الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المعرفة بين النعمة – واللعنة

كتاب هو عبارة عن بحث معمّق يتناول فيه مؤلفه الدكتور حاتم علامة، مسألة المعرفة في تحديداتها، ومدلولاتها، في أن تكون تارة نعمةً للأفراد والمجتمعات، بسلوكيات معينة، ومفهوم إيجابي، شريطة ترجمة مدلولاتها إلى وقائع عمل فعلي، في ضوء مستوىً رشيدٍ من الوعي، يُتَقَيَّدُ به ضماناً لإدراك الأهداف الحسنة المتوخاة منه، والمُعَبَّرُ عنها بـ «النعمة» أي بالارتقاء معنوياً ومادياً إلى حالة من السعادة العامة، يتمنَّاها ويسعى إليها كُل إنسانٍ بحَسَب معطياته العقلية، ومدركاته العلمية، وذلك بنسبية ما، حيث أن المعرفة، ولا سيما إذا كانت كليةً، فوق مقدورات البشر ومقدراتهم، لأنها عندها تماثل قوانين الطبيعة غير المدركة منهم، ولكن بحسب تحديدات المؤلف علامة، وإلماحاته، فإن للمعرفة وجهاً آخر غير وجهها الإيجابي، ويمكن أن ينحو نحو السلبية بالمعنى المطلق، ويصير من شدته «لعنة» أي وبالاً على المجتمعات والأفراد، كما هو صائر اليوم في العالم بمعظمه. وربما يريد المؤلف في كتابه أن يقول: إن للمعرفة وجهين، سلبي وإيجابي، وهذا يتوقف على حسن استعمالها… إنه تعليل منطقي، في ضوء ما يحصل على كوكبنا من نزاعات وحروب وجرائم، وعنف، واضطهاد غير مبررة بمقاييس الحرية، وحقوق الإنسان، ناهيك بالعدالة التي لو اعتمدت حقيقةً، لوفرت على البشرية عذاباتها ومآسيها ووطدت السلام. الدكتور علامة في كتابه القيِّم هذا يرى أن أزمة العصر بوجوهها المعقدة، وربما أزمات كل العصور السابقة التي لم يُتَوَصَّل إلى حلها حتى اليوم، هي مرجحة للاستمرار، بغياب الوعي التام واستفحال الأنانية، سواءٌ أكانت فرديةً أو جماعية.

إذن المسألة هي مسألة وعي لا غير، وكيف نأتي بالوعي الجماعي بعيداً من المعرفة، ومن ثم العلم، الذي مصدرُهُ العقل والعقلانية وهذا «أرسطو» الفليسوف اليوناني العظيم، نقلاً عنه، يورد المؤلف مقولة أن «الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروى».

وبمثل ذلك يتحدث «نيتشه» الفيلسوف الألماني، عن المعرفة فيرى مثلاً أنّ القناعات الراسخة أكثر خطورةً على الحقيقة من الأكاذيب» فالجزم بالحقيقة من أيٍّ كان يجب أن يُتَحفَّظ عليه في ضوء المعرفة التي تنمو وتتكاثر، وتتحول من حال إلى حال، أو من اقتناع إلى ضدّه. هذا الكتاب المهم الذي يبلغ عدد صفحاته قرابة 170 صفحة، جعله الدكتور علامة من ثلاثة فصول، وخاتمة.

ضمَّنَ الفصل الأول، بحثاً في «الكورونا»، قسَّمَهُ إلى أربعة مقالات اجتهادية فكرية، رأى في الأولى أن مع الكورونا، الحدث العالمي المفاجئ ينبغي كتابة تاريخ جديد. وفي الثانية ضرورة وضع معيارية كونية جديدة، ويتساءل في الثالثة، العالم إلى أين؟ وفي المقالة الرابعة، لا يتردد في الجزم في أن الكورونا فاتحة قيامة شاملة. وفي الفصل الثاني يتطرق إلى موضوع أساسي في حياة البشرية قاطبةً، وهو الأخلاق، والثقافة. والمعنى بين المحمول المعرفي وتشفير اللعنة. فيجعل السؤال الأخلاقي بين بصمة التميز، والترانسفير المعرفي، وثانياً الأخلاقي – الديني بين احتكار النجاة والسمو المعرفي، وثالثاً: أسئلة المعنى في منظومة قيمية متهاوية. ورابعاً المعرفة بين المركب الثقافي والأنتروبولوجيا الثقافية، وفي الفصل الثالث: يناقش النظام المعرفي بين صناعة العصر، ومشاكسة اللعنة، فيتبين مستنتجاً المعرفة بين فلسفة الحقيقة، وعقلنة الوعي، وبين معرفة المعرفة، وعقلنة الوعي. والعلم والمعرفة، الفكر والتفكير النقدي، إلى أن يصل بالاستنتاج إلى التحدي المعرفي بين لعنة المعرفة، والمعرفة المحرمة.

إنْ هذا إلا عجالة منا لكتاب يشكل إضافة ثقافية وعلمية يحتمل الكثير من التبسط والتوسع في عميق معانيه الذاهبة مذهب الإنقاذ والإصلاح في زمن التصحر الفكري أو قُلْ في زمن المعرفة اللعنة…

مع المؤلف نقول: «لا أفكار قبلية لحقيقة عاصفة، واستحضار لفكر نقدي عبر التاريخ، نتشاركُهُ مع العقول النيرة، والوعي المتوهج، عصفاً بيقينات بالية، وأوهام وخرافات.

جسدٌ لا يَشيخ وعقلٌ لا يَحُدُّه زمن

عنوانُ كتابٍ، هو عبارة عن بحث علمي، لمؤلّفه الدكتور Deepak Chopra، نقله إلى العربية، الأستاذ رجا أبو شقرا. احتلّ مرتبة الكتاب الأوسع انتشاراً (best seller). والذي بيع منه حَوَالي مليوني نسخة في أميركا. إلى شموليته، تضمن مواضيع علمية وفلسفية، تسبر غور العلاقة المتكاملة بين مادية الجسد، وسرمدية العقل، وأنَّ بالإدراك الشامل يتحرّر الإنسان من (تعويذة) الفناء، وأن الموت ليس النهاية المطلقة للحياة، بل تكملة لمسيرة الذات في الكينونة اللّامحدودة، وملامسة ذلك الإدراك الذي لا يحده زمن، حيث يتلاقى الموت والحياة، في وحدة لا فناء فيها، بل استمرار وخلود في رحاب العقل الأول. يقول المؤلف في سياق هذا البحث: إنّ الموت والولادة كما يدركهما معظم الناس هما حدثان متعلقان بالمكان والزمان، ولكن الوجود بمعناه الأساسي ليس كذلك، فالذاكرة، إذا أمعنا النظر فيها تفيدنا بأننا كنا دائماً موجودين، ولا أحد يتذكر غير ذلك. ويُبرِز الكتاب، أنّ أبحاث العلماء خلال السنوات القليلة الماضية أكدت أن الهرم والشيخوخة ومن ثم الموت ليست كما يمليها علينا المجتمع، حتميةً لا مناص منها، بل خاضعة لطاقة يستخدمها العقل بتأثيره في أوضاع الجسد وتغيير مساره من خلال حريةٍ وطاقةٍ تمكّنان هذا العقل من برمجة خلاياه وتوجيهها كما يريد، ويؤكد المؤلف أيضاً أن أجسادنا والعالم المادي من حولنا ليست إلا انعكاساً لما تعيه عقولنا في هذا الكون، فالعالم موجود، ونحن موجودون فيه، لأن تفكيرنا يدرك هذا الوجود، والعقل والجسد هما من مصدر خلاَّق واحد يسمى الحياة.

لذلك أيُّ تفاعل كيماوي في أجسادنا هو نتيجة للنشاطين العقلي والفكري اللذين نقوم بهما، لأن المعتقدات والآراء والانفعالات هي التي تُحدثُ هذا التفاعل الذي يزود كل خلية من خلايانا بالحيوية والنشاط، فالخلايا الهرمة في الجسم هي خلايا أخفق الوعي الفكري في أن يبقيها حيَّةً، فثمة دوافع ذكية تُحدثُ في أجسامنا تغييرات جديدة في كل لحظة، وما نحن في مجمل كياننا إلاَّ نتيجةً لتلك الدوافع والتغيرات، فإذا استطعنا أن نغير نمط تلك الدوافع في ضوء العقلانية والحكمة لتوصلنا إلى التغيير المفيد في نفوسنا وأجسادنا، فبالرغم من اختلاف بني البشر بعضهم عن بعض، هناك أنماط من الذكاء تجمعهم تحت مظلة واحدة، كون أجسادنا تتألف من أجزاء جسد كوني متكامل، وكذلك عقولنا هي أجزاء من عقل كوني مطلق هو الخلود نفسه.

تقسيم الزمن إلى أجزاء

قَسَّمَ بنو البشر الزمن إلى أجزاء أسموها (ثواني ودقائق، وساعات، وأياماً وأشهراً وسنين إلخ…) كانعكاس لمفهوم التغيير في مجتمعاتهم، فالزمن كما جاء في الكتاب، غير قابل للتجزئة، في إطار إدراكنا المطلق له، والتحرر من قيود الماضي، والحاضر والمستقبل، إذ تبقى (فيزيولوجية) البقاء السؤال الكبير ونجد استتباعاً في الكتاب أنّ المعرفة لدى البشر، هي حقيقة راهنة، تزداد باطراد مذهل، ينتج منها الارتفاع الكبير في متوسط أعمار الناس.

ويلفتنا الكاتب هنا، إلى ربط آرائه بنظرية «أنشتين» وغيرها من العلماء، وسرد تلك الحقائق على ضوء نظرية Quantum Physics التي تشكل قدراً مستقلاً عن الطاقة دون الذرة في حجمه، وأكدوا أن النظرة إلى العالم المادي من حولنا، هي نظرة غير دقيقة، وتختلف من إنسان إلى آخر، فإذا أخذنا بهذه الحقيقة على ضوء Quantum theory التي تعتبر في مضمونها أن الكائنات والكون من حولنا هي طاقة كهرومغناطسية، تتألف من جزئيات غير منظورة تسير بسرعة الضوء، وليس لها حجم، يصبح التقدم في السن، كما نفهمه مختلفاً تماماً، نظراً إلى طغيان الحواس الخمس على تفكيرنا.

نظرية أنشتين وزملائه

أنشتين وزملاؤه سلّطوا الضوء على نوع من الإدراك، هو أن الزمن ليس له بداية أو نهاية، وكذلك المكان ليس له أبعاد مجسَّمة، أي أن كل جزء مجسم في الكون ليس إلا حزمةً غير منظورة من الطاقة، تتذبذب في فراغ عظيم، النظرية القديمة بالنسبة إلى المكان والزمان حلّ محلها متسع غير محدد، «بزمان أو مكان» وهو دائم التغير. فـ Quantum physics ليس مفصولاً عنا، إنه نحن، وكما تتكون النجوم والمجرات، نحن بنو البشر نكون أنفسنا. جسم الإنسان ككل الأشياء في الكون يتجدد كل ثانية.

حواسنا ترينا أننا نحتل مكاناً وزماناً معينين، إنه أبعد من ذلك بكثير، إنه معجزة تمدها بالطاقة ملايين بل بلايين السنين من الذكاء كُرِّست لمراقبة التغير الدائم الذي يحدث في داخلنا، إذ إن كل خلية من خلايانا هي قطب صغير جداً، يتصل بكمبيوتر الكون غير المحدود (سبحان الله).
من هذا المنظور يصبح الإنسان قادراً على المحافظة على حصانته الجسدية، وتأخير شيخوخته. يولد الإنسان حيث تكون كل خلية من خلاياه التي تبلغ ألف بليون خلية خالية من الشوائب، فالطاقة دون الذرة التي تتألف منها تلك الخلايا القديمة جداً، تجوب الكون منذ زمن غير محدود يتجاوز بلايين وبلايين السنين وتستمر في ما لا نهاية تغيِّر نفسها لتصبح جديدة كل لحظة!

أجسادنا بدورها تخضع لهذا النبض الخلاق، ويقدر عدد التفاعلات التي تحدث في كل خلية من خلايا أجسامنا نحو ستة آلاف بليون كل ثانية، فإذا توقفت تلك التغيرات أو بعضها أو جميعها في آنٍ معاً تحدث فوضى ينجم عنها ما يسمى الشيخوخة.

إذن الشيخوخة لا تأتي إلا إذا توقف الجسد عن النمو والتغيّر. ما يود Chopra أن يقوله، هو أن الإنسان بإدراكه وتصميمه، يمكنه أن يحول العمليات الكيميائية التي تجري داخل جسده دون وعي منه إلى عمليات واعية تستنهض طاقاته النفسية والإدراكية لتشحذ غريزة حب البقاء لديه، وتحفِّز جهازه المناعي، لمقاومة المرض والشيخوخة، ويردف Chopra بالقول:

إنّ حياتنا تنتشر في حقول شاسعة من التجارب، إذ ليس هناك حدود للطاقة والمعرفة والذكاء المتراكمة في وجودنا، والمخزونة في خلايانا يعبر عنها العقل بكماله واحتضانه معاني وحقائق جديدة تتوق دائماً إلى خلقٍ مستمرٍ. فالفراغ في قلب الذرة هو جزء من رحم الكون المفعم بالمعاني حيث نسمة الحياة لا تتوقف.

كيف نضع حداً لطغيان الحواس

ويستطرد شوبرا هنا مرة أخرى بقوله: إننا نرى الأشياء حولنا بأبعادها الثلاثة، كما تمليها علينا حواسنا الخمس وبحسب هذا الإحساس والرؤية تظهر الأرض مسطحة، وثابتة، والشمس تشرق من الشرق وتغرب في الغرب، إلخ… أنشتين بدوره أضاف: إنّ الزمان والمكان هما من صنع الحواس الخمس، نحن نرى ونلمس الأشياء بأبعادها الثلاثة، ونعيش الأحداث حسب نظام زمني متتالٍ، ولكن أنشتين وزملاءه تمكنوا من نقض هذا المفهوم ليسلطوا الضوء على إدراك جديد، وهو أن الزمن ليس له بداية أو نهاية، (كما مر معنا في هذا البحث)، وكذلك المكان ليس له أبعاد مجسمة، أي أن كل جزء مجسم في الكون ما هو إلا حزمة خيالية من الطاقة تتذبذب في فراغ عظيم.

النظرية القديمة حول الزمان والمكان دحضت

يُعْلمنا Chopra أن النظرية القديمة بالنسبة إلى الزمان والمكان دُحضت، وحل محلّها متسع لا يحده زمن، وهو دائم التغيّر. فـ Quantum physics ليس مفصولاً عنّا، إنه نحن، وكما أن الطبيعة تكون النجوم والمجرات، كذلك نحن بنو البشر، نُكوِّنُ أنفسنا. فجسم الإنسان ككل الأشياء في الكون يتجدد كل ثانية. فبالرغم من أن حواسنا ترينا بأننا نحتل جسماً في مكان وزمان معينين، إنه أبعد من ذلك بكثير، إنّه معجزة تمدها بالقوة ملايين السنين من الذكاء. وهذا الذكاء مكرَّس لمراقبة التغيير الدائم في داخلنا، فكل خلية من خلايانا هي قطب صغير جداً يتصل بكمبيوتر الكون الشاسع، إذا جاز التعبير.

الطاقة الكونية لا تتوقف عن تغيير نفسها

من هذا المنظور تصبح الشيخوخة أمراً صعب الحدوث، فلو تمكن طفل حديث الولادة من الحفاظ على حصانته الجسدية، لأمكن له أن يعيش 200 سنة! إذ إن كل خلية من خلاياه التي تبلغ حوالي 50 ترليون (ألف بليون) خلية تكون نقية كقطرة ماء خالية من الشوائب، وليس هناك أي سبب لأن تشيخ إلّا إذا اعتراها ما يعكر صفاءها ووظائفها. إن خلايا الطفل الحديث الولادة ليست خلايا جديدة، فالذرات التي تتألف منها هذه الخلايا قديمة تجوب الكون منذ بلايين السنين أو منذ زمن غير محدود.

ومن المُدهش علمياً، كما في «الكتاب» أن نعرف أن البشرة، تستبدل نفسها كل شهر، وتلافيف المعدة كل خمسة أيام، وخلايا الكبد كل ستة أسابيع، والجهاز الهضمي كل ثلاثة أشهر. تظهر هذه الأعضاء للعين المجردة ثابتة كما هي، ولكنها ليست كذلك.

ففي نهاية هذه السنة 98% من الذرات والخلايا في أجسادنا تكون قد تغيَّرت، واستبدلت بأخرى جديدة. إنّ غاية القول في هذا الكتاب العلمي المدهش في وقائعه، واكتشافاته، أنه غير قابل للاختصار في مقالة واحدة، لقيمته التي لا تقدر، معنوياً، ومادياً، إلا بقراءته كاملاً، فهو في هذا، يتأكد للإنسان منا، أنه لا يمكن أن يعرف نفسه جيداً أو يعرف الحياة أو الكون من حوله إلّا بالمعرفة… المعرفة الكلية التي لا نتوطنها إلّا بالاستجرار الفكري الدائم، فالعرفان أساس كل شيء (سبحان الله).

صورةُ الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله،

بعضُ أهميَّة كتابات السيد بحر العلوم هو ما تمتع به من غنى موسوعي لجهة المادة، والتوثيق الدقيق لجهة المصادر والمراجع، والعَود باستمرار للوقائع والشواهد منهجاً في دعم نتائجه واستنتاجاته. هذا في كتابات السيّد بحر العلوم عموماً، فكيف إذا كان الموضوع سيرة الخليفة الفاطمي السادس، الحاكم بأمر الله، بل صورته التي تناقلتها المُدوَّنات التاريخية.

ولا يَخفى القارئ التحامل والتجنّي اللّذين تعرضت لهما سيرة الحاكم وصورته، من عدد من الكتّاب غير، إمّا لدواعٍ أيديولوجية صريحة، أو نقلاً عن روايات مختلقة اختلط فيها الخبر بالأسطورة، والحقيقة بالخيال. وبعض الصورة التي رُسمت للخليفة الحاكم بأمر الله، قسوته في الأحكام، بل دمويَّته، والتناقض في قراراته.

يفنّد السيّد بحر العلوم في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ الدولة الفاطمية» المزاعم تلك جملة وتفصيلاً، ويعيد إظهار سيرة الحاكم الحقيقية، كما كانت في الواقع، نقلاً عن عشرات المصادر والمدوّنات التاريخية: « ….أقف إزاءها بنِظرة عالية فيها من الدقة والتفكير، بالسَّير الاجتماعي الأخلاقي ما يجعلني أُكبِر هذا الرجل وأبعده عن اتهامات الكتّاب». (ص 182)

وضعت وفاة والد الحاكم، الخليفة العزيز، المبَكِّرة الفتى في موقع الخليفة وهو يافع السن لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر. لكن الأمر لم يطُل بالفتى حتى أظهر معدنه المتميّز، فتخلّص من قادته الأقربين الفاسدين، ابن عمّار وبرجوان، المتشاحنَين المتطاحنَين على الدوام.

أمسك الشاب اليافع ذو الشخصية الجبّارة، على ما يصفه المؤلف، بناصية الخلافة لثلاثة عقود، مُصلحاً شؤون الدولة ومُندَرجاتها ودوواينها، وباعثاً لسياسة جديدة تخفف عن كاهل مواطني الدولة الأعباء الضريبية حتى الحدّ الأدنى، ومختطّاً لسياسات كانت الأكثر عدلاً، وكأفضل ما يكون عليه الإصلاح، وتكون عليه السياسات على الإطلاق، جالباً من خلالها الأمن والأمان والعدالة لأرجاء الدولة، وضارباً في الوقت نفسه بيد من حديد على أيدي الفاسدين والمحتكرين والمتّجرين بقوت الناس.

يسهب المؤلف في تفاصيل الصعوبات العملية التي واجهها شاب يدير دولة معقدة، وتضم قادةً شرسين وخلفهم قبائل وجيوش؛ لكن الشاب وعلى توقُّع أنجز ما لم يكن بالحسبان. ففي خلال ثلاث سنوات لا أكثر بدت الدولة الفاطمية في ذروة قوتها، وبدت دولة الحاكم بأمر الله، لا دولة سواه، يشرف على الصغيرة قبل الكبيرة فيها، ويتابع القضايا والمسائل الشائكة، يحضر «المجلس الوزاري»، ويكون صاحب الرأي الأخير في كيفية تدبير المملكة. ويعلّق المؤلف على ذلك:

«من الممكن أن تكون قابليته كَيفّته لأن يكون شاباً مثالياً يؤْثر العمل المُتعب، ويعاني الإجهاد المُضني في سبيل مصلحة بلاده حتى أنه أبدى نشاطاً مدهشاً في مجاله، فهو لم ينغمس في اللذة وينهمك في اللهو واللعب كما هو شأن أمثاله من الشبّان ممّن تسنّى لهم هذا المركز، وأتيحت له هذه المكانة، وإنّ حياة العبث والمجون لم تتمكن من الوصول إليه فلم نلمس عنده جانباً ليّناً وميلاً نفسياً، وإنما كان منكبّاً على عمله في تدبير دولته يواصل ليله بنهاره.» (ص 201-202)

في صفات الخليفة الفاطمي الشاب، الحاكم بأمر الله، ينقل المؤلّف عن مؤرّخين معاصرين لحقبة الحاكم الميزات غير الاعتيادية التي كانت له، في هيئته الجسدية، وفي طباعه وخصاله، كما في طبيعة الحكم الذي مارسه لنحو من ثلاثين سنة.

ينقل السيد بحر العلوم عن المؤرخ الأنطاكي (تاريخ الأنطاكي) قوله:
«وأظهر – أي الحاكم – من العدل ما لم يُسمع بمثله، ولعمري إن أهل مملكته لم يزالوا في أيامه آمنين على أموالهم… مطمئنين على نفوسهم، ولم تمتد يده قط إلى أخذ مالٍ من أحد، بل كان له جود عظيم، وعطايا جزيلة، وصلات واسعة…. وأسقط جميع الرسوم والمكوس التي جرت العادة بأخذها، وتقدم إلى كل من قبض منه شيء من العقار والأملاك بغير واجب أو في مصادرة في أيامه وأيام أبيه وجدّه أن يُطلق له ما قُبض منه.» (ص206)

ويورد عن الكاتب عبدالله عنان:
«والخلاصة أنَّ الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الساذجة ولا تلك العقلية المُخرِّفة التي تُقدِّمها لنا الرواة، ولم تكن أعماله وأحكامه كما صُوِّرت على كرّ العصور….وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهناً بعيد الغَور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقريّة يجب أن تتبوّأ في التاريخ مكانها الحق.»(ص 209)

أمّا في سخائه وكرمه، فيكتب السيّد بحر العلوم:
«ولعل هذه الصفة العالية إحدى الخلال الرفيعة التي كان يتحلّى بها هذا الخليفة، فهو بخلاف غيره من الخلفاء لم تهشّ نفسه للمال أو يهتم لجمعه، رغم وفرته عنده ويسرته لديه. ولقد أجمعت الروايات على اختلاف نزعاتها وأهوائها على جوده وسخائه فلم يحسب له (المال) حساباً ولم يقم له أي وزن، فقد زهد بالمادة وبعُد عن بهرجتها وزينتها، وكان لدى الخزانة الخاصة بالدولة الفاطمية الشيء الغزير من التُّحف والمال والنوادر مما يدل على ثروتها الطائلة الأمر الذي ترك المؤرخين يدونون الكثير عن هذا الموضوع وتكدّس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجلّ قدره ووصفه. غير أن هذا الخليفة الصلب لم يعبأ بكل هذه الثروة الطائلة، ولم يغرق بذلك البذخ المُسرف وإنما كان مثال السخاء والكرم….. «وما زال التاريخ يروي مثلاً مشاهد السنين التي شحّ فيها ماء النيل وكيف كان الحاكم يقف وسط شعبه مستجيباً لكل رجاء، دائب السعي لدفع ويلات المجاعة» (ص 210-211، الاقتباس الأخير عن دائرة المعارف الإسلامية، مجلَّد 7، ص 269-270).

هذا قليل مما أورده العلاّمة الدكتور محمّد بحر العلوم في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ الدولة الفاطمية» من صورة الحاكم بأمر الله وخِلالِه وصفاته المضيئة، أمّا ما يَعلق بتلك الصورة من تجنٍّ فيردّه المؤلف إما لرغبة الرواة المعروفة بنسج الأساطير، أو لجهل بالوقائع، أو حتى «للعصبية (دفعتهم) للطعن بهذه الشخصية الجبّارة» (ص 215) وفي أسباب التحامل والتجني أيضاً، ينقل المؤلف عن دائرة المعارف الإسلامية قولها في الذين تأثروا بروح «التعصب» حتى «أنهم لم يقدِّروا هذه الشخصية الفذّة في نهجها، وعدُّوْه حاكماً متعطِّشاً للدماء، وبادروا فنسجوا حول شخصيته سلسلة من الأقاصيص السخيفة التي ما تزال تفتقر إلى تمحيص دقيق…. فمن البيّن أنَّ كثيراً من النظم التي سنّها واشتدّ الناس في ذمّها قد رمى بها إلى كبح جماح الفساد الذي تردّى فيه شعبه وقد ضرب لهم مثلاً رائعاً بسلوكه الذي لا تشوبه شائبة» (دائرة المعارف الإسلامية، مجلد 7، ص 269).

كتاب “تحدّي تجديد العروبة”

هو عنوان لمؤتمر نظّمه «النادي الثقافي العربي». بين 4 و5 تشرين الأول أكتوبر 2019 في فندق البرستول، بيروت. شارك فيه اثنان وعشرون مفكراً ومثقفاً لبنانياً وعربيا وقُسِّمَ إلى خمس جلسات: الجلسة الأولى حملت عنوان: «العروبة من الحاضر إلى المستقبل»، والثانية الثقافة والهوية. والثالثة: «التجديد اللغوي» والرابعة: «العرب والعالم» والخامسة والأخيرة: «العرب والاقتصاد». كانت المناقشات والتحليلات التي أسهم بها المنتدون في غير زاوية من أهداف المؤتمر، ذات مستوى فكري ونقدي عاليين إزاء الواقع والمستقبل العربيين رأت غير ورقة وجوب تشييد نظرة موضوعية ونقدية إلى التجارب التي خاضتها وعاشتها العروبة على امتداد عقود من الزمن، لقد دفعت البلدان العربية أثماناً باهظة، ومع ذلك لم تتحقق الوحدة ولا حصل العالم العربي على حريته، ولم يحصل سوى إخفاق التجارب المختلفة المنهجيات، وأثبتت أن مشكلات العالم العربي واحدة، والقضايا التي تشغله واحدة، والقوى التي تناهض تحرره وتقدمه واحدة. وفي الوقت الذي تزداد الضغوط الخارجية والإخفاقات الداخلية يصبح التحدي الأكبر أمام العرب. هو كيف يصوغون فكرة عربية تعددية وديموقراطية، مبنية على مبادئ حرية الفرد في عمله ومعتقده وحقه في الكرامة والعلم والعمل.

ومع هذا تبقى في الزمن الحاضر، إشكاليات العلاقة بين العروبة والإسلام، التي يقف الإسلام السياسي والعقائدي منها عقبة كأداء أمام تحقيق القومية العربية، فجاءت الدعوة إلى «تحدي تجديد العروبة» في موقعها وأوانها على أننا ننصح ألّا يكتفي القاري العزيز بهذه الخلاصة منا بل بمطالعة الكتاب ومختلف الأفكار التي طُرحت فيه للنهوض العام من الواقع البائس الراهن، للعروبة. هل تقوى العروبة على تجديد ذاتها؟ مسألة ربما تبدو من المستحيلات، ولكن لعلّ وعسى.

إضاءاتٌ ملوّنة على فكر جورج شامي

كتاب وضعته بتمكن الإعلامية كلود أبو شقرا مجازة في الصحافة ووكالات الأنباء – كلية الإعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية، حاولت أن تلجَ فيه عالم جورج شامي الصحافي والروائي والمفكر الإنساني، الممتد عبر عقود من السنين، هي عمره، البالغ تسعون عاماً، وأن تدخل «رحاباً» تنبض حجارتها كما تقول: «بحياة محورها: قلم وألم»، يردّد الزمان في حناياها قصصاً وروايات ومواقف ومتاعب، تذخر بثقافة واسعة رائعة، وإبداع يتحدى ويتجدد بجمعه صنوف الحياة بحلوها ومرها، وصياغتها مشاهد ولوحات ملونة، لكل واحدة خصوصيتها الجاذبة والمؤثرة في هذا العالم الذي يصح أن نطلق عليه عالماً شمولياً، تمتزج فيه الأصالة بالحداثة، وتبرز شخصية أديب وإنسان عاش تجارب كثيرة بأبعادها المختلفة. صنع أدبه بقناعته هو، بإرادته هو، وبإيمانه المتأصّل بالحرية وبرفضه الارتهان…

إنها رحلة في حياة مفكّر كبير، شق مسار تعلّمه – من فقر مدقع – بإرادة صلبة وطموح متوثب متدرّج فبلغ أعلى المراتب العلمية، شهادة الدكتوراه في الإعلام، وكُرْسِي الأستاذية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية… تقرأ سيرة حياته كما في هذا الكتاب، فتقع على نموذج من كفاح ونضال طويلين على المستويين الشخصي والوطني قلما تجده عند غيره من الكتاب، والصحافيين من استقلال في الرأي والثبات على المبدأ، كما نراه لاحقاً في حياته وتقلباتها العملية وما دار فيها من حوادث وأحداث وأشخاص وشخصيات عرفها وقاربها، وصحف تعامل معها وهي بالعشرات، لبنانية وعربية، ودور نشر، طبعت أعماله القصصية ومقالاته ودراساته الأدبية التي بلغت الآلاف، وفي مجمل مضمونها وتفاصيلها هي عبارة عن تأريخ غير مباشر لحقبة سبعين سنة أو يزيد ممّا مر بلبنان… الدكتور جورج شامي يرى من معين خبرته في المسألة اللبنانية، أن لبنان ليكون أفضل يجب أن تزول الطائفية منه، وحين تزول الطائفية يزول الميثاق، وحين يزول الميثاق تزول شعارات الاتحاد الوطني، عندها يقفل الكثير من دكاكين الشعوذة السياسية فيتمكن عند اللبنانيين الولاء للبنان ويصبح بالتالي ولاءً مباشراً غير مرهون بولاء الطائفة أو بولاء دول خارجية تستعمله أو تحركه. إنه كتاب مفيد ومثقِّف، يُقرأ ويُحتفظ به.

 

لبنان في مِئة عام أفكارٌ وتجارب

 

كتاب هدف إلى مراجعة التجربة اللبنانية خلال مئة سنة التي انقضت إلى الآن (1920 – 2020) التي تساوي بالمعنى السياسي عمر «لبنان الكبير»، أي الجمهورية اللبنانية الحالية، بكل إيجابياته وسلبياته، من خلال رجال اختصاص ناقشوا هذه التجربة، من أبواب التاريخ والسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الإقليمية والدولية، وقدم هؤلاء أوراقاً بحثية، عكست تجربتهم الشخصية أو الفكرية أو العلمية، وغير ذلك من التجارب والاتجاهات المنوعة من الفكر والسياسة، وقد اختار كل باحث، كما ظهر، من الأوراق، موضوعه وأسلوبه، فاتسمت هذه المساهمات بالحيوية، والغنى والتعبير الحر.

سبعة عشر مفكّراً وباحثاً مرموقاً كانت مساهماتهم أقرب إلى الأبحاث العلمية، ولا سيما تلك التي ناقشت القانون، والاجتماع والسياسة، والفلسفة، وأخرى كانت أقرب إلى المعالجات النظرية التي بحثت في المواطنة والاجتماع اللبناني والتعايش… كان ثمة تباين في القراءات، وهو الأمر الذي أراده هذا الكتاب لإظهار التنوع في الرؤى والمقاربات بين اللبنانيين، إلّا أنّ كل المساهمين عبروا، بالنتيجة، عن إيمانهم بأن هذا البلد هو حقيقة واقعة، لم تنقص، كما يقول: الكاتب خالد زيادة، التجارب والصراعات منها شيئاً، بل لعل التجارب، سلبية أو إيجابية قد كرست لبنان حاجة لبنيه، وحاجة من محيطه إليه.

وإن يكن الكتاب قد أغفل بعض الجوانب، كالاقتصاد، أو دور لبنان الثقافي أو غيرهما اللذين يميزان لبنان وتجربته المئوية… إنّه كتاب غني كثيراً بما حوى من حقائق وما عكس من أضواء على لبنان الراهن، وسبل علاج الأزمات فيه.

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

د.نجوى حسيكي العنداري

لعلّ أعظمَ ما في الوجود، وأخطرَ ما في الوجود، وأجملَ ما في الوجود: الكلمة!
فلنتّقِ الله في الكلمة.
جميعنا يتعطّشُ للكلمةِ الجميلة، والكلمةِ الصافية، والكلمةِ التي ترقى بنا إلى مصافِّ السّببِ الذي كنّا لأجلِهِ على هذه البسيطة… ولعلّ مَكارم من الرّجالاتِ القلائلِ الّذين بذلوا الكثيرَ، فهو اجتهدَ في استثمارِ ما حباهُ الله من قدراتٍ في سبيلِ ما أسماه «تحقيق الكمال الأخص»، والمجتهدُ له الأجرُ سواءَ أخطأ أم أصاب… تبقى النوايا وراء القصد، وتبقى الوِقفةُ الصّادقة أمام النّفس خيرَ مُعين …

وللأمانة، لا تسعُنا بضع كلمات للتعبير عمّا كان فيه سامي مكارم مُجَلّيًا، وهو العرفانيّ والفنّان والشاعر والأستاذ والمفيد وهو الّذي عشق الحرف وعشق الكلمة وسافر فيها وبها ومعها ولها … وما زلت أذكرُه يوم بارك لي العمل قبل رحيلِه، وبدأت مسيرة بحثي، وكان نتاجه «الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم» … لسنا بصدد تكريمِه فهو لا يحتاج لذلك، لكنّنا بحاجة أن نكرّمَ الخيرَ فينا كلٌّ من حيثِه، وكلٌّ من منطلقِه.
في هذا السّياق تتأسّس فكرةُ معرفتنا لمنبعِ آلامِنا، وأُسِّ أحزانِنا، وأصلِ سعادتِنا، ومُنطلقِ حرّيتِنا، تتأسسُ معرفةُ الإنسان لنفسه! ولعلّ هذه الفكرةَ، مع كثرةِ المفكّرين والمتنوّرين الذين تناولوها، تبقى تحمُلُ فرادةَ كلِّ نفسٍ، بما فيها من خصوصيّةٍ وجمالٍ. من هذا المنطلقِ، كان هذا الكتابُ الموسومُ بـ»الرؤية العرفانيّة في فكر سامي مكارم». وهو كتابٌ أُعِدَّ ليكونَ أطروحةَ دكتوراه، وقد تمَّ تلخيصُ بعض أقسامِه والتعديلُ عليها ليصبحَ مناسبًا لكلِّ قارئٍ مثقّفٍ، وليس حصرًا بالمتخصّصين.

ولتقديم لمحة عنه نتساءل:
ما انعكاسُ التجربةِ العرفانيّةِ على الواقعِ المُعاشِ حسب مكارم؟ أيمكن اختزالُها بالقول إنّها عيشُ حالٍ من الصفاءِ والطهرِ، في عالمٍ مترفّعٍ عن الماديّات؟ أم إنّه إشراكُ العرفان بنبض الحياة اليوميّة؟ ما الخصوصيّة التي ميّزت الرؤية العِرفانيّة في تجربة سامي مكارم، من ناحيةِ الأخلاقِ والدينِ والتصوّفِ؟ هل يتّصلُ، بحسب تجربةِ مكارم، العالمُ الأكبرُ – الله وعللُ الكائنات- بالعالمِ الأصغر – الإنسان، فيشكّلان عالمَ الوحدة؟ وهل انفصلا حتّى يتّصلا؟ وبأيٍّ من العالَمين يتحدّدُ موقعُ الضدِّ أو إبليس في هذه المعادلة؟ ومن ثمّ أينتفي دورُهُ؟ أم يُسَخَّر للخدمة؟ وما الذروةُ الروحيّةُ التي يصلُها الإنسانُ؟ وهل هي واحدةٌ أم أكثر؟ أم يتوقّفُ الأمرَ على قدرةِ الإنسان نفسه؟ وإلى أين وصل مكارم في تجربتِه ورؤيته؟
وبعد، ما هي أبرز المشاربِ الفكريّة التي استقى منها مكارم حتّى كوّنَ رؤيتَه العرفانية؟ وكيف تجلّى الإله الخفي في تجربتِه؟ وما هي النظريّةُ الأساسيّة التي انبنت عليها رؤيتُه؟ وهل قدّمت رؤيته في مختلف زواياها فرادةً وخصوصيّة أم كانت في بعضِها انتقاءٌ لما يتلاءمُ مع بعض الثوابتِ أو امتدادٌ لرؤيةٍ ما؟ هل هناك جوانبُ متناقضةٌ في تجربتِهِ؟
هذه الأسئلةُ وغيرُها تمَّت الإجابةُ عنها في هذا الكتاب الذي استُهلّ بمدخلٍ قدّم العرفان ومصدريّته ومعراج الترقّي ونهج المساررة، كما ألمحنا إلى أبرز مدارسه، وذلك من منظور التمايز والخصوصيّة. وفي الأبواب السّتّة تدرّجنا من دراسة رؤية مكارم للبنى الاجتماعيّة ثم رؤيته للبنى الأخلاقيّة، بعد ذلك درسنا رؤيته للعالم الأصغر – الإنسان، ثمّ تتبّعنا رؤيته للعالم الأكبر، ما سنح باستنباط رؤيته المعرفيّة للوحدة، بعد ذلك تجلّت رؤيته للثورة وصولا إلى كيفيّة تحقيق الإصلاح المؤدّي إلى تحقيق المدينة الفاضلة.

نضيف إلى ذلك ما قدّمته الدراسة في مجال تحديد الإله الخفيّ في فكر مكارم، والمشارب الفكريّة التي غذّت تجربته، والعرفان النظري العملي الذي تبلور في تحقيق الكمال الأخصّ، كذلك تحديد خلاصة الوعي الممكن وهو البراءة من الأنويّة، بالإضافة الى الجوانب المتناقضة لديه، زِد إلى ذلك ملحق معجم الرّموز الذي أظهر فرادة تجربة مكارم، وغيره ممّا لا يتّسع المجال هنا للحديث عنه.
ختامًا، يبقى للكلمة وقعها حسب تربة كلّ نفسٍ وحسب صفاء توقِها وقوّة شوقها وحثيث سعيها.

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

د.عبد الله سعيد (2)

يقول مثل قديم، ثلاثةٌ لا يموتون أبداً: واحدٌ زرع شجرةً، وواحدٌ خلّف ولداً، وشخصٌ ألّف كتاباً. من هذا المنطلق أحيا المؤلفان الماضي الريفي، عبر قرية بشتفين، بكل تفاصيله؛ الزراعية والحرفية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حتى الدقيقة منها. فتُعجب لسير أحداث وحياة بلدة ريفية منسية في جبل لبنان تقع على كتف جسر القاضي الأثري، ووادي نهر الدامور، كعقدة مواصلات هامة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
إنّ الكتابة في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي، تعني أنك تؤرخ لصالح وحدة المجتمع بكل عناصره وفئاته، وبكل تفاعلاته الجغرافية والحضارية والسياسية والنفسية والثقافية. وتعني أنّك أخذت جانب منهج التأريخ العلمي الذي يرصد حراك المجتمعات البشرية وفقاً لقوانين تطورها الطبيعية بمعزل عن ميول ونزعات الباحثين والدارسين… فالتاريخ الاجتماعي الاقتصادي هو تأريخ توحيدي تطوّري، بينما التأريخ السياسي الطوائفي، هو تأريخ تفتيتي تصادمي يحمل، غالباً، في طياته بذور الإقتتال والضغينة.
إن ما قام به المؤلفان هو قمة الإلتزام بمنهج البحث التاريخي العلمي للتاريخ الاجتماعي من حيث العودة إلى الوثيقة الأصلية والمقابلات الشفوية الحيّة المعاصرة للحدث، التي لا تقلّ أهمية عن الوثيقة المكتوبة في القراءة العلمية للتاريخ وأحداثه… كما أنهما قاما بالمهمة التأريخية بأفضل ما يكون من حيث ربط الجغرافية بالتاريخ، واتباع التسلسل التاريخي السليم في كل فرع من فروع التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والإداري لبلدة بشتفين.
إنه كتابٌ يسجّل تاريخ كل شخص في القرية صغيراً كان أم كهلاً أو شيخاً، شاباً أو فتاة أو إمرأة، عاملاً أم تاجراً أم شاعراً وأديباً وموظفاً وضابطاً، أم سفيراً أو مدرساً ومدرّسة، وطالباً وطالبة. ويخصص حيزاً هاماً لمكانة المرأة البشتفينية في الأسرة والمنزل والعمل الزراعي والحرفي والصناعي، والتعليم والتمريض والطب والوظيفة الخاصة والعامة، إلى جانب ممارستها حق الملكية الخاصة وتصرّفها الحر بحيازتها الشخصية بيعاً وشراءً وإرثاً.
من هنا، فالكتاب هو كناية عن دراسة ميدانية، ومسحٍ اجتماعي اقتصادي كاملٍ لقرية بشتفين الشوفية كمحاولة جريئة لالتقاط صورة حية للقرية اللبنانية المكافحة في صمودها أمام غضب الطبيعة، وإهمال السلطات المتعاقبة منذ عهد المتصرفية حتى الآن. فالكتاب أشبه بلوحة فنيّة بيانيّة لطبيعة ومعالم بشتفين الجغرافية وأراضيها الزراعية والمشاعية والحرجية وينابيعها ومياهها، وأحياءِها وطرقاتها المنبسطة والوعرة.
إنّه دراسة علميّة قيّمة لسكّانها وتحركاتهم ونشاطهم، ولمؤسساتهم الإدارية المحلية من شيخ الصلح والمختار إلى رئيس البلدية وأعمال المجالس البلدية المتعاقبة. كما أساليب أعمالهم الزراعية، والمهنية والصناعية، وتحرّكاتهم السكانية المحليّة والاغترابية، ونشاطاتهم الثقافية والأدبية والحزبية والكشفية.
فهكذا خلّد المؤلفان من خلال كتابهما هذا، بلدة بشتفين، حيث يمكن لكل شخص فيها أو قريب من أهلها، أن يعتزّ بصدور هكذا كتاب خالداً أبداً عن قريته، فهو طال الجميع بدون استثناء من خلال الحديث عن مجمل نشاطات القرية، وانضواء معظم أهاليها أفراداً وجماعات في تلك النشاطات.
وأخيراً، إن كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»، لا يمكنه أن يشيخَ أو يموت، فهو يصلحُ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلّ عصرٍ أو جيلٍ جديد يريد الإطّلاع على تراث الأجداد وأنماطِ معيشتهم السابقة، وتطوّر ثقافتهم في الوجود والحياة، والعمل والتفكير. إنه حقاً كتابٌ يُقرأ بإمعان، وفي كل مرة تقرأه تستفيد من معلوماته وكأنك تقرأه للمرّة الأولى.


المراجع:

1. مداخلة أُلقيت بمناسبة حفل توقيع كتاب “بشتفين في صفحات من تاريخها” في دار بلدة بشتفين بتاريخ 18/9/2020.
2. أستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية وعميد سابق لكلية السياحة فيها، له مجموعة مؤلفات وأبحاث في التاريخ الريفي الاقتصادي والاجتماعي.

جمال الدين جنبلاط، تاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي، 1185-1977

النّوع: باب التاريخ، الوسيط والحديث.
كتاب ضخم لجهة الحجم (ثمانية عشر فصلاً في 848 صفحة من القطع الكبير).
هو بالغ الأهمية لجهة المحتوى، إذ يغطي تاريخ أُسرة معروفيّة عريقة لعبت دون انقطاع أدواراً حاسمة، في شمال العراق، وجنوب غرب تركيا، وشمال سوريا، واستقرّت أخيراً في جبال الشوف اللبنانية بدءاً من القرن السابع عشر، ولتتحوّل ولأكثر من ثلاثمئة سنة دون انقطاع حجر الرّحى في الأحداث السياسية والتاريخية المتصلة بجبل لبنان، وربما بلبنان عموماً أيضاً. لم يسبق لي، في حدود معرفتي، أن توفّر للمكتبة العربية أيُّ مرجع تاريخي تمكّن من الإحاطة الشاملة بتاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي لفترات تاريخية امتدت لثمانية قرون (منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي إلى نهاية القرن العشرين الميلادي).
وإلى وَجْهَي الأهميّة أعلاه، اتَّسم عمل المؤلف، الباحث التاريخي جمال الدين جنبلاط، بالحِرَفية البحثية الواضحة، لجهة الإسناد المرجعي الشامل، من الوثائق والمصادر التي تُعْتَبَر من الدرجة الأولى، من الأرشيف العثماني في اسطنبول إلى مكتبات مهمّة أخرى، إلى الموضوعية والدقة في متابعة المعطيات والأحداث، إلى اللغة الباردة في نقل الأحداث أو مقاربة مكوّناتها المختلفة، (وعلى سبيل المثال، فقد غطّت مكتبة البحث والملاحق والخرائط والصور التوضيحية أكثر من 50 صفحة ختامية من الكتاب).

ميزة أخرى لافتة في عمل جمال الدين جنبلاط الضخم هي عدم أخذه (وكما يجب أن يفعل كل مؤرِّخ مدقّق وفق نصائح إبن خلدون) بسيل المعطيات التي تَرِدُه كما هي من دون تمحيص ومقارنة. إنّ قارئ الكتاب ليلفته حقاً أمران – بين أمور أُخرى كثيرة – الأوّل، تلك المروحة الواسعة جداً من المصادر والوثائق القديمة والحديثة التي أتيح للمؤلف أن يصل إليها، ولا أظن عملاً آخر في الموضوع أبداً أتيح له ذلك، والثاني، تعامله العلمي بل المحايد إلى حد كبير مع ما تضمنته المصادر والوثائق تلك من روايات ومعطيات ومعلومات، إذ إنّه أَعمل عقله البحثي النقدي في غربلة الروايات والأخبار، مقارناً بعضها بالبعض الآخر، وبسواها من مصادر معرفية، مُسْقطاً ما لا ينسجم مع ما هو مستقر وعليه إجماع من معطيات، ومفضِّلاً حين لا تكون الأمور بالوضوح البحثي ذاك إحالة الرواية إلى المزيد من التدقيق، بل وتعليق حكمه أحياناً. اتساع مروحة المصادر والمراجع والوثائق على نحو كبير جداً، من أكثر من بيئة ثقافية ومعرفية، وتدعيمها أحياناً بمشاهدات عيانية لأمكنة الأحداث في كردستان وتركيا وقبرص ولبنان وسواها، يجعل العمل وثيقة لا تُقَدّر بثمن، ومن النوع العلمي والبحثي الذي يصعب غالباً الحصول عليه.
تتوزّع فصول الكتاب على أبواب ثلاثة: الأوّل، بدايات التمركز الجغرافي للأسرة الجنبلاطية في الهكاري والعمادية؛ الثاني، الجنبلاطيون حكّام كيليس وحلب؛ والثالث، دور الأسرة الجنبلاطية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر – وهو الأضخم لناحية الحجم إذ يقع الباب هذا في 500 صفحة تقريباً.
لا يغيب عن البال بالتأكيد أن العمل هذا هو ثَبْتٌ عائليٌّ – كما يظهر صراحة من العنوان – أي تاريخ الأسرة الجنبلاطية، وأعلامها البارزة، والوقائع الأكثر أهمية التي انخرطت فيها طيلة ثمانمئة عام؛ وعلى نحو لن يتمكن من إنجازه كما أعتقد أيُّ مؤرِّخ آخر من خارج الإطار العائلي والثقافي الذي أتيح للمؤلف. وعليه، يجب أن لا يتوقّع القارئ مباحث تاريخيّة شاملة للعصور التي تضمنتها الحقب الطويلة تلك: لجهة السياق التاريخي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العمراني، أو العلمي والثقافي وما شابه. ربما يَرِدُ بعضٌ من ذلك في سياق التأريخ لهذا العَلَم الجنبلاطي أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، ولكن من دون أن يخرجنا الأمر عن سياق الكتاب الأصلي وهو التأريخ للأسرة الجنبلاطية السياسي حصراً – وقد أحصيت على وجه تقريبي ورود توثيق تاريخي لأكثر من 30 عَلَماً جنبلاطيّاً سياسيّاً لعبوا أدواراً بارزة من حكم الهكاري والعماديّة إلى حلب وحمص وحماه والساحل وقبل أن تبدأ مرحلة تاريخ الأسرة الجنبلاطية في جبال الشوف اللبنانية. وأقول، مرّةً أخرى، إنّ ذلك لم يكن ليتاح لأكثر المؤرخين خبرة لو لم يكن الباحث من داخل الأسرة الجنبلاطية والمُناخ المعرفي والثقافي تحديداً – أي امتداداً لتراث رشيد جنبلاط – والد المؤلف – صاحب السيرة البارزة بأهمية حدثانها ومتابعته السياسية اللّصيقة. والراوي الضمني أحياناً، على نحو أو آخر.

جمال الدين جنبلاط

ليس سهلاً اختصار 800 صفحة في 800 كلمة، وعليه أترك للقارئ بل أنصحه أن يقرأ بإمعان هذا السفر التاريخي الممتاز، لطوفان من المعلومات التي لم نكن نعرفها، وللتوثيق العلمي الدقيق، الذي يعطي العمل المكانة العلميّة التي يستحقها. وعليه، أختم هذه المراجعة السريعة بما بدأ به المؤلف من مقدمات، كتب:

«لا أنكر أن اختياري لتاريخ الأسرة الجنبلاطية، موضوعاً للدراسة، كان استجابة لهوى في النفس. ولا أنكر أيضاً أن ذلك الهوى وليد عصبية لا وليد تعصّب….حين كنت أستمع وأنا في مقتبل العمر إلى ما رواه المرحوم والدي وآخرون من أفراد عائلتي، كانت تنتابني مشاعر شتّى يتداخل فيها الفرح والاعتزاز والخوف والدهشة والفضول المعرفي الذي كان له بعض الأثر في التخصص الجامعي واختياري لمادة التاريخ. أذهلني وأنا أطّلع على تاريخ الأسرة الجنبلاطية ما أدّته من أدوار كان لها تأثيرها في منطقة الشرق الأدنى على مدى قرون عدّة. وهي أدوار يمكن ربطها بجملة من العوامل أهمُّها: بروز زعماء ذوي قدرات هائلة أنجبتهم تلك الأسرة والتلازم الدائم بين السياسة والحرب، امتياز الدروز بكونهم طائفة محاربة، واستمرارية الزعامة الجنبلاطية باعتبارها ملازمة للكيانية التوحيدية الدرزية، المتغيرات السياسية والعسكرية الناتجة عن الأحداث التي عصفت بمنطقة الشرق الأدنى….وهنا يبرز تساؤل منهجي: ما الجديد في هذا المؤلَّف على صعيد التأريخ للأسرة الجنبلاطية؟ ذلك أنّ الدراسات السابقة اقتصر كل منها على دراسة شخصية واحدة من شخصيات تلك الأسرة كالدراسات التي تناولت كلاً من الشيخ بشير قاسم جنبلاط وسعيد بك جنبلاط والمعلّم كمال جنبلاط…. أمّا هذا المؤلَّف فإنه يضمّ بين دفتيه دراسة جامعة شاملة للأسرة الجنبلاطية وزعمائها منذ مهد عهدها بالحكم… ليست الدراسة سجّلاً لأحداث وسيراً لأشخاص على الرّغم من كون ذلك يشكل بعضاً من جوانبها. بل هي مرآة تعكس الواقع بكل جوانبه من خلال تصويره ونقله نقلاً لا تفوته التفاصيل والجزئيات المتعلّقة بالحياة اليومية…..يمكن القول إنَّ هذا المؤلف يشكل مرجعية وحيدة من حيث طبيعته ومادته وموضوعه، هي خطوة أولى يؤمل أن تكملها وتعقبها على هذا الصعيد خطوات لاحقة يخطوها ذوو الباع الطويل من الباحثين والمؤرخين…..» (من مقدمة العمل، ص 7-12)

هكذا يفتتح جمال الدين جنبلاط ثَبْتَهُ التاريخيّ المميّز، مرجعاً ثرّاً لا غنى عنه لفهم تعقيدات السياسة والحرب في لبنان والمنطقة.

طارق آل ناصر الدين

الشعرُ حياةٌ لحياة، ظِلٌ أزليٌّ يحمي شمس الرؤيا، ويحوِّل صحراء اللغة إلى واحات. هكذا تحت عنوان: أنا والشعر، في مُقَدَّمة كتاب: «شهاداتٌ فيه ومختاراتٌ من شعره» كتب الشاعر طارق آل ناصر الدين مُفصحاً عن ذاته الأدبية بصدق، بما لا يستطيع غيره إدراكه أو التعبير عنه بنقاء «لم يجدني الشعر ضالاً فهداني أو يتيماً فآوى، بل كان قَدري أن أُولد في (بيت الشعر).. والدي نديم الأديب، والعالم اللُّغَوي، والجدّ أمين من كبار شعراء النهضة وعلمائها، ربياني طفلاً وزرعا في طفولتي جناحين: العربية والعروبة»: شاعر غزير الإنتاج، يكتب الشعر بجميع أنواعه الموزونة والحرّة، ويكتب المحكية، والزجل والنثر، إلّا أنه كان يربأ بنفسه في آن تقديم تنازل لشاعر أو رشوةٍ لناقدٍ أو هوية جديدة لمحتل. كان يرى أن الشاعر لا يستطيع تطوير نفسه وشعره وفكره وثقافته خارج انتمائه، وخارج هموم أمته، ولذلك كان يقاوم الحداثة الوافدة بالحداثة المقيمة، ويقاوم التغريب بالتعريب!!
عشق المنابر والخطابة والغناء كما يقول: «لأنّه من أمةٍ ما زال قرآنها يُرتّل ترتيلا، وما زال جرسُ كنيستها يَسْبقها إلى الصلاة». آمن بالحداثة إيمانه بالشعر نفسه، بدأ كتابة شعر التفعيلة (الحر) منذ الستينيّات. وحين بدأت الهجمة الثقافية الغربية تحاول تدمير اللغة والهوية، رَجَعَ إلى التراث راضياً مرضياً، فالمهم كما يقول: أن تبقى اللغة ليجري تحديثُها، والحداثة عنده تبدأ بالذات قبل الموضوع، وهي تُعمِّق الانتماء ولا تستبدله، ولا تعني استيراد الأعمال الأدبية الأجنبية وترجمتها، وتسمية ما نفعله أدباً حديثاً، ما زال الشعر عنده أقصى ما تصل إليه اللغة، وما زالت اللغة أقصى ما يصل إليه الوجدان.

نبذة عن الشاعر طارق آل ناصر الدين
الشاعر طارق آل ناصر الدين

الولادة والنشأة
وُلِد في كفر متى من جبل لبنان عام 1943، وينتسب إلى عائلة الأمراء التنوخيين. تلقّى علومه الابتدائية والمتوسطة في مدرسة «الداودية» في «اْعبيه» وأكمل دراسته الثانوية في كلية المقاصد، بيروت. في الثانية عشرة من عمره ترأس الجمعية الخطابية في المدرسة الداودية، نظراً إلى تفوقه اللافت في الخطابة، والأدب والشعر. وفاز عام دخوله كلية المقاصد بالمرتبة الأولى في مباريات الشعر والخطابة.

الأنشطة الوطنية والأدبية
من بوابة «فاطمة» في أقاصي الجنوب، إلى «وادي خالد» في أبعد شمال الوطن، وقف الشاعر طارق آل ناصر الدين على منابر المقاتلين والصامدين داعيةً متطوعاً من أجل وحدة الوطن وعروبته وسلامه الداخلي… مئات الأمسيات الشعرية، مئات المحاضرات والندوات والمهرجانات… وأكثر من مرّة تعرّض الشاعر لمحاولات اغتيال.

مؤلفات الشاعر
له ستة دواوين شعرية مطبوعة هي:
1- العائد من كلّ الأشياء.
2- قصائد مؤمنة.
3- تابعوا موتنا.
4- أماكن الروح.
5- حبٌ وحب.

أنشطة متنوّعة
‌أ- مستشار ثقافي للمؤتمر الشعبي اللبناني.
‌ب- مستشار الحركة الثقافية في لبنان.
‌ج- مستشار في منتدى «شهريار» الثقافي.
‌د- رئيس «جمعية أبناء العربية».
‌ه- من مؤسسي «بيت الشعر».
ولكي نعرف جيداً قيمة شعر طارق آل ناصر الدين، ومكانَتَهُ بين الشعراء، فهو كما وصفه أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين د. وجيه فانوس: يتعملق شعراً بموضوعات وقضايا ورؤًى وفنون بناءٍ وتشكّلٍ بين ما يمكن اعتباره من الأساسيات العامة العظمى في العيش الإنسانيّ، وبين ما يمكن النظر إليه على أنه من الخصوصيات المرتبطة بالحضور الذاتي، بيد أن كل هذا لا يصدر في شعر هذا الشاعر إلّا بعمق رؤيوي، جمالي إبداعي، ولغةٍ صافيةٍ رائعة تراعي مناحي المعاصرة، ولا تخون جذور الأصالة، أدخل الشعر في نسيج السياسة الوطنية والقومية في آن:

صُوفيُّ شعرٍ بِرُوحِ الحَرْفِ ممتزِجُ مصنَّفٌ فيه من أَهلِ الكفايات

في شمولية شعره من الوطني إلى العاطفي إلى الاجتماعي ما جعل منه حالةً ناضجة في موسم المحل الشعري… هذا الممسك بالقلم، بالريشة بالوتر، بالإزميل، يتعاطى الكلمة خلقاً، لوناً، نغماً نحتاً يسكب في عروقها نسغ دمه:

عَرَفَتْهُ أَرضُ الشام فهو منارُ والشعرُ من فمِهِ حُلَى وشِفارُ
فإذا أَرادَ سَبَا الحِسَانَ قريضُهُ أو ثارَ شَبَّتْ في الحروفِ النارُ
هذا أمير الشعر، مِنبرنا له ولشعره فلتخشع الأبصار

جَمَعَ الفكر والفلسفة في شعره، شأنه شأن المصلحين الكبار، متناولاً مشاكل الفردِ والمجتمع والدولة، ولم يترك حالةً ظالمة إلا وتدخَّل بشعره الحر، لأنه يعتبر ذاته معنياً بقضايا التحرر:

من أين جئنا من التاريخ من غدنا من طُهر أمٍ ومن إبداع أجدادِ
وَجَوَّعُونا وما جاعَتْ إرادتنا خبزُ الكرامة قد يُغني عن الزادِ
هي العروبة آختنا على قَسَم وَرِثْتُهُ من أبي إرثاً لأولادي
والدَعْشُ والفَحْشُ والبَطْشُ المُبرمَجُ هل من صُنعِ رَبِّكِ أو من ربِّ أَحقادِ
فلا عليُّ يَرْضاهُ ولا عُمَرُ سيفانِ للحق ما كانا بأضداد
لبنانُ ماذا جَرَى ماذا أرى، وغداً ماذا أقولُ لأبنائي وأحفادي
فَكَيْفَ يحكمُ لبنانَ الفسادُ وقد أعطى العروبة يوماً خَيْرَ روَّادِ
اليازجيان والشدياقُ أعمدةٌ حَمَتْ رسالةَ أهلِ الضادِ بالضادِ

في أوائل الخمسينيات دخل جمال عبد الناصر إلى حياة الشاعر طارق آل ناصر الدين، مُلهِماً ومثالاً فأصبح وما زال مِحور قصائده الوطنية، يومها صرّح: أن فلسطين والوحدة والتقدم والعدالة أصبحت كل أحلامه:

الثورة الأم مُذْ أعطيتها اللقبا لم تَنْسَلِخْ عنكَ يا إبناً لها وأبا
أَلَذُّ من عُمْرِكَ الدامي نهايتهُ وقد كَتَبْتَ بها أَغلى الذي كُتِبا
لمن تَرَكْتَ ملاييناً، على غدِها حَفَرْتَ قلبَكَ مجروحاً ومضطربا
ويسترد صَلِيلُ السيفِ نشوتَهُ وتُبْصِرُ النجمَ من أقدامِكَ اقتربا
صَلُّوا على القبر يُنبِتُ أَلفَ عاصِفةٍ ويستحيلُ به دمعُ الأسى لهبا
أين الشعاراتُ؟ أين المالئون بها الدنيا، لَكَم زوَّروا التاريخ والكُتبا
فلا اليسارُ يساراً في مصائبنا ولا اليمين يلبي الحق إن طُلِبا…

تقرَأُهُ، تُحِسُّ به في أعلى شجرة الإبداع، خُلِق عبقريَّ فنٍ، تتسقَّطُ عليه الرؤى صوراً من نقاء الروح، تغزلُها النفس قطراتٍ من مسك وعَنْبَر، لأنّ الشعر لديه لا يحتملُ، خصوصاً في الغزليات والوطنيات إلّا التصديق مع المُصدِّقين، إنّه أمير شعراء العروبة، حقّاً، يجري ومن الصعب أن يُجرى معه.

قرأْتُكَ شاعراً… أدباً وفكراً فأدهشني تَفَوُّقَكَ الكبيرُ
فَأَنْتَ بِمُلْهَمٍ سَطَعَتْ رُؤاهُ فمـا لَكَ طارقٌ أحَدٌ نَظِيرُ
على سَنَنِ الأُلَى بَدَعُوا فَصَاغوا قلائدَ (1) نَسْجُها ذَهَبٌ نَثِيرُ (2)
أميرُ أَصَالةٍ وَوَفًا وَصِدْقٍ فَضَائِلُ زَانَها عِلْمٌ غَزيرُ
لَكَ الرَجَحُ المُعَلَّى بغِيرِ فَنّ تَدَارَسَهُ (3) وَأَنْتَ به خَبيرُ
فَأَرْقَى ما يُرى الإنسانُ حُرًّا له حُلُمٌ وَعَقْلٌ مُسْتَنيرُ

 

الشاعر سعيد عقل

ومن أجمل وأروع ما كتب، قصيدتهُ: «دمعة على البردوني» في الثامن من أيلول عام 2011 في ذكرى الشاعر سعيد عقل، قصيدة وقف لها الحاضرون، وصفقوا طويلاً، نقتطف منها هذه الأبيات:

جَفَّتْ ليالٍ لنا ظلَّتْ لياليها… مخضرةً ترتوي منها وترويها
وكلَّما خَمَدَ الحِمرُ العتيقُ بنا توهج الجمرُ في فينيق ماضيها
يا للحبيبةِ كم أحبابها رحلوا وراسياتٌ كما الدنيا رواسيها
غاوون هِمنا بوديان الجمال وما قلناهُ نِلْناهُ، واختالَ الغوى تيها
يا زَحْلُ شبنا وما تِبْنا، ومن عَلَقتْ عليه جَمْرَةُ شِعْرٍ كَيفَ يطفيها
فذكريات الصِبا صارت أماكنُنا ودندناتُ الهوى صارتْ مقاهيها
جئنا إليها بشكوانا وقد سَمِعَتْ وكم غَفِلْنا، ولم نسمع شكاويها
هي المدينةُ ظَلَّ النهرُ يحملها حتى تلاشتْ وَحَلَّتْ روحُهُ فيها
فزحْلَةُ الحسنُ، رَبُّ الحُسْنِ توَّجها مليكةً والبوادي من جواريها
إيماءةٌ.. فملوكُ الأرضِ زاحفةٌ وهي التي أحْصَنَتْ، سبحانَ باريها
وزحلةُ اللغةُ الفُصحى وما نَطَقَتْ إلا وطأطأ شعري في معانيها
تأتي القوافي إليها وهي طائِعَةٌ وكيف لا، وقوافيها دواليها
فيها معالِفَةٌ دان الزمانُ لهم فيها السعيد غَوى فيها ليغويها
همُ النجومُ وليلُ الوحي مُنبسطٌ هُمُ الكلامُ متى السُمّار ترويها
يا بُحتريُّ تأكَّدْ إنّها فلكُ عالٍ، وأنَّ سماءً رُكِّبَتْ فيه
قِيلَ العجائبُ سَبْعٌ مَنْ يُصَنِّفُها وزحلةُ أينَ؟ إن الله بانيها
هنا أسُودٌ وغزلانٌ تعيش معاً وتستقي الحُبَّ من يُنبوع ساقيها
فالحبُّ مهنتها والشعرُ مهنتنا بالروح بالدم ها جئنا نلاقيها
وليس يحمي حماها غير عاشقها فإن تهاونَ، فالعذراءُ تحميها

 


المراجع:

1. قصائد لا تُنسى لنفاستها.
2. تَدَارَسَهُ: تتدارسُهُ.
3. المنثور “كلامه درٌ نثير.

مراجعات كتب

«“دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” باشا في لبنان»:

قيس ماضي فرّو

للكاتب والمناضل الفلسطيني قيس ماضي فرّو،عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2019 ، (في 417 صفحة، حجم كبير).
يبدأ المؤلف عمله بإهداء، ذي قيمة رمزية عالية، «إلى روح سلطان باشا الأطرش، الذي حاول الناشطون والمؤرخون الصهيونيون تلطيخ إسمه؛ وإلى روح والدي ماضي حمزه فرّو».
(ومنّا، شكراً لهذا الإهداء تحية لروح لسلطان باشا الأطرش، واضع حجر الزاوية لسوريا الحديثة الموحّدة، ولا يحتاج تاريخه لشهادة متطاول، ولا ينال منه إهمال غادر إو حقد حاقد).
من مراجعة متأنية للكتاب، في وسع المرء أن يقول بثقة تامة أنه الأكثر اشتمالاً على المادة التاريخية الواسعة الموثّقة ذات الصلة بالأقلية العربية الدرزية الموجودة في فلسطين؛ وغير مسبوقن على ما نعلم من هذه الجهة. ولأنه بالأهمية تلك، لا تكفي صفحة أو صفحتان لمراجعته، إذ تحتشد فيه، في كل صفحة، المعطيات والنصوص والإحالات وعلى نحو لا يمكن اختصارها: ما نقدّمه إذاً في «الضّحى» الثقافية ليس أكثر من دعوة لقراءة الكتاب هذا، الثبت العربي الفلسطيني الفائق الأهمية.
لا تقوم أهمية الكتاب من مادته فحسب، على غناها واتساعها، وإنما لطابعه العلمي وإحكامه المنهجي، وتوثيق معطياته التاريخية وفق أعلى معايير الاسناد، وإحالته حتى في أصغر القصص إلى مصادر ومراجع وأرشيف، لا أظن أن كاتباً عربياً آخر أمكنه الوصول إليها بين جميع من تناولوا تاريخ المجتمع الفلسطيني في الداخل والتحولات المثيرة التي ضربت من دون سابق إنذار تفاصيل حياته ورسمت بالأسود مصيره لعقود قادمة؛ وبخاصة الجزء المتصل منها بالجماعة العربية الفلسطينية الصغير العدد، دروز فلسطين، وسيلي بيانُ ذلك.
يقع الكتاب في ستة فصول بين مقدمة وخاتمة.

الفصل الأول:
دروز فلسطين أمام وضع جديد
الوجود الدرزي في شمال فلسطين، التنافس بين ثلاث عائلات متنفذة، الحركة الصهيونية تراقب وتتدخل، الدروز وثورة فلسطين الكبرى في امها الأول، محاولات منع دروز سوريا من المشاركة في ثورة الفلسطينيين، ( وسواها).
الفصل الثاني:
بين مطرقة التخطيط وسندان الغفلة،
إثارة دروز سوريا ولبنان وخطة نقل دروز فلسطين، نقل دروز فلسطين بحجة إنقاذهم، بيعوا أراضيكم وهاجروا، تجميد خطة النقل، ثم قبرها،
الفصل الثالث:
من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 1948
أوضاع دروز سوريا تحت مجهر الصهيونية، اقتراب عاصفة 1948، التحضيرات للحرب، معارك فوج جبل العرب، الإحباط بعد معركة هوشة
الفصل الرابع:
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل
من إقامة وحدة الأقليات إلى احتلال شفا عمرو، خنجر مسموم، البقاء في الوطن، خيار الدروز، معركة يانوح، تداعيات معركة يانوح.
الفصل الخامس:
فن الترويض، العصا لمن عصى والجزرة لمن أطاع
العصا لعرب سيئين والجزرة لعرب طيّبين، نماذج، أليات منع تشكل مجموعة عربية واحدة، غربلة القيادات الدرزية التقليدية، تنافس رؤساء العائلات يعزز ولاءهم.
الفصل السادس:
رهائن التجنيد يفقدون أراضيهم الزراعية
لا لتجنيد العرب ونعم لتجنيد الدروز، معارضو التجنيد ومؤيدوه، من التجنيد اختيارا
إلى التجنيد الإلزامي، قمع معارضة التجنيد، قوانين مصادرة أراضي الدروز، ما تبقى

خاتمة: التبعية الاقتصادية وتهجين الهوية

هذه أهم عناوين كتاب قيس ماضي فرّو البالغ الأهمية.
فهل الكتاب دفاع عن تاريخ دروز فلسطين العروبيين الوطنيين الأشاوس، في غالبيتهم العظمى فقط؟
لقارئ يعبرُ صفحات الكتاب مسرعاً أن يقول أجل؛ إلا أن القراءة الثانية ستظهر له نفسه أن الكتاب برمّته دفاع من المؤلف، وفي جهد علمي استثنائي، عن الحقيقة التاريخية الموضوعية الموثّقة والمثبتة بالتواريخ والمستندات، على نقيض نوعين من الأعمال الأخرى الشائعة: تلك المسرفة في المبالغات غير الواقعية، أو الأخرى المسرفة في الأحكام المسبقة الظالمة ومن دون تبصّر وتمييز.

يقع الجهد الرئيسي لمؤلف الكتاب، قيس ماضي فرّو، في دحض، بل تفنيد، مضمون الخطاب الصهيوني الإعلامي المتكرر حيال دروز فلسطين، فيبيّن هشاشة مادته العلمية وانتقائيتها من جهة، والتوظيف الأيديولوجي لوقائع محدودة يخرجها الخطاب ذاك من سياقها التاريخي ليبني عليها نظرية «العلاقة الخاصة» بين الدروز واليهود في فلسطين ولغاية واضحة هي زعزعة الانتماء العروبي لدروز فلسطين وخلق مشكلة ثقة بين الدروز والمكوّنات الأخرى للشعب الفلسطيني.
وفي رأي المؤلف، تقوم الثغرة الكبرى في منهجية الخطاب الصهيوني من انطلاقه من أحكام مسبقة يطبقها قسراً على الوقائع التاريخية، فيبالغ في تضخيم ما يتفق وروايته فيما هو يغفل ويشطب كل المعطيات والحالات والوقائع التي لا تتفق وخطابه المزعوم ذاك. ويعطي المؤلف مثالاً، بين عشرات الحالات المماثلة، التزوير الذي يمارسه الخطاب الصهيوني الأيديولوجي في تعامله مع مصطلح «الاندماج» الذي يروّج له كموقف درزي حيال الكيان الصهيوني، والذي يستنسخه بعض الباحثين في الموضوع الدرزي الفلسطيني داخل فلسطين إو خارجها ومن دون تبصّر أو تدقيق. يقول المؤلف: «ويظهر ذلك جلياً عندما يصوّر تعاون عدد قليل من الدروز مع الحركة الصهيونية – خلال الانتداب وبعد سنة 1948 – على أنه تعاون الطائفة كلها…فإذا تصرّف واحد أو مجموعة صغيرة من الدروز تصرفاً معيّناً في زمن ما، أصبح هذا تصرفاً عاماً للطائفة..». (ص 28) إن الخديعة الصهيونية الأيديولوجية في المسألة جلية تماماً: فهي تعتّم على أراء أكثر من 70 بالمئة يدعون لمقاطعة التجنيد الإلزامي رغم الإغراءات والتسهيلات التي لا بدّ أن يقع في فخها شبان من الدروز وغير الدروز من العرب الفلسطينيين. الخطاب ذاك، يقدّم حالات محدودة ومعروفة السياق والظروف الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها القاعدة السائدة، متناسياً مقاومة أكثرية دروز فلسطين للتجنيد وتسطيرهم عرائض مرفوعة للمعنيين تطالب أن يكتفى من الدروز بالتطويع الاختياري كما هو جار مع سائر عرب فلسطين – حتى لا نذكر حالات المقاومة الشديدة، أكثر من العرائض، والتي قادت أصحابها إلى المعتقلات الإسرائيلية. وليس ذلك غير واحد من الأمثلة على السياسة الإسرائيلية حيال الأقلية الدرزية الصغيرة والقائمة، برأي المؤلف، على مبدأ «فرّق تسد».
وإلى المنهجية التوثيقية العلمية التي تجعل من الكتاب مرجعاً موضوعياً لا مثيل له، يمكن للقارئ أن يقع على مادة ديمغرافية وتاريخية وسياسية موثقة ومن الدرجة الأولى، وبرسم كل بحث لاحق، وفي أية نقطة إضافية.
بعض تلك المادة العلمية نجدها مثلاً في الاحصائيات المتعلقة بانتشار المواطنين الفلسطينيين الدروز في قرى الجليل وشمال فلسطين، وبعددهم الدقيق. يبدأ المؤلف من كتاب «عمدة العارفين» لؤلفه محمد مالك الأشرفاني، أقدم المراجع في الموضوع وأوثقها، حسب المؤلف، ليبيّن قدم الوجود الدرزي في شمال فلسطين، الذي بدأ مع انتشار الدعوة التوحيدية في القرن الحادي عشر، واحدة من المناطق الخمسة في بلاد الشام التي انتشر فيها المسلك التوحيدي، ثم اشتد السكن فيها بفعل الهجرات التي حدثت من «منطقة الجبل الأعلى، أو جبل السمّاق القريب من مدينة إدلب…»(ص 29). ويضيف الكاتب: «وعلى الرغم من أن دروز فلسطين حافظوا على تواصلهم الاجتماعي بدروز سورية ولبنان خلال فترة الانتداب، فإن تقسيم كل من الاستعمار البريطاني والفرنسي بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة أدى إلى فصل المسار السياسي لدروز فلسطين عن المسارات السياسية لدروز لبنان وسورية. فبينما أدّت النخب الدرزية دوراً مؤثراً في السياسة العامة للبنان وسورية، بقيت نخب دروز فلسطين بعيدة عن السياسة العامة حتى بعد سنة 1930 حين بدأت محاولات الحركة الصيونية البحث عن وسائل للتقرّب منهم. ووصل عدد سكان دروز فلسطين سنة 1931 إلى نحو 9000 نسمة، وشكّلوا أقل من واحد في المئة من مجمل سكان فلسطين البالغ 1.035.400 نسمة…..وبحسب مذكرة كتبها إلياهو إيبشتاين…وهو مستشرق عمل في الوكالة اليهودية…فإن أكثر من 90% من القوى العاملة الدرزية [هي] في الزراعة.» ص32
بحسب الوثائق الديمغرافية التي ضمّنها المؤلف كتابه: «…بقيت في فلسطين [مطلع القرن العشرين] 18 بلدة يسكنها الدروز حالياً قدّر عدد سكانها في سنة 1922 بنحو 7000 نسمة (أقل من واحد بالمئة من مجمل سكّان فلسطين هذه السنة). وبعد أقل من ثلاثين سنة تضاعف عدد سكانها الدروز ليصل في سنة 1950 إلى 14.400 نسمة. وخلال خمسة عقود تضاعف العدد أكثر من مرة ليصل في سنة 2015 إلى 115.300 نسمة (بالإضافة إلى 22.000 درزي يسكنون أربع قرى في الجولان المحتل). ص 31-32
من بين عشرات المسائل، الجديدة بالنسبة لنا، والتي يعالجها المؤلف على نحو علمي تام، الحرب الحقيقية التي خاضها دروز فلسطين «للبقاء في الوطن»، (ص 201 وما بعدها). ومعها في هذا السياق إصرار الحركة الصهيونية منذ البدء على إجبار (أو إغراء) دروز فلسطين لترك قراهم وبلادهم، وقد فصّلت الوكالة اليهودية «خطة نقلهم من البلد إلى جبل الدروز»، وفق النص الوارد في الأرشيف الصهيوني المركزي، (ص 231 وما بعدها)؛ والجهود المنظمة التي بذلتها المنظمات الصهيونية الحكومية،بعد فشل خطة الإبعاد، لفصل التعليم في المناطق الدرزية، وقطاعات أخرى، عن المجال الطبيعي الفلسطيني وإلحاقه «وفق سياسة الجزرة والعصا»، بالمجال الإسرائيلي.
ويختم الكتاب بثبت تفصيلي لحركة الاحتجاج لدى دروز فلسطين على الوجود الصهيوني أولاً، ثم على السياست الإسرائيلية في «الاندماج» و «التجنيد» (ص 265 وما بعدها) وسعي المنظمات الحكومية الاسرائيلية للتحكم بالتعليم والنشاط الثقافي، إلى جوانب أخرى، لدى دروز فلسطين2. (ص 237 وما بعدها) ومن المعلومات التفصيلية الأخرى مشاركة «فوج جبل العرب» من ضمن «جيش الإنقاذ» بقيادة القاوقجي في العمليات العسكرية، ومشاركة دروز فلسطين فيها، وبالأسماء، وأسماء شهدائهم في معارك الفوج، وما جرّ ذلك عليهم من عَسف صهيوني، (ص 153 وما بعدها).
وموضوع أخير أفسح له المؤلف مساحة كافية، وهي مواقف سلطان باشا الأطرش من التطورات المتلاحقة التي كانت تجري على أرض فلسطين، «ونشر شائعات عن أنه دعا إلى اتخذ موقف حيادي [من قبل دروز فلسطين]» (ص 147) والتي يدحضها بالملموس وقائع وتصريحات عدة، يسجّلها المؤلف، أحدها إرساله كمال كنج أبو صالح سرّا إلى فلسطين لاستطلاع أوضاع دروز فلسطين عشية حرب 1948، ثم قوله لجريدة الدنيا البيروتية في 12 كانون الثاني 1948: «لقد زرت دروز فلسطين الذين لا يتجاوز عددهم 17 ألفاً. ومن هذا العدد يمكن تجنيد قوة من 4000 إلى 5000 مقاتل ينقصهم اليوم السلاح. لقد بذلت جهداً كبيراً للحصول على سلاح لهم، لكنني فشلت حتى الآن….لاحظت عدم وجود تنظيم ونقصاً في السلاح عند العرب في فلسطين» (ص148).
وينقل المؤلف عن المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا (الذي غدا لاحقاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان) أن سلطان باشا قال لفوزي القاوقجي الذي زاره في داره طالباً المساعدة في تشكيل كتيبة درزية تنضم لجيش الإنقاذ الذي كان يسعى لتشكيله «عبّر سلطان باشا في هذا اللقاء عن أمله بتجنيد أكبر عدد ممكن من دروز جبل العرب لكي يضمن الانتصار، [لكن] القاوقجي اكتفى بتجنيد 500 مقاتل بسبب شحّ المصادر المالية، والنقص في السلاح» (ص 149) وهكذا كان إذ تم تكليف شكيب وهاب بقيادة الكتيبة الدرزية من ضمن تشكيلات جيش الإنقاذ التي ستدخا فلسطين لاحقاً.
أكثر من ذلك، يورد المؤلف بالتفصيل عجز كل مروّجي الشائعات عن تقديم دليل واحد يؤيد مضمون مزاعم بعض عملاء الحركة الصهيونية بشان لقاء الباشا.. فيعرض بالبيّنة والوثيقة للمحاولات المتكررة للمنظمات اليهودية للقاء سلطان باشا وعجزهم عن ذلك. وفي حالة واحدة يتيمة يعتدّ بها الكتّاب الصهاينة، فإن متعاونين محليين جاؤوا بناشط نقابي يهودي في الهستدروت إلى سلطان باشا باعتباره مناضلاً نقابياً ويتولى حماية العمال الفلسطينيين، ومنهم العمّال الدروز، من تعسّف المنظمات الصهيونية التي كانت المسيطرة على معظم النشاط الاقتصادي، حتى قبل 1948، ولم يعرّف المرافق الفلسطيني سلطان بهوية النقابي اليهودي في أثناء الاجتماع.(ص 147وما بعدها)
تلك عينة محدودة لا أكثر من التفاصيل الدقيقة والجديدة تماماً على القارئ العربي المتصلة بالعرب الدروز في فلسطين، والتي لا يمكن اختصارها في صفحات معدودات، لأنها وثائق ونصوص في كل اتجاه.
أنهي بالقول، كتاب بالغ الأهمية، صادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، وسيجده الكثير من القراء مرجعاً لا غنى عنه.

الباحث قيس ماضي فرّو متحدثاً في «نادي حيفا الثقافي»

العقلُ والتضامنُ والتماسك الاجتماعي في بلدة درزيّة…

د. إسكندر عبد النور.

كتاب من تأليف الدكتور إسكندر عبد النور، وضعه باللغة الإنكليزية، ونقله إلى اللغة العربية الدكتور مصطفى حجازي. يقع في مئة وخمسين صفحة من الحجم الوسط، منشورات مؤسسة التّراث الدرزي. حوى «تقديراً» بقلم رئيس المؤسسة الأستاذ سليم خير الدين، قدَّر فيه عالياً قيام العالِم المميَّز الدكتور عبد النور بالكتابة عن بلدة حاصبيّا، معتبراً ذلك بادرة كريمة منه وإسهاماً مرجعياً لكل المهتمين بحاصبيّا وتراثها، فهو حالياً مدير مركز العلوم المعرفية في كندا، ومستشار دولي في البحث والتدريب، حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت، ويحمل درجة الماجستير في العلوم الجنائيّة، ودكتوراه في التربية من جامعة أوتاوه. تضمُّ كتبه كلاً من متلازمة حلِّ الصراع (1987)، العدوان المقنّع: التهديدي الخفي للأفراد والمنظمات (2000) وغيرها من الكتب القيّمة. أمّا هذه الدراسة فتتوزّع على فصول تقوم على مرتكزات بيَّنها المؤلّف بتحليلات متساوقة ذات عناوين مستمدة من واقع الحال والتاريخ، وهو المعايش للمجتمع الدرزي كونه ابن حاصبيّا مولداً ونشأةً، فكتابته عنها تكتسب مصداقيّة العارف المتلمس للأشياء كما هي، من حيث تجلّيات الأسلوب العقلاني لدى الطائفة الدرزية في حاصبيا، فالمظاهر البارزة لديها تتمثل في التعبير القوي نسبياً عن التضامن الاجتماعي، والإجماع مرتفع المستوى على معايير التصرّف والضبط الاجتماعي الناجح، والمستويات المتدنّية للجريمة والانحراف، والتزام الطائفة الدرزية في حاصبيا القوي بمنظومة قيم الشرف الراسخة الجذور في حياتهم ما يتمدد في سلوك الفرد إلى حد تمسكه بمعايير الأمانة والاستقامة الخلقية ويشكل العِرض الذي يرتبط بسلوك العِفّة عند الأنثى مظهراً آخر من مظاهر الشرف، ويشكل رجال الأسرة والعشيرة أقصى حماة العِرض، وتتضمن مترتبات أخرى على التمسك بالشرف في الطائفة الدرزية، حَمْل السلاح وديمومة العِرفان بالجميل. ويعتقد الدروز أنَّ الكلمة المنطوقة بما هي انعكاس للعقل لا يجوز أن تتأثّر بعوامل تحُدُّ من مكانتها، فلا يسمح من باب أولى بالتعبير السّوقي أو البذيء، والكلمة المعطاة ملزمة، كما المحافظة على كرامة الذات وكرامة الآخر، فهي لا تحتاج إلى مجرد توكيدها بل يتعين حمايتها. هذا بعض ما ورد في هذا الكتاب عن دروز حاصبيا، فهو غنيٌّ بالعِبَر والفوائد على نطاق أعمّ وأوسع، ننصح بقراءته واقتنائه.


المعروفُ عندَ بني معروف صفحاتٌ مُختارةٌ من أدب سلام الرّاسي

سلام الراسي

يقول الدكتور شفيق البقاعي في «مقدّمة» كتَبها لهذا الكتاب متسائلاً عن الغاية منه، فيما بعض الكتب تُقرأ من عناوينها، على حدِّ قولٍ شبيهٍ لأحد علماء عصرنا سلامه موسى: «تُعرَف الشعوب من شعاراتها في الحياة» وهذا ما أنعم النظر فيه منذ حداثته، شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي على طريقته النادرة في فنّ الكتابة. نشأ سلام الراسي بين الدروز في إبل السَّقي، من قرى وادي التَّيم، فأحبّهم وأحبّوه. ولم تكن خصوصيّات أهلها تحول دون عيشهم مجتمعاً واحداً يعتمد القِيَمَ والتقاليد بل اللَّهجات نفسها، فكان شخصيّة دَمِثَة متجانسة، حتى كان بعض من يلتقيه أو يجالسه، يحسبه درزي الانتماء حين ينطق بالقاف القوية الصافية ولا سيّما إدراكه باكراً أنَّ عادات الناس وتقاليدهم وأقوالهم ومواقفهم هي جوهر حضارتهم، ولُبّ تراثهم وتجسيدٌ لقيمهم مُتشبِّعاً من مفهومهم للكرامة ونظرتهم إلى المرأة والجار، وشرف الكلمة، فما خلا كتابٌ لسلام الراسي من بعض الحكايات والمواقف والأمثال من المحيط الدرزي الذي عرفه جيّداً، ومن الشخصيات العديدة التي عاشرها. ومن هنا نشأت فكرة جمع هذه المقالات في مجلّدٍ واحد، هو هذا المجلّد، تعبيراً متكاملاً عن نظرة سلام الراسي نحو أهله بني معروف، يُضاف إلى ذلك اشتمال هذا المؤلَّف على أخبار وروايات تُنشر للمرة الأولى. ولسنا لنكتب عن هذا الكتاب باختصار، أي ماقلَّ ودلّ دون أن نعطي سلام الراسي كلَّ حقه، من حيث هو كاتبٌ مبدعٌ، استطاع أن يُبهر القُرّاء، فيعطي كل هذا العطاء الكبير، أي ستَّة عشر كتاباً، بأسلوب فسيح وحده، في السلاسة، والمرح والبلاغة، تاركاً بصمةً باقيةً على مَرّ الزمان في الأدب اللّبناني، لم ولن تُنسى.


أوقاف الموحدين الدروز للأديار والكنائس في جبل لبنان

الأب الدكتور أنطوان ضو

ورقة بحثية قدَّمها الأب الدكتور أنطوان ضو، الكاتب والمؤرخ المعروف، في مؤتمر لمؤسسة التراث الدرزي، في جامعة أوكسفورد في إنكلترا، وصدرت وثائقه باللغة الإنكليزية، نقلها الدكتور محمد شيّا إلى اللغة العربية في كتاب، بعنوان: «الموحدون الدروز: الواقع والتصورات، أوراق بحثية في التاريخ والاجتماع والثقافة». إن أهمية هذه الورقة، في أنها تتطرق في حقبةٍ مديدة، من تاريخ جبل لبنان في القرنين السادس والسابع عشر، إلى العلاقة بين طائفة الموحدين الدروز والطوائف المسيحية، وبخاصة الطائفة المارونية، التي اتسمت في مبتدئها، وطوال حكم الأمراء التنوخيين والمعنيّين بالتسامح والتآلف، ولم تضطرب العلاقات تلك إلا مع بشير الثاني الذي استطاع بدعم من الدول الأوروبية السبع آنذاك، وتحالفه مع محمد علي باشا، حاكم مصر، وتدخله العسكري (أي محمد علي باشا) في لبنان وسوريا، حكم البلاد وإخضاع جميع المكونات اللبنانية لسلطته، ما جعل الموازين السياسية والعسكرية في جبل لبنان، تترجرج وتختل لمصلحة الموارنة، على حساب الموحدين الدروز، حكام جبل لبنان لما يزيد على ثمانية قرون
العلاقات الدرزية المسيحية
يقول الكاتب: «كانت العلاقات بين الموحدين الدروز والمسيحيين بعامة والموارنة بخاصة في جبل لبنان، صادقةً، إيجابيةً ومثمرة، ولا سيما في عهد السيد جمال الدين عبد الله البحتري التنوخي، (1417 – 1479) والأمير فخر الدين المعني الثاني (1585 – 1635). فالبطريرك اسطفان الدويهي (1630 – 1704) يقول عن هذه العلاقات: وفي دولة الأمير فخر الدين، ارتفع رأس الناصري، لأن أغلب عسكره كانوا نصارى، وكوخية وخدامه موارنة، فصاروا يركبون الخيل بسرج، ويلفون شاشيات وخرور، ويلبسون طوامين وزنانير مسقطة، ويحملون البندق والقفاص المجوهرة، وفي أيامه تعمَّرت الكنائس في بكفيا والعربانية وبشعله، وكفر زينا، وكفرحلتا، وقدم المراسلون من بلاد الفرنج وأخذوا السكن في البلاد. (الدويهي، 1976، ص 505).
الأوقاف الدرزية للأديار والكنائس في جبل لبنان
من المشتركات المسيحية الدرزية، الصّدَقة، ووقف الأملاك، وتقدمة النذورات، وإمداد الأوقاف بالتقدمات والهبات، علامة للمحبة المتبادلة، والشراكة الإنسانية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية والحضارية. وفي البحث الأوقاف التي قدَّمها الدروز إلى الأديار والكنائس المسيحية في منطقة جبل لبنان، أو بلاد الدروز، ابتداءً من المتن مروراً بعاليه والشوف وإقليم الخروب وجزين وصولاً إلى زحلة فقط. تاركين المناطق الأخرى إلى توسع في بحث آخر يلي هذا البحث.
لائحة بالأديار والكنائس التي أوقف لها الدروز بعض أملاكهم
وهب الدروز عقارات عدة في جبل لبنان للمسيحيين على اختلاف كنائسهم ورهبانياتهم ومؤسساتهم، كما قدموا المال والنذورات والتقديمات من أجل بناء الكنائس والأديار، ومنع أمراؤهم عنها كلَّ تعدٍّ أو تدخل من أي جهة مدنية أو روحية في مناطق حكمهم.
اللائحة كما يقول الأب ضو غير كاملة، من الضروري إجراء مسحٍ دقيق في القرى والمدن المختلطة، والتفتيش في المخطوطات والمراجع العلمية من أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع الحضاري الرائع.

الأوقاف الدرزية للموارنة

الرهبانية الأنطونية المارونية

  1. دير ما أشعيا – برمانا.
  2. دير مار يوحنا القلعة – بيت مري.
  3. دير مار روكس – الدكوانة.
  4. دير مار الياس – أنطلياس.
  5. دير مار الياس – قرنايل.
  6. دير مار سمعان – عين القبو.
  7. دير مار يوسف – زحلة.

الرهبانية اللبنانية المارونية

  1. دير مار ساسين – بسكنتا.
  2. دير مار جرجس – الناعمة.
  3. دير مار مخايل – بنبايل.
  4. دير مار موسى الحبشي – بعبدات.
  5. دير مار الياس – الكحلونية.
  6. دير مار أنطونيوس – زحلة.
  7. دير السيدة – مشموشة.
  8. دير ما أنطونيوس – بيت شباب.
  9. دير مار تقلا – المروج.
  10. دير مار مخايل وجبرايل – المتن.

أديار وكنائس مارونية مختلفة

  1. دير مار يوحنا – زكريت.
  2. كرسيّ مطرانية دمشق – عشقوت.
  3. كنيسة مار يوحنا – صليما.
  4. سيدة القصر – صليما.
  5. سيدة النجاة – ساحل المتن.
  6. كنيسة مار يوحنا – جوار الجوز.

الأوقاف الدرزية لأديار الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك:

  1. دير مار جرجس – دير الحرف.
  2.  دير مار الياس – شويّا.
  3. دير مار أشعيا النبي – برمانا.
  4. دير مار يوحنا – الخنشارة.
  5. دير مار جرجس – بمكّين.
  6. دير المخلص – جون.
  7. دير السيدة – قرب دير المخلص (جون).
  8. دير مار جرجس – المزرعة.
  9. أديار في زحلة.

الأوقاف الدرزية للاتين

الكبوشيون:

  1. عبيه.
  2. صليما.

اليسوعيون:

  1. دير سيدة النجاة بكفيا.

الأوقاف الدرزية للسريان:

دير مار أفرام – الشبانيه.

الأوقاف الدرزية للبروتستانت.

.

مراجعات كتب

«مُظفَّر باشا في لبنان»:

لأمير البيان شكيب أرسلان

كتابٌ أصدرته الدّار التقدميّة، للأمير شكيب أرسلان، أميرُ البيان، فيما ذُكِرَ على غلاف الكتاب أَنَّه طُبِعَ في الإسكندرية – مصر. عام 1907، وهذا ربّما تمويه لطبعه في لبنان. وهو يتألّف من 252 صفحةً من القطع الوسط. قدَّم له السّفير اللبناني السابق حسّان أبو عكر. وبه يذكر أنَّ المتصرف مظفَّر باشا عُيِّن في مقام مُتَصرفية جبل لبنان. عام 1902، خلفًا للمُتَصرّف نَعّوم باشا، المُمَدّدة ولايتُه. ونظام المُتَصرِّفيَّة هذا أتى عَقِبَ نظام القائمقاميّتين في سياق تاريخ جبل لبنان الطويل الأمد، وهو صيغة حُكْمٍ تَقرَّر أن يكون على رأسه ما يسمَّى بالمُتصرّف، تابع للسلطنة العثمانية، وبالتنسيق مع الدول الضامنة لهذا النظام (دول أوروبية ستّ) معروفة في ذلك التاريخ، ويستمد هذا الكتاب أهميّته من أنّ وقائعه في عهد مظفر باشا، ومَنْ قبْلَهُ من المُتصرّفين، قد تساوقت وتراكمت بمفاعيلها السلبيّة والإيجابيّة لِتُفضي في عهد الانتداب الفرنسي إلى دولة لبنان الكبير ذي النظام الطائفي. فكيف حكَم مظفر باشا جبل لبنان؟ وهل وُفِّقَ في ذلك؟

الجواب في بداية الأمر، أنّ هذا العهد كما يُصوِّرُهُ المؤلِّف الأمير شكيب أرسلان في مئةٍ واثنتين وخمسين صفحة، تشملُ مقدَّمةً واثني عشر فصلًا، ترصد يوميّات الأحداث التي طبعت حكم هذا المتصرف ذي الماضي العسكري، والاعتداد الشديد بنفسه وبسلطاته غير القابلة، كما يقول، للمساومة، أكانت في مجلس إدارة المتصرّفية أو من قبل قناصل الدول الأوروبية، ولكن إدارته وتصرّفاته في الواقع كانت على عكس ذلك، فاتسم حكمُهُ بِخَرقهِ القوانين، والرِّشوة، والاحتيال، والاستدانة، والتّزوير، ومخالفة نظام الجبل، والاستبداد في الانتخابات الإداريّة، وكثرة الجنايات في أيّامه، وتعطيل سلك الجندرية، وتناقض حركاته وسكناته، واستسلامه لعائلته، وتلاعبهم بالأحكام، وفي غرائب أطواره ما بَثَّ المبادئ الفوضويّة في طول المتصرفيّة وعرضها.

ويقول الأمير شكيب في مُقدَّمة الكتاب: إنَّه قد راجت في تلك الفترة سياسة المعاريض، والغاية الأساسيّة منها، تحريك الفئات المعارضة لسياسة المتصرّف عبر التركيز على أخطائه، وممارساته الغاشمة، ونشرها في الصحافة المتنوِّرة آنذاك، لكنَّ الغاية الأهم منها إيصال الاعتراض إلى القناصل ممثِّلي الدول الأوروبية الستّ ولرؤسائهم السفراء لدى الباب العالي في استنبول.

وتمثّل إضافة كتاب “مُظفّر باشا في لبنان” لتراث الأمير شكيب قيمة إضافيةً لمجموعة كتبه التي نشرتها الدار التقدميّة، أكانت من الناحية التاريخية أو السياسية، وكذلك الاجتماعية والاقتصادية. فقد كان الأمير حينذاك ناشطًا في ربوع المتصرّفية، وركنًا من أركان الحزب الأرسلاني. فجاء قسم من الكتاب سجلًّا للتنافس السياسي، الجنبلاطي – الأرسلاني أو للتهاون والتقارب في قائمقاميّتي الشوف والمتن، وبخاصةٍ في الوظائف الإدارية والقضائية، والأمنية، ولم يترك الأمير شكيب مادّة تفصيلية لهذه المرحلة، إلّا وأتى عليها بما في ذلك معارضته الشديدة والمُحقّة لهذا المُتَصرّف الذي لجأ في بداية حكمه إلى إقالة الأمير من قائمقاميّة الشوف. هذا باستثناء ما أضافه لاحقًا في كتابه “سيرة ذاتية” قبل أن ينطلق إلى استنبول وإلى المدى العثماني الواسع… ومُجْمَل القول أخيرًا في هذا الكتاب، أنّه كان في أحداثه ووقائعه جزءًا حيًّا من تاريخ لبنان الحديث، وإحدى الخلفيّات الموروثة التي يشكو منها لبنان اليوم. وما أشبه اليوم بالبارحة.


الشَّيخ أبو يوسف حسين شبلي البعيني (1915-1991م) شيخُ الحكمةِ، والحِنْكَة، والمواقف.

أ. صقر محمّد البعيني.

يضمّ “تمهيداً” يتحدث عن أنّ تكريم الرجال الأعلام حقّ وواجب لما قدّموه وعملوه لخير المجتمع والوطن. ففي التكريم درس في الوفاء وعبرة في استذكار المواقف والتعلّم منها، فكيف إذا كان التكريم لرجل مُسْتَحقّ كالمرحوم أبو يوسف حسين البعيني الذي تميّز طوال حياته بعطاءاته الاجتماعيّة، والدينيّة، والإنسانيّة،
والوطنيّة، فضلاً عن صرفه الشّطر الأكبر من عمره في خدمة مشيخة العقل، مُساهماّ في مسيرتها الاجتماعيّة، والدينيّة بعزمٍ وإخلاص، وثبات، ما أكسبه ثقة سماحة شيخ العقل الشيخ محمّد أبو شقرا، فقرّبه منه، وعيّنه في ملاك المحاكم المذهبيّة الدرزيّة بالمرسوم رقم 3631 في 18-3-1960 بوظيفة كاتبٍ ثانٍ في محكمة الاستئناف وقد انتقل بعد ذلك إلى المحكمة المذهبيّة في بعقلين، حيث كان يحرّر الوصايا، ويكتب عقود الزواج، كما كان الذراع اليمنى لسماحة شيخ العقل، ومستشاراً له، يُسند إليه أصعب المهمات التي تتطلّب مواقف رجوليّة وحِنكة في حلّها. بقي في وظيفته حتى بلوغه السنّ القانونيّة عام 1969. كما أوكل إليه سماحته الإشراف على بناء المقام الحديث للنبي أيّوب في بلدة نيحا الشوف، وائتمنه على صندوقه.

أمّا ما كان يتزيّن به من صفات، رحمه الله، فما ذكره عنه فضيلة قاضي المذهب الشيخ شريف أبو حمدان يوم وفاته بالقول: علَّمْتَنا الكثير ممّا هداك الله إليه فكنتَ دوماً تؤْثِر أن يكون الصمت حليف القيام بالواجب، ولكنّ شعور الوفاء فينا وعِرفان الجميل يأبى أن نبقى ساكتين عن تذكُّر ونشر بعض الفضائل التي كنت تتميّز بها، والمزايا الحسنة والصفات الحميدة التي كانت تُزيّنك، ومن أكبر الزينة، كما كنت تقول، رياضة النفس بالحكمة، وقمع الشهوة بالعفّة، وإماتة الجسد بالقناعة، وتمييز العقل بحسن الأدب وتسكين الغضب، إنّ هذه الفضائل والأوصاف الحسنة كانت من بعض مزاياك الطّيّبة.

وحَسْبُ هذا الكتاب قيمة مُضافة الشهادات العديدة التي أجمع عليها رجالات من وجوه الجبل وأعيانه، من داخل بلدته مزرعة الشوف وخارجها، أجمعوا على أنّه كان نسيجاً مميّزاً وفريداً بين رجال الدين؛ تقيًّا بِلا مُكاشفة، على صلة وثيقة بين الخالق والمخلوق، ينمّيها مسلكٌ عِرفاني جُوَّاني صافٍ، وإخلاصٌ في حُسن العقيدة وحسنِ اليقين، إنَّه كان المَثَلُ والمِثال.


«حقوق الأقليات في ضوء القانون الدولي»:

العميد الدكتور رياض شفيق شـيّا

لمّا كانت مسألة الأقليات الإثنية، اللغوية، والدينية واحدة من المسائل التي أرّقت ضمير الإنسانية قروناً طويلة، فقد مثّل ظهور الدولة القومية (الدولة-الأمة) على المسرح العالمي في القرن التاسع عشر، كتنظيم جديد للتجمعات البشرية، محطةً بارزة عرفت معها الأقليات أقسى أشكال التعامل. فمركزية السلطة ووحدة اللغة والثقافة والدين، التي كانت تمثّل قيم الدولة القومية، لم تكن سوى تلك التي تعود لجزء من مواطني الدولة وليس لجميع مواطنيها، ولو كانوا يمثّلون في كثير من الأحيان الأكثرية. يضاف الى ذلك أنّ تمثُّل تلك القيم قد ترافق مع ممارسات فيها الكثير من الاضطهاد وعدم التسامح مع كل من يختلف عن النموذج، والذين بات يُنظر اليهم بأنّهم “الغير”، ولو كانوا مواطنين. ولما كان لكثير من الأقليات علاقات وامتدادات تتعدى النطاق الداخلي للدولة، بحكم ارتباطهم بدولٍ أخرى تماثلهم نفس الصفات الإثنية أو اللغوية أو الدينية، فقد أدى هذا الواقع الى اشتداد النزاعات الدولية وتفاقمها، والتي وصلت غير مرة الى مستوى الحروب الشاملة، كما في الحربين الكونيتين الأولى والثانية. وهكذا بدا لزاماً على القانون الدولي الإحاطة بمسألة الأقليات بوجهها الإنساني من جهة، ونتائجها وتداعياتها على الاستقرار والأمن في العالم من جهة ثانية.

لى هذه الخلفية، سيعرض المؤلف الدكتور رياض شـيّا في كتابه هذا لكيفية تطور حقوق الأقليات في القانون الدولي، سواء في تكرسها في نظام عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية في التشريعات الصادرة عن الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان وما تضمنته من نصوص تتناول حقوق الأقليات، كالمادة 27 من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” للعام 1966، أو بالمواثيق التي تخص الأقليات فقط ك “إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص المنتمين لأقليات قومية أو إثنية، دينية أو لغوية ” في العام 1992، وغير ذلك من التشريعات. يضاف الى ذلك إلقاء الضوء على النشاط الفعّال الذي لعبته “مجموعة العمل الخاصة بالأقليات” التابعة للأمم المتحدة (التي أصبحت تسمى “منبر قضايا الأقليات” منذ العام 2007 وتتبع لمجلس حقوق الإنسان التابع بدوره للأمم المتحدة).

يسدّ الكتاب ثغرة كبيرة تتمثّل في النقص الهائل في الكتابات والمراجع العربية التي تناولت موضوع الأقليات وحقوقها من الناحية القانونية، وبالأخص موقف القانون الدولي منها. وسيلحظ القارئ هذا النقص في ندرة المصادر الحقوقية العربية مقارنة بالكم الكبير من المصادر الإنكليزية والفرنسية التي استند اليها الكتاب، مما يجعله مرجعاً لموضوع حقوق الأقليات لا بد منه.
الكتاب صادر عن دار النهار للنشر، ويقع في 360 صفحة من القطع الكبير.


«المبادئُ العامّةُ للتّحكيم»:

منشورات مؤسّسة دَهْر

مُؤلِّفه المهندس محمّد عارف أبو زكي، حامل بكالوريوس في الهندسة المدنيّة من الجامعة الأميركيّة في بيروت، ودبلوم دراسات عليا في هندسة النقل من جامعة ملبورن، أستراليا، وشهادة عضويّة من معهد المُحكّمين الدولييّن، لندن، وشهادة مُحكّم مُعتمَد، وخبير معتمد، من معهد التحكيم التجاري لمجلس التعاون الخليجي العربي، البحرين، إلى شهادات أكاديمية أُخرى.

يقع الكتاب في تسعة فصول وخمسة ملاحق، تتضمّن المبادئ والأسس العامة للتحكيم وصار مُعتَمداً على نطاق واسع في معالجة الخلافات بين القطاع العام والمؤسّسات والشركات والأفراد. حَظي الكتاب بمقدمتين على مستوى عال، الأولى من سفير لبنان في سلطنة عُمان الأستاذ عفيف أيوب، والثانية من المؤرّخ المعروف الدكتور حسن البعيني. يشتمل هذا المؤلّف بشكل أساسي على تعريف التحكيم والمحكم والحُكم، وعلى إجراءات التّحكيم، وإصدار حُكم التحكيم مع ملاحق لأمثلة من التحكيم المحلِّي، والإقليمي، والدولي، وقانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية، ونظام مركز التحكيم التجاري، ولائحة إجراءات التحكيم، ولائحة تنظيم نفقات التحكيم، وقانون الأوسترال النّموذجي للتحكيم التجاري الدَّوْلي – الأمم المتحدة، وقواعد محكمة لندن للتحكيم الدّولي. إنّ التوسع في قطاع الأعمال وما يعنيه ذلك من تنامي حجم العقود وتزايد تعقيد بنودها، وتشابك أدوار الشّركات والمؤسسات حتى في المشروع الواحد، جعل التحكيم مَطلباً أكثر أهمية وأكثر احتياجاً، فضلاً عن أن أهمية قضاء التحكيم كما يقول المؤلف، تعود بشكل أساسي لتقديمه عدالة سريعة، لأنَّ المحكّم يلتزم بزمن معيّن للفصل في المنازعة المُكلَّف بها ولكون التحكيم نظاماً للتقاضي في درجة واحدة.

هذا مُختصر لكتاب مُهمٍّ جداً، جديرٍ بالقراءة والاقتناء والاستعانة به، بالنَّظر إلى أهمية وثائقه ومحتوياته الأثيرة في بابها.

مراجعات و إصدارات جديدة