الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سيّدات معروفيّات مُبْدِعات

سيتابع قارئ الضحى بدءاً من هذا العدد (36) قصة النجاح الشخصي والعلمي لسيّدات معروفيّات تمكنّ، بالجهد الشخصي والمثابرة والتشجيع من أسرهنّ ومجتمهنّ، أن يصلنَ بعلومهنَّ إلى الدرجة القصوى المتعارف عليها أكاديمياً (أي الدكتوراه في الاختصاص).

نقدّم في العدد هذا أربعة من الأخوات اللواتي أنجزن شهادة الدكتوراه اللبنانية في الاختصاص (فئة أولى)، ونلن أعلى العلامات والتقدير على ما أنجزنه، على أن تلي في أعداد لاحقة تجارب أخرى من التفوق والإبداع.
وإذا كان من كلمة أخيرة في الموضوع، نقول إحقاقاً للحق وطلباً للموضوعية، أن النجاحات «النسوية» تلك ما كان لها أن تتحقق باليسر والتشجيع اللذين لاقتهما لولا المُناخ الإيجابي حيال العلم والتعليم بكل صوره الذي ما انفك المجتمع التوحيدي يظهره عملاً بالتقليد الإسلامي المعروفي الذي لطالما حثّ على طلب العلم «ولو في الصين»، والذي شجع من دون تردد، وبتوصية مباشرة من الأمير السيّد(ق) على الأخذ بيد من يريد (أو تريد) اختبار طريق العلم الصحيح، واعتباره حلية أخرى تنضاف إلى حليتَيّ الإيمان والأخلاق- ميّزتا كلّ موحّد وموّحدة.

الدكتورة أمل بو غنّام حمزة : تعريف بالإطروحة تحت عنوان: اليابان بين الحربين العالميتين دراسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي (1918-1945)

إطلالة على تاريخ اليابان بين الحربيين العالميتين

تُعَدُّ دراسة تجارب الأمم والشعوب إحدى أهم ميادين الدراسات التاريخية، للاستفادة من تجاربهم، «فالتاريخ علم التغيير»، كيف إذا كان يبحث في الديناميكية التي تميزت بها اليابان، والقدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات، في محاولة لكشف أسرار نجاح اليابان في دخول نادي الدول الامبريالية الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام عام (1919)، والدولة الآسيوية الوحيدة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنع تمدد الشيوعية، لتصبح دولة استعمارية في الحرب العالمية الثانية.

بحثت هذه الدراسة في تاريخ اليابان ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوصلت لنتائج عديدة للتغييرات التي شهدتها؛ وتفاعُل الأفكار الليبرالية والاشتراكية داخل مجتمعاتها التي ساهمت في نمو الأحزاب وظهور الحركات الاجتماعية فعرفت تلك الفترة بديمقراطية تايشو. كما بحثت الدراسة في العلاقات بين الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية في اليابان، ودور الدين والعادات وغيرها في حماية البلاد من الوقوع في التشرذم والفوضى المتأتية من تفاعل الأفكار الرأسمالية والشيوعية وثورة العمال وغيرها من القضايا.

ونجاح اليابان في تبنِّي التقدم والتطورالصناعي والاقتصادي، واعتبرت أنّ ظهور التكنولوجيا والعلوم شكّل انتصاراً لطريق الامبراطور، ودعت إلى ربط الإقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، وأصبحت شريكة للدول الأوروبية في تقاسم النفوذ في الصين؛ فتقاطعت المصالح بين اليابان وأميركا في كوريا والفيليبين، وتوترت العلاقات بينهما على أثر إعلان قانون الهجرة (1924)، القاضي بالحدّ من الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة وأثارت قضية التمييز العرقي.

ساهمت الأزمة الاقتصادية بداية ثلاثينيات القرن العشرين في البحث عن سبل لمعالجة تداعياتها. فشجعت على الهجرة إلى الصين بعد أن شهدت زيادة سكانية كبيرة من أجل الحصول على مصادر للطاقة لصناعاتها. وتدهورت علاقاتها مع الدول الغربية على خلفية حادثة منشوريا في عام (1931)، ما حمل اليابان على الانسحاب من عصبة الأمم عام (1933). وسعت إلى تأسيس كتلة الينّ اليابان- منشوكو- الصين وتوسعت لتشمل مجال ازدهار مشترك لشرق آسيا العظيم، حيث أخفقت في حساباتها حين أرادت أن تفرض إرادتها على الشعوب شرقي وجنوبي آسيا بحجة تحضيرها، فانحرفت إلى الشوفينية الفاشية طمعاً في إيجاد نظام عالمي جديد في شرق آسيا، وتطبيق مبدأ آسيا للأسيويين، بعد أن أخفق النظام الحالي في بناء السلام العالمي. فتبنت نظام العسكريتارية، وسخّرت الروح العلمية اليابانية في تنفيذ سياستها التوسعية القارية، وفرضت التجنيد الإجباري والتعبئة الإقتصادية في اليابان والأراضي التي سيطرت عليها، بهدف تحقيق ازدهار مجال شرق آسيا العظيم، وتبنت نزعة قومية متشددة، نقلتها من مرحلة المهادنة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة، متخذة من العائلة الامبراطورية مصدر إلهام للشعب الياباني .
وسارعت إلى تحقيق مذهب عموم آسيا وفرض شروط جديدة عالمية، إذ اعتبرت أنّ العالم أمام منعطف تاريخي جديد، وقدَّر الامبراطور الياباني أخلاقياً أن يصبح زعيم العالم؛ فانضمت اليابان إلى دول المحور، وأُطلقت يد اليابان في آسيا التي انحرفت عن هدفها في توحيد دول شرق آسيا لخلق اليابان العظمى. وقد استخدمت اليابان العنف تجاه الدول الآسيوية لإرهاب الشعوب الآسيوية وتحقيق مشروعها التوسعي؛ فيما أُطلقت يد ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والمستعمرات…

شكل هذا الأمر تحدّياً للولايات المتحدة التي بدورها حاولت كبح جماح اليابان، في حين استمرت المحادثات بين البلدين من أجل تفادي الحرب. وتزامناً، أعلنت اليابان التعبئة العسكرية العامة وتحالفت القوى الاقتصادية مع القوى العسكرية وتحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية، بعد إحياء الدين الحقيقي الجامع لأبناء اليابان، في مواجهة الثقافة السياسية والمصالح الاقتصادية الأنجلو-أميركية.

أمام هذا الانقسام، فرضت الولايات المتحدة حظراً على تصدير النفط إلى اليابان التي تعتمد عليه بنسبة (80%)، للضغط عليها وفصلها عن دول المحور، فقطعت اليابان محادثاتها مع الولايات المتحدة بهجوم مفاجئ وعنيف على بيرل هاربور في (7 كانون الأول 1941). بينما كانت أميركا تجري التجارب على السلاح النووي الحديث، دخلت الحرب الحتمية واستمرت حتى استسلام ألمانيا، وبات حسم الحرب وردع اليابان أمراً ضرورياً؛ فاستخدمت الولايات المتحدة السلاح الجديد على هيروشيما وناكازاكي، لانتزاع الاستسلام من اليابان، وإجبار اليابان على التخلّي عن مقارعة الغرب، ويكون الرادع لعدم تكرار الحروب العالمية.

وقَعت اليابان تحت احتلال قوات الحلفاء، وفُرضت عليها تغييرات جذرية لتحويلها إلى دولة مسالمة، مقابل احتفاظها بوحدة أراضيها وهويتها الوطنية، وتخلّي الامبراطور عن صفة الإلوهية، وإلغاء جميع أشكال عسكرة النظام ودمقرطته. وأُجبرت على تفكيك شركات زايباتسو الاقتصادية التي موّلت الحرب. واستجابت اليابان للضغوط التي فرضتها قوات التحالف، وأدركت أن عليها استعادة ثقة المجتمع الدولي وانتهاج سياسة المسالمة تجاه دول القرار في النظام العالمي، لاستعادة موقعها العالمي في المجال الاقتصادي.

استطاعت اليابان أن تبتدع «ثنائية: الإنجاز – الاستمرارية الحركية»، التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ وهي سرّ من أسرار التفوق الاقتصادي المُذهل الّذي ربطها بفلسفة «الاعتماد على الذات»؛ والعمل الدائم على أن تكون شريكة في القرارات الدولية وفهم السياسة العالمية دون الانغلاق على الذات؛ ترافق ذلك مع النشاط الإنساني المنفتح والحذر على العالم الخارجي، أو التكيّف الإيجابي.


كيف اخترت موضوعي لأطروحة الدكتوراه؟

مِنْ: ندى أمين حسن (فياض) حائزة على شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ سنة 2015.

إنّ فكرة اختياري لموضوع إعداد أُطروحة الدكتوراه، يرتبط بالمكان والزمان اللّذين ترعرعت فيهما. فقد وُلِدت في بيت متواضع، رسم ربُّه على عتبته شعارَيِّ «العلم والأخلاق»، اللّذين بقيا زاداً أحمله من عائلتي الأم أينما ساقت بيَ الحياة، لتنمو هذه المبادئ مع زوج شغوف باقتناء الكتب وقراءتها.

مارستُ مهنة التعليم، وعملت في الإدارة العامة، وأنا أتساءل عن ماهية الوظيفة، عن حقوق الموظف، وعن واجباته، وعن كيفية تقديره ومحاسبته، عن كيفية بناء روح المواطنية لدى تلاميذي، وأخيراً عن دوري في إعدادهم كبُناة للوطن؟

تساءلت كثيراً عن مدى تأثير موقع السكن لأي مواطن على مسار حياته، في بلد يتوجب أن تتساوى فيه كل الفرص بين مواطنيه؟ حين حُرِمت من إكمال دراستي الجامعية كعقاب لي على إقامتي في منطقة لا تبعد عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات، ولم أحظَ بهذه الفرصة سوى بعد خمسة عشر عاماً على نَيلي شهادة الثانوية العامة. كان لهذه السنين الفضل في نُضج أفكاري وتحديد تساؤلاتي واختيار موضوع رسالة الماجستير للإجابة عنها من خلال عملي كباحثة، فكانت تحت عنوان «تجربة فؤاد شهاب في بناء الدولة المدنية في لبنان بين عامي 1958 و 1964».

صمّمت أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراة مُتَمّماً لموضوع رسالة الماجستير، حين يبحث عن مصير هذه الدولة بعد نهاية حرب لبنان (1975-1990)، ولكن للأسف ولأسباب لا مجال لذكرها، لم أحظَ بهذه الفرصة، فقرّرت السير بقراري، واختيار موضوع يتطرّق إلى هذه الدولة من خلال رؤيتها لِلّامركزية الإدارية عبر أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي جسّدت البيئة الحاضنة لمفهوم التنمية، محددة قضاء الشوف كأنموذج لذلك، فأتت الأطروحة تحت عنوان «البلديات ودورها التنموي في قضاء الشوف بين 1943 و2010»، والتي نِلت على أساسها شهادة الدكتوراة في التاريخ، سنة 2015.

ارتبطت البلديات بعلاقة راسخة بمفهوم الديمقراطية؛ فقد كانت مهمة الدولة الأساسية المحافظة على الأمن، لتتطور مهامها وتشمل تأمين الخدمات، خدمة لعملية التنمية في مجتمعاتها، حتى أنّ الشرعية الديمقراطية لهذه الدولة بدأت تأخذ مفهوماً جديداً يشمل فعالية السلطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الديموقراطية المقنّعة، بمعادلة طائفية راسخة، تظَهرُ في لبنان من خلال اللامركزية الإدارية، وبالتحديد في أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي نشأت في لبنان قبل الجمهورية، وتنامت معها حتى يومنا هذا.

لم يكن نشوء البلدية ابتكاراً خاصّاً بالّلبنانيين، لكنّهم احتضنوا هذا الإنجاز، وعملوا على التشريع له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاَ. وحين تناحروا، لم يجدوا بديلاً عنه، فعادوا إليه بعد تجربة إدارات الأمر الواقع، في مختلف المناطق اللبنانية خلال حرب لبنان.

وعى اللبنانيون فكرة التنمية، ونقلوا مبادئها النظرية من منظِّريها، وأيقنوا مدى الحاجة إليها في بلدهم، فعقدوا العزم على أن تكون البلدية، البيئة الحاضنة لها.

اخترت قضاء الشوف مجالاً جغرافيّاً لبحثي، لأنّه يتميز بتنوعه الجغرافي والديمغرافي، وشعرت بذلك أنه نموذج مصغّر عن لبنان، واخترت أن تكون دراستي عن موضوع البلديات فيه، مثالاً عن كل مناطق الجمهورية اللبنانية.

اعتبرت إشكاليّة البحث، «البلدية نواة الديمقراطية الأولى»، كما تطرقت إلى علاقتها بالمواطنين وقدرتها على معرفة قضاياهم ومشاكلهم، إذ تُنتخَب مباشرة منهم، وتعمل على تحقيق كلّ عمل ذي طابع ومنفعة عامين لهم.

تضمّنت الفرضيات؛ ملاءمة بيئة قضاء الشوف لتكون مجالاً لدراسة تجربة البلديات ودورها التنموي، كما تطور العمل البلدي في هذا القضاء وبخاصة بعد انتخابات سنة 1998 البلدية والاختيارية، مع لحظ مراعاة المواطنين للمعايير العائلية والطائفية عند اختيار أعضاء مجالسهم البلدية، وإظهار دور الاتحادات البلدية في تنشيط العمل البلدي وتحقيق أهدافه الإنمائية، وأخيراً عرض الصعوبات المُعيقة للعمل البلدي وكيفية معالجتها.

عالجت دراستي هذه المجموعة من الفرضيات، بكلّ تفاصيلها، ممّا سمح لي في ختامها أن أتوصل إلى معطيات إيجابية منها وسلبية، مبنية على براهين تستند إلى معايير البحث العلمي، ليكتمل بحثي بعرض رؤى مستقبلية تتعلق بالعمل البلدي وتحقيق دوره التنموي.

تناوَلت اقتراحاتي المستقبلية عدة مجالات، توزّعت بين أدوار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأخير دور المجالس والاتّحادات البلدية نفسها.

جعلتُ دراستي الجامعية نواة كتاب أصدرتُه سنة 2017، تحت عنوان «قضاء الشوف بلدات وبلديات 1860-2016»، بعد أن أكّدت خلال دراستي الجامعية أنّ سنة 1860 هي تاريخ تأسيس أول بلدية في لبنان أي بلدية دير القمر في قضاء الشوف، وأنه من الواجب دراسة هذه الفترة الزمنية لإعطاء مفهوم العمل البلدي حقّه الوافي في لبنان، وصولاً إلى سنة 2016 تاريخ إجراء آخر انتخابات بلدية واختيارية.


علّمتني الفلسفة

دكتورة عفّة محمّد محمود.

علّمتني الفلسفةُ أنّ العمرَ مهما بلغ، لا يقفُ حائلاً بين الإنسان وطموحه، ومرشدنا في ذلك أفلاطون الحكيم الذي أحبَّ الموسيقى وتعلّمها وهو في الثمانين من العمر. لذا عدت إلى مقاعد الجامعة بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد ،وكانت فرحتي بإكمال علمي توازي فرحتي بإنجاب الأولاد. فإذا كانت ثمرة الحياة الدنيا البنات والبنون، فإنّ ثمرة الفكر العلم والتأليف والكتابة ،وبالتالي نيل الشهادات العليا.

بدأت رحلتي مع الفلسفة وحب الحكمة والحكماء، منذ الصغر وتبلورَت بشكل جليّ مع المعلم كمال جنبلاط والمطالعة الدؤوبة والمستمرة في كتبه الجمّة، حتى شعرت وكأنّ ميلادي الثاني، ميلادي الروحي قد تفتح على فلسفته وروحانيته، فكانت رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عنه وعن فكره النيّر الخصب ،حيث حملت الرسالة عنوان: «الروحانيات والتصوُّف في فكر كمال جنبلاط».
دفعني الشغف العلمي، وحبي للمعرفة لإكمال مسيرتي ونيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية، الجامعة الأم التي نعتز ونفخر بمستواها الأكاديمي، لكنْ هذه المرحلة لم تكن سهلةً إذ واجهتني صعوبات جمّة ،منها البحث عن المشرف الذي يأخذ بيد الطالب ليصل به إلى برّ الأمان، والبحث عن موضوع جديد غير مسبوق.

عملت على أطروحتي طوال خمس سنوات ،تحت عنوان «فلسفة القِيم في النص الصوفي، نموذج محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي»، ونلت عليها تقدير «جيّد جداً»، طبعاً وبكل تأكيد ما من عملٍ ناجحٍ إلّا ويحتاج إلى جهدٍ كبير ومعاناة ،وملاحقة أصغر التفاصيل، ليظهر العمل أقرب ما يكون للكمال. وهنا تكمن أهمية المثابرة والمتابعة عند الطالب، وأيضاً التشجيع والتحفيز من المحيطين والمهتمين لنجاح هذا العمل، ومن الصعوبات التي رافقت عملي أيضاً، تجميع المعلومات والتقميش وضبط كل هذا بشكل متسلسل ومنظم، لتتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي ،وجلال الدين الرومي.

تتألف الأطروحة من ثلاثة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول. عرضت في الباب الأول موضوع القيمة والقيم. فالقيم من أهم موضوعات الفلسفة وأصعبها، إذ إنّه حتى اليوم لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد موحَّد لها.فالبعض كالفلاسفة الماديين يعتبرون موضوع القيم موضوع متحوّل، ويتغير بتغير الزمان والمكان، بينما يعتبر الفلاسفة المثاليين مثل سقراط أنّ القيم العليا من الحقائق الثابتة ولا تخضع للتغيير: «وبأن السعادة تقوم في سيطرة العقل على دوافع الشهوة، ورد الإنسان الى حياة الاعتدال، ومتى عرف الإنسان ماهيته وأدرك خيره أتاه لا محالة، لأن الفضيلة وليدة المعرفة ،فمتى عرفتَ الخير حرصتَ على فعله، ومتى أدركت الشر توخيت أن تتجنبه…».(توفيق الطويل ،فلسفة الأخلاق، ص 33).

تتعدد مصادر القيم، والدين أحد هذه المصادر المهمة، فمنها قيم اعتقادية، وقيم خُلقية، وقيم عملية، حيث حرص كل من ابن عربي وجلال الدين الرومي على تثبيتها وترسيخها في الذات، والالتزام بكل الفرائض والواجبات كما وردت في النصوص القرآنية. يقول ابن عربي: «إنّ التقيد الصارم بالشريعة، وهو بالطبع الشرط للنجاح، واكتساب مكارم الأخلاق مثل الدماثة أو الحلم والتواضع والكرم والفتوة، وهي أمور ضرورية للترقي الروحي»، (كلود عداس ،ابن عربي ،ص265).

وهذا ما أكده الرومي بإيمانه بالله وعشقه للصورة الأزلية حيث يقول: «أيّها الملك! أطفئ حرصنا بماء رحمتك ،واسقِ أرواح المشتاقين شراب وحدتك ونورك، وأضئ ضمائر قلوبنا بأنوار معرفتك، وشرّف وكرّم أشراك أملنا التي نصبناها في صحراء سِعَة رحمتك بأطيار السعادة وصيود الكرامة» (الرومي، المجالس السبعة، ص 16).

في الفصل الثالث من الأبواب الثاني والثالث، حرصت على أن تتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وذلك يتم بمراقبة الجسد وضبط الحواس، ثم ضبط النفس الأمّارة بالسوء التي تدفع بالإنسان إلى الغرائز والشهوات بالقوة العاقلة والتمييز السليم، والتحلّي بالفضائل الإلهية، والابتعاد عن الرذائل لتصبح النفس حرَّة مُعْتَقة من رقِّ الجهالة.
أمّا أعلى مرتبة يشدد عليها الصوفية فهي مرتبة القلب، والذي اعتبروه أعلى من القوة العقلية في الإنسان، يقول ابن عربي: «فاعلموا أنّ القلب مرآة مصقولة كلّها وجه، لا تصدأ أبداً، وإن صَدأت لقوله عليه السلام: «إن القلوب لتصدأ كالحديد وجلاؤها يكون بذكر الله تعالى والقرآن..، فكأن تعلّقه بغير الله صدأ على قلبه لأنه مانع من تجلّي الحق إلى هذا القلب» (الفتوحات المكية ج3،ص103).
وهذا ما يقوله الرومي عن القلب أيضا: «إلّا الأصوات في صدور الأولياء والأعزاء، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصورة أنفاسهم! فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن، وفناؤهم هو الذي استُمِدَّ وجودُنا منه، إنَّ الوليّ نور الفكر، وكلُّ صوت فيه هو لذة الإلهام والوحي والأسرار». (الرومي ،المثنوي ج1، ص268)

وأخيراً نصل إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ العودة إلى تراث الأقدمين العارفين، والتحلّي بأخلاقهم الحميدة، الفاضلة تخرجنا من الفساد والمفسدين، وتنير ضمائرنا وعقولنا بالعمل الصالح السليم الذي فيه خيرنا وخير مجتمعاتنا كافة. لو عاد الإنسان إلى حقيقته، وسأل نفسه عمّا يريده من هذه الحياة بوعي وحكمة، لأجاب: مطلبي السلام، السلام الداخلي، والأمان والسلام في العالم ككل، وإذا كان مطلبه الارتقاء العقلي والصفاء في جنانه، لتطول سعادته، فما عليه إلّا بالتوحيد الحقيقي مسلكاً، أي بعرفان الحكمة، عرفان الصوفية الأتقياء، الأنقياء، والاقتداء بأخلاقهم الفاضلة الحميدة.

أخيراً الشكر كل الشكر لكل القيّمين على مجلّة الضحى، ونخصّ بالشكر رئيس تحريرها، العميد الدكتور محمّد شيا على التفاتته الكريمة.


الهَيدونيّة في الفِكر الغربيّ: مآلاتُها، الأفلاطونيّة عند ميشال أونفراي

نَغم كمال شاهين

«ماذا يجب عليّ أن أفعل؟» هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم، ينطق بلسان حال كلّ إنسان، معبّراً عن هواجسه الأخلاقيّة – المَعرِفيّة المَعيشة. هذه الهواجس حملت البشر على استقراء ما يحيط بهم من ثقافات وحضارات تلوّنت بمختلف ألوان الإجابات: دينيّة أوّلاً، ثمّ فلسفيّة؛ وصولاً إلى العلميّة والوضعيّة. هذه الإجابات على تنوّعها واختلافها تشبّعت بالهيدونيّة، ذلك أن الإنسان سعى ولا يزال إلى تحقيق سعادته من خلال اختراع واكتشاف لَذّات ومُتعٍ تبدأ عند حدود الجسد ولا تنتهي عند الفكر والروح.

وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال كانط السالف الذكر، قاربت هذه الأطروحة التي تحمل العنوان أعلاه والمُخصّصة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، فكرَ كلّ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الموسوم خطأً وزورًا بمعاداة الهيدونيّة واحتقار الجسد، والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي « أبو الهيدونيّة في القرن الواحد والعشرين» ومؤسس «الجامعة الشعبيّة».
انطلق البحث من الإشكاليّات الآتية:
1- كيف يقارب أفلاطون مفهوم الهيدونيّة؟ هل هي هيدونيّة مثاليّة – متعالية، أم واقعيّة – جسديّة؟.
2- كيف يقارب ميشال أونفراي مفهوم الهيدونيّة؟.
3- بماذا تختلف مقاربة أفلاطون الهيدونيّة عن مقاربة ميشال أونفراي؟.
4- على أيّة مقاييس تُبنى الأخلاق؟ هل تُبنى على الغنى والتّرف والجَشع أم هناك أخلاق لا بُدّ من إعادة صياغتها لتَرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيّة الحقيقيّة؟.

رامَ البحث إلى تحقيق الهدفين الآتيين:
أوّلاً: إثبات أنّ الهيدونيّة متغلغلة في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولها عنده معنى إيجابي، فهي مرتبطة بالفضيلة بشكلٍ عامّ والعدالة بشكلٍ خاصّ، لما يتفرّع عنها من لذّات وسعادة جسديّة وروحيّة على حدٍّ سواء. فاللذّة من حيث هي وعي، تستلزم بُعدًا فيزيولوجيًّا تظهر من خلاله.

ثانيًا: توضيح العلائق التي تُسهم في نسج بناء النَّسق الهيدوني عند ميشال أونفراي، من مكوّنات الفكر الهيدوني المادّي، والرؤية التي ينظر بها الهيدونيّ المعاصر المتمثّل بأونفراي إلى العالم، والهدف الذي يطمح إليه في إعادة الاعتبار للإنسان واحترام الجسد، ما يستلزم إعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي الديني والمعرفي والسياسي، ليُصار إلى تحديد هذا المنحى الفكري للنزعة الهيدونيّة، في كُلّ أبعادها عند كُلّ من أفلاطون وأونفراي.
ولتحقيق هذين الهدفين كان لزامًا أن تُقسم الأطروحة إلى قسمين:
– قسم أوّل عَرضت فيه الباحثة مكامن وجود الهيدونيّة في مقاربة أفلاطون في تكوين الأفراد، فلحظت العلاقة بين الهيدونيّة وبين الفضائل، مُنطلقةً من مقاربته الفضيلةَ نفسَها، مُستخدمةً مصطلح هيدونيّة وما يُرادفها أي لذّة بمعناها الجسديّ والروحيّ، فالصحّة والجمال والمواهب هي خيرات؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى العدل والاعتدال والشّجاعة، علمًا أنّ هذا المُصطلح لا يعني عند أفلاطون الشّعور الناتج من الانغماس في الشّهوات، بل الناتج من فضيلة الاعتدال، من ثمّ تتبّعت الأبعاد الفيزيولوجيّة والنفسيّة والابستيمولوجيّة والاجتماعيّة – السياسيّة والتربويّة والفنيّة للهيدونيّة، كما قاربها أفلاطون. كذلك قامت بمحاولة تفكيك العلاقات المتشابكة بين الهيدونيّة ومفاهيم السعادة واللذّة والحُبّ والخير، من ثمّ تتبّعت مآلات الهيدونيّة الأفلاطونيّة عند كُلّ من أرسطو وأبيقور، لكونهما ساهما في تكوين الفكر الغربي منذ اليونان حتى يومنا هذا.

– قسمٌ ثانٍ توقّفت فيه الباحثة عند خصوصيّة الهيدونيّة الماديّة عند أونفراي، من حيث معناها ومن حيثُ هي نظام أخلاقي يُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجسد ويجعله مصدرًا ومرجعًا للقيم الأخلاقيّة. كذلك عرضت في هذا القسم للإلحاد الذي جعله أونفراي أحد شروط الحياة الهيدونيّة لكونه يحرّر الإنسان من كلّ الضغوطات التي تُمارَس عليه باسم كائن ميتافيزيقي (الله). وقاربت أيضًا موقف أونفراي من الأديان التوحيديّة وثورته المعرفيّة، مضيئةً على بعض أبرز المفكّرين الذين تركوا أثرًا بالغًا على فكر ميشال أونفراي. كذلك عرضت موقف أونفراي السياسي الرافض للفلسفات الدوغمائيّة – الفوضويّة الغربيّة وأسباب تبنّيه الاشتراكيّة التحرّريّة كنظام سياسي من شأنه تحقيق هيدونيّة الجماعة، ومن ثمَّ قدّمت موقف أونفراي من الفنّ المُعاصِر. وفي نهاية هذا القسم، توقّفت الباحثة عند أبرز الانتقادات التي تناولت طروحات أونفراي.

وقد خلصت الباحثة بعد مُقاربة الهيدونيّة من منظورَي أفلاطون وأونفراي، أنّه يُمكن الخروج بفلسفة الأخلاق من المجال النظريّ البحت إلى الواقع المعيش، آخذين بالحسبان صعوبة تطبيق هذه الفلسفات الأخلاقيّة، فالفيلسوف هو ابن بيئته، وإذا ما اكتشف في هذه البيئة انحرافًا على مستوى القيم الأخلاقيّة، سعى بالوسائل المُتاحة أمامه لتقويم هذا الانحراف. أوَليس هذا ما حاول فعله كُلّ من أفلاطون وأونفراي؟ أما هذا هو حال فلاسفة الأخلاق جميعًا، في كُلّ زمانٍ ومكان؟

عارفٌ الرَّيِّس (1928 – 2005)

تعودُ معرفتي الشخصيّة بالرسّام والنَّحّات اللبنانيِّ المُبدع المرحوم عارف الريّس، ابن مدينة عاليه اللبنانيّة الجَبليّة، إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كنت أسكن المدينة، غير بعيد عن مُحْتَرَفِه (أو القبو) كما كان يسمّيه. وكنّا شلّة صغيرة من المُتخرّجين الجامعييِّن الجُدُد، نخطف أقدامنا نحو أيّة تظاهرة ثقافية مُتاحة، في بيروت أو صيدا أو طرابلس، فكيف إذا كانت على مبعدة أمتار منّا. كانت عاليه في ذلك الزّمن مدينة الاصطياف والسّياحة الأولى في لبنان، وبخاصّة في أيام الصّيف، حيث تغدو المدينة بمنازلها وفنادقها الوجهة الدّائمة للزوّار العرب: من سوريا والعراق والخليج العربيّ على وجه الخصوص. وكان هؤلاء يحملون إلى مقاهي المدينة وأرصفتها ونواديها هموم جيل عربيّ جديد طموح يجدّ في البحث عمّا يؤمّن للأمّة وشعوبها فُرَص اللّحاق بركب المتقدّمين في ميادين العلم والمعرفة والثّقافة وكذلك الفنّ.

زرتُ شخصيّاً، وشلّة رفاق الثّقافة والسّياسة، الفنّان الريّس في محترفه غير مرّة، ويندر أن وجدناه مرّة واحدة وحيداً: كان في ضيافة مُحْتَرَفه باستمرار مثقّفون وفنّانون وصحافيّون وآخرون من مُقدّري فنّه من لبنان، كما من أقطار عربيّة شقيقة أخرى. وأذكر جيداً أنَّني التقيت في مُحْتَرَفِه في واحدة من الزّيارات تلك؛ الأميرة مَيّ، ابنة الأمير شكيب أرسلان وعقيلة الزّعيم والمفكّر اللبنانيّ الرّاحل كمال جنبلاط. وأذكر من اللّقاء ذاك مقدار المعرفة الفنيّة والثقافيّة التي كانت تُبديها الأميرة الرّاحلة في حديثها وتدخّلها مع الحضور أو مع عارف إذ كانت تمحضُه الإعجاب والتّقدير – وليس في الأمر ما يدعو للعجب فهي ابنة شكيب أرسلان ذات المنشأ الثّقافيّ في جنيف ثم رفيقة أحد أبرز المثّقّفين اللبنانييِّن قبل أن تنتزعه يوميّات السياسة بعيداً عن ساحته الأحبّ والأقرب؛ الثّقافة.

أمّا مُلاحظتي الثانية من زياراتي المعدودة تلك، أواسط السبعينيّات، فهي التحوُّل الواضح الذي بدا على عمل الفنان عارف الريّس آنذاك، أواسط السبعينيّات، واهتمامه المتزايد، أو ربما تحوُّله على ما قال نقّاده بعد ذلك، نحو فنّ «الكولاج»، أي التّركيب الحُرّ لقُصاصات ورقيّة صحافيّة أو لقطع قماشيّة أو خشبيّة في تشكيلات لها معان (أيديولوجيّة في الغالب) أشدّ قوّة وصُراخاً ممّا تقدّمه أو توحي به اللَّوحة أو المنحوتة. كانت تلك مرحلة جديدة في التطوّر الفني لمسيرة المبدع عارف الريّس التي بدأت أواخر الأربعينيّات، ولعلّها بلغت في أواسط السبعينيّات بعض الجفاف، أو «عصيان الألوان» وفق تعبيره الشّخصيّ في ندوة لاحقة له.

وُلِد عارف نجيب الريّس في مدينة عاليه، ونشأ فيها، بين كتب مكتبة والده حيناً ومُناخ المدينة المُزدهرة حيناً آخر. لكنّ طموح والده دفعه للسّفر إلى بلاد السّنغال يبحث عن ثروة له على طريقة معظم اللبنانييِّن الذين اتّجهوا إلى بلدان إفريقيا في ذلك الوقت. وبعد مشاكل صحيّة خطيرة لم تبرح عارف الصّبي، التحق عارف الشابّ وقد ظهرت بوضوح مهاراته الغزيرة في الرّسم، بوالده في السّنغال. لكنّه لم يستهدف الالتحاق بمهنة والده في التّجارة وإنّما لاستكشاف سحر إفريقيا الذي بدأ يتعرّف عليه في دراساته الفنيَّة.

قضى عارف الشابّ فترة مُثيرة من شبابه في مناطق نائية من البلاد تلك. فقضى الكثير من وقته على ضفاف نهر «الكورمونز»، غير بعيد عن التماسيح فيه، أو عن الجماعات البدائيّة في محيطه التي تحتفل بكلّ حدث في حياتها بإشعال النار والغناء والرّقص في حياة بريَّة عفويّة حرّة تامّة لم تبرح مُخيّلة عارف إلى زمن بعيد. رسم عارف ذلك الفنّ الإفريقيّ الصّافي وحمل لوحاتِهِ إلى باريسَ مطلعَ الخمسينيّات بهدف إقامة معارض له هناك. لكنه فوجئ، على ما يروي زميله في باريس نقولا النمّار، أنّ باريس الفنيّة مُتطلِّبة جدّاً وأكثر بكثير من عفويّة «الفنّ الإفريقيّ»، وأنّها في حراك مُجرّد مُعقّد وأكاديمي. وعليه فقد التحق عارف في باريس بمُحترَف الفنّان فرنان ليجيه للرّسم، ثم مُحترَف أندريه لوت وهنري غنيز للحفر، وربّما مُحترَفات عدّة أخرى أيضاً.

عاد بعد ذلك إلى بيروت، وبسبب من مُشاركتِه في معرض فنّي في السّفارة الإيطاليّة نال منحة دراسيّة من الحكومة الإيطاليّة لدراسة الفنّ في بلاد الفنّ، وهناك تنقّل عارف في إيطاليا بين روما وفلورنس وميلان والبندقيّة فتعرّف على آيات الإنتاج الفنّي الإيطاليّ الذي هَيمن أعظم فنانيه طوال القرن السّابعَ عشَرَ على الفنّ الأوروبي، وعاد من تجربته تلك بمزيد من التّشكيل والغنى والتّعقيد لروحه الفنّي المُبدع والخلاّق.

ومن بيروتَ إلى نيويوركَ، هذه المرّة، إذ شارك في مسابقة لمعرض نيويورك الدَّوْليّ بمنحوتة «الفينيقيّ»، فحازت على جائزة المعرض، وكانت سبباً لإقامةٍ في بلاد العمّ سام استمرّت خمسَ سنواتٍ، كان فيها دارساً، طالباً، مُنتجاً، زادت من معرفته باتّجاهات الفنّ الحديث، ومسرحها نيويورك، فكان أن اشترك في أكثر من معرض جماعي فيها، بل وأقام معرضاً مُنفرداً. انتقل عارف بعد ذلك إلى المكسيك للتعرّف على فنون أمريكا اللّاتينية، لجهة موضوعاتها النّضاليّة الغنيّة، كما لجهة أدواتها وأشكال التّعبير فيها، فكانت مرحلة جديدة ستجد تعبيراً صارخاً لها في السّلسلة النضاليّة (التشكيليّة/الكتابيّة) التي بدأ عارف بعد عودته إلى لبنان بإصدارها، (رؤى من العالم الثالث)؛ فكانت بعض موضوعاتها: باتريس لومومبا، وكاسترو وغيفارا والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمقاومة الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة اللبنانيّة وسواها، والتي بلغت ذروتها في إصداره «البيان التّشكيليّ»، كما لو كان بديلاً /أو فرعاً/ تشكيليّاً للبيان السياسيّ الذي لم يهتمَّ به كثيراً.

بعد عودته النهائيّة إلى لبنانَ، استقرَّ في مدينة عاليه، فحوّل (القبو) الحجريَّ في منزله إلى مُحترَف واسع تملأه الفوضى من الدّاخل، ولكن تحفُّ به من الخارج أحواضُ ورد وزهور وأقاحين. وفي الفترة تلك كان عارف شريكاً رئيساً في تأسيس «جمعية الفنانين اللبنانييِّن»، وفي تحويل الألباب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، أو معهد الفنون الجميلة لاحقاً، ثم في اقتراح مناهجه، وأخيراُ مدرّسّاً فيه لأكثر من عشرين سنة.
لعشرين سنة لاحقة استقرّ عارف أستاذاً مُمَيَّزاً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، وكانت فترة استقرار له وقد بدأ الاتّكاء على عصا، فكان زملاؤه أهمّ الفنانين التشكيلييِّن اللبنانييِّن، كما ترك تدريسه وإشرافه بصمات خلاّقة حرّة (وأحياناً فوضويّة) في الكثير من طلّابه.

في فترة نُضج عارف الأخيرة، حدث ما يشبه (الهزيمة) للفنّان المُتمرّد، الثائر، الحرّ، الفوضويّ، وبعض أسباب ذلك ما خَبِرَه في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أو ما رافقها، من نتائج وتناقضات وتداعيات لبنانيّة وعربيّة قتلت في عارف الكثير من الأحلام والطّموحات والمبادئ الصّافية التي نشأ عليها، «وهو ما دفع بالمرحوم كمال جنبلاط؛ القائد السّياسي الكبير»، على ما يروي الفنّان التشكيليّ اللبنانيُّ عُمران القيسيّ، «لأن يطلب مني بالذّات جمع رسوم عارف الريّس عن الحرب اللبنانيّة في كتاب مُستقلّ مع دراستها دراسة فنيّة وسياسيّة، كان ذلك في العام 1977» («ملحق الخليج الثقافي»، 29/4/2013)

تحوّل عارف في أثناء ذلك إلى إنتاج الجداريّات والمنحوتات الضّخمة، فشارك منذ الثمانينيّات (التي قضى معظمها خارج لبنان بفعل ظروفه الأمنيّة يومذاك) في نحت بعض مُجَسّمات ساحة مدينة جدّة، كما في تشكيل وتزيين بعض معالم جدّة وتَبوك. كذلك رست عليه مهمّة تقديم المنحوتة الأماميّة الرئيسة لجامعة الملك عبد العزيز في الرّياض. كانت فترة إقامته الطويلة في العربيّة السعوديّة فرصة له للتعرّف على أشكال الإنتاج الفنّي الصّحراويّ، وكانت تلك أولى محاولات تحديد هُوِّيَّة الفنّ الصّحراويّ ومِيزاته.
أنتج عارف في الفترة تلك أيضاً جداريّة «الأوبيسون» لصالح مبنى مُنظَّمة الأونيسكو في باريس، وأعمالاً مُماثلة أخرى لغير جهة.

هذه بعض كرونولوجيا الفنّان التشكيليّ المبدع المرحوم عارف الريّس.
لكنّ عارف الريّس لا يُختزل البتَّةَ في سنوات، أو في أعمال ملموسة، مهما بلغت من الانتشار. كان للتَّنوُّع المُدهش في ثقافته واهتماماته ومضامين أعماله، كما لأُسلوبه المُتميّز،الأكاديميّ/الحرّ في آن معاً، من التأثير العميق في زملائه وطلاّبه، وفي جيل كامل من الفنَّانين، ما غدا موضع إجماع من معاصريه كما من دارسيّ تطور الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ. وبسبب من محدوديّة المساحة المقرّرة لهذه المادّة، أكتفي ببعض شهادات معاصريه أو الذين كتبوا أو بحثوا فيه بعد رحيله الهادئ سنة 2005.

بين عدد كبير من شهادات فنّانين لبنانييِّن وعرب، نكتفي بشهادتين، لعُمران القيسيّ ومحمود شاهين. كتب الفنّان التشكيليّ اللبنانيّ عمران القيسي في عارف الريّس بعد سنوات من رحيله يقول:
«هل يترك موت الفنّان فراغاً كبيراً؟ وهل يؤثّر هذا الفراغ في صورة وتكوين حركة فنّه في حِقبة زمانيّة قلقة؟ بالنسبة إلى الفنان اللبنانيّ الراحل عارف الريّس، نستطيع أن نلمس بكل حواسّنا، ونشعر بكل مُدْرَكاتنا العقليّة، أنّ رحيله ترك فراغاً خطراً على صعيد الحركة الفنيّة التشكيليّة التعبيريّة في لبنان بل إنّ جيلاً من الرّاحلين أثَّروا بما لا يقبل الجدل في المسار الاختباريّ للحركة الفنيّة اللبنانيَّة….عارف الريّس (كان) العمود الثاني لحركة الفنّ اللبنانيّ المعاصر، مقابل العمود الأوّل المتمثّل في الفنّان اللبنانيّ بول غراغوسيان.»

وبمناسبة رحيله أيضاً، كتب الفنّان التشكيليّ السوريّ محمود شاهين ما يلي:
«عارف الريّس غادر (قبوه) أخيراً… ما عادت تهرب الألوان منه… ولا تأتي إليه، لكنّه ترك ما سيبقى يشير إليه ويدلّ على الفعل الخلاّق، الجميل والمُبدع، الذي أضافه للحياة، مُكَرِّساً وجهها المُشْرِق وسحرها المُفْعَم، وسعادتها الحقيقيّة التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقييِّن… وعارف الريّس كان واحداً منهم بكلّ تأكيد.»

الفنّان التّشكيلي اللبنانيّ عارف الريّس، وباختصار، مَعْلمٌ بارز في تاريخ الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ، وصاحب بَصمات حفرت عميقاً في اتّجاهاته، لجهة المضامين والأساليب في آن معاً. وما تأثيره العميق ذاك غير الخلاصة المنطقيّة لمواهبه الإبداعيّة التي ظهرت باكراً، ثم لإصراره ومثابرته على الدراسة الأكاديميّة في أهمِّ المُحْترَفات، ولإصراره العجيب ثالثاً على اختباره الشخصيّ، جسديّاً وفكريّاً وروحيّاً، للموضوعات التي اشتغل عليها، وسيبقى مُحْتَرَفُه الفنِّيُّ علامة مضيئة أخرى في تطوّر الحركة الفنيّة اللبنانيّة، أو مرّة أخرى وبتعبير الفنان عمران القيسي: «سيبقى (عارف الريّس) القطب الذي طَبع حركة التّشكيل اللبنانيّ بطابَعِهِ الذاتي العميق». (مُلحق الخليج الثقافي، 29/2/2016).

عارفٌ الريّسُ، بنتاجه الفنِّيِّ وفي كلّ مجال تشكيليّ، وصولاً إلى الكولاج والحروفيّة، وحتى الشّعر، بمروحة موضوعات اختبر شخصيّاً معظمها، وبأكاديميّة رفيعة لجهة الأساليب وأدوات التّشكيل والتّعبير، وبسُخْرِيته السّوداء المُرّة، بعينين لا تتوقّفان عن التّحديق، بلحية كانت لا تستقرّ بين سواد تمرُّدِه وبياض نضوجه، وبعصاه أخيراً يتكئ عليها وكأنّه يُقفل على زمن بأكمله: عارف الفنان المُبدع الخلّاق عَصِيٌّ على الموت، بل لعلّه رحل، كما قال فيه زميلُه في باريس الفنّانُ والمُهندس المُبدِع نقولا النّمّار، «إلى عالم أفضل وأجمل من عالمِنا هذا.»

النَّحَّاتَةُ والرَّسَّامَةُ سلوى روضة شقير

النَّحَّاتَةُ والرَّسَّامَةُ
سلوى روضة شقير

فنّانَة ونحّاتَة كبيرة ورسامة بارعة شقت طريقها بيديها بواقعية جميلة، واستطاعت أن تستكشف عوالم تحولات كثيرة ومعاني كونية وذاتية ومجتمعية كنتيجة لرؤيتها الشمولية الجامعة لإنجازات ومخططات معمارية ومنحوتات تفوق الوصف، نوافير وبرك مياه، وأدوات منزلية، وحلى وشغفاً فكرياً.
قَرأتْ الشعر العربي وعلم الأحياء والبصريات وربط بعض الفنانين العرب والأجانب أعمالها بمدارس فنية حديثة انطلقت من باريس وبيروت وبغداد والقاهرة، في الخمسينيات إلى الثمانينيات من هذا القرن مثل “التجريبية” و”الحداثية” و”الهندسية” و”التشكيلية الجديدة” و”العربية – الإسلامية”. واستطاعت أن تبلغ الذروة والشهرة الواسعة بأسلوبها وطريقتها وتعاطيها مع الفن والنحت الأصيلين، وفي عرضها واتساع تجربتها ومعرفتها إلى نضوج فكري وتحولات عالية أثَّرت فينا وحفزتنا نحو رؤية جديدة ذاتية متطورة يعرب عن هدفها الأكبر في أعمال عامة اعتيادية في لبنان والعالم العربي والمدارس الفنية المختلفة في أمريكا وفرنسا وإنكلترا وغيرها من الدول الراقية والمتحضرة.

هذه الفنانة والنحاتة الشفافة اسمها سلوى روضة شقير من بلدة أرصون في أعالي المتن.

ففي مقال طويل كتبته في سنة 1952، وموضوعه الجمال، شرحت فيه أن المعنى الفني ملازم لإطاره الاجتماعي والبيئوي والسياسي والاقتصادي. في مسيرتها الفنية، درست سلوى روضة شقير النحت في الجامعة اللبنانية من سنة (1977 إلى سنة 1984)، وفي الجامعة الأمريكية وفي كلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية الأميركية) وفي غيرها من المدارس الفنية.

وفي صورة أكثر جرأة (صرحت الفنانة شقير قبل وفاتها بعدة سنوات)، بأنَّ الحضارة العربية – الإسلامية تتفق بشكلٍ أفضل مع احتياجات عالمية معاصرة. وفي ردٍّ هجومي على موسى سليمان في سنة 1951 قالت: “إنَّ التقاليد المعروفة لعلماء الصوفية، والتقليد السردي للأدب العربي ما قبل الإسلامي، أثبت أن العرب طوّروا فهماً فريداً للوجود، يتجاوز الخضوع، المقبول عموماً، للقيود الزمانية والمكانية، وهو فهم شهدت به فيزياء الكم والابتكارات العالمية الحديثة، مثل الطائرات الأسرع من الصوت، والعلاج الجيني، وزرع الأعضاء،

من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها

والأسفار الفضائية، كما تؤكد على هذا في كتاباتها في دمج القومية العربية مع النزعة التنموية الحداثية وأفكار النسبية الثقافية من “الترف” الفني السائد في أوساط نساء الطبقة المقاولة في لبنان المستقل، نحو ذروة الفن المحترف والكوني.

وفي جلسة ممتعة مع ابنتها “هلا” الرسامة في باريس ونيويورك في منزل الفنانة والنحاتة المرحومة سلوى روضة شقير، الكائن في محلة كليمنصو، كان لنا جلسة معها، سألناها ماذا تعرف عن الفنانة الراحلة والدتها من أمور لم تذكرها الجرائد والمجلات اللبنانية، إذ قالت لنا، أولاً:
– من الصعب أن أذكر شيئاً الآن عن والدتي. ثمَّ عادت فقالت بعد تردُّد:
– بإمكاني أن أذكر لك ما يلي عنها، قالت:
“… أكثر ما أذكره في طفولتي الساعات الطويلة، التي كانت أمي تمضيها في محترفها في الطبقة العلوية من منزلنا. كانت يداها مغطاتين دائماً بالطين – العنصر الأساسي للكثير من أعمالها الفنية، أتذكرها وهي تطوف بسيارتها الصغيرة القديمة في جميع أنحاء المدينة، باحثةً عن أفضل القطع الخشبية أو الحجرية أو تحقيق فكرة تلو الأخرى. والواقع أني لا أتذكرها كرسامة، إذ كانت منصرفة إلى الرسم خلال فترة سبقت ولادتي. لذلك كثيراً ما كانت ملفات رسومها تخبئ لي مفاجآت وأنا أخرج منها اللوحة تلو الأخرى.
فَقَدتْ أمي والدها قبل أن تكمل السنة الأولى من العمر، وعملت جدتي بكل عزم على توفير أفضل ثقافة ممكنة لأولادها الثلاثة. وكانت العائلة تَتَنَذَّرُ بالادّعاء أن جدَّتي كانت تفضّل ابنتها البكر لأنوثتها على تلك الصغرى، أي والدتي، التي كانت كثيرة الشيطنة.
تبيَّن لاحقاً، أنَّ والدتي كانت قوية العزيمة مليئة بالإيمان الراسخ والنشاط اللامتناهي. كانت في الأربعينات من العمر لدى ولادتي، الأمر النادر بالنسبة إلى نساء جيلها. رغم ذلك كانت تشعُّ حيويّةً ونشاطاً. لقد صنعت بيديها الكثير من أمتعتي الخاصة، مثل الألعاب والمجوهرات والأحزمة وحقائب اليد، حتى فرش غرفة نومي. وقمنا معاً باستكشاف تراث مختلف المناطق اللبنانية، حيث كانت تقرع على أبواب الغرباء للتمعُّن في هندسة الدُّور القديمة. وكنّا نلقى الترحيب دائماً، سواء في خيام البدو أم في قصور الأغنياء. وأحياناً كانت تأخذني مع ثلة من أقراني إلى مزرعة شقيقتها في سهل البقاع لقضاء أيامٍ صيفية رائعة. السنوات التي أمضيتها في عالم والدتي كانت مفعمة بالمتعة والمغامرات المتواصلة.
والدتي، بَنَتْ نفسها بنفسها، على أسس نظرية التي بنت عليها فنَّها.

من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها

الحافز الأساسي لفنها كان إيمانها المطلق بالميزات الحديثة التي تمتَّع بها الفن العربي. ورغم رسوخها الأصلي في ثقافتها وتاريخها وعلمها ومعرفتها كانت معجبة بخصائص القرن العشرين.
تحسّست تحسّساً كاملاً بانسجام كامل بين التراث وعصرنا الحديث، وحينما كانت تنتقد لكونها مفرطة في الحداثة كانت تقول:
– أنا مثل الإسفنجة. أتقبَّل كل الأفكار الجديدة.
كانت العلوم والفنون مجالها المفضَّل، إذ كانت تقرأ بشغف جميع كتب الفيزياء التي تقع في متناول يدها، وتستمد الإلهام الفني من التطورات العلمية ومن الأمور التي تلمسها باليد.
شكَّل تنظيم أعمال والدتي بتسلسل تاريخي دقيق فيه الكثير من التحدي. إذ نادراً ما كانت تؤرخ أو توقِّع تلك الأعمال. ومن أسباب ذلك أنّها لم تُردْ لرسومها أن تعلق على حائط، بل أن تكون جزءاً أساسياً من ذلك الحائط أو من قعر بركة أو مدخل قاعة. كذلك أرادت لمنحوتاتها أن تكون جزءاً من مبنىً أو أن يجري تكبيرها في وقتٍ لاحقٍ كي تحتلَّ الساحات العامة.
أنا أدرك أنّ والدتي لم تحقق جميع أحلامها. لكن لا شك أنها أنتجت تراثاً فنياً كاملاً وغنياً. كانت بارعة بل مذهلة في أعمالها الفنية. والآن، في مستهل القرن الحادي والعشرين، بعد أن رحلت والدتي وفُجعت بها. أقف وألتفت ورائي إلى أعمالها ورسومها ومنحوتاتها. وقد ربطتني بأمي علاقة الأخوة.
أنا معجبة بأعمالها وقدرتها على المحافظة التامة بتراثها الغني هذا رحمها الله”.
هذه هي الرسامة والنحاتة السيدة المرحومة سلوى روضة شقير في فنها، وقد طبَّقت شهرتها الآفاق، واتسعت دائرة خبراتها ومعارفها وعلومها. هي من روّاد الفن التجريدي في العالم العربي. عُرفت بمواقفها المشرفة المبنية على قناعة مطلقة بالأسس الحسابية للفن الإسلامي رافضةَ في بداياتها نقل الواقع والمحسوس كما هو مستغنية عن كل مرجعية أيقونية أو رمزية.

اشْتُهرت بمنحوتاتها المركبة من قطع عدة تتفكك أو تتركب حتى اللانهاية. مثلما تتفكك أو تتركب أبيات القصيدة العربية، كما دافعت طول حياتها عن خصوصية فنية في عماد الشكل، كما الشعر عماده الكلمة.

الطريق بالنسبة إليها هي التجربة الصوفية والشكل النهائي، كما فهمته الفنانة ذات الوقع العلمي. هو شكل تجريدي لا يوصف بالخطوط والمساحات والألوان، بل إنَّه مجموعة المعادلات القائمة بين عناصر العمل وبين العمل ومحيطه.
بقيت أفكارها وإلى فترة طويلة من الزمن غير مفهومة سوى لحلقات صغيرة من متذوقيها، ابتدأت بمحترف الفن التجريدي في باريس، ثم أخذت تتسع لتشمل محبي الفن من جميع الأجيال والجنسيات.

في كتابها الذي أصدرته في سنة 2002 بحلَّة قشيبة وإخراج ممتاز، نحو مائتين وخمسين صورة ملونة من أعمالها، بالإضافة إلى نصوص تحليلية من شأنها أن تلقي الضوء على فلسفتها وتجربتها وأعمالها الفنية.

وأخيراً: ولدت الفنانة الظاهرة سلوى روضة شقير في بيروت في سنة 1916. وتعلمت الفن الأصيل على يديّ الدويهي ومصطفى فروخ وعمر أنسي ورشيد وهبي وغيرهم…
ورحلت عن هذه الدنيا تاركةً وراءها فنها ورسومها ولوحاتها وأغراضها في رحلةٍ أبدية، أقعدتها الشيخوخة في فراشها وأسلمت الروح نهار السبت 27 كانون الثاني سنة 2017.

نَجْوى الغُروب

نَجْوى الغُروب

طفلك أنا يا ربّي.
وهذه الأرضُ البديعة، الكريمة، الحنون
التي وضعتني في حضنها
ليست سوى المهد
أدرجُ منه إليك.
إلاّ أنه ليس مهدي وحدي
بل تشاركني فيه
ربوات وربوات من مخلوقاتك.
بعضُها على صورتي ومثالي،
وهو القليل القليل،
وبعضها يختلف عني صورةً ومثالاً،
وهو الكثير الكثير.
وهذا القليل القليل،
وهذا الكثير الكثير، كلّهم دون استثناءٍ
يمتصّ رحيق الوجود
من ثديٍ واحد
هو ثديُ الحياة – حياتك.
فكأنهم العنقودُ في الكرمة
مهما تكاثرت حبّاتُه
وتفاوتت لوناً وحجماً وطعماً،
تبقى لكل حبّة عنقٌ تصلها بالعنقود
وبها تمتصّ عصير البقاء.
وتبقى للعنقود عنقُه التي تصلهُ بالكرمة،
والتي بها يمتصُّ الحياة
ويوزّعها على حبّاته وحُبيباته.
وتبقى للكرمة جذورُها
التي بها تنهلُ إكسير الحياة
من التراب والبحر والشمس والهواء
وكلّ منظورٍ وغير منظور في الفضاء.
وهذه الشراكة في الرضاعة
كانت وحدها قمينة
بأن تجعلَ من مخلوقاتك جميعها
أسرةً تسدُّها بعضها إلى بعض،
وتشدُّها إليك،
أواصرُ محبة لا يقوى الزمان،
ولا الموت،
على فصمها.
ولكن….
على من أعتب من مخلوقاتك
إذا هو تنكّر لأخوّةِ الثدي،
وبالتالي للمحبة؟
أأعتبُ على الذئبِ لا يؤاخي الحمَل؟
أم على الصقرِ ينسى أنه والعصفورُ
أخَوَان في الرضاعة؟
أما على الهرّ يفتكُ بالفأر
وكلاهما ياكلُ من معجنٍ واحد؟
لا. لا أعتبُ على أي مخلوقٍ دون الإنسان.
وأعتبُ على الإنسان.
فهو وحدَهُ بين سائر مخلوقاتك على الأرض
مؤهّلٌ لأن يقيم وزناً لأخوّة الثدي،
وأن يعرفَ أي قوةٍ خارقة
هي المحبة النابعة من تلك الأخوّة،
وأن يؤمنَ بحتمية تلك المحبة،
فيجعلها الأساس الذي تقومُ عليه علاقاته
مع إخوانه الناس
ومع باقي شركائه في بركات الأرضِ والسماء.
وحدَه الإنسان بستطيعُ أن يوسّع ذاته
إلى أن تشملَ كل ذات.
فيباركُ لاعنيه،
ويعطفُ على مبغضيه،
ويشفقُ على حاسديه،
ويطعمُ عدوّه إذا جاع،
وينفذُ حياته إذا تعرّض للخطر.
لأن هؤلاء جميعهم
هم منهُ وفيه.
بهم يحيا،
وبه يحيون.
وحده الإنسان يستطيعُ أن يدرك
عظمة المحبة وجبروتها،*
فهي إن لم تكن في بؤبؤ العين
كان كلّ ما تبصرهُ العين ضباباً في ضباب.
وهي إن لم تكن في طبلة الإذن
كان كلّ ما تسمعهُ الأذن نشازاً في نشاز.
وهي ما لم تدفع اللسان على الكلام
كان كلّ ما يقولُه اللسان هذياناً في هذيان.
وهي ما لم تحرّك أصابعَ اليد
فلا قيمة لكلّ ما تعملُه
ولكلّ ما تعطيه أو تأخذهُ اليد.
وهي ما لم تكن في حبّة القلب
كان كلّ ما يحبّه القلب
سراباً في سراب.
كم كنتُ أتمنى، يا ربّي، –
ورسولُكَ بات على قيد باعٍ مني، –
لو كان لي أن استقبله
وليس في بؤبؤ عيني،
أو في طبلة أذني،
أو في لساني،
أو في أناملي،
أو في حبّة قلبي
إلاّ المحبة!
لبته كان في مستطاعي
أن أمحو من ذاكرتي
كلّ صورة،
كلّ فكرة،
كلّ نية،
كلّ شهوة،
كلّ لذة،
كلّ شكوى،
كان فيها شيءٌ من التجديف على المحبة!
ليته كان في مستطاعي أن أفعل ذلك
حتى إذا جاء رسولُك
ليقطعَ الأمراسَ التي تشدّني إلى الأرض
فتحتُ له صدري،
ومددتُ إليه يدي،
ومعاً قطعنا الأمراس.
على أنني، وإن جدّفت على المحبة
في ما عبرَ من أيامي،
ففي نفسي اليوم
إيمانٌ عميقٌ جداً –
إيمانٌ لا يتزعزع –
بأن المحبة وحدها هي المفتاح
لكلّ ما علّي من أسراري
وأسرار الكون.
وهي وحدها الدواءُ الشافي
لكلّ ضروبِ القلقِ والحيرة والتمزّق
والخوف من سوء المصير.”
(يتبع جزء ثان)

معجزة dna

معجزة الـ DNA

عمليّةُ نسخِ الخصائص الوراثيّة للإنسان تتكرر دون خطأ
مليــارات المرّات في فتــرة عمــر الكائــن الحــيِّ الواحـــد

أنزيمات متخصصة تبحثُ عن الأخطاء في نقل المعلومات
من شريط وراثيّ إلى آخر جديد ومن ثم تقوم بتصحيحها

في شريط الخصائص الوراثيّة ست مليارات معلومة مخزنة
في حيِّز لا يمكن رؤيته بأقوى الميكروسكوبات الضوئية

في العام 1953 تمكّن عالما الأحياء فرانسيس كريك وجيمس واطسون باستخدامهما الأشعّة السّينية من كشف تركيب الحمض النّووي ووجدا أنّ كامل مواصفات أجسام الكائنات الحيّة والتي تزيد على ست مليارات “شيفرة” وراثية مكتوبة بطريقة رقميّة على شريط طويل ودقيق من الحمض النّووي مخزن في نواة الخليّة وهو من الصّغَر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئيّة.
وبهذا الاكتشاف التاريخي الذي استحق العالمان عليه جائزة نوبل تمكّن العلم من فكّ أعظم سرّ من أسرار الحياة وهو الكيفيّة التي يتمّ من خلالها توريث مواصفات أجسام الكائنات الحيّة وكذلك فهم الطّريقة التي يتمّ بها تَكوّن كائنات جديدة كاملة ابتداء من خليّة واحدة تنقسم وتتكاثر إلى مليارات الخلايا التي يتحدّد لكلّ منها وظيفة خاصّة وتذهب بالتالي لصنع عضو معيّن أو قطعة معيّنة في هذه الفسيفساء العظيمة للجسد.
وبعد أن بدأ علماء الأحياء بدراسة تركيب شريط الحمض النووي والطريقة التي يستخدمها في تخزين المعلومات الوراثيّة والآليات التي يستخدمها في تنفيذ البرامج المخزّنة عليه وجدوا أنّ فيه من الأسرار بل من المعجزات ما تعجز أكبر العقول البشريّة عن فكّها. ولقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد هذين العالمين وهو فرانسيس كريك الذي نال مع زميله واطسون في عام 1962 جائزة نوبل في الفسيولوجيا تقديرا لاكتشافهما تركيب هذا الشّريط المعجز حيث قال في كتابه طبيعة الحياة “إنّ أيِّ إنسان نزيه ومسلَّح بكلِّ المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أنّ نشأة الحياة تبدو شيئاً أقرب ما يكون إلى المعجزة”.

ما هو الـ DNA؟
يوجد جزيء DNA داخل نواة كل من الـ 100 تريليون خليَّة الموجـودة في جسمنا، وهذا الجزيء الذي لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئية يحتوي على جميع الصّفات الوراثيّة للكائن الحيِّ التي ورثها عن آبائه وأجداده والتي سيورثها لأبنائه وأحفاده، فلو أخذنا نباتاً معيّناً فإنّنا سنجد أنَّ الشّيفرة الجينيّة المختزنة في الـ DNA الموجود في خلاياه قد كُتِب فيها بقدرة الله كيف سيكون حجم البذور وطريقة إنباتها، ومدّة الإنبات، وموسمه، وشكل البادرات، ونوع الأوراق وتركيبها الخارجيّ وتشريحها الداخليّ، وطريقة ترتيبها على الساق، وملايين العمليّات الحيويّة التي تحدث فيها، والتّفاعلات التي تُنتجها، وكمية الماء التي تحتاجها، والبراعم وأعدادها وتركيبها، والأزهار وألوانها ورائحتها وتركيبها، وثمار عقدها ولونها وطعمها وتركيبها الكيماويّ الحيويّ، والبذور وعددها وشكلها وتركيبها، وملايين الصّفات الوراثيّة الأخرى. وكل تفاصيل تلك العمليّات الحيويّة مكتوبة في هذا الجُزَيء الصّغير الذي لا يمكن أن يُرى حتى بأقوى الميكروسكوبات.
إنّ جُزيء الـ DNA الموجود في كروموزوم واحد من أصل الـ 46 كروموزوم الموجودة في كلّ خليّة من مئات مليارات الخلايا في جسم الإنسان يحتوي على معلومات حيوية عن الكائن الحيّ تعادل المعلومات الموجودة في موسوعة ضخمة مكوّنة من مليون صفحة مليئة. والعجيب أنّ هذا الجزيء أُعطِي الصّلاحية لصُنع نَسَخ مشابهة تماماً له من سيتوبلازم الخليّة، وهو أمر حيويّ لاستكمال تكاثر الخلايا مع نفس الخصائص الوراثيّة حتى تكوُّن المخلوق التّام والذي قد يكون بشراً أو حيواناً أونباتاً.
وتوجد معطيـات الحمض النّووي المتعلّقة بعضو أو بروتين معيّن ضمن مركّبات خـاصة تُدعى المورّثات أو الجينات. فمثلاً، المعلومـات المتعلّقة بالعين توجد ضمن متتالية من المورّثـات الخـاصّة، بينمـا توجد المعلومـات المتعلّقة بالقلب ضمن متتالية من المورّثـات مختلفة تماماً عن الأولى وهكذا دواليك.
لكنْ هنـاك تفصيل دقيق ومهمّ هنا وهو أنّ أيّ خطأ في ترتيب النّكليوتيدات المُكَوّنة لمورّثة جينيّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى إعطـابها وتعطيل وظيفتها، وإذا وضعنا في الاعتبار بأنّه يـوجد 200 ألف مورّثة في الجسم البَشريّ، يتّضح جليًاً استحـالـة أن تتموضع صدفة ملايـيــن النّكليوتيدات المكوّنة لهذه المورّثـات حسب التّرتيـب التّسلسليّ الصّحيـح. عالـم الأحيـاء التّطوريّ فرانك ساليسبوري يشير لهذه الاستحالة بأنّ احتمال أن يحصل مثل هذا الترتيب العجيب بالصّدفة وعبر مليارات السّنين هو بكلّ بساطة احتمال واحد من من 1 متبوعاً بستماية صفر وهو رقم يفوق الخَيال ويساوي بعلم اللوغاريتم صفراً مطلقاً. ويضيف سالزبريالقول:”إنّ احتمـال التكوّن العشوائيّ لبروتين واحد أو حمض نووي ضئيل جدًا، أمّا ظهور سلسلة كاملة مترابطة من البروتينات فهو أمر لا يمكن تصوّره حتى بالخيال”.
بالإضافة إلى كلّ هذه الاستحـالات، يصعب أن يدخل الحمض النّووي في تفـاعل معيّن بسبب شكله الهندسيّ الحلزونيّ ذي السلسلة المزدوجة. كما أنّه لايمكن أن يُسْتَنسَخ الحمض النّووي إلا بمسـاعدة إنزيمات يمكن إنتاجها فقط بواسطة المعلومات المُرَمّزة في الحمض النّووي نفسه ولأنّ كلا الجُزيئين يرتبط وجود أحدهما بالآخر، فإنّهما إمّـا أن يكونا قد وُجدا في الوقت ذاته من أجل التولّد، وإمـّا أنْ يكون أحدهما قد”أُوْجِد” قبل الآخر وعندها فإنّ التّفاعل الضّروريّ لا يمكن أن يتمّ بسبب حتميّة الوجود المتزامن للعنصرين. عالم الأحياء الأميركي جاكوبسون يقدّم ملاحظاته حول الموضوع :
”كلّ التّعليمات الخاصّة بإنتاج التّصاميم والطّاقة المحرّكة واستخلاص بعض الأجزاء من البيئة المحيطة وترتيب مراحل النّمو والآلية المنفِّذة التي تحوِّل التّعليمات المشفّرة إلى نموّ، كلّ ذلك يجب أن يتواجد آنيّاً في ذات لحظة (بدء الحياة).وهو ما يعني أنّ اندماج الأحداث صدفةً هو أمر مستحيل الاحتمال، بل يجب أن يُنسَب إلى القدرة الإلهية.”
كتب جاكوبسون ملاحظته هذه بعد سنتين من اكتشاف بُنية الحمض النّووي بواسطة جيمس واطسون وفرانسيس كريك. وبعد أكثر من 63 عاما على ذلك الاكتشاف التّاريخي لا زالت ملاحظة العالم الأميركي سارية المفعول، لأنّه وعلى الرّغم من كلّ التقدم العلميّ الذي تحقّق منذ ذلك الحين لا زالت معجزة الحمض النّووي والشيفرة الجينيّة وطريق عملها في توليد الكائنات والأنواع واستمرارها في الزّمن لُغزا مُحيِّرا ومعضلة كشفت الأرضيّة الهشّة التي تقوم عليها نظريّة “التّطوّر بالصّدفة” التي حاولت إيجاد تفسير ماديّ لنظرية الوجود لا تقوم على الإيمان بمبدأ الخلق والخالق. وحول هذه النّقطة يقول عالمان ألمانيان هما جانكر وشيرر بأنّ تخليق كلّ الجزيئات التي يحتاجها التّفاعل الكيميائي (لتكاثر الخلايا واستنساخ الشيفرة الجينيّة) يتطلّب شروطًا وظروفاً تختلف كثيراً في ما بينها، وأنّ احتمال اجتماع تلك العناصر في بُنية وظائفيّة بمحض الصّدفة هو صفر”

التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي
التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي

صدمة لنظريّة التّطوّر
إنّ أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحمض النّووي هو أنّ الطّريقة التي تمّت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات هي الطريقة ذاتها التي يستخدمها الحاسوب الرّقميّ لتخزين مختلف أنواع المعلومات في ذاكرته وفي تنفيذ برامجه. ولقد ترتّب على هذا الاكتشاف العظيم تحوّل كبير في المفاهيم المتعلّقة بالطّريقة التي تمّت بها عمليّة خلق الكائنات الحيّة وخاصّة تلك المتعلّقة بنظريّة التّطوّر والتي أصيبت بصدمة كبيرة بعد هذا الاكتشاف.
ويعود سبب الصّدمة إلى اكتشاف العلماء أنّه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحيّ مهما بلغت بساطة تركيبه إلّا من خلال تعديل مليارات الشّيفرات الوراثيّة المرتّبة بدقّة في جُزيء الـ DNA وهذا الأمر يتناقض تماماً مع النظريّة التطوريّة، أولاً لأنّ الصّدفة التي لا عقل لها لا يمكنها أن تقوم بإجراء التّغييرات المطلوبة في مليارات الشّيفرات الوراثيّة ضمن عمليّة التّطوّر، وثانياً لأنّ كلّ العناصر والمركّبات والأربطة والتّعليمات التي تدخل في صُنع جُزيء الـ DNA لا بدّ أن تكون موجودة معاً في الوقت ذاته لكي تنشأ الحياة ولا يمكن أن تتجمّع بفعل الصّدفة بصورة تراكميّة.
وهذه الكثافة في تخزين المعلومات غاية في الضّخامة إذا ما تمّت مقارنتها بكثافة المعلومات الرقمية المخزَّنة على الأقراص المغناطيسيّة أو الضّوئيّة الحديثة والتي يمكن لأفضل أنواعها أن تخزن نصف مليون حرف ثنائيّ في كل سنتيمتر وهذا مع العلم بأنّ عرض شريط القرص المغناطيسيّ يزيد بعشرين مرة عن عرض الشّريط الوراثيّ. ولكي يدرك القارئ ضخامة هذه الكثافة نذكر له أنّ الشّريط الوراثيّ للإنسان يتكوّن من ستة مليارات حرف وراثي مخزّنة في حيِّز لا يمكن رؤيته بالميكروسكوبات الضّوئيّة بينما لو تمّت كتابته على الورق باستخدام الأحرف الكتابيّة لاحتاج إلى مليون صفحة ورقيّة. وقد أوضح أحد علماء الأحياء هذه الكثافة بقوله إنّ الحيِّز الذي يمكن أن تحتلّه الأشرطة الوراثيّة لجميع أنواع الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض الآن وتلك التي انقرضت يمكن احتواؤه في ملعقة شاي صغيرة.
ولا بد لنا هنا من أن نؤكّد على أنّ استخدام نظام التّشفير لحفظ المعلومات عمليّة واعية بكلّ معنى الكلمة ولا يمكن أن تتم بأي حال من الأحوال من قبيل الصّدفة، فأقصى ما يمكن للصّدفة أن تعمله هو جمع بعض المكوّنات مع بعضها البعض لتنتج مكوّنا أكثر تعقيداً،ﹰ أمّا أن تقوم باختراع مثل هذا التّمثيل الرّياضي فهذا أمر لا يقبله العقل. كذلك فإنّ عمليّة النّسخ التّلقائية للمعلومات الوراثيّة لا يمكن أن تُختَرع إلّا من قبل عاقل يهمه أن يحتفظ بهذه المعلومات لأهداف لاحقة يريد تحقيقها، لأنّ الصّدفة مجرّد “حادث” أو مجموعة حوادث تخضع لقانون الاحتماليّة ولا يوجد للصّدفة “مخطّط” أو “ذاكرة” أو “تصميم” ثمّ إن سرّ الحياة الأعظم يكمن في قدرة الشّريط الوراثيّ على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السرّ تستطيع الخلايا الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها.
ولولا هذه الخاصيّة الفريدة لهذا الشّريط لَما أمكن للحياة أنّ تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السّنين وإلى أن يشاء الله، فالمعلومات الوراثيّة التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حيّ يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشّريط في كلّ خليّة قبل انقسامها إلى خليّتين وعندما يعطي الشّريط أوامره إلى الخليّة لكي تنقسم إلى خليّتين عليه أوّلاً أن يُصْدر الأوامر لتصنيع جميع الجُزيئات اللّازمة لبناء شريط جديد يودعه إحدى الخليّتين. فعلى سبيل المثال فإنّ عملية تصنيع شريط جديد في إحدى خلايا جسم الإنسان يتطلّب من الخليّة أن تقوم بتصنيع ستّة مليارات جزيء سكّر وستّة مليارات جُزيء فوسفات وذلك لبناء السّلسلتين الجانبيّتين ومن ثم تصنيع ستّة مليارات حرف وراثيّ بِنِسَبٍ محدّدة من أنواعه الأربعة إلى جانب تصنيع الأسطوانات البروتينيّة التي سيتمّ لفّ الشّريط الجديد عليها. إنّ هذا العدد الضّخم من الجُزيئات يجب أن يتمّ تصنيعه وحفظه في داخل نواة الخليّة التي لا يتجاوز قطرها الميكرومتر أوجزء من ألف من المليميتر..

العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره
العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره

كيف يَسْتَنْسِخ شريط الـ DNA نفسه؟
إنّ مجرّد تصنيع الجُزيئات التي يُبنى منها الشّريط الوراثي بالأنواع والأعداد المطلوبة يُعتَبَر معجزة من معجزات الحياة، ولكن هذه المعجزة لا تقاس أبداً بالمُعجزات الموجودة في الطّريقة التي يتمّ بها بناء الشّريط من هذه الجُزيئات. يبدأ الشّريط الوراثيّ عمليّة تصنيع نسخة جديدة عن نفسه وذلك بعد أن يتأكّد من توفّر الأعداد اللّازمة من الجزيئات المكونة للشّريط الجديد حيث يقوم إنزيم خاص بالعمل على فتح الشّريط الوراثيّ من أحد جانبية ليفصل السّلسلتين الجانبيتين بما تحملان من أحرف وراثيّة عن بعضهما البعض. ومن ثم تتولّى إنزيمات أخرى بناء سلسلتين جديدتين وتثبيت الأحرف الوراثيّة عليهما بحيث تكون الأحرف الجديدة على كل سلسلة مكمّلة للأحرف القديمة المرتبطة بإحدى السّلسلتين القديمتين.
ومن ثمّ تتحد كلّ سلسلة من السّلسلتين الجديدتين مع سلسلة أخرى من السّلسلتين القديمتين مكوّنتين شريطين وراثيّين يحتوي كلّ منهما على سلسلة قديمة وأخرى جديدة. إنّ عملية نسخ المعلومات عن الشّريط القديم وتخزينها على شريط جديد تتمّ بسرعة عالية نسبيّاً حيث تتراوح بين ألف حرف في الدّقيقة في الإنسان ومليون حرف في الدّقيقة في البكتيريا. وهذا على عكس المتوقّع فحجم المعلومات المخزّنة على شريط الإنسان يزيد بملايين المرّات عن حجم المعلومات على شريط البكتيريا فكان من المُفتَرض أن تكون سرعة النّسخ في الإنسان أعلى منها في البكتيريا.
ولكنّ تقليل سرعة النّسخ في الإنسان هدفه تقليل نسبة الخطأ في المعلومات المنقولة لأنّ السّرعة العالية للنّسخ في البكتيريا كفيلة بإتمام عمليّة نسخ شريطه في دقائق معدودة ولكنّ نسخ شريط الإنسان بمعدّل ألف حرف في الدّقيقة يحتاج لما يقرب من ستّ سنوات وهذا يعني أنّ تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة يحتاج لما يقرب من ثلاثمائة عام.
ولكن بقدرة الخلّاق العظيم أصبحت المدّة التي يحتاجها الشّريط الوراثيّ لإنتاج نسخة جديدة عنه لا تتجاوز نصف ساعة وقد تم ذلك من خلال إجراء عمليّة النّسخ بشكل متوازٍ لجميع الكروموسومات المكوّنة للشّريط الوراثيّ وكذلك من خلال إجراء عمليّة نسخ الكروموسوم الواحد في عدد كبير من المواضع. وبهذه الطّريقة الذّكيّة تمّ تقليص مدّة تصنيع إنسان جديد ابتداء من خليّة واحدة من ثلاثمائة عام إلى تسعة أشهر!

في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة
في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة

أنزيمات مُتخصّصة بتصحيح الأخطاء
ولقد وجد العلماء أنّ معدّل الخطأ في نقل المعلومات عند نسخ الأشرطة الوراثيّة في خلايا الإنسان قد يصل إلى خطأ واحد في كل ألف حرف وإذا ما تمّ حساب عدد الأخطاء الكلّيّة المحتملة في كامل الشّريط فإنّ الرّقم يبلغ ثلاثة ملايين حرف. ولكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ فعمليّة تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة تتطلّب تكرار عمليّة النّسخ هذه عند كلّ انقسام لكلّ خليّة من خلاياه والتي يصل عددها في الإنسان الكامل إلى ما يقرب من مائة ألف مليار خلية (مائة ترليون)..
وعلى هذا فإنّ مجموع الأخطاء في الأشرطة الموجودة في خلايا جسم الإنسان سيبلغ عند اكتمال تصنيعه مائة وخمسين مليون خطأ أيّ ما نسبته خمسة بالمائة من مجموع عدد أحرف الشّريط الوراثيّ للإنسان وهذه النّسبة العالية من الأخطاء كفيلة بفشل عملية تصنيع جسم الإنسان بالكامل. ولكنْ إحدى معجزات الإتقان التّام في صنع الإنسان والحياة عموماً أنّ نظام تكاثر الجُزيئات مزوّد بنظام يعمل على تصحيح الأخطاء النّاتجة أثناء عمليّة النّسخ فبعد أن يتمّ إنتاج نسخة جديدة من الشّريط الوراثيّ تقوم مجموعة من الأنزيمات بالبحث عن الأخطاء الموجودة على الشّريط الجديد ومن ثمّ تقوم بتصحيحها.
إنّ وجود نظام لتصحيح الأخطاء في عمليّة نسخ الأشرطة الوراثيّة تدحض دحضاً كاملاً أن تكون الصّدفة تقف وراء عمليّة خلق الحياة على الأرض كما يدّعي أنصار نظريّة التّطوّر.
كما أنّ اكتشاف جُزِيء الدّنا DNA وخصائصه أثبت أنّه لا توجد خليّة بدائيّة وخليّة متطوّرة (وهذا الافتراض هو الرّكن الأساسيّ في نظريّة تطوّر الأنواع) وأنّ الفارق الرّئيسيّ بين الخلايا الحيّة هو فارق في عمليّة البَرمجة يتجسّد في جُزَيْئات الأحماض النّووية بالخليّة ومنها الحمض النّووي الدّناDNA.
إنّ الله تعالى هو }فاطر السّماوات والأرض{ الذي }إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُنْ فيكون{ وهو الّذي }أحسن كلَّ شيء خلقَه{ هل الذي أبدع كلّ تلك الأنظمة التي لا تشوبها شائبة، ووضع كلّ التّفاصيل تماماً في مكانها الصّحيح، وتكفّل بأنْ تعمل كلّها معاً في توافق تامٍّ كما تعمل كافّة أجزاء الكَوْن الأخرى ابتداءً بالمجرّات والأفلاك والعوالم اللامحدودة وانتهاءً بأصغر الكائنات المجهريّة وملايين المخلوقات والأنواع.

الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته
الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته

مصادر أساسية
الشّيفرة الوراثيّة سرّ الحياة الأعظم- الدّكتور منصور أبوشَريعة العبادي جامعة العلوم والتّكنولوجيا الأردنية جامعة الأميرة سُمَيّة للتّكنولوجيا
هارون يحي – الخليّة أرض العجائب
هارون يحي – هذا الجُزيء المعجزة : الحمض النّووي (دي. إن إي)
لغز الحياة في الـ دي إن إي. الدكتور نظمي خليل أبو العطا موس

جزيء الـ DNA
أكبر بنك معلومات في العالم

يُعْتَبَرُ جُزَيء الحمض النّووي أكبر بنك معلومات في العالم، ويحتوي على بيانات ملفوفة حول ما يقارب الـ 25 مليون ربطة.
الآن، لنفكّر في جميع الخُطوات التي علينا اتّخاذها لإيجاد كتاب معيّن عندما ندخل مكتبة ضخمة تحتوي على عشرات الآلاف من المؤلّفات وعلى قاعدة بيانات تحتوي على كافّة المعلومات المتعلّقة بالكتب، ورفوف منظّمة، وملصقات، والأهمّ من ذلك عدد من العاملين الجاهزين لمساعدتك في البحث.
لننتقل الآن لمقارنة ذلك مع ما يجري في كل وقت في أي خليّة من ترليونات الخلايا التي تكوّن جسدنا، وحيث تقوم أنزيمات الخلايا بالعثور على معلومات محدّدة في بنك المعلومات الوراثيّة، وهذه الأنزيمات المسمّاة أنزيمات RNA تقوم بالبحث وتجد ضالّتها في الظُّلمة الشّديدة، وهي تذهب للمكان الصّحيح من بين 25 مليون ربطة تؤلّف بنية نظام المورّثات الجينيّة، وتعثر على المعلومات المطلوبة وتأخذ نسخة منها لنفسها، وتحدث هذه العملية 2000 مرّة في الثانية الواحدة في الـ 100 تريليون خليّة الموجودة في أجسامنا. إنّه لأمر مدهش جدًا كيف أن إنزيمًا غير عاقل يستطيع إيجاد سطور قليلة من المعلومات في جُزيء الحمض النّووي الذي يحتوي على ثلاثة مليارات رسالة، وكأنه وضعها في أماكنها بنفسه؟

نظام المناعة

صناعة الأسلحة الدّفاعيّة في جهاز المناعة مُتْقَنَةٌ لدرجة أنّ بُنية العنصر المجهريّ الدّخيل وبُنية السّلاح المُنتَج لتدميره تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتــاح!

مع اندحار العدوّ تأمر “شرطة الانضباط” بوقف إطلاق النّار وتدعو سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها لكي لا يستمرّ الجسم في وضعية تعبئة مُكلفة وغير مجديـــة

تسامُح الجهاز الدّفاعي مع ملايين البكتيريا النّافعة وقدرته على تمييزها وعدم مهاجمتها هي مُعجزة مُبهرة لم يتمكَّن العلم بكلِّ وسائله من فهم أسرارها

قال تعالى: }وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ (الجاثية: 4) يريد بذلك أن يحثّ المؤمن على التفكّر في آيات الخلق باعتبار ذلك أحد أهمّ طرق اليقين بوجوده وهو أيضاً سبيل الاتِّضاع له والتّسليم لسلطانه ولهدي حكمته ورسالاته. فهذا الكون الهائل الذي يسير منذ الأزل وفق قوانين دقيقة وتلك المخلوقات التي لا تُحصى في البرّ والبحر والتي يمثل كلّ منها ومن أصغر بكتيريا إلى الإنسان نفسه عوالم كاملة لا يُسْبر غورُها ومعجزات ناطقة بعظمة الخالق وقدرته لا يمكن عند النّظر عن قرب في أيّ منها إلّا الخشوع والتّسليم التّام الشّاكر الحامد لمبدع الكون. لقد أراد بعض الضَّالّين المـُضِلِّين استخدام العلم لإنكار وجود الخالق إتّباعا لأصنام نفوسهم وظلمة عقولهم لكنّ العلم نفسه الذي يريدون وضعه في مواجهة الإيمان يصبح يوماً بعد يوم، وكلّما اكتملت حلقاته وتعمّقت اختباراته، أكبر ناصر للإيمان؛ لأنّ التّمَعّن في آيات الخلق والمخلوقات في ضوء العِّلم يوفّر براهين لا تردّ على أنّ كلّ ما في الوجود ليس من فعل الصّدفة إنّما هو آيات إعجاز الخلّاق العظيم }لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا{ (الفرقان:62). كذلك جاء في الآية الكريمة }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56) أيْ ليعرفون، وفق شرح إبن عباس. وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل من الكون ومعجزة الخلق آيات ليس للنّظر إليها بعين البصر أو التّمتّع بها مثل ما تفعل الأنعام بل للتفكر في ما تشير إليه من حقيقة الخالق وتجلّيات عظمته وبراهين سلطانه، فيكون التفكّر بآيات الخلق بذلك هو سبيل معرفة الخالق ونتيجة ذلك الإقرار بالعبودية وبشرف العبادة وتصديق الرّسالات والرّسل والتزام هَدْيِهم.
وبالنّظر لأهمّية إعمال العقل والتفكّر في آيات الوجود تدخل مجلّة “الضّحى” مع هذا العدد قسما علميّاً يتناول تسليط الضّوء على آيات الخلق والكون ليظهر مع كلّ موضوع نتناوله مدى الإعجاز في كلّ مظاهر الوجود صغيرها وكبيرها ولعلّ ذلك يكون حافزاً لمزيد من التفكّر والتأمّل، وسبيل عقليٍّ إلى ثبات الإيمان في القلب وسطوع براهين اليقين.

“الضّحى”

مطار مكتظ وألوف متدافعة - نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام
مطار مكتظ وألوف متدافعة – نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام

مُعْجزَةُ نظام المناعة

بينما نمضي في حياتنا اليوميّة تعمل جيوش المناعة
بنظام بديع على صدّ هَجمات آلاف الأجسام المُعادية

جنود الدّفاع المَناعي يتلقَّوْنَ في الأمعاء «تدريباً»
يعلّمُهم تمييز البكتيريا النّافعة وعدم مهاجمتها!

ينصرف الإنسان كلّ يوم إلى حياته العاديّة فيستيقظ ويتناول طعامه ويذهب إلى عمله ثم يعود إلى حضن الأسرة أو لملاقاة الأصحاب أو لإجراء بعض التّمارين في النّادي أو غير ذلك من الأعمال، لكن بينما يعيش الإنسان يومه وليله بطمأنينة فإنّه قد لا يكون على بيِّنة من أنّ جسده مهدّد في كلّ أوان من أعداء كثيرين، وأنّه مُحاط في منزله أو في مدينته أو في مكان العمل أو في السوق أو أيّ مكان يقصده بأخطار تتمثل في البكتيريا والفيروسات والأجسام الميكروسكوبية التي توجد بالملايين في كلّ مكان: في الهواء الذي نستنشقه، وفي الماء الذي نشربه، وفي الطعام الذي نأكله، وفي المحيط الذي نعيش فيه.
لكنّ هذا الشخص قادر على أن يستمر في حياته العاديّة دون قلق بفضل نظام المناعة المعقّد والمتطوّر جدّاً الذي يحميه في كلّ لحظاته دون أن يدري عنه شيئاً أو حتى يشعر بخدماته العظيمة. ومثل القلب أو الكبد أو البنكرياس التي تقوم بوظائفها دون أن نشعر بها أو نفهم طبيعة عملها، كذلك يعمل نظام المناعة المعقد دون أن نشعر به مع فارق أنّ هذا النّظام ليس عضواً معيّناً بل هو نظام بديع للدّفاع والهجوم وجمع المعلومات وتبادل التّنسيق وتوزيع الأدوار لا يماثله في دقّته أيّ نظام بشري على الإطلاق. فنحن نتحدّث هنا عن جيوش حقيقيّة مشكّلة من “جنود” عدّة ومن أجهزة استخبارات وأسلحة موجَّهة عن بُعد وعن شبكة اتّصالات وفرق “مٌهمّات خاصّة” أُسندت لكلٍّ منها مهام محدّدة وهؤلاء الجنود أو المحاربون مدرّبون تدريباً ممتازاً وهم يستعملون في دفاعهم عن الجسم تكنولوجيا متطوّرة ويحاربون بأسلحة فعّالة بيولوجيّة وكيميائيّة.

الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا
الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا

حروبٌ مستمرّة
وفي كلّ يوم، أو بالأحرى في كلّ دقيقة، تنشب وبشكل متتابع “حروبٌ” بين هذه الجيوش وبين الأجسام المجهريّة المعادية التي لا يمكننا رؤيتها لكنّها تحاول على الدّوام التسلّل إلى جسدنا وإيذائنا. وقد تقع هذه الحروب على شكل مناوشات داخليّة بسيطة، لكنّ المناوشات قد تتطوّر إلى اختراق بكتيري فتنشب الحرب على نطاق أوسع وتشمل المعارك الجسد بأكمله مما ينذر بالخطر. وتسمى هذه المعارك “أمراضا”.
وفي غالب الأحيان لا تتغيّر الطّريقة العامّة التي تنشب من خلالها هذه الحرب. فقد يحاول العدوّ خداع جهاز المناعة عن طريق التّمويه وهو يشقّ طريقه عُنْوة داخل الجسد. في مقابل ذلك فإنّ جهاز المناعة يعتمد على قوّات مدرّبة تقوم، وعند أدنى تسلّل أو اختراق بمهمّة تقصّي الحقائق لتحديد هُوِّيّة الأعداء. ويتمّ التعرّف على العدوّ وتحديد طبيعته ويبدأ فوراً تحضير الأسلحة المناسبة للقضاء عليه.
يمكن دون مبالغة تشبيه جسم الإنسان بقلعة محاصرة من قِبَل أعداء يبحث كلٌّ منهم عن نقطة ضَعف أو سبيل لضرب دفاعات القلعة واقتحامها ثم إيذاء من فيها، ويشكّل جِلدُ الإنسان جدارَ تلك القلعة وخطَّ الدّفاع الأوّل عنها.

الجِلْدُ خطُّ دفاعٍ أوّل
بفضل دور الجلد كخطّ دفاعٍ حصينٍ لا تتمكّن الكائنات الدّخيلة التي تصل إلى سطحه من شق طريقها إلى داخل الجسم. ومع أنّ الطّبقة الخارجيّة للجلد، والتي تحتوي على الغلاف القَرنيStratum Corneum تمَّحي باستمرار إلّا أنّها تتجدّد بالكامل كلّ أسبوعين إذ يتكوّن الجلد من تحتها ثمّ يصعد باستمرار لتأخذ الخلايا الجديدة مكان القديمة التي زالت.. وبذلك يتمّ طرد كلّ الزوّار غير المرغوب بهم (والذين شقّوا طريقاً لهم داخل الجلد) من الجسم مع طرح الجلد الميت، وذلك خلال مرحلة نموّ الجلد من الدّاخل إلى الخارج. ولا يمكن للعدوّ في هذه الحالة أنْ يقتحم الجسم سوى عن طريق جرح ما قد يصيب الجلد.
يُعْتَبَر الهواء أحدُ الطّرق التي تتمكّن من خلالها الفيروسات من ولوج جسم الإنسان، حيث يشقّ العدو طريقه إلى الجسم عن طريق الهواء الذي يستنشقه الإنسان. لكنْ هناك إفرازات خاصّة توجد داخل غشاء الأنف المُخاطي وأجزاء دفاعيّة “تبتلع” الخلايا الضّارّة داخل الرّئة (وتسمى البلاعم) وهي عبارة عن خلايا تبتلع الأجسام الغريبة وتقضي عليها قبل أنْ يستفحل خطرها. وتتمكّن الأنزيمات الهضميّة الموجودة في حامض المعدة والأمعاء الصّغيرة من صدّ وقتل عدد كبير من الميكروبات التي تحاول ولوج جسم الإنسان عن طريق الطّعام.

صراعٌ عنيف
وهناك عددٌ من الميكروبات التي تتمكّن من الاستقرار داخل جسم الإنسان، كتلك التي تستقر في الجلد وفي طياته وفي الفم والأنف والعين وقنوات التنفّس العليا وقناة الهضم والأعضاء التّناسليّة، وهي تبقى في حالةٍ كامنة لكنّها لا تتسبّب في المَرض.
لكنْ عندما يتمكّن عنصر مجهريّ دخيل من ولوج الجسم، ومن ثمّ التّكاثر وتحدّي عناصر الدّفاع اليقِظة، فإنّ هذا الاختراق يشعل على الفَور نار الحرب لأنّ نظام المناعة سيدفع بجيشه النّظامي إلى الجبهة لشنّ حربٍ خاطفة ضدّ العدو قبل أنْ يتحوّل إلى خطر حقيقي..
وتمرّ الحرب التي يشنّها جهاز المناعة بأربعة مراحل أوّلها تحديد هُوّيّة وخصائص العدوّ وثانيها تحصين الدّفاعات وإعداد الأسلحة الهجوميّة المناسبة ثم يتمّ شنّ الهجوم وتصفية العناصر المقتحمة الدّخيلة، وأخيراً يتعافى الجسم ويعود إلى حالته الطبيعيّة.
وتُسمّى الخلايا التي تبادر إلى مُجابهة الوحدات المُعادية “الخلايا البَلعَميّة”، وهي التي تقوم بمحاصرة العدوّ والالتحام معه وهذه أشبه بجيش المُشاة وهي تعتمد على كثرتها وسرعة حركتها. ثم يقوم فريق من هذه البلاعم بوظيفة وحدات الاستخبارات العسكرية، لأنّها تحتفظ بأفراد من العدوّ الذي تمكّنت من القضاء عليه وتقوم بتسليمهم
إلى وحدة استخباراتيّة أو ما يسمى بـ “مرسال” خلايا الـ T Cells الدّفاعيّة التي تقوم بتحديد هُوِّيّة العدوّ تمهيداً لعمليّة إنتاج الأسلحة الكفيلة بتدميره.

إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي
إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي

إعلانُ النَّفيرِ العام
إذا تبيّن أنّ قوّة العدوّ تفوق قدرة الدّفاعات الأولى أو الأمامية، فإنّ فرقة الفرسان (بلاعم الماكروفيتجز) تأتي لدعم الهجوم وتقوم بإفراز مادّة خاصّة. وتسمّى هذه المادّة “المُحِمَّة” التي تسافر طويلا حتى تصل إلى المخّ لتقوم بعمليّة التّنبيه والتّحفيز في وسطه، وبمجرّد وصولها يقوم المخّ بإنذار كافّة الجسم وتتولّد عن ذلك حُمَّى شديدة لدى الشّخص. إنَّ الحُمَّى الشّديدة جزء من نظام المناعة لأنّها تدفع المريض إلى الرّاحة ممّا يعني أنّ الطاقة التي يحتاجها الجيش للدّفاع عن القلعة لا تُصْرَف في أماكن أخرى، وقد لاحظ العلماء وجود تفاعل سريع بين مختلف أجزاء نظام المناعة وتواصل وخِطط توزيع مهمّات معقدة جدّاً.
عَقِبَ هذه التّعبئة تصبح المعركة بين العناصر المِجهريّة الدّخيلة وجهاز المناعة أكثر تعقيداً، وقد يصبح الجسم مهدّداً نتيجة قوّة الهجوم البكتيري وعدم كفاية الدّفاعات الأوّليّة؛ عندها تتدخّل “القوّات الخاصّة” وتُسَمّى الكريفاوات (وهي الخلايا “T” و “B”).
تقوم المخابرات (بلاعم الماكروفيتجز) بتزويد الخلايا “T المساعدة” بالمعلومات عن العدوّ. وتقوم هذه الخلايا بدعوة سامّ الخلايا وخلايا “B” إلى ساحة المعركة وهذه تٌعدّ من أكثر محاربيّ جهاز المناعة فعاليّة.

إنتاجُ الأسلحة
ولحظة حصول خلايا “B” على المعلومات المُتعلّقة بالعدوّ تقوم هذه بصناعة الأسلحة. وتمتاز هذه الصّناعة بالإتقان لدرجة أنّ البُنية الثّلاثيّة الأبعاد للعنصر المجهريّ الدّخيل والبُنية الثّلاثيّة الأبعاد للسّلاح المُنتَج تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتاح.
وتتقدم المُضادّات الحيويّة ِAntibodies وهي الأسلحة التي أنتجتها الخلايا B في اتّجاه العدوّ لتنقض عليه بإحكام تامّ. وبعد هذه المرحلة يتمّ القضاء على العدوّ كما يُفعَل بالدّبابة التي دُمِّرت عجلاتُها ومدفعُها وسلاحُها. وبعد ذلك تأتي فرق أخرى من جهاز المناعة لتقضي نهائياً على العدوّ المُندحر.
وهنا يجب التوقّف عند نقطة هامّة جدّاً قصد التّمعّن فيها. وهي أنّ أنواع العدو التي يتعامل معها جهاز المناعة تعدُّ بالملايين، لكنْ مهما كان شكل العدوّ أو خصائصه فإنّ خلايا جهاز المناعة قادرة على إنتاج السلاح المناسب للأعداء كافّة، ويعني هذا أنّ جهاز المناعة يمتلك المعرفة والقدرة اللّازمتين لإنتاج المفاتيح المناسبة للملايين من الأقفال. وتمتلك هذه الخلايا اللّاواعية القدرة على إنتاج الملايين من الأجسام المضادّة، والقدرة على استعمالها بأفضل الطّرق لإلحاق الهزيمة بالعدوّ.

ما بعدَ النَّصر
وعندما يندحر العدوّ تدخل “شرطة الانضباط” من الخلايا T ساحة العمليات، فتأمر جيش الدّفاع بوقف إطلاق النار كما تتحكّم في سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها. لهذا فإنّ الجسم لا يستمرّ في وضعية تعبئة غير مجدية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها تكون معظم خلايا “T” و “B”، والتي أنتجت خِصّيــصاً للحرب، قد أكملت دورة حياتها لتموت بعد ذلك. غير أنّ هذه الحرب الضّروس يجب ألا تُنسى دروسها. هنا يأتي دور مجموعة خلايا الذّاكرة التي تحتفظ بكل المعلومات عن العدوّ وهذه ستكون في تصرّف جهاز المناعة في حالة تكرار الهجوم من البكتيريا المعادية نفسها، لأنّ نظام المناعة سيُسارع عندها إلى حسم الموقف قبل أن يتمكّن العدوّ من تجميع قوّته. إنّ عمل ذاكرة جهاز المناعة هو الذي يفسر لماذا قد تصيبنا الحصبة مرة لكنّها لا تعاود الإصابة ثانية.

نظامُ المناعة ونظريّة التّطوّر
عند التأمّل في عمل جهاز المناعة يتبيّن لنا وجود خطّة خارقة تتحكّم بكلّ هذا النّظام العجيب وهي خالية من أيّ عيب أو نقص. فكلّ ما يعتبر ضرورياً لعمل هذا المخطّط متوفّر ولا يعتريه أيُّ نقصان: فكيف جاء هذا النّظام المُحكَم إلى الوجود؟
في هذا الشأن بالتّحديد لا يمكن لنظريّة التطور أن تقدّم أيَّ تفسير لأنّه لا يمكن لجهاز المناعة بأيِّ شكل من الأشكال أن يكون نشأ بفعل التطور والتدرّج. والسبب في ذلك أن أي نقص في أي من العناصر المكوّنة لهذا الجهاز يجعل هذا الجهاز يتعطّل تماماً ولا يمكن للشّخص أن يبقى على قيد الحياة بعد ذلك. لذا، فإنّ النّظام لا بدَّ أنَّه وجد مرة واحدة كاملاً شاملاً بعناصره ومن دون عيب أو نقص. وهذه الحقيقة تدحض فكرة الصّدفة التي تبدو في هذا المجال نظريّة فارغة لا قيمة لها.
تَمييز العدوّ من الصّديق
لنأتِ الآن إلى موضوع سيزيدنا حَيْرة وفي الوقت نفسه قناعة بأنّ نظام المناعة وكل حياتنا وكلّ مظاهر هذا الوجود إنّما هي أجزاء من نظام كوني بديع لا يمكن أن يعتريه خطأ أو نُقصان. وموضوعنا يتلخّص في سؤال هو كيف يمكن لنظام المناعة أنّ يفرّق بين بكتيريا عدوّة وبكتيريا نافعة أو صديقة؟ وفي جسمنا تعيش ملايين البكتيريات النّافعة في الأمعاء أو المعدة أو الفم أو الحلق وكذلك الخلايا التي تنتمي إلى أعضاء جسدنا، وهذه الكائنات المجهريّة تعيش وتزدهر في جسدنا دون أن يعترضها نظام المناعة أو تهاجمها فرق الدّفاع؟
على سبيل المثال فإنَّ 80 نوعاً من الكائنات (البكتيريا النافعة) الحيَّة تعيش في الفم والحلق واللّوزتين، كما أنّ هناك 200 نوع من الكائنات الحيّة التي تصون الصحّة الجيدة لأجسادنا باستمرار. وهذه الكائنات لا يهاجمها جهاز المناعة بل “يتسامح” معها أو يتعايش معها بسلام. وهذا ما يسمى “تسامح الجهاز المناعي”Immune System Tolerance وهذا النّظام يمكن وصف عمله كما يلي:
• الخلايا اللّمفاويةlymphocytes هي نوع من الكريّات الدّمويّة البيضاء في أجسامنا. وهي تقاتل كلَّ ما هو ضار بالجسم و تقضي على البكتيريا والجزيئات الخطيرة على أجسامنا.
• لكنْ أثناء تنفيذها لمهمّات الدّفاع والتّنظيف فإنّ هذه الخلايا لا تهاجم بطريق الخطأ مثلا خلايا الجسم الذي تنتمي إليه كما أنها لا تهاجم البكتيريا المفيدة للجسم.
• سبب ذلك أنَّ كلَّ خليّة من خلايا الجسم تحتوي على نظام محدّد للهُوّيّة الخَلويّة للتّعريف بنفسها (الجزيئات المحددَّة للذَّات) وهذه تُعرَف بـ “المستقبلات” Receptors. وعلى هذا الأساس فإنّ خلايا T المقاتلة يمكنها التّمييز بين جميع الخلايا الأخرى من خلال التَعرُّف على مستقبلاتها، كما أنّها تتعايش مع تلك الخلايا التي يحتاجها الجسم. وهذا ما يدعى بـ “التّسامح المناعي”.
• إنَّ التّسامح المناعي” هو في الواقع معجزة عظيمة لأنّه يعني أنّ جهاز الدّفاع قادر على التّمييز بين آلاف البروتينات التي يختلف بعضها عن البعض الآخر.
• فإذا واجهت خليَّة T مُدافعة خليّة أخرى من خلايا الجسم، فإنّها لا تقوم بمهاجمتها، بل تجعل من نفسها غيرَ فعّالة (أي تبطل مؤقتا خاصّيتها الدّفاعية) حتّى لا تهاجمها.
• وبنفس الطّريقة، إذا كانت هناك مادّة من الجسم تتصرَّف كأنَّها مضاد دفاعي antigen لكنّه قد يضرّ بالجسم فانَّ الخليَّة المدافعة لا تدمره و(لا تثير مشاكل للجسم) والسَّبب، كما كشفت الأبحاث العلميّة، هو أنَّ عنصر الدِّفاع الذي يضرُّ الجسم إمّا أنْ يموت تلقائيّاً أو يدمِّر نفسَه بنفسِه.

الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء
الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء

التّسامح المناعي في الأمعاء
الأمعاء عُضوٌ آخر يتسامح معه جهاز الدّفاع المناعي. بالرّغم من أنّ الجسم بشكل عام محميّ بأسلحة دفاعيّة دقيقة للغاية، فإن الملايين من البكتيريا تعيش في الأمعاء لدينا، لأن الطّعام الذي نأكله، والسّوائل التي نشربها يتمّ هضمها عن طريق تلك البكتيريا في الأمعاء الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذه البكتيريا توفّر طريقة طبيعيّة للحماية لأنّها تمنع تكاثر الجراثيم الأخرى التي يمكن أن تضرّ الجسم. بل إن الخلايا الدّفاعية تتعاون مع هذه البكتيريا من أجل تحقيق الفائدة للجسم. حتى ولو حصلت إثارة لجهاز الدّفاع المناعي وبدأت حرب في الأمعاء فإنَّ الخلايا T المقاتلة تتجاهل البكتيريا النَّافعة في الأمعاء الدَّقيقة وتمنع حصول تلك الحرب.
إذاً، كيف تتسامح الخلايا الدّفاعية مع البكتيريا النّافعة في جسدنا؟

اكتشافٌ أذهل مجلّة Science World
في ورقة بحث نُشرت في مجلة طبيعة المناعة (Nature Immunology)، وجد فريق من الباحثين بقيادة شانون تورلي (Shannon Turley) أنّ جهاز الدّفاع لديه آلية التّسامح المناعي وهي آلية في عمل الجهاز لم تكن معروفة من قبل. وهي تعمل بالشّكل التالي:
1. الغدد اللّمفاوية هي مثل “ثكنات تجمع الجنود” أو المعسكرات الإستراتيجيّة التي تحيط بالجسم كلِّه. أمَّا الخلايا اللَّمفاوية Lymphocites فهي جنود الدّفاع وهذه كما أثبت البحث تقوم بسحب مُضادّات الجسم إلى العُقَد اللّمفاوية ومحاربتها.
2. بالرّغم من ذلك، فإنَّ العُقَد اللّمفاوية الموجودة في الأمعاء تشبه مركزاً للتدريب أكثر من كونها معسكراً إستراتيجيّاً. المذهل هو إن الخلايا الأساسية الموجودة هناك تقوم بتدريب خلايا T والتي هي من جنود جهاز دفاعنا، بالتصرّف بطريقة مناسبة تجاه خلايا الأمعاء وبالتّالي عدم مهاجمة البكتيريا النّافعة التي تعيش فيها وتتكاثر بحرّيّة. وهذا يماثل تدريب الخلايا T على أنْ تُمَيِّز بين مئات البكتيريات النّافعة وبين البكتيريات الضّارة فتهاجم فقط الأخيرة بينما تترك الأولى تعيش وتتكاثر بسلام.
3. لا يمكن تفسير أنَّ مثل هذا النظام في هذا الجزء من الجسم يمكن أنْ يأتي إلى حيّز الوجود عن طريق المصادفات. كيف يمكن لعمليّة التَّدريب أنْ تحدث؟ لقد عجز العلماء عن فهم هذا الأمر رغم كلّ ما يمتلكونه من الوسائل التكنولوجيَّة الأكثر تقدّماً.
شانون تورلي، اختصاصيّة علم الأمراض في جامعة هارفارد والتي قادت ذلك البحث تَملّكتْها الدّهشة ممّا وجدته وأدلت بعد ذلك بتصريح مثير جاء فيه:
“إنَّ خلايا الجهاز المناعي (الخلايا T) إمَّا تتجاهل نسيج الأمعاء أو تتعامل معه بتسامح. ومع ذلك، فإنَّه لا يزال مجهولاً كيف يمكن لخلايا في الجسم أنْ تُعلِّم وتُدرِّب الخلايا T التي تُعتبرُ حسّاسة جدّاً للميكروبات أنْ لا تقوم بمهاجمة خلايا الأمعاء وأنواع البكتيريات الصّديقة التي تقيم فيها”.
إنّ الخلايا كائنات بيولوجيّة غير واعية، ولا تملك الذّكاء والوعي والقدرة التي تمكّنها من تعليم العملية البيولوجية لخلايا أخرى. إذاً ليس هناك أدنى شكّ في أنَّ وضع مثل هذا النّظام الذي عجز أكثر الباحثين والعلماء ذكاءً عن فَهمه يحتاج إلى تفسير أوسع يأخذ في الاعتبار مُعجزَة الخَلق والقدرة المطلقة لله تعالى وهو الذي } إذا قضى أمرا فإنَّما يقول له كُنْ فيكون{ (البقرة :117).
ملاحظة: استفاد هذا الموضوع من مراجع علميّة عّدة من بينها موقع العالم الفيزيائي عدنان أوكتار .

ابو زيد

سلطان العارفين

أبو يزيد البسطامي

العـــــارف لا يكــــدره شــــيء ويصفــــو بــــه كــــل شــــيء
من عــــرف الله بهــــت، ولــــم يتفــــرغ للكــــــــلام

حسب المؤمن من عقله أن يعلم أن الله غني عن عمله

مَا النَّــــــــارُ؟ لأَسْتَنِــــــــدَنَّ إِلَيْهَــــا غــــَداً
وَأَقُــــوْلُ: اجعَلْنــــِي فَــــدَاءً لأَهْلِــــهَا

الجنة هي الحِجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة
وكــــــــل من سكــــن إلــــى سِــــواه فهــــو محجــــوب

ازدان تاريخ الإسلام خصوصاً في عصوره الأولى بعدد كبير من أهل المعرفة اللدنية والأحوال والأسرار، وكان السالكون إلى الله يلجأون إليهم كما يلجأ المسافر في ليلة ظلماء إلى سراج مضيء في واحة وارفة. وكان أهل الله هؤلاء ملح الكون فعلاً وطلبة كل من هاجت في نفسه مشاعر الشوق إلى الله تعالى وإلى فتوحات الحق. ومن رحمة الله تعالى للناس أنه بعث العارفين على مقدار طبقات السالكين وأعطى لكل منهم صورة ولساناً يخاطب به أهل زمانه فيقرب إلى قلوبهم، حسب أفهامهم وبلغتهم الشعورية، معاني الربوبية ويرشدهم في الوقت نفسه إلى سبل التطهر والقرب لعلّ من كتب اسمه بين السعداء في كتاب الغيب يصل إلى غايته عن طريق حملة مفاتيح العرفان هؤلاء.
كان أبو زيد البسطامي (طيفور) من أعظم المصابيح التي أضاءت في عالم الإسلام والسلوك الحق إلى الله .وقد ذكره الإمام أبو عبد الرحمن السلمي صاحب طبقات الصوفية ضمن الطبقة الأولى مع أئمة التصوف من أمثال الحارث المحاسبي وذي النون المصري وأبي سليمان الدارني وترجم له المناوي وقال عنه: هو أمام أئمة العارفين وشيخ مشايخ الصوفية المحقِّقين، فضلاً عن وصف الخوافي له بـ “سلطان العارفين”.
أشار إليه الشيخ الاكبر محي الدين ابن عربي باسم “أبو يزيد الأكبر”، وقال عنه إنه كان القطب الغوث في زمانه، وقال العارف الهجويري في كشف المحجوب في ترجمته عن أبي يزيد: “كان من أجلّ المشايخ وأرفعهم حالاً وأعظمهم شأناً”، وقال عنه الجنيد: “أبو يزيد بمنزلة جبريل من الملائكة”.
في هذا العدد تعرض مجلة “الضحى” للجوانب المختلفة لشخصية البسطامي وأبرز تعاليمه والأقوال التي نقلت عنه، وهو الشخصية التي تعتبر بين أكثر الأولياء الصوفية إثارة للاهتمام إلى جانب أعلام مثل جلال الدين الرومي وأبو منصور حسين الحلاج ومحي الدين ابن عربي.

ولد أبو يزيد سنة 800 في بسطام في جبال طبرستان في عهد الخليفة العبّاسي هارون الرشيد، في القرن الثالث الهجري وتوفي عن ثلاثة وسبعين عاماً في عهد الخليفة المعتمد ، بذلك فقد عاش في عزّ الدولة العباسية كما شهد أول ملامح أفولها، وهو عايش بعض أكبر أعلام الصوفية البغداديين من أمثال المحاسبي والسر ي السقطي وأبو حمزة، كما رافق كبار الصوفية في مصر مثل ذو النون المصري، وصحب كبار صوفيي خراسان مثل ابن كرم ويحيى الرازي وصحب من صوفيي إيران سهل التستري.
كان جده زرادشتياً وأسلم أما والده فكان مسلماً تقياً وكان له شقيقان هما آدم وعلي وقد تكرسا أيضا لطريق القوم لكنهما لم يبلغا ما بلغه.
لم يُعرف مكان دفنه وإن كان بعض المؤرخين يعتقدون أنه في بسطام مسقط رأسه، لكن بسبب التقدير الهائل الذي حظي به بين المؤمنين عبر الأزمنة فإن للبسطامي على ما يعتقد، نحو 40 مزاراً وقبة وضريحاً في العالم الإسلامي.
التقى أبو يزيد العديد من أقطاب الصوفية والعرفان في زمانه لكنه لم ينسب علمه إلى شيخ محدّد، كما كان المألوف من أكثر أعلام الصوفية، بل ردّ علمه في أكثر من قول إلى الإلهامات والواردات الربانية التي منّ الله بها عليه اصطفاء وتقريباً، أي أنه أخذ العلم تعليماً من السماء من دون واسطة وهو القائل “ليس العالم من يحفظ من كتاب فإذا نسى ما حفظ صار جاهلاً بل من يأخذ العلم من ربه أي وقت شاء ولا درس، وهذا هو العالم الرباني “.
والعلم الرباني هو ثمرة إدمان الطاعة والمجاهدة، وهو المشار اليه بقوله تعالى: } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ (البقرة: 282) أي أن صفوة الصفوة من أهل الله يعلمهم الله وعلمهم العلوي أو اللدني هو محض لا يداخله لبس ولا يعتريه خطأ، بخلاف العلم الكسبي الذي يعتريه الجدل والخلاف لأن للعقل مدخلاً اليه والعقول متفاوتة في الإحاطة.
وكان أبو يزيد يقول: “أخذوا ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت”، لكن نور البسطامي أبهر كثيراً من العيون وفاق طاقة كثيرين على التحمّل فوقع كثيرون بسببه في الحيرة وعجزوا عن فهم إعجازه وتاهت عنهم بالتالي معانيه. وهذه في الحقيقة حال بعض أهل الكشوفات الذين يغلبهم نور الكشف وبحاره العظيمة فيندفعون، في محاولة وصف ما لا يوصف، إلى شتى الصور الكلامية ويعجزون، ويبقى الاختبار حبيساً في وجودهم كأنما كتب الحق على هؤلاء لحكمة منه أن يكتموا سرّ الإمنان وعجائب الفيض فلا ينبسون منه إلا بالقليل تورية ومجازاً.
وقد اختار البعض مثل الشهيد أبو منصور الحلاج الإفصاح فلم يتورّع عن كشف بعض أسرار الاختبار الأعظم فكان أن ناله ما ناله من الجهلة فدلّ بذلك على حاجة أهل العلم الخاص للكتم والحيطة في الحديث عن أسرار الاختبار العرفاني بين العامة وغوغاء أهل الزمان. واستفاض الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي أيضاً في شرح الفتوحات والحكم اللدنية فرمي من قبل ضيقي الأفق بالزندقة أو بمذهب وحدة الوجود وتعرّض ولا يزال إلى الأحكام المتسرعة ممن اعتقدوا أنهم في نقدهم له إنما يدافعون عن الدين وهم في الحقيقة يدافعون عن معتقدهم هم وتأويلهم للعقيدة كما يفهمونها.
وفي هذا التضاد بين عالم التحقق وأنواره وأسراره وبين سجن اللغة والتعبير البشري، كمنت معاناة العديد من الصوفية الذين اعتذر كثير منهم -كما فعل جلال الدين الرومي- عن الإفصاح متذرعين بأنهم يخافون أن يفتنوا عامة الناس ويزعزعوا عقائد العبادة الظاهرة للعامة. بل أن الرومي لم يجد سبيلاً للإفصاح عن تجربة التحقق الصوفي سوى اللجوء إلى باب آخر هو السماع أي الرقص الصوفي والدوران الرمزي للدراويش حول مركز وجودهم في الله تعالى وفنائهم الرمزي فيه.
أين نضع أبا يزيد البسطامي في هذا السياق. وهو الذي عرف بلغته الصادمة في التعبير عن دقائق الاختبار الروحي وعن أمور العقيدة والسلوك والعلاقة بالخالق والزهد والإيمان، وقد كان لتلك الجرأة ربما أثرها في ما رمي به من “شطح”، والشطح الصوفي هو في تعريف أهل العلم ما يصدر عن الصوفي العارف أثناء السكر الروحي أو الغيبة من وصف لاختباره الروحي يتجاوز به حدود الأدب مع الله وما قد يندم عليه عند الصحو. لكن اللافت أن أبا يزيد على الرغم من أنه تجرأ في إفصاحه أحياناً بالدرجة نفسها التي بلغها الحلاج وزاد على ذلك أحياناً إلا أنه لم يلقَ المصير الذي لقيه الأخير، بل هو حظي باحترامعام وإجلال عبر الأزمنة ولم يشكك سوى نفر قليل من الجهلة في إيمانه وصحة إسلامه.
حقيقة الأمر أن الطريقة الصادمة لأبي يزيد لم تتضمن أي معارضة للدين أو الشريعة إذ عرف عنه التزامه التام بفرائض الإسلام وبالعبادات كلها وأدبه الشديد مع الله ورسوله وأنبيائه وهو القائل:
“لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحد، وأداء الشريعة”.
وهذا التوضيح المهم لعقيدة أبي يزيد كان ربما من أهم الاسباب الذي شفعت له وبرّأته من تهمة المروق أو تهمة رفع التكاليف أو إسقاط الفروض.
ويعتقد بعض كبار الصوفية أن اللغة البليغة والقاطعة للبسطامي كانت تصدر عن مقام يقيني ورؤية مثل وضح النهار، لكنها في جرأتها وصدمها كانت أسلوباً في شدّ قلوب المريدين وعزائمهم وتنفيرهم في الوقت نفسه من الركون إلى العبادة الظاهرة أو الوقوف عند بعض الأحوال، حثهم بدلاً من ذلك على المضي في المجاهدات والطاعات حتى آخر الطريق وهو طريق الفناء في الله. أراد أبو يزيد أيضاً حثّ أهل زمانه على عدم التهاون في العبادة والإخلاص فيها، إذ كان يعتقد جازماً أن الإنسان الحق خُلِق ليكون عبداً لله لا يشغله عن عبادته والتقرّب منه أي شيء من أشياء هذه الدنيا.
رغم ذلك فقد وجد من يؤوِّل بعض أقوال أبي يزيد باعتبارها تشدّد على أهمية الإخلاص والإيمان القلبي أكثر من اهتمامها بالعبادات الظاهرة. وفي هذا المجال يروى عن سلطان العارفين قصتين:
القصة الأولى نقلها جلال الدين الرومي عن شيخه شمس تبريز وجاء فيها أن أبا يزيد أراد السفر إلى مكة لأداء فريضة الحج‏ّ، فلما وصل إلى البصرة التقى درويشاً من الصوفية فسأله هذا: ما هي غاية سفرك يا أبا يزيد؟
قال البسطامي‏:‏ أريد مكة وزيارة بيت الله‏ الحرام
قال الدرويش‏:‏ هل معك زاد لهذا السفر‏؟
قال البسطامي‏:‏ نعم لدي 200‏ درهم‏
قال الدرويش ‏:‏ أعطني الدراهم وتعال طُف حولي سبعة أشواط،‏ وكان الدرويش يشير بذلك إلى الحديث القدسي الذي جاء فيه‏:‏ “ما وسعتني أرضي ولا سمائي،‏ ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن‏”، كما قصد أيضاً- ومعه جلال الدين الرومي الذي أورد القصة- أن في عبادات الأكابر والواصلين من الأحوال والمقامات ما يصعب شرحه ويتجاوز كثيراً العبادات الظاهرة وتكاليفها.
القصة الثانية هي أن رجلاً من أهل الحديث قال لأبي يزيد وهو صبي: يا غلام، تُحسن أن تصلي؟
قال: نعم إن شاء الله
فقال له: كيف تصلي؟
قال: أكبر بالتلبية، واقر بالترتيل، وأركع بالتعظيم، وأسجد بالتواضع، وأسلم بالتوديع. فقال: يا غلام، إذا كان لك هذا الفهم والفضل والمعرفة فلم تَدَعِ الناس يتمسحون بك؟ قال أبو يزيد: ليس بي يتمسحون، لكن يتمسحون بحلية حلانيها ربي، فكيف أمنعهم من ذلك؟ وذلك لغيري؟ وتشير هذه الرواية إلى أن أبا يزيد كان قد اشتهر أمره وهو صغير السن كأحد أصفياء الله، وأن الناس بدأت تعامله بإجلال كبير وتطلب البركة في زيارته أو لمس ثيابه، كما تشير أيضاً إلى اعتباره أن الأصل في العبادة والركوع والسجود هو في الإخلاص وفي الموقف القلبي وليس في الحركات المجردة عن الخشوع والاستغراق في الله.

حج أبو يزيد

يروى أن أبا يزيد أخذ 12 عاماً لإنجاز رحلة الحج إلى مكّة، إذ كان عند مروره بكل مصلى على الطريق يبسط سجادة الصلاة ويصلي ركعتين وكان يقول في ذلك: إن الكعبة ليست مقاماً لملك من ملوك الأرض يمكن للمرء أن يسابق إليه.
وقد وصل أبو يزيد إلى مكة أخيراً لكنه لم يزر المدينة قائلاً: أخجل أن أعرج على النبي (ص) كما لو أن زيارته أمر بديهي بسبب بلوغي مكة، إنما سأعود إلى زيارته خصيصاً وبإحرام أصنعه للمناسبة،
وهذا ما عاد وقام به في السنة التالية.

مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام
مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام

تقواه في الصغر
رويت عن أبي يزيد من الأخبار المدهشة عن طفولته ومن ذلك أنه حفظ كتاب الله وهو في السابعة من عمره، وتهجد وقام الليل وهو ابن ثماني سنوات ، أي أنه قد تعشق التقوى من نعومة أظفاره، كما ورد عن ابن ظفر المكي في “أنباء نجباء الأبناء”:
وروي أنه كان صبياً صغيراً عندما استيقظ ذات ليلة فوجد أباه يصلي فقال: يا أبت علمني كيف أتطهر وأصلي معك.
فقال: يا بني أرقد فإنك صغير بعد. فقال: يا أبت إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فسألني ربي أقول له: قلت لأبي علمني كيف أتطهر لأصلي معك فقال لي أرقد فإنك صغير بعد؟!
فقال له أبوه: لا والله يا بني لا أحب هذا وعلمه فكان بعد ذلك يصلي معه.
وكان أبو يزيد صبياً صغيراً لما حفظ: “يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلاً “، فقال لأبيه: يا أبت من الذي قال له الله تعالى هذا؟ قال: يا بني كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا أبت فمالك لا تقوم الليل كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني لأن قيام الليل خُص به النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته !! فسكت الغلام .
فلما حفظ قوله سبحانه وتعالى”إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك” قال: يا أبت أسمع أن طائفة كانت تقوم الليل فمن هي؟ قال: يا بني هؤلاء الصحابة. فقال: يا أبت فأي خير في ترك ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته؟
فقال: صدقت، فكان أبوه بعد ذلك يقوم الليل .

قصته مع أمِّه
قيل أن أبا يزيد كان في مدرسة يتعلم القرآن عندما قرأ الأستاذ الآية 14 في سورة لقمان وفيها }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ{ (لقمان: 14)، وقد أثرت فيه هذه الآية بحيث استأذن أُستاذه في الذهاب إلى البيت للتحدث مع والدته التي سألته عن السبب في عودته المبكرة إلى البيت، وعلى ذلك أجاب أبو يزيد بالقول: لا يوجد سبب محدد لكن لدى قراءتي للآية التي يدعوني الله فيها لأن أخدمه وأخدم والديّ شعرت بأنني في مأزق كبير لأنني لا أستطيع أن أخدم سيدين في آن. لذا فإني أرجوك يا أمي أن تسألي الله تعالى أن يسمح بأن أكون مكرساً لخدمتك بالكلية، أو أن تنذريني بالكلية له بحيث أكون عبداً خالصاً له جلّ جلاله”. وقد ردت الوالدة بالقول: “يا بني إني أسلمك لله عز وجلّ وأعفيك من أي واجب تجاهي، فاذهب وكن مع الله”.
ومع إجازة الوالدة له بأن يكرس حياته كلها لله غادر أبو يزيد بسطام وساح في الأرض لمدة 30 عاماً مخضعاً نفسه لشتى المجاهدات عبر قيام الليل والمناجاة والصوم، درس خلال تلك المدة على يد عدد كبير من المرشدين الروحيين. لكنه عاد في السنوات اللاحقة من عمره إلى حب الأم، بعد أن استيقن أنه لا يتعارض أبداً مع التكرّس لله. وقد ذكر في ما بعد كيف أنه عاد إلى منزل أسرته بعد تجواله الطويل ليرى والدته وقد انحنى ظهرها وفقدت البصر، وهو سمعها قبل الدخول منهمكة في الدعاء لابنها المهاجر. فألقى بنفسه باكياً بين يديها.

مجاهداته واشتهار أمره
ولد أبو يزيد في سنة 800 م في عهد الخليفة العبّاسي هارون الرشيد في القرن الثالث الهجري وتوفي عن ثلاثة وسبعين عاماً في عهد الخليفة المعتمد ، بذلك فقد عاش في عزّ الدولة العباسية كما شهد أول ملامح أفولها، وهو عايش بعض أكبر أعلام الصوفية البغداديين من أمثال المحاسبي والسري السقطي وأبو حمزة، كما رافق كبار الصوفية في مصر مثل ذو النون المصري، وصحب كبار صوفيي خراسان مثل ابن كرم ويحيى الرازي، وصحب من صوفيي إيران سهل التستري.
لم يعرف عن أبي يزيد البسطامي أنه اتخذ مريدين كثراً، لكن نفوذه امتد إلى أقاصي العالم الإسلامي وأصبح الكثير من أقواله والقصص المنسوبة إليه جزءاً من الإرث الروحي المتداول. ومما لا شك فيه أنه وكما حدث لجميع الأولياء ومنارات الروح فإن إرث أبي يزيد البسطامي تعرّض للزيادة سواء من المحبين المتحمسين أو من المغرضين الذين لم يستوعبوا الرمزية الرائعة في الكثير من أقواله أو ما نسب إليه من “شطحات” أرادوا اتهامه بالتطرف أو الخروج عن سراط الدين الحنيف.
لكنّ أبا يزيد البسطامي حظي على الدوام بمكانة رفيعة بين أعلام الصوفية وقد جعله العديد من فرق الصوفية أحد أركان السلسلة الذهبية التي تقوم عليها، أي سلسلة الورثة المحمديين الذين يتوارثون السر المحمدي بحيث يسلمه الشيخ إلى مريد مقدّم آمراً إياه بمتابعه مهمة الإرشاد وأمر التصرف بالقلوب وتسليك المريدين عبر المنازل والأحوال والمقامات.

دفاع الإمام الشعراني
تعرّض البسطامي مثل العديد من أعلام الصوفية إلى سياط بعض الأوساط الدينية المحافظة، والتي لم يكن ممكناً لها أن تفهم المغازي الحقيقية والبعيدة لأقواله فأخذتها على حرفيتها، لكنه بقي يحظى باحترام وإجلال كبيرين لدى أوساط العامة والسالكين على السواء بحيث أقيمت له الأضرحة والمزارات في فارس والعديد من بلدان المنطقة، كما أقيمت له القباب في الجزائر. كما تصدى العديد من أعلام الصوفية اللاحقين لناقدي أبي يزيد وكتبوا وألفوا بهدف تبيان المعاني الباطنة لأقواله وشرح الرمزية العميقة التي غلفت بعض ما سمي بـ “الشطحات”. وأحد أبرز من كتب في الدفاع عن أبي يزيد الصوفي الشهير عبد الوهاب الشعراني الذي ألّف كتاباً سماه “الفتح في تأويل ما صدر عن الكُمَّل من الشطح” ألفه في سنة 973 للهجرة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، في الدفاع عن أهل الأسرار: “إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله عز و جلّ ، فإن نطقوا به ، لم ينكره إلا أهل الاغترار بالله ، فلا تحقِّروا عالماً آتاه الله علمه ، فإن الله لم يحقره إذ أتاه إياه”.
قال عنه أبو نعيم في «الحلية»: «التائه الوحيد، الهائم الفريد، البسطامي أبو يزيد. تاه فغاب، وهاب فآب، غاب عن المحدودات إلى موجد المحسوسات والمعدومات. فارق الخلق ووافق الحق، فأُيِّد بأخلاء السر، وأُمِدَّ باستيلاء البر، إشاراته هائنة وعباراته كامنة، لعارفيها ضامنة، ولمنكريها فاتنة».

حوار طيفوري

سئل أبو يزيد عن ما هو أكبر عون للرجل في الطريق إلى الله فقال: أن يولد سعيداً. وتابع السائل الأسئلة فكان هذا الحوار:
فإن لم يكن له ذلك
جسد قوي
فإن كان يعوزه ذلك
أذن مصغية
ومن دون ذلك
قلب عارف
فإن لم يوجد
عين مبصرة
وإن لم توجد
أن يموت لساعته !

رسم-فار-سي-تخيلي-لأبا-يزيد
رسم-فار-سي-تخيلي-لأبا-يزيد

مواقف مأثورة عنه

سمع أبو يزيد رجلاً يكبر فقال له: ما معنى الله أكبر؟ قال: الله أكبر من كل ما سواه فقال أبو يزيد: ليس معه شيء فيكون أكبر منه. قال: فما معناه ؟ قال معناه أكبر من أن يقاس أو يدخل تحت القياس أو تدركه الحواس.
أبو موسى الديبلي قال: سمعت أبا يزيد يقول: الناس كلهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني فقيل له: لم ؟ قال: لعله أن يقول لي فيما بين ذلك: يا عبدي، فأقول: لبيك. فقوله لي: عبدي أعجب إلي من الدنيا وما فيها، ثم بعد ذلك يفعل بي ما يشاء .
أبو موسى الديبلي قال: سمعت أبا يزيد يقول: عرج قلبي إلى السماء فطاف ودار ورجع، فقلت: بأي شيء جئت معك ؟ قال: المحبة والرضا.
عبيد قال: قال أبو يزيد طلقت الدنيا ثلاثاً بتاتاً لا رجعة لي فيها، وصرت إلى ربي وحدي فناديته بالاستغاثة: إلهي أدعوك دعاء من لم يبقَ له غيرك. فلما عرف صدق الدعاء من قلبي، واليأس من نفسي، كان أول ما ورد علي من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم.
روى أبو يزيد أن “خرجت إلى الجامع يوم الجمعة في الشتاء فزلقت رجلي فأمسكت بجدار بيت، فذهبت إلى صاحبه فإذا هو مجوسي فقلت قد استمسكت بجدارك فاجعلني في حل قال أو في دينكم هذا الاحتياط قلت نعم قال أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وقال أبو تراب: “سألته عن الفقير، هل له وصف” فقال: “نعم!، لا يملك شيئاً، ولا يملكه شيء.

من أقوال أبي يزيد البسطامي
في أصول وآداب السلوك إلى الله

الغفلـــــــة عن الله طرفة عين أشــدّ من النــــار

أهل الحــجّ يطـــــوفون حول البيت فيطلبون البقاء وأهل المحبة يطوفون حول العرش يطلبون اللقاء

إن لله عباداً لو احتجب عنهم في الدنيا أو فـــي الجنة لحظة لاستغاثوا كما يستغيث أهل النـار

كم بين من يقول أنا وأنت، ومن يقول: أنت أنت.

لو بدا للخلق منه ذرة ما بقي الكون ولا ما هو فيه

المعرفة
إذا علموه هربوا من الخلق
إن أهل المعرفة بالله اجتمعوا في الأصول على معرفة الواحد، ثم تفاوتوا من بعد اجتماعهم على مراد الله فيهم.
إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم، فأطاعوه، فخلع عليهم خلعة من خلعه، فاشتغلوا بالخلع عنه، وإني لا أريد من الله إلا الله.
أوصيك بإقبالك على ربِّك أيام حياتك بكليتك، ولا تولّ عنه وجهك إلى وقت، فإن نواصيكم بيده، وإنه لا بدّ من لقائه، والوقوف بين يديه، وأنت المسؤول عن جميع أعمالك، فشمّر لذلك، واستعد لمعادك، ولا تغفل وانتبه عن رقدة الغفلة، وتيقظ من نومة الغافلين، وألقِ كتفك بين سيدك كل صباح ومساء، والزم ذكره، واحفظ خدمته، وأحسن ظنك به، ولا تؤثر أحداً عليه، واصبر على ما أصابك من البلاء، وارض بحكم الله وقضائه وقدرته، وبحسن اختياره لعبده، واقتنع بعطيته، وثق به، وأمن لموعده، وأيقن بوعده ووعيده، وتوكل على الحي الذي لا يموت، واذكر الله واستعن بالله في كل أمورك، واحذر منه ما دمت حيّاً، واهرب من الخلق إليه، وفوِّض أمرك إليه.
الجنة جنتان: جنة النعيم وجنة المعرفة، فجنة المعرفة أبدية وجنة النعيم مؤقتة.
الحق مثل الشمس مضيء إذا الناظر إليه أيقن به، فمن طلب البيان بعد البيان فهو في الخسران.
الزاهد همه أن لا يأكل، وهم العارف ما يأكل
النفس تنظر إلى الدنيا، والروح تنظر إلى العقبى، والمعرفة تنظر إلى المولى، فمن غلبت نفسه عليه فهو من الهالكين، ومن غلبت روحه عليه فهو من المجتهدين، ومن غلبت معرفته عليه فهو من المتقين.
عرفت الله بالله وعرفت ما دون الله بنور الله
لا يزال العارف يعرف، والمعارف تُعرَف، حتى يهلك العارف في المعارف، فيتكلم العارف عن العارف، ويبقى العارف بلا معارف.
معرفة العوام ومعرفة الخواص ومعرفة خواص الخواص: فمعرفة العوام: معرفة العبودية، ومعرفة الربوبية، ومعرفة الطاعة ومعرفة المعصية، ومعرفة العدو والنفس. ومعرفة الخواص: معرفة الإجلال والعظمة، ومعرفة الإحسان والمنة، ومعرفة التوفيق. وأما معرفة خاص الخواص: فمعرفة الإنس والمناجاة، ومعرفة اللطف والتلطّف، ثم معرفة القلب، ثم معرفة السر.
من عرف الله بهت، ولم يتفرغ للكلام.
من عرف الله فإنه يزهد في كل شيء يشغله عنه.

أوفى صفـات العارف أن تجري فيه صفات الحق ويجري فيه جنس الربوبيـة

الطريق إلى الله
أطلب هواه في خلاف هواك، ومحبته في بغض نفسك، فإنه معروف عند مخالفة الهوى، محبوب عند بغض النفس.
الخلق يظنون أن الطريق إلى الله أشهر من الشمس، وأبين منها، وإنما سؤالي منه أن يفتح عليَّ من الطريق إليه ولو مقدار رأس إبرة.
الناس بحر عميق، والبعد عنهم سفينة، وقد نصحتك، فاحفظ لنفسك السكينة.
بالله أتقدم، وبنفسي أتأخر، إذا وجد نفسه كان مخيَّراً، وإذا فقد نفسه كان مختاراً.
رأيت رب العزة في المنام فقلت: كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال.
ربما أطلب لنفسي أشدّ عقوبات الله من سوء معاملتها إياي، فأجيل فكري في جميع عقوبات الله تعالى فلا أجد شيئاً أشدُّ من الغفلة؛ لأن الغفلة من الله طرفة عين أشد من النار.
قطعت المفاوز حتى بلغت البوادي، وقطعت البوادي حتى وصلت إلى الملكوت، وقطعت الملكوت حتى وصلت إلى المُلـْك، فقلت: الإجازة، قال: قد وهبتُ لك جميع ما رأيت، قلت: إنك تعلم إني لم أرَ شيئاً من ذلك، قال: فما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد، قال: أعطيناك.
-كيف الطريق إلى الله؟ غِب عن الطريق تصل
لا تصل إلى المخلوق إلا بالسير إليه، ولا تصل إلى الخالق إلا بالصبر عليه، وإذا أردت أن تطلبه، فاطلبه في رجوعك عما دونه.
ما من شيء بأهون على أحدكم من تعظيمه لأخيه المسلم، وحفظ حرمته، ولا شيء أضرّ بكم في دينكم من تهاونكم بأخوانكم في تضييع حرمتهم.
من ترك قراءة القرآن، والتقشف بالجماعات، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادعى هذا الشأن، فهو مُدَّعٍ.

العارف الصوفي
أحِبَّ أولياء الله وتحبب إليهم ليُحِبوك، فإن الله تبارك وتعالى ينظر إلى قلوب أوليائه في كل يوم سبعين مرة، فلعلّه ينظر إلى اسمك في قلب وليّه، فيحبك ويغفر لك.
أدنى صفة العارف أن تجري فيه صفات الحق وجنس الربوبية
إذا عرف عيوب نفسه، فحينئذٍ يبلغ حدّ الرجال في هذا الأمر، فهذا مبلغه، ثم يقربه الحق تعالى على قدر هِمّته وإشرافه على نفسه الأمّارة.
أمل الزاهد في الدنيا الكرامات، وفي الآخرة المقامات، وأمل العارف في الدنيا بقاء الإيمان معه، وفي الآخرة العفو (يعني للخلق).
إن أهل الحج يطوفون حول البيت فيطلبون البقاء، وأهل المحبة يطوفون حول العرش يطلبون اللقاء.
أن تراه يؤاكلك ويشاربك ويمازجك ويبايعك وقلبه مع الملكوت القدس، هذه أعظم الآيات.
إن لله عباداً لو حجبوا عنه طرفة عين، ثم أعطوا الجنان كلها ما كان لهم إليها حاجة، وكيف يركنون إلى الدنيا وزينتها؟.
أهل خاصة الله تعالى على أربع منازل: فطائفة مقيمون مبهوتون، لا يحتملون ما يرِدُ عليهم، فهم يريدون الخلاص من ثقل ما يرد عليهم، إلا أنهم ممنوعون من الاختيار، وطائفة يوادّونهم فيقولون: لا نبرح. وطائفة قد أحاط بهم لا يمكنهم البراح.
أوفى صفات العارف أن تجري فيه صفات الحق ويجري فيه جنس الربوبية
الدنيا للعامّة، والآخرة للخاصة، فمن أراد أن يكون من الخاصة فحكمه أن لا يشارك العامّة في دنياهم، وإنما جعلت الدنيا مرآة الآخرة نظر منها إلى الآخرة نجا، ومن شغل بها عن الآخرة هلك وأظلم مرآته.
الرجل هو الرجل الذي يكون جالساً فتجيئه الأشياء، أو يكون جالساً وتخاطبه الأشياء حيث كان
الزاهد يقول: كيف أصنع؟ والعارف يقول: كيف يَصنع؟
العابد يعبده بالحال، والعارف الواصل يعبده في الحال
العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول، والعارف ما فرح بشيء قط، ولا يخاف من شيء قط، والعارف يلاحظ ربه، وثواب العارف من ربه هو، وكمال العارف احتراقه فيه له.
العارف لا يكدره شيء ويصفو به كل شيء.
علامة العارف أن يكون طعامه ما وجد، وبيته حيثما أدرك، وشغله بربه. فهو مشغول ساجداً راكعاً، فإن عجز عن ذلك استروح إلى ذكر اللسان والثناء، فإن عجز عن ذلك استروح إلى ذكر القلب، فأما من يحبه الله عزَّ وجلّ أعطاه سخاوة كسخاوة البحر، وشفقة كشفقة الشمس، وتواضعاً كتواضع الأرض.
قال الله تعالى للكافر: آمن، وللمنافق، أخلص، وللعاصي: ارجع، وللعارف: أبصر.
له عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها، كما يضج أهل النار من النار.
لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحد، وأداء الشريعة.
مررت على بابه فلم أرَ ثمَّ زحاماً؛ لأن أهل الدنيا حجبوا بالدنيا، وأهل الآخرة شغلوا بالآخرة، والمدَّعون من الصوفية حجبوا بالأكل والشرب والكدية، ومن فوقهم حجبوا بالسماع والشواهد، وأئمة الصوفية لا يحجبهم شيء من الأشياء، فرأيتهم حيارى سكارى.
من عرف الله صار على النار عذاباً، ومن جهل الله صارت عليه عذاباً، ومن عرف الله صار للجنة ثواباً، وصارت الجنة عليه وبالاً.
نعم القوم تكلموا من بحر صفاء الأحوال، وأنا أتكلم من بحر صفاء المِنَّة. فتكلموا ممزوجاً، وأكلم صرفاً، كم بين من يقول أنا وأنت، ومن يقول: أنت أنت.
مساكين أخذوا ميتاً عن ميِّت، وأخذت علماً من الحي الذي لا يموت.
صفاتي غائبة في غيبه، وليست للغيب صفات تعرف
ظاهر الصدق وباطنه سواء، ولقد اشترك الإيمان والحب في قلب الصِدِّيق، فكلما ازداد الإيمان ازداد الحب لله، قال الله تعالى
} وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ{ (البقرة:165) فإذا قال ذلك رمى قوس الدنيا بالفرقة، وقطع حلقوم الطمع بسكين الإياس، وألجم نفسه لجام الخوف، وساقها بسوط الرجاء، ولبيس قميص الصبر، وتردّى برداء التصابر، واستوى عنده المنع والعطاء، والشدّة والرخاء، والذمّ والثناء، فسقط من ظاهره وباطنه التصنع، فليس عنده فرق بين الدانق الدينار، لعلمه أنه لو بورك له في الدانق كان أعظم بركة من الدينار، ويعلم أنه لو سُلِّط عليه السنّور كان أضر عليه من الأسد، فإذا كانت هذه حالته قالت الجنَّة: اللهم أدخل هذا العبد بين ساكنيَّ، فكانت الجنَّة طالبة له دونه، وإذا رأته النار على هذه الحالة، علمت أن نوره يُطفئ شررها، فتعوَّذت النار منه، فلو عُرِج بذلك العبد أعلى عليين، لكان شكره ذلك الشكر الذي كان في أعظم البلاء، ولو أنزله الله من أعلى العليين، فأسكنه الدرك الأسفل من النار، لكان شكره ذلك الشكر الذي كان في أعلى العليين.
علامة العارف ألا يفتر من ذكره، ولا يملّ من حقِّه، ولا يستأنس بغيره.
علامة العارف أن يكون طعامه ما وجد، وبيته حيثما أدرك، وشغله بربه.
علامة العارف خمسة أشياء: أوله أن يقيم على باب ربه لا يرجع عن بابه بالبر، ويقبل إليه ولا يلتفت إلى شيء يحجبه عنه، ويكون دورانه وسيرانه في مجرَّة أنس ربِّه، وحول مناجاته، لا يرضى من نَفَسِه أن يشتغل بشيء دون الله عزَّ وجلّ، ويكون فراره من الخلق إلى الخالق، ومن جميع الأسباب إلى وليّ الأسباب.
لو أن ما خلق الله عزَّ وجلّ من العرش إلى الثرى، ومع ذلك كله أرض وسماء مع مائة ألف ألف آدم، لكلِّ آدم مائة ألف ألف ضعف مثل هذه الذريَّة، لكل واحد منهم مائة ألف ألف آلاف آلاف عالَم بحساب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل لاختفوا كلهم في زاوية من زوايا قلب العارف ، لم يحسّ به، ولا علم أنه في كون الله موجود.

مدخل-مقام-أبي-يزيد-في-بسطام
مدخل-مقام-أبي-يزيد-في-بسطام

الأسماء
الأسماء كلها اسم الصفات، والله اسم الذات، الاسم علامة المعنى، والمعنى علامة تعرف بها الذات، والأسماء علامة تعرف بها الصفات، والصفات علامة تعرف بها الذات، فمن أقرّ بالصفات ولم يقرّ بالذات فليس بمسلم، ومن أقرّ بالذات قبل الصفات فيسمى مسلماًـ ويجب أن يقر بالصفات، والدليل على ذلك لو أن رجلاً قال: لا إله إلا الرحمن، أو لا إله إلا الرحيم، ثم يأتي على الأسماء كلها لا يكون مسلماً حتى يقول: لا إله إلا الله، ومن أقرّ بهذا الاسم الواحد، وهو الله فالأسماء كلها داخلة في هذا السم، وخارج منها، يخرج من هذا الاسم معاني الأسماء كلها، ويدخل في هذا الاسم وجود الأسماء، ولا يحتاج هذا الاسم من سواها، والدليل على ذلك إن الله تعالى تفرّد بهذا الاسم دون خلقه، وأنه شارك خلقه في أسمائه كلها سوى هذا الاسم، ويجوز أن يسمى من الأسماء كلها إلا ولنفسه في ذلك نصيب، إلا (الله)، فإن ذلك حظ الله من عبده، ومعنى ذلك أن من طالب ربه برحمته فيقول: يا رحيم، ومن طالبه بكرمه فيقول: يا كريم، ومن طالبه بجوده فيقول: يا جواد، فكل اسم تحته معنى يدعوه إلى نصيب الناس من أمر الدين والدنيا إلا (الله) فإن هذا الاسم يدعوه إلى وحدانية الله تعالى، وليس للنفس في هذا نصيب، ومن أراد من الله عطاءً يدعو الله بأسماء الصفات، ومن أراد ذات الله يدعو الله بأسماء الذات.
لا يزال العبد عارفاً ما دام جاهلاً، فإذا زال عنه جهله زالت عنه معرفته.

عشرة أشياء

عشرة أشياء حصن البدن: حفظ العينين، ومعاودة اللسان بالذكر، ومحاسبة النفس، واستعمال العلم، وحفظ الأدب، وفراغ البدن من شغل الدنيا، والعزلة من الناس، ومجاهدة النفس، وكثرة العبادة، ومتابعة السنَّة. عشرة أشياء شرف البدن: الحلم، والحياء، والعلم، والورع، والتقى، والخلق الحسن، والاحتمال، والمداراة، وكظم الغيظ، وترك السؤال.
وعشرة أشياء تخرب البدن: مصاحبة من لا يهمه دينه، ومفارقة أهل الخير، ومتابعة النفس، ومجانبة الجماعة، ومجالسة أهل البدعة، وطلب ما لا يعنيه، وتهمة الخلق، وطلب العلوّ، وهم الدنيا.
وعشرة أشياء تميت البدن: قلة الأدب، وكثرة الجهل، ونعمة الخلق، وشهوة البدن، وطلب الرئاسة، والميل إلى الدنيا، ومحاباة النفس عند الحق، وكثرة الأكل.
وعشرة أشياء فيها ذلّ البدن: الحِدّة، والغضب، والكِبر، والبغي، والمجادلة، والبخل، وإظهار الجفاء، وترك حرمة المؤمن، وسوء الخلق، وترك الإنصاف.

الاتصال والأحوال
الاتصال بالله على أربعة مقامات:
المقام الأول واقفين متألمين من ثقل ما يرد عليهم من الواردات، وهم متضرعون.
والمقام الثاني يطردهم من حيث يعلمون، ويردّهم من باب آخر.
والمقام الثالث: يؤخرهم فيقولون: لا نبرح
والمقام الرابع قد أحاط بهم، فليس يمكنهم البراح
آخر نهايات الصدِّيقين أول أحوال الأنبياء، وليست لنهاية الأنبياء غاية تُدرَك.
للخلق أحوال، ولا حال للعارف: لأنه محيت رسومه، وفنيت هويته بهوية غيره، وغُيِّبت آثاره بآثار غيره.

الأدب
قعدت يوماً في محرابي فمددت رجلي، فهتف بي هاتف: من يجالس الملوك ينبغي أن يجالسهم بحسن الأدب.

الإشارة
أكثر الناس إشارة إليه أبعدهم منه

الأزل
النعمة أزلية يجب أن يكون لها شكر أزلي.
من أظهر من نفسه علم الأزل يحتاج أن يكون معه نور الذات

الاصطفاء
ما من عبد اصطنعه الله لنفسه وشغله بذكره وحماه عن مخالفته، وجعل له محادثة بقلبه إلا وسلّط عليه فرعوناً على كل حال من ذلك ينكره ويؤذيه.

الأعمال
حسب المؤمن من عقله أن يعلم أن الله غني عن عمله.
ما من أحد إلا وقد غرق في بحر الأعمال غيري، فإني قد غرقت في بحر البِرّ.

الأنس
هلموا إلى رغبة الزاهدين، وشوق الدارجين، وركون المتناسين، وحب الواصلين وأنس رب العالمين

التجلّي
يا مسكين، وهل وصل إليه أحد، لو بدا للخلق منه ذرة ما بقي الكون ولا ما هو فيه.

التصوف
التصوف صفة الحق يلبسها العبد
التصوف طرح النفس في العبودية وتعليق القلب بالربوبية، واستعمال كل خلق سَنِي، والنظر إليه بالكلية.

التوبة
توبة المعصية واحدة، وتوبة الطاعة ألف توبة

التوحيد
يستزيد أبو يزيد، ولا مزيد على التوحيد
-شهادة لا إله إلا الله مفتاح الجنّة- ولكن لا يفتح بغير مِغلاق، ومِغلاق لا إلا الله أربعة أشياء: لسان بغير كذب ولا غيبة، وقلب بغير مكر ولا خيانة، وبطن بغير حرام ولا شبهة، وعمل بغير هوى ولا بدعة.

التوكُّل
حسبك من التوكل أن لا ترى لنفسك ناصراً غيره ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره.

الجوع
الجوع سحاب، فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة.

الحق والخلق
اللهم أنك خلقت هذا الخلق بغير علمهم، وقلدتهم أمانة من غير إرادتهم، فإن لم تعنهم فمن يعينهم؟
الناس كلهم يقولون به، وأنا أقول منه.
إن زعمت أن صلاتك مواصلة فهي مفاصلة، إن تركتها كفرت، وإن شاهدتها أشركت.
إن لله عباداً لو احتجب عنهم في الدنيا أو في الجنة لحظة لاستغاثوا كما يستغيث أهل النار.

الدنيا والآخرة
من اختار الدنيا على الآخرة يغلب جهله علمه، وفضوله ذكره، ومعصيته طاعته، ومن اختار الآخرة على الدنيا يغلب سكونه كلامه، وفقره غناه، وهمُّه سروره، وقلبه محبته، وسِرُّه قربَه، فتصير نفسه مقيَّدة بقيد الخدمة، وقلبه أسيراً لخوف الفرقة، وسِرُّه مستأنساً بأنس الصحبة.

الذكر
ذكر الله باللسان غفلة
ذكري لله حظّي منه ووقت غفلتي حظّ الله مني
لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت ذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالاً لله أن أذكره.
ما ذكروه إلا بالغفلة وما خدموه إلا بالفترة
نظرت فإذا الناس في الدنيا متلذذون بالنكاح، والطعام والشراب، وفي الآخرة بالمنكوح والملذوذ، فجعلت لذَّتي في الدنيا ذكر الله عزّ وجلّ وفي الآخرة النظر إلى الله عزَّ وجلّ.

الذلة
نويت في سِرِّي، فقيل لي: خزانتنا مملوءة من الخدمة، فإن أردتنا فعليك بالذلة والافتقار.

رضا الله
إن أعطى عبداً من عباده رِضاه، فما يرجو بقصور الجنة؟
من لزم العبودية لزمه اثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارقه العجب من عمله.
هذا فرحي بك وأنا أخافك، فكيف فرحي بك إذا أمنتك؟
السُّنَّة ترك الدنيا، والفريضة صحبة المولى؛ فمن يعمل السُّنَّة والفريضة كملت معرفته، لأن الكتاب كله يدل على صحبة المولى والسنة كلها تدلّ على ترك الدنيا، فمن تعلم السُّنَّة والفريضة فقد كمل.

عشر فرائض
عشرة أشياء فريضة على البدن: أداء الفريضة، واجتناب المحارم، والتواضع لله، وكف الأذى عن الإخوان، والنصيحة للبرّ والفاجر، وطلب المغفرة، وطلب مرضاة الله في جميع أموره، وترك الغضب والكِبر والبغي والمجادلة من ظهور الجفا، وأن يكون وصيّ نفسه: يتهيّأ للموت.
من سمع الكلام ليتكلم مع الناس رزقه الله فهماً يكلم به الناس، ومن سمعه ليعامل الله رزقه الله فهماً يناجي به ربَّه.
أقربهم إلى الله أوسعهم على خلقه
ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبر
ليس العجب من حُبِّي لك وأنا عبد فقير إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير.
من نظر إلى الخلق بالخلق أبغضهم، ومن نظر إلى الخلق بالخالق رحمهم.
إذا عرف عيوب نفسه، وقويت همته عليها، فحينئذٍ يبلغ مبلغ الرجال.
دعوت نفسي إلى الله فأبت عليّ واستصعبت فتركتها ومضيت إلى الله.
لا يعرف نفسه من صحبته شهوته
إن المريدين ليسوا يهدأون من السياحة والطلب.. صاحبي مقيم ليس بمسافر وأنا معه مقيم لا أسافر.
سأله رجل: من أصحب؟
– من لا يحتاج أن تكتمه شيئاً مما يعلمه الله منك.
لذَات الدنيا ثلاث: صديق وادّ وصحبة ملك جواد ومجالسة مفيد ومفادّ

ثلاثة محجوبين عن الله

أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة: فأولهم الزاهد بزهده، والثاني العابد بعبادته، والثالث العالِم بعِلمِه. مسكين الزاهد قد ألبس زهده وجرى به في ميدان الزُهّاد، ولو علم المسكين أن الدنيا كلها سماها الله “قليلاً” فكم ملك من القليل، وفي كم زهد مما ملك، إن هذا الزهد شرك، لأنه اعتقاد مع الله. إن الزاهد يلحظ إليه بلحظة، فيبقى عنده، ثم لا ترجع نظرته إلى غيره، ولا إلى نفسه. وأما العابد فهو يرى مِنّةَ الله عليه في العبادة أكثر من العبادة، حتى تعرف عبادته في المِنَّة. وأما العالم فلو عَلِم أن جميع ما أبدى الله من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ. فكم علم هذا العالم من ذلك السطر؟ وكم عَلِم فيما عَلم؟ ويكون هؤلاء الثلاثة ذوي شيء إلى يوم القيامة: واحد محجوب بزهده، وآخر بعبادته، وآخر بعلمه، والجنة هي الحِجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنّة، وكل من سكن إلى سِواه فهو محجوب.

من شعره
عَجِبـــــــــت لمــــــن يقول ذكرت ربِّي وهل أنسى فأذكر ما نســــــــــــيت
شربت الحُبَّ كأساً بعد كــــــــــــأسٍ فما نفِد الشــرابُ وما رَوِيـــــــــــتُ

أشـار ســــِرّي إليــــــــــك حتــــــــــــــــى فنيــت عنـــــي ودمــت أنـــــــــــــــــتَ
محوت اسمي ورســـم جســمــــــــــي ســــألت عنّـــي فقــلت: أنــــــــــــــتَ
فأنت تســــــلو خيـــال عيــــنــــــــــــــــي فحيثــــما دُرتُ كنــت أنــــــــــــــــــتَ

غرَستَ الحب غَرساً في فــــــــؤادي فلا أسلو إلى يوم التنــــــــــــــادي
جرَحتَ القلب مني باتصــــــــــــــــالٍ فشــــوقٌ زائدٌ والحُــبُّ بــــــــــــادي
سقاني شــــــربةً أحيا فــــــــــــــــؤادي بكأس الحب من بحـــــــــــــر الوِداد
فلـــــولا الله يحفــــــظ عارفيـــــــــــــــه لهــام العــــارفون بكـــــــــــــل وادي

 

نفائس من كتاب
«سر الأسرار ومظهر الأنوار»
للشيخ العارف عبد القادر الجيلاني (ر)

العارِف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه وعِلم العارف سر الله تعالى لا يعلمه غيره

صلاة الطريقة مؤبدة ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قـوى الباطن بالاشتغال على أسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية

في مقام الاستهلاك وفناء الفناء يبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه

صوم الطريقة أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً. أما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله تعالى

يعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني من أشهر أعلام التصوف الإسلامي ويعود نسبه ونسب أمه فاطمة (أم الخير) إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقال عنه ابن الوردي “إن نسبه الشريف من أبويه خالص لسلامته من الموالي وانتهاؤه إلى علي كرّم الله وجهه”.
جلس للوعظ في مدرسته بباب الأزج في بغداد في بداية521 هـ، واستطاع بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم، وقد كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشدّ تأثراً بوعظه، فاستطاع أن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، وقيل إنه تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطّاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة آلاف من اليهود والنصارى. وكان بسبب شخصيته الفذة وهيبته يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه، حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائمهم وطواقيهم تقليداً له وهم لا يشعرون.
للشيخ عبد القادر أكثر من 30 مؤلفاً من أشهرها: “تحفة المتقين وسبيل العارفين” و “حزب الرجاء والانتهاء”، و”جلاء الخاطر في الباطن والظاهر”، و”فتوح الغيب” و”رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله “، و”الفتح الرباني والفيض الرحماني” و”سر الأسرار في التصوف”، وهو كتاب مشهور عرض فيه لأسس السلوك العرفاني وأسراره وأبرز ما فيه إقامته للفرق في مفاهيم العبادة بين أهل الطريقة العاكفين على الزهد وقطع العلائق كلها وأعمال القلوب وبين عبادة أهل الظاهر. وقد اقتطفنا لهذا العدد من “الضحى” بعض الفصول من كتاب سر الأسرار، والتي تسلّط ضوءاً كاشفاً على تعليم عبد القادر الجيلاني الذي يعتبر أيضاً مؤسس ما يعرف في أوساط التصوف بالطريقة القادرية أو الجيلانية.

في بيان الطهارة
وهي على نوعين: طهارة الظاهر التي تحصل بماء الشريعة وطهارة الباطن وهي تحصل أيضاً بالتوبة والتلقين والتصفية وسلوك الطريقة. فإذا انتقض وضوء الشريعة بخروج نجس يجب تجديده بالماء كما قال عليه الصلاة والسلام “من جدد الوضوء جدد الله إليه إيمانه”، وكما قال عليه الصلاة والسلام “الوضوء على الوضوء نور على نور”. فإذا انتقض وضوء الباطن بالأفعال الذميمة والأخلاق الرديّة كالكبر والحقد والحسد والعجب والغيبة والكذب والخيانة – كمثل خيانة العينين والأذنين واليدين والرجلين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “العينان تزنيان” إلى آخره فتجديده (وضوء الباطن) بإخلاص التوبة عن هذه المفسدات وتجديد الإنابة بالندم والاستغفار والاشتغال بقمعها من الباطن وينبغي للعارف أن يحفظ توبته من هذه الآفات لتكون صلاته تامة كما قال الله تعالى {هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ} (ق:32). فوضوء الظاهر وصلاته مؤقتة ووضوء الباطن وصلاته مؤبدة في جميع عمره في كل يوم وليلة متصلة.
في بيان صلاة الشريعة والطريقة
أما صلاة الشريعة فقد عُلمت بقوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد منها أركان الجوارح الظاهرة بحركة الجسمانية من القيام والقراءة والركوع والسجود والقعود والصوت والألفاظ، ولذلك جاء الفضل الجمع يعني قال الله تعالى {حافظوا}.
وأما صلاة الطريقة فهي صلاة القلب، وهي مؤبدة، فقد عُلمت بهذه الآية {والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد من الصلاة الوسطى صلاة القلب لأن القلب خلق في وسط الجسد بين اليمين والشمال وبين العلوي والسفلي وبين السعادة والشقاوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والمراد من الإصبعين صفتا القهر واللطف، فبهذه الآية والحديث يعلم أن الأصل صلاة القلب، فإذا غفل عن صلاته، فسدت صلاته وصلاة الجوارح لقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة إلا بحضور القلب)، لأن المصلي يناجي ربه ومحل المناجاة القلب، فإذا غفل القلب بطلت صلاته وصلاة الجوارح لأن القلب أصل والباقي تابع له كما قال عليه الصلاة والسلام ( ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فأما صلاة الشريعة فمؤقتة في كل يوم وليلة خمس مرات والسُنّة أن يصلي هذه الصلاة في المسجد بالجماعة متوجهاً إلى الكعبة وتابعاً بالإمام بلا رياء ولا سمعة.
وأما صلاة الطريقة فهي مؤبدة في عمره ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قوى الباطن على الاشتغال بأسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية، والقلب والروح مشغولان بهذه الصلاة على الدوام، فالقلب لا ينام ولا يموت بل مشغول في النوم واليقظة بحياة القلب بلا صوت ولا قيام ولا قعود فهو يخاطب الله تعالى بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) متابعاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي في تفسير هذه الآية إن فيها إشارة إلى حال العارف وانتقاله من حالة الغيبة إلى الحضرة الأحدية سبحانه وتعالى، فاستحق بمثل هذا الخطاب ما قاله عليه أفضل الصلاة والسلام (الأنبياء والأولياء يصلون في قبورهم كما يصلون في بيوتهم)، أي أنهم مشغولون بالله تعالى ومناجاته بحياة قلوبهم. فإذا اجتمعت صلاة الشريعة والطريقة ظاهراً وباطناً فقد تمت الصلاة يعني تكون صلاته صلاة تامة وأجرها عظيم في القربة بالروحانية والدرجات بالجسمانية، فيكون هذا المصلي عابداً في الظاهر وعارفاً في الباطن، وإذا لم تحصل صلاة الطريقة بحياة القلب فهو ناقص وأجره يكون من الدرجات لا من القربات.

في بيان طهارة المعرفة في عالم التجريد
وهي على نوعين : طهارة لمعرفة الصفات وطهارة لمعرفة الذات .
فطهارة معرفة الصفات لا تحصل إلا بالتلقين وتصفية مرآة القلب بالأسماء من النقوش البشرية والحيوانية ثم يحصل له النظر بعين القلب لينظر بنور الصفات إلى عكس جمال الله تعالى في مرآة القلب، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام (المؤمن ينظر بنور الله)، كما قال (المؤمن مرآة المؤمن)، وقيل “العالِم يُنقش والعارف يُصقـل” فإذا تمت التصفية بملازمة الأسماء حصلت معرفة الصفات بمشاهدة في مرآة القلب.
وأما طهارة معرفة الذات في السر فلا تحصل إلا بملازمة أسماء التوحيد الثلاثة الأخيرة من الأسماء الإثني عشر في عين السر بنور التوحيد. فإذا تجلت أنوار الذات ذابت البشرية وفنيت بالكلية، فهذا مقام الاستهلاك وفناء الفناء، وهذا التجلي يمحو جميع الأنوار كما قال الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص:88) وقال تعالى {يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب}(الرعد:39) فيبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء} (الشورى:48) فبقي النور المطلق محضاً ولا يمكن الإخبار عما وراء ذلك لأنه عالم المحو فلا يبقى ثمة عقل يخبر عنه ولا موجود ثمة غير الله تعالى كما قال عليه السلام “لي مع الله وقت لا يسع فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل” فهذا عالم التجريد من غير الله تعالى كما قال تعالى ” تجرد تصل إليّ” والمراد من التجرد فناء الكل من صفات البشرية فيبقى في عالمه متصفاً بصفة الله تعالى كما قال عليه السلام “تخلقوا بأخلاق الله تعالى” أي اتصفوا بصفاته.

في بيان زكاة الشريعة والطريقة
فأما زكاة الشريعة أن يُعطى من كسب الدنيا إلى مصرفة مؤقتة معينة في كل سنة من نصاب معين، وأما زكاة الطريقة فهي أن يعطى من كسب الآخرة كله في سبيل الله إلى فقراء الدين والمساكين الأخروية.
والزكاة (زكاة الشريعة) سميت صدقة في القرآن كما قال الله تعالى {إنما الصدقات للفقراء}(التوبة:60) لأنها تصل في يد الله تعالى قبل أن تصل بيد الفقير والمراد منه قبول الله تعالى.
وزكاة الطريقة فهي مؤبدة وهي أن يعطى ثواب كسب الآخرة للعاصين لرضاء الله تعالى فيغفر الله لهم مثل ثواب الصلاة والصوم والزكاة والحج وثواب التسبيح والتهليل وثواب تلاوة القرآن والسخاوة وغير ذلك من الحسنات فلا يبقى لنفسه شيء من ثواب حسناته ويبقي نفسه مفلساً فالله تعالى يحب السخاوة والإفلاس كما قال عليه السلام “المفلس في أمان الله تعالى في الدارين”.
فالعبد وما في يده كان لمولاه فإذا كان يوم القيامة أعطاه الله تعالى بكل حسنة عشرة أمثالها كما قال الله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160)
وفي معنى الزكاة أيضاً تزكية القلب من صفات النفسانية كما قال الله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (البقرة:245) والمراد من القرض أن يعطى ما له من الحسنات في سبيل الله تعالى إحساناً إلى خلقه لوجهه الكريم وشفقة لا منة كما قال الله تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة:264) لا طالباً عوض الدنيا فهذا من قسم الإنفاق في سبيل الله كما قال جل وعلا {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران:92).

في بيان صوم الشريعة والطريقة
صوم الشريعة: أن يمسك عن المأكولات والمشروبات وعن الوقاع في النهار.
وأما صوم الطريقة فهو أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب والكبر والبخل وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً فكلها يبطل صوم الطريقة.
فصوم الشريعة مؤقت وصوم الطريقة مؤبد في جميع عمره. فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) فلذلك قيل “كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم”، أي يمسك أعضاءه عن المناهي وإيذاء الناس بالجوارح كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {إن الصوم لي وأنا أجزي به} وقال الله تعالى في الحديث القدسي {يصير للصائم فرحتان: فرحة عند الإفطار وفرحة عند رؤية جمالي}.
قال أهل الشريعة: المراد من الإفطار الأكل عند غروب الشمس ومن الرؤية رؤية الهلال يوم العيد، وقال أهل الطريقة الإفطار عند دخول الجنة بالأكل مما فيها من النعيم. والمراد بالرؤية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة بنظر السر معاينة.
وأما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عن محبة ما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {الإنسان سري وأنا سره}. والسر من نور الله تعالى فلا يميل إلى غير الله تعالى وليس له سواه محبوب ومرغوب ومطلوب في الدنيا وفي الآخرة. فإذا وقعت فيه محبة غير الله فسد صوم الحقيقة فله قضاء صومه وهو أن يرجع إلى الله تعالى ولقائه وجزاء هذا الصوم لقاء الله تعالى في الآخرة.

 

مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد - 1914
مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد – 1914

في بيان حج الشريعة والطريقة
الحج على نوعين: حج الشريعة وحج الطريقة
فحج الشريعة بحج بيت الله بشرائطه وأركانه، حتى يحصل ثواب الحج، إذا نقص شيء من شرائطه نقص ثواب الحج لأن الله تعالى أمرنا بإتمام الحج بقوله عز وجل {وأتموا الحج والعمرة لله} (البقة: 196).
فمن شرائطه الإحرام أولاً ثم دخول مكة ثم طواف القدوم ثم الوقوف بعرفة ثم المبيت بمزدلفة ثم ذبح الأضحية في منى ثم دخول الحرم ثم طواف الكعبة سبعة أشواط ثم شرب ماء زمزم ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ثم يحلل ما حرم الله تعالى عليه من الصيد ونحوه. فجزاء هذا الحج العتق من الجحيم والأمن من قهر الله كما قال تعالى {ومن دخله كان آمنا} (آل عمران :97) ، ثم طواف الصدور ثم الرجوع إلى وطنه.
وأما حج الطريقة فزاده وراحلته أولاً الميل إلى صاحب التلقين وأخذه منه، ثم ملازمة الذكر باللسان وملاحظة معناه حتى تحصل حياة القلب له ثم يشتغل بذكر الباطن حتى يصفيه بملازمة أسماء الصفات فتظهر كعبة السر بأنوار الصفات كما أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) بتطهير الكعبة أولاً بقوله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين} (البقرة: 125) إلى آخر الآية.
فكعبة الظاهر تطهيرها لأجل الطائفين من المخلوقات وكعبة الباطن تطهيرها لنظر الخالق مما سواه ثم الإحرام بنور الروح القدسي ثم دخول كعبة القلب ثم طواف القدوم بملازمة الاسم الثاني ثم الذهاب إلى عرفات القلب وهو موضع المناجاة فوقف فيها بملازمة الاسم الثالث والرابع، ثم ذهب إلى مزدلفة الفؤاد وجمع بين الاسم الخامس والسادس، ثم ذهب إلى منى السر وهي ما بين الحرمين فوقف بينهما ثم ذبح النفس المطمئنة بملازمة الاسم السابع لأنه اسم الفناء ورافع حجاب الكفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكفر والإيمان مقامان وراء العرش وهما حجابان بين العبد وبين الحقّ أحدهما أسود والآخر أبيض) ثم حلق رأس الروح من الصفات البشرية بملازمة الاسم الثامن ثم دخل حرم السر بملازمة الاسم التاسع ثم وصل رؤية العاكفين فيعتكف في بساط القربة والإنس بملازمة الاسم العاشر ثم رأى جمال الصمدية بلا كيف ولا تشبيه ثم طاف سبعة أشواط بملازمة الاسم الحادي عشر ومعه ستة أسماء من الفروعات ثم يشرب من يد القدرة شربا كما قال الله تعالى {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} (الإنسان: 21) بقدح الاسم الثاني عشر ثم يُرفع برقع الوجه الباقي المقدس من التشبيه فينظر بنوره إليه وها معنى قوله تعالى في الحديث القدسي {ما لا عين رأت} يعني لقاء الله تعالى {ولا أذن سمعت} يعني كلام الله تعالى بلا واسطة الصوت والحروف {ولا خطر على قلب بشر} يعني ذوق الرؤية والخطاب، ثم حلل ما حرم الله بتبديل السيئات إلى الحسنات بتكرار أسماء التوحيد كما قال الله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) ثم العتق من التصرفات النفسانية ثم الأمن من الخوف والحزن كما قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس:62) رزقنا الله وإياكم بفضله وجوده وكرمه ثم طاف الصدور بتكرار الأسماء كلها ثم الرجوع إلى وطنه الأصلي الذي في عالم القدسي في أحسن التقويم بملازمة الاسم الثاني عشر وهو متعلق بعالم اليقين وهذه التأويلات في دائرة اللسان والعقل وأما ما وراء ذلك فلا يمكن الإخبار عنه لأنه لا تدركه الأفهام والأذهان ولا تسع الخواطر في ذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله فإذا نطقوا بها لم ينكره إلا أهل الغِرّة) فالعارف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه فإن عِلم العارف سر الله تعالى ولا يعلمه غيره كما قال الله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء(البقرة : 255)} أي الأنبياء والأولياء {فإنه يعلم السر وأخفى} {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه:7-8).

اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا
اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا

رابعة العدوية

شاعرة العشق الإلهـي

عرفت رابعة العدوية خالقها، فتهذبت أخلاقها وسارت في منعرجات الرقي الروحي، فأعطتنا المثل الأعلى في التوحيد، طريق النفوس التقية النقية، والعقول المدركة للأسرار وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا ليكن مطلبك هو الله، ومقصدك هو الله، ولطفك هو الله وفكرك هو الله .
كان أبوها ينتظر غلاماً فجاءت بعد ثلاث بنات، فسماها رابعة، أي البنت الرابعة – حزن الوالد المسكين وكان يدعو الله تعالى بقلب منكسر أن يرزقه ما يسدّ رمق بناته الجائعات: رأى في نومه من يقول له “إقصد عيسى ابن زادات – أمير البصرة– واكتب رقعة تقول فيها “يازادات إنك تصلي في كل ليلة مئة ركعة، وفي كل ليلة جمعة أربعمائة، ولكنك في الجمعة الأخيرة، نسيت، فادفع أربعمائة دينار لصاحب هذه الرقعة».
ذهب أبو رابعة، كما أوحي إليه في حلمه، لملاقاة ابن زادات، وما إن التقاه حتى ألقى إليه بالرقعة. دهش ابن زادات لهذا الأمر وسأله: أنت؟ من أخبرك بالأمر؟ لم يكتم أبو رابعة الأمر، بل أخبره عن وليدته الرابعة ووحيه، فما كان من ابن زادات إلا أن حمل المال وقصد الصغيرة في بيتها وقد شعر أن لهذه المولودة كرامة عند الله.
كانت طفولتها قاسية جداً، وأبوها لا يملك المال ولا الطعام بل كانت ثروته فقط قارباً صغيراً ينقل المسافرين في نهر دجلة من مكان إلى آخر، مقابل بعض أرغفة يسدّ بها رمق بناته الصغيرات.
أما حياة رابعة الصبية فكانت بدورها مليئة بالمصاعب والمصائب. وكانت لذلك تجلس ليلاً نهاراً لمناجاة ربها والتأمل في أحوال دنياها فلا يزيدها ذلك إلا زهداً بهذه الفانية.
وبعد مسيرة الجوع والحرمان شاءت الإرادة أن تدخل رابعة امتحاناً أقسى يليق بمعدنها الصلب وإيمانها الذي لا يتزعزع. إذ مات أبوها ثم ماتت أمها بعد زمن قصير فأصبحت يتيمة الوالدين ولم يعد لها من هذه الدنيا الفانية مورد رزق سوى هذا القارب الذي تركه لها والدها المسكين، فكانت تعمل عليه لتأتي ببعض الطعام إلى أخواتها الصغيرات.
اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك.
ثم شاءت القدرة أن تقع اليتيمة أسيرة أحد اللصوص الذي باعها لأحد التجار، تعمل ليل نهار كخادمة وقبل بزوغ الفجر تجلس اليتيمة تناجي ربها، تصلي بصوت عالٍ ودموعها السخية تنهمر من عينيها وتقول: “سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تعانقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد له الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار، لأنك العلي القهار”. استيقظ الرجل في ليلة وسمع تلك المناجاة الباكية فرق قلبه وقال لها: “منذ الصباح أنت حرة يا بنيتي، تذهبين حيث تشائين. لكن العتق الذي أنعم الله به على رابعة وضعته على الفور هدية على أعتابه فحولت حرية النفس إلى أسر الزهد والعبادة إحقاقاً لحق الرب وتوحيده”.
جاء محمد بن سليمان الهاشمي، يغريها بالمال، لترضى به زوجاً فكتبت اليه تقول: “الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، ولو خولني الله أمثال ما خولك وأضعافه، ما سرني أن أشتغل عن ذكر الله طرفة عين”. سمعت رجلاً من الموحدين يهتف: إلهي إرضَ عني.
فقالت له: “لو رضيت بالله، لرضي الله عنك”. قال: وكيف أرضى بالله قالت: “يوم تفرح بالنعمة، كما تفرح بالنقمة، لأن كليهما من عنده”.
جاءها أمير البصرة، حاملاً لها مالاً كثيراً، فلما رأته دهشت وبكت، ورفعت رأسها الى الله وقالت له: “ربي يعلم، إنني أخجل أن اسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف آخذها ممن لا يملكها؟؟”، فرجع من حيث أتى.
سمعت صالح المر يقول: من أدمن على قرع الباب يفتح له قالت: لا تقل هذا، فمتى كان الباب مغلقاً في وجه مؤمن حتى يفتح له؟
هي القائلة: “اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك”.
قالت لبعض العابدين الذين زاروها: “لِمَ تعبدون الله؟”، قال أحدهم: “أعبده خوفاً من عذاب النار”، وقال آخر: ” أعبده حباً بالجنة”. قالت: “بل نعبده لذاته، ويكفينا نعمه التي لا تحصى، لنخر له ساجدين”.

مختارات من شعرها

أحبك حُبّين
عرفت الهوى منذ عرفـت هـواك وأغلـــقت قلبــــي عمـــن ســــواك
وكــنــت أناجيــك يـــا مــن تـــرى خفـــايــا القلــــوب ولســنــا نــراك
احبـك حبيـــن حــبّ الهـــــــــوى وحبــــاً لأنـــــك أهـــــل لـــــــــذاك
فأمــــــا الــذي هــو حـــبُّ الهوى فشغلـــي بذكـــرك عمــــن ســواك
وأمـــــــا الـــذي أنـــت أهـــل لـــــه كشفــــك للحجــب حتــــــى أراك
فــلا الحمــد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولكــــن لك الحمــــد فـي ذا وذاك
وأشتـاق شـوقــين شـوق النــــــوى وشـوق لقــرب الخلـــي مــن حماك
فأمـــا الـــذي هــو شــــوق النــوى فمســــرى الدمــــوع لطــــول نـــواك
أمــــــا اشتيـــاق لقـــــرب الحمــــى فنـــار حيــاة خبــت فـي ضيـــاك
ولست على الشجـو أشكو الهوى رضيـت بمـا شئـت لي في هـداك

أنت لي مؤنس
يــا سـروري ومنيــــتي وعمــــادي وأنيســــي وعُــــــدتي ومـــــــرادي
أنـــت روح الفــــؤاد أنــت رجائي أنــت لــي مؤنــس وشــوق كزادي
أنــت لـــولاك يــا حيــــاتي وأُنسي مــا تشـــتــتُ في فسيــح البـــــــلاد
كـم بــدت مِنــة وكـم لك عنـــدي مـــن عطـــــاءٍ ونـــعمـــةٍ وأيـــــادي
حُبـــــك الآن بُغيـــــتي ونعيـــــــمي وجــــــلاءُ لعيــــــن قلبـيَ الصـادي
ليـــس لي عندك ما حييت بـراحٍ أنــت منــــى مُمَــكنُ في الســـــواد
إن تكــــن راضيــــاً علــــيّ فإنــي يا مُنى القلــب قد بدا إسعــادي

راحتي في خلوتي
راحتــــي يــــا إخوتي في خلـــوتي وحبيبــــي دائمـــا فـي حَضــــرتي
لـم أجــــد لـــي عن هــواه عِوضـا وهـــــواه فـي البــــــرايا مِحنتـــــــي
حيثــــما كــنت أشاهِد حُســــنه فهــــو محــــــرابي إلـــيــــه قبلتــــــــي

 

شكوى
وارحمتـــا للعاشقــين! قلـــوبـــهـــم فـي تيـه ميــــدان المحــبة هائمــــــه
قامت قيامة عشقـهم فنفوسهـــــم أبــداً علـــى قـــدم التذلل قائمـــــه
إمــــا إلـى جنـــات وصــل دائمــــا أو نــــار صــدٍ للقلـــوب ملازمـــه

زادي قليل
قليـــــل مـــــــــا أراه مُبـــلّــغـــــــــــي أللــزاد أبــكي أم لطول مســـافــتي
أتحــــرقُني بالنـــار يـــا غاية المنــى فأيـــن رجائــــي فيك أين مخـــافتي

خمر العشق
كأســــــي وخمـــري والنديم ثلاثـة وأنــــا المشوقة في المحبــــة: رابعـــه
كــأس المســـــرة والنعيـــم يديـرهـا ساقي المدام على المدى متتابعه
فإذا نظــــرت فــــلا أُرى إلا لــــــه وإذا حضـرت فلا أُرى إلا مـــعـــه

إذا نطقت كنتَ حديثي
وتخــلَّلَتَ مســـلكَ الــــروحِ منــــي وبه سُمّــــي الخلـــيل خليــــــــلا
فإذا ما نطــــقتُ كنـــت حديثــي وإذا ما سكـــــتُ كنــت الغليـــلا

حبيبي
حبيـــــبٌ ليـــــس يعـــدله حبيـب ولا لســـــــواه فـي قلبــــي نصيـب
حبيبٌ غاب عن بصري وشخصي ولكــــــن في فــــؤادي مــــا يـغــيب

العاصفة الشمسية

العاصفة الشمسية المقبلة
ما العمل وماذا ينتظرنا؟

عاصفة شباط عطّلت الاتصالات الفضائية وأربكت الطيران
لكن العلماء يتوقعون ذروة أشد خطورة في العامين المقبلين

أي عاصفة شمسية عنيفة ستؤدي إلى كارثة إنسانية
بسبب تدميرها المحتمل لأنظمة الإتصالات والكهرباء

الأزمة قد تطول أشهراً وتتسبب بفوضى ومجاعات
والدول الفقيرة ستكون الأقل تأثراً بالكارثة المحتملة

نصيحة الخبراء: استعدوا للطوارئ بتكوين مخزون
من الغذاء والماء والأشياء الضرورية للحياة

أنوار العاصفة الشمسية تلفح شمال الأرض في آب 2010
أنوار العاصفة الشمسية تلفح شمال الأرض في آب 2010

هناك عاصفة شمسية تضرب الأرض كل 11 عاماً تقريباً لكن العاصفة المقبلة والمتوقعة في العامين 2012 و2013 قد تكون حسب علماء الفضاء الذين يتابعون الانفجارات الشمسية من العيار الثقيل، وقد تجلب إلى الحضارة التكنولوجية كارثة تفوق في حجمها وآثارها جميع الكوارث الطبيعية التي عرفناها حتى الآن.

ي عددها الصادر في 20 شباط 2011 نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية المشهورة برصانتها تحذيراً من علماء الفضاء بأن الأرض قد تصبح في وقت قريب عرضة لـ “إعصار شمسي” يهدّد الحضارة بكل معنى الكلمة ويكلّف العالم دماراً إقتصادياً لا تقل تكلفته عن 2000 مليار دولار. وقالت الصحيفة إن علماء “مناخ الفضاء” في كل من الولايات المتحدة والسويد وبريطانيا أصبحوا متفقين على أن عاصفة شمسية ناتجة عن انفجارات على سطح الشمس قد تضرب الكرة الأرضية بقوة غير مسبوقة ابتداءً من العام المقبل، وأن على كافة الدول والسلطات المعنية أن تبدأ التحضير لخطط طوارئ بهذا الشأن. وفي الإجتماع السنوي الذي عقده هؤلاء العلماء في مقر الجمعية الأميركية لتقدم العلوم في واشنطن استمع الحضور إلى تقارير مقلقة تتوقع أن تكون دورة الانفجارات الشمسية التي تحصل كل 10 أو 11 سنة من الأعنف هذه المرة بحيث يترتب عليها نتائج لا يمكن التنبؤ بحجمها وخطورتها على الإقتصاد العالمي، وربما على الحياة اليومية للناس.
ويقول رئيس فريق العلماء البريطانيين السر جون بدينغتون: “علينا أن نأخذ الموضوع بكل جدية لأن الشمس تستفيق الآن من فترة هدوء طويلة، ولأن قابلية الإقتصاد العالمي للعطب زادت كثيراً منذ آخر دورة للإنفجارات على سطح الشمس في العام 2000” . ويقول جون لوبتشنكو رئيس إدارة المحيطات والفضاء في الولايات المتحدة الأميركية: “علينا أن نتسلح بتوقعات دقيقة وبتحضيرات كافية للتطورات الشمسية المقبلة ولاسيما وأن التطور التكنولوجي والاعتماد الكبير للعالم على أنظمة التواصل الإلكترونية أصبحا أعلى بكثير مما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات” .

أنوار الشمال فوق غرينلاند في العام 2009
أنوار الشمال فوق غرينلاند في العام 2009

الغضب الأحمر
تبدأ العاصفة الشمسية بإنفجارات لغازات شديدة الحرارة تنطلق من الشمس بسرعة خمسة ملايين ميل في الساعة، وغالباً ما تضرب الجزيئات المشحونة بالكهرباء الغلاف الجوي للأرض بعد 20 إلى 30 ساعة من تلك الانفجارات ويحدث ذلك على الفور اضطراب شديد في الحقل الإلكترومغناطيسي الذي يحيط بالأرض. وكانت عاصفة شمسية أولية قد ضربت الأرض في منتصف شباط الماضي واعتبرها العلماء الأقوى منذ العام 2007 لكنها كانت بالمقياس التاريخي خفيفة نسبياً. مع ذلك فقد تسببت تلك العاصفة ببعض المشكلات لأنظمة الراديو وبعض الإضطراب في حركة الطيران المدني، إذ اضطرت شركات الطيران لتوجيه رحلاتها بعيداً عن مناطق القطبين الشمالي والجنوبي التي تستقطب أكبر قدر من النشاط الشمسي.
إلا أن العلماء يعتبرون العاصفة تلك مجرد مؤشر على العاصفة الشمسية العنيفة المنتظرة والتي يتوقع البعض أن تعطل أقمار الإتصالات الفضائية لساعات طويلة أو ربما تخرب مكوناتها وتخرجها بالتالي من الخدمة. أما على الأرض فإن التقلبات الحادة في الحقل المغناطيسي للأرض قد تتسبب بارتفاع مفاجئ في الحمل الكهربائي يؤدي بدوره إلى تعطيل الشبكات الكهربائية وغرق مئات الملايين من البشر في الظلمة وتعطل كل شيء يعمل بالكهرباء. وكانت عاصفة شمسية أدت في العام 1989 إلى حرق المحولات الكهربائية للشبكة في منطقة كويبيك في كندا وغرق ملايين الناس في الظلام.
ويقول العلماء إن دورة النشاط الشمسي لا تتبع نمطاً واحداً، وإن الدورة الحالية تأتي متأخرة وبعد فترة من الهدوء غير العادي على سطح الشمس مع توقع أن تصل دورة النشاط الشمسي إلى ذروتها في العام 2013.

صورة من الفضاء للطلام في شمال أميركا وكندا بعد أن ضربت المنطقة عاصفة شمسية في العام 1989
صورة من الفضاء للطلام في شمال أميركا وكندا بعد أن ضربت المنطقة عاصفة شمسية في العام 1989

وكانت إحدى أقوى العواصف الشمسية ضربت الأرض في العام 1859 حصلت في سياق دورة شمسية ضعيفة وأدت العاصفة يومها إلى ضرب كل شبكات التلغراف المنشأة حديثاً في العالم وحصول حرائق على امتداد تلك الشبكات على جانب الأطلسي، أي في أميركا الشمالية وأوروبا وقيل يومها إن الإنفجارات الشمسية جعلت نور الشمس يتضاعف في الأماكن التي حصل فيها الانفجار على سطح الشمس، كما أن موجات البلازما الشمسية التي رافقت تلك العاصفة القياسية أضاءت الأجواء القطبية في ما يُعرف بأنوار الشمال Northern lights بصورة غير مسبوقة بحيث شوهدت تلك الأنوار لأول مرة في مدينة روما وجزر هاواي في المحيط الباسيفيكي.
لكن على الرغم من قوتها، فإن العاصفة الشمسية التي ضربت الأرض حينذاك لم تحدث ضرراً كبيراً لأن العالم كان في أول عهده بالكهرباء والإتصالات السلكية واللاسلكية. أما اليوم فإن عاصفة قوية يمكنها أن تضرب البنية التحتية لأنظمة الاتصالات والمعلومات في العالم وشبكات توزيع الكهرباء وهو ما قد يتسبب بأضرار غير مسبوقة. ويشير المراقبون إلى أن الخطر الأكبر على البشرية اليوم لا يكمن فقط في القوة المتوقعة للعاصفة الشمسية بل في التحولات الهائلة التي طرأت على الحضارة الإنسانية وخصوصاً تركّز نحو نصف سكان الأرض في المدن واعتماد كل نواحي الحياة الآن على الكهرباء وعلى أنظمة الاتصال عبر الفضاء وشبكات المعلومات.
ويقول جون لوبتشنكو رئيس إدارة المحيطات والفضاء في الولايات المتحدة الأميركية: “ليس الأمر هو هل ستكون هناك عاصفة شمسية، بل الأمر هو متى وبأي قوة ستهب تلك العاصفة، والأكيد هو أن هناك أحداثاً مناخية قادمة ومن المهم أن نستبق ذلك بالتحضير الجيد، لأننا ومع اقترابنا من ذروة النشاط الشمسي، وبالإستناد إلى ما حصل في 14 شباط الماضي فإن علينا ليس فقط أن نتوقع أحداثاً شمسية معينة، بل علينا انتظار أحداث في غاية الشدة أيضاً.”
يذكر أن لوبتشنكو كان يشير إلى العاصفة الشمسية التي هبت على الأرض في ذلك اليوم وأدت إلى تعطيل الاتصالات في الجانب الغربي من المحيط الباسيفيكي، وفي بعض مناطق آسيا وإلى عرقلة حركة الطيران.
ويتخوف علماء المناخ من أن الانفجارات المقبلة على الشمس قد تتسبب بأضرار أخطر بكثير خصوصاً لكل أنواع المحولات والمكثفات Capacitators الحساسة في شبكات الكهرباء، وقد يؤدي ذلك في بعض التوقعات إلى انقطاع التيار الكهربائي ليس فقط لأيام، بل ربما لأسابيع وأشهر بل ربما – وفي توقع متشائم- لسنوات. وحسب عالمة تعمل في وكالة الفضاء الأوروبية فإن الأمور هذه المرة قد تكون مختلفة جداً.
وكان النشاط الشمسي وصل في العام 2009 إلى أدنى مستوياته وسجلت الشمس لأول مرة أدنى مستوى من الانفجارات منذ مئة سنة وأكثر. لكن هذه الظاهرة اعتبرها العديد من العلماء بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة.

كيف تهاجم العاصفة الشمسية جو الأرض
كيف تهاجم العاصفة الشمسية جو الأرض

ويراقب العالم البقع الشمسية منذ أيام العالم غاليليو الذي لاحظ وجودها لأول مرة في مطلع القرن السابع عشر. ومنذ العام 1745 أحصى العالم 28 دورة شمسية كل منها يمتد في المتوسط لمدة 11 عاماً. وتبين للعلماء من دراسة سجلات العاصفة الشمسية التي هبت في العام 1859 أن تلك العاصفة الضخمة سبقتها أيضاً فترة غير عادية من الخمول في النشاط الشمسي. وقد انكب العلماء منذ سنوات على دراسة سجلات تلك العاصفة الشمسية على أمل أن يجدوا فيها ما يدلهم على ما يمكن أن يحدث في العام 2013 أو قبله. وقد استنتج العلماء وبناءً على تلك المقارنات أن الاحتمال قوي جداً بأن يتبع الخمول الشمسي الذي سجل في الدورة الحالية ذروة شمسية قياسية وهذه الذروة قد تحمل معها عاصفة شمسية غير مسبوقة في قوتها وفي تأثيرها المدمر على البنية الأساسية للحضارة البشرية.
ويأتي الخطر المحتمل من العاصفة المقبلة من أمرين:
قوة الانفجارات الشمسية وبالتالي ضخامة العاصفة التي قد تطلقها من على سطح الشمس باتجاه الأرض.
زاوية الاصطدام بين الموجة الشمسية والغلاف الجوي للكرة الأرضية، إذ غالباً ما يحدث الاصطدام بصورة غير مباشرة بحيث تتمكن نسبة معينة فقط من موجة الأشعة البلازمية من اختراق الغلاف الإلكترومغناطيسي الذي يحمي الكرة الأرضية. أما في العاصفة البالغة القوة التي يتوقعها العلماء، فإن العاصفة الشمسية تتجه بصورة مباشرة إلى الأرض وتتمكّن من اجتياح غلافها الجوي وإيصال أشعتها البلازمية إلى سطح الأرض وإيقاع التخريب بالقاعدة التكنولوجية للمدنية في ثوانٍ أو دقائق معدودة.
إن العاصفة عادةً تستغرق بين ثلاثة وأربعة أيام للوصول إلى الأرض، أما العاصفة من طراز تلك التي ضربت الأرض في العام 1859 فقد استغرق وصولها أقل من 17 ساعة، وهذا يعني أن أهل الأرض لن يكون لديهم الوقت الكبير لكي يستكملوا احتياطهم وأن العاصفة قد تضرب من دون سابق إنذار.

سيناريو الكارثة
على الرغم من التحذيرات التي صدرت عن وكالة الفضاء الأميركية والأكاديمية الوطنية للعلوم، وكذلك تلك التي صدرت عن اجتماعات علماء المناخ والعديد من الخبراء، فإن هناك في نظر البعض سعياً واضحاً من قبل المسؤولين السياسيين لعدم إثارة المخاوف بل تجاهل الموضوع على اعتبار أنه لا أحد يعلم مدى القوة التي قد تتسم بها العاصفة الشمسية المقبلة، فإن كانت العاصفة معتدلة فإنها قد تتسبب ببعض الأضرار التي يمكن التعامل معها، وإن كانت كما يتخوف البعض عنيفة فإن من الصعب على الحكومات أن تفعل شيئاً في جميع الأحوال وأن كل ما سيمكنها فعله هو الانتظار لانجلاء العاصفة وإحصاء الأضرار ومعالجة ذيول الكارثة. وفي هذه الحال فإن الحكومات والسياسيين يعتقدون أنهم لا يمتلكون وسائل كافية للاحتياط إزاء عاصفة شمسية قوية قد تهب فجأة ولذلك فإنه من الأفضل لذلك عدم إشاعة الذعر منذ الآن والأمل بأن لا يحصل الأسوأ الذي يتوقعه البعض.
لكن ما هو هذا “الأسوأ” الذي يمكن أن يحصل؟
يتفق العلماء الآن على أنه في حال اندفاع عاصفة شمسية بصورة مباشرة إلى سطح الأرض فإن هذه العاصفة يمكن أن تشل الحركة في العالم على أكثر من صعيد كالتالي:
إن العاصفة قد تؤدي فوراً إلى تعطيل الهواتف المحمولة والسيارات والشاحنات والطائرات والسفن ناهيك عن التلفزيون والراديو وبالطبع كل أجهزة التسلية فضلاً عن التجهيزات الطبية المعقدة.
نظراً لإحتمال تعطل الطاقة الكهربائية وأنظمة الاتصالات لمدة قد تطول، فإن العالم سيكون عندها من دون مصارف تعمل ولا بورصات وسيجعل ذلك بطاقات الدفع وسحب النقود بلا أي فائدة. وعلى العكس من ذلك، فإن الثروة الحقيقية تكون في ما قد يحمله الناس من أوراق نقدية أو عملات ذهبية أو فضية.
في ظل هذا السيناريو الكارثي وخصوصاً توقّف المواصلات والاتصالات، فإن الناس ستصاب بحالة من النقص في كل شيء وسيتم نهب المحلات والمخازن التجارية على الأرجح بحجة البقاء وسينفذ الوقود من المحطات في وقت قصير. في الوقت نفسه فإن تعطل الاتصالات الهاتفية الفضائية سيجعل من الصعب جداً على قوى الشرطة نجدة الناس ومعالجة الفوضى.
في أيام قليلة فإن نظام ضخ المياه إلى المنازل وكذلك أنظمة الصرف الصحي ستتوقف، وفي حال اعتمادك على مضخة كهربائية لسحب المياه فإنك ستفقد إمكان الحصول على ماء وقد يستمر هذا الوضع لأسابيع أو لأشهر وقد يحل العطش أو قد تحصل مجاعات حقيقية حتى في أكثر الدول تقدماً، وفي هذه الحال فإن النتيجة المرجحة لتلك المجاعة ولتوقف شرايين الحياة خصوصاً في المدن ستكون موت مئات الملايين بل ربما أكثر. وعلى العكس من ذلك، فإن الدول الفقيرة القليلة الاعتماد على التكنولوجيا ستكون الأقل تأثراً.
وبالمعنى نفسه، فإن أي عاصفة شمسية عنيفة تضرب الأرض قد توجه ضربة قاصمة على الأرجح للتكنولوجيا الحديثة وللحضارة كما نعرفها وقد تعود ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا ومن يبقى من سكانها قروناً إلى الوراء.
بالطبع لا يعكس هذا التوقع في نظر علماء المناخ سوى أسوأ الاحتمالات وهو احتمال يتمنى الجميع أن لا يحصل. لكن حقيقة الأمر أن الترابط التكنولوجي والاعتماد التام تقريباً في حياتنا اليومية بل في الأمن العالمي على الأجهزة الحديثة والحساسة لعاصفة الشمسية هو أكبر مصدر لقلق العلماء الآن، لأنها ستكون المرة الأولى التي تضرب فيها عاصفة شمسية عنيفة العالم بعد أن أصبح هذا مرتهناً في كل شيء بتلك الأجهزة والتكنولوجيات الدقيقة والسريعة العطب، والتي قد تكون لذلك الضحية الأولى لإندفاعة العاصفة الشمسية نحو الأرض.
أخيراً، فإنه إذا كان العالم المتقدم تكنولوجياً سيدفع الثمن الأكبر لأي عاصفة شمسية عنيفة فإن العالم الثالث وفقراء الأرض سيكونون في وضع أفضل بكثير لأنهم غير معتمدين في حياتهم إلا على الوسائل التي ورثوها من أجدادهم. أما نحن في هذه المنطقة فقد أصبحنا مع الأسف حلقة في سلسلة حضارة الاستهلاك والاعتماد على التكنولوجيا. لذلك يجب أن نحذر وأن نعود إلى حديث الرسول (ص) الذي نصح فيه أمته أن “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”.
بالطبع، فإن أضعف الإيمان في هذه الحال هو الاستعداد بتأمين مخزون كافٍ لأشهر عدة من الطعام والشراب والأساسيات. وعلينا في أي حال أن نرقب مع العالم ما ستفصح عنه الأيام ومجريات ما قد يدور على شمسنا في السنتين المقبلتين، وأن نستغفر في غضون لذنوبنا سائلين الله العفو واللطف.

مدارات الإبداع