأولاد وفض منازعاتهم. ولم تمضِ أيام حتى وجد القاضي مشنوقأ تحت إحدى الأشجار.

ويذكر سلام الراسي الحكاية بإضافات كثيرة، ويختم بالقول: ” حتى قيل في ذلك الزمان: ” قاضي الأولاد شنق حالو”

كثر الطمع ضر ما نفع

يضرب هذا المثل للنيل من الطمع وأصحابه، وللتذكير بنهاية الطمع غير المحمودة، والمثل ليس خاصاً بالجبل، فهو معروف في أكثر بلدان العرب.
وحكاية هذا المثل وردت لي مكتوبة من إحدى الطالبات في صلخد سنة 1984، وذكرت أنها ترويها عن والدتها.
مفاد الحكاية أنه كانت هناك امرأة توجّهت إلى المعصرة بهدف أن تأتي بدبسها، وعادت وهي تحمل سطلاً مليئاً بالدبس، وفي طريق عودتها إلى البيت لاقاها شيخ يرتدي ثوباً أبيض ناصعاً وله لحية بيضاء فقال لها:
ـ حطي سطيلة الدبس واحمليني.
أطاعت المرأة فوضعت سطل الدبس جانباً وحملت الشيخ الذي قال لها:
ـ على بيتك وديني.
وبالفعل حملته إلى أن بلغت به منزلها.
عندها قال لها الشيخ:
ـ جيبي العصا واضربيني .
إلا أنها أبت أن تضرب شيخاً مهيباً.
عندها قال لها: سكري الباب واتركيني. وفعلت كما طلب منها.
ولما عادت في اليوم التالي، فوجئت بأكوام من الذهب في أرض البيت ولم تجد الشيخ.
فرحت المرأة كثيراً وأرادت أن تكيل الذهب، ولما كانت فقيرة ولا تملك وعاء ذهبت إلى جارتها تستعير واحداً، وقد استغربت الجارة وشكت أن هناك أمراً ما لدى جارتها الفقيرة. أعطتها الجارة وعاءً نحاسياً لكنها ألصقت في قعره عجيناً وناولته لجارتها.
المرأة المسكينة كالت الدنانير الذهبية وأعادت الوعاء لجارتها التي وجدت ديناراً ذهبياً عالقاً في قعره.
عادت الجارة إلى المرأة وأصرت عليها أن تخبرها كيف حصلت على الذهب. وبالفعل روت لها القصة. عندها قامت الجارة الطماعة في اليوم التالي فحملت سطلها وتوجهت إلى المعصرة وملأته دبساً، وعادت باتجاه بيتها، وفي الطريق صادفت رجلاً فقالت له:
– قل لي حطي سطلك واحمليني. قال لها ذلك، فوضعت سطلها جانباً وحملته. ثم قالت له:
– قل لي على بيتِك وديني. فقال ذلك. عندها حملته على ظهرها وسارت به حتى بيتها ثم قالت له:
– قل لي جيبي العصا واضربيني، فقال ذلك. عندها أتت المرأة الطمّاعة بعصا ورفعتها وهي تهم بضربه بها. عندها انتزع الرجل العصا منها وأوسعها ضرباً.
وفي اليوم التالي، ذهبت هذه تعاتب جارتها على هذه الورطة التي أوقعتها فيها. وقد جاء جواب الجارة الفقيرة: “هذا من طمعك، كثر الطمع ضر ما نفع”، فذهب هذا القول مثلاً.

لولا جرادة ما علق عصفور

يقال هذا المثل في من يتسبب لشخص آخر بورطة كبيرة نتيجة نصائح فاسدة.
أما الحكاية فتقول:
كان هناك صبي وبنت يتيمان، وكان اسم الصبي “عصفور” أما البنت فكانت تدعى “جرادة” . وكانت جرادة أكبر من عصفور، وأفهم منه وكانت تحتال أحياناً لكي تؤمن القوت لأخيها عصفور. ولما كبر عصفور وأصبح شاباً بدأ يبحث عن عمل يرضيه لكن دون جدوى، وكانت جرادة تهون الأمر عليه، لكنها كانت في الوقت نفسه تفكر بعمل يناسب شقيقها، وذات يوم خاطبت شقيقها بعد العشاء قائلة:
ـ لقد وجدت لك عملاً هيناً ومفيداً.
سألها: وما هو هذا العمل؟
قالت: لم لا تشتغل بالتبصير وقراءة الطالع، بتفتح الفال وبتكتب حجابات؟
بهت عصفور، وبرد وجهه، وقال لها:
ـ هذا اللي طلع معكي، شو بيعرّفني بكتابة الحجابات والتبصير وفتح الفال ؟!
ضحكت جرادة وقالت له:
ـ مين ما بيعرف يكتب حجابات ويشتغل مبصر؟ الشغلي ما بدها شي، شوية كذب وحكي فاضي، وخرطشي على الورق .
قال لها :
ـ قال: هل تهزئين مني؟
ـ قالت: أبداً. أنا جادة في أن عليك أن تشتغل في التبصير وكتابة الحجابات.
ـ لكني لا أعرف شيئاً من التبصير وهذا الكلام الفارغ.
ـ الكلام الفارغ لا يحتاج إلى علم بل قليل من الشطارة. ضع قلوسة على رأسك واحمل مسبحة طويلة وتكلم بأي شيء يخطر في بالك وستجد الناس يهرعون نحوك ويدفعون إليك بالمال.
وبالفعل بدأ عصفور الصنعة وما لبث أن برع بها وأصبح يدور في الحارات منادياً: “مبصِّر فتاح فال، حجابات للحيرة، ولتقريب القلوب، حروزة ضد العين .. وأولاد الحرام” الخ..
وكسب عصفور مالاً كثيراً من صنعته كما ذاع صيته في البلاد.
حتى كان يوم تعرّض فيه عقد بنت الملك للسرقة. وعقد بنت الملك كما تعلمون شأنه عظيم، إذ أن كل حبة فيه تساوي ثروة كبيرة. وقد حزنت ابنة الملك على سرقة العقد كثيراً حتى أنها أصبحت تمتنع عن الطعام لفرط حزنها فهزل جسمها وخاف الملك عليها كثيراً.
وبعد أن تشاور مع قادة عسكره ووزرائه أخبره أحدهم عن عصفور وبراعته في التبصير وأفعاله العجيبة. فأمر الملك بجلب الرجل حالاً.
أحضر عصفور وهو في حالة من الخوف يرثى لها.
قال الملك: لقد سرق عقد ابنتي وعليك أن تجد مكانه بخبرتك وما يذيع عنك من خوارق.
وتابع الملك القول: أعطيك مهلة أربعين يوماً فإما أن تحضر العقد وتحصل على مكافأة كبيرة وإما (ورفع الملك يده ثم أنزلها بسرعة لتشبه حركة قطع الرأس بالسيف!).
خرج عصفور من عند الملك وقد أسودت الدنيا في وجهه وعرف أن أجله اقترب. إذ من أين له أن يجد عقد ابنة الملك مستخدماً أساليب الضحك على ذقون الناس، ووصل بيته في حالة تZ–دمي القلوب.
أخبر شقيقته بالأمر موجهاً إليها اللوم لهذه الصنعة التي اقترحتها عليه، وهي اليوم ستؤدي على الأغلب إلى أن يفقد حياته.
أسقط في يد الشقيقة لكنها كالعادة هونت عليه الأمر مذكرة إياه أن لديه أربعين يوماً، وأنه لا بدّ أن يتفتق عقله عن وسيلة خلال هذه المدة.
بقي عصفور في حال من اليأس لا يدري ما الذي سيحمله إليه القدر، واعتكف في غرفته وهو يتلو الأدعية ويستغفر الله على ما ارتكبه من آثام بتدجيله على البسطاء. وجمع عصفور أربعين حصوة وقرر أن يرمي كل يوم واحدة ليعلم كم بقي له من العمر.
في تلك الأثناء كانت شلة الأربعين حراميّاً قد انشغل بالها بسبب تكليف عصفور أمر الكشف عن من سرق عقد ابنة الملك، وهو الذي كان اشتهر أمره في حقل التبصير و”كشف المخبأ”. وقرر زعيم العصابة أن يرسل أحد أعوانه لمراقبة عصفور. وجاء هذا تحت جنح الظلام ونظر من نافذة عصفور فرآه يقرأ آية الكرسي وينشغل بالدعاء، ثم رفع عصفور حصوة ورمى بها من النافذة قائلاً: “هذا أول واحد من الأربعين”. وتشاء الصدفة أن تصيب الحصوة رأس اللص، فرجع مذعوراً إلى سيده وأخبره بما حدث وأن عصفور ربما يعلم أن شلة الأربعين هي السارقة لعقد ابنة الملك. بالطبع لم يكن قصد عصفور سوى إلقاء حصوة للدلالة على أن أول يوم من مهلة الاربعين يوماً التي حددها له الملك قد انصرم.
وقد بلغ من خوف زعيم العصابة أن قرر التوجّه بنفسه إلى تحت شباك عصفور. وبالفعل رآه منشغلاً بالدعاء والتمتمة فتأكد له أنه يستحضر الجان لتكشف له أمر العقد. وفيما كان رئيس العصابة يتنصت من خلف شباك عصفور تناول هذا حصوة وألقى بها من النافذة قائلاً: وهذا ثاني واحد من الأربعين”! واصابت الحصاة رأس زعيم الحرامية، الذي أيقن عندها أن أمرهم قد كشف وأن من الأفضل لهم أن يخلصوا بجلدهم قبل فوات الأوان وأن يردوا العقد عبر إلقائه إلى عصفور.
وفي اليوم الثالث وبينما عصفور مستغرق في الدعاء والاستغفار حصلت المعجزة. إذ أُلقي في حضنه فجأة عقد رائع الصنع يكاد يضيء الغرفة لما يحمله من جواهر نفيسة. وقد ذهل المسكين ولم يغمض له جفن إلى أن انبلج الصباح، إذ توجه عندها إلى قصر الملك مسرعاً وهو يحمل العقد، ولما أذن له الحرس بالدخول ألقى بنفسه على قدمي الملك ثم طرح العقد بين يديه. قائلاً هل هذا هو العقد الذي تفتقدونه؟
ثار ضجيج في إيوان الملك لهذه المفاجأة وحضرت ابنة الملك على وقع صيحات الدهشة والإعجاب لتجد العقد المسروق أمامها. فرحت كثيراً بالطبع لكن ساورها الشك بسبب السرعة التي تمكن عصفور فيها من إيجاد العقد المسروق. وقبل أن يهم الملك بمكافأة عصفور قالت الأميرة له: وماذا لو كان عصفور هو السارق؟
سقط السؤال مثل صاعقة على رأس عصفور الذي ظن لوقت قصير أنه نجا بجلده من موت محقق فإذا هو الآن يواجه مصيبة جديدة قد تطيح برأسه. وبالفعل فكر الملك بسؤال الأميرة وطلب منها أن تختبر عصفور وعلمه بالمخفي مرة أخيرة .
سألت الأميرة عصفور فقالت: البارحة وبينما أنا في الحديقة صباحاً رفعت يدي لأقطف تفاحة فإذا بعصفور يدخل في كم فسطاني. وأنا أريدك أن تخبرني لأي سبب دخل العصفور كمي؟
صار عصفور المسكين يبلع بريقه، ووجهه يخضر ويحمر، وكان يخاطب نفسه في سِرِّه ويستذكر الحالة الوخيمة التي وصل إليها بسبب نصيحة أخته جرادة له بتعاطي مهنة الشعوذة. وزفر عصفور زفرة مشبعة بالحرقة وقال:
“أه آه . لولا جرادة ما علق عصفور” .
فصرخت بنت الملك غير مصدقة:
ـ صحيح ما قلت، إذ كان العصفور يطارد جرادة، وقد دخلت الجرادة كمي فلحق بها العصفور ودخل كمي أيضاً.
أمام هذا الإنجاز المدهش أمر الملك لعصفور بجائزة كبيرة وعاش الرجل مع أخته جرادة بلذة ونعيم، وقرر الإقلاع نهائياً عن مهنة الشعوذة. لكن قصته العجيبة حفظها الناس الذين أصبحوا من يومها يقولون عن من يتسبب بأذى لآخر جراء نصيحة خرقاء: “ لولا جرادة ما علق عصفور “.

صورة من التراث

قلعة نيحا

من تراث العقل