السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العقل دينًا (الجزء الثاني)

  • العقل في اللّغة (1)

أشار الخطاب القرآني إلى أهميّة الاستفادة من خصائص اللغة العربيّة واصطلاحاتها في فهم معاني آيات الكتاب المنزل حيث قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). لذا، أجد من المفيد، قبل الخوض في تحليل الآيات القرآنية، تقديم بعض المعاني اللغوية للفظة “عقل” كما وردت في أمّهات المعاجم التراثية، لما يساعد ذلك في توضيح كثير من التفسيرات التي سَتَرِدُ لاحقًا في هذا البحث عن علاقة العقل بالدين والإيمان. عَرَّف الجوهري “العقل” في صِحَاحِه بأنَّه: “الحِجر والنُهى. ورجل عاقل وعقول. وقد عقل يعقل عقلًا ومعقولًا أيضًا، وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة(2)” . وفي تعريف الجوهري كما سيتبيّن لاحقًا دلالة على وظيفة العقل الخُلقيّة، بحيث هو القوة الداخلية الوازعة التي تَنْهَى النفس وتحبسها عن متابعة الشهوات الجسمانيّة والاندفاع وراء الغضب بغير رويّة ولا بصيرة.
أمّا الفيروزآبادي فقد عرَّف “العقل” في القاموس المحيط بأنّه:
العِلم بصفات الأشياء، من حسنها وقبحها، وكمالها ونُقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرّين، أو مطلق لأمور أو لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن ولمعانٍ مجتمعة في الذهن يكون بمقدِّمات يستتبّ بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه، والحقّ أنّه نور روحانيّ به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظريّة … يكْمُل عند البلوغ، ج: عُقُول، عَقَلَ يعقل عقلًا ومعقولًا وعقَّل، فهو عاقِل من عُقلاء وعُقَّال… والشيء فَهِمَه، فهو عَقُول(3).
ويشير تعريف الفيروزآبادي إلى وقوع العقل على فعل الإدراك للعلوم الضروريّة والنظريّة من جهة، وعلى القوّة الإدراكيّة التي تُمكِّن النَّفس من نَظَرِ هذه الأمور اللَّطيفة؛ ويقع أيضًا على قوة التمييز. غير أنَّه أشار أيضًا إلى وقوع العقل على “هيئة محمودة للإنسان في كلامه وحركاته”، أي مسلكه في الحياة، ما يجعل العقل صفة لطريقة محمودة في العيش.
وأمَّا ابن منظور فقد أورد في لسان العرب عن معاني العقل: [عن] ابن الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وهو الـجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه، وقـيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسه ويَرُدُّها عن هواها، أُخِذَ من قولهم قد اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلامَ، والـمَعْقُول: ما تَعْقِله بقلبك… والعقل: التثبُّت في الأمور. والعقل: القلب… وسُمّي العقل عقلًا لأنّه يَعْقِل صاحبه عن التورُّط في المهالك أي يحبسه(4).
تتَّفق هذه المعاني مع ما ورد في الصحاح عن الوظيفة الخلقيّة للعقل، ولكن يضيف ابن منظور بُعدًا آخر مهمًّا، وهو أنَّ العقل صفة تطلق لا على قدرة المرء على ضبط مشاعره وأعماله على نظام الحقيقة وحسب بل وضبط فكره ، لأنَّ العاقل “هو الجامع لأمره ورأيه”. إذًا، وبحسب هذا المعنى، باكتساب العقل يتمكَّن الإنسان من جمع نفسه بكلّيتها على نظام الحقّ ومن منعها عن الباطل. وسيظهر لاحقًا أنَّ جميع هذه المعاني مفيدة في فهم الأبعاد المتعدّدة لمعنى العقل في الخطاب القرآني وعلاقته بالدين والإيمان.

  • العقلُ والهُويَّةُ الإنسانـيّةُ

يُخاطب القرآنُ الإنسانَ في مواضِعَ عدَّة بما هو نفسٌ عاقلةٌ، كما في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ (الأنفال/24). بالطبع، تلك الدعوة مُوجَّهة إلى بشرٍ أحياءٍ في أجسامهم؛ وهي بالتالي تشير إلى حياة غير الحياة الجسمانيَّة. كما أنَّ التعاليم الدينية هي معانٍ روحيةٌ لا تُـحيي أجسامًا طبيعية، بل تُؤثِّر في الإنسان من خلال طبيعته الـمُدركة للأشياء غير الحسيَّة، والتي هي النفس العاقلة. فوَحْدَهَا العُقُولُ تحيا بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام/122). مِنَ الواضح أنَّ الخطاب القرآني يربط بين الحياة والنور الذي هو العلم الحقُّ، ويجعلهما نقيضَي الموت والظلمة اللَّذَيْن هما على التوالي الكفر والجهل. وفي ذلك دلالةٌ واضحة على أنَّهُ قصد بالحياة حياة النفس العاقلة لا حياة الجسم.
وممَّا يُثبت أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قَصَدَ عند استخدامه عبارتي الحياة والموت حياةَ النفس العاقلة وموتَها إطلاقُه صفة الموت على الكُفّار في أكثر من موضع، مثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ… أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ (النحل/20-21). وهؤلاء أيضًا أحياءٌ في أجسامهم ولكنَّهم موتى في نفوسهم العاقلة، لأنَّ الإيمان والكفر كليهما من أعمال القلب، أي النفس العاقلة، كما في قوله عن الإيمان: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات/14)، ومثل قوله: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل/106)
وقوله عن الكفر: ﴿وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ (النحل/106)؛ وقال أيضًا: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ (النحل/22).
ثمَّ إنَّ الخطاب القرآني أوضح أنَّ القلوبَ لها أعمالٌ خاصة بها بمعزل عن الجوارح الجسمانيّة، بدليل قوله: ﴿وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة/225)، أي النفوس العاقلة. وبما أنَّ القلوب تكسب الأعمال يعني أنّها عاملة ومُتحركِّة، أي حيّة.
إذًا هناك نَسَقٌ واضحٌ في الخطاب القرآني يجعل النفس العاقلة هويةَ الإنسان وجوهرَهُ؛ ويجعل حياته حركةَ تلك النَّفسِ في النور والخير والحقّ، والفساد والموت حركتها في الظلمة والشرّ والباطل. ويستتبع من ذلك أنَّ الخطاب القرآني عندما يخاطب الإنسان إنّما يخاطبه بما هو تلك الهوية، وعندما يصف أحواله من حياةٍ وموت، وبصر وعمى، وطيب وخبث، وغيرها إنّما يصف أحوال تلك النفس العاقلة بالذات.

  • العَقْلُ هُوَ قُوَّةُ الإدراكِ المُخْتصّةُ بحَقائِقِ الوحْي

ولـمَّا جعل الخطاب القرآني النفسَ العاقلة للإنسان هويته الحقّة كان من الطبيعي أن يجعل للعقل دورًا رئيسًا في إدراك هذه النفس لحقائق الوحي. وقد أشار الخطاب القرآني إلى محوريَّة العقل من حيث هو قوة الإدراك المختصَّة بحقائق الوجود في غير آية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا… فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج/46)، أي العقل وهو البصيرة القلبية أو بصيرة النفس التي بها تُدْرِكُ حقائق الوجود. وتبيّن الآية أن بالعقل يحصل الاعتبار وإدراك الحقائق وبفساده يتعطَّلان. وكيف لا تكون حقائق الوحي معانيَ معقولة أيضًا وقد قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). فهذه الآية تبيِّن بوضوح أنَّ السبب من وراء نزول الوحي بلغة العرب هو أن يتمكَّنوا من عَقْلِ معانيه، أي فهمها؛ ما يعني أنَّ حقائق الوحي هي معان معقولة. وقال كذلك: ﴿قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ 9 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10 فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾ (الملك/9-11). من الواضح أنَّ هذه الآيات تَربِط بين العَقْل بما هو فعل الإدراك للمعاني المعقولة وبين إدراك حقائق الوحي وتعلُّمها وذلك بجعلها علّة التكذيب بتعاليم “النذير”، أو النبي المرسل، عَدْمَ عَقْلِ الكفار لمعاني الوحي لقولهم “لو كنّا نسمع أو نعقل”. ودلالات هذا الربط واضحة أيضًا، فهي تشير إلى أنَّه لا يمكن الناسَ أن يَفهموا معاني الآيات وحقائق الوحي إلًّا بواسطة العقل. لذا، وبخلاف ما اعتقده الغزالي بأنَّ العقل عاجز عن إدراك حقائق الوحي، بأنَّه يمكن الناس فهم حَقائقه من دون الاعتماد على العقل، يوضّح الخطاب القرآني أنَّ العقل هو قوة (أو أداة) الإدراك المختصَّة بهذه الحقائق؛ وبالتالي، وحدهم أصحاب العقول السليمة يمكنهم تحقيق مثل هذا الإدراك.
كذلك، لا ينسجم الخطاب القرآني مع مقولة ابن رشد بأنَّه يمكن للناسَ الذين ينتمون إلى صنف الخطابيين والجدليين الوصول إلى معرفة الله والإيمان به من دون الحاجة إلى فهم الحقائق المعقولة للوحي، وبخاصة عندما يكون ظاهره مُنافيًا لأحكام العقل، لقوله: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ﴾ (يونس/32). وتشير هذه الآية بوضوح إلى أنَّه عند وجود اختلاف بين ظاهر الوحي وأحكام العقل أو المعاني المستنبطة من الآيات بواسطة العقل، يُضاف هذا الظاهر اللامعقول حكمًا إلى الباطل، ولا يمكن الباطل أن يكون طريقًا إلى معرفة الله وسبيلًا لنيل السعادة الأبدية لقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (العنكبوت/52). فبحسب هذه الآية، إنَّ من يؤمن بالباطل يكفر بالله ويخسر السعادة الأبدية. وكذلك، فإنَّ حقائقَ الوحي لا يمكن أن تختلف وتتناقض بعضها مع بعض كما يحدث عند اختلاف الظاهر اللامعقول مع المعنى المؤوّل المعقول، لأنَّ الخطاب القرآني قد أشار إلى استحالة وجود اختلاف بين معاني آيات الكتاب المنزل، لقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء/82). والتدبّر هو عمل عقلي إذ يعرّفه الفيروزآبادي في القاموس المحيط (1998) على أنَّه “النَّظَرُ في عاقِبةِ الأمرِ، … وتدبَّر الأمر رأى في عاقِبتهِ ما لم يرَ في صَدْرِهِ، وتدبَّر القول أي فهم غايته” (ص 390). وبالتّالي، تفيد هذه الآية أنَّ من يقارب الوحي بواسطة العقل لا بدَّ من أنْ يجد معانيه مُتّسقة ومتجانسة لا تحمل فيما بينها اختلافًا ولا تناقضًا، لأنَّ الحقّ الذي من عند الله متجانس المعنى لا اختلاف فيه.

  • العَقْلُ غايةٌ مِنْ غَايات الرِّسالَةِ النَّبَوِيَّةِ

وإذا ما تتبَّعنا في النصّ المنزل الآيات التي تُوضّح أغراض الوحي والرسالة النبويّة، نُلاحظ أنَّها تجعل تَيْقِيْظَ النفس العاقلة في الإنسان وتنميَتها أحد أبرز أغراضها. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ الغاية من التعاليم التي يحملها الوحي هي تنوير العقل الإنساني بقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ﴾ (الأنعام/104)؛ ومقصد الكلام بصيرة النفس، أي العقل. فقد دلَّ الخطاب القرآني على التعاليم الإلهيّة التي يحملها الوحي بالآلة التي تُدْرَكُ بها – أي بصيرة النفس – فأسماها بصائر لكونها تُمكّن هذه البصيرة، أي العقل، من نظر المعاني المعقولة كما يُمكِّن نور الشمس العين من نظر الأشياء المحسوسة، لأنَّ غرض الرسالة هو تعليم الناس الحق كما في قوله: ﴿أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/151). كذلك، أشار في غير موضع، وبطريقة مباشرة، أنَّ غاية الوحي بآياته وأمثاله وقَصَصِهِ هو إرشاد الإنسان إلى تحقيق فضيلة نفسه العاقلة من خلال تغذيَتِها بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/242)، أي كي تعقلوا. فجعل غاية الآيات وبيان معانيها اكتسابَ المؤمنين القدرةَ على عقل حقائق الوجود.
وأضاف الخطاب القرآني إلى هذه الغاية اكتسابَ المؤمنين القدرة على القيام بأنواعٍ أخرى من أعمال الطبيعة العاقلة وإتقانها من حُسن التفكُّر، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة/266)، وقوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف/176)؛ واليقظة العقليَّة أو الذكر، كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، أي ليتذكر الحقائق أولو العقول (ص/29)؛ وحُسن الفهم، كما في قوله: ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونََ﴾ (الأنعام/65). ثمَّ جعل ذلك كلَّه، أي العقل وحسن التفكُّر والتذكُّر وحسن الفهم، شرطًا للإيمان لقوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ… لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام/154)، أي بعد عَقْلِهِم لمعانيه؛ ليصبح الإيمانُ هو التصديق بمعانٍ عقليَّة غائبة عن الحسّ، أي التصديق بالغيب المعقول وليس بالغيب اللامعقول. فقد ربط الخطاب القرآني بين الإيمان والعَقْل (الفعل) في غير موضع، كما في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس/100). وبحسب هذه الآية، فإنَّ من عَجَزَ عن العَقْل عَجَزَ عن الإيمان. فصار العقل شرطًا لتحقيق غاية من غايات الدين وهو الإيمان. لذا، من الواضح أنَّ الخطاب القرآني قصد بالإيمان التصديق بغيب معقول، أي الذي ينسجم مع أحكام العقل ولا يتناقض معه.

  • والعَقْلُ هُو نَظَرٌ سليمٌ للوجود

ولم يقتصر الخطاب القرآنيّ على جعل التفكُّر في آياتِ الكتابِ وأمثاله وقصصه وعقل حقائقها غذاءً للنفس العاقلة وسببًا لحياتها، بل نبَّه إلى أنّ الوجود الماديّ المحسوس كُلّه آيات حسيَّة ماثلة أمام نظر المؤمن لإيقاظ هذه النفس العاقلة وتنميتها وإحيائها بعد أن يُدرك بعقله دلالتها وممثولاتها من الحقائق. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ كثيرًا من الظواهر الطبيعية المألوفة تحمل دلالات تساعد الإنسان على إدارك حقائق الوجود متى أعمل عقله في فهم معانيها وممثولاتها، كما في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ 10 يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 11 وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 12 وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (النحل/10-13).
فبحسب هذه الآيات فإنَّ جميع هذه الظواهر المألوفة في العالم المحسوس لها دلالات ومعانٍ، والناظر نظر الاعتبار يمكن أن يعلمها بواسطة العقل. ولنا في قصّة النبي إبراهيم الخليل مثال مفيد على كيفية درك حقائق الوجود من خلال الاعتبار بالظواهر الطبيعيَّة:
﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام/75-79)
فقد نظر إبراهيم إلى كوكب(5) منير في السماء وبعده إلى القمر والشمس معتقدًا فيها الألوهة واحدًا بعد الآخر، فلمَّا أفلت، أي غابت عن النظر، أدرك بعقله أنَّ الإله لا يمكن أن يكون من جنس الآفلين، فيلحقه عجز أو فناء، فنزّه الإله عنها وعلم أنَّه يجب أن يطلب الألوهة في الذي لا يلحق به عجز وفناء، أي الله. بالطبع، كان ظنُّ النبي إبراهيم أنَّ في الكوكب ألوهة وليد النظر الحسّي الذي رأى في علو مكانه في السماء شرفًا وفي أنواره فضلًا، ثمَّ اعتقد بالقمر لكونه أكبر وأشدّ نورًا منه، وانتهى إلى الاعتقاد بالشمس لأنّها أشدُّ من الاثنين نورًا وفضلًا. وأمَّا ما أدركه من معاني غيابها ووقوع التغيير في أحوالها ودلالات ذلك من عجز وضعف، وتنزيهه الخالق عنها فهو وليد النظر العقليّ. وكأنَّما أراد الخطاب القرآني أن يقول إنَّها جميعًا فُطرت على أحوالٍ ظاهرة تساعد الإنسان الناظر إليها بعقله على الاعتبار بها ومعرفة أنّها ليست الخالق.
ثمَّ أشار الخطاب القرآني إلى مثل آخر من الطبيعة له أهميّة كبيرة في الدين لكونه يوضّح للإنسان الناظر بعقله فناء الدنيا كي يعلم فضلَ الآخرة عليها فيطلبها، كما في قوله:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس/24).
والعبرة من وراء المثل المذكور أنَّ كلّ شيء ينمو في العالم الماديّ المحسوس، ومن ضمنه جسم الإنسان، وينجذب إليه الإنسان الناظر بعين حسه لحسنه وجماله، هو سائر إلى الفناء، وهو بالتالي أقلُّ فضلًا ممَّا هو باقٍ إذا ما نظر إليه الإنسان بالعقل. إذًا يساعد النظر العقلي إلى الظواهر الطبيعيَّة والاعتبار بها الإنسان على التمييز بين الفناء والبقاء ليعلم بعقله الناظر في العواقب والغايات فضل ما هو باقٍ فيختار طلب الآخرة اختيارًا عقليًّا، أي عن علم ودراية بخيرها وبقائه كما في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/32).

  • العُقَّال مقصد الرسالة النبويّة

ويلاحظ أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قد جعل في غير آيةٍ أصحابِ العقول الحيّة المقصد الحقيقي للرسالة النبويَّة، فقد أشار إلى أن غرض آيات الكتاب المنزل هو تذكير القلوب الحيّة بالحقائق الإلهية، كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ أي في آيات الكتاب، ﴿لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ (ق/37) أي لمن كان له قلبٌ حيّ. ثمَّ أوضح معنى ذلك في قوله: ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا﴾، أي في قلبه أو نفسه العاقلة، ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (يس/70)، أي لتقوم حجّة البيان على الأموات في نفوسهم العاقلة. وهذان القولان يُفيدان التخصيص لأنّهما يشيران إلى أنَّ القلوب الحيَّة هي وحدها تتذكَّر معاني الآيات المنزلة وتنتذر بوعيدها كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص/29)، وقوله ﴿هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (إبراهيم/52)، أي أصحاب القلوب أو النفوس العاقلة الحيّة. وهذه الآية تشير أيضًا إلى أنَّ النفس العاقلة هي التي تحمل التوحيد معتقدًا بعد عقلها لحقائق الرسالة.
ثمَّ أوضح الخطاب القرآني أنَّ هذا التخصيصَ ليس من باب التَّمييز المسبق بين الناس، فيستحيل ضربًا من ضروب الظلم الناتج من عدم المساواة بينهم في التبليغ والبيان؛ بل هو لتبيان أنَّ من أهمل طبيعته العاقلة وأفسدها يحرُم نفسَهُ بنفسِهِ من القدرة على عَقْل الحقائق الإلهية والتصديق أو الإيمان بها، وبالتالي الانتفاع بها دليلًا للنَّجاة، كما في وصفه للكفّار بأنَّهم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171)، أي أنَّ كفرهم حرمهم القدرة على النظر العقلي فيه وفهم معانيه، بدليل قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ (6) (النساء/155).
إذًا، تَرِدُ الرسالة على جميع الناس من باب إقامة العدل فيهم؛ ولكن لن يقبلها وينتفع بها إلَّا ذوو العقول الحيّة، أو العقّال، فيصبح هؤلاء هم مقصدها الحقيقي لقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (الأنفال/22-23). وليس من الحكمة والعدل إطلاق الذمّ على من لم يتسبَّب لنفسه بما يوجب الذمّ؛ وبالتالي، لا بدَّ من أنَّ الخطاب القرآني قد قصد بـ”شرِّ الدواب” مَنْ أُعْطِيَ القدرة على عقل حقائق الوحي، أي الإنسان العاقل بالفطرة، ثمَّ أفسد هذه القدرة وعَدِمَها بما اكتسب من أعمال سيئة، كما في قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا 125… وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ﴾ (طه/123-127). تُثبت هذه الآيات أنّه قصد بِـ”شَرِّ الدواب” مَنْ كَفَر بحقائق الآيات المنزلة مع وجود القوة على عَقْلِها والتصديق بها، وأنَّ هؤلاء مسؤولون عمَّا وصلوا إليه من عجزهم عن عَقْلِ المعاني بسبَب إهمالهم لتغذيَة نفوسهم بحقائق الوحي. وإذا كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، يُصبح خير الدواب كل من سمع الحقّ ونظر معانيه بعقله فأدرك حقائقه المعقولة.

  • الطَّبيعَةُ العاقلةُ تنفَعِل بالأعمال

ثمَّ أوضح أيضًا أنَّ هذه البصيرة القلبيَّة التي هي العقل، تَنْفَعِل بأعمال الإنسان سلبًا أو إيجابًا ، فإمَّا أن تصفو وتزكو وتزداد بالأعمال الحسنة أو تتَّسخ وتضعف نتيجة للأعمال السيئة، وقد تبلغ درجة عالية من الفساد فتعمى، أي تعدم القدرة على نظر الحقائق المعقولة بدليل قوله: ﴿بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الإنفطار/14)، أي يكسبون من أعمال السّوء. والرَّانُ هو “الصدأُ الذي يعلُو الشيءَ الجَلِيّ كالسيف والمرآة ونحوهما، ورَانَ الذَّنْبُ على قلبه… غلب عليه وغطاه، كلّ ما غطى شيئاً فقد رانَ عليه” (إبن منظور، 1994/13، ص192)، فيحجبه؛ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 6 خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة/7).
وإذا كان للنفس العاقلة حياةٌ كما سبق أن ذُكر، فهي إمَّا تكتسب العافية أو تعرض لها الأمراض، أو يحلّ بها الموت. وقد أشار الخطاب القرآني في مواضع عدّة إلى مرض القلوب كما في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (البقرة/10). ثمَّ أوضح أنه يتحدَّث عن أمراض روحيّة وليس جسمانيّة، بوصفه مواعظ الكتاب بأنَّها: ﴿شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس/57)، أي شفاءٌ للقلوب أو للنفوس العاقلة من الأمراض المتَّصلة بطبيعتها الخاصة. وقد ربط الخطاب القرآني المرض بالنفس العاقلة والإيمان كما في قوله: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ﴾ (المدثر/74). وسؤالُ الكافرين والذين في قلوبهم مرض يُعبِّر عن عَجزهم عن فهم معاني الأمثال لكونها معاني معقولة بدليل قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت/43). وفي هذا دليل آخر على ما سبق أن ذكر بأنَّ النفس العاقلة هي هوية الإنسان الحقيقية، لأنَّ الخطاب القرآني أشار إلى فسادها (أو مرضها) عند حديثه عن فساد الإنسان. وقد ربط الخطاب القرآني بين كثير من مظاهر الفساد التي تحلُّ في الإنسان بفساد العقل وعدمه كما في قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران/58)، أي أنَّه جعل علّة اتخاذهم الصلاة هزوًا عجزهم عن إدراك المعاني المعقولة؛ وقوله أيضًا: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171). ويظهر هذا التحليل بوضوح عدم انسجام الخطاب القرآني مع ما ذهب إليه الغزالي من فَصْل نفس الإنسان وأمراضها عن طبيعتها العاقلة.

  • العَقْلُ غرض التقوى

أشار الخطاب القرآني أيضًا إلى أنَّ الغرض من إلزام المؤمنين اجتناب النواهي، وهو فعل التقوى، الحفاظ على سلامة القلوب وحفظ حياتها، لأنَّ ما نُهِيَ عنه من أقوالٍ وأعمالٍ ومعتقداتٍ هو ما يُمرض الطبيعة العاقلة ويُفسدها، بدليل قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ… وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/151)، أي كي تعقلوا. وتربط الآية بشكل واضح بين الإرادة الإلهيّة بتحريم المعتقدات الخاطئة والأعمال السيئة، والتي يطلق عليها شرعًا “النواهي”، والقدرة على العقل؛ ويتضح بالتالي أنَّ المقصد من الدعوة إلى اجتناب هذه النواهي هو صيانة العقل من أسباب الفساد. لذلك، كانت التقوى – وهي مُشتقَّة من وقاية – من أكثر الفرائض الدينية ذكرًا في النصّ المنزل، لأنّها تحفظ قلب الإنسان – وهو مركز الإيمان والعبادة – سليمًا ومعافًى بتجنيبه كلّ ما يضرّ بطبيعته العاقلة.
ولإثبات ارتباط فريضة التقوى بالحفاظ على حياة النفس العاقلة وسلامتها، أوْرِدُ أبرز ما أشار إليه الخطاب القرآني من أسباب فساد النفس العاقلة وهلاكها. فقد أوضح أنّ الظَنَّ السوء بالإله – أي المعتقد الخاطئ ومن ضمنه ما ذكر من الشرك – يُميت هذه النفس لقوله: ﴿وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ (المؤمنون/41). والرَّدى هو الهلاك والموت، والإنسان كما سبق أن ذكر هو نفسه العاقلة، فيصبح غاية هذه الآية الدلالة على سبب من أسباب موت النفس العاقلة. وقد فسّر الخطاب القرآني ماهيّة هذا الظن المردي بقوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (آل عمران/154)؛ هو الظنُّ المبني على الجهل بخلاف ما هو المبني على العلم، أو الحقّ المعقول. ويوضّح هذا التحليل ما أشرتُ إليه في بداية البحث عن اعتباري أنَّ الفَصْل بين الدين والحقيقة وبين الإيمان والعقل يشكّل أخطرَ التحدّيات أمام الدين في العصر الحديث، لأنَّه بفَصْلِ الإيمان عن العقل وبنائه على الجهل بدل العلم هلاكٌ للنفس العاقلة التي هي هوية الإنسان.
ثمَّ ذكر أنَّ عدم التصديق واتباع الأهواء، أي النَّزْعات اللاعقلانيّة، هو أيضًا من أسباب هلاكها، كما في قوله: ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ﴾ (طه/16). وقد سبق أن ذكر من أنّ للعقل وظيفة أخرى خلقيّة تتمثَّل بكونه الوازع الداخلي الذي ينهى النفس عن متابعة الأهواء، ولأجل ذلك سُمي النُّهى كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ﴾ (طه/54)، أي أولي العقول الحيّة. فهذا الوازع الداخلي يمنع مشاعر الإنسان اللاعقلانية من شهوات وغضب من السيطرة عليه وعلى أفعاله كيلا يعمل عمل الجاهلين، بدليل قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ (الفتح/26)، والحميّة الأنفة. وقد رَبَطَ الخطاب القرآني بين عجز بعض الذين يستمعون إلى الآيات المنزلة عن عَقْلِ معانيها وبين تعطّل العقل وغيابه واتّباع الأهواء في قوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (محمد/16). فبحسب الآية فإنَّ السبب وراء عجز هؤلاء عن حمل حقائق الوحي المعقولة هو مرض نفوسهم العاقلة نتيجة اتباع الأهواء. وكذلك، ذَكَر سببًا آخر وهو الظُّلم. فقد أشار إلى حال الظالمين في دار الآخرة بقوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾(إبراهيم/42-43)، أي قلوبهم أو نفوسهم العاقلة مَيْتَة بسبب خلوّها من العقل. ثمَّ إنَّ خلاف الظلم هو العدل، والعدل وليد الحق لقوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (آل عمران/159)، والحقّ معقول. هذا يعني أنَّ العقل وفق الخطاب القرآني هو أيضًا شرط للحياة المنسجمة مع حقائق الوحي، فلا تحفظ حياة للنفس العاقلة وتصحُّ ديانة ويُنال فَلَاح مع سيرة منفصلة عن العقل وقائمة على الجهل والظلم ومتابعة الأهواء. من هنا أيضًا يمكن فهم ما أورده الفيرزآبادي في قاموسه عن استخدام كلمة “العقل” في التعبير عن طريقة محمودة في العيش بقوله إنَّه يستعمل “لهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه”.

  • مَسْلكُ العقل

ويُظهر الخطاب القرآنيُّ أيضًا أهميّة إعمال العقل في فهم الدين والوجود فهمًا صحيحًا وفي حفظ النفوس العاقلة سليمة من أسباب الفساد عند وصفه المؤمنين الأحياء بالعُقَّال الذين يتثبَّتون من أمورهم – وما يختص منها بالرسالة تحديدًا – ويَنْقَدُوْنَها قبل القبول بها أو اختيارها لِئلَّا يتبعون ما هو باطل ويجلبون الشرّ والضّرر بدل الخير والنفع، فهم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر/18)، أي العقول الحيّة. ثمَّ نهى عن السلوك الجاهل والاتباع الأعمى، أي التقليد، بقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ﴾ (الإسراء/36)، أي لا تتَّبع أمرًا أو أثرًا إلَّا بعد عَقْلِه ومعرفة حقيقته والتأكُّد من خيره. لذلك، قال عن أصحاب العقول الحيّة: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام/122)، أي هم يعقلون حقائق الوحي فيسلكون في الحياة عن علم ودراية.
وأمَر الخطاب القرآني باتباع مسلك العقل لا مسلك التقليد في الإيمان، وذمَّ مسلك التقليد واتباع ما هو مألوف بين الناس ورَبَطَهُ بالجهل الناتج من عدم العقل بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة/170). وربما تُوفّر هذه الآية أحد أقوى الإثباتات على محوريّة العقل في فهم الوحي وبناء الإيمان والسلوك الديني؛ فتساؤل الخطاب القرآني عمَّا إذا كان هؤلاء قد تثبَّتوا أولًا من أنَّ آباءهم الذين يتبعونهم في دينهم أو معتقداتهم قد بنوا ما يعتقدونه عن عَقْلٍ، يعني ضمنًا أنَّه لا يجب على الإنسان أنْ يتَّبع إلَّا ما بُني على العقل السليم وتوافق مع أحكامه، أي الحق المعقول. ويتضمَّن هذا السؤال أيضًا استهجانًا من الجهالة التي يعبّر عنها سلوك هؤلاء. كما ويستتبع من هذا أنَّ الخطاب القرآني يدعو جميع الناس، بمعزل عن المكان والزمان، أن لا يكتفوا باتباع ما وجدوا آباءهم عليه من معتقدات وطرق عيش قبل التثبّت من صحتها أولًا كي لا ينتهي بهم الأمر باتباع ما هو مخالف للعقل، أي باطل، فيضلّون عن سبيل الحقّ والخير. وهو بالتالي يدعو الناس، وحتى من كان آباؤهم يتبعون معتقدات صحيحة أو ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، إلى أنّْ تكون مقاربتهم للوحي وقبولهم لتعاليمه من خلال العقل فعلًا مُتجدِّدًا جيلًا بعد جيل كي يصيبوا الهدى والرشاد ويجتنبوا الوقوع بالجهل والضلال.

  • العقل شرط للسعادة الأبدية

ثمَّ أنَّه أوضح لنا السبب وراء تركيزه على تزكية القلب وصيانته من الأمراض بالربط بين سلامته والفوز بالسعادة الأبدية في دار الآخرة بقوله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء/88-89)، أي إلَّا من أتى للقاء الله بنفسٍ عاقلةٍ حيَّةٍ سليمةٍ من الأمراض. فَمَنْ أفسد بصيرته القلبية بارتكاب السيئات في الحياة الدنيا حَضَر الآخرة وهو أعمى البصيرة فلا يقدر على أن ينظر وجه الله ويحقّق السعادة الأبدية كما في قوله: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الإسراء/72)، والعمى هنا في بصيرة القلب أي العقل. والمقصود بالسعادة هنا هي تلك التي عبّر عنها في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة/22-23)، أي إلى وجه ربها ناظرة؛ والشرط في تحقيق هذا النظر هو سلامة القلب، أي العقل. ومما يثبت أنَّ نظر وجه الله هو عنوان السعادة الأبديّة قوله عن عذاب المكذّبين بحقائق الوحي واليوم الآخر: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ 10 الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 11وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 13 كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14 كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين/10-15).
وتفيد هذه الآيات الخمس بأنَّ عاقبة من أفسد نفسه العاقلة وأهلكها باتباع سيرة ظالمة وعَجَزَ نتيجة لارتكابه الأعمال السيئة عن عَقْلِ حقائق الوحي والتصديق بها، فأنكر القيامة وظنّ الوحي وهمًا مضافًا إلى أساطير الأولين، هي الحجبة عن نظر وجه الله في الدار الآخرة. وبما أنَّ الدار الآخرة هي دار خلود، فالحُجبة فيها أبديّة أيضًا. ولا يمكن تعليل مثل هذا الحجبة إلَّا بفساد القوة المختصَّة بهذا النظر فسادًا كليًّا وهو ما تعبّر عنه بموت الطبيعة العاقلة للإنسان. وإذا كان العذاب الأليم الذي ينذر منه الخطاب القرآني هو الحجبة عن نظر وجه الله، فلا بدَّ من أن يكون النعيم هو نظر وجهه، وهو يشترط كما ذكر حياة النفس العاقلة وسلامتها من الأمراض. ومن المنطقي أن يكون هذا هو النعيم كونه عنوان البقاء الوحيد لقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن/26-27). غير أنَّ الخطاب القرآني لم يُبْق الأمر مشكلًا بل أوضح بشكل صريح وفي غير آية أنَّ الغاية من سعي الإنسان في فعل الخيرات والإحسان في دار الدنيَا هو تحقيق هذا النظر في الدار الآخرة، كما في قوله: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّ﴾ (البقرة/272)؛ أي طلبًا للفوز بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة نظر المُبصر المُغتبط.

  • خاتمة

يُظهر هذا البحث الموجز وجود ترابط وثيق بين الطبيعة العاقلة للإنسان بأبعادها كافّة وبين حقائق الوحي والإيمان والسيرة الإنسانيّة ومصير البشر الروحي. فقد تبيّن من خلال دراسة الروابط التي أقامها الخطاب القرآني بين المفردات والمفاهيم المتعلّقة بالعقل وبين تلك المتعلّقة بالذات الإنسانيّة وأحوالها أنَّ النفس العاقلة هي جوهر الإنسان وهويته الحقيقية، فحياته حياة هذه النفس وحركته حركتها وموته موتها. وتبيّن أنَّ العقل هو قوة الإدراك التي تبصر فيها هذه النفس حقائق الوحي ومعاني الوجود لأنَّ هذه المعاني والحقائق هي صورٌ معقولة لا صورٌ محسوسة. ثمَّ بيَّن ارتباط قدرة البصيرة القلبية، التي هي العقل، على درك المعاني المعقولة بالسيرة الإنسانيّة لأنَّها تنفعل بأعمال الإنسان فتحيا بطلب العلم والحكمة والأعمال الحسنة وتنمو، وتحفظ سلامتها وتزكو باجتناب الكفر والشرك والأعمال السيئة واتباع الأهواء، فتقوى على العقل، أو تمرض وتموت بالاسترسال بالجهل والسيرة القائمة على الإسراف والظلم، فتضعف عن العقل أو تعدمه. وأظهر أيضًا أنَّ إحياء هذه النفس العاقلة وتزكيتها وتنميتها وحفظها من الأمراض والهلاك هو غرض الرسالة النبوية والغاية من الأوامر والنواهي التي اشتملت عليها، وهو ما يجعل الكتاب المنزل دليلًا علميًّا وخلقيًّا ومسلكيًّا للعيش العقلي الموصل للسعادة الأبديّة التي هي فعل تلك الطبيعة العاقلة – أي نظر وجه الله. وعلى هذه الخلفيّة، يمكن القول إنَّ الدينَ عقلٌ، فالنفس العاقلة هي حاملة التوحيد والإيمان بعد إدراكها لمعاني الوحي وفهمها لحقائق الوجود بالنظر العقليّ. والعقل أيضًا هو الوازع الداخلي الذي يحبس النفس عن متابعة الأهواء التي تمنعها عن إدراك هذه الحقائق. وبالعقل أيضًا يحقِّق الإنسان غاية الإيمان وهي السعادة الناتجة من النظر إلى وجه الله.
ومن شأن نتائج هذا البحث أن تُعيد الاعتبار إلى المنهج العقلي في تفسير النَّصّ المنزل وتأويله لما يُظهر الخطاب القرآني من شرعيّة منهج كهذا وأصالته، الأمر الذي يفتح الباب أمام مقاربة جديدة للنصّ محرّرة من قيود التراث ومألوفاته. ومن شأن نتائجه أيضًا أن تساعد الباحثين على دراسة النصّ المنزل مجالًا معرفيًّا لاستكشاف الذات الإنسانيّة وعلاقتها بالله وفهم طبيعتها العاقلة وقواها الإدراكيّة والعمليّة والأحوال المختلفة التي تعرض لها واختباراتها وانفعالاتها والمؤثّرات التي تفعل فيها والمصير الذي ينتظرها، الأمر الذي يجعل المعرفة الدينيّة ودراسة النصّ الـمُنزل مطلبًا أشدّ التصاقًا بحياة الإنسان العمليّة واهتماماته العلميّة وهواجسه الوجوديّة. ومن شأنه أيضًا أن يوفّر الأدوات المعرفيّة التي يحتاج إليها الباحثون للقيام بقراءات فلسفية للنصّ المنزل لما يتضمّنه من خلاصات تتَّصل بالطبيعة الإنسانيّة ونظرية المعرفة ونظرية الأخلاق ومفهوم السعادة الإنسانية وغيرها من أغراض المباحث الفلسفيَّة. ولا شكَّ في أنَّ مثل هذه البحوث والقراءات تغني الدّراسات الإسلاميّة خاصّةً والدينيّة عامةً وتوسع أفق البحث فيها ومجالاته.


المراجع:

(1)- وهنا لا بدّ لي من الإشارة إلى مسألة منهجيّة تتّصل بتقديم عرض مقاربة ابن رشد على مقاربة الغزالي. فمع أنَّ الغزالي تقدّم زمنيًّا على ابن رشد، غير أنّي فضّلت البدء بابن رشد لكونه الأقرب إلى المنحى العقلي من الغزالي. وأجزت لنفسي ذلك لأنّي لا أقدّم دراسة تاريخيّة عن تطوّر نظرة علماء المسلمين لعلاقة العقل بالدّين، بل أعرض فقط نموذجَيْن بارزين لمقاربة الموضوع في التراث الإسلامي.
(2)- أبو الوليد محمد بن أحمد إبن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق ألبير نصري نادر (بيروت: دار المشرق، 1991)، ص 128. التسويد في الاقتباسات من كاتب المقال.
(3)- المصدر نفسه، ص 34.
(4)- المصدر نفسه، ص 35.
(5)- المصدر نفسه، ص 36.
(6)- المصدر نفسه، ص 52.
(7)- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، توثيق أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006)، ج 7: ص 66.
(8)- المصدر نفسه، ص 66.
(9)- المصدر نفسه، ص 71.
(10)- المصدر نفسه، ص 72.
(11)- المصدر نفسه، ص ص 66-67.
(12)- المصدر نفسه، ص 72.
(13)- المصدر نفسه، ص 72.
(14)- المصدر نفسه، ص 67.

العقل دينًا

المقدِّمة

كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة
كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة

تعاني ظاهرة الدين في يومنا هذا من مشاكلَ شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، باتت علاقة الدين بحياة الإنسان اليوميَّة وبالسياسة غير واضحة المعالم بعد انتشار مفاهيم العلمنة والأنظمة السياسيَّة القائمة على القوانين الوضعيّة، الأمر الذي فرض على الفرد المؤمن والدولة على حد سواء تحدّيات كثيرة خاصةً بعد أن سادت أنماط حياة عصرية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي دعت إليها التعاليم الأساسيّة لكثير من الأديان التوحيدية الرئيسة؛ وجَعَلَ، تاليًا، التوفيق بين الاثنين أمرًا صَعْبًا، وأحيانًا مستحيلًا. وهناك أيضًا إشكاليَّة علاقة الدين بالعنف الممارس تحت راية المعتقدات الدينية المختلفة. ثمَّ هناك إشكاليّة علاقة الدين بالعلم وعلاقة الإيمان بالعقل، والشرع بالفلسفة، وهي جبهة حرب مُشتعلة منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا.
وفي حقبة الحداثة، نجح رُوَّادُ الثورة العلمية ومفكِّرو التنوير في إرساء معادلة تقول إنَّ الإيمان والعقل هما شيئان متناقضان لا يلتقيان: فحيثُ يحضر أحدُهما يَغيب الآخر. ونجحوا في حَصْرِ عمل العقل بالعلوم الطبيعية وأعطوها وحدها القدرة على كشف حقيقة الوجود المادي، وفي حَصْرِ الإيمان بمجال الظنون والآراء الخاصة التي يرتبط بها الناس من خلال مشاعرهم اللاعقلانيَّة. ونرى اليوم أنَّ كثيرًا من القيِّمين على الأديان أنفسهم قد قبلوا هذه المعادلة بعد أن ترسَّخت بمرور الوقت من خلال المناهج التعليمية الحديثة والتقدُّم الـمُطَّرد للاكتشافات العلميَّة والتقنية التي لم تزل تبهر العالم بإنجازاتها الكبيرة. غير أنَّ القبول بهذه المقولة يطرح بنظري الإشكاليَّة الأخطر والتحدي الأكبر أمام الدين، لأنَّ الكتب المنزلة جعلت الحقيقة مقصد الأديان التوحيديّة الرئيس. وبالتالي، فإنّ مثل هذا الفصل لا يضرب فرعًا من فروع الدين بل أصلًا من أصوله.
بالطبع، ليس ههنا المكان للخوض في أسباب نشوء هذه الإشكاليَّة ونتائجها وأبعادها. فغرض هذا البحث هو إظهار أصالة العلاقة الموجودة بين الجانب الإنساني للدين (أي المعرفي والإيماني والمسلكي) وطبيعته العاقلة بوجهٍ عام، وليس بالجانب المعرفي أو الإدراكي منها حصرًا؛ وذلك من خلال تقديم تحليل مُركَّز للخطاب القرآني الذي جعل هذه الطبيعة مَرْكَزًا للهويّة الإنسانيّة ولأهمّ الأعمال الروحيّة المتَّصلة بجوهر التحقيق الديني، وأقصد المعرفة الإلهيّة والإيمان والأعمال الصالحة. وكيف أنَّ الخطاب القرآني، وانسجامًا مع هذا الاتجاه، جعل الدين دليلًا فعَّالًا لتحقيق الكمال الخاص بهذه الطبيعة الإنسانيَّة العاقلة بما يتضمَّنه من إرشاد معرفيّ ومسلكيّ يهدف إلى حفظها وتنميتها.
غرض كهذا يفترض إظهار مقاربة الخطاب القرآني للذات الإنسانية والحالة الوجودية المختصة بها: طبيعتها الخاصة وعلاقتها بالخالق وعلاقتها بالرسالة الإلهيّة المتمثّلة بالنص الموحى، وعلاقتها بالإرادة الإلهيّة والتي يفترض أن تتمظهر في السيرة الموافقة (أو “الطائعة” بالمصطلح الديني)، ولدور العقل من حيث هو القوة الإدراكيّة الخاصة بفهم حقائق الوجود وغيرها من الموضوعات التي تتفرع عنها أو تتصل بها. ولضيق المجال، سأعمد إلى الاقتصار على تقديم الأفكارِ الرئيسة التي تُبرز العلاقة الوثيقة بين الدين والعلم وبين الإيمان والعقل، واستحالة الفصل بينهما، وإظهار الحجج التي أستند إليها في تحقيق هذا الغرض.
وقد تقصَّدت باختيار عبارة “الخطاب القرآني” في العنوان إبراز المنهج الذي سأتّبعه في إظهار ما يقوله الكتاب المنزل عن مفهوم العقل وعلاقته بالدين والإيمان. ويقوم هذا المنهج على تتبُّع المفردات التي تتصل بـ”العقل” بما هو قوة إدراكيّة بوجه خاص وتلك المتّصلة بالطبيعة العاقلة للإنسان بوجه عام ودراسة الروابط المعنويّة (من معنى) والوظيفيّة التي يبنيها الخطاب القرآني فيما بين هذه المفاهيم والمفردات نفسها وفيما بينها وبين مفاهيم ومفردات أخرى تتصل بالعلم والمعرفة والإيمان وغيرها. ويندرج هذا المنهج ضمن التفسير العقلي للنص القرآني لكونه يقاربه باعتباره نصًّا يُقدِّم مفاهيم واضحة ومُتّسقة عن الموضوعات التي تندرج فيه، ومن ضمنها العقل وعلاقته بالدين والإيمان، ويتقصَّى معاني الآيات وغاياتها لا من خلال المأثور والخبر (أي النقل) بل بتحليل النصّ تحليلًا عقليًّا ممنهجًا.
سأبدأ البحث بعرض موجز لنموذجَين بارزَين لمقاربة هذا الموضوع من التراث الإسلامي، وهما ابن رشد والغزالي، وإظهار أهمّ أبعاد نظرتهما إلى المسألة. ثمَّ أقدِّم عرضًا مُركّزًا ومختصرًا لأهمّ ما تفسّره المعاجم التراثية الرئيسة عن معاني العقل لأنتقل بعدها إلى الغرض الرئيس للبحث فأعرض أولًا لعلاقة العقلِ بالهُوية الإنسانيّة، ثمَّ علاقته بالنص المنزل من حيث هو قوة الإدراك المختصّة بالحق الذي هو غاية الوحي، ومن ثمَّ علاقة الرسالة النبوية بالعقل والطبيعة العاقلة، وعلاقة الطبيعة العاقلة بالسيرة الإنسانيّة والمصير الروحي الموعود للمؤمنين.
ويهدف هذا البحث إلى تقديم صورة مختلفة، وربما مناقضة، لتلك المألوفة في أيامنا هذه عن الموضوع. وأعتقد أنَّه من المفيد للدراسات الإسلاميّة خاصةً والدينيّة عامةً إعادة الإضاءة على العلاقة العضويّة بين الاختبار الدينيّ والحالة الإنسانيّة بطبيعتها العاقلة بالعودة إلى النص الديني الأصل ودراسته بمعزلٍ عن الأطر المألوفة في التراث الإسلامي والقيود المنهجيّة والمفاهيميّة التي يشتمل عليها لما قد يساهم ذلك في فتح آفاق جديدة للأبحاث المرتبطة بالموضوع ذاته بوجه خاص والدراسات الدينيّة والقرآنيّة بوجه عام. ومن شأن دراسة كهذه أيضًا أن تقدِّم منظورًا مختلفًا للإنسان المعاصر الذي يبحث عن أطر عقليّة لفهم حقيقة العلاقة القائمة بين العلم والدين والعقل والإيمان بعيدًا عن الخطاب الديني التقليدي من جهة والمقاربات الحديثة، التصالحية منها أو الصدامية، من جهة أخرى، وذلك بتقديم مادة علميّة متّسقة ومفهومة للتفكُّر بالموضوع بأبعاده المتعدّدة في وقت بات يُشكل فيه تطوُّر العلوم الطبيعية والمناهج الاختباريّة على أنقاض المعتقدات الدينية الموروثة أحد أبرز التحديات التي تواجه استمرارية الدين في المجتمعات المدنيّة الحديثة، وينحو العالم فيه أكثر فأكثر إلى التفريق بين الدين والعقلانية وإلى مقاربة التجربة الدينية بافتراضها حالة عرضيّة على السيرة الإنسانيّة بعمقها التاريخي المديد.

نموذجان بارزان من التراث الإسلامي
درج الباحثون في العصر الحديث على مقاربة علاقة العقل بالدين والإيمان في التراث الإسلامي من خلال ما كتب مُفكران إسلاميان معروفان من العصر الوسيط عن الموضوع، وهما القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد (ت. 595هـ/1198م) والإمام حجّة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت. 505/ 1111م). ويُقَدَّم الأول على أنَّه يُمثِّلُ المنحى العقلي في التفسير والتشريع الديني وصديق للفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية، ويُقَدَّم الثاني على أنَّه النقيض الذي يُمثِّل المنحى التقليدي ومناهض للعقل والفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية عامةً. وسأقدّم في ما يلي عرضًا مختصرًا لمقاربتي ابن رشد والغزالي لإظهار أهم معالمهما والإشكاليّة الرئيسة التي تصدَّيا لها كنموذجين لما هو مألوف عن الموضوع في التراث الإسلامي، بهدف توضيح الخلفيّة الجدليّة للموضوع من جهة، ولبيان جدّة المقاربة التي يتضمنها هذا البحث من جهة أخرى.

مقاربة ابن رشد
خصَّص ابن رشد كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال لتوضيح أنَّ الشرع الإسلامي وخاصةً النَّص المنزل لم يُجِز استخدام المناهج العقليّة في تفسير الكتاب والعلوم الدينيّة وحسب، بل دعا إلى إعمال العقل في فهم الدين والوجود عامةً، وأوجب ذلك على المسلمين في كثير من آيات الكتاب المنزل. وقد بيّن ذلك في مقدمة كتابه المذكور، حيث قال:
فأمَّا أنَّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلّب معرفتها به، فذلك بَيِّن في غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر/2). وهذا نصّ على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا. ومثل قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ (الأعراف/185). وهذا نص بالحثّ على النظر [العقلي] في جميع الموجودات (2).
غير أنَّه عاد وحَصَر جواز استخدام النظر العقلي سواء أكان في تفسير الكتاب أم في دراسة العلوم الدينيّة الأخرى بنوع خاص من الناس، وهم الذين يصلون إلى التصديق بالحقائق عن طريق البرهان، أي بواسطة العقل. فقد استنتج ابن رشد أن النصَّ القرآني قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام وفق طرق التصديق التي توافق طباعهم:
إنَّ شريعتنا هذه الإلهية حقّ وإنّها التي نبّهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله ومخلوقاته، فإنَّ ذلك مقرّر عند كلّ مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلّته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدّق بالبرهان، ومنهم من يصدّق بالأقاويل الجدليّة… ومنهم من يصدّق بالأقاويل الخطابيّة (3).
وقد بنى ابن رشد استنتاجه هذا على “تضمُّن شريعته طرق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/125)” (4). ووفقًا لتفسيره للآية المذكورة، فإنَّ كل طريقة من طرق الدعوة المذكورة فيها – أي الحكمة والجدل والوعظ – توافق طبعًا من طباع الناس في طرقهم في التصديق؛ وإنَّ الحكمة هي الطريقة الموافقة لطبع من يصلون إلى التصديق بالبرهان من دون غيرهم. ويحقّ لهؤلاء فقط، بل هو واجبٌ عليهم، أن يعتمدوا المنهج العقلي في تفسير الكتاب المنزل وتأويل الظاهر اللامعقول منه وفي فهمهم للوجود.
ثمَّ أشار ابن رشد إلى أنَّ تناقض ظاهر الآيات مع أحكام العقل هو دليل لأصحاب طريقة البرهان على وجوب تأويل تلك الآيات للوصول إلى المعنى الموافق للعقل (5) . من هنا، يظهر لنا أمران: الأول، أنَّ العقل وأحكامه يشكلان مرجع الحقيقة الأوّل لأصحاب طريقة البرهان، أي أنّ حُكم العقل عندهم يعلو حكم الشَّرع لأنَّ الدليل على وجوب استعمال منهج التَّأويل لفهم معاني الآيات هو تعارض ظاهرها مع أحكام العقل. فعند وقوفهم في الكتاب المنزل على معنى ظاهر يتعارض مع أحكام العقل يجب على أصحاب طريقة البرهان تأويل الآية بحثًا عن معنى خفيّ معقول يكون سبيلًا لهم إلى إصابة المعرفة والتصديق بحقائق الوحي. أمَّا الأمر الثاني فهو أن بقيّة الناس، وهم الأكثرية، يجب عليهم الأخذ بالظاهر اللامعقول كما هو، بالرغم من تناقضه مع أحكام العقل.
إذًا، حصر ابن رشد مقاربته للموضوع بتبيان إجازة الشرع لاستخدام النظر العقلي والمناهج العقلية في دراسة العلوم الشرعيّة وفهم حقائق الوجود، وإظهار وجوبه لقلّة من الناس؛ ولكنّه لم ينفِ وجود سبل أخرى لا تشترط إعمال العقل وتطبيق أحكامه لتحقيق هذا الغَرَض. فابن رشد لم ينف قدرة الناس الذين ينتمون إلى النوعَيْن الآخرين – أي الجدليّين والخطابيّين – على الوصول إلى معرفة الله والإيمان والتصديق به، وتاليًا تحقيق شروط نيل السعادة الأبديّة بالرغم من عَجْزهم عن فهم المعاني المعقولة التي يصل إليها أهل البرهان من خلال تأويل الظاهر اللامعقول. وقد جزم ابن رشد بأنَّه يُمكن للجدليّين والخطابيّين الوصول إلى الإيمان من خلال التصديق بالظاهر ولو كان لاعقلانيًّا عندما أوجب منعهم من قراءة التأويلات البرهانية للظاهر اللامعقول وإلزامهم الوقوف عليه والتصديق به، لأنّ هدمه لهم عبر التأويل يؤدّي بهم إلى الكفر:
وهذا التأويل ليس ينبغي أن يُصرَّح به لأهل الجدل فضلًا عن الجمهور (أي الخطابيين). ومتى صرّح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، وبخاصّة التأويلات البرهانية لبُعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر. والسبب في ذلك أنَّ مقصوده إبطال الظاهر وإثبات المؤول، فإذا بَطَلَ الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤوَّل عنده، أدَّاه ذلك إلى الكفر، إن كان في أصول الشريعة (6).
كلام ابن رشد هذا في غاية الوضوح، فهو يقول إنَّ المعنى العقليّ الناتج من التأويل يُبطل المعنى الظاهر المنافي لأحكام العقل، وإنَّ الجدليين والخطابيين يعجزون عن إدراكه لعجزهم عن إدراك المعاني المعقولة. وإنَّ حفظ إيمانهم وحقّهم بالسعادة الأبدية يشترط منعهم من التعرُّض للمعنى المؤوَّل لأنَّه معنى عقليّ يبطل المعنى الظاهر. فإذا هُدِم لهم الظاهر بتأويله أنكروه، وبعجزهم عن المعنى العقليّ لا يصلون إلى الحقيقة فيخرجون إلى الكفر. وهذه نقطة إشكاليّة في مقاربة ابن رشد. فكيف يمكن أصحاب طريقة البرهان أنفسهم القبول بهذه المقولة، وفي رأيهم أنَّ ما ينافي أحكام العقل هو باطل؛ فكيف يجوز أن يكون التصديق بالباطل سبيلًا إلى معرفة الله ونيل السعادة الأبديّة؟ للأسف، لا يجد الباحث في كتاب فصل المقال جوابًا عن هذا السؤال المشروع. وسيظهر لاحقًا في سياق هذا البحث أنَّ الخطاب القرآنيّ لم يُشر إلى سبيل آخر غير العقل طريقًا لفهم حقائق الوحي وتحقيق الإيمان والوصول إلى النجاة والفوز بالسعادة الأبديّة.

مقاربة الغزالي
بالرغم من التباين الموجود بين موقف ابن رشد تجاه علاقة العقل بالشرع وموقف الغزالي، فإنَّ الأخير قارب هذه المسألة أيضًا من باب الحُكْم ما إذا كان العقل هو الأداة المعرفيّة أو القوّة الإدراكيّة التي تُدرَك بها حقائق الشَّرع والوجود، أم تلك الحقائق تُدرك بأداة أخرى غير العقل وأعلى منه. وقد قسَّم الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أطوار الإدراك التي يدرك الإنسان فيها أنواع الموجودات إلى أربعة: الحسّ والتمييز والعقل وعين النبوّة (7) . وفيما يكتسب عموم الناس الحواسّ في سنّ مبكّرة، ثمّ يكتسبون بعدها التمييز في سنّ السابعة ومن ثمَّ العقل عند البلوغ، لا يقدر على أن يكتسب عين النبوّة إلَّا القليل منهم، وهم الذين يسلكون مسالك الزهد وتنقيَة القلب من كلّ ما هو سوى الله. ويشرح الغزالي عن طور العقل وعين النبوّة، فيقول:
ثمّ يرتقي إلى طور آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورًا لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر فيها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأمورًا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوّة التمييز عن إدراك المعقولات (8).
إذًا، عين النبوّة هذه هي بحسب الغزالي أداة المعرفة التي تُدرك الحقائق المخفيّة عن الوجود، والتي يسمّيها خواصّ الأشياء. ويضيف الغزالي العبادات الدينيّة بفروعها الإيمانيّة والمعرفيّة والمسلكيّة – وبالتالي حقائق الوحي – إلى نوع الموجودات الغيبيّة التي لا تُدرك إلَّا بعين النبوة ويعجز العقل تاليًا عن إدراكها. ثمَّ إنَّه جعل هذه العبادات أدوية للأرواح اللطيفة وحياة لها. غير أنَّه لم يربط بين صحّة هذه الأرواح وسلامتها وبين الطبيعة العاقلة، بل ربطها بمعرفة الله والطاعة له والرغبة في طلبه. وبما أنَّ الله من الغيب، فإنَّ معرفته هي فعل عين النبوة بالأصالة، وفعل العقل بالمداورة وذلك بتعلّمها عن الأنبياء والأولياء والتصديق بها. لذا، فإنَّ العقل لا يقدر على الوصول إلى معرفة الله بقدرته الذاتيّة، بل يصل إلى هذه المعرفة باقتباس المعارف الدينية التي يصل إليها الأنبياء والأولياء بقدرة عين النبوة التي تنفتح لهم كما ذكر أعلاه نتيجة الزهد والإخلاص بمحبة الله ومخالفة الأهواء وتصفية القلوب، وبقبول هذه المعارف كما هي. ويقول الغزالي في هذا معنى:
وكما أنَّ أدوية البدن تؤثّر في كسب الصحّة بخاصيّة فيها لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل (9)، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء الذين اطّلعوا بخاصيّة النبوة على خواصّ الأشياء، فكذلك بان لي، على الضرورة، أنَّ أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدّرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواصّ بنور النبوة لا ببضاعة العقل.
ويعتبر الغزالي أنَّ أيّ محاولة لفهم خواصّ العبادات ومقاديرها وحدودها بعين العقل هي ضرب من ضروب الحمق والجهل لأنَّ العقل أعمى عن تلك الخواصّ ويعجز عن فهمها لأنّها من اختصاص عين النبوة:
فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب، مركّبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إنَّ السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ، ولا يخلو عن سرّ من الأسرار، هو من قبيل الخواصّ التي لا يطّلع عليها إلّا بنور النبوّة. ولقد تحامق وتجاهل جدًّا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة، أو ظنَّ أنّها ذكرت على سبيل الاتّفاق لا عن سرّ إلهيّ فيها يقتضيها بطريق الخاصيّة (10).
إذًا، من يحاول إدراك خواصّ العبادات بالعقل عن جهل منه بعجز العقل عن إدراكها، سيقوده ذلك الجهل إلى استهجان تلك العبادات وإنكار وجود خواصّ فيها تشفي القلوب من الأمراض الدينيّة. فلجهله السبب الحقيقيّ لعجز عقله عن إدراك خواصّ العبادات، يظنّ أنَّ ذلك دليل على عدم وجود تلك الخواصّ (11). ولكن، وبما إنَّ خواصّ العبادات وحدودها ومقاديرها تُدرك فقط بعين النبوة لا بنور العقل، لا يبقى للعقل بنظر الغزالي خاصيّة ولا فائدة إلَّا تمكين المؤمنين من فهم صورة العبادات – أي التعاليم والأعمال والشعائر إلخ – وشروطها، وإدراك عجزه عن معرفة خواصّها، ومن ثمَّ تفسير سبب عجزه عن إدراكها للمؤمنين؛ وهو أنَّها تقع خارج دائرة نظره. ويوضّح الغزالي خاصيّة أخرى للعقل وهي إقناع المؤمنين بضرورة التسليم للأنبياء والأولياء فيما يعلّمونه للناس عن تلك العبادات لكون هؤلاء قادرين على إدراك خواصّها بعين النبوّة. ويصل الغزالي إلى غاية احتجاجه هذا ليقول إنَّ وظيفة العقل هي أن يهدي المؤمنين إلى ضرورة الاتّباع والتقليد الأعمى للأنبياء والأولياء في أمور الدين والعبادات:
وعلى الجملة فالأنبياء أطبّاء أمراض القلوب، وإنّما فائدة العقل وتصرّفه إن عرّفنا ذلك، ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة، وأخَذَ بأيدينا وسلّمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيّرين إلى الأطبّاء المشفقين، وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عمَّا بعد ذلك، إلّا عن تفهّم ما يلقيه الطبيب إليه (12).
ويبدو أنَّ الغزالي حرص على الانسجام بتفكيره مع مقولته هذه، فذكر مباشرة بعدها أنَّه وصل إلى هذه النتائج عن خواصّ العقل بواسطة عين النبوة وليس بالنظر العقليّ، حيث قال: “فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة، في مدّة الخلوة والعزلة” (13) ؛ والمشاهدة المذكورة هي فعل عين النبوّة.
إذًا، وكما سبق أن ذُكر، يتبيّن من التحليل المدرج أعلاه أنَّ الغزالي قد حصر علاقة العقل بالدين والشرع في المجال المعرفيّ والإدراكي، وجعله خادمًا للتقليد والاتّباع الأعمى للأنبياء والأولياء، يعجز عن إدراك خواصّ الموجودات جميعًا، سؤاء أكانت روحيّة، مثل النفس وأمراضها وأدويتها من العبادات، أم طبيعيّة، مثل أحوال البدن وأمراضه وأدويته ومثل الأفلاك. وبالتالي، عزل الغزالي الدين والشرع عن أحكام العقل وجرّده من أهليّته للحكم على مسائل الشرع، وأعطاه دور التابع الأعمى لعين النبوّة.
وإذا ما قارنَّا بين غاية ابن رشد من كتابه فصل المقال وغاية الغزالي من المنقذ من الضّلال نرى فارقًا مهمًّا يمكن تفسيره على النحو التالي: حاول ابن رشد أن يجد للعقل من حيث هو قوة إدراك الحقّ مكانًا أصيلًا وشرعيًّا في الدِّين، وجعل تعارض ظاهر الشرع مع العقل إرادة إلهية مقصودة تهدف إلى تنبيه أصحاب الطباع العقليّة التي تبني التصديق على البرهان إلى ضرورة تأويل هذا الظاهر اللاعقلاني سبيلًا للوصول إلى الحقائق العقلية الخفيّة. أمَّا الغزالي فلم يكن يرى من ضرورة للتوفيق بين العقل والشرع، كما لم يرَ إشكالية في تعارض ظاهر الشرع مع العقل، ولم يعتبر أنّ ذلك يضرب مصداقية الشرع؛ بل على العكس، رأى فيه تفوُّق الشرع وعجز العقل عن معرفة الحقائق. ويشرح الغزالي فهمه لموقف بعض العقلاء من الآيات ذات الظاهر اللاعقلاني في الشرع على النحو التالي: “وكما أنَّ المميّز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها، فكذلك بعض العقلاء أبى مدركات النبوة واستبعدها؛ وذلك عين الجهل، إذ لا مستند له إلَّا أنَّه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه فظنَّ أنَّه غير موجود في نفسه”(14) . قَبِلَ الغزالي إذًا احتمال أن يكون بعض الشرع مناقضًا لأحكام العقل من دون أن يجعل لذلك التناقض فائدة عقليّة كما ذكر ابن رشد، وتفهّم استهجان العقلاء منه وإنكارهم إياه؛ غير أنَّه رأى في ذلك كلّه إثباتًا لعجز العقل ومحدوديّة قدرته! وسيتبيّن لاحقًا عدم انسجام مقولات الغزالي هذه مع الخطاب القرآني عن العقل ودوره في الدين والعبادة الروحيّة.

(يتبع لاحقاً جزءٌ ثانٍ)

الزيّ الديني عند الموحِّدين والموحِّدات الدروز

إنَّ استعمالنا لكلمة “الزيِّ الديني” يجب أن يفهم بمعناه الثقافي والتراثي، لأنَّ الموحّدين الدروز السالكين في معارج الحق هم جماعة من العابدين والزُهَّاد الأحرار الذين لا يتبعون إلى رهبانية أو ما يشابهها من المؤسسات والسلطات التي قامت في العديد من الأديان، وبات لها هرميتها وتراتبيتها وامتيازاتها. وقد نشأ الموحَّدون الدروز كسالكين يهتدون بهدي العارفين من كبارهم وزُهادهم، الذين لا يبتغون من هذه الدنيا سوى مرضاة الله والالتزام بوصاياه والتقرُّب منه بالعبادة والذكر الدائمين.

 

أما “الزيّ الديني” فقد تطوَّر من الأساس ليس ليمنح عُقَّال الدروز والطالبين منهم موقَّعاً خاصاً على غيرهم، ولا ليشير إلى مكانة دنيوية أو سلطة على العباد، بل ليقدِّم أوضح دليل على مجافاتهم لمباهج الدنيا وبهارجها وتحمُّلهم لمشقَّة ارتداء الخشن من الثياب وأسود اللون منها ورفضهم التزيُّن، أو استخدام الذهب أو الفضة أو غيرها. كما إنَّ قيافة السلوك بين العُقَّال واحدة ولا يستحبّ لأيِّ منهم أن يبالغ في نوع القماش أو الهندام بغية أن يرفع نفسه على الآخرين، وهذا ما يقوي فيهم روح الزُهد والخضوع لله والتساوي والأخوة والتواضع في السلوك.

برغم ذلك فإنَّ اتساع جماعة العُقَّال وتنوّع مداركهم ومراتبهم في السلوك، وَلَّد مع الوقت توجُّهاً لترجمة هذا التمايز في السلوك والمقام الروحي ببعض العلامات البسيطة التي تمثِّل إعترافاً بفضل أهل العلم والصلاح، وإصراراً من عامة الموحِّدين على تقدير مشايخهم من أصحاب المقامات الروحية أكثر ممَّا تمثِّل اتجاهاً أو قبولاً بخلق تراتبية كهنوتية من أي نوع.

وتعرف طائفة الموحّدين الدروز أكثر ما تُعرف بأزياء مشايخها ونسائها المتديّنات، وهي أزياء كما يتضح لها جذورها في المجتمع المشرقي الإسلامي، وإن كانت قد اتخذت خصوصيتها الثقافية ربما بتأثير تطوُّر المجتمع الدرزي كمجتمع جبلي وزراعي، بل يمكن القول إنَّ قسماً مهماً من لباس الموحِّدين الأجاويد يعود في جذوره إلى القرون السابقة ربما كان يشترك في بعضه (الشروال والصدرية المزررة وحتى العمائم) جمهور الموحِّدين، لكن التطوّر الذي شهده المجتمع في ما بعد _ وبتأثير دخول التقاليد الغربية والثقافات العصرية _ زايد الفارق في لباس العُقَّال وبقية المجتمع الدرزي إذ تمسَّك الأجاويد السالكين منهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساء بتراث الأجداد وأدب المظهر حشمة وتقشُّفاً، فنشأ بذلك هذا التمايز الذي نراه اليوم.

تمييز المشايخ التُقاة في زيِّهم جاء اعترافاً بفضلهم وتكريماً لهم، ولم يستهدف في أي حال خلق تراتبية كهنوتية من أيِّ نوع

يُعرَف “الأجاويد” الموحّدون، أي الملتزمون، بارتدائهم الزيّ الديني وحلاقة شعر الرأس. أمّا اللباس فيتألَّف، في الغالب، من السروال والقميص أو “القمباز” أي القِباء، وفوقه الجبّة أو العباءة التي تُرتدى في المناسبات، وغالباً ما يكون الأسود هو اللون المعتَمد، في إشارةً إلى الزهد الذي طبع حياةَ المتديّنين، وربما على سبيل الابتعاد عمَّا ساد المجتمعات المشرقية في مراحل الازدهار والبحبوحة من تباه بالألبسة المزركشة ومظاهر الجاه. علماً أنَّ بعض الأجاويد يُفضّلون اللون الكحلي الداكن، بينما يختار الآخرون ألواناً خاصة للعمل مثل: اللون الزيتي، أو الأسمر الفاتح (العسكري). وأمّا الأكيد، وفي جميع الحالات فهو البساطة المعتمدة في الزيِّ وعدم التزيُّن واعتماد الألوان، قاصدين أنَّ يكون الهدف من الزيّ السترة وتأكيد الزهد والتواضع والتساوي.

كما أنَّ زيّ المرأة الموحِّدة “الجويّدة”، يتألّف من التنورة السوداء، وأحياناً الكحلية الفضفاضة الطويلة حتى محاذاة الكعبين، والقميص اللائق غير الشفاف وطويل الكمّين، والمنديل الأبيض الكبير الذي هو حجابٌ يغطي الرأس والصدر والظهر والفم بل والأنف أيضاً لدى بعض المتورّعات التقيّات، وهذا ما يُسمّى “اللَّثمة” أو “الستحة” بحيث لا تظهر المرأة الموحِّدة إلاَّ عينيها. كما لا يُستحَبُّ  اعتماد ألوانٍ أخرى أو التفنّن بترتيب الزيّ وهندمته، ولكن يجوز عند بعض النسوة أو الفتيات تخفيف المنديل طولاً وعرضاً وسماكة، مع الالتزام باللون الأبيض وتغطية الشعر. بعض النسوة، اليوم، يضعن المنديل الأبيض الصغير كشعارٍ، ومنهنّ من يضعنه في مناسبات الأتراح فقط، ولكن، ما يُشدّد عليه المشايخ، في كلّ حال، هو “أنّ زيَّ الموحّدين والموحّدات يجب أن يراعي شروطاً ثلاثة هي: الحشمة والسترة، البساطة والزهد، النظافة والترتيب

مؤسسة العرفان التوحيدية، تعرّف إلى مذهبك، ص 48.

الأمير السيد شدَّد دوماً على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّدين

لقد كانت السلطات الدينية والزمنية الإسلامية تتدخّل، غالباً، للحفاظ على الأزياء، وشدّد الأمير السيّد التنوخي على احتشام المرأة في لباسها، وعلى ضرورة تقيّدها بالقواعد الدينية… حتى أنّ

مشيخة العقل تصدّت مرّاتٍ عدّة لأمر اختلاط النساء بالرجال وتزيّنهنّ بالأزياء الأوروبية الحديثة ” المُخلّة بالآداب”، والسفور عن الوجوه، موجّهةً ومحذّرةً من تفشّي الخلاعة.. إذ في ذلك غضب الله تعالى والحرمان الديني. وهذا ما يُشدّد عليه “الأجاويد” دائماً”، مع التأكيد على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّد، دون أن يغلب أحدهما الآخر، فيتحوّل الدينُ تحجّراً ورياءً، أو يغدو تساهلاً ويُسراً خاضعاً للأهواء والمغريات.

فصول من العادات والتقاليد في جبل لبنان، حسن البعيني، ص 211، (بتصرّف).

أمّا المشايخ الموحِّدون فيرتدون العباءات السوداء في المناسبات، وبعضهم يرتديها حتى في محيطه القريب محافظاً على الطابع الرسمي لكونه شيخاً، وهي على 3 أنواع:

  1. العباءة السوداء: يلبسها معظم رجال الدين في مناسباتهم الاجتماعية. وهي قصيرة الأكمام مفتوحة الصدر، تنتهي تحت الركبتين بقليل.
  2. العباءة الحمراء المقلَّمة بخطوط بيضاء عمودية: وهي قصيرة تصل الى تحت الخصر، ويلبسها غالباً كبار السن من رجال الدين.
  3. العباءة البيضاء المقلّمة بخطوط سوداء عمودية: وهي قصيرة أيضاً، ولا يلبسها إلاَّ من يجتمع رأي المشايخ على أن يرتديها في حال رأوه أهلاً لذلك، وفقاً لدقّة مسلكه وإخلاصه في

عبادته، فيكون واحداً من المشايخ القدوة في منطقته أو على مستوى الطائفة”ز

كذلك، يعتمُّ الرجالُ بالعمامة البيضاء، وتُعرف أيضاً باسمٍ آخر هو “اللفّة”، باعتبارها قبّعة ملفوفة بنسيج، وهي مؤلفة من طربوش أحمر يلفه كليّاً وبطبقات رقيقة القماش الأبيض، سوى سطحه، وقد “كانت العمامة معروفة وذات أهميّة عند العرب، اقترن مصيرهم بها، وقد جاء في الحديث الشريف “العمائم تيجان العرب” وقيل أيضاً يبقى العرب ما بقيت عمائمهم،… وكان الخليفة العباسي المتوكّل أول من أحدث تمييزاً في العمائم، فجعل البيضاء والخضراء للمسلمين، والصفراء لليهود، والكحليّة (الزرقاء) للنصارى”[2]وتغيّرت الألوان بتغيّر العهود. وتقترب عمامة الموحّدين من عمامة شيوخ الأزهر مع بعض الاختلاف في عدم بروز سطح الطربوش الأحمر عن مستوى “اللفّة البيضاء”.

يعتمر العمامةَ معظمُ المشايخ الملتزمين، بحيث لا تفارق رؤوسهم سوى أثناء العمل لتحلّ مكانها “العرقية” أو “القلنسوة” البيضاء أو “الحَطّة” التي هي شبه المنديل الصغير الأبيض (معتمَدَة في مناطق راشيا وحاصبيا، كما في سورية)، والتي يُمكن أن تُوضع، كذلك، فوق العمامة، والغاية من ذلك أن لا يبقى الرأس دون غطاء، وهذا تقليدٌ إسلاميّ قديم.

أمّا العمامة “المدوّرة” أو “المكولسة”، أو “اللفّة المدوّريّة”، فتخصّ البارزين في التقوى من أركان المرجعية الروحية أو الهيئة الروحية العليا، كما بات يُعرَف اليوم، أو من المشايخ المشهود لهم بورَعهم وتقواهم، “وقد تراوح عدد المعمَّمين بها بين قلّةٍ وكثرة، فوصل إلى حوالي الأربعين في أواخر القرن التاسع عشر”، بينما مرّت فتراتٌ لم يكن فيها من المعمّمين سوى شيخٍ واحد أو اثنين أو ثلاثة، امّا اليوم فهم أربعة فقط، “ولابسو هذه العمامة يتحوّلون محجّة ومرجعاً لأخوانهم من رجال الدين، كما يعود إليهم رجال السياسة في المواضيع المهمّة والأزمات الصعبة والقضايا المصيرية. ومن المعروف أنَّ معظم من لبس هذه العمامة  لم يرضَ أن يُعمّم بها إلاّ بعد إلحاحٍ شديد من المشايخ، وذلك من قبيل الزهد والتواضع، ولم يُخالف هذه القاعدة إلاّ قلائل جدّاً ممّن رغبوا باعتمارها، أو ممّن لبسوها عن يد مَن ليس مُعمَّماً بها، وهذا الأمر يُعتبَر استثنائياً وغير مُستَحبّ.

من جهةٍ أُخرى، يقتدي الأولاد بأهلهم، عادةً، في ارتداء الزيّ، فيلبس الولد السروال، ويُسمّى “الشروال”، “والعرقية” البيضاء على الرأس، وتلبس البنت الرداء الطويل والمنديل الصغير الأبيض، منذ سنِّ مبكّرة، ويُفضَّل عدم تعويدهم على الألوان المزركشة والملابس الفاخرة، حتى إذا بلغ الولد فيختار إمّا الاستمرار في الالتزام بالزيّ الديني ومسلك أهله، أو التخلّي عن الزيّ، ومنهم من يبقى ملتزِماً سلكه الديني، وإن لم يظلّ مرتدياً الزيّ بشكلٍ دائم.

 (نصّ مقتطف من رسالة جامعية للشيخ سامي أبي المنى، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وأمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية – 2009)

 

النَّفسُ في مُحاورة «فايدروس» الأفلاطونية عَربَةٌ تُحلِّق بالحكمة والفضيلة إلى الملأ الأعلى

لَطالما كانت النّفسُ البشريّة مِحورَ كلّ فكرٍ فلسفيّ توّاق إلى استجلاء حقائق الوجود وعظمة خلق الإنسان، ولَطالما حيَّرَت العقول وباتت معرفةُ حقيقتها مفتاحاً لمغاليق المعرفة بجميع نواحيها، كما يختصرها قول سقراط “إعْرَفْ نفْسَك”. وفيما يتناول الباحثون محاورة “فايدروس” (Phaedrus) الأفلاطونية على الأغلب من خلال معالجتها لمفهومَيِّ “الحُبّ” (Eros: ἔρως) و”الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فضلاً عن نقد أساليب الفنّ والخطابة المفتقدة للحكمة، فإنّ مفهومَ “النّفْس” (psyche: ψυχή) كما صوَّره أفلاطون في قِصّته الرمزية عن “عَربَة النّفس”، هو لا ريب المَنْهلُ الرئيسي لكلّ النظريات الفلسفية والسيكولوجية حول النفس البشرية، وسُبُل تطهُّرها، ورُقيِّها، وتحقُّقها الصوفي الرُّوحاني (Henosis: ἕνωσις)، فضلاً عن كونه يُمثِّل العقلانية والبُعد الأخلاقي لدى أفلاطون و”الحماسة” في انتهاج الحياة الرُّوحية الدينيّة بكلّ حكمة واتّزان، بعيداً عن أيّ انغماسٍ مادي حِسّي وشهويّ، أو اندفاعٍ عاطفي غضبي.
كتبَ أفلاطون محاورة “فايدروس” بعد محاورتَي “الجمهوريّة” (The Republic) و”المأدُبة” (Symposium) كما يتبدّى بوضوح من الاقتباسات الواردة فيها، فيما تُحدِّدُ الخاتمةُ المنطقيّة (Epilogue) للمحاورة على لسان سقراط الصّلةَ في ما بين محاورة “فايدروس” والمحاورات التي تلتها لاحقاً، على غرار “بارمينيدس” (Parmenides)، و”السفسطائي” (Sophist)، و”السياسي” (Statesman)، و”فيليبوس” (Philebus).
يرافق الفيلسوفُ سقراط في مستهلّ المحاورة الشابَّ الأثينيَّ فايدروس إلى وادٍ خلّاب خارج أثينا، يُبدِعُ أفلاطون في وصفه، ومستهِلّا حواراً حول فن الخطابة وما قاله الخطيب الشهير ليسياس (Lysias) عن مفهوم “الحُبّ” (Eros: ἔρως) ومن ثمّ “الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فيؤكّد سقراط أنّ هذا الخطيب يفتقد إلى الحكمة وأنّ الحُبّ، خلافاً لمفهوم ليسياس السّلبي، هو “نعمة إلهية” ترقى بالمُحِبّ إلى الخير الأسمى وإلى التّحقُّق الصوفي الرُّوحاني، ويُعِينُ النفسَ على تذكُّر الجمال العُلوي والسُّمو إليه من جديد، وهو ما يُدرِكهُ حقّاً كلُّ مُحِبٍّ للحكمة.

الحُبّ والجمال وارتقاء النفس وسقوطها
من ثمّ يستعرض أفلاطون على لسان سقراط أبعادَ مفهوم الحُبّ الفلسفي أو “الحُبّ عند الفيلسوف” بكونه، بمنأى عن الحُبّ الجسدي، قوّةً تحثُّ على حُبّ الحكمة، أي الفلسفة، هذه القوّة التي ربّما تدفع الفيلسوف إلى مغادرة “ظُلمة الكهف” كما ورد في محاورته “الجمهورية”، تَحَرُّراً وانطلاقاً نحو النور. وبموازاة مفهوم الحُبّ، يتحدّث أفلاطون على لسان سقراط عن مفهوم “الجَمَال” (κάλλος) (وتجمع الكلمة في اليونانية ما بين الخير والجمال وهو ما يُشدِّد عليه سقراط دائماً)، تلك القوّة التي تدفعنا للرُّقي إلى الملأ الأعلى وتجعل النفوس تعود تَوْقاً إلى مصدرها بطاقة الحُبّ، فهذا الجمال إنّما يحثُّ على الفضيلة، شأنُه في الإغراء على الرذيلة، وهنا تعيش النّفس البشريّة صراعاً ما بين الجمال والحُبّ العُلوي الطاهِرَين، وحُبّ الجمال الجسدي المادّي السّفلي، ما بين ذلك الطابع المقدَّس اللطيف العُلوي، وتلك الطّبيعة المادية الكثيفة الدنيا.
وفيما يَحْسُن بذي الحكمة أن يتفادى الجَمَال الجسدي لتحقيق السَّكِينة في النفس والاقتراب من الفضيلة، فإنّ الفيلسوف برؤيته للجَمَال بحقيقته العُلوية المقدَّسة ما فوق الجَمَال الأرضي الحِسّي إنّما يُحلِّق بأجنحة فضيلته وحكمته فوق المُتَع الحِسّية على هذه الأرض نحو الملأ الأعلى حيث الحقائق الحِكميّة الإلهية، بانجذابٍ مقدّسٍ فوق عالم الحِسّ والشهوة والمادّة، فينصرفُ عمّا يهيم به الناس ويرنو بناظرَيه إلى ما هو إلهي قُدُسِي.
وفي ظل هذا الصراع ما بين الحكمة والفضيلة والشهوة والغضب، يبسط أفلاطون رؤيته لـ “الطبيعة الثُّلاثية للنفس” (Tripartite psyche)، بلغة مَجازيّة في القصة الرمزيّة عن “عربة النفس”، حيث تتبدّى جميع روائعه الحِكْميّة والفلسفيّة من المُثل العُليا والمعرفة والفضيلة إلى مفهوم الخير والشر في سياق نظريته هذه عن النفس التي تتميّز بها محاورة “فايدروس”.

نَظريّة النّفس لدى أفلاطون
قبل التطرُّق إلى الطبيعة الثّلاثية للنفس البشريّة، لا بُدّ من أن نُلقي الضوء بِتمعُّن على مفهوم النفس عند أفلاطون. فالباحث والفيلسوف الأنغلو-كندي روبرت كليندون لودج(1) (Rupert Clendon Lodge) يرى أنّ “النّفس” و”الفكر العقلاني” يتماثلان لدى أفلاطون في جميع النواحي، أمّا الباحث الاسكتلندي الكلاسيكي ويليام غوثرييه(2) (William Guthrie) فيرى من جهته أنّ أفلاطون يستخدم كلمة النفس لكي تعني تلك القوة التي تقوم بجميع الوظائف الحيوية مثل التغذية والحِسّ والفكر، من خلال واسطة الجسد، وأنّ مصطلح “النفس” يعني أيضاً لديه العقلَ أو الذكاء أو تلك القوة التي تبثّ الحياة في الجسم. وهنا ترى الباحثة الأميركية إيدث هاملتون(3) (Edith Hamilton) في دراسة مشتركة مع الباحث الأميركي هنتنغتون كايرنز(4) (Huntington Cairns) أنّ كلمة “النفس” لدى أفلاطون أفضل ما تُفسَّر اعتماداً على سياق المحاورات، فهي تعني المنطق والعقل والذكاء وكذلك الحياة والمبدأ الحيوي في الإنسان وفي كلِّ كائنٍ حَي، وهو التفسير الأقرب إلى فكرة النفس البعيدة الغور كما تَرِدُ في جميع المحاورات الأفلاطونية.
ففي محاورة “تيماوس” (Timaeus) وكذلك محاورة “ثياتيتوس” (Theaetetus) يعتبر أفلاطون أنّ العقل هو مَنْ يُدرِك المُثُل العليا والصُّوَر الهيولانية، أمّا في محاورة “فيليبوس” فيرى أنّ تلك المُثُل يستوعبها العقل والذكاء والفكر معاً، ونصل إلى محاورة “فيدون” (Phaedo) فنرى أنّ المُثُل العليا تُدرِكها النفس؛ لذا فإنّ العقل والفكر والمنطق والذكاء هي بالنسبة إلى أفلاطون يُشار إليها معاً بتسمية “نوس” (nous: νόος)، وهو أرقى قوة من قِوى النفس. ويشير في أحد مقاطع تلك المحاروة إلى أنّ النفس تنطوي على “مشاعر المحبّة والرغبات والمخاوف وجميع أنواع الأحاسيس”، وهي سِماتٌ تُعتبر عواطف وجدانية. لذا فإنّه وفقاً لأفلاطون لا تشتمل النفس على الذكاء والمنطق والعقل والفكر فحسب، بل أيضاً على العواطف.
وهو ما يتبدَّى بوضوح في محاورته “القوانين” (Laws) حيث يرى أفلاطون أنّ النفس تنطوي على “الأماني والتبصُّر والمشورة والحُكْم … واللذّة والألم والأمل والخوف والكراهية والمحبّة …”. فالأولى هي نشاطاتٌ للعقل والأخيرة هي نشاطاتٌ للجسد، بما لها من صلة بالعواطف والرغبات. هذه الثنائية في مفهوم طبائع النفس لدى أفلاطون تتبدَّى بتفصيلٍ في الكتاب الرابع من محاورة “الجمهورية”، حيث يُقسِّم النفس إلى مستويين منفصلين: “النفس العُليا” و”النفس الدُّنيا”، المنطق والعقلانية، يكمنان بحسب أفلاطون في “النفس العُليا”، أمّا الشَّهَوات والرَّغبات فتكمنُ في “النفس الدُّنيا”، وإضافةً إلى ذلك، يرى أنّ النّفس تشتمل على الشّغَف، وهو أحياناً يصطّفُ إلى جانب العقل وأحياناً أخرى ينجرفُ مع الرغبة.

إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس
إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس

العقل: القوّة الأرقى والأقدس
بما أنّ المُثُل العليا تُدْرَك عبر العقل والفكر والمنطق والذكاء، فهذا لا يعني أنّ أفلاطون يرى أنّ النفس بكلّيتها تُدرِك المُثُل العليا، بل إنّ المُثُل تُدرَك فقط من خلال العقل، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قُوى النفس، وهذا ما يتبدَّى بوضوح في العديد من محاوراته، ففي محاورة “الدفاع” (Apology)، وكذلك في محاورة “فايدروس” موضوع هذه المقالة، يرى أفلاطون أنّ العقل الأرقى “نوس” هو ذلك الجزء الخالد من النفس، أي ذلك الجزء الذي يربط الإنسان بالمقدَّس العُلوي الإلهي. ويتحدَّث أفلاطون عن الأمر ذاته بمصطلحاتٍ أكثر تعقيداً في محاورة “السفسطائي” بقوله إنّ التفكُّر أو التبَصُّر من خلال النفس يصلنا بالوجود الحقيقي، وفي محاورة “المأدُبة” وكذلك في محاورة “الجمهورية” يصفُ أفلاطون الإدراك المعرفي للمُثُل العليا بكونه تذكُّراً، تماماً كما في محاورة “مينون” (Meno)، وأنّها تُدرَك أيضاً من خلال تجربة “الرؤية”، وبحسب وصف أفلاطون لنشاطات ووظائف النفس نرى أنّها ثنائية في طبيعيّتها، فالعقل الأرقى “نوس” هو الجزء المُتَحَكِّم، في حين أنّ العاطفة والرغبة هما المُتَحَكَّم بهما. فالجسد بحسب أفلاطون كما في “الجمهورية” ينتمي إلى عالم الشهادة والتغيُّر، في حين أنّ النفس تنتمي إلى العالم المُدْرَك بالعقل غير المرئي واللّامُتغيِّر. إذاً، فإنّ النفس تنتمي إلى الفئة ذاتها التي تنتمي إليها المُثُل العُليا، وهي كرابطٍ ما بين العالمَين المادي والعقلي.
ففي محاورة “فيدون”، يُلمِّح أفلاطون إلى أنّ تَعَلُّق “الدُّنيا” بلذّات “متغيِّرات الجسد” إنّما “يُلوِّث” النفس بأكملها، ويرى في هذا الصدد أنّ هناك مُتَعاً حقيقية” و”مُتَعاً زائفة”. فتلك الحقيقية هي التي تجعل الإنسان أقرب إلى العالم العُلوي، على غرار مُتَع العلم والمعرفة، وذلك من خلال السيادة على النفس. أمّا المُتَع الزائفة فهي ما يتصل بالعاطفة والشهوة والرغبة على نحو غير مُتَحَكَّم به كما ورد في محاورة “فيليبوس”؛ لذا، فإنّ أفلاطون يؤكد أنّ النفس من خلال التحكُّم والسيادة على الذات، أو تقاعسها عن ذلك، تختار بأنّ تكون إمّا خَيِّرة وإمّا شريرة، “فكما يرغب الإنسان يميل … ويكون”، حسبما قال في محاورة “القوانين”.

نظريّة الخير والشّر
يمكننا بذلك أن نرى أنّ نظرية النفس لدى أفلاطون تتّصل بنظريّته عن الخير والشر، فبحسب نظرته هذه فإنّه إذا ما وصلت “النفس العُليا” (نوس) إلى إدراك المُثُل العُليا الروحانية، فإنّ النفس بكلّيتها ستكتسب المعرفة ومن ثمّ الخير، لكنْ إذا ما ركّزت النفس اهتمامها على العالم المادي المرئي والمتغيِّر، فإنّها ستطغى عليها الشهوات والعواطف والرغبات بغية الحصول على المتعة الزائلة، أي بعبارةٍ أخرى، إذا ما سيطرت على النفس طبيعتها الدُّنيا، فما من فرصةٍ أمامها لكي تُدرِك الحقائق العُليا والخير، وبالتالي لن تُحرِز المعرفة الحقة أبداً، وهنا نلجأ إلى ما أوضحه أفلاطون في محاورة “فايدروس” في قصة “العربة” الرّمزيّة.

عربة النفس
نعود بذلك إلى محاورة “فايدروس” وقصة “عرَبَة النفس” الرّمزية موضوع هذه الدراسة، حيث يُصوِّر أفلاطون قُوى النفس رمزيّاً في قصة “الحوذي والجوادَين المُجنَّحَين”، إذ تعمل هذه القِوى معاً إمّا تناغماً وإمّا تنافراً على طريق الفضيلة أو الرذيلة. وهنا تتألّف النفس من ثلاث قُوى: العقلية، والغضبيّة، والشهويّة. فالعقلُ، أي الجزء العقلاني من النفس، هو حاكم النفس تماماً كما هو الحوذي حاكم العربة، أمّا الجزء الشَّهَوي من النفس فهو أشبه بالجواد الأسود الذي يتمرّد على العقل وتحكُّمه. وبالنسبة إلى الجزء العاطفي أو الشّغفي والغضبي فهو أشبه بالجواد الأبيض، الذي هو ضائعٌ ما بين شهوة الجواد الأسود وحِكْمة الحوذي، فيتّبع الأول تارةً ومن ثم الآخر طوراً، لكن كِلا القوّتَين العاطفيّة والشهويّة يحكمهما العقل (نوس)، تماماً كما يتحكّم الحوذي بالجوادَين.
ويصف أفلاطون الجواد الأسود بلغةٍ رمزيّة بأنّه “حيوانٌ ثقيل مُراوِغ، لونه أسود وعيناه رماديّتان، وممسوخٌ وعنيد، وثقيل الطبع، ودمويّ المزاج، وقرين الاغترار والزهو، وقلّما يستجيب للضرب بالسَّوط والوخز”. أمّا الجواد الأبيض فهو “نبيلٌ ومطواع وعيناه سوداوان، ومُحِبٌّ للمجد باعتدالٍ ولا حاجة لاستخدام السَّوط معه بل يكتفي بالكلمة والزجر”. ويقود الحوذي العربة مُتحكِّماً بالجوادَين بكلّ قوة وفعالية، ووجهته صِراطُ الجنَّة السماوية حيث ما أنْ تصل العربة بنجاحٍ، تُبصِر تلك المُثُل العُليا وجوهر الأشياء في حقيقيتها، كالجَمَال والحكمة والخير والعدل والحق والفضيلة والشجاعة والمعرفة المطلقة، فتُحلِّق عربة النفس بجوادَيها المجنَّحَين تحقُّقاً في تلك العوالم العُلويّة.
وجوادا هذه العربة في صراعٍ دائمٍ، فالجواد الأسود يسعى دائماً إلى جذب العربة إلى الأسفل نحو الأرض، في حين أنّ الجواد الأبيض يرتقي بها صعوداً إلى الملأ الأعلى، وبين هذا وذاك يسعى الحوذي إلى ضبطهما والمواءمة بين تحليقهما. وتأخذ العربة في الصعود والنزول بحسب قوّة جذبٍ كلٍّ من هذَين الجوادَين، فتارةً يجذبها ثقلُ المادة الأرضية استجابةً لمعاندة الجواد الأسود، وطوراً ترتقي نحو مشارف عالم المُثُل الرُّوحانية العُلوية فتلتقط ومضاتٍ من ذلك العالم الماورائي تكون ذخيرةً لها قبل أن تعود العربة وتهبط تثاقلاً. وإذا ما كانت قوة الجواد الأسود أقوى، يتصادم الجوادان فتهوَى العربة إلى الأرض وتتكسَّر الأجنحة وتصبح النفس أسيرةً للجسد المادي كلّياً.
ودرجة هذه السقوط تُحدِّد أيضاً كم يستغرق من الوقت للجوادَين لكي تنمو أجنحتهما مجدّداً ويتمكّنا من الطيران، فبقدر ما يلمَح الحوذي من تلك الحقائق بقدر ما تكون سقطته أقلّ تأثيراً، وأسهل ما يكون عليه أن يستجمع قواه وينطلق من جديد. وتتسنَّى إعادة نموّ الأجنحة بخُلُق النّفس الكريمة ومصادفتها لأُناسٍ واختبارها تجارب تُعيد لها تلك اللَّمَحَات العُلوية، فتستعيد ذكريات الحقائق التي شاهدتها، وهو ما يُعزِّز عودة النفس إلى عالمها العُلوي. وتفسير رمزيّة عربة النفس لدى أفلاطون يأتي على مستوياتٍ عديدة، جميعها يُفضِي إلى الارتقاء بالنفس نحو الصفاء الرُّوحي، وتحقيق الكمال الأخص بكل إنسان.

تناغُم قِوى النفس
فلنكشُف وشاح الرّمزية عن القصة قليلاً: الحوذي يُمثِّل عقل المرء، والجواد الأسود شهواته ورغباته الحسية، والجواد الأبيض قوته الغضبيّة والعاطفية. فالحوذي مُحِبّ للحكمة، والجواد الأسود مُحِبّ للكسب والطّمع والملذات وتلبية الشهوة، أمّا الجواد الأبيض فهو مُحِبّ للمجد والعُلى. ولكلّ قوة من قِوى النفس حوافزها، فالعقل يسعى إلى الحقيقة والمعرفة، والشهوات تنشدُ إشباعها بالحِسّ والمادة، أمّا القوة الغضبيّة فتسعى إلى المجد والشرف وفرض الاعتراف.
والجواد الأسود لا يسهُل تطويعه وترويضه واستخدامه، وذلك إنّما يتطلّب اعتدالاً في كلّ شيء، أو على حدّ قول أرسطو ذلك الوسط الذهبي بين طرفين، فالحياة المكرَّسة كُلِّياً لإرضاء ملذّات وشهوات الجسد إنّما تجعل الإنسان لا يختلف عن البهائم، ويُجادل أفلاطون بأنّ نتيجة الخضوع لشهوات النفس هي “عبوديّة قاسية للجزء الأقدس من الذات لذلك الجزء الأدنى والأدنس”، وأيُّ إنسانٍ يخضع لذلك إنّما يصبح تعيساً شقيّاً.
نعم، إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس، وإنّ السماح للجواد الأسود بالهيمنة واستعباد النفس إنّما يقود إلى حياةٍ وضيعة ومُتّسِمة بالرّذيلة والشرّ بعيدة عن الخير والعدل والحقّ و”الفضيلة الأخلاقية” (arête: ἀρετή) و”سعادة المعرفة الحقّة” (eudaimonia: εὐδαιμονία)، ومع ذلك يُجادَل بأنّ الجواد الأسود إذا ما تمّ ترويضه على نحو ملائم فإنّما يُشكِّل طاقةً كافية لمعاونة الجواد الأبيض على التّحليق بالعربة عالياً بتناغمٍ فيما بينهما، وذلك بسيطرة الحوذي عليهما وموازنة قوتهما وتوجيه طاقتهما بطريقةٍ إيجابيّة.
وإذا ما تسنّى ترويض واستخدام كلّ قوةٍ من قوى النفس كما ينبغي وعلى نحو ملائم فإنّ الإنسان يرقى إلى تحقيق فضيلته وكماله الأخص، فالهدف الأسمى للحوذي، أي العقل، هو أن يضع أرقى الأهداف ومن ثمّ تدريب جوادَيِّ عربة النّفس على العمل سويّةً لتحقيقها، وعليه أن يتّسِم برؤيةٍ وهدفٍ واضحَين ويعلم إلى أين يتّجه ويتفهَّم طبيعة ورغبات هذَين الجوادَين للسيطرة عليهما على نحو متوازن، وألاَّ يكن خادماً لأهواء أيٍّ منهما، فكلّ جوادٍ له نقاط قوته ومكامن ضعفه، فالجواد الأبيض أيضاً يمكن أن يقود المرء في المسار الخاطئ كشأن الجواد الأسود تماماً، إذا ما جَنَح وتخطَّى انقياده للعقل، لكن إذا ما كان مطواعاً فإنّ هذه القوّة الغضبيّة المحمودة (thumos) الموجِّهة للنفس في الطريق الصحيح تصبح حليفةً للحوذي على طريق العدالة والفضيلة والحقيقة، ومعاً يُروِّضان الجواد الأسود ويُبقيانه على المسار الصحيح. فالحوذي الماهر المتبصِّر لا يدع مجالاً لتصادم الجوادَين بل يُحقِّق التناغم في ما بينهما تحت سلطانه ويضبط قواهما المتجاذبة وينطلق بهما إلى تحقيق تلك الأهداف السامية.
وبعد تحقيق تناغم النفس تَتَسهَّل جميع مهمّات الحياة، بحسب أفلاطون، الذي يقول إنّ المرء بعدما يُحرِز تلك السيادة على الذات، وذلك النظام البديع في ذاته، وبعدما يُحقِّق التناغم بين تلك القُوى الثلاث، وهي العُليا والدُّنيا والوسطى، وكلّ ما وقع في ما بينها، وبعدما يجمع فيما بينها في وحدةٍ، وتحكُّمٍ بالذات، يتّجه بنفسه نحو الفضيلة والتحقُّق الرُّوحي، وهو ما ينبغي أن يكون الهمّ الأول لكلٍّ مِنّا، وألّا تعلو عليه أيّةُ مشاغلَ دنيويّةٍ أخرى، وأن يكتسب المرء القدرة والمعرفة على التّمييز بين ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وما يُفضِي إلى تحقيق الهدف الأسمى للنفس.

الرمزيّة في تصوير قُوى النفس
تُمثِّل هذه القصة الرمزيّة جزءاً مهمّاً جداً من التقليد الرُّوحي والفلسفي في بلاد الإغريق والعالم ككلّ، فالهدف الرئيسيّ الذي يبتغيه أفلاطون هو ارتقاء النّفس إلى العوالم المقدَّسة. وقد سعى عالِم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) عبثاً في نظريّته البُنيويّة المتشابِكة بالعُقَد والمُغرقة بالماديّة والحِسّية، إلى محاكاة هذه الطبيعة الثلاثيّة للنفس البشرية ولكن على نحو مشوَّه لا يرقى إلى الفكر النبيل لأفلاطون فتحدَّث عن “الأنا” (ego) و”الهو” (id) و”الأنا العُليا” (super ego) بغاية حسية جنسانية واجتماعيّة في حين أنّ أفلاطون في قصّة عربة النفس يرمز إلى الحياة الرُّوحيّة والفلسفية للنفس متفوّقاً على تفسير فرويد المادي والحِسّي المحدود الخالي من أيّة حكمة أو قيمة إنسانية. إنّ أفلاطون يُشدِّد في رمزيّته على التَّوق الديني الباطني داخل النفس البشرية، وحينما يستخدم الأسطورة، فإنّما يسعى إلى إثبات حقائق روحيّة وفلسفيّة سامية.
ولكي نُفسِّر مغزى أفلاطون لا بُدّ من أن نغوص عميقاً في ما يتعدّى المعنى الحرفي، فهو ليس كاتباً عاديّاً ولا عبقرياً عادياً، بل إنّ عمق تفكيره العقلاني مذهلٌ ومتفرِّد، فهو لا ريب كان يُدرِك مدى أهميّة رسالته، وكم كان توّاقاً لمشاركة معرفته لأجل صالح البشرية جمعاء. ولأجل هذا الغرض درس جميع العقائد القديمة ومن ثمّ كتبَ لكلّ الأجيال المقبلة في جميع محاوراته وأعماله.
لا بدّ من تفسير هذه القِصّة الرّمزية على الصعيدَين السيكولوجي والديني الرُّوحاني. وهذان التفسيران مترابطان. ونجد هذا التقسيم الثلاثي لقُوى النفس في جمهورية أفلاطون أيضاً، حيث يُدعَى جانب الجواد الأسود من النفس في الفكر الأفلاطوني “إيبثوميتكون” (epithumetikon) وهي كلمة ترمز إلى الشهوات. أمّا الحوذي وهو بحسب أفلاطون مرتبطٌ بالعقل والمنطق فيُدعَى “لوجيستيكون” (logistikon)، وهي تسمية مشتقّة من الكلمة الإغريقية التي تشير إلى العقل “لوغوس”. وبالنسبة إلى الجواد الأبيض فيُرمَز إليه بمصطلح “ثموس” (thumos) وهو يختصر المحبة والشجاعة والبطولة والقوة الغضبيّة المحمودة، كما أشرنا سابقاً.
ولا ريب أنّ أفلاطون استقى فِكْرةَ هذه العربةِ الروحية من الفكر الفيثاغوري، الذي بدوره نقلها عن فكرٍ هِرْمسي عريق في مصرَ حول “مركبة الرّوح”، فَمِن بين الآيات الذهبية لفيثاغورس قولُه أن “نُبقي عربةَ أنفسِنا موجَّهّةً بإلهامٍ يأتي من فوق، ذلك الذي يُحكِمُ السيطرةَ عليها”. واستلهاماً لتعاليم أفلاطون وفيثاغورس وهرمس الروحيّة الصوفيّة هذه، هلَّ أتحنا لحوذي عربة النفس بأن يضبطَ عنانَ جوادَيْها الأبيض والأسود ويحلّق بهما في سَمَوات المعرفة والفضيلة لتحقيق الغاية التي لأجلها خُلِقَتْ هذه النفس؟

أرسطو الأفلاطونيّ

“تأمَّلْ في السموات الواسعة وسوف تجد أنّ الله واحد” هذا ما استشهد به الفيلسوف أرسطو (باليونانية Ἀριστοτέλης)(1) من أقوال الفيلسوف الإيلي كزينوفان Xenophan، ليؤكّد أنّ الله هو “الحاكم الأوحد للكون”(2)، بعد أن اعتبر “العلم الإلهي” أو “الإلهيات” Theologia (θεολογία) “أشرف العلوم”(3) وأكثر المعارف قدسيّة، ومن ثم ملأ الدنيا وشغل الناس بطبيعياته “وما وراءها” ومنطقه وعلومه، بدءاً من أيام تلامذته وشرّاحه المتحمّسين مروراً بالقرون الأولى للميلاد وحتى القرون الوسطى ليصل إلى عصرنا شخصية تتسِم بنظر البعض بالغموض والتناقض، تلاحقه أطيافٌ مَنْ ألصقوا به صفات تكاد تكون إلحادية، أولئك الذين قرأوه ولم يفهموه ووجدوا في أقواله قِدَماً للعالم من غير خلق وأزلية للهيولى المادية والزمان، وحرموه من أفلاطونيته المثالية، ولو أنّ آخرين، أمثال أبو نصر الفارابي في القرن العاشر، والفيلسوف الألماني فرانز برنتانو Franz Brentano، وباحثين غربيين من الماضي القريب، أمثال الألماني وارنر ييغر Werner Jaeger، قد انبروا ليثبتوا أنّ القول بالتعارض بين أرسطو وأفلاطون (Πλάτων) هو “تحامُل” (بحسب عبارة من سبق ذكره من الباحثين) يكاد يكون من “النقائض المنطقية.
ونقضُ مثل هذه “النقائض” إنّما يتطلّب بحثاً معمّقاً في فلسفتَي هذَين الحكيمَين اللذين ألقيا بظلّهما على كلّ حقل من حقول التفكير العلمي والفلسفي حتى أيامنا هذه، وإلتماس ذلك السلك اللطيف الذي يربط فيما بين الحقائق التي تفتّقت عنها العبقرية الفذّة، والعقلية المتبصّرة والروح التوّاقة إلى الملأ الأعلى لدى كلّ من هذين الركنين المعرفيّين.
لكن ما دفع مثل هؤلاء إلى القول بمعارضة أرسطو لمعلّمه أفلاطون، وإلامَ استندوا في موقفهم هذا؟
لا بدّ من العودة في التاريخ إلى الوراء لاستجلاء الأمر وتمحيص هذه الأقوال حول “المعلّم الأول” (كما يُطلق عليه مؤرّخو الفلسفة). نحن الآن في العام 366 (أو 367) قبل الميلاد، أرسطو شاب دون العشرين من عمره، يصل أثينا قادماً من ستاغيرا Stagira، المدينة اليونانية الشمالية (بعدما أمضى جزءاً من طفولته في البلاط المقدوني بمدينة بيلا Pella حيث كان والده نيقوماخوس طبيباً للملك أمينتاس الثاني جد الإسكندر)، ليدخل أكاديمية الفيلسوف “الإلهي” أفلاطون لتلقّي علومه.
نعم، عبقرية فذّة في طور التفتُّح والتبلّور والصقل تلجأ إلى اكتساب المعارف من عملاق فلسفي بكلّ ما تُرخيه ظلاله “المثالية” من ثقلٍ “روحاني”.
وماذا حدثَ؟ عشرون عاماً ونيف قضاها أرسطو في الأكاديمية ينهل من معين أفلاطون الفيّاض بالعلم الإلهي والمدارك الروحانية، وما برحها حتى وفاة معلّمه!

والسؤال المنطقي على الطريقة الأرسطوطالية البرهانية هو كيف تسنّى لهذا العقل الوثّاب المستقل، المُشبَع بالأفكار الواقعية التجريبية الحسيّة أن يبقى “هاجعاً” في كنف أستاذه الرُّوحاني الذي سما بالحقيقة إلى علياء عالم المُثل الإلهية، طوال عشرين عاماً حتى قارب سن الأربعين (بقي في الأكاديمية حتى سنة 347 ق.م تاريخ وفاة أفلاطون)؟

أين كانت تلك “الحسيّة” الطبيعية طوال تلك المدة من “الملازمة”، وأين كان ذلك التمرّد المتعارض الذي إدّعاه القائلون بالخصومة بين المعلّم المثالي والتلميذ العقلاني الواقعي؟ وهل ظهر هذا التطوُّر الفكري المناهض فجأة بعد وفاة معلّمه، ومن ثم بعد تنقُّله بين زملائه “الأكاديميين” في آسيا الوسطى لينتفض ذلك الانتفاض الغامض ويهاجم مُثلَ افلاطون ونظرته إلى المُبدِع وإحداث العالم؟ هل كان هذا “الفيلسوف الفاضل”، الذي أذهلَ العالم على مدى قرون بمنهجيته العلميّة، يعيش “فُصاماً” بين “الإلهي” و”الطبيعي/الحسيّ” إلى هذه الدرجة من الإنفصام الشديد؟

للإجابة على هذه التساؤلات وجبَ استعراض تلك الأقاويل والوقوف عند مصداقيتها أو هشاشتها والتحرّي، بالحجة والبرهان، ما إذا كان ثمة “تحامُل” في القول بالتعارض.

أرسطو الأكاديمي
أسهبَ بعض المؤرّخين في التحدُّث عن رفض أرسطو “شاعرية” أفلاطون في محاوراته واستعانته مجازاً بالأساطير والأمثال والتشبيهات الرمزية، وكأنّه يأخذ عليه تقيُّده بالشكليات وهو مَنْ ارتقَى بالمعرفة إلى أعلى مدارك المعقولات، وكلّ مَن قرأ أعمال أرسطو يعرف مدى إبداعه هو نفسه في وضع أُسس الشعر وذلك في كتابه “في الشعر” (“بيري بويتيكا” per poetika – Περὶ ποιητικῆς) حيث ترك أثراً كبيراً نجده حتى اليوم لا سيّما في الشعر الفرنسي، كما أنّه اقتفى أثر معلّمه في محاوراته الأولى لدرجة أنّ شيشرون Cicero وصف محاورات أرسطو بأنّها “نهر من ذهب” flumen orationis aureum.
و”الذهب” الذي تحدّث عنه شيشرون هو تلك التعاليم الأفلاطونية التي يمكن تلمّس تأثيراتها في فلسفة أرسطو النظرية، بل حتى العلميّة منها. ومَنْ قال إنّ أفلاطون لم يشارك حتى في وضع تلك الأُسس العلميّة؟
في العلم
فقد اتّبع أرسطو المنحى العلمي الذي وصلت إليه الأكاديمية في آخر أيام أفلاطون، لا سيّما بعد انضمام جهابذة في العلوم السائدة آنذاك كالرياضيات (ثيودوروس Theodorus وثياتيتوس Theætetus الذي أطلق أفلاطون اسمه على إحدى محاوراته) والفلك (إيدوكسوس Eudoxus) والهندسة والجغرافيا وحتى الطب(4).
والمنحى العلمي بدا واضحاً في محاورات أفلاطون الأخيرة، لا سيّما محاورات “برمينيدس” Parmenides و”ثياتيتوس” Theætetus و”النواميس” Νόμοι المُصاغة بموضوعية بحثية تستند إلى الجدل العلمي والوقائع والتصنيف، فالتقط أرسطو آخر الخيط الأفلاطوني وأكمل هذا التبصُّر العلمي في منهجية موسوعية تروي أفهام العامة المتعطّشة للحقائق الحسيّة، مع بقاء “الفلسفة الأولى” للخاصة.
وتبدّى هذا الانسياب المعرفي جلياً في “محاورات أرسطو” أو كتاباته الأولى التي بقيت أجزاء منها في أعمال مؤلفين قدامى، وقد نسجها على منوال المحاورات الأفلاطونية، بل واستعار بعض عناوينها، واستند في وضعها إلى مبادئ أفلاطون الفلسفية الأساسية، من بينها محاورات “أوديموس” Eudemus (حول حُلُم زميله في الأكاديمية) و”في الفلسفة” peri philosophia و”بروتربتيكوس” Protrepticus.
واستأثرت هذه المحاورات لاحقاً بتقدير كبير لدى الفيثاغوريين الجدد والأفلاطونيين المحدثين في مقابل تمسّك المشّائيين اللاحقين (الذين طغى عليهم التفكير المادي) بعد القرن الميلادي الأول بمؤلفات أرسطو “العلميّة” ووضع الشروحات عليها من دون التطرُّق إلى المنحى الأفلاطوني الصافي في محاورات أرسطو، وعلى الأخص الشارح الأكبر إسكندر الأفروديسي Alexander of Aphrodisias ومن بعده ثميستيوس Themistius.
لكن هل من تقسيمٍ لأعمال أرسطو على هذا النحو؟

باطني للخاصة وظاهري للعامة
لقد انتهجَ أرسطو نهجَ فيثاغوراس في إلقائه لتعاليمه، فالحقائق المهمة للخاصة من تلامذته والمُريدين، والتعاليم الرمزية والأمثال والعلوم الطبيعية للعامة من الناس. وثمة تقسيمٌ مشهور بين الشارحين والباحثين يُميّز بين نوعين من أعمال أرسطو(5): “مستورة” و”معمّمة”، فالأولى تتضمّن فلسفته الخاصة وتعاليمه الحقيقية، وهو ما يؤكّده الفيثاغوريون الجدد، والثانية تشمل علوماً عامة تُلقَّن للجميع.
ويُستقى الإثبات على ذلك من أرسطو بحد ذاته الذي ذكر في أكثر من مكانٍ في أعماله اعتماده هذا النهج المتميّز(6)، وهو ما كان يعرفه معظم الباحثين والشارحين في العصور القديمة فضلاً عن واضعي تاريخ الفلسفة.
وفي هذا الخصوص، يورد السير دايفيد روس Sir David Ross في كتابه “أرسطو” Aristotle أنّ “ثمة تقليداً قديماً ساد زمناً يرى أنّ هناك أعمالاً باطنية Esoteric من أعمال أرسطو قد تُعزى إليها حقائق صوفية، مقابل تلك الأعمال الظاهرية Exoteric المخصّصة للعامة”(7)، حيث إنّ المواضيع الأكثر تجريداً، على غرار الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي والماورائيات والطبيعيات والمنطق تتطلّب بحثاً معمّقاً وفهماً متطوّراً للنخبة من التلامذة، فيما لا تسترعي المواضيع العامة، مثل التاريخ الطبيعي والعلوم والتاريخ والبلاغة وحتى السياسة، سوى اهتمام الشريحة الشعبية من قاصدي مدرسته “الليسيوم” Lyceum، التي كانت لهذا الغرض تشتمل على متحف للعلوم والتاريخ الطبيعي استعان به أرسطو في شرح محاضراته، وقيل إنّ الإسكندر ساعده على استكمال مجموعته الطبيعية الواردة إليه من جميع أرجاء الإمبراطورية المقدونية المترامية آنذاك.
وربّما لم يتحدث فلاسفة كبار استمدوا من أرسطو، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، عن أعمال مستورة لديه لأنّهم لم يطّلعوا على محاوراته ولا على أعماله المفقودة، التي لا ريب ثمة رابط فيما بينها، وقد وصل إلينا عمل أصلي لأرسطو بصياغة مختصرة (باللاتينية) تحت عنوان “في فيضان النيل” On The Rising Of The Nile. وما همّ أرسطو بفيضان النيل؟ وأيّ فيضان يرمي في الحقيقة إليه؟ وقد ساقَ الباحثُ الألماني ستيفان بارتش Stephan Partsch أدلة كافية تُثبت صحة نسب هذا الكتاب إلى أرسطو(8).
وما حقيقة أعماله المفقودة؟ إنّ أعمال أرسطو المتوافرة حالياً قد وصلت مبتورة وناقصة وغير منتظمة، لا سيّما كتاب الماورائيات “الميتافيزيقيا” (τὰ μετὰ τὰ φυσικά)، ولا حاجة للخوض في صحيحها ومنحولها، وفي الفهارس الثلاثة لمؤلفاته التي وضعها الأقدمون وأوردوا فيها أسماء عشرات الكتب المفقودة، فمن المعروف أنّ بعض أعمال أرسطو ليس في شكله الأصلي، وذلك إثر تركيز المشّائيين في وقتٍ متقدّم على العلميّات وإهمال الأفلاطونيات.
فهل كان ما هو ناقصٌ، أو غير مترابط بانتظام، أو مهمل أو منحول في أعمال أرسطو هو وراء تبنّي فكرة الخصومة والتعارض بينه وبين وأفلاطون؟ وإلامَ استندَ أصحاب فكرة التعارض؟ قالوا غادر أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة أفلاطون بسبب “التعارض” المزعوم. في الواقع، ترك أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة معلّمه، وتسلُّم رئاستها العام 347 ق.م من قِبل سبوسيبوس Speusippus، إبن أخت أفلاطون، الذي انتهج المنحَى الرياضيّاتي وأسقطه على المُثل الأفلاطونية، فجعل منها أعداداً حسابية بحتة.
وربّما كان هذا الخلاف “العددي” مع سبوسيبوس وراء مغادرة أرسطو للأكاديمية لا لكونه الأوْلَى والأجدر لخلافة أفلاطون على رأس الأكاديمية (وهو ما أشار إليه وارنر ييغر في كتابه حول الأُسس الأولى لتطوُّر فكر أرسطو: Aristoteles. Grundlegung einer Geschichte seiner Entwicklung الفصل الأول)، حيث يتحدّث التاريخ أنّه لم يكن يحُق لأرسطو بمقتضى القانون الأثيني رئاسة الأكاديمية لأنّه لم يكن مواطناً أثينياً، وهذا ما يُبرِّر اختيار سبوسيبوس. كما أنّه غادر برفقة زميله كزينوقراط Xenocrates مُشبعاً بالروح الأكاديمية إلى آسيا الصغرى حيث كان زميلاه الآخران إراستوس Erastus وكوريسكوس Coriscus تلميذا أفلاطون المخلصان، لدى هيرمياس Hermeias حاكم أترنوس وأسوس، وهو بدوره كان من الزملاء القدامى في الأكاديمية. فاجتمع الشمل الأفلاطوني وانتشرت تعاليم المعلّم الروحاني.
لم يتخلَّ أرسطو عن أفلاطونيته طوال مشواره الفلسفي، سواء بالنهج الاستقرائي inductive أو الاستنباطي deductive، على الرغم ممّا قاله بعض الشارحين بأنّه في خلال مكوثه في آسيا الصغرى وأثناء فترة تعليمه للإسكندر بعد ذلك في البلاط المقدوني لفترة 5 سنوات كان قد كوَّن أفكاره المستقلّة الذي يُعارض فيها أفلاطون في نظرية المُثل، وخلود النفس، والكلّي والجزئي، وفي الواحد، وقِدَم العالم وإحداثه.

في الصورة والهيولى
فأرسطو استندَ إلى المُثل أو الصور الأفلاطونية كعناصر أزلية، لكنّه سعى مكمِّلاً لفلسفة معلّمه، إلى حل مشكلة التحقق الفعلي لتلك الصور في الوجود بأسلوب وسطي يجمع بين المثالية المفرطة والواقعية التفريطية، فحوَّل مُثُل (“إيدوس” eidos – εἶδος) أفلاطون إلى الثنائية المتلازمة للصورة “إيديا” (idea – ἰδέα) والهيولى (hulē – ὕλη) حيث “تتوق” الأخيرة عشقاً للتحقُّق والكمال في الأولى فتنتقل من القوة إلى الفعل. ومع ذلك بقيت الصورة هي الأرقى، لكونها الوجود بالفعل، في حين إنّ الهيولى هي الأدنى لأنّها الوجود بالقوة.

في الكُلّي والجزئي
كان المؤرّخون قد سلّطوا الضوء على معارضة أرسطو لأفلاطون في اعتباره الوجود الحقيقي هو الكُلّي “كاثولو” Katholou إذ إنّ الجزئي “كاثهيكاستون” Kath’hekaston “يجمع الوجود واللاوجود”، ونسبوا إليه، استقاءً من كتبه، تأكيده أنّ الوجود الحقيقي هو للجزئي، المركّب من الصورة والهيولى، المتحقق في الوجود، و”فهموا” منه أنّ الجوهر “أوسيا” Ousia الأول هو الجزئي في حين إنّ الجوهر الثاني الأقل مرتبة هو الكلّي.
لكنّ أرسطو يُشدِّد على المقدّمات الأفلاطونية لنظرية المُثل، أيّ أنّ العلم هو للكلّي الثابت لا علماً بالجزئي المتغيِّر إذ إنّ المتغيِّر ليس موضوع العلم. كما شدّد على أنّ الوجود الحقيقي هو للصورة أيّ الوجود بالفعل، لا للهيولى، أيّ الوجود بالقوة الأدنى بكثير، ونفهم منه بالتالي أنّ الجوهر الأول هو الكلّي كما قال أفلاطون، فكيف يجعل الجزئي المركّب من هيولى وصورة أرقى من الصورة الكلّية أو الفعل المحض؟ ومن أين جاءت هذه التأويلات المُغايرة، أم أنّ أرسطو قد وقع في مثل هذا التناقض الشديد المحيّر؟
ومهما يكن من أمر تلك التأويلات، يُلقي الفارابي، على سبيل المثال، في كتابه “الجمع بين رأي الحكيمَين” الضوءَ في هذه المسألة على الفارق بين “سياق الكلام” في كلّ حالة، إذ يقول إنّ “من مذهب الحكماء والفلاسفة أن يُفرّقوا بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة، فيتكلّمون على الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضى تلك الصناعة، ثم يتكلّمون على ذلك الشيء بعينه، في صناعة أخرى بغير ما تكلموا به أولاً”(9)، حيث يشرح أنّ أرسطو يُقدّم الجزئي على الكلّي في سياق “المنطق” ويُقدِّم الكلّي على الجزئي في سياق “الإلهيات” وما بعد الطبيعة، كشأن معلّمه أفلاطون، أيّ مع اختلاف السياق اختلف القول.
وعلى هذا المنوال ساقَ أرسطو حديثه عن قِدَم العالم “الذي اتُّهِمَ به بالإلحاد لدى بعض مفكّري القرون الوسطى”، وهو قد تطرّق إلى هذ الفكرة أولاً في سياق جدلي، لا ماورائي أو إلهي، وذلك في كتابه “الجدل – طوبيقا” Topics. وبذلك بدا الحكيمان متفقين لا مختلفين من ناحية تقديم الجوهر، أيّ باختصار ما يتناوله أرسطو جدلياً من حيث اعتباره الوجود الجزئي هو الوجود الحقيقي هو غير ما يتناوله في الإلهيات حيث يعتبر الكلّي هو الوجود الحقيقي والماهية أو الجوهر الأول، وهو معتقده الأصلي.

في النفس
الإرباك في فهم أرسطو لحِقَ أيضاً بنظرته إلى النفس Psūchês (Ψυχῆς) والتركيز على قوله إنّ الصورة والهيولى متلازمتان غير منفصلتين ففُهِم أنّ لا وجود للنفس الناطقة من دون الجسد، لكنّ أرسطو في الحقيقة تحدّث (في كتاب “اللام” الفقرة 1070) عن بقاء “الجزء الخالد” من النفس بعد اندثار الجسد المادي الهيولاني، أيّ بقاء “العقل الفعّال” nous poietikos، ذلك الجوهر المفارق الذي يُميِّز النفس الناطقة، وهي لديه “كمال أول”، وهذا الجوهر في مرتبة أرقى من “العقل المنفعل” nous pathetikos المندثر المتصل بالنفس النباتية والأخرى الحيوانية. وهنا يُطرَح السؤال بقوة، أين اختلف أرسطو مع أفلاطون في مسألة النفس؟ ألم يتفقا على أنّ ثمة جزءاً عالياً من النفس خالدٌ وباقٍ بعد فناء الجسد وهو مصدر العلوم العقلية والإلهية؟

تختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل التناغم الحكموي بين أفلاطون وأرسطو حيث يشير الأول بيده إلى السماء فيما يشير الأخير إلى الأرض.
تختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل التناغم الحكموي بين أفلاطون وأرسطو حيث يشير الأول بيده إلى السماء فيما يشير الأخير إلى الأرض.

في العلم الإلهي
بالنسبة إلى “أشرف العلوم” وأسمى المعقولات، كما أطلق أرسطو بنفسه على “العلم الإلهي” Theologia (θεολογία)، ذلك العلم الأشد يقينيّة، “الفلسفة الأولى” (πρώτης φιλοσοφίας) وعلم “العلل الأُوَل” (αἴτια) aitia، حرص أرسطو، بدءاً من مقالته الأولى “ألفا” من كتابه “الماورائيات” أو “الميتافيزيقا”، المعروف لدى العرب باسم “كتاب الحروف”، على سوق الأدلّة والبراهين العقلية على وجود الله، ووحدانيته، وكماله، وثباته بكونه “محرّكاً لا يتحرّك” “أو كينومينون كيناي” (οὐ κινούμενον κινεῖ).
وأخذ عليه الباحثون تحدُّثه عن قِدَم العالم، لكنّ هذا ينطبق أيضاً على ما قاله الفارابي عن الفارق بين “سياق الكلام” في كل حال “بحسب المقتضى”، وتأكيده أنّ أقاويل أرسطو في العلم الإلهي لا المنطق “لها تأويلات ومعانٍ إذا كُشِفَ عنها ارتفع الشك والحيرة”(10). ويخلص أرسطو أخيراً في كتابه “الجدل – طوبيقا” إلى أنّ “قِدَم العالم مسألة لا تُثبَت بالبرهان”.

أما من ناحية المأخذ الثاني على أرسطو وهو أنّ المحرك الأول “لا يعقل إلا ذاته” وأنّ معرفته بالعالم تُنقِص من كماله، يعمد أرسطو في مكان آخر على انتقاد الفيلسوف إمبدوقليس Empedocles لإقصائه جزءاً من الحقيقة عن معرفة الله، ويعتبر أيضاً في مقالة “اللام” أو “لامبدا” (Λ) من كتاب “الماورائيات” (الفقرة 1076 سطر 4) أنّ الله theos (θεὸς) هو “الحاكم الأوحد للكون” بعدما أكد أنّه “تعتمد عليه السموات والأرض” (الفقرة 1072 سطر 13). فكيف يُفسِّر إذاً ذلك الإنطواء المجرّد؟ هل من قطبة مخفيّة؟
ومن ثم يتحدّث عن الدليل الأكبر ألا وهو “نظام (τάξισ) الكون البديع”(11) ومصدره الله، مشيراً على الرغم مَنْ قال بإلحاديته، إلى أنّ نظام الكون إنّما يدل على تنفيذ “خطة إلهية”، وهذا ما يُعارض مفهوم حصر معرفته في ذاته فحسب. ومع ذلك، لا يجد المنتقدون في مقالة “اللام” سوى هذا المعتقد الضعيف.
وقارن أرسطو في مقالة “اللام” أيضاً بين الواحد وقائدٍ يعود إليه نظام قيادة الجيش، أو كحاكمٍ للناس، وكذلك شبّه الكونَ بمنزل تُوكَلُ فيه المهام إلى جميع الأعضاء من الأرقى إلى الأدنى (الفقرة 1075)، وأشار إلى أنّ الله يحكم “بإرادته” مجرى الكون والزمان. وتظهر مثلُ هذه الأدلة أيضاً في كتب أخرى، وهي دفعت الإسكندر الأفروديسي إلى تأكيد إيمان أرسطو “بالتدبير الإلهي للعالم” بعد اثباته أنّه الصانع المنزّه بالوحدانية والكمال.

ومن ثم حينما يمدح أرسطو الفيلسوفَ أناكساغوراس Anaxagoras لاعتباره العقل (“نوس” ΝΟΥΣ) علّة النظام في الكون يقول في عبارة شهيرة “الله لا يفعل أيّ شيء عبثاً” (ἡ θεὸς οὐδὲν ποιεῖ ἅλματα)، فيؤكد بذلك التدبير الإلهي “برونويا” pronoia (πρόνοια) والنظام العام في الكون(12)، نافياً بذلك ما نُسِبَ إليه من قولٍ بغائيةٍ غامضة تكاد تكون “غائبة عن الوعي”، فكيف يتفق الحُكم والنظام والتدبير والخطة الإلهية مع مثل هذا المعتقد؟

وسعى أرسطو بذلك إلى تنزيه الله عن أيّ فعلٍ مباشر يُناقِض كماله المطلق، لكنّه أبدعَ هذا العالم بأمره وتدبيره من خلال “وسائط” أطلق عليها تسمية “العِلل الأُوَل” (αἴτια)، وهو كما يتبدّى من مقالة “اللام”، متعالٍ في عليائه المجرّد و”مُحايثٌ” أو “متلازمٌ” Immanent في الوجود في آن من خلال إتاحة معرفته لخلقه. ويختم أرسطو مقالة “اللام” بتلميحٍ واضح الدلالة، مقتبساً من “الإلياذة”: “حُكم الكثيرين غير صالحٍ، فليكُن هناك حاكمٌ واحد”. وهل يكون هذا الحاكم الواحد صالحاً ما لم تكن ثمة وسيلة لتواصُله مع رعيته وإتاحة معرفته لهم؟
إنّ الفكر الأرسطوطالي هو أفلاطوني المنحى، فلا خصومة ولا تناقضَ معرفياً بين الفيلسوفَين الكبيرَين إنّما حكمة متصلة مُنسابة تُكمِل النهج(13). ويقول في هذا “التكامل” السير دايفيد روس في كتابه “أرسطو” إنّه أينما تطلّعت في أعمال أرسطو الفلسفية “قلّما تمرّ صفحة لا تحمل روحية أفلاطون وسِماته وتأثيراته”(14)، حتى ولو سلّمنا بأنّ أرسطو كان يُحِب أفلاطون لكنّه كان “يُحِب الحقيقة أكثر”، كما نُقِلَ عنه، فإنّه قد التقط “مشعل المُثُل” من يد أفلاطون ليعدو به تقدّماً في نظرية الصورة والهيولى، والقوة والفعل، ليُسلِّم بدوره المشعل إلى غيره من العقول الوقّادة في مجرى تاريخ الفكر، وصولاً إلى إضاءة “الشُعلة الكبرى”.

وتعمل الأدلّة البحثية والحجج المنطقية والفلسفية على تأكيد هذا الانسياب الحكموي المتكامل. وفي هذا الصدد، كان فورفوريوس الصُّوري Porphyry of Tyre (Πορφύριος) أول من تمكّن في شروحاته من فهم فلسفة أرسطو على ضوء عقائد أفلاطون الفلسفية الأساسية وبتوافقٍ كبير، لا سيّما من ناحية قولهما إنّ هدف وجود الإنسان هو الحصول على السعادة، أو الطمأنينة العقلية، من خلال تحصيل العلم الإلهي.
وفي هذا الخصوص، يقول الأستاذ وولتر ستايس Walter Stace في كتابه “تاريخ الفلسفة اليونانية” إنّ “ما من فهمٍ أصيل لأرسطو يستطيع أن يُعزّز الرأي القائل إنّ مذهبه الفلسفي معارضٌ تماماً لمذهب أفلاطون، بل الأفضل القول إنّ أرسطو كان أعظم الأفلاطونيين لأنّ مذهبه لا يزال مؤسّساً على المُثُل … إنّ مذهبه في الواقع هو تطوُّر للأفلاطونية”(15). وعدم ترابط الأجزاء المختلفة لمذهب أرسطو الفلسفي، فضلاً عن نقص أعماله الواصلة إلينا، إنّما يعود إلى كون تلامذته هم مَن قام بجمعها وترتيبها على هذا النحو.
ولا بدّ من قطبة مخفيّة تربط هذه الأجزاء أو حبكة أخيرة تُوضِح الصورة النهائية. ويبقى عدمُ اكتمال كتاب “الماورائيات” وبقاؤه مبتوراً من دون فصلٍ أخير لغزاً محيِّراً لم يُحل بعد.

هل الخطوط الأساسية لهذا الفصل الماورائي الأخير هي وراء وضع كتاب “أثولوجيا” (معرّبة عن “ثيولوجيا”) أو “الربوبية” الذي نسبه العرب إليه، وهو يُعتبر اليوم منحولاً؟ وهل كانت حركة الترجمة التي أتحفت الفكر الإسلامي بهذه الروائع على هذه الدرجة من السطحيّة لكي تنسب إلى أرسطو كتاباً هو عبارة عن الفصول 4 و 5 و 6 من تاسوعيات أفلوطين Plotinus المعروفة باسم “إيساغوجي”، حسبما رتّبها تلميذه فورفوريوس الصوري؟ أمّا أنّ أفلوطين (بعدما “خلا بنفسه” على طريقة أرسطو) نسَجَ تعاليمه “غير المكتوبة” مرتكزاً على الخطوط الأساسية التي وضعها أرسطو في علم الربوبية، فالتبسَ الأمر فيما بعد على المؤرّخين؟
هل ما هو ناقصٌ أو مفقود من كتاب “الماورائيات” يُمهِّد أرسطو فيه، بالتدرُّج البرهاني، أنّه لا بدّ أن يكون ثمة “وجوبٌ” من نوعٍ ما لوجود “العقل الأول” First Intellect، وأنّ الكثرة والصور والمُثل “كامنة فيه بالقوة”، وبالتالي يكون “العلّة الفاعلة” Efficient Cause للوجود فيحُل بذلك عقدة فلسفية أساسية؟

إنّ مَنْ يتتبَّع الفلسفة اليونانية في ترقّي عبقريتها العقلية بحركة تصاعدية، تتويجاً بأفلاطون وأرسطو، يستشف أنّ الثمرة العقلية الروحية لهذين المعلّمين الكبيرين إنّما تهدف إلى تهيئة العقول وصقل النفوس تمهيداً لاستيعاب معارف أرقى. فالأرسطوطالية هي تطوُّر تكاملي للأفلاطونية، حيث تُكمِّل نظرية المُثُل ولا تُقوِّضها. وقد تابع أرسطو من حيث انتهى معلّمه أفلاطون ليؤكد وجود “الحقيقة” aletheia (ἀλήθεια) في عالمنا لكي لا نقع في العدم. وما قصده هو أنّ النفسَ لا تُدرِك الحقيقة في عالم أخرويّ منفصل، إنّما كمالها في هذا العالم بمعرفتها لوجود الموجود بجوهريتها وهي في آلتها الجسمانية. وتختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل Raphael هذا التناغم الحكموي لمعرفة الحقيقة حيث يشير أفلاطون بيده إلى السماء فيما يشير أرسطو إلى الأرض.

ساحة أرسطو في سالونيك في اليونان
ساحة أرسطو في سالونيك في اليونان

قصص الامثال

المَنْحوس مَنْحوس لو علّقولو فانوس

يُضرَب هذا المثل في الرجل الذي تتوالى عليه النّكبات جرّاء سوء حظّه، دون أن يكون قادراً على الإنتفاع بمساعدة احد .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الرّاسي أنّها تعود إلى واقعة تاريخيّة تقول: إنّه خلال النّزاعات المتلاحقة بين القيسيّين واليمنيّين في لبنان، في عهد الأمير حيدر الشّهاب،؛ كانت هنالك قرية تنتمي بأكثريّة أبنائها إلى الغَرَضيّة اليمنيّة، ما عدا رجل واحد بقي قيسيّاً مهما كلّفه الأمر. وقرّر القيسيون يوماً مهاجمة القرية، فأشاروا على حليفهم هذا أن يترك القرية مع عائلته، لكنه أبى.
ثم ما لبث زعيم القيسيّين أن هاجم القرية، وفطن إلى بيت الرّجل القيسيّ، وخاف أن يشمله الإعتداء، فأرسل سرّاً أحد رجاله ومعه فانوس، علّقه قبيل الهجوم، على باب بيت الرّجل القيسي.
لكنّ الفانوس هذا بدلاً من أن يحمي الرّجل من الإعتداء، لفت نظر المهاجمين إليه، فاقتحموا البيت ونهبوه، أحرقوه .
ولما بلغ الأمير حيدر الأمر قال: “ المنحوس منحوس، ولو علّقوا على بابو فانوس “ وجرت عبارته مثلاً على ألسنة الناس1 .

منرجع لقصة الثّور

يضرب المثل في الرّجل إذا أعاد التذكير بأمر يُهمّه، إذا لاحظ أنّ الآخرين تناسَوْا هذا الأمر أو استطردوا في موضوع آخر لا يتعلّق به.. والمثل يذكر في معرض المزاح، حين يحاول أحد الجلساء أن يقطع مجرى الحديث طالباً العودة إلى حديث كان قد بدأ وفيه مصلحة له .
والحكاية أنّ رجلاً طاعناً في السنّ ماتت زوجته، بعد أن تركت له ثلاثة شباب، . وفي جلسة من جلسات الأخوة مع أبيهم الشّيخ، بادر أحدهم إلى مناقشة وضع الوالد قائلاً :
“ لازم نجوّز الختيار، ما بيستر الزّلمي عند كبره غير حرمته “ .
وأمّن الشباب على رأي أخيهم إلا أنّ مشكلة تكاليف الزّواج قد اعترضتهم، فليس لديهم ما يدفعونه لزواج الوالد. واقترح أحد الأخوة أن يبيعوا ثوراً من الثّيران التي يحرثون عليها، غير إنّ الرأي لم يحظَ بالقبول من الأخوين الآخرين وانحرف الحديث باتجاه آخر .
وحينما رأى الشّيخ أنهم ابتعدوا عن مناقشة أمر زواجه أراد أن يذكّرهم قائلاً :
“ أي … بنرجع لقصة الثور “ .
وهو أسلوب متبع في السرد القصصي حينما يُضطرّ السّارد إلى قطع السّرد، ووصل مفاصل الحكاية قائلاً : “ بيرجع مرجوعنا للموضوع الفلاني“ 2 .
وقد وردت حكاية مماثلة في مجموعة سلامة عبيد بعنوان “احكوا لنا قصّة البقرة الصّفرا” وهي لا تختلف عن حكايتنا إلا بجعل الثّور بقرة صفراء3 .

إللّي بتجيبه معك، بتاخذه معك

يُضرَبُ هذا المثل للتأكيد على أنّ المرء يفرض إحترامه على الآخرين من خلال عمله ومسيرته.
وحكاية هذا المثل سمعتها من والدي، وكان يسردها في معرض الحديث عن عزّة النّفس والحرص على احترام الذّات وفيها أنّ الزمن جار على جماعة من أكابر الناس، كانت عندهم أملاك وخيرات ومزارع ومرابعون لكن لحكمة ربّانية تراجعت أحوال هذه العائلة بسرعة حتى خسروا كلّ شيء وأصبحوا من فقراء النّاس رغم مجدهم القديم.
قرّر أفراد تلك العائلة ان يجولوا في أرض الله الواسعة بحثاً عن الرّزق الكريم وكانت الفرصة الأكثر توفّراً يومذاك أن يعمل المرء مرابعاً لدى ملاكيّ الأرض فيتعهّدها بالعمل والقيام بأعمال الحقل والزّراعة والحصاد ويتقاضى ربع المحصول. وصل الرّجال إلى بوزريق وطرقوا باب أبو حمد فارس أبو مغضب، وكان من عقّال القوم وقاضياً مشهوراً برجاحة العقل.. إستقبلهم أبو حمد فارس دون أن يكون على معرفة سابقة بهم فعرضوا عليه العمل في أرضه كمرابعين. وتطرّق الحديث إلى شروط الإتّفاق أي واجبات الرّجال وما يعود لهم نتيجة عملهم. عندها خطر لأحد أفراد الجماعة خاطر فخاطب أبو حمد بالقول:
“شوف يا عمّي بو حمد ! نحن ما بدنا منّك إلا شي واحد”
أبو حمد : تفضّل .
قال له: نحن ما بدنا غير الكرامة والحشمة .
أجابَه أبو حمد فارس على الفور:
ـ شوف يا با ! إللّي بتجيبوه معكن بتاخذوه معكن .
أي أنّكم إن كنتم أهلاً للإحترام وإن كنتم حاملين للخصال التي توجب احترامكم فإنّكم ستفرضون احترامكم من خلال تصرّفاتكم4 .

هذا المَعطْ مش مَعط مين يسدّ

والمثل متداول ومعروف في أنحاء الجبل ويضرب في الرجل المخلاف؛ يبذل الوعود المُغرية في سبيل الحصول على غايته، فيُعرف من خلال وعوده المُغرية أنّه لن ينجز منها شيئاً .
والحكاية أن رجلاً مستور الحال أراد أن يستدين بعض المال لقضاء حاجته، فتوجّه إلى أحد الميسورين، فطلب منه الموسر رهناً على المبلغ، وحين سأله الرّجل: ما الرّهينة التي تطلبها؟ . أجاب الموسر: أريد شعرة من شاربك. فاستكبر الرّجل هذا الطلب، وتردّد في قبوله. غير إنّ ضغط الحاجة أجبره على إعطاء الرّهينة المطلوبة، فاقتلع شعرة من شاربه، وسقطت معها دمعة. ولما رآه الموسر على هذه الحال من التردّد، وثق أنّه سيسدّد الدّين فأعطاه ما يريد.
وحين عاد إلى بيته سأله جاره كيف تدبّر أمر هذا المبلغ، فحكى له الحكاية وهو يتألّم. فانصرف الجار إلى ذلك الموسر يستقرضه بعض المال، وكان أن طلب الموسر الرّهن نفسه الذي طلبه من صاحبه الأوّل. فبادر الرّجل طالب القرض إلى نتف خصلة من شعر شاربه، وقدّمها إلى الموسر قائلاً :
“ كلّ الشّوارب على حسابك“!
عندئذِ أدرك الموسر أنّ الرجل مخلاف فقال له :
“هذا المَعط مش مَعط مين يسد“
والمعط : النّتف، معط الشّعر نتفه ونزعه . ويسد : يفي الدّين. والمعنى العام: أنّ من يقوم بنتف شعر شاربه بهذه الطّريقة دون أن يرِف له جَفن خليق بألّا يفي بوعد .

أنا مَع عصايتك هالعوجا

مَثَلٌ يُضرب في الممالأة، وربّما ضُرِب في الرّضوخ للقوّة عندما لا يكون للمرء خيار غير ذلك على سبيل الحيطة واجتناب المكروه.
والحكاية جرت في خمسينيّات القرن الماضي حينما نشب في الجبل الخلاف المعروف بين آل الأطرش ومن يساندهم، وبين فئة أخرى من عائلات الجبل عرفوا بالشّعبية، وهو ما عُرِف بنزاع “ الشّعبيّة والطّرشان»، الذي حسم في موقعة بكّا الشهيرة لصالح آل الأطرش ومن والاهم، وكان أن انقسم الجبل وبخاصّة المقرن القبلي إلى شَعبي وطرشاني، واستحكم العداء بين الفريقين.
وحدث أن توجّه أحد الأشخاص من قريته إلى قرية أخرى لتأمين بعض أغراضه، فصادفه رجل مقبل من القرية التي يقصدها، وبيده عصا غليظة، وتقدم صاحب العصا من الرّجل الآخر وسأله بشيء من الحماسة، بعد أن هزّ العصا بوجهه :
إنت شَعبي ولا طُرشاني ؟ .
ولما كان الرّجل أعزلاً، لا يستطيع الدّفاع عن نفسه حيال صاحب العصا، فقد حار في أمره؛ لأنّه إن قال له “أنا شعبي”، ربما يكون صاحب العصا طرشانيّاً، وإن قال له طرشانيّ ربما كان شعبياً، فآثر الرّجل السلامة وقال له :
ـ أنا مع عصايتك هالعوجا .
فذهبت مثلاً في الممالأة5 واتقاء الشّر ولو بشيء من الخنوع.

بلاكي يا أم حارتين

أم حارتين هي قرية على طريق دمشق السويداء تبعد نحو 40 كلم عن السويداء لجهة الشّمال.
وبلاكي : تعبير شعبي يستخدم للتّعبير عن الزّهد بالشّيء، وتهوين السّعي في سبيل الحصول عليه. وحكاية هذا المثل وردتني من مصدرين مختلفين أوّلهما الدّكتور فندي أبو فخر الذي أبلغني أنّ آل الحلبي وآل المغوّش وهم من سكان منطقة اللّواء “اللجاة الشرقية” من الجبل، قام بينهم نزاع على قرية أمّ حارتين مطلع القرن العشرين، وهي خربة يومذاك. وكان آل الحلبي يقطنون قرية “لاهثة“ وما يحيط بها. وآل المغوّش يقطنون قرية “خلخلة “ وما يحيط بها. وبلغ الخلاف أشدّه بين العائلتين، فتدخل الأمير شكيب أرسلان لحلّ الخلاف القائم، وكان يومها مرشّحاً لمجلس المبعوثان، فكان إذا ذهب إلى آل الحلبي هون من أمر هذه الخربة، داعياً إلى تسوية الخلاف، فهذه الخربة الصّغيرة لا ينبغي أن تقف في طريق الوفاق. وكانت عبارته المشهورة “بلاكي يا أم حارتين”. أي لنستغن عن أم حارتين ولنسوّ الخلاف. ثم يذهب إلى آل المغوش، الطّرف الثاني في الخلاف ويتبع الأسلوب نفسه قائلاً:
“ بلاكي يا أم حارتين “ فلنسوّ الخلاف. فذهبت عبارته مثلاً .

أما الرواية الثانية فمصدرها السّيد عصام المعاز من بلدة
“ القريّا “ (50 عاماً) وهي لا تختلف كثيراً عن الرّواية السابقة، إذ قال:
“إنّ الخلاف بين العائلتين المذكورتين كاد يؤدي إلى نزاع مسلّح، حينما قرّر آل الحلبي الاستيلاء على أم حارتين، وطرد آل المغوش بالقوّة منها“ .
فاستنجد آل المغوّش بأقاربهم الذين خفوا لنجدتهم، وتمركزوا في أماكن متعدّدة على أسطح القرية. وحينما علم زعيم آل الحلبي بالأمر، وأدرك خطورة ما هم قادمون عليه، جمع رجاله وقال لهم: “ بلاكي يا أم حارتين “. وبذلك حقن دماء كثيرة من الطّرفين .
هذا وقد حدّثني السيّد منيف النّداف من قرية خلخلة. (55 عاماً) نقلاً عن السّيد أبي طرودي نصري المغوش من قرية خلخلة نفسها، وأحد وجهائها، إنّ عبارة “ بلاكي يا أم حارتين “ هي من قول الأمير شكيب أرسلان، مؤكّداً بذلك رواية الدكتور أبي فخر.
هذا وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد حكاية هذا المثل مؤكّداً أنّ العبارة من قول الأمير شكيب أرسلان، وأضاف المرحوم عبيد أنّ هذه العبارة تردد في الحثّ على التّسامح في الخلافات الفرعيّة الصغيرة والتّساهل المتبادل6 . والله أعلم.

راس مْصِيْوِل وتدبّر7

والمثل يُضرَب للتأكيد على إمكانيّة تدبّر الأمور الصّعبة، فما دام رأس مْصِيوِل قد دبِّر أمره فليس من الصّعب تدبر أمر أقل أهمية. وحكاية هذا المثل كما نقلها لنا صالح عرابي أن خلافاً نشب بين بدو صلخد تطور إلى قتال أسفر عن قتل مْصِيول السوالمة على يد صالح ابن عميش السّميران راعي مواشي آل الأطرش فذهبت زوجة المقتول ملهوفة إلى شيخ أطارشة صلخد، وأخبرته بالأمر، لأنّ القاتل راعي مواشيه، وهو بشكل ما مسؤول عنه، كما هي العادة. فما كان منه إلا أن قال :
بسيطة، بتدّبّر .
فقالت له:
ياويلي لكن مْصيول قُتِل
فقال مجددا:
بسيطة بندبّرها .
فصاروا يقولون : “ راس مْصيوِل وتدبّر» في الأمر الذي يعسر تدبيره .
وهناك رواية لهذا المثل في كتاب المرحوم سلامة عبيد لا تختلف كثيراً عن روايتنا، إلّا أنّ الأستاذ عبيد يجعل البدويّ راعياً، وُجِدَ مقتولاً في أراضي بلدة صلخد. فأخذت أمّه تنوح، وتمزّق ثيابها، فقال لها شيخ البلدة : بسيطة يا عجوز! سوف ندبّر الموضوع. فصاحت العجوز: “يا ويلي! كيف بتدبّر الموضوع، وراس مْصيوِل مقطوع ؟! «.
وأردف الأستاذ عبيد أنّه يقال في الاستهزاء من محاولة حل موضوع معقد بجهود بسيطة8 .

شو هذا يا دروز؟

هذا التعبير يُطلق عند محاولة حسم الخلاف بطريقة توفيقيّة.
والحكاية أنّه نشب خلاف في إحدى مضافات الجبل كاد أن يؤدّي إلى المواجهة. وبينما القوم في نقاش حاد أمسك رجل من الحاضرين بملقط تناوله من النّقرة9، ورفعه بيده قائلاً :
“ شو هذا يا دروز؟ .
فسكت الجميع وكفّوا عن المجادلة منتظرين حسم الخلاف من هذا الرجل. فقالوا له :
“ ملقط “ .
فقال :
“ حبّوا بعضكن والسّلام “ . فذهبت مثلاً في الحل السّطحي لمشكلات معقّدة.
وقد أورد الأستاذ سلامة عبيد هذا التّعبير في مجموعته بصيغة أخرى. إذ جعل الرّجل يسأل ويجيب في الوقت نفسه: “ شو هذا يا دروز؟ ملقط “. وعقّب قائلاً: “يقال هذا المثل للسّخرية من اقتراح حلّ وهمي أو سخيف“10.
وعندي فإنّ الرجل ربما قصد من قوله “ ملقط “ أنّ الدروز “ مَقْضَب “ وهذا اللّفظ يردّده أهل الجبل للتّعبير عن القرابة، فيقولون: عائلة كذا وعائلة كذا مقضب، أي تربطهم صلة قرابة. وإنّما لجأنا إلى هذا التّفسير فلأنّ الملقط يعبّر عن معنى المَقضب، لأنّهم يقبضون به على النّار. والله أعلم .

قصص الأمثال – الضحى 18

قصص الأمثال

كما تُدَيّن تُدان

نَعتبرُ هذه الحكاية المؤثّرة من الأمثلة العديدة المُتَداوَلة في الثّقافة الشّعبيّة حول أهميّة برّ الوالدين ومعاملتهما بإحسان خصوصاً عندما يتقدّم بهما العمر ويصبحان في حاجة إلى أولادهما حيث أفنيا العمر في تنشئهم وتأمين عيشهم، وقد جاء في الآية الكريمة }وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا{ (الإسراء: 23)
والحكايةُ أن رجلاً توفّيت زوجته وكان له ابن وحيد فأبى لذلك أن يتزّوج ثانية خوف أن يتعرض الابن لظلم “الخالة” (أي زوجة الأب) لاسيّما إنْ رزق وإياها أطفالاً. لذلك قرّر أن يهتمّ بنفسه بتربية ولده حتى يكبر، وعندما كَبُر الولد وأصبح في سنّ النضج اهتمّ الأب بتزويجه وأعطاه منزله للسّكن فيه مع عروسه واتّخذ لنفسه حَيّزاً من المنزل يتابع فيه حياته واهتماماته، وكان رجلاً يحب القراءة والاطّلاع.
رُزِق الابن وزوجتُه بنين وبنات فكبُرت الأسرة حتى ضاق البيت، فبدأت الزّوجة تتأفّف من الحالة وباتت تصوّر لزوجها أن استمرار سكن الوالد في المنزل لم يعد ممكناً وأنّ عليه أن يعمل على إخراجه من البيت. ولمّا لم يكن للوالد منزل آخر فقد كان الابن يستعظم موقف الزّوجة ويجيبها بالقول :
– كيف أقوم بهذا العمل فهو أبي ! ربّاني، وكبّرني، وزوّجني، كيف أتخلّى عنه وليس له مسكن؟! .إلى أين تريدين أن يذهب؟
وكانت تقول له :
– لكلّ ظرف أحكامه ونحن الآن عائلة كبيرة وقد ضاق علينا المكان ولم يعد البيت يسعنا معه
كان الابن يمانع دوماً ويذكّرها بأفضال والده عليه، لكنّها بقيت تُصِرّ إلى أن أنذرته يوماً:
– إمّا أن يخرج والدك من المنزل وإمّا أن أرحل أنا عنه!
أمام إصرار الزّوجة أخذ الابن يفكّر: إن هو تمسّك ببقاء والده فإنّه سيخسر الزّوجة وعندها لن يكون هناك من يعتني بالأولاد لذلك قرّر أنّه لا مفرَّ من أن يطلب من والده ترك المنزل، فجاءه وصارحه بأنّه إن لم يغادر البيت فإنّه سيخسر زوجته وأولاده.
لم يتذمّر الوالد الشيخ، وقال لولده:
– لا تحملْ همّي، أعطني شيئاً كي أتدثّر به، وبالله المُستعان.
أمر الابن العاق ولده الصّغير أن يأتي بغطاء قديم بال، ليقدّمه إلى جدِّه. فغاب الولد ثم عاد بالغطاء لكنّه قام أمام والده بقطعه إلى نصفين وأعطى جدّه نصفاً واحتفظ لنفسه بالنِّصف الثاني استغرب الأبُ هذا التصرّف من ولده، وسأله :
– لمَ فعلت ذلك ؟! .
أجاب الابن:
– إنّي أحتفظ بالنّصف الثّاني لك لعلّك ستحتاجه عندما تكبُر.
عندئذٍ استفاق ضمير الابن الشّاب على خطورة ما كان يقدم عليه وشعر بخجل شديد فاتّجه إلى أبيه الشيخ يضمّه ويعتذر منه، ثمّ توجه إلى زوجته بالقول: لقد خَيّرْتِني بين أمرين وأنا الآن اخترت. وعليك أنت الآن أن تختاري: إمّا أن تشاركيني بواجب البنوّة وتكوني معي لوالدي خير معين وإمّا أن تغادري هذا البيت غير مأسوفٍ عليك..
ومغزى القِصّة أنَّ من يكون عاقّاً لوالدَيْه سيأتيه أولاد يَعقُّونه بدورهم وصدق من قال: “ كما تُدَيّن تُدان”

لا خالتك قاتلتك ولا جحشك ضايع

تعبيرٌ يُطلقه من يقع في أزمة حادة ويأتي أحدٌ يريد أن يهوّن عليه دون أن يدري عمق الأزمة التي يغرق فيها، فهو يتعاطف معه لكنّه لا يملك ما يقدّمه له في محنته.., وربّما التقى هذا التّعبير مع أمثال شعبيّة أخرى مثل قولهم “يلّي بياكل العصي مش مثل يلّي بيعدّها” أو قولهم “ يلّي إيده بالمَيْ مش مثل يلّي إيده بالنار “ وهم يعنون أنّه لا يشعر بالوجع إلا صاحبُه .
تقول الحكاية أنّ ولداً يتيم الأم كانت خالته (زوجة أبيه) تظلمه. وحدث أن عاد والده من الحراثة في يوم ماطر غير أنّ الجحش الذي كان خلف أمّه لم يعد معها، ولم ينتبه الرّجل إلى فقدان الجحش إلّا حين وصل الدّار .
ووجدتها الخالة فرصة لتمارس ظلمَها على الولد، فأجبرته على الخروج للبحث عن الجحش في ذلك الطّقس العاصف.
خرج الولد مُرغَماً، وتمهّل قليلاً قبل أن يبدأ البحث لعلّ المطر يتوقّف والرّيح تخفّف من عصفها. انتظر وانتظر لكن الطقس لم يعطه فرصة إذ استمر المطر يهطل بلا انقطاع وبغزارة . أُسقط في يد الولد الذي تنتظر منه خالته أن يأتي بالجحش وألّا يعود إلى البيت إلّا وقد عثر على الحيوان الصّغير. فلا هو قادر على المضي في البحث عن الجحش في هذا الطقس الهائج، ولا هو قادر على الرّجوع إلى البيت دون الجحش مخافة أن تعاقبه الخاله. بلغ به الإحباط أشدّه ولم يجد في النّهاية من وسيلة إلا أن يرفع يديه وينظر في السّماء الماطرة محتجّاً بالقول:” شو هامّك ؟! شتي … شتّي ..لا خالتك قاتلتك، ولا جحشك ضايع. “

«عُمرك ما تقصّ ذيل حمارك قدّام اثنين»

يروي المثل حكاية من يطرح همومه ومشاكله أمام الناس، فيتلقّى حلولاً متناقضة، يَحار في الاختيار بينها، وقد صاغ الخَيال الشّعبي حكاية تتحدّث عن هذا الموضوع ؛ تقول إنّ رجلاً وولده أخذا حماراً في سفر، ورأى الأب أن يترك لولده اليافع فرصة امتطاء الحمار في الشّوط الأوّل من الرّحلة، ولما شاهد الناس ذلك بدأوا يعيِّرون الولد ويقولون: ما أسوأ هذا الولد ؛ يركب ويترك أباه المسنَّ يسيرُ على قدميه .
ترجّل الولد ودعا والده للرّكوب ومضى الاثنان في طريقهما. وبعد قليل شاهدهما جمع فبدأ أفراده يهمهمون بلهجة استنكار: ما أقسى هذا الأب، يركب ويدع ولده الصّغير يمشي على قدميه .
نزل الأب وقرّر الاثنان أنْ يتابعا الرّحلة سيراً على الأقدام لعلًهما ينجوان من آراء النّاس وتعليقاتهم التي لا تنتهي. لكن ما أن رآهما جمع من النّاس على هذه الحال حتى بدأوا يتهامسون ويتندّرون مستهزئين. يقولون: ما أغباهما! يسيران على الأقدام ويتركان الحمار بلا ركوب فلماذا يقتنيانه إذن؟!
ما أن ابتعدا عن الجمع حتى قرّرا أن يمتطيا معاً ظهر الحمار ويتابعا الرّحلة راكبَيْن هذه المرّة.
وما هي إلّا فترة حتى صادفهما رجل وقال:
– أما تخافان الله ! اثنان تركبان الحمار، أليس له روح؟ أليس من لحم ودم؟ أم تظنّان أنّه صُنِع من الحجر فلا يتعب ؟ .
ضاق الرّجل ذرعاً بكل هذه النّصائح التي يلغي بعضُها بعضاً، وأيقن أنّه لا فائدة من رأي العوام في أي مسألة، وأنّه لا يأتي منه إلا الحَيْرة والنّدم. تطلّع عندها إلى ابنه بشيء من الأسى وقال:
يا بنيّ! ما عمرك تقصّ ذيل حمارك قدّام اثنين، واحد رح يقول طويل، والثاني رح يقول قصير.

ما بْسَوِّد وجهي

هذه العبارة يستعملها الرّجل عند رفضه القيام بعمل مشين أو قيام أحد من أقربائه أو أصدقائه لحسابه بعمل يستحق الإدانة، فإن فعلوا يقول: “ سوّدوا وجهي “ .
وحكاية العبارة، كما يرويها أحمد أبو سعد، أنّ رجلاً زار يوماً أحد أصدقائه، فوجده قد طلى جداراً من جدران بيته بالأبيض، وترك الباقي، ولما سأله : فيمَ لم تطلِ البيت كاملاً ؟ . فأجابه:
– لم يبقَ معي دراهم .
فقال له :
– ولمَ لا تستدين ؟ .
فأجابه:
– أخاف ألا أستطيع ردّ الدين، أفي سبيل أن أبيّضَ حائط بيتي تريدني أن أسوّد وجهي؟!.
فذهب قوله مثلاً 1

لَحْمُ الحصيني اللّي اْنت خابره

خَبِرُ الشّيء: عَرفه حقّ المَعرفة، وخابْرُه (بالعاميّة) عارفُهُ.
ويُضْرَب هذا المثل للإشارة إلى أمرٍ ما حالته سيّئة. في حين كان الأمل معقوداً على تبدّله نحو الأحسن. وحكاية هذا المثل هو أنَّ أحدهم كان قد خرج لبعض شأنه خارج بلدة مَلَح. وصدف له أن اصطاد “حصيني” (وهو من نوع ثعالب الصّحراء الصّغيرة) فأعجبه اكتناز لحمه وكان جائعاً، فسلخه، وأوقد ناراً، وأخذ يشويه. وحينما اقترب اللّحم من النضوج جذبت رائحة شوائه التي ملأت المكان، أحدَ العابرين من البلدة نفسها، كان قد خرج لبعض شأنه أيضاً. فتقدم الرّجل يسأل الصّياد عن شوائه:
– شو هذا ؟
فأجابه :
– حصيني، أمّا شو حصيني ؟!. مثل الخروف، سلخته، ونظفته، وأقل من ساعة بيكون جاهز للأكل. شو رأيك ؟ .
تأفّف الرّجل وتمنّى أن يكون اللّحم لحم خروف أو غير ذلك، فقال له :
– حصيني ؟!. قول غير هيك يا رجل .
– ليش من شو بيشكي الحصيني خَيُّو؟! لحم أطيب من لحم الضّان.
قال له :
– حصيني يا رُجَّال ؟!..حصيني! حَدا بياكل حْصيني ؟
فأجابه :
– والله حَبَّك حَبَّك، ما حَبَّك على كيفك .
همّ الرجل بالانصراف ثم فطن إلى أمر فخاطب الصّياد بالقول:
– على كل حال أنا راح أُبرُم بَرْمة طُلّْ على الزَّرع، وبس إرجع بدّي إسألك: شو هذا ؟ . لا تقولْ لي حصيني. قولْ أرنب ! قول أيْ شيْ بيتَّاكَل! لكنْ لا تذكرْ لي اسم الحصيني، حتى يصير للواحد نَفْس ياكُل ولو لقمة! فقال له :
– اتَّكل على الله، وتيسّر .
انصرف الرّجل وفي نفسه شيء من الشّواء. وبعد أن أنهى جولته في الحقول عاد إلى الرَّجل صاحب الشّواء وكان يأمل أن يسمع جواباً مختلفاً هذه المرّة. سأله:
– شو هذا ؟! .
أجاب الرّجل من دون اكتراث:
– هذا لحم الحصيني الّلي انت خابره.
فذهبت مثلاً في عدم تغيّر الشَّيء الذي يُتَوَقَّع تَغيُّره .

مش رُمّانة، قلوب مَلْيانة

يُضرَب هذا المثل في ردّ الفعل الذي يفوق الفعل نفسه، فإذا وقع بين اثنين خلاف ما، وأبدى أحدّهما ملاحظة عاديّة على تصّف صاحبه، فسرعان ما يَعْتَبِرُ هذا الصّاحب أنّ الملاحظة كانت بسبب الخلاف القديم، وهي بالتّالي في غير محلّها.
وحكاية المثل أنَّ رجلاً ضبط جاراً له يقطف ثمرة رمّان من أرضه، وكان بين الجارين خلافات. فأمسك به، وأوسعه ضرباً .
اجتمع الجيران، وأخذوا يلومون الرّجل على فعلته. وأخذ الرّجل يحاول مُحْرَجاً تبرير فعله الشنيع مُدّعِياً أنّ جاره يسرقه. ولأنّ الجيران يعرفون قِصّة الخلاف بين الجارين قالوا للضّارب: “هذي مش رُمّانة، هذي قلوب مَليانة” أيْ أنك لم توسعه ضرباً بسبب رمّانة، وإنّما بسبب حقدك عليه للخلاف القائم بينكما.
ويُرجِع سلام الرّاسي المثل إلى عادة متّبعة منذ أيام العباسييّن وكانت تقضي أن يُجرِّب الرّجال نساءهم (مدى صبرهم وجلدهم على طلبات الزّوج) بواسطة الرّمّان، فيطلب الرّجل من زوجته أن تفقأ رُمّانة، وأن تنزع حبّاتها وتضعها في صحن دون أن تدع حبة واحدة تفلت من يدها وتقع على الأرض، فإن حدث العكس وسقطت حبّة أو أكثر تشاءم الرّجل وطلّق الزّوجة!
ومنذ ذلك الزّمن نشأت كراهية النّساء للرّمّان، وصار من دواعي تطمين العروس إلى عدم إخراجها من بيت زوجها أن تضع حماتها أمامها رُمّانة، فتدوسُها وتدخل منزل الزّوجيّة مطمئنّة إلى أنها في أمان في دار الزّوج.
ويروي سلام الراسي أن إحدى النساء كانت حاقدة على عروس ابنها التي تزوجها بغير إرادتها، ومن قلب مليء بالحقد وضعت أمام كنتها رمانة مهترئة، وحين داستها العروس فاحت منها العفونة، فقال أحد الحاضرين “هذي مش رمانة، هذي قلب مليانة ”.

ماعز ولو طاروا

يروى أيضا: “عنزة ولو طارت” والمثل معروف في أنحاء الجبل ويضرب للرجل يصر على خطئه مع وجود الدليل الواضح والذي لا يقبل الجدل أنه على خطأ. وكأنما هو ترجمة للمثل الآخر الذي يندد بالإصرار على الخطأ : “نقول له: “أعزب” بيقول : “كيف حال أولاده” نقول له: تيس، فيقول احلبوه” .
والحكاية كما كان يرويها الكبار في الجبل أن رجلين كانا يسيران في البرية في طقس رملي يرافقه غبار كثير. وسط هذا “الضباب” الرملي تراءت لهما أشياء تتحرك في الأفق، فأخذا يجتهدان في معرفة حقيقة هذه الخيالات. قال أحدهما هذا قطيع ماعز ـ وقال الآخر بل هذا سرب من الحباري، واتفقا على أن يدفع من يخطئ الظن لمن أصاب مبلغاً من المال . ولما اقتربا من المكان انجلت الصورة فإذا بتلك الأشياء هي فعلا سرب من طيور الحباري ما لبثت أن طارت من أمامهما لدى اقترابهما . فقال الذي أصاب في توقعه: أصدقت الآن أنها حباري ؟ ها هي قد طارت . لكن الآخر بقي يُصرّ على أنها قطيع ماعز قائلاً : “ ماعز! ولو طاورا “ فغدت مثلاً يضرب في هذه الحالة .
وورد المثل في مجموعة سلامة عبيد بصيغة المفرد “عنزة ولو طارت”

قصص الامثال

قصص الأمثال

فرحة فتنة

يضرب هذا المثل لمن يفرح لبؤسه وشقائه معتقداً أنه في حالة فرح حقيقي، وربما أخذ المثل بعداً سياسياً حينما يتندرون بفرح العامة من الناس، ومدحهم السلطان المستبد بالرغم مما يلحق بهم من ظلم وحيف.
و الحكاية أن فتنة زوجة أحد المرابعين، والمرابع مسؤول أمام صاحب الأرض عن حراثة الأرض وزرعها وعن الحصاد والبيدر وغير ذلك من الأعمال، كما أنه مسؤول عن علف الحيوانات والاعتناء بها، باعتبارها الوسيلة الأساسية في الإنتاج .
ومن الطبيعي ألا يستطيع المرابع وحده القيام بكل هذه الأعمال، إذ كانت زوجته تقف إلى جانبه في كثير من هذه الأعمال . وعليه فقد دخلت فتنة هذه إلى التبّان1، وأخذت تكربل2، لتهيِّئ وجبة تبن ناعمة للبقرات التي تستخدم في الحرث”.
وأرادت إحدى النساء معابثتها، فدخلت خلفها فلم تكد تراها من غبار التبن فقالت لها :
ـ “يا مشحَّرة يا فتنة! انت عبتكربلي هون والغبرة فوقك، وجوزك قاعد مع فلانة، وقال بدو يطلقك وياخذها”.
فوضعت فتنة الكربال أرضاً، وأمسكت رأسها بيديها الاثنتين وقالت:
ـ يا ربي عفوك ! أنا قلت هالنعمة مش راح تدوم لك يا فتنة3

الصايع ببلاده صايع ببلاد برا

الصايع ببلاده صايع ببلاد بره
الصايع ببلاده صايع ببلاد بره

مثل يضرب في الرجل الخامل الذي لا تتحسن أحواله مهما تبدلت الظروف. والحكاية أن ولداً اسمه عصام كان يعيش عيشة دلال، ونشأ دون أن يتعود على تحمل المسؤولية. وحين كبر أخذ والده يحثه على العمل والاعتماد على الذات.
ـ يا ولدي أنا لست مُخلِّداً، غداً سأموت، وسوف تتحمل أنت مسؤولية الأسرة، عليك أن تبحث عن عمل ما.
وكان عصام يهز برأسه عند سماع نصح والده لكن دون مبالاة، وكان غالبا ما يدعي أنه لم يجد بعد العمل الذي يليق به. وبفعل إلحاح والده عليه، جاء إلى والده يوماً يحمل مشروعاً:
ـ أريد أن أسافر
ـ إلى أين ؟
ـ إلى فنزويلا.
ـ يا ولدي السفر ليس لعبة، والغربة تحتاج إلى رجال . أليس من الأفضل أن تبحث عن عمل هنا، حتى تتعود، وأنت حتى الآن لم تجرب حظك هنا في بلدك؟
ـ يا أبي هذه البلاد لا تطعم خبزاً، ولا تبني مستقبلاً..ولم يعد أمامي خيار سوى السفر، لعلني بذلك أنقذكم وأنقذ نفسي من هذه الحال.
بسبب إصرار ابنه الطموح باع أبو عصام قطعة أرض وأعطى عصام تكاليف السفر. وتيسَّر عصام إلى فنزويلا بإذن الله.
مرت الأيام، والشهور، سنة..سنتان..ثلاث..ولا علم عن عصام ولا خبر . وأبو عصام يقول : ربما تغير الولد، الغربة تغيِّر الرجال، وأم عصام لا حيلة لها إلا البكاء والدّعاء، ولوم أبي عصام: كيف تخلى عن فلذة كبده، وجعله يطير إلى بلاد غريبة وبعيدة.
إلى أن كان يوم، حمل لهم البريد إشعاراً برسالة مسجَّلة. أبو عصام ليس له أحد في الغربة إلا عصام، وهذه الرسالة من عصام ولا شك، لأنها رسالة مسجلة، ولا تكون الرسالة مسجلة إلا إذا كان فيها “شيك محرز”…وأخذ أبو عصام يحسب، لا يعقل أن يرسل من فنزويلا مبلغاً زهيداً، ثم إنها ثلاث سنوات غربة، لا بد أنه مبلغ سيحل لنا مشاكل كثيرة.
في اليوم التالي، ومن صباح الله الباكر توجه أبو عصام إلى البريد في مركز الناحية وهناك سلًمه الموظف الرسالة بعد أن وقَّع على الاستلام . كل هذه الإجراءات عززت لدى أبي عصام الثقة بأن الرسالة دسمة . لم يشأ أن يفتح الرسالة في مكتب البريد، أراد أن يتمتع بمفرده بالمبلغ الذي حوّله له عصام. وما أن خرج من حدود البلدة متجهاً إلى الضيعة، حتى بادر إلى الرسالة ففضها ليقرأ :
“ والدي العزيز ! أنا بخير وبصحة جيدة .
لا تظن يا والدي ان عصام تغيّر، “ عصام على حطة إيدك . الغربة ما غيرت فيه شي . والّي صايع ببلاده صايع ببلاد بره . ابعث لي نيلون4 الطريق “.

1 التبان : مستودع التبن .
2 الكربلة : فصل القصل عن التبن بالكربال . هون : هنا . مكيّف : مسرور، مرتاح البال
3 بدو : يريد . ياخذها : يتزوجها .

شو هالنطّة الحلوي!!؟

شو هالنطّة الحلوي
شو هالنطّة الحلوي

يضرب هذا المثل في الرأي غير الصائب الذي يعود على من اتبعه بأوخم العواقب . وحكاية هذا المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، إذ كثيراً ما تسرد هذه الحكاية للتنديد برأي عاد بنتائج سيئة على من اتبعه
والحكاية أن لصوصاً أرادوا سرقة أحد بيوت المياسير، وكانوا يسيرون بخفة على سطح البيت فأحست بهم المرأة وأيقظت زوجها . لكن الزوج أجاب زوجته بصوت يسمعه اللصوص : نامي يا امرأة ! هؤلاء ليسوا لصوصاً، فاستغربت المرأة رد فعل زوجها وقالت له : وما أدراك ؟ ! . فقال لها : لو كانوا لصوصاً بحق لما ساروا في وسط السطح، فاللصوص لا يسيرون إلا على حافة السطح كيلا يشعر بهم أحد .
فاعتقد اللصوص أن كلام الرجل حقيقة، وأخذوا يسيرون على حافة السطح . ولما كان الظلام دامساً لم يتبينوا مواقع أقدامهم، فزلوا ووقعوا على أرض الدار. فخرج الرجل صاحب الدار وقال لهم: “ شو هالنطّة الحلوي ! “
فأجابه كبيرهم:
“هذي من راياتك يلي بتهوّي5 “
ووردت حكاية مشابهة لهذا المثل في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع بعنوان حكاية “المصدق المخدوع “ ؛ وهي تحكي عن لصوص أردوا سرقة أحد البيوت فعلوا السطح، فاستيقظ صاحب البيت وأحس بهم، فنبه زوجته، وقال لها : رويدكِ إني لأحس باللصوص قد علوا ظهر بيتنا، فإني متناوم لك، فأيقظيني بصوت يسمعه مَن فوق البيت . ثم قولي : يا صاحب البيت ! ألا أخبرتني عن أموالك هذه الكثيرة، وكنوزك من أين جمعتها ؟! . فإذا أبيت عليك فألحي في السؤال؟ ففعلت المرأة ذلك، وسألته كما أمرها : فقال الرجل بصوت يسمعه اللصوص : أيتها المرأة قد ساقك القدر إلى رزق كثير فتنعَّمي واسكتي.. ولا تسألي عمّا لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع، فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين . فألحّت المرأة عليه فقال لها: جمعته من السرقة . فقالت له كيف كان ذلك؟ فقال لها : كنت أعلو ظهر البيت، وانتهي إلى الكوة التي يدخل منها ضوء القمر، فأرقي بهذه الرقية: “ شولم شولم” سبع مرات، ثم أهبط على عمود الضوء إلى داخل المنزل دون أن يراني أحد . فأجمع من الكنوز ما أستطيع جمعه، ثم أرقي بالرقية نفسها، وأعتلي عمود الضوء، فإذا أنا خارج المنزل.
ولما سمع اللصوص ذلك الكلام فعلوا كما سمعوا، فوقعوا في شر أعمالهم6.

4 نيلون : ناولون، أجرة السفينة، مصروف الطريق مع أجرة الركوب .
5 ـ الفزة : القفزة . راياتك : آراؤك . بتحزي : بتخري

كرمال عين تكرم مرجعيون

مثل يضرب في الرجل ؛ تكرمه لا لشخصه، وإنما إكراماُ لعزيز أوصى به . والمثل معروف في أنحاء الجبل، غير أني لم أقع له على حكاية إلا عند سلام الراسي، الذي أورد حكايته على النحو التالي :
قبل نهاية القرن الماضي اشترى البارون اليهودي روثتشايلد قرية المطلة، إحدى قرى منطقة مرجعيون في ذلك الزمان، من مالكها جبور بك رزق الله من صيدا، وذلك في نطاق المخططات اليهودية لجعل قرية المطلة قرية يهودية، ومد حدود أرض الميعاد إلى ما وراءها .
وكان زعيم المطلة الشيخ علي الحجار، من زعماء الدروز المعروفين، ومن أصحاب المكانة عندهم، إذ سبق له أن قاد إحدى معارك العصيان المسلح ضد الدولة العثمانية، وبطش بإحدى حملاتها، فقتل بعض أفرادها وشتت شمل من تبقى منها .
واضطرت الدولة يومئذِ إلى توسيط الوجيه المرجعيوني ملحم راشد بينها وبين الحجار، ولكن بدون جدوى، وعرف أنه استسلم فيما بعد بواسطة نسيب باشا جنبلاط وعفي عنه .
وفي أحد الأيام استدعاه القائمقام رفعت بابان بك إلى جديدة مرجعيون، لغاية ما، وعند المساء توجه عائداً إلى قريته، إلا أن فرسه وصلت صباح اليوم التالي إلى المطلة بدون فارسها . فهب رجاله يبحثون عنه، حتى عثروا عليه مقتولاً، ومطروحاً قرب نبع الحمام في مرجعيون .
وقيل إن القائمقام كان وراء مصرعه، كما أشيع أن أحد زعماء المنطقة كان يترصد خطواته . إلا أن مقتل الحجار ما زال حتى الآن سراً مغلقاً لم يستطع أحد أن يكشف عن حقيقته . وقد يجوز التكهن بالنسبة لتسلسل الأحداث بان إزالة الحجار من الطريق سهلت عملية اقتلاع الدروز من قرية المطلة وتسليمها لليهود قبل نهاية القرن التاسع عشر .
الذي يهمنا الآن هو أن جماعة الحجار اتهموا أهالي جديدة مرجعيون بقتله، فذبحوا عساف الصغير على الفور قرب جسر الخردلي، وأخذوا يجيشون للهجوم على الجديدة . وبنو معروف لا يبيتون على ثأر، ولا ينامون على ضيم، فكيف إذا كان قتيلهم من عيار الشيخ علي الحجار .
هذا مع العلم إن الهجوم على جديدة مرجعيون مغر وهين : بيوتها عامرة، وأهلها مسالمون، يتنافسون على اقتناء النفائس، ولكنهم لا يخبئون البنادق في مخادعهم .
لذلك لجأ أهالي الجديدة إلى المراجع المسؤولة، وتوجه بعض وجهائهم إلى بيروت حيث قابلوا رضا بك الصلح، وطلبوا مساعدته، فأبى وقال لهم : “ اقلعوا شوككم بأيديكم “ .
وذكر رضا بك أهالي الجديدة بحادثة خان الزهارية عندما فك صاحب الخان حماراً لرجل من صيدا، وربط مكانه فرساً لرجل من الجديدة، فنشأ عن ذلك خلاف بين الرجلين، وتألب الصيادنة على الجدادنة وأهانوهم، فقدم هؤولاء شكاوى قاسية اللهجة إلى مقام والي بيروت .
كان رضا بك الصلح يومئذٍ يشغل وظيفة حساسة في مركز ولاية بيروت، وأراد بحكم وظيفته أن يتوسط بين الصيادنة والجدادنة، فرفض هؤلاء وساطته قائلين “ ابن صيدا ما بينعطى ريق حلو “
وبلغت هذه العبارة مسامع رضا بك لذلك رفض فيما بعد أن يتوسط لأهالي الجديدة في قضية مقتل الحجار .
في ذلك الوقت كانت عليا فرنسيس قد شقت طريقها لتصبح من أسياد المواقف في المنطقة، وشعرت أن الجو قد اكفهر بسرعة، وأن ملابسات جريمة مقتل الحجار قد تتطور إلى فتنة طائفية، فانتخبت وفداً من وجهاء المسيحيين في المنطقة، وهبطت إلى بيروت، وقصدت رضا بك الصلح بالذات .
فرحب رضا بك بعليا فرنسيس أجمل ترحيب، وطيب خاطرها، وخواطر صحبها وقال في معرض الكلام : “ كرمال عين تكرم مرجعيون “، وذهب بنفسه للتحقيق في مقتل الحجار وإنهاء الأزمة7 .

6 ـ كليلة ودمنة : ص38

7 ـ سلام الراسي . في الزوايا خبايا : ص494

كلب المير مير

يضرب هذا المثل للنيل ممن يستظل بظل أحد الكبار، فيجعل لنفسه شأنا لا يستحقه وقد يحتمي الرجل بأمير ليمارس التعدي أو “يتمرجل” على الناس لا لرجولة منه بل لكونه “مدعوم” بنفوذ الأمير ال مما يجعل الناس يتحاشونه إكراما للأمير وخوفا من إغضابه. وقد يتخذ هذا المثل طابعاً سياسيا حينما يتعلق الأمر بأذناب السلطة، وعندئذٍ فالمثل من الأمثال التي تتهكم على الاستبداد والعسف.
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي عن جورجي ميستو برواية “ كلب المير مير “إن أحد أمراء لبنان خرج إلى الصيد، ومعه كلب عريق، وحدث أن عبر الأمير وكلبه أمام حظيرة معّاز، فخرج المعاز مرحباً بالأمير، وخرج كلب المعاز من الحظيرة وأطبق على خناق كلب الأمير ودعكه، ومرَّغه، وشرم أذنه، وجلف إحدى عينيه .
وكان المعّاز يعرف أمير البلاد، فانحنى له لاثماً الأرض بين قدميه . لكن كلب المعاز كان غشيماً في قضايا البروتوكول، فكان منه ما كان . وانكسر خاطر الأمير وهو يشاهد كلبه ممروغاً بين يدي كلب المعاز، وهو يعوي عواء المغلوب على أمره، فأمر بقتل الكلاب كافة في المنطقة انتقاماً لشرف كلبه المهان. فقيل يومئذٍ: “كلب المير مير “ تدليلا على إيقاع الأمير العقاب بكلاب لا ناقة لها ولا جمل في ما حدث لكلبه، كما يعاقب فيها السلطان الناس في قرية أو منطقة وقع فيها قتل لموظف كبير أو معاون من معاونيه، وجرى القول مجرى المثل إلى يومنا هذا8

إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب

إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب
إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب

يروى أن رجلاً أصيب بالفالج فبات مقعدا، وصار دائم الضجر كثير التذمر والشكوى، ملحاحاً في طلب ما يحتاجه، وما لا يحتاجه . فابتكر أولاده طريقة لتسليته، وتخفيف طلباته التي لا نهاية لها . وكان في القرية رجل معروف بذلاقة لسانه، وقدرته على سرد الحكايات، وابتكارها، فاستأجروه ليسلّي الوالد لقاء مجيدة (وهي عملة عثمانية آنذاك) في كل يوم، واستمر الرجل في مهمته، يسرد الحكايات للوالد المريض، ويتقاضى أجره، حتى أخذ الله وديعته .
وحدث أن وقع رجل آخر بالمرض نفسه، لكنه كان مختلفاً عن صاحبه الأول بأنه كان مهذاراً، لا يعرف لسانه الراحة، يريد أن يتحدث، ويفضي بما في نفسه. ولما لم يكن عند أولاده القدرة، ولا الوقت للجلوس أمام الوالد المريض، والاستماع إلى أحاديثه المتواصلة، فقد تذكروا الرجل الذي أستأجره قبلهم أولاد المفلوج الأول، فذهبوا إليه يستأجرونه قائلين : كنت تتعب نفسك في الكلام، وسرد الحكايات للرجل الذي مات منذ مدة، أما نحن فنريدك في مهمة أسهل وهي أن تجلس وتستمع إلى والدنا دون أن تبدي أي عناء في اختراع الحكايات وسردها . ولك منا كل يوم ليرة عصملية (ذهبية) لقاء صمتك وإصغائك
ففرح الرجل، وقام بمهمته خير قيام، وكان يقبض عن كل يوم ليرة عصملية بدلاً من المجيدة التي كان يتقاضاها من قبل، حتى أخذ الله وديعته، فتجمع للرجل رزق وفير، وعرف الناس الحكاية واعتبروا من ذلك الوقت فقالوا: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب “

8 ـ سلام الراسي . “ثمانون”: المجلد الخامس : ص94

قصص الامثال

قصص الامثال

تُطْلَقُ هذه العبارة للتّأكيد على القناعة، وعدم الإسراف في الملّذات، وبخاصّة الطّعام والشّراب، إذ يعتبرون الطّعام والشّراب وسيلة للعيش لا غاية بحدّ ذاتها، متمثلين بالأثر الذي جاء فيه: « نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لانشبع « .
والحكاية أنّ بَدَوِيّاً وُصف له العِنَب، وأفاض المتحدّث بالكلام عن العنب وأنواعه وألوانه وطعمه اللّذيذ وفوائده، والبَدوي لم يرَ العنب في حياته كلّها، فوقع حُبُّ العنب في نفسه، واشتهى أن يتذوّقَه، وقرّر الارتحال إلى الشّام ليأكلَ عِنَباً.
وهكذا كان؛ فبعد أن قطع المسافات على جَمَلِه، وأصبح على مشارف الشّام إذ شاهد رجلاً يجلس تحت شجرة، فقرّر أن يستريحَ قليلاً بالقرب من الرّجل، وكان الرّجل يحمل شيئاً من العِنَب، أتى على أكثرِه، ولم يبقَ لديه إلّا بضع حبّات، فدفعها إلى البدويّ قائلاً :
ـ تفضل، الفَضْلةُ للفَضيل .
فسأل البدويّ :
ـ وِاِشْ هَذا ؟
فقال له :
ـ عِنَب.
فتناول البدويّ حبّات العِنب، وأكلها، ثمّ قام إلى جَمَله، فَركبَه، وقفل راجعاً إلى دياره وهو يقول:
« شهوَة، وقضيناها».
ولكلام البدويّ فائدة في وصف طبيعة أهل البادية المعتادة على التقشّف وقوّة الاحتمال وفي الوقت نفسه اعتدال المزاج في الطّعام لأنّهم اعتادوا على أصناف قليلة وأخذوا كفايتهم منها. وقد اكتفى البدويّ البسيط بتذوّق حبّات دفعتها الصّدفة في طريقه واعتبر أنّه بذلك تذوّق العِنب ولم يَعُد أمامه شيء آخر يفعله مثل أن يسعى إلى شراء عنقود كامل فيشبع من تلك الفاكهة التي قطع الفيافي والقفار من أجل أن يتذوّقَها. بل إنّه اعتبر اندفاعه في البحث عن العنب بمثابة «شَهْوة» وحالة ضعف في النَّفس وهو شُفِي من إلحاحها وأصبح حرّاً في العَوْدة إلى الحمى.

قَوْمٌ بلا عُقّال راحوا قطايع قَوْمٌ بلا جُهّال ضاعت حقوقها
يُضْرَب هذا المثل للموازنة بين اللّين والحَزم، وبين استخدام القوّة أو التفاوض في الدّفاع عن الحقوق. وإذا كان الناس بحاجة إلى عقّال تَسوس أمورهم وتحميهم، فهم بحاجة إلى جُهّال تحمي حقوقهم من الضّياع . وقد عبّر الأمير شكيب أرسلان عن هذه الحالة بقوله :
إذا كان دفع الشّرّ بالرأيِ حازماً فما زال دفعُ الشّرِّ بالشرِّ أَحْزَما
وحكاية هذا المثل كما يرويها سلام الراسي نقلاً عن عبد الله النّجار أنّه هبط على دمشق شيخ جليل من مشايخ وادي التّيْم، وبات في أحد خانات المدينة، وكان يتمنطق بِكَمَر(حزام من جلد متين فيه جيوب عديدة لحفظ الأوراق والنّقود) فيه خَرجيّة السّفر. وَضعه تحت وِسادته في أثناء اللّيل، وعند الصّباح خرج في حاجة نفسه،، وعاد فلم يجد الكَمر، فراجع صاحب الخان في الموضوع، فقال له هذا: اذهب فتّش عن كَمرِك حيث وضعتَه، إذ كان يجب عليك أن تستودعَني إيّاه، فأكون مسؤولاً عنه.
ورغم أن الاحتمال كان قويّاً في أنّ صاحب الخان له يدٌ في ضياع كَمرالشّيخ فإنّ الأخير كان حَسَن الطّويّة حَسن الظّنَّ بالناس فاكتفى بالقول: «لا حَوْل ولا قوّةَ إلّا بالله». وقرّر أنْ يعود توّاً إلى قريته، فاعترضه صاحب الخان وطالبه بكراء الخان. وإذ لم يبقَ مع الشّيخ ما يبرِّئ به ذمّته، فإنّه فكّر قليلاً، وحك جبينه، ثمّ أخذ شعرة من لحيته، وقال لصاحب الخان: “هذه شعرة من لحيتي، أجعلها رَهْناً عندك، حتى أرسل إليك كِراء الخان”.
ورجعَ الشّيخ إلى قريته،، وبعد يومين حَظِي برجل ذاهب إلى دمشق، فقال له: “يا مْعَوّدْ! خذ هذه البَشالِك الثّلاثة (جمع بشلك وهو عملة عثمانيّة كانت مُتداولة في ذلك الوقت) واذهب إلى الخان الفلاني، وحاسب صاحبه، واطلب منه أنْ يبرِّئَ ذمّتي، وأن يسلّمَك شعرة من لحيتي، تركتُها رَهناً عنده.”
ومضى الرّجل إلى الخان، وقال لصاحبه: هذا كِراء الخان من الشّيخ فلان، أَبْرِئ ذِمّته مَعك، واعطني شعرتَه المرهونة عندك.”
فَضَحك صاحب الخان، وقال: “ما أقلّ من عقلك إلّا عقل الشّيخ الذي أرسلك، سلّم على صاحبك الشّيخ، وقلْ له أن يأتي ويفتّش عن شعرة لحيته في أزقة المدينة. لقد زاد صاحب الخان إلى فعلته في اغتصاب مال الشّيخ قلة الأدب مع شيخ جليل.
وعاد الرجل إلى القرية، وروى ما حدث له مع صاحب الخان. وتسبب ذلك بألم للشيخ الذي انتفض وبات مثل أسد هصور وأقسم بلحيته على الثأر لكرامته ولكرامة الصالحين جميعا.
انتشر خبر الحادثة ونِيّة الشّيخ الثأر للإهانة التي وجهها صاحب الخان، فجاء عقلاء القرية يطيّبون خاطره، لأنّه لم يَرُقْ لهم أن يعود هذا الشيخ المحترم ويوقع نفسه في أمر لا تُحمد عُقباه في بلد بعيد. وبعد الكثير من التّشاور وتبادل الرّأي في التّدبير المناسب لحفظ كرامة الشّيخ قالوا: “نتقدّم بشكوى إلى أحد قضاة الشّام: وقال بعضهم لا بل نرفع عريضة إلى الوالي. ونادى البعض بأنّه “لا بدّ لنا من أن نُطلع زعماءنا على ما حصل” .
ودامت اجتماعات ومشاورات العقلاء عدّة أيام. بدون جدوى.
أخيراً وبعد منتصف إحدى الليالي، قُرِع باب الشّيخ، فنهض وفَتح، بصعوبة شاهد في العتمة ثلاثة شبّان مُلثّمين، ناولوه جِراباً، وتواروا بِسرعة… لا سلام، ولا كلام…
أضاء الشّيخ السّراج، وفتح الجراب، وإذ برأس غريمه صاحب الخان داخل الجراب…
واتّضحَ فيما بعد أنّ بعضَ شبّان القرية عندما شعروا بعجز عقلائهم عن ردّ اعتبارهم تسلّلوا سِرّاً إلى دمشق، وفَتكوا بصاحب الخان، وجاؤوا برأسه .
وقبل هذه الحادثة كان العامّة يردّدون القول المأثور: “ قومٌ بلا عُقّال راحوا قطايع” (قطايع: بمعنى قطعان متفرّقة) لأنّ العُقّال يعملون دائماً على جمع كَلِمة قومهم، فلا يتفرّق رأيهم. وبعد الحادثة صار القول المأثور:
قومٌ بِلا عُقّال راحوا قَطايع قومٌ بِلا جُهّال ضاعت حقوقها1.

شهوة وقضيناها
شهوة وقضيناها

شور سويلم على العَرَب، بَيعوا الخيل واشتروا حمير

يُضرَب المَثل في الرّأي الأخرق الذي يعود بالنّكد على من يعمل به. والمثل معروف في أنحاء الجبل.
وسويلم هذا بدويّ أشار على قومه أن يبيعوا خيلهم، ويشتروا بثمنها حميراً فبثمن فرس واحدة يشترون عدداً كبيراً من الحمير، وبذلك يتوفّر لَديهم عددٌ وافر من الحمير لنقل الماء وحمل الأمتعة، مُتناسياً حاجة البدويّ الملحّة للخيل خصوصاً في الشدائد والبدو أقوام وقبائل قد تقع بينهم غزوات وحروب وهذه النّوائب لا يمكن صدّها إلّا بالفرسان وخيلهم الأصيلة.
وقد أورد الأستاذ سلامة عبيد هذا المثل بصيغة أخرى؛ إذ جاء عنده: “شور حصيرم عَ العرب: بيعوا الحمير واشتروا قِرَب2، وكان يقصد بذلك أن يبيعوا حميرهم وهي وسيلة ّ الأساسيّة لديهم وأن يشتروا بها الكثير من القِرب التي يمكن ملؤها بالماء وتحقيق الاكتفاء منه. وأضاف الأستاذ عبيد في شرح استخدام المثل: “بمعنى بئسَ الرّأي، لأنّهم إذا باعوا حميرَهم فسوف يُضطرّون إلى حمل قِرَبهم الكثيرة على ظهورِهم “

صِهري يا قدّوسَ الله

وهو مثل يُضرب في المَرأة التي تفضّل صِهرَها على ولدها. وحكاية المثل تتداولها النّسوة أحياناً في مجالِسهنّ يتندّرن بمن تتعلّق كثيراً بصِهرها وتفضّله حتى على ابنها. والمثل متداول أيضاً في محافظة درعا.
أصلُ حكاية المثل أنّه كان لامرأة ولد اسمه عازَر، وصِهر اسمه عازَر أيضاً . وكانت المرأة تحبّ صِهرها أكثرَ من ولدها، وكان الابن يشعر بذلك من خلال تعاملها مع الاثنين. لكنّه كان يسمعها في الليل وهي تنهض من عزّ نومها، فترفع يديها إلى ربّها، وتناجيه: “ يارب! تخلّي لي عازَر، واولاد عازَر، ومَرْتْ عازَر … يارب ترزق عازَر، وما تبخل على عازَر”.
كان عازر الابن يحتار عندما يسمع هذا الدّعاء لكنّه لم يكن على ثقة إذا كان المقصود بالدّعاء الحارّ هو أم الصّهر وسند الظّهر. وكاد أن يلوم نفسه كيف أنّه يشكّ في حبّ أمّه له. لكنّ تعاملَها في النّهار كان يختلف عن دعائها في اللّيل، ولذلك قرّر أن يقطعَ الشّكّ باليقين، ويعرف هُوّيّة عازر هذا الذي تدعو له كلّ ليلة ؟ .
صعدَ ليلاً إلى الطّاقة التي فوق الباب. وجلس ينتظر، وعلى الموعد نهضت العجوز وأخذت تدعو كعادتها:
“ يا رب تخلِّي لي عازر، وولاد عازَر ومَرْتْ عازَر … يارب ترزق عازر وما تبخل عليه”.
فتكلّم الولد من الطّاقة مُخَشِّناً صوتَه كي يبدو وكأنّه يأتي من السّماء:
ـ أنو عازَر فيهم ؟!.
ارتعدت العجوز وظنّت أنّ أحد القدّيسين قد سمعها وهو بصدد أن يلبّي دعاءها بعد أن يعرف مقصدها، وأيّ العازَرين تقصد بدعائها، فصاحت هذه ملهوفة:
ـ صهري يا قدوس الله … صهري .
فنزل الولد عندها من فوق الطّاقة وقال لها:
كل هذا الدّعاء لعازر صِهرك ؟!. يالله روحي على بيت صِهرك عازر3.

على عينك يا تاجر

تُطْلَق هذه العبارة للتّعبير عن عدم إخلاص النّيَّة، وذلك حين يفعل أحدهم فعلاً ما لغاية في نفسه، أو يظهر بغير مما هو فيه، فيقولون: يفعل هكذا “على عينك يا تاجر”.
والحكاية أوردها أحمد أبو سعد وقال إنّها من قول أحد شعراء المماليك شعراً .
فقد مرّ أحدهم بدكّان، فَلَفت انتباهه ازدحام النّاس في هذا الدكّان، فظنّ أنّ في الدّكّان بضاعة نادرة. لكنّه حين اقترب لم يجد ما هو غير عادي، بَيْدَ أنّ البائع كان فتاة فاتنة اجتمع الزّبائن لرؤيتها لا للشّراء. فأنشد:
ازدحمَ النّاس على تاجــــــــــــــــــرٍ من غَمزِ لَحْظ طَرْفِه فاتـــــــــــــرُ
قالوا عَلامَ ازدحموا هَكذا قلتُ على عينك يا تاجـرُ4
والواضح هنا أنّ المعنى المقصود بالمثال هنا تمّ تحويره مع الوقت فأصبح المقصود به أن يفعلّ المرءُ أمراً شائناً أو غير محمود دون استحياء من النّاس فهو يقوم به غير مهتمّ بما يمكن أن يناله من نقد أو ملامة. أمّا معنى المثل هنا فهو القيام بأمر ما لغير الغاية الظّاهرة بل لغرض آخر يتّضح عند التّدقيق في واقع الأمر.

عَمِلَ من الحبّة قُبّة

مع أنّ هذا المثل يُساق في معرض التّهكم ممّن لا يرى الأمور على حقيقتها، ويتزيّد في نقل الأخبار ووصف الحوادث، إلا أنّ قِصّته الأصليّة تحمل معاني إيجابيّة كثيرة عن البَرَكة التي تحلّ في الصّدَقَة والبَذل وتعاون أفراد الجماعة. حكاية هذا المثل أوردها سلام الرّاسي على النّحو التالي:
يُحكى أنّ أحدَ رجال الدّين الأفاضل، أراد أن يبني معبداً لله في قريته. فراح يستنهض همم أبناء القرية ليجودوا على الله ببعض ما جاد عليهم من حبوب أرضهم، فقال أحد المشكّكين:
وهل تصير الحَبّة قُبّة ؟.
ولكنّ ذلك لم يَفتَّ في عَضُد رجل الله، وثابر على جمع الحبوب، وبيعها وإنفاق ثمنها حتى أتمّ المعبد فقيل عندها: عمل من الحبّة قبّة والمقصود بالقبّة هنا المعبد الذي يُزوَّد في أحيان كثيرة بقُــبّة.

فقيه الخُنْفُشار

يُخاطَب بهذه العبارة من بان كَذِبُه وادّعاؤه، فيقولون له “فَشَرْت” . وحكاية هذه العبارة أوردها أحمد أبو سعد فقال: و “فَشَرَ” المرء أصلها من “فَشار”، وهي مختصرة من “خنفشار. وعلى ما يروون أنّ “فقيهاً” كان يدّعي المعرفة بكلّ علم، فلا يُسأل عن أمر إلّا أجاب مُستشهداً بكتب العلماء، فذاع صيتُه، وأُعْجِب بعلمه الناس، ودَأبوا يتردّدون عليه، حتى ارتابوا في صحّة ما يدّعيه، وشَكّوا في أمره، واتّفقوا على أن يكتب كلّ واحد حرفاً في قِرطاس، ثم جمعوا هذه الحروف فكانت “ خنفشار”. وهي كلمة لا معنى لها ولا وجود في اللّغة أو الاصطلاح. ذهبوا بها إلى الفقيه يسألونه عن معناها فإن أنكرها، وصرّح بجهله بها كان علمُه صحيحاً، ووثقوا به، وإن تصدّى لها بجواب كان كاذباً. فجاؤوه وسألوه عنها، فقال: من فوره:
“هو نبات ينبت في مشارق اليَمن، وهو سَبِط السّاق، دقيق الأوراق، مستدير الزّهر، يضرِب بياضُه إلى حُمرة. قال ابن البيطار إنّه حارّ في الدّرجة الثّانية، رطب في الأولى. وقال داود البصير إنّه يذهب بالخَفقان، ويجلو آلام النّفس، وقد جرّبته العرب في إدرار اللّبن فقال شاعرهم :
لقد جذبتْ محبّتكم فؤادي كما جذبَ الحليبُ الخنفشارَ
ثم قال : وقد ورد في الحديث الشريف … وكاد يذكره، فقاطعوه وقالوا:
ـ كفى! فقد كذبت على الأطبّاء، والعرب، والشّعراء، فلا تكذب على الرّسول أيضاً . وأخبروه بما فعلوا، فخجِل وانقطعوا عنه5.
وفي كتب الأدب حكاية مشابهة تتحدّث عن رجل يدّعي المعرفة في غرائب اللّغة، فما يُسأل عن كلمة إلّا وياتي بشاهد شعريٍّ أو حديث، أو قول مأثور يدعم فيه ما يذهب إليه.
وحدث أنّ جماعة كانوا يشتغلون بتقطيع بيت من الشّعر عَروضياً، فوقعوا على تفعيلة تتكوّن من أخر حرف من كلمة آخرها قاف، وكلمة “بعض”، فكانت التفعيلة “قبعضُ، فعولُ”. فذهبوا بالكلمة إلى الرّجل، وهم يعلمون أنّها لا معنى لها، فما كان منه إلّا أنْ قال:
القُبعضُ: القطنُ، قال الشّاعر واصفاً ناقته:
كأنّ سنامَها حشو القُبَعضا
فقالوا له:
ـ إنّها مجرّد تفعيلة عروضيّة يا شيخَنا.
فخجل، ولم ينطِق بكلمة .

فول يا نَوَرْ

يروي المثل حكاية من يفتح عيون الآخرين على أمر لم يكن بحسبانهم لولا أن ذكره لهم. والحكاية مُفادُها أنّ رجلاً لديه حقل فول بعيد عن القرية، وحين نزل الغجر (النّوَر) في القرية ذهب ليحذّرهم من الاقتراب من حقل الفول الذي يملكه، فسألوه أين الحقل؟ فدلّهم عليه مشيراً “أنّه في المكان الفُلاني”. فذهبوا إلى الحقل وسَطَوْا عليه، ولم يكونوا قبل ذلك ليعلموا بوجود الحقل!.

قتيلُ العار لا دِية له ولا ثار

قتيل العار هو السّارق، وثالم العِرض، وخائن الوطن، فإذا قُتِل الرّجل بإحدى هذه الأسباب فلا يحقّ لأهلِه المطالبة بديتِه، كما لا يحقّ لهم إدارك ثأره .
وحكاية المثل أنّ أحد اللّصوص حاول السّطو على حَظيرة ماعز، فنبحه الكلب، واستيقظ صاحب الحظيرة، فقفز ليراه وجهاً لوجه. وحاول اللّص أن يدفع صاحب الحظيرة عنه، كي لا يمسك به، فيفتَضَح أمرُه، غير أن الرّجل بادَرَه بضربةٍ من عصا غليظة، كان قد امتشقها، فكانت الضّربه قاضية. وإذْ السارق واحدٌ من أبناء القرية.
وحينما شاع خبرُ قتل السّارق، تداعى أهله للأخذ بثأر ابنهم. وبعد أخذ وردٍّ اتّفق الطّرفان على المثول أمام القاضي العرفي.
وحين استمع القاضي إلى رواية الفريقين قال: “هذا قتيل عار. وقتيل العار لا ديةَ له ولا ثار” فذهب قولُ القاضي مثلاً .

حكايـــــــات الامثال

قصص الأمثال

حِكاياتُ الجُبَناء والبُخلاء

النّاس لا يحبّون البُخل ولا البُخلاء ويسخرون منهم ومن طِباعهم كما فعل الجاحظ في كتابه الشّهير(البُخَلاء)، كما أنّهم يمقتون الجُبناء لأنّ الجُبن وانعدام المُروءة من أكثر الصّفات خِسّة في الرجال، ولهذا السّبب تحتوي الأمثال الشّعبيّة على قَدر كبير من قصص الجبناء والبخلاء على سبيل ذمّ خِصالهم وتحذير النّاس من التّشبّه بهم باعتباره يقود إلى سوء العاقبة المُذلّة وصيت العار.
في هذه الحلقة اخترنا بعض الأمثال المستوحاة من قصص أهل الشّح والبُخل وفيها من العِبَر الكثير.

زَبونُ العوافي

عبارة يوصف بها الرّجل الذي لا يُحسب له حساب، للنّيل من قِلّة شأنه ، فإذا حضر إلى مجلس قالوا : “ إجا زبون العوافي “. وحكاية هذه العبارة أنقلها من قاموس أحمد أبو سعد بتصرّف.
تقول الحكاية: “إنّ مكاريّاً كان يسوق حماره، وقد حمّلة كيساً من الدّقيق. وصادف أنْ مرّ بمَخاضة فغاصَ حمارُه في المياه الموحلة حتى شارف على الغرق، فهبّ الفلّاحون المتواجدون في المنطقة لمساعدته في انتشال الحمار من المخاضة.
وَحَدث أنْ مرّ شابٌّ بهم وهم منهمكون في انتشال الحمار، فحيّاهم بقوله: “العوافي”. ثمّ مضى دون أنْ ينضمّ إليهم ودون أنْ يسألهم إذا كانوا يريدون مساعدة. فقالوا: “هذا زبون عوافي وليس زبون شُغل “. فغدت مثلاً1.
وقد جاء في المُنجد أنّ من معاني الزّبون: الغبي الأبله. وأضاف صاحب المنجد: “وليست بهذا المعنى في الفصيح، وإنّما هي فارسيّة2”.
ولعلّهم أخذوا هذا المعنى في هذا الوصف.

زَمّر بنيّك

والمثل يُضْرَب للرّجل إذا بُشِّر بتحقيق غايته، وقضاء حاجته.
وحكاية هذا المثل سمعتها من صديق وكان يرويها في معرِض الحديث عن النّاس الذين يرومون تحقيق غاية ما، فلا تتحقّق غايتُهم ما لم يقوموا بما يلزم لتحقيق تلك الغاية.
قال:
السّفر إلى الشام لم يكن أمراً عاديّاً كما هو هذه الأيام. لذلك كان النّاس إذا خطر للواحد من أهل الضّيعة أن يذهب إلى الشام، يذهبون ليسهروا عنده ويودِّعوه، وإذا عاد بالسّلامة يذهبون للسلام عليه. وكان التّجار يتسوّقون من الشّام كلّ شهرين أو ثلاثة شهور مرّة.
وفي إحدى الضّياع كان هناك صاحب دكاّن. وفي يوم من الأيام خطر له أن يذهب إلى الشّام ليتسوّق. وكان من عادة أهل الضّيعة وكلّ ضيعة، إذا ذهب الدّكّنجيّ إلى الشّام، أنْ حمّلوه التّوصيات والطّلبات كي يشتريها لهم بطريقه. لذلك وما أن عرف النّاس بالتّواتر أن صاحبَنا الدّكنجي يستعد للنّزول إلى الشّام حتى أخذوا يتقاطرون إلى بيته جماعات جماعات من أجل أن يوصوه على أشياء يشتريها لهم في طريقه. هذا يريد قنبازاً، وهذا يريد حَطَّة (كوفيّة)، وهذه تريد عِقد مشرشب، أو شبكان جوخ. والرّجل ما حيلته إلّا أنْ يقول: “حاضر ، طيّب، تِكرَموا، بيفرجها الله، ماشي الحال، انشا لله “ومن هذا الكلام كثير. حتى جاءت حُرْمَة أرملة؛ مدّت يدها إلى عبّها، فأخرجت مَحْرَمة، فتحتها، وأخرجت منها فْرنكين سوري. وقالت للدّكنجي:
ـ بحياتك!. هذول فْرنكين، بَدّي تشتري لي من الشّام بطريقك زُمّيرَة لَهَلْوَلَد . .
أخذ الدّكنجي الفرنكين السوري من الحُرمة، ثم أخرج دفتره، وكتب عليه وصيّة الأرملة، وقال لها:
ـ روحي! انت إللي زمّر بْنَيّكْ.
وَفَهِمَ النّاس أنّ الدّكنجي قد رمى كلّ الوصايا وراء ظهره، لأنّها غير مشفوعة بثمنها، إلّا وصيّة الأرملة لأنّها دفعت ثمن الزّمور مُقدّماً. ومِن يومها صاروا يقولون لكلّ رجل دبّرَ أموره، فأحسن تدبيرها: زمّر بْنَيّك.
وقد ذكر المثل أحمد أبو سعد، وكانت روايته لا تختلف عن روايتنا.
وذكره سلام الرّاسي، دون اختلاف يُذكر عن روايتنا3.
كما ذكره تيمور برواية: “إللي يدفع القرش يزمّر ابنه” دون الإشارة إلى حكاية المثل، إلّا أنّه أضاف أنّهم في هذا المعنى يقولون: “معاك شي إبنك ينشال، ما معَكْشي إبنك يمشي”.

رجعت حليمة لعادتها القديمة

يُقال هذا في من يعود إلى عادة سيّئة كان قد تركها لكنّه يأخذ كموضوع امرأة مطبوعة على البخل وسوء الأدب مع الضّيوف.
تقول الحكاية أنّ “حليمة” كانت زوجة أحد الأجواد، وكانت تتّصف بالبُخل. فكانت إذا قدّمت الزاد للضّيف تقلّل السّمن. فأراد الرّجل أنْ يثنيها عن بُخلها بقوله: إنّها إذا بَحْبَحَت كميّة السّمن على الطّعام فلن يشيبَ شعرُها ولن تعرف الهَرَم. فَصَدّقت وأخذت تزيد من كميّة السّمن على الطعام.
وكان أنْ أخذَ شعرُها يشيب بعد أنْ تقدّمت بها السّنون، وأخذت علامات كِبَر السّنّ تظهر عليها فأدركت خداع زوجها لها، وعادت تقلّل كمّية السّمن. فصار النّاس يقولون: “رجعت حليمة لعادتها القديمة “.
وقد أوردَ سلام الرّاسي حكاية المثل، معتبراً أنّ حليمة زوجة حاتم الطائي.
ولم نعرف لحاتم زوجة غير “ماوية” التي خاطبها بقوله:
أماوِيَ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكْر

رافق النّذلَ تنذَلّ

يُضرَب المثل للرّفيق الذي لا يستطيع نُصرة صديقه وقت الشِدَّة. وكثيرة هي الأمثال التي تتحدّث عن هذه الحالة كقولهم “الصّديق وقت الضّيق”، و “رافق المِسعد تسعد”. وحكاية المثل رواها سلام الرّاسي في كتابه الحَبل على الجرّار ومفادها أنّ رجلين ترافقا في سفر بعيد، وحينما أقبل اللّيل لاذا بإحدى الأشجار. واتّفقا أنْ ينام الواحد منهما ويسهر الآخر يحرسه، حتى إذا شعر السّاهر بخطرٍ أيقظ رفيقه، وتعاونا على درء ذلك الخطر.
وبينما أحدهما ساهراً إذْ أقبلت الضّبُع مُهَروِلا. فارتعب الرّجل السّاهر. وشمّر، وتسلّق الشّجَرة، تاركاً رفيقه لقدره.
وحين أفاق النّائم على وقع أقدام الضّبُع، ورأى ما رأى، ارتعب، وفعلها في ثيابه من شدّة الفَزع . فتقدّم الضبع منه، وأخذ يشمُّه، ثم ابتعد عنه مُنصرفاً؛ لأنّ الضبُع لا تأنفُ من شيء في الدُّنيا إلا من رائحة فضلات الإنسان.
وحين انصرفت الضّبُع نزل الرّفيق الذي كان فوق الشجرة، وسأل رفيقه الآخر:
ـ ماذا قال لك الضّبُع حين اقترب منك ؟. فقال له رفيقه:
ـ قال لي: “رافق النذل بتنذلّ”
فذهبت عبارة الرجل مثلاً.

السّلام بيجرّ كلام، والكلام بيجرّ بِطّيخ

يُضرَب هذا المثل في التّحذير من الهَذر، فَرُبّ كلمة استجرّت كَلمة، فاستجرّت الكَلمة كلمة، حتى يصل المتكلّم إلى ما لا تُحمد عقباه. والحكاية أنّ رجلاً جعلَ ابنه ناطوراً على حقل قثّاء وبطّيخ وأوصاه بالقول:
ـ إذا مرّ بك أحدٌ وسلًم فلا تَردّ السّلام.
فاستغرب الولد ذلك، إذْ كيف ذلك والسّلام لله. فأوضح الأبُ لِابْنِه:
ـ يا بُنَيّ، إنّك إذا رددت السّلام سَيَفتح المارُّ معك حواراً، وسيؤدّي هذا الحِوار إلى ذكر البِطِّيخ، وعندئذِ سوف يُجبرك حياء أنْ تدعوه لتناول شيءٍ من البِطِّيخ. وسوف يتكرّر مرور النّاس بك، وفي كلّ مرّة ستخسر رأس بِطّيخ، فالأَوْلى ألّا تَرُدَّ لأنّه “سلام بيجرّ كلام، وكلام بيجر بِطِّيخ”.
وأراني أتصوّر أحمد شوقي قد خطر له هذا المثل حينما تحدّث عن تعلّق القلب:
نِظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
ووقعت على الحكاية نفسها عند سلام الرّاسي بعنوان “لا سلام، ولا كلام”؛ إذْ جعل الرّجل مع ابنه في المزرعة، ومرّ جماعة من البدو فسلَّموا، فلم يردَّ السّلام، فاستغرب الاِبن وسأل والده :
ـ السّلام لله فلمً لمْ تردَّ ؟.
فأجاب الأبُ:
ـ بْخاف السّلام يجرّ كلام، والكلام يْجُرّ بِطّيخ.

شفناك فوق وشفناك تحت

مَثَل يُضرب للمرء يحاول أنْ يدّعي الأعذار لعدم قيامه بما يقتضيه الواجب. على حين تهيأت له أسباب المبادرة فلم يبادر إلى ذلك. والحكاية أنّ شحاذاً طرق باب أحدهم يطلب من مال الله، ففتحت له الخادمة وقالت: سيّدتي في الطابق الأعلى، ولَوَ اَنها هنا لما قصّرت في واجبك. وفي اليوم الثّاني عاد الشّحّاذ نفسه يطرق الباب ذاته. فخرجت له السّيّدة، وقالت له : الخادمة في الطابق الأعلى. ولوَ اَنَّها هنا لأمرتها بأنْ تُجْزِل لك العطاء. فرد الشحّاذ قائلاً: “يا ستّي ! شفناكِ فوق، وشفناك تحت”.

إجاكم راعي المْرَصّص

العبارة تُطلق على من يعتقد أنّه يفوق أقرانَه في فِعلٍ ما من الأفعال.
خُلاصة الحكاية أنّ رجلاً مرّ بصِبْيَةٍ يلعبون بالكِعاب لعبة النّدْبة. وتقتضي أحكام هذه اللّعبة أنْ يرمي الصّبيُّ كَعْبَه في الأرض بطريقةٍ فنّيّة مُعَيّنة، ويجب أنْ يقفَ الكعب في وضعيّة مُحَدّدة (على قاعدته) ليحقّق الرّبح لصاحبه. فما كان من هذا الرجل إلا أنْ أخرجَ من جيبه كعباً كان قد حشاه بالرّصاص (بقصد الغِشّ)، فغدا الكعبُ ثقيلاً من الأسفل ليستقرّ دائماً في الوضعيّة الرّابحة. وقال للصِّبْيَة:
ـ إجا عَمّكم راعي (أي صاحب) المْرصّص.
وأخذ يلعب مع الصِّبْيَة فكَسِبَ كلّ كعابهم. وغدت عبارته سائرة، تُطلق على من يفوق أقرانه في عمل ما.

شَهاب الدّين وأخوه الضّائع

عِبارة تُقال في شخصين متماثلين في الصّفات، وغالباً ما تعني الصّفات الرديئة. فإذا أرادوا أن يقارنوا رجلاً رديئاً بآخر يماثله في الرّداءة قالوا ما قيل.
وقد عثرت على حكاية لهذا المثل عند سلام الرّاسي وأرويها بتصرّف لأنّنا رأينا اختيار لغة أكثرَ تحفُّظاً في ما وُصف به شَهاب الدّين وأخوه.
إنّه كان لِرِجل من الوجهاء بنت، أحبَّ أن يزوّجَها لرجل يتوسّم فيه الرّجولة، فرفض الكثير من الخُطّاب حتّى جاءه رجل عريض المنكبين، مفتول السّاعدين، غليظُ الشّاربين، توسّم في الخير وزوَّجه ابنته، وأسكنه في بيته، وكان اسمه شَهاب الدّين.
وبعد الزّواج دأبَ شَهاب الدّين على عادة لا يغادرها يوميّاً، إذْ كان ينهض صباحاً، ويباشر غسل يديه ووجهه، ثم تمسيد شاربيه ثم ارتداء ثيابه، فتستغرق العمليّة ساعات، ثم يمتطي جواده ويغادر البيت، ولا يعود إلّا في المساء، عند ذلك يسأله عمّه أين كنت؟ فيجيبه:
ـ أبحث عن أخي الذي فقدته منذ زمن.
وطال الأمر على هذا المنوال. وصادف أن قصد الوجيه أحد الحلّاقين ليحلق ذقنه؛ فباشر الحلّاق عمله، وضع الصّابون على الذّقن وفتح حديثاً على عادة الحلاقين، وكلّما انتهى من حديث جرّ الموسى على ذقن الرّجل جرّة واحدة، وفتح حديثاً آخر، حتى ملّ الرّجل؛ فوقف وقال له:
ـ يكفي هذا اليوم وغَداً تكمّل لي حلاقة ذقني.
وقفل عائداً إلى البيت، فوجد شهاب الدين يهيئ نفسه للخروج. فقال له:
ـ إلى أين ؟.
فقال شهاب الدين:
ـ لمتابعة التفتيش عن أخي.
فقال له عمه:
ـ لقد عثرت اليوم على أخيك، إنَّه يعمل حلّاقاً في مكان كذا.
فقال شَهاب الدّين:
ـ وما أدراك أنه أخي؟
فقال له عمّه:
ـ وجدته أفشل منك، فقلت لَعلَّه أخوك.
فقال شّهاب الدّين:
ـ هذا إذاً ليس بأخي. إذْ لو كان أخي لما كان “أفشل” مني، لأنّ معلّم المدرسة التي تعلّمنا فيها اعتبرني أنا الأفشل عندما مدحنا بقوله:
كِلا الأخَوَيْنِ ذو فَشَلٍ وَلِكنْ شَهابُ الدّين أفْشَلُ من أخيهِ

سِرِّيةُ حمدانٍ لأًخْتهِ

يُضْرَب هذا المثل في الحِرص على إخفاء أمرٍ تافه لا أهميّة له، ولا يترتّب على إشهاره شيءٌ ما. والمثل معروف في أنحاء الجبل ولطالما لجأت أمّهاتنا إليه للسّخرية من طلبات تافهة كنّا نسألها ـ كأطفال «أن تبقى سرّاً بيننا وبينهنَّ». وقد كُنّا نَحرِص على كَتْم هذه الطّلبات ليس لأنّ فيها سرّاً لا نريد كشفه بل ربّما لأنّنا كنّا نخجل من كوننا نطلب شيئاً.
وحكاية المثل أنّ حمدان، وهو بدويٌّ يعيش مع أخته وحيدَيْن، خرج للرّعي، وحينما وصل إلى المساريح (المراعي) تذكّر أنّه عليه أنْ يوصي أختَه وصيّة، فعاد من المسراح بغَنَمِه، فوجدها في البيت مع ثُلَّة من صاحباتها، فدُهشَت لعودته بالقطيع على غير عادته في تلك السّاعة، وظنّت أنّه عاد لأمرٍ هامّ، وعندما انتحى بها جانباً أوصاها سرّاً أنْ تصُبّ القهوة للضّيف الذي ياتي إلى البيت في غيابه. فدُهِشَت وقالت له: ألِهذا الأمرِ عُدتَ؟!. فذهبت سِرّيتُه مَثلَاً في الحِرص على سِرّية أمر تافه.
وقد ذكر سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته.

ملا نصرالدين

حكايات مُلّا نَصْر الدِّين

مقالب ومواقف وعبر من الحياة
ونقد لاذع لضعف النفس الإنسانية

الحلقة الثانية

أدخلت مجلّة “الضّحى” في العدد السّابق باباً جديداً يسلّط الضّوء على شخصيّة الحكيم السّاخر مُلّا نصر الدّين ويبدأ على حلقات في عرض حكاياته الطّريفة تلك التي تحمل في الوقت نفسه عِبَراً ودروساً في تهذيب النّفس وحِكَم الحياة.
ويُعتبر نصرُ الدين خُجا (مُلّا نصر الدين) شخصيّة مِحْوَرية في الإرث الشّعبي لبلدان وسط آسيا، وقد غدت صورته في مُخيّلة العامّة والفولكلور الشّعبي صورة “الحكيم الساخر” كرجل واسع المعرفة سريع الفطنة حادّ الذكاء، إلاّ أنّه يُلْبِس حكمته والعِبَرَ التي يأتي بها طابع السّخرية والّلامعقول. وبسبب شُهرته كمعلّم في الثقافة الآسيويّة والعالميّة فقد حَظِيَت شخصيّته بالتّكريم العالميّ وذلك عندما أعلنت منظّمة الأمم المتّحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)عام 1996-1997 السنة العالمية لنصرِ الدين، وكرّست دول عديدة ذلك العام للتّعريف بشخصيّته وحكاياته وحِكَمِه وعُقِدَت النّدوات الثقافية والأمسيات والاحتفالات الشعبية وأُنتجت أفلام ووثائق بكلّ الّلغات عن هذه الشخصيّة المُثيرة للاهتمام. وقد انتقل العديد من حكايات مُلّا نصرِ الدّين إلى العربيّة من خلال شخصية “جحا” ونوادره. وبالطّبع فقد نما هذا التّراث الشّعبي مع إضافة النّاس العديد من القصص التي تنسب إلى نصر الدين أو جحا لهذا فإنّنا نراها تتفاوت من حيث طرافتها أو من حيث القيمة الثقافية أو التّراثية التي تحملها. ورغم أنّ مؤسسات ثقافية أخذت على عاتقها محاولة جمع هذا التّراث وتنقيته إلاّ أنّ هذه المهمّة تبقى صعبة لأنّ النّاس أنفسهم دمجوا شخصيّة نصرِ الدّين أو شخصيّة جحا في تراثهم وحياتهم مما يعني أنّنا سنجد دوماً مزيداً من الحكايا التي تُنْسَج على لسان هذه الشخصية التّاريخيّة ولا بأس في ذلك إذ إنّ إرثَ نصرِ الدين لم يكن لينمو ويَغْنى بهذا الكمّ من الحكايا السّاخرة ذات المغزى الأدبيّ أو الحياتيّ لولا الإسهام المتواصل للرّواية الشّعبيّة في هذا التّراث وفي كثيرٍ غيره من الموروثات الشعبية.
في هذه الحلقة الثّانية من حكايات المُلاّ نصر الدين تختارُ “الضّحى” باقةً من مواقفه ومقالبه السّاخرة الحاملة للعِبَر الأخلاقية والحياتيّة وتُترجمها للقارئ العربي عن الّلغة الإنكليزية١ كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتّركيّة.

أموت أنا أو الملك أو الحمار
أموت أنا أو الملك أو الحمار

هات مِغرفتَك لِنموتَ معك!
ذاتَ يوم، دُعِيَ الخجا نَصْرُ الدِّين واثنان آخران إلى عشاء عند أحد الأصحاب. كان مساء ذات ليلةِ صيفٍ حار.
وأحضرَ المُضيفُ إلى الطّاولة زُبْدِيّةً كبيرة ملأى بمربّى الكرز وشرابه المثلّج. والتقط مِلْعقةً كبيرة كمِغرَفةٍ وأعطى ضيوفه ملاعقَ صغيرة.
وقال: “فلنغرف بملاعقنا!”.
لكنّ أحداً لم يستطع أن يَغْرِف بمِلعقته بمثلِ ما كان يَغْرِف. فالضّيوف، بملاعقهم الصّغيرة، لم يَسَعَهم التمتُّع بهذه الحَلوى أو أن يُطفِئوا عطشَهم.
بيدَ أنّ المُضيفَ كان يحتسي الشرابَ الباردَ بملعقته الكبيرة، وبعد كلّ ملعقة يُعبّر عن تلذُّذه.
ويقول: “آه، هذا يقتلني!”. ويُضيف مُتأوّهاً: “آه، لعلّني مِتُّ وصعِدتُ إلى الجنّة. أَوّاه، كم هذا ممتعٌ، إنّني أموت!”.
لكنّ الخوجا نَصْرَ الدِّين لم يكن ليسمحَ باختفاء الحَلوى من أمامه قبل أن تتسنَّى له فرصة التمتُّع بها.
فخاطب المضيف قائلاً: “يا أفندي، لِمَ لا تناولنا المِغرفة كي يتسنَّى لنا أيضاً أن نموت قليلاً”.

لم أشتَرِ السّروال!!
في أحد الأيام، كان نَصْرُ الدِّين خوجا يبتاعُ حاجيّات له في السوق. وقفَ أمام متجر ثياب. واستغرقَ وقتاً وهو يُحدِّق في السّراويل الملوّنة، وشاشات العِمامات، والقمصان والجُبَب. وإذْ به أخيراً ينتقي سروالاً.
وبعدما قلّبه لهُنَيْهةً بين يديه، رجِعَ عن اختياره هذا لينتقيَ جُبَّةً بدلاً من السّروال. وأوشكَ على المغادرة بالجُبَّة عندما طالبه البائعُ بماله.
إذ قال له: “خوجا أفندي، إلى أينَ أنتَ ذاهبٌ؟ فأنت لمْ تدفعْ لي ثمنَ الجُبَّة!”.
أجابه الخوجا باستخفاف: “ماذا تقصد؟ لقد بدَّلتها بالسّروال”.
بيد أنّ البائع قال: “عجباً لكنّك لم تدفع ثمنَ السّروال أيضاً”.
أجابه الخوجا بصَلَف: “وَيحَكَ يا صاح، لِمَ عليَّ أنْ أدفع ثمنَ شيء لم أبْتَعْه؟”.

أجْرُكَ؟ لا شيء
كان الحطَّابُ يحمل كيساً مليئاً بالحطب المُقَطَّع على ظهره. الكيسُ كان ثقيلاً ومليئاً أكثر ممّا يستوعب. وحَرِصَ الرّجلُ الذي كان ينوءُ تحت عبءِ حِمْلِهِ الثقيل باذلا أقصى جهده ألَّا يُسقِط شيئاً من قطع الحطب وهو سائرٌ في طريقه.
لكنّ الرّجلَ المِسكين لم يَسَعْه تجنُّبَ التّعثُّرِ بحجرٍ على الطريق فسقطَ نصفُ حمولته من الحطب وتدحرج على الأرض. وصُودِف مرورُ رجلٍ رأى ما حَدَث، فسأل الحطّاب.
“إذا أعدتُ ما سقطَ من قطع الحطب إلى الكيس على ظهرك، فماذا ستُعطيني بالمقابل؟”.
“لا شيءَ”، أجاب الرجلُ الذي ينقل الحطب. فوافقه الرّجل قائلاً: “هذا مقبول”. فجَمَع كلَّ قطع الحطب المتناثرة على الطريق ودسّها مجدداً في كيس الحطّاب. وعندما أنجزَ عمله طلب أجــراً. فذُهِلَ الحطّاب.
وقال: “أخبرتك، سأُعطيك لا شيء”. فقال الرّجل: “نعم، وهذا ما أُريده: لا شيء . أعطِنِي لا شيء!”. وبعدَ شِجَار، قرّر الرجلان أن يحتكما إلى القاضي.
وكان نَصْرُ الدِّين خوجا يتولّى القضاء في حينه.
أصغى إلى كِلا الرّجلين بكلّ جِدّيّة. ومن ثمّ خاطبَ الرّجل الذي كان يُطالِب بأجْره “لا شيء”.
“يا عزيزي، هلَّا رفعتَ حافّة الزاوية اليمنى لتلك السجَّادة على الأرض واستبْيَنتَ ما تحتها؟”.
قام الرجل بما طُلِبَ منه ونظر تحت السجَّادة.
فسأله الخوجا: “ماذا رأيت؟”.
أجابه الرجل: “لا شيء”.
فأَمَرَهُ الخوجا قائلاً: “حسناً، خُذْهُ واذْهَب إلى منزلك، هذا هو أجْرُك”.

طُلابٌ سُذَّج وربابة
كان لنَصْرِ الدِّين خوجا طلابٌ من خارج البلدة. وكان أثناءَ النّهار يُعلِّمهم في المدرسة، وفي آناء الّليل يُؤويهم وزوجتَه في منزلهما.
ذات مساء، كان الخوجا وطلّابه الصّغار عائدين بعد يومٍ دراسيّ طويل في المدرسة.
وفي طريق عودتهم إلى المنزل، شاهدوا لِصَّين أمام متجرٍ. كان أحدهما يُعالِج قُفْلَ الباب بمِبْرَدٍ دَفْعَاً وسَحْباً فيما كان الآخر يُراقِب من حوله.
وسأل الطلابُ الخوجا عمّا يحدث، غير مُدرِكين لسذاجتهم أنّ هذَين الرّجلَين كانا ينويان سَرِقة المتجر.
ولم يَرُقْ للخوجا نَصْرِ الدِّين التورُّط مع هذَين الّلِصَّين الشَّقِيِّيَن، لكنّه في الوقت ذاتِه لم يشأ أنْ يخالَهُ طلاّبُه شاهِداً على جريمة من دون القيام ِ بشيء. لذا قرَّر الكَذِبَ حول ما يحدث.
وتَمَلَّصَ في كلامه قائلاً: “أحدُهم يعزِفُ على الرَّبَابَة، والآخر يُصغِي للموسيقى”.
فاعترضَ الفِتْية قائلين: “لكن يا خوجا أفندي، أيُّ نوعٍ من الموسيقى هي هذه؟ فليسَ ثَمَّةَ صوتٍ”.
أجابهم الخوجا مُطمْئِناً: “أوه، سيكون هناك صوتٌ. إنّــهــا ربَابَة فريدة. وموسيقاها ستُسمَع غداً صباحاً عندما يعودُ صاحب المتجر إلى متجره!”.

أموتُ أنا، أو الملك، أو الحمار!
ذاتَ يوم عَنَّ لتيمورلنك مضايقةُ الخوجا نَصْرِ الدِّين استهزاءً.
فسأله: “أيُّها الخوجا ، هل بإمكانك أنْ تُعلِّم حماري القراءة؟
أجابه: “نعم بإمكاني ذلك يا تيمورلنك العظيم”.
فقال تيمورلنك: “رُويدَكَ يا خوجــا! كيف لكَ أن تُعلِّمَ حماراً القراءة؟”.
أجاب الخوجا بثقة: “إذا ما مَنَحتـنــي مهلةَ ثلاثَ سنوات وثلاثةَ آلاف قطعة ذهبية، فَبِوِسْعي أن أُعلِّم حماري كيف يقرأ”.
استدرك تيمورلنك مُحِذِّراً: “لكنْ إذا لم يستطع الحمارُ القراءة في غضون مهلة السنوات الثلاث فسأُعاقِبُكَ بشدّة لمحاولتك الاستهزاء بتيمورلنك العظيم.
وافقَ الخوجا نَصْرُ الدِّين تيمورلنكَ على شُروطه، وأخذَ ثلاثة آلاف قطعة ذهبيّة وغادر خيمة تيمورلنك الفخمة.
وبادر أصحابُ الخوجا الّذين شهدوا الصّفقة إلى إبداء ارتيابهم.
وقالوا: “يا خوجا أفندي، ما أنتَ فاعلٌ؟ أنتَ تعلم أنّك عاجزٌ عن تعليم الحمار أيَّ شيء سوى النَّهِيق. ثلاث سنوات تمرّ وسيقطعُ تيمورلنك رأسَك!”.
لكنّ نَصْرَ الدِّين لم يكن لينتابَه هاجسٌ. قال برباطة جأشٍ: “يا صَحْبيَ الأعزّاء، قبل أنْ تمضي هذه السنوات الثلاث سيموت واحدٌ مِنّا، إمّا أنا أو تيمورلنك أويموت الحمارُ!”.

القدر تنجب ولا تموت؟
القدر تنجب ولا تموت؟

غداً يومُ القيامة
كان قد مضى وقتٌ طويلٌ قبل أن يَحظى سُكّان بلدة “أكسي شهر” بوليمةٍ حافلة. وخرجَ جيران ملّا نَصْرِ الدِّين بحِيلةٍ لجَعْلِهِ يدعوهم إلى وليمةٍ كبيرة.
قالوا: “خوجا أفندي، غداً سيكون يوم القيامة. لِمَ لا نذهب جميعاً في نزهة، ونشوي خَرُوفَك الصّغير ونستمتع بوليمةٍ كبيرة وأخيرة”.
فاحتجَّ الخوجا قائلاً: “خَرُوفِي الصّغير! إنَّهُ قُرَّة عينيّ! لا يمكنني أنْ أذبحَ خَرُوفي الصغير”. لكنّ الجيرانَ لم يستسلموا بسهولة.
وقالوا: “خوجا أفندي إنّه يوم القيامة. ونحن جميعاً سنموت بأيِّ حال. فما الضَّيْرُ فـي وليمة أخيرة؟”. وفي نهاية المطاف أقنعوا نَصْرَ الدِّين بمَنْح خَرُوفِه الصغير لهم.
اجتمعوا وتوجَّهوا إلى ضفّة النّهر للتنعُّم بنزهةٍ ممتعة. ذبحوا الخروف المسكين ثم جهّزوه ووضعوه فوق النار لِشَيِّه ومن ثمّ نزعوا ثيابَهم ونزلوا إلى النّهر استمتاعاً بالسّباحة. وفيما كان الجميع يتقاذفون بالماء لَعِباً ولهواً ومَرَحاً لفتح شَهيِّتِهم، التقطَ الخوجا نَصْرُ الدِّين جميعَ الملابس المُلقاة على الأرض وألقاها في النار. وعندما خرج الجميعُ من الماء، كان الخَرُوفُ الصّغير قد باتَ مُحَمَّراً مشوّياً، وجميعُ الثياب قد احترقت بنار شِوائه.
صُدِمَ أصحابُ الخوجا وسألوه عمّا حدث مُندَهِشين.
أخذَ يشرحُ لهم بكلِّ برودة وهدوء: “آه، الملابس؟ لقد استخدمتُها لتأجيج النار، وبما أنّ غداً هو يوم القيامة، فما حاجتُكم إليها؟”.

بقرتُنا أتلَفَتْ حديقتَكم!
كان الخوجا نَصْرُ الدِّين قاضيَ زمانِه. وذاتَ يوم جاءَه جارٌ لمواجهته.
“خوجا أفندي، يبدو أنّ بقرتَك قد وَلَجت حديقتي وسبَّبَت تلفاً كبيراً في الخضار. فماذا يقول كِتابُ قوانينِك الكبير حول ذلك؟”.
أجاب الخوجا نَصْرُ الدِّين شَرْعَاً: “الحيوانُ لا عقلَ له. ولا يمكن تحميل صاحبه مسؤوليّـة سلوكه الغريزي. فلا حُكْمَ لعقوبةٍ في ذلك”.
استدركَ الجارُ الأمرَ قائلاً: “لقد أخطأتُ التعبيرَ يا خوجا أفندي. قصدتُ القولَ أنّ بقرتنا هي التي دخلت إلى حديقتكم وأتلفت خضارَكم”.
هنا تناول الخوجا كتابَه الكبير وقال: “دَعْني أنظرْ ما يقول القانون في ذلك!”.

القِدْر تُنْجِبُ ولا تموت!
استعارَ الخوجا نَصْرُ الدِّين قِدْراً من جاره. وعندما تخلَّفَ عن إعادتِها لفترةٍ طويلة، جاءهُ الجارُ طارقاً الباب.
قال الجار: “خوجا أفندي، إن كنت قد انتهيتَ من استعمال القِدْر، هلَّا أعدَتَها إليَّ؟ فزوجتي تحتاجها اليوم”.
قال الخوجا: “آه، بالطّبع. فقط انتظرني دقيقة وسأتفقَّدها”. ولدى عودة الخوجا إلى الباب حاملاً القِدْر، لاحظ الجار أنّ هناك إناءً صغيراً داخلها.
فسأله: “ما هذا”.
قال الخوجا: “حسناً، أُهنِّئُكَ يا جاري لقد أَنْجَبت قِدْرُكَ إناءً صغيراً”.
شكَرَ الجارُ المذهول والمسرور في آن الخوجا، والتقطَ قِدْرَه والإناءَ الصّغير الجديد وقَفَلَ عائداً إلى منزله.
وبعد مرور أسابيع قليلة، جاءَه الخوجا ثانيةً، وسأله أن يستعيرَ قِدْرَهُ. فلم يتردَّد الجارُ أبداً وأعارَ الخوجا القِدْرَ بكلِّ سرور. ومع ذلك، تخلَّفَ الخوجا مجدداً عن إعادتها. فلم يكن أمام الجار من بُدٍّ سوى أن يُطالبه بها من جديد.
“خوجا أفندي، هل انتهيتَ من القِدْر؟”.
فتأوَّه ملا نصر الدين قائلاً: “أوّاه يا جاري. أخشى أنّ قِدْرَكَ قد ماتت”.
فتعجَّبَ الجارُ المُرتاب وسأله: “كيف ذلك يا خوجا أفندي، هذا مُحال، وهل القِدْرُ تموت؟!”.
وكان الخوجا نَصْرُ الدِّين مُتَهيِّئأً للإجابة:
“يا صديقي العزيز، كيفَ لك أنْ تُصدِّق أنَّ القِدْرَ تُنجِبُ، ولا يسعُكَ أنْ تُصدِّقَ أنّها تموت؟”.

في الحمام التركي
في الحمام التركي

الزّوجة السبَّاحة
اتّخذَ مُلّا نَصْرُ الدِّين له زوجةً ثانية كانت أصغر بكثير من الأولى. وذاتَ مساء، عادَ إلى المنزل ليجدهما تتشاجران حول أيّهما الأَحَبّ إلى قلب المُلّا.
بدايةً، أخبرهما نَصْرُ الدِّين أنّه يُحبِّهما بالمقدار ذاته، لكن أيَّاً منهما لم تكتفِ بهذه الإجابة. عندها سألت الزّوجةُ الأكبر سنّاً: “حسناً، لنفترض أنّنا نحن الثلاثة كُنّا في قارب، وأخذَ يغرق بنا. فأيـّاً منّا تُحاوِل إنقاذها؟”.
فكَّر المُلّا لِلَحظة ثمّ قال للزوجة الأكبر سنّاً: “عزيزتي، أنتِ تُجيدين السّباحة، أليسَ كذلك؟”.

سِرُّ طول العمر
ذاتَ يوم سُئِلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين عن سِرّ طول العمر.
فأجابَ: “ابقِ قَدَمَيكَ دافئتَين، ورأسَك بارداً، واحترسْ لِمَا تأكله، ولا تُفكِّر كثيراً”.
محامي الدّفاع: دَجاجة!
في أحد الأيام، تقدَّمَ بعضُ أصحاب الشأن من تيمورلنك بشكوى على المُلّا نَصْرِ الدِّين. فما كان من هذا الأخير إلاّ أنْ أخذَ دجاجةً وفِرَاخَها هديّةً إلى أحد مستشاري تيمورلنك لكي يُدافِعَ عنه.
وفي اليوم التالي استُدعِيَ نَصْرُ الدِّين وخصومه إلى القصر للحُكْم بينهم.
وبعد الاستماع إلى الشكوى، أخذَ المستشارُ يُدافِع عن المُلّا نَصْرِ الدِّين، ومن ثمَّ سألَ تيمورلنك الخوجا قائلاً: “ما الذي تقوله لتُثبِتَ أنّكَ لستَ مذنباً”.
فأجاب نَصْرُ الدِّين: “ليس لديَّ المزيد لأقوله أيُّها الكبير. لقد تحدَّثَت الدّجاجةُ وفِرَاخُها عنّي”.

صِفةٌ ممّا لستُ أذكرها!
سُئِلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين في يومٍ من الأيام: “ما هي أفضلُ صفات البشرية؟”.
فأجابَ: “حَسَناً، لقد أخبرني أحدُ الفلاسفة مرَّةً أنّ هناك صِفَتَين. كان قد نَسِيَ الأولى، لكنّه أطلعَنِي على الثانية. ولكي أكونَ صادقاً، فقد نسيتها أنا أيضاً!”.

رجاءً لا تَكْشُفِي النِقاب ..!
كان العُرفُ الاجتماعي السائد في أيام المُلّا نَصْرِ الدِّين ألَّا تكشِفَ العروسُ عن وجهها لزوج المستقبل قبل الزواج.
وفي يوم زفاف المُلّا، كشفت زوجتُهُ النّقابَ عن وجهها وسألته: “قُلْ لي يا مُلّا نَصْرَ الدِّين، أيّاً من أقربائك يمكنني مقابلته من دون أن أُغطِّي وجهي أمامه بالنقاب”.
فأجابَ المُلّا بحسرة: “اكشفِي عن وجهكِ لمَن شئتِ، لكن رجاءً احرصي على إبقاء النقاب في حضوري!”.

في الحَمَّامٌ التُركي
قصَدَ مُلّا نَصْرُ الدِّين يوماً حَمَّاماً تركيّاً. لكنّه بسبب ثيابه الرَّثَّة، لم يَسْترعِ اهتمامَ الخادمَيْن هناك. فوضعا له قطعة صابون صغيرة، وخِرْقَة قماش يتّخذها مئزراً، ومنشفة قديمة فقط.
وفيما كان يُغادر الحَمَّامَ نَقَدَ كُلّاً من الخادمَيْن قطعة ذهبية. وكم دُهِشَا لسخائِهِ لأنّه لم يتذمّر من سوء خدمتهما. وتساءَلا كم كان ليُغدِقَ عليهما لو أنّهما عاملاه على نحوٍ أفضل”.
في الأسبوع التّالي، عاد نَصْرُ الدِّين مُجدداً إلى الحمَّام. لكنّ الخادمَين هذه المرَّة عاملاه معاملةً الملوك وقدَّما له مناشِفَ فاخرة مزركشة، ومئزراً من حرير. وبعد تدليكِه وتضميخِه بالعِطر، غادرَ الحَمَّامَ ونَقَدَ كـلّاً من الخادمَين أصغرَ قطعة نقود نحاسيّة لديه وقال الخوجا لهما: “هذه للزيارة الأولى. أمّا القطعتان الذّهبيّتان فهما لليوم!”.

الإجابة عن السؤال بسؤال!
حَدَثَ يوماً أنْ سُئِلَ مُلّا نَصْرُ الدِّين: “لماذا تُجيب دائماً عن السؤال بسؤالٍ آخر؟
فأجاب: “هل أفعلُ ذلك؟”.

أَتُصدِّقُ الحمار؟!
طرَقَ جارٌ بابَ مُلّا نَصْرِ الدِّين ذاتَ يوم وقال له: “خوجا أفندي، أوَدُّ أنْ أستعيرَ منكَ حمارك”.
فأجابه المُلّا: “أنا آسف، لقد سبَقَ وأعرتُهُ لغيرك”.
وما أنْ قالَ ذلك، حتى سُمِعَ صوتُ نهيــق حمارٍ من إسطبل الخوجا.
فقال الجار: “لكن يا مُلّا أسمعُ صوتَ الحمارِ في الدّاخل”.
أجابه نصر الدين غاضباً: “عارٌ عليكَ، أَتُصدِّقُ حماراً وتُكذِّبُني!!”.

كما يقولُ المَلِكُ
دعا المَلِكُ في أحد الأيام المُلّا نَصْرَ الدِّين إلى قصره لتناول العشاء. وكان الطبّاخُ المَلَكي قد أعدَّ من بين أصنافٍ أخرى، طبقَ ملفوف. وبعد العشاء، سأله المَلِكُ: “كيف وجدتَ الملفوف؟”.
فأجابه المُلّا مُجاملةً: “كان لذيذاً جداً”.
فبادر المَلِكُ إلى القول: “أظنُّ أنّ طعمَــهُ فظيع”.
فأردفَ المُلا موافقاً: إنّكَ على حَقّ أيُّها الملك، كان الملفوفُ غيرَ شهيٍّ على الإطلاق”.
فذكَّره المَلِكُ: “لكنّــكَ قُلتَ للتو إنّه لذيذٌ!”.
استدركَ المُلّا: “نعم، لكنّني تابعٌ مُخلِصٌ لسُلْطانِكُم، لا لسُلطانِ الملفوف”.

اختبار عجيب
تسلَّقَ مُلّا نَصْرُ الدِّين ذاتَ يوم إلى أعلى مئذنةِ مسجدٍ وصاحَ بصوتٍ عظيم.
وعلى الفور نزِلَ سريعاً وأخذَ يركض.
فسأله أحدُ المارّة: “خوجا أفندي لماذا تركض هكذا، ماذا يحدث؟”، فأجابه: “إنّني أركضُ لأتبيّن إلى أين يصل صوتي”.

ملا نصرالدين

حكايات وعِبَر الحكيم الساخر

مُلّا نَصْرُ الدِّينْ

شخصية ألهبت مخيلة الناس وأثْرَت المكتبة العالمية
بألوف الحكايات الساخرة الغنية بالحكم وعبر الحياة

هناك الكثيرُ من الحمير المقيدين بوهم المعرفة

يعتبر نصر الدين خجا (ملّا نصر الدين) شخصية بالغة الأهمية في الإرث الشعبي لبلدان وسط آسيا، والصور الموروثة عنه أنه “حكيم” واسع المعرفة سريع الفطنة حاد الذكاء إلا أنه يلبس حكمته والعبر التي يأتي بها طابع السخرية واللامعقول، وهذا الأسلوب تميّز به نصر الدين وبات طابعه الشخصي في إيصال تعليمه وحكمته لعامة الناس بأسلوب الفكاهة والمفارقة والمفاجأة، ولم يكن لدى نصر الدين أي مشكلة في أن يظهر للبعض باعتباره غريب الأطوار، وربما كان أسلوبه وأسلوب بعض الوعاظ من أمثاله وراء القول الشائع في العربية “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” وهذا القول الهدف منه تنبيه العامة إلى أن أهل العقول قد يستترون أحياناً في قناع الغرابة أو السخرية كجزء من أسلوبهم أو رسالتهم في الحياة. وقد جعل نصر الدين رسالته في الحياة أن يجعل الناس يضحكون على أنفسهم ويضحكون من كثرة ما هو غريب ومتناقض في المجتمع، بل إن هدف نصر الدين أن يبرهن للعامة الذين يعتقدون انهم على جانب الإدراك والفهم أنهم هم الحمقى لكنهم ربما لا يدركون ذلك ، وأن الحكمة قد تأتي إليهم متنكرة بثوب الغرابة، وعليهم بالتالي أن لا يهملوها كما لو أنها كلام حمقى أو بهاليل. والحكيم أو الفيلسوف الشعبي حرّ في الأسلوب الذي يبلغ فيه مواعظه وتعليمه، وهناك من الأساليب في توصيل التعليم والتربية على عدد ما وجد من حكماء ومرشدين وممثلين لثقافة العقل والإتزان. وها هو أبو يزيد البسطامي وقد كان، من أجل أن يضرب مثلاً في قهر النفس، يختار بعض أماكن الحي التي يكثر فيها الأولاد ويلبس من غريب الأسمال والثياب ما يجعله على الفور عرضة لمداعبات الأولاد وتحرشاتهم وقد كان بعضهم يرميه بالحجارة، فيقول إن طريق الله هي في احتمال المشقات وما يخالف النفس.
إذاً أسلوب نصر الدين خجا في إيصال الأمثال يستعير من حكماء الأزمان وقيمة الغرابة في الصدم وتنبيه الناس من غفلتهم وتعريفهم بتناقضاتهم ونواحي الضعف في مسلكهم، لكن على الرغم من أهمية نصر الدين في الأدب الشعبي فإنه لا يوجد اتفاق واضح على تصنيفه بإستثناء بعض الصوفية الذين اعتبروه “صاحب سرّ” أي اعترفوا له بالولاية وإن كانوا اتفقوا على أن حياته بقيت محاطة بالأسرار والغموض.
تكريماً لهذه الشخصية المثيرة أعلنت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)عام 1996-1997 السنة العالمية لنصر الدين، وكرست دولاً عديدة ذلك العام للتعريف بشخصيته وحكاياته وحكمه وعقدت الندوات الثقافية والأمسيات والاحتفالات الشعبية وأنتجت أفلاماً ووثائق عن ملا نصر الدين. أما بلدة آق شهر التي يقال إنه ولد فيها حسب المصادر التركية فإنها تنظم سنوياً مهرجاناً الملا نصر الدين ما بين 5 و10 تموز/يوليو من كل عام.
وبالنظر الى أهمية هذه الشخصية الشعبية وأثرها الذي امتد مع الوقت ليطاول مختلف البلدان والحضارات تبدأ مجلة “الضحى” مع هذا العدد نشر سلسلة من الحلقات تتناول شخصية هذا الدرويش الساخر وأهش حكاياته مع التعليق على مغزاها، ونبدأ في هذه الحلقة بالتعريف بشخصية ملا نصر الدين نفسه وتقديم بعض الأمثلة على فلسفته في الحياة والتعليم الذي تمكّن من أن يوصله الى مختلف فئات العامة عبر روح الطرفة والغرابة التي اشتهر بها.

“الضحى”

الفلسفةُ الساخرة هي أدبٌ هادف في تراث الشعوب منذ عهود قديمة، وقد استخدم سقراط السخرية الفلسفية لفضح زيف السوفسطائيين، وقد استُحضِرَت السخرية في السياق الفلسفي لإيصال المغزى والعِبرَة الحكميّة بشكلٍ سلس وقابل للفهم. وفي إحدى محاورات أفلاطون، يقول سقراط بعبارة ظريفة ذات مغزى عميق إنَّ أُمَّه “كانت قابلة تستولد النساء وهو غدا يستولد العقول!”. وتظهر الفلسفةُ الساخرة التناقضَ والمفارقة لدى المتشكّكين بأسلوبٍ حكمي يدفع إلى البحث في الذات واستكشاف الحق والخير والجمال، أي إنّها تحفّز يقظة ذاتية من خلال العِبْرَة المستخلصة من الحكمة الساخرة.
في التراث الإسلامي، هناك شخصية ألهبت مخيّلة الشعوب وأصبحت مثالاً للحكمة والفطنة والموعظة والعِبرة الكامنة وراء قصص ونوادر ساخرة، إنّها شخصية ملّا نَصْر الدِّين الذي يختلف عن جُحا العربي، الشخصية المماثلة التي اشتهرت في أدب الطُرفة من التراث العربي منذ القرن التاسع وربّما السابع ميلادي. وعلى الرغم من الخلط بين الشخصيتين. فإننا نرى أنّ ملّا نَصْر الدِّين أكثر تميُّزاً بحكمته وعمق تفكيره وأسلوبه اللاذع في إظهار الحقائق للناس بطريقة “تعليمية” (Pedagogical).

مَنْ هو ملّا نَصْر الدِّين؟
بحسب التقليد التركي هو درويش صوفي عاش ومات خلال القرن الثالث عشر ميلادي في بلدة “آق شهر” بالقرب من مدينة قونية التركية، عاصمة الدولة السلجوقية في بلاد الروم آنذاك، ويدّعي أهل البلدة أنّ قبره موجودٌ فيها. وبينما يتشابه مع جُحا بقصصه الفكاهية وحكاياه الساخرة، فإنّ ملّا نَصْر الدِّين يُعتبر من خلال هذا التراث العالمي فيلسوفاً وحكيماً وصاحب فطنة ومعلِّماً مُرشِداً ولو بأسلوبٍ ساخر، قد يبدو حماقةً للبعض لكنّه في حقيقته أشبه بإلهامٍ روحي وحكمةٍ تنويرية جارية على لسان صوفي عارف إلا أنه يخفي علمه وراء قناع الرجل الأحمق أو الغريب الأطوار.
التراث الفارسي بدوره ينسب ملّا نَصْر الدِّين إلى مدينة خوي في منطقة أذربيجان الغربية. وتقول الرواية الفارسية:تدّعي شعوب الأوزبك في أوزبكستان أنّ ملّا نَصْر الدِّين وُلِدَ وعاش في مدينة بُخارى، وهم في الأمسيات والاجتماعات العائلية يتسامرون بقصصه الحكميّة التي يُطلِقون عليها “لطيفة الأفندي”.
ولا يقف الأمر عند الأتراك والفرس والعرب في ادّعاء انتماء مُلّا نَصْر الدِّين إليهم، فنجده عند الأفغان، ومُسلمي مقاطعة سكيانغ الصينية، وكذلك في ألبانيا، والبوسنة، وبلغاريا، وروسيا، ورومانيا، وفي ثقافة الأوردو، وذلك بتسمياتٍ مختلفة مقرونة بلقب “خُجا”، وخواجة”، و”خودجا”، و”أفندي”، وغيرها، وأحياناً يُختصَر فقط بلقبه “مُلّا”.
ودخلت قصصُه ضمن التراث الشعبي البلغاري الذي ازدهر خلال الفترة العثمانية كرجلٍ قروي حكيم. أمّا في صقلية، التي سادَ فيها الحُكم العربي لقرون، فعُرِفَ بإسم “جيوفا” (Giufà)، وعُرفت هذه القصص أيضاً في رومانيا عبر حِكَم شعرية من تأليف الشاعر واللغوي الكبير أنطون بان العام 1853.

الخلط بين مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا
أمّا في الثقافة العربية فقد جرى الخلط بين شخصيتَي مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا في القرن التاسع عشر بعد أن تمّت ترجمة مجموعات من نوادر جُحا من العربية إلى التركية والفارسية. ففي التاريخ العربي الإسلامي، تعود شخصية جُحا بدايةً إلى القرن السابع الميلادي حيث يتحدّث التراث العربي عن شخصية فكاهية في العصر الأموي تُدعَى أبو الغصن دُجين الفزاري، وشخصية أخرى في القرن التاسع ميلادي هو أبو نواس البغدادي، نديم الخليفة هارون الرشيد، وقد شاعت نوادره في أرجاء العالم العربي خلال القرن الحادي عشر ميلادي.

تراثٌ عالمي
في ما تتوالى الأجيال، تُضاف قصصٌ جديدة إلى إرث ملّا نَصْر الدِّين، مع بعض التعديل، وأصبحت مواضيع هذه القصص جزءاً من التراث الشعبي لعددٍ من الدول لتعكس الخيال الخصب لمجموعة متنوّعة من الثقافات وكلّها تنطوي على حكمة شعبية تنتصر على كلّ التجارب والمحن. وجدير بالقول إنّ أقدم مخطوطات متبقّية لقصص ملّا نَصْر الدِّين، هي تركية، تعود إلى العام 1571 ميلادي.
واليوم، تتناقل قصصُ ملّا نَصْر الدِّين في أرجاء العالم الإسلامي، وحتى دول أخرى من العالم، بعد أن تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات، وحيث كلّ شعب طوَّر شخصية مماثلة للمُلّا الذي أصبحت قصصه جزءاً من الأرث الشعبي.
حتى في الصين تنتشر جميع قصص ملّا المعروف هناك بتسمية “أفنتي” بحسب لسان شعوب “اليوغور” الإسلامية. وتدّعي شعوب “اليوغور” في منطقة تركستان الشرقية الصينية أنّ الـ “أفنتي” (الأفندي) هو من مقاطعة سكيانغ.
وفي العام 1979، أنتج أستوديو صناعة الأفلام في شنغهاي Shanghai Animation Studio مسلسل رسوم متحرّكة من 13 حلقة تتمحور حول شخصية مُلّا نَصْر الدِّين تحت عنوان “قصة الأفنتي” وأصبح أحد الأفلام الرسومية الأكثر تأثيراً في تاريخ الصين. وكذلك فعل الروس، في الحقبة السوفياتية، حيث أنتجوا العام 1943 فيلماً بعنوان “نَصْر الدِّين بُخارى”، مستنداً إلى رواية للكاتب ليونيد سولوفيوف في العام 1947، كما أنتج فيلمٌ آخر بعنوان “مغامرات نَصْر الدِّين”. أمّا الموسيقار الروسي الشهير شوستاكوفيتش فقد كرّم نَصْرَ الدِّين بمقطع من سمفونيته الـ 13 يصوّر الفكاهة “العميقة” كسلاح ضد الديكتاتورية والطغيان.
ونشر الفيلسوف الصوفي إدريس شاه مجموعات من قصص ملّا نَصْر الدِّين باللغة الإنكليزية، وشدّد على قيمتها التعليمية.
وكان ملّا نَصْر الدِّين الشخصية الرئيسية لمجلة دورية ساخرة تحمل إسمه نُشرِت في أذربيجان وكانت “مقروءة عبر أرجاء العالم الإسلامي من المغرب إلى إيران”. نُشرت بداية في تفليس (ما بين العامين 1906 و 1917)، ومن ثم في تبريز (العام 1921)، وباكو (ما بين 1922 و1931) باللغتين الآذرية والروسية، وكانت تُحارِب عبر هذه الشخصية عدمَ المساواة والتعصُّب الثقافي والديني والفساد.
ومقارنة بنوادر جُحا، تبدو قصص ملّا نَصْر الدِّين الساخرة أكثر حكمةً وإرشاداً وتُفهَماً على مستوياتٍ عديدة، أو كما يُفسِّرها بعض الباحثين: نكتة، يعقبها عِبرة، ومن ثم نفحة تدفع الباحث عن الحقيقة للتأمل في تناقضات النفس وقصور الإنسان.
في ما يلي وعلى سبيل المزيد من التعريف بـ “ملّا نصرالدين” نعرض لباقة من حكاياته وقصصه الساخرة ونُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية1 كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسية والتركية، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً:

لا وعْظَ لمَنْ لا يَعْلَم
دُعِيَ ملّا نَصْرُ الدِّين يوماً ليعظَ القوم. وما إنْ صعِدَ إلى المنبر حتى سألَ الحاضرين:
“هل تعلمون ما سأقوله”؟
فأجابوا: “لا”.
فبادر إلى القول: “لا رغبةَ لي في التحدُّث إلى قوم لا يعلم عمّا سأتحدّث عنه!”، وغادر المكان.
وشَعَرَ القومُ بالإحراج واستدعوه مجدداً في اليوم التالي. وهذه المرّة، حينما طرحَ السؤالَ ذاتَه، أجابَ القومُ بـ “نعم”.
عندها قال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، بما أنّكم تعلمون مسبقاً عمّا سأقوله فلن أهدرَ مزيداً من وقتكم!”، وانصرف.
وهنا وقعَ القومُ في الحيرة تماماً. وقرّروا المحاولة مرّة أخرى، ودعوا ملّا مجدداً ليعظهم في الأسبوع التالي. وسألهم مرّة أخرى:
“هل تعلمون ما سأقوله؟”
وكان القومُ عندئذ مستعدّاً فأجابَ نصفُهم بـ “نعم”، فيما أجابَ النصفُ الآخر بـ “لا”.
عندها قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “دعوا النصفَ الذي يعلم ما سأقوله يُخبِر النصفَ الآخرَ الذي لا يعلم”.
وأخلى المكان.

نصر الدين خجا في تصوير أذربجياني بعد احتلال السوفييت للبلاد وقد تم تصويره كداعية للتقدم في وجه الجمود الديني
نصر الدين خجا في تصوير أذربجياني بعد احتلال السوفييت للبلاد وقد تم تصويره كداعية للتقدم في وجه الجمود الديني

نصرالدين مرشداً صوفياً
كان ملّا نَصْرُ الدِّين يسير في السوق مع مجموعة كبيرة من أتباعه. وكلُّ ما كان نَصْرُ الدِّين يقوم به، يفعلُ الأتباعُ مثلَه على الفور، فما أنْ يخطو نَصْرُ الدِّين بضعَ خطواتٍ حتى يُلوّح بيديه عالياً، ومن ثم يلمس قدمَيه ويقفز في الهواء صائحاً: “هو هو هو!” وكان الأتباعُ يتوقّفون ويقومون بالأمر ذاته.
وتقدّم أحدُ التجّار الذي يعرف ملّا نَصْرَ الدِّين وسأله:
“ماذا تفعل يا صديقي القديم؟ ولماذا يُقلِّدُك هؤلاء القوم على هذا النحو الغريب؟”
أجابه نَصْرُ الدِّين: “لقد أصبحتُ شيخاً صوفياً، وهؤلاء هم المُريدون؛ وأنا أُساعدهم على تحقيق الكشف العرفاني!”.
فسأله التاجر: “كيف تعلم متى يبلغون مرحلة الكشف العرفاني؟”
فقال: “هذا أمرٌ سهل! أُعِدِّهم كلَّ صباح، فأولئك الذين غادروا المجموعة هم الذين بلغوا مرحلة الكشف!”.

بُورِكتَ خجا أفندي
طلب نَصْرُ الدِّين خجا من مُريدِيه أنه بمجرد أن يعطسَ فإن عليهم أن يُصفقوا بأيديهم ويصيحون: “بُورِكتَ خجا أفندي!”.
وصودِفَ يوماً أن وقع دلوٌ في البئر […] فنزلَ نَصْرُ الدِّين إلى قعره، والتقط الدلو، وأخذ الفتيةُ يسحبونه إلى الأعلى، وإذْ به قبل أنْ يصل إلى حافة البئر أنْ عطسَ صدفةً. عندئذ بادر تلاميذه التزاماً بأمر معلِّمهم إلى إفلات الحبل، مصفقين في الهواء، مُهلِّلين صادحين بحناجرهم: “بُورِكتَ خجا أفندي”، فسقط نَصْرُ الدِّين إلى قعر البئر بعنف مرتطماً بجدرانه […]،
وقال: “حسنٌ أيُّها الفتية، هذا ليس ذنبكم، بل ذنبي: الكثير من التعظيم ليس صالحاً للمرء”.

بين المعرفة والجزرة
قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “المعرفةُ هي كالجزرة (النابتة في التربة)، قلَّ مَنْ يُدرِك وهو ينظر إلى الجزء الأخضر الظاهر منها، أنّ ما يتوارى منها هو الجزءُ الأفضل فيها. وكشأن الجزرة، إذا لم نعمل لأجل ذلك الجزء (المتواري من المعرفة)، فسيذبل ويذوي. وأخيراً، تماماً كما هو الأمر مع الجزرة، هناك الكثيرُ الكثير من الحمير المقيدين بوهم المعرفة!”.

زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين
قالت زوجةُ نَصْرِ الدِّين خجا: إنّهم يُعاملون المرأة في مجتمعنا وكأنَّ لا إسمَ لها، فيُقال دائماً إنّها زوجةُ فُلانٍ ابن فُلان. لقد ذَكَرْتُ ذلك أمام زوجي مرّة – وصدِّقوني، لم يكن ذلك لإلقاء اللوم على أيٍّ كان أو لتوبيخه، فتأثَّر زوجي أيما تأثُّر وانتابهُ الحزنُ وقال لي: “أنتِ على حق، يا زوجتي العزيزة، ومن الآن فصاعداً متى سُئلت عن إسمي، فإنني سأجيب: أنا زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين خُجا”.

شمعةٌ في الليل
قال مُلّا نَصْرُ الدِّين: “يمكنني أنْ أرى في الظلام”.
فسأله أحدُهم: “قد يكون الأمرُ كذلك مُلّا. لكن لو كان صحيحاً كما تقول، لماذا تحمل أحياناً شمعةً في الليل؟”.
فأجاب: “كي أمنعَ الآخرين مِنَ الاصطدام بي”.

تهريبُ الحمير!
إعتاد ملّا نَصْرُ الدِّين أنْ يَعْبُرَ فوق حماره الحدودَ كلّ يوم، والسلّتان على جانبَي الحمار مملؤتان بالقش. وفيما كان يبدو كمهرِّبٍ وهو عائدٌ أدراجه إلى البيت مُتعباً كلَّ مساء، دأبَ حُرّاسُ الحدود على تفتيشه مراراً وتكراراً، يُدقّقون في ثيابَه، ويُنقّبون في القش وينقعونه في الماء، ويحرقونه بين الحين والآخر عبثاً […]. وصُودِفَ أنْ التقاه أحدُ آمِري الحرّاس بعد ذلك بسنين.
وسأله: “يمكنك الآن أنْ تُخبرني يا نَصْرُ الدِّين ما الذي كُنتَ تُهرِّبه، وما استطعنا أبداً الإيقاع بكَ؟”.
فأجابه ملّا نَصْرُ الدِّين: “الأمر سهل كنت أهرِّب الحمير!”.

الحمّالُ المحتال
ذات يوم، ابتاعَ نَصْرُ الدِّين خجا الكثيرَ من سوق بلدة “آق شهر” وعثرَ على حمّالٍ لينقل له كلَّ ما اشتراه، وكانت للحمّال سلّةٌ كبيرةٌ على ظهره أثقلها الخجا بكلِّ مشترياته، واتّجها معاً نحو منزل نصر الدين. وكان نَصْرُ الدِّين يسير في المقدّمة ليدل الحمال على بيته والحمال يسير خلفه، لكنّ الحمّالَ المحتال قرّر الفرار بمشتريات الخجا بدلاً من تلقِّي أجره.
وسرعان ما لاحظ الخجا أنّ الحمّالَ المخادع لم يعد يتّبعه، وقد توارى عن الأنظار. وشكا نصرالدين ذلك لصحبه وجيرانه، لكنّ لا أثرَ للحمّال.
وبعد ذلك بعشرة أيام، وفيما كان نصرالدين وصحبُه جُلوساً في مقهى، لمحَ أحدُهم الحمّالَ اللص. وقال وهو يُشير باتّجاه الرجل: “انظرْ نصر الدين أفندي! أليسَ ذلك هو الحمّال الذي أضعته؟”.
لكنّ ملّا نَصْرَ الدِّين بدلَ أنْ يهبَّ نحو الرجل ويتصدّى له، حاول الاختباء. فقال الجميعُ في المقهى ذهولاً: “خجا أفندي، لماذا لا تذهب وتُواجه الرجل؟”.
فقال: “ماذا لو سألني أنْ أدفعَ له أجرَ حمّالٍ لعشرة أيام؟”.

غالبا ما ظهر ملا نصر الدين في الفن الشعبي راكبا حماره بالمقلوب دلالة على أسلوبه الساخر
غالبا ما ظهر ملا نصر الدين في الفن الشعبي راكبا حماره بالمقلوب دلالة على أسلوبه الساخر

الرجلُ على الشجرة
حدثَ ذات يوم أنْ تسلَّقَ رجلٌ شجرة،
وفيما كان يتسلّقها، لم يُدرِك مدى طولها بالفعل، وواصلَ الصعود، وما إن وصلَ إلى أعلاها، نظرَ إلى الأسفل، فأيقنَ أنّ النزولَ عن الشجرة لن يَكون سهلاً كتسلُّقِها، ولم يجد وسيلةً للنزول من دون أنْ يؤذي نفسَه.
سألَ القومَ الذين صُودِف مرورهم في المكان المساعدة. لكنّ أحداً لم يسعه التفكير بطريقةٍ لإنزاله بشكلٍ آمن. وما هي إلا هُنيهة حتى تجمّعَ حشدٌ من الناس حول الشجرة لمساعدة الرجل، لكن أُسْقِطَ في أيديهم. وبقيَ الرجلُ عالقاً أعلى الشجرة.
وصودف مرور ملّا نَصْرِ الدِّين، فرأى ما يحدث وتساءل ما الخطْب؟ أطلعَه الجمع المحتشد في المكان عمّا ورطة الرجل العالق في الشجرة. فقال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، سأُنزله سريعاً”. فأخذ حبلاً ورمى طرفَه عالياً نحو الرجل، وأخبره أنْ يربط الحبلَ حول خصره. وتساءل الجميعُ عمّا يُخطِّط له نَصْرُ الدِّين. وعندما استوضحه أحدُهم، أجاب: “دع الأمرَ لي فحسب. إنّها خطةٌ مُحْكَمَة.
وما إنْ ربطَ الرجلُ الحبلَ بإحكامٍ حول خصره، حتى جذبَه نَصْرُ الدِّين بكلِّ قوته. فوقعَ الرجلُ من أعلى الشجرة وتأذَّى بشدّة. وصُدِمَ الحاضرون والتفتوا نحو نَصْرِ الدِّين سائلين: “ما هذا الذي فعلته ؟ أيُّ خطةٍ سخيفة هي تلك؟”.
فأجاب نَصْرُ الدِّين: “حسناً، لقد فعلتُ الأمرَ ذاتَه مرةً وأنقذتُ حياةَ رجل”.
فسأله أحدُهم: “هل ذلك صحيح؟”.
أجاب نَصْرُ الدِّين: “حتماً!”، لكنّه أردفَ قائلاً: “الشيء الوحيد الذي لا يسعني تذكُّره هو هل أنقذت ذلك الرجل من شجرة أو من بئر”.

تمثال يرمز إلى شخصية نصر الدين حجا أقيم في ..موسكو
تمثال يرمز إلى شخصية نصر الدين حجا أقيم في ..موسكو

مَرَقُ مَرَقِ الأرنب
قصدَ بضعةُ أشخاصٍ من قريةٍ مجاورةٍ بلدةَ “آق شهر” في تجارةٍ ما، وعند نهاية النهار، قرعوا بابَ نَصْرِ الدِّين خجا، وهو مِن معارفِهم:
“خجا أفندي، بما أنّنا في بلدتكم، عنَّ لنا أنْ نقومَ بزيارتكم. وهاكُم أرنبَ عربونَ احترامنا لكم”.
رحَّبَ الخجا بضيوفه وسألهم البقاءَ لتناول العشاء. فأعدَّت زوجته الأرنبَ وتناولَ الجميعُ وجبةً شهية. وبعد بضعة أيام، طرقَ البابَ مجدداً آخرون. لم يعلم الخواجة مَن هم، لذا عرّفوا عن أنفسهم قائلين:
“ نَصْرُ الدِّين أفندي، نحن أقاربُ الصَحْب الذين أحضروا لكَ الأرنب”. كانوا يمرّون ببلدة “آق شهر” وخطر لهم زيارتكم.
رحَّبَ نَصْرُ الدِّين خواجة وزوجتُه بهم في بيتهما كُلَّ ترحيب، وأعدَّا حساءً للعشاء.
وأوضحَ الخجا: “إنّه مَرَق الأرنب”.
ومرَّ يومان وإذ بمجموعةٍ أخرى من الغرباء تقف بباب ملّا نصر الدين. قالوا:
“جئنا من قرية القوم الذين أحضروا لكَ الأرنب”.
ولم يكن أمامَ الخجا خيارٌ سوى دعوتهم للدخول. وعندما حانَ موعدُ العشاء، أحضرَ الخواجة قِدراً كبيراً من ماء البئر ووضعُه على المائدة.
فتساءل الضيوفُ بإستياء: “ما هذا يا خجا أفندي؟”
فصاحَ الخجا في وجههم قائلاً: “إنّه مَرَقُ مَرَقِ الأرنب”.

الولدُ الحمار
في يومٍ من الأيام، اشترى نَصْرُ الدِّين خجا من السوق حماراً، وأمسكَ بإحكامٍ حبلَ رَسَن حمارِه الجديد، وعاد مشياً إلى منزله، ساحباً الحمار خلفه. ورأى ولدان شقيّان الخجا وحمارَه، وقرّرا خداعه وعزما على سرقة الحمار ومعرفة ما إن كانا سيفلتان بفعلتهما. وانسلَّ أحدُ الشقيَّين خلف ملا نصر الدين، وحلَّ طوقَ الرَسَن عن عُنقِ الحمار ووضعه حول عنقِه. أمّا الولدُ الآخر، فعادَ بالحمار إلى السوق ليبيعه.
وواصلَ الخجا طريقَه إلى المنزل غافلاً عمّا جرى، ساحباً الولدَ خلفَه بدلَ الحمار. وعندما وصلَ المنزل، التفتَ من الخلف يتفقد حماره فرأى الولدَ مكانَ الحمار. فنهره سائلاً: “مَنْ أنت؟”.
فقال المحتالُ الصغير مخادعاً: “آه يا أفندي، لن تُصدِّق قصّتي. كنتُ ولداً شقياً، وأسأتُ الأدبَ طوال الوقت، وجعلتُ أُمي تعيسة. وعندما لم يعُد بوسعها التحمُّل، دَعَت عليَّ وحوّلتني إلى حمار، وعندما ظننتَ أنّني صالحٌ للشراء، حلّتِ اللعنةُ عنّي، وبفضلك وإحسانك عُدتُ ولداً من جديد”.
فقال له الخواجة: “سأدعك تذهب، لكن لا تُعذِّب أُمَّكَ ثانيةً، كُنْ ولداً صالحاً من الآن فصاعداً!”
وفي اليوم التالي، ذهبَ نَصْرُ الدِّين خجا مجدداً إلى السوق، سعياً إلى شراء حمارٍ جديد. فرأى الحمارَ الذي سرق منه معروضاً للبيع، فاقترب منه الخجا وهمسَ في أذنه: “أنتَ ولدٌ شقي! لقد عصيتَ أُمَّك مجدداً، أليسَ كذلك؟”.

حمايةُ المئذنة
كان نَصْرُ الدِّين خجا يقيم بالقرب من جامعِ قريته. وذات يوم، رآه سُكّان بلدة “آق شهر” يربط حبلاً حول مئذنة الجامع، ويشدّه بإحكام إلى جذع شجرة كبيرة.
وسألوه ذاهلين: “خجا أفندي، ماذا تفعل؟”.
قال: “إنّي أحمي المئذنة، كي لا يسرقها أحدٌ في الليل”.
وأبدى المارّون ارتيابَهم، وسعوا إلى معرفة ما الدافعُ وراءَ ما يقوم به الخجا.
وقالوا: “خجا أفندي، إذا ما أقدَمَ أحدُهم على سرقة المئذنة، فأين عساه يضعها؟”.
أجاب: “ذلك الذي يسرق مئذنة، سيكون متهيِّأً لمثلِ هذا الفعل مسبقاً!”.

طابع بريد هنغاري تكريما لنصر الدين خجا
طابع بريد هنغاري تكريما لنصر الدين خجا

أين القطّة؟
اشترى نَصْرُ الدِّين خجا في أحد الأيام رطلاً من اللحم مِن عندِ جارِه اللّحام، وأحضره إلى المنزل وسألَ زوجتَه أنْ تعدَّ يَخْنَةَ لحمٍ لذيذة للعشاء. وبذلك ضمَنَ الخواجة وجبةَ المساءِ واتّجه هانئاً إلى حقله للعمل.
أعدَّت زوجته يَخْنَةَ اللَّحم، وحدَثَ أنْ جاءها زائراً بعضُ الصَّحْب والأقارب، وعندما لم تجد طعاماً آخر تُقدِّمه للضيوف، وضَعَتْ لهم اليَخْنَة. فأكلوا هنيئاً ومليئاً.
وعاد الخجا بعد يومِ عملٍ طويل، وسألَ زوجتَه إذا كانت يخنة اللحم جاهزة. فأجابت زوجتُه: “ربّاه، ليتكَ تَعْلَم ما جرى لليَخْنَة. لقد التهمتها القطة”.
فتلفّتَ نَصْرُ الدِّين خجا حوله ورأى القطةَ الصغيرة النحيلة في إحدى الزوايا، تبدو جائعةً كشأنه.
أمسكَ نصرالدين خجا بالقطة، ووضعها في كفّة الميزان. فكان وزنُ القطةِ المسكينة رطلاً واحداً تماماً.
فقال لامرأته: “يا امرأة، إذا كانت هذه هي القطّة، فأين اليَخْنَة؟ وإذا كانت هذه هي اليَخْنَة، فأين القطة؟”.

ديكٌ يُفكِّر كالبشر!
فيما كان نَصْرُ الدِّين خجا يتجوّل في السوق ذات يوم، رأى طيراً زاهي الألوان معروضاً للبيع لقاء اثنتي عشرة ذهبية. فدُهِشَ. واقتربَ من الحشد المتحلّق حول الطيرِ وبائعِه.
وسألَ القومَ المُحدِّقين بالطير: “كيف لهذا الطير أنْ يكونَ باهظَ الثمنِ هكذا؟”.
فأجابوه: “إنّه طيرٌ مميّز، بوسعه أنْ يتحدّث كالبشر!”.
وهنا لمعت فكرةٌ في خاطر الخجا. فذهبَ على الفور إلى منزله والتقط ديكاً رومياً وأحضره إلى السوق. ووقفَ بقُرْبِ بائعِ الببغاء. وأخذَ يصيح: “ديكٌ روميٌّ لقاء عشرة دنانير ذهبية!”.
فاحتجَّ الحاضرون وقالوا: “خجا أفندي، كيف لهذا الديك الروميّ أن يكون بعشرة دنانير ذهبية؟”.
فأصرَّ الخجا على موقفه بعناد.
وحاول القومُ أنْ يفهموا السببّ، وقالوا: “خجا أفندي، هذا الطير باهظ الثمن لأنه في إمكانه أن يتكلّم كالبشر”.
بيدَ أنّ الخجا لم يتراجع.
وردَّ بثقةٍ قائلاً: “وهذا الديكُ الروميّ يمكنه أن يُفكِّر كالبشر”.

قصة ملا نصر الدين في خمسة أجزاء يلغة ولاية غوجرات في الهند
قصة ملا نصر الدين في خمسة أجزاء يلغة ولاية غوجرات في الهند

إطعام الملابس
حضر ملّا نصر الدين مأدبة ضمن كبار القوم ووجهاء القوم لكنه عندما اقترب من مدخل القاعة لاحظ الحجّاب أنه في مظهر غير لائق فرجوه بتهذيب أن يعود الى المنزل ويرتدي ثياباً مناسبة لهذا الحدث. امتعض نصر الدين خجا لكنه عاد على مضض وارتدى ثياباً فاخرة ثم عاد إلى المأدبة فسمح له بالدخول ورحّب به الجميع. اتخذ مكانه إلى الطاولة الحافلة بما لذّ وطاب لكنه بدلاً من أن يأكل كغيره أخذ قطعةَ لحمٍ وحشرها بين طيّات قميصه. ودسَّ قطعةً ثانية في زنّارِه، ثم بدأ يغمس طرف كمه في الحساء ويقول له : كل، كل!!
توجهت الأنظارُ بدهشةٍ نحو نَصْرِ الدِّين خجا فيما كان يغمسُ كُمَّي عباءته الطويلين في وعاءِ حساءِ مَرَقِ اللحم الساخن، وانتفضَ أحدُ الضيوفِ المنذهلين وخاطبه قائلاً: “يا أفندي! ما معنى تصرُّفكَ الشائن هذا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين خجا: “حسناً، عندما تجدُ نفسَكَ في مكانٍ يُرحَّب فيه بالملابس أكثر من المرءِ الذي يرتديها، فحريٌّ بكَ أنْ تُطْعِمَ الملابسَ أولاً، والمرءَ لاحقاً!”.

باقٍ في الأربعين!
سأل أحدُهم نَصْرَ الدِّين خجا عن عمره فأجاب بالقول: أربعون سنة، لكن السائل علّق على الفور:”لكنني كُنتَ هنا يا نَصْرُ الدِّين قبلَ أربعِ سنوات، وسألتُكَ يومها ما هو عُمرُك، فقلتَ لي إنّه أربعون سنة. هل تجد هذا الأمر منطقياً أو قابلاً للتصديق؟ كيف حدثَ أنّك لا تزال في الأربعين؟”. أجابه نَصْرُ الدِّين: “أنا رجلٌ مستقيمُ القول. فإذا كُنتُ في الأربعين، فسأبقى في الأربعين. وما أنْ أُجيبكَ مرّةً، كأنّي أجبتكَ أبداً! لا يسعكَ أنْ تُضلّلني. أنا في الأربعين، وكلما سألتني فإنك ستحظى دوماً بالإجابة ذاتها”.

من تراث العقل