سيتابع قارئ الضحى بدءاً من هذا العدد (36) قصة النجاح الشخصي والعلمي لسيّدات معروفيّات تمكنّ، بالجهد الشخصي والمثابرة والتشجيع من أسرهنّ ومجتمهنّ، أن يصلنَ بعلومهنَّ إلى الدرجة القصوى المتعارف عليها أكاديمياً (أي الدكتوراه في الاختصاص).
نقدّم في العدد هذا أربعة من الأخوات اللواتي أنجزن شهادة الدكتوراه اللبنانية في الاختصاص (فئة أولى)، ونلن أعلى العلامات والتقدير على ما أنجزنه، على أن تلي في أعداد لاحقة تجارب أخرى من التفوق والإبداع.
وإذا كان من كلمة أخيرة في الموضوع، نقول إحقاقاً للحق وطلباً للموضوعية، أن النجاحات «النسوية» تلك ما كان لها أن تتحقق باليسر والتشجيع اللذين لاقتهما لولا المُناخ الإيجابي حيال العلم والتعليم بكل صوره الذي ما انفك المجتمع التوحيدي يظهره عملاً بالتقليد الإسلامي المعروفي الذي لطالما حثّ على طلب العلم «ولو في الصين»، والذي شجع من دون تردد، وبتوصية مباشرة من الأمير السيّد(ق) على الأخذ بيد من يريد (أو تريد) اختبار طريق العلم الصحيح، واعتباره حلية أخرى تنضاف إلى حليتَيّ الإيمان والأخلاق- ميّزتا كلّ موحّد وموّحدة.
الدكتورة أمل بو غنّام حمزة : تعريف بالإطروحة تحت عنوان: اليابان بين الحربين العالميتين دراسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي (1918-1945)
إطلالة على تاريخ اليابان بين الحربيين العالميتين
تُعَدُّ دراسة تجارب الأمم والشعوب إحدى أهم ميادين الدراسات التاريخية، للاستفادة من تجاربهم، «فالتاريخ علم التغيير»، كيف إذا كان يبحث في الديناميكية التي تميزت بها اليابان، والقدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات، في محاولة لكشف أسرار نجاح اليابان في دخول نادي الدول الامبريالية الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام عام (1919)، والدولة الآسيوية الوحيدة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنع تمدد الشيوعية، لتصبح دولة استعمارية في الحرب العالمية الثانية.
بحثت هذه الدراسة في تاريخ اليابان ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوصلت لنتائج عديدة للتغييرات التي شهدتها؛ وتفاعُل الأفكار الليبرالية والاشتراكية داخل مجتمعاتها التي ساهمت في نمو الأحزاب وظهور الحركات الاجتماعية فعرفت تلك الفترة بديمقراطية تايشو. كما بحثت الدراسة في العلاقات بين الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية في اليابان، ودور الدين والعادات وغيرها في حماية البلاد من الوقوع في التشرذم والفوضى المتأتية من تفاعل الأفكار الرأسمالية والشيوعية وثورة العمال وغيرها من القضايا.
ونجاح اليابان في تبنِّي التقدم والتطورالصناعي والاقتصادي، واعتبرت أنّ ظهور التكنولوجيا والعلوم شكّل انتصاراً لطريق الامبراطور، ودعت إلى ربط الإقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، وأصبحت شريكة للدول الأوروبية في تقاسم النفوذ في الصين؛ فتقاطعت المصالح بين اليابان وأميركا في كوريا والفيليبين، وتوترت العلاقات بينهما على أثر إعلان قانون الهجرة (1924)، القاضي بالحدّ من الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة وأثارت قضية التمييز العرقي.
ساهمت الأزمة الاقتصادية بداية ثلاثينيات القرن العشرين في البحث عن سبل لمعالجة تداعياتها. فشجعت على الهجرة إلى الصين بعد أن شهدت زيادة سكانية كبيرة من أجل الحصول على مصادر للطاقة لصناعاتها. وتدهورت علاقاتها مع الدول الغربية على خلفية حادثة منشوريا في عام (1931)، ما حمل اليابان على الانسحاب من عصبة الأمم عام (1933). وسعت إلى تأسيس كتلة الينّ اليابان- منشوكو- الصين وتوسعت لتشمل مجال ازدهار مشترك لشرق آسيا العظيم، حيث أخفقت في حساباتها حين أرادت أن تفرض إرادتها على الشعوب شرقي وجنوبي آسيا بحجة تحضيرها، فانحرفت إلى الشوفينية الفاشية طمعاً في إيجاد نظام عالمي جديد في شرق آسيا، وتطبيق مبدأ آسيا للأسيويين، بعد أن أخفق النظام الحالي في بناء السلام العالمي. فتبنت نظام العسكريتارية، وسخّرت الروح العلمية اليابانية في تنفيذ سياستها التوسعية القارية، وفرضت التجنيد الإجباري والتعبئة الإقتصادية في اليابان والأراضي التي سيطرت عليها، بهدف تحقيق ازدهار مجال شرق آسيا العظيم، وتبنت نزعة قومية متشددة، نقلتها من مرحلة المهادنة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة، متخذة من العائلة الامبراطورية مصدر إلهام للشعب الياباني .
وسارعت إلى تحقيق مذهب عموم آسيا وفرض شروط جديدة عالمية، إذ اعتبرت أنّ العالم أمام منعطف تاريخي جديد، وقدَّر الامبراطور الياباني أخلاقياً أن يصبح زعيم العالم؛ فانضمت اليابان إلى دول المحور، وأُطلقت يد اليابان في آسيا التي انحرفت عن هدفها في توحيد دول شرق آسيا لخلق اليابان العظمى. وقد استخدمت اليابان العنف تجاه الدول الآسيوية لإرهاب الشعوب الآسيوية وتحقيق مشروعها التوسعي؛ فيما أُطلقت يد ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والمستعمرات…
شكل هذا الأمر تحدّياً للولايات المتحدة التي بدورها حاولت كبح جماح اليابان، في حين استمرت المحادثات بين البلدين من أجل تفادي الحرب. وتزامناً، أعلنت اليابان التعبئة العسكرية العامة وتحالفت القوى الاقتصادية مع القوى العسكرية وتحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية، بعد إحياء الدين الحقيقي الجامع لأبناء اليابان، في مواجهة الثقافة السياسية والمصالح الاقتصادية الأنجلو-أميركية.
أمام هذا الانقسام، فرضت الولايات المتحدة حظراً على تصدير النفط إلى اليابان التي تعتمد عليه بنسبة (80%)، للضغط عليها وفصلها عن دول المحور، فقطعت اليابان محادثاتها مع الولايات المتحدة بهجوم مفاجئ وعنيف على بيرل هاربور في (7 كانون الأول 1941). بينما كانت أميركا تجري التجارب على السلاح النووي الحديث، دخلت الحرب الحتمية واستمرت حتى استسلام ألمانيا، وبات حسم الحرب وردع اليابان أمراً ضرورياً؛ فاستخدمت الولايات المتحدة السلاح الجديد على هيروشيما وناكازاكي، لانتزاع الاستسلام من اليابان، وإجبار اليابان على التخلّي عن مقارعة الغرب، ويكون الرادع لعدم تكرار الحروب العالمية.
وقَعت اليابان تحت احتلال قوات الحلفاء، وفُرضت عليها تغييرات جذرية لتحويلها إلى دولة مسالمة، مقابل احتفاظها بوحدة أراضيها وهويتها الوطنية، وتخلّي الامبراطور عن صفة الإلوهية، وإلغاء جميع أشكال عسكرة النظام ودمقرطته. وأُجبرت على تفكيك شركات زايباتسو الاقتصادية التي موّلت الحرب. واستجابت اليابان للضغوط التي فرضتها قوات التحالف، وأدركت أن عليها استعادة ثقة المجتمع الدولي وانتهاج سياسة المسالمة تجاه دول القرار في النظام العالمي، لاستعادة موقعها العالمي في المجال الاقتصادي.
استطاعت اليابان أن تبتدع «ثنائية: الإنجاز – الاستمرارية الحركية»، التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ وهي سرّ من أسرار التفوق الاقتصادي المُذهل الّذي ربطها بفلسفة «الاعتماد على الذات»؛ والعمل الدائم على أن تكون شريكة في القرارات الدولية وفهم السياسة العالمية دون الانغلاق على الذات؛ ترافق ذلك مع النشاط الإنساني المنفتح والحذر على العالم الخارجي، أو التكيّف الإيجابي.
كيف اخترت موضوعي لأطروحة الدكتوراه؟
مِنْ: ندى أمين حسن (فياض) حائزة على شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ سنة 2015.
إنّ فكرة اختياري لموضوع إعداد أُطروحة الدكتوراه، يرتبط بالمكان والزمان اللّذين ترعرعت فيهما. فقد وُلِدت في بيت متواضع، رسم ربُّه على عتبته شعارَيِّ «العلم والأخلاق»، اللّذين بقيا زاداً أحمله من عائلتي الأم أينما ساقت بيَ الحياة، لتنمو هذه المبادئ مع زوج شغوف باقتناء الكتب وقراءتها.
مارستُ مهنة التعليم، وعملت في الإدارة العامة، وأنا أتساءل عن ماهية الوظيفة، عن حقوق الموظف، وعن واجباته، وعن كيفية تقديره ومحاسبته، عن كيفية بناء روح المواطنية لدى تلاميذي، وأخيراً عن دوري في إعدادهم كبُناة للوطن؟
تساءلت كثيراً عن مدى تأثير موقع السكن لأي مواطن على مسار حياته، في بلد يتوجب أن تتساوى فيه كل الفرص بين مواطنيه؟ حين حُرِمت من إكمال دراستي الجامعية كعقاب لي على إقامتي في منطقة لا تبعد عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات، ولم أحظَ بهذه الفرصة سوى بعد خمسة عشر عاماً على نَيلي شهادة الثانوية العامة. كان لهذه السنين الفضل في نُضج أفكاري وتحديد تساؤلاتي واختيار موضوع رسالة الماجستير للإجابة عنها من خلال عملي كباحثة، فكانت تحت عنوان «تجربة فؤاد شهاب في بناء الدولة المدنية في لبنان بين عامي 1958 و 1964».
صمّمت أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراة مُتَمّماً لموضوع رسالة الماجستير، حين يبحث عن مصير هذه الدولة بعد نهاية حرب لبنان (1975-1990)، ولكن للأسف ولأسباب لا مجال لذكرها، لم أحظَ بهذه الفرصة، فقرّرت السير بقراري، واختيار موضوع يتطرّق إلى هذه الدولة من خلال رؤيتها لِلّامركزية الإدارية عبر أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي جسّدت البيئة الحاضنة لمفهوم التنمية، محددة قضاء الشوف كأنموذج لذلك، فأتت الأطروحة تحت عنوان «البلديات ودورها التنموي في قضاء الشوف بين 1943 و2010»، والتي نِلت على أساسها شهادة الدكتوراة في التاريخ، سنة 2015.
ارتبطت البلديات بعلاقة راسخة بمفهوم الديمقراطية؛ فقد كانت مهمة الدولة الأساسية المحافظة على الأمن، لتتطور مهامها وتشمل تأمين الخدمات، خدمة لعملية التنمية في مجتمعاتها، حتى أنّ الشرعية الديمقراطية لهذه الدولة بدأت تأخذ مفهوماً جديداً يشمل فعالية السلطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الديموقراطية المقنّعة، بمعادلة طائفية راسخة، تظَهرُ في لبنان من خلال اللامركزية الإدارية، وبالتحديد في أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي نشأت في لبنان قبل الجمهورية، وتنامت معها حتى يومنا هذا.
لم يكن نشوء البلدية ابتكاراً خاصّاً بالّلبنانيين، لكنّهم احتضنوا هذا الإنجاز، وعملوا على التشريع له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاَ. وحين تناحروا، لم يجدوا بديلاً عنه، فعادوا إليه بعد تجربة إدارات الأمر الواقع، في مختلف المناطق اللبنانية خلال حرب لبنان.
وعى اللبنانيون فكرة التنمية، ونقلوا مبادئها النظرية من منظِّريها، وأيقنوا مدى الحاجة إليها في بلدهم، فعقدوا العزم على أن تكون البلدية، البيئة الحاضنة لها.
اخترت قضاء الشوف مجالاً جغرافيّاً لبحثي، لأنّه يتميز بتنوعه الجغرافي والديمغرافي، وشعرت بذلك أنه نموذج مصغّر عن لبنان، واخترت أن تكون دراستي عن موضوع البلديات فيه، مثالاً عن كل مناطق الجمهورية اللبنانية.
اعتبرت إشكاليّة البحث، «البلدية نواة الديمقراطية الأولى»، كما تطرقت إلى علاقتها بالمواطنين وقدرتها على معرفة قضاياهم ومشاكلهم، إذ تُنتخَب مباشرة منهم، وتعمل على تحقيق كلّ عمل ذي طابع ومنفعة عامين لهم.
تضمّنت الفرضيات؛ ملاءمة بيئة قضاء الشوف لتكون مجالاً لدراسة تجربة البلديات ودورها التنموي، كما تطور العمل البلدي في هذا القضاء وبخاصة بعد انتخابات سنة 1998 البلدية والاختيارية، مع لحظ مراعاة المواطنين للمعايير العائلية والطائفية عند اختيار أعضاء مجالسهم البلدية، وإظهار دور الاتحادات البلدية في تنشيط العمل البلدي وتحقيق أهدافه الإنمائية، وأخيراً عرض الصعوبات المُعيقة للعمل البلدي وكيفية معالجتها.
عالجت دراستي هذه المجموعة من الفرضيات، بكلّ تفاصيلها، ممّا سمح لي في ختامها أن أتوصل إلى معطيات إيجابية منها وسلبية، مبنية على براهين تستند إلى معايير البحث العلمي، ليكتمل بحثي بعرض رؤى مستقبلية تتعلق بالعمل البلدي وتحقيق دوره التنموي.
تناوَلت اقتراحاتي المستقبلية عدة مجالات، توزّعت بين أدوار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأخير دور المجالس والاتّحادات البلدية نفسها.
جعلتُ دراستي الجامعية نواة كتاب أصدرتُه سنة 2017، تحت عنوان «قضاء الشوف بلدات وبلديات 1860-2016»، بعد أن أكّدت خلال دراستي الجامعية أنّ سنة 1860 هي تاريخ تأسيس أول بلدية في لبنان أي بلدية دير القمر في قضاء الشوف، وأنه من الواجب دراسة هذه الفترة الزمنية لإعطاء مفهوم العمل البلدي حقّه الوافي في لبنان، وصولاً إلى سنة 2016 تاريخ إجراء آخر انتخابات بلدية واختيارية.
علّمتني الفلسفة
دكتورة عفّة محمّد محمود.
علّمتني الفلسفةُ أنّ العمرَ مهما بلغ، لا يقفُ حائلاً بين الإنسان وطموحه، ومرشدنا في ذلك أفلاطون الحكيم الذي أحبَّ الموسيقى وتعلّمها وهو في الثمانين من العمر. لذا عدت إلى مقاعد الجامعة بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد ،وكانت فرحتي بإكمال علمي توازي فرحتي بإنجاب الأولاد. فإذا كانت ثمرة الحياة الدنيا البنات والبنون، فإنّ ثمرة الفكر العلم والتأليف والكتابة ،وبالتالي نيل الشهادات العليا.
بدأت رحلتي مع الفلسفة وحب الحكمة والحكماء، منذ الصغر وتبلورَت بشكل جليّ مع المعلم كمال جنبلاط والمطالعة الدؤوبة والمستمرة في كتبه الجمّة، حتى شعرت وكأنّ ميلادي الثاني، ميلادي الروحي قد تفتح على فلسفته وروحانيته، فكانت رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عنه وعن فكره النيّر الخصب ،حيث حملت الرسالة عنوان: «الروحانيات والتصوُّف في فكر كمال جنبلاط».
دفعني الشغف العلمي، وحبي للمعرفة لإكمال مسيرتي ونيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية، الجامعة الأم التي نعتز ونفخر بمستواها الأكاديمي، لكنْ هذه المرحلة لم تكن سهلةً إذ واجهتني صعوبات جمّة ،منها البحث عن المشرف الذي يأخذ بيد الطالب ليصل به إلى برّ الأمان، والبحث عن موضوع جديد غير مسبوق.
عملت على أطروحتي طوال خمس سنوات ،تحت عنوان «فلسفة القِيم في النص الصوفي، نموذج محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي»، ونلت عليها تقدير «جيّد جداً»، طبعاً وبكل تأكيد ما من عملٍ ناجحٍ إلّا ويحتاج إلى جهدٍ كبير ومعاناة ،وملاحقة أصغر التفاصيل، ليظهر العمل أقرب ما يكون للكمال. وهنا تكمن أهمية المثابرة والمتابعة عند الطالب، وأيضاً التشجيع والتحفيز من المحيطين والمهتمين لنجاح هذا العمل، ومن الصعوبات التي رافقت عملي أيضاً، تجميع المعلومات والتقميش وضبط كل هذا بشكل متسلسل ومنظم، لتتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي ،وجلال الدين الرومي.
تتألف الأطروحة من ثلاثة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول. عرضت في الباب الأول موضوع القيمة والقيم. فالقيم من أهم موضوعات الفلسفة وأصعبها، إذ إنّه حتى اليوم لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد موحَّد لها.فالبعض كالفلاسفة الماديين يعتبرون موضوع القيم موضوع متحوّل، ويتغير بتغير الزمان والمكان، بينما يعتبر الفلاسفة المثاليين مثل سقراط أنّ القيم العليا من الحقائق الثابتة ولا تخضع للتغيير: «وبأن السعادة تقوم في سيطرة العقل على دوافع الشهوة، ورد الإنسان الى حياة الاعتدال، ومتى عرف الإنسان ماهيته وأدرك خيره أتاه لا محالة، لأن الفضيلة وليدة المعرفة ،فمتى عرفتَ الخير حرصتَ على فعله، ومتى أدركت الشر توخيت أن تتجنبه…».(توفيق الطويل ،فلسفة الأخلاق، ص 33).
تتعدد مصادر القيم، والدين أحد هذه المصادر المهمة، فمنها قيم اعتقادية، وقيم خُلقية، وقيم عملية، حيث حرص كل من ابن عربي وجلال الدين الرومي على تثبيتها وترسيخها في الذات، والالتزام بكل الفرائض والواجبات كما وردت في النصوص القرآنية. يقول ابن عربي: «إنّ التقيد الصارم بالشريعة، وهو بالطبع الشرط للنجاح، واكتساب مكارم الأخلاق مثل الدماثة أو الحلم والتواضع والكرم والفتوة، وهي أمور ضرورية للترقي الروحي»، (كلود عداس ،ابن عربي ،ص265).
وهذا ما أكده الرومي بإيمانه بالله وعشقه للصورة الأزلية حيث يقول: «أيّها الملك! أطفئ حرصنا بماء رحمتك ،واسقِ أرواح المشتاقين شراب وحدتك ونورك، وأضئ ضمائر قلوبنا بأنوار معرفتك، وشرّف وكرّم أشراك أملنا التي نصبناها في صحراء سِعَة رحمتك بأطيار السعادة وصيود الكرامة» (الرومي، المجالس السبعة، ص 16).
في الفصل الثالث من الأبواب الثاني والثالث، حرصت على أن تتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وذلك يتم بمراقبة الجسد وضبط الحواس، ثم ضبط النفس الأمّارة بالسوء التي تدفع بالإنسان إلى الغرائز والشهوات بالقوة العاقلة والتمييز السليم، والتحلّي بالفضائل الإلهية، والابتعاد عن الرذائل لتصبح النفس حرَّة مُعْتَقة من رقِّ الجهالة.
أمّا أعلى مرتبة يشدد عليها الصوفية فهي مرتبة القلب، والذي اعتبروه أعلى من القوة العقلية في الإنسان، يقول ابن عربي: «فاعلموا أنّ القلب مرآة مصقولة كلّها وجه، لا تصدأ أبداً، وإن صَدأت لقوله عليه السلام: «إن القلوب لتصدأ كالحديد وجلاؤها يكون بذكر الله تعالى والقرآن..، فكأن تعلّقه بغير الله صدأ على قلبه لأنه مانع من تجلّي الحق إلى هذا القلب» (الفتوحات المكية ج3،ص103).
وهذا ما يقوله الرومي عن القلب أيضا: «إلّا الأصوات في صدور الأولياء والأعزاء، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصورة أنفاسهم! فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن، وفناؤهم هو الذي استُمِدَّ وجودُنا منه، إنَّ الوليّ نور الفكر، وكلُّ صوت فيه هو لذة الإلهام والوحي والأسرار». (الرومي ،المثنوي ج1، ص268)
وأخيراً نصل إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ العودة إلى تراث الأقدمين العارفين، والتحلّي بأخلاقهم الحميدة، الفاضلة تخرجنا من الفساد والمفسدين، وتنير ضمائرنا وعقولنا بالعمل الصالح السليم الذي فيه خيرنا وخير مجتمعاتنا كافة. لو عاد الإنسان إلى حقيقته، وسأل نفسه عمّا يريده من هذه الحياة بوعي وحكمة، لأجاب: مطلبي السلام، السلام الداخلي، والأمان والسلام في العالم ككل، وإذا كان مطلبه الارتقاء العقلي والصفاء في جنانه، لتطول سعادته، فما عليه إلّا بالتوحيد الحقيقي مسلكاً، أي بعرفان الحكمة، عرفان الصوفية الأتقياء، الأنقياء، والاقتداء بأخلاقهم الفاضلة الحميدة.
أخيراً الشكر كل الشكر لكل القيّمين على مجلّة الضحى، ونخصّ بالشكر رئيس تحريرها، العميد الدكتور محمّد شيا على التفاتته الكريمة.
الهَيدونيّة في الفِكر الغربيّ: مآلاتُها، الأفلاطونيّة عند ميشال أونفراي
نَغم كمال شاهين
«ماذا يجب عليّ أن أفعل؟» هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم، ينطق بلسان حال كلّ إنسان، معبّراً عن هواجسه الأخلاقيّة – المَعرِفيّة المَعيشة. هذه الهواجس حملت البشر على استقراء ما يحيط بهم من ثقافات وحضارات تلوّنت بمختلف ألوان الإجابات: دينيّة أوّلاً، ثمّ فلسفيّة؛ وصولاً إلى العلميّة والوضعيّة. هذه الإجابات على تنوّعها واختلافها تشبّعت بالهيدونيّة، ذلك أن الإنسان سعى ولا يزال إلى تحقيق سعادته من خلال اختراع واكتشاف لَذّات ومُتعٍ تبدأ عند حدود الجسد ولا تنتهي عند الفكر والروح.
وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال كانط السالف الذكر، قاربت هذه الأطروحة التي تحمل العنوان أعلاه والمُخصّصة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، فكرَ كلّ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الموسوم خطأً وزورًا بمعاداة الهيدونيّة واحتقار الجسد، والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي « أبو الهيدونيّة في القرن الواحد والعشرين» ومؤسس «الجامعة الشعبيّة».
انطلق البحث من الإشكاليّات الآتية:
1- كيف يقارب أفلاطون مفهوم الهيدونيّة؟ هل هي هيدونيّة مثاليّة – متعالية، أم واقعيّة – جسديّة؟.
2- كيف يقارب ميشال أونفراي مفهوم الهيدونيّة؟.
3- بماذا تختلف مقاربة أفلاطون الهيدونيّة عن مقاربة ميشال أونفراي؟.
4- على أيّة مقاييس تُبنى الأخلاق؟ هل تُبنى على الغنى والتّرف والجَشع أم هناك أخلاق لا بُدّ من إعادة صياغتها لتَرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيّة الحقيقيّة؟.
رامَ البحث إلى تحقيق الهدفين الآتيين:
أوّلاً: إثبات أنّ الهيدونيّة متغلغلة في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولها عنده معنى إيجابي، فهي مرتبطة بالفضيلة بشكلٍ عامّ والعدالة بشكلٍ خاصّ، لما يتفرّع عنها من لذّات وسعادة جسديّة وروحيّة على حدٍّ سواء. فاللذّة من حيث هي وعي، تستلزم بُعدًا فيزيولوجيًّا تظهر من خلاله.
ثانيًا: توضيح العلائق التي تُسهم في نسج بناء النَّسق الهيدوني عند ميشال أونفراي، من مكوّنات الفكر الهيدوني المادّي، والرؤية التي ينظر بها الهيدونيّ المعاصر المتمثّل بأونفراي إلى العالم، والهدف الذي يطمح إليه في إعادة الاعتبار للإنسان واحترام الجسد، ما يستلزم إعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي الديني والمعرفي والسياسي، ليُصار إلى تحديد هذا المنحى الفكري للنزعة الهيدونيّة، في كُلّ أبعادها عند كُلّ من أفلاطون وأونفراي.
ولتحقيق هذين الهدفين كان لزامًا أن تُقسم الأطروحة إلى قسمين:
– قسم أوّل عَرضت فيه الباحثة مكامن وجود الهيدونيّة في مقاربة أفلاطون في تكوين الأفراد، فلحظت العلاقة بين الهيدونيّة وبين الفضائل، مُنطلقةً من مقاربته الفضيلةَ نفسَها، مُستخدمةً مصطلح هيدونيّة وما يُرادفها أي لذّة بمعناها الجسديّ والروحيّ، فالصحّة والجمال والمواهب هي خيرات؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى العدل والاعتدال والشّجاعة، علمًا أنّ هذا المُصطلح لا يعني عند أفلاطون الشّعور الناتج من الانغماس في الشّهوات، بل الناتج من فضيلة الاعتدال، من ثمّ تتبّعت الأبعاد الفيزيولوجيّة والنفسيّة والابستيمولوجيّة والاجتماعيّة – السياسيّة والتربويّة والفنيّة للهيدونيّة، كما قاربها أفلاطون. كذلك قامت بمحاولة تفكيك العلاقات المتشابكة بين الهيدونيّة ومفاهيم السعادة واللذّة والحُبّ والخير، من ثمّ تتبّعت مآلات الهيدونيّة الأفلاطونيّة عند كُلّ من أرسطو وأبيقور، لكونهما ساهما في تكوين الفكر الغربي منذ اليونان حتى يومنا هذا.
– قسمٌ ثانٍ توقّفت فيه الباحثة عند خصوصيّة الهيدونيّة الماديّة عند أونفراي، من حيث معناها ومن حيثُ هي نظام أخلاقي يُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجسد ويجعله مصدرًا ومرجعًا للقيم الأخلاقيّة. كذلك عرضت في هذا القسم للإلحاد الذي جعله أونفراي أحد شروط الحياة الهيدونيّة لكونه يحرّر الإنسان من كلّ الضغوطات التي تُمارَس عليه باسم كائن ميتافيزيقي (الله). وقاربت أيضًا موقف أونفراي من الأديان التوحيديّة وثورته المعرفيّة، مضيئةً على بعض أبرز المفكّرين الذين تركوا أثرًا بالغًا على فكر ميشال أونفراي. كذلك عرضت موقف أونفراي السياسي الرافض للفلسفات الدوغمائيّة – الفوضويّة الغربيّة وأسباب تبنّيه الاشتراكيّة التحرّريّة كنظام سياسي من شأنه تحقيق هيدونيّة الجماعة، ومن ثمَّ قدّمت موقف أونفراي من الفنّ المُعاصِر. وفي نهاية هذا القسم، توقّفت الباحثة عند أبرز الانتقادات التي تناولت طروحات أونفراي.
وقد خلصت الباحثة بعد مُقاربة الهيدونيّة من منظورَي أفلاطون وأونفراي، أنّه يُمكن الخروج بفلسفة الأخلاق من المجال النظريّ البحت إلى الواقع المعيش، آخذين بالحسبان صعوبة تطبيق هذه الفلسفات الأخلاقيّة، فالفيلسوف هو ابن بيئته، وإذا ما اكتشف في هذه البيئة انحرافًا على مستوى القيم الأخلاقيّة، سعى بالوسائل المُتاحة أمامه لتقويم هذا الانحراف. أوَليس هذا ما حاول فعله كُلّ من أفلاطون وأونفراي؟ أما هذا هو حال فلاسفة الأخلاق جميعًا، في كُلّ زمانٍ ومكان؟