الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ذبابة الفاكهة

ذبابة البحر الأبيض المتوسط

الخطــــر الزاحــــف على فاكهــــة لبنــــان

ظهــــــرت فـــي أوروبـــا وأفريقيـــا فـــي العـام 1850
وانتقلت مع تجارة الفاكهة إلى كافة أنحاء العالم

إستخدام المبيدات قضى على الأعداء الطبيعيين للحشرات
وفتـــــــــح لهـــا المجـــال للتكاثـــر والتوسّع من دون أي رادع

تعتبر الأشجار المثمرة من المحاصيل الأساسية في مختلف بلدان العالم نظراً إلى أهميتها الإقتصادية وكذلك قيمتها الغذائية سواء على مستوى الاستهلاك المحلي أو قابليتها للتصدير ما يحقق للبلد المنتج مداخيل مهمة بالعملات ويدعم ميزانه التجاري، كما إن محاصيل الفاكهة تمثل مصدراً أساسياً لتلبية الطلب المحلي وهي بالتالي جزء من الدورة الاقتصادية للبلدان المنتجة، كما إنها بصورة خاصة تدعم معيشة المزارعين وأصحاب مشاريع الفاكهة وتشغّل آلاف العمال والأسر.
لكن ما قد يؤثر على مساهمة محاصيل الفاكهة في الاقتصاد أنها باتت أكثر من أي وقت مضى عرضة للإصابة بمختلف الآفات والحشرات الضارة التي قد تفتك بإنتاجها أو تسبب له الأضرار المختلفة التي تنقص من قيمته التجارية. وتعتبر ذبابة الفاكهة من أخطر الحشرات التي تؤثر على كمية وجودة الإنتاج في لبنان لأنها تصيب الثمار إصابات جسيمة تسبب لها الأضرار بل والتلف التام أحياناً. غني عن القول إن ذبابة المتوسط والكثير من الحشرات الفتاكة التي تهاجم محاصيل الفاكهة اليوم لم تكن موجودة ربما قبل خمسين أو ستين عاماً وبعضها لم يكن موجوداً قبل عشرين سنة أو أقل، لكن الاختلال المستمر في التوازن الطبيعي والبيئي وانقراض عدد كبير من الحشرات النافعة وتراجع كثافة الطير والصيد الجائر لمختلف أنواعها، كل ذلك أدى إلى إزالة الأعداء الطبيعيين لتلك الحشرات الأمر الذي سمح لها بالإزدهار والانتشار من دون رادع أو عدو يقضي عليها قبل أن تلحق الأضرار الكبيرة بالزرع والمحاصيل.
وهذا ينطبق على ذبابة الفاكهة كما ينطبق على غيرها. فما هي ذبابة الفاكهة (المسماة أحياناً ذبابة البحر المتوسط) وكيف وصلت إلى بلادنا وما هو حجم الأضرار التي باتت تسببها للمزارعين ومواسم الفاكهة بصورة خاصة؟

تتبع ذبابة الفاكهة (Ceratits,CcpitataCweid) لفصيلة الذبابة (Trypetiddae) ورتبة ذات الجناحين(Diptera)، وهي تنتشر في دول حوض البحر المتوسط وأميركا وأوروبا الوسطى، ويعود تاريخ وجود أو اكتشاف هذه الحشرة الى عام 1850 في اوروبا وافريقيا، ومن ثم انتشرت بسبب اتساع تجارة الفاكهة والمحاصيل إلى جميع انحاء العالم خصوصاً حيث توجد المحاصيل التي تعيش وتتكاثر عليها.
إن هذه الحشرة خطيرة جداً لأنها تستطيع تغييرعائلها (أي الفاكهة التي تتكاثر فيها) وتنتقل الى ثمار نباتات أخرى لم تكن تصيبها من قبل لتتكاثر وتستكمل بذلك جميع مراحل دورة حياتها من بيضة الى يرقة ثم عذراء وصولاً إلى الطور الأخير أي طور الحشرة الكاملة (الذبابة).

متى وصلت إلى لبنان؟
دخلت هذه الذبابة الى لبنان منذ بداية القرن الماضي، لكنها كانت محدودة الانتشار لعدة عوامل منها:
– الظروف المناخية التي حدّت من انتشارها خصوصاً الحرارة المتدنية التي كانت ترافق فصلي الشتاء والربيع وهو ما كان يؤدي الى موت العديد منها وهي في بياتها الشتوي فتأخر بذلك انتشارها إلى المناطق الجبلية.
– عدم استخدام المكافحة الكيميائية العشوائية للآفات الضارة منذ القدم التي أدت الى قتل جميع الأعداء الطبيعيين أي الحشرات التي تأكلها وتقتات عليها.
– لم يكن متوفراً في لبنان مبيدات للأعشاب الضارة والتي أدى استخدامها في السنوات الأربعين الأخيرة الى موت الكثير من الحيوانات الزاحفة مثل السحلاة (الِشمَّيسة) والحرباء، والحشرات مثل العناكب والنمل والكثير من الطيور التي تأكل أطوار الذبابة الثلاثة: اليرقة والعذراء والحشرة الكاملة.
– قلة تغيير العائل (أي الفاكهة التي تصيبها) من قبل الذبابة للثمار، مما أدى الى عدم إصابة جميع الفواكه بالذبابة.
– لم يكن موجوداً أكثر من نوعين لذبابة الفواكه هما ذبابة الزيتون وذبابة الحمضيات والتي كانت شبه متخصصة اي لا تصيب الا المحصول نفسه.
– حراثة الأرض المتكررة التي كان يعتمدها المزارع سنوياً وأكثر من مرتين للتخلص من الأعشاب الضارة وللحفاظ على رطوبة الأرض ولاعتقادهم بأن الغبار الذي ينتج عن الحراثة خصوصاً الصيفية منها يمنع اصابة الأشجار والثمار بالأمراض الفطرية مثل الرمد والتبقع والهريان وغيرها.
– عدم رمي النفايات العضوية وبقايا المنتجات الزراعية التي تصبح الملجأ والحاضنة لتكاثر هذه الذبابة، اما في الماضي فقد كان المزارعون يجمعون الفضلات الغذائية المنزلية إن وجدت وثمار الخضار والفواكه المتساقطة والمصابة ببعض الآفات الزراعية وقبل خروج يرقات الحشرات منها لتكمل دورة حياتها ويقدموها علفاً للحيوانات الداجنة في المنزل.

إتساع نطاق الخطر
أما في وقتنا الحاضر فقد بدأت ذبابة الفاكهة تصيب أصنافاً اخرى من ثمار الأشجار المثمرة خاصة ذبابة الحمضيات، ومن المتوقع أن يتم إكتشاف أصناف جديدة من الذبابة في لبنان لأنها موجودة في أوروبا.
رأيي المتواضع وغير المقرون بأبحاث مخبرية بشكل وافر، أنه يوجد في لبنان وفي السنوات الأخيرة جميع انواع الذباب الموجود في اوروبا وعددها 7 انواع وجميعها تهاجم وتصيب جميع الفواكه خصوصاً الثمار التي تحمل القشرة الطرية، وتفضل الذبابة الثمار الحلوة المذاق أي التي تحتوي على نسبة عالية من السكريات.

وصف للحشرة
تتصف ذبابة الفاكهة وهي في طور الحشرة الكاملة بلونها الموزاييكي المبقع بألوان الأخضر والأصفر والبني والأبيض، كما تتميز بحجمها الصغير، إذ يبلغ طولها حوالي 4 ملم، وهي اصغر من الذبابة المنزلية، أجنحتها شفافة تعترضها خطوط بنية اللون وبعض البقع السوداء و الصفراء. عند وقوف الحشرة، تكون الأجنحة منبسطة على الجانبين، أما بيوض الحشرة فهي صغيرة الحجم بيضاء اللون ويرقاتها بيضاء اللون مدببة من الأمام طولها يختلف من نوع إلى آخر و بمعدل وسطي هو 6 ملم.

ذبابة الفاكهة يمكنها أن تضع 40 بيضة فما فوق في هذه البرتقالة فتغسدها تماما
ذبابة الفاكهة يمكنها أن تضع 40 بيضة فما فوق في هذه البرتقالة فتغسدها تماما

دورة حياة الذبابة
تمرّ ذبابة فاكهة البحر الأبيض المتوسط في دورة حياة تأخذها من البيضة حتى الحشرة الكاملة مروراً باليرقة والخادرة أو العذراء. وتبدأ الإناث بوضع البيض بعد خروجها من طور العذراء وتلقيحها بحوالي 4 أيام، وتضع الأنثى الواحدة بمعدل وسطي خلال حياتها حوالي 500 بيضة وذلك على دفعات في الثمار تحت سطح القشرة الرقيقة مثل التفاح والكرز وفي داخل القشرة مثل الدراق والخوخ بواسطة آلة وضع البيض البارزة في مؤخرة بطنها. وتتجه الذبابة بصورة خاصة نحو الثمار التي قاربت النضج. ويفقس البيض خلال أسبوعين تقريباً وذلك حسب الظروف المناخية والبيئية، وتتوقف الذبابة عن وضع البيض إذا انخفضت الحرارة عن 15 درجة فوق الصفر وتتأثر كما تتوقف أيضا عن وضع البيض عندما تصبح الحرارة أكثر من 32 درجة.
تبقى اليرقات داخل الثمار ليكتمل نموها بعد اسبوعين حتى 4 أسابيع حسب الظروف البيئية المحيطة بها ثم تسقط على الأرض لتدخل في التربة على عمق حوالي 5 سم وتتحول الى عذراء، ثم تكمل نموها لتخرج من التربة حشرة كاملة بعد 10 الى 25 يوماً ودائماً حسب الظروف المناخية. تنمو وتتكاثر ذبابة الفواكه في أوقات الحرارة المثلى وهي ما بين 23 و30 درجة مئوية.
إن عدد أجيال الذبابة في لبنان تحدّده درجات الحرارة وهو ما بين 3 أجيال على المرتفعات و8 أجيال على الساحل، وتتواجد الحشرة طوال العام لأنها تدخل البيات الشتوي كما الذبابة المنزلية .

المصائد الفرمونية سلاح فعال في مكافحة الذبابة ورصد تكاثرها
المصائد الفرمونية سلاح فعال في مكافحة الذبابة ورصد تكاثرها

لضرر وأعراض الإصابة
تعتبر هذه الآفة من الحشرات الخطرة جداً وذلك لكثرة عوائلها، فهي تصيب الحمضيات بأنواعها واللوزيات والتفاحيات والموز والصبار والتين والرمان والكروم وبعض الخضروات كالبندورة والفليفلة. وتتميز الإصابة بما يلي:
1. تبقع الثمار وتلونها بألوان غير طبيعية في وسط هذه البقع نقط صغيرة ذات لون رمادي الى بني.
2. المنطقة المحيطة بالثقب التي تحدثه الأنثى تكون عديمة اللون في الثمار التي قاربت من النضج ولون أصفر في الثمار الخضراء، ولون أخضر في الثمار الناضجة.
3. تساقط قسم كبير من الثمار على الأرض بفعل تخمر واهتراء لب الثمرة، وقد تصل نسبة الإصابة أحياناً إلى 100% خصوصاً في بعض أصناف اللوزيات مثل المشمش والدراق.

 المكافحة
يمكن التقليل من أضرار هذه الحشرة باتباع مايلي:
1. جمع الثمار المصابة التي سقطت على الأرض أو التي ما زالت في الأشجار ووضعها في كيس نايلون محكم الإقفال وتعريضه للشمس أو الحرارة المرتفعة، أو دفن الثمار المصابة على عمق يزيد على 25 سم، أو حرقها للتخلص من اليرقات الموجودة ضمنها، أو تقديمها للدجاج البلدي المعتاد على الأكل المنزلي.
2. عدم زراعة بساتين مختلطة من أشجار الفاكهة حتى لا تستمر الذبابة بإنشاء أجيال حديثة وعديدة.
3. استعمال المصائد الفورمونية ويوضع بداخلها الطعوم المتخمرة والفاسدة التي تجذب الذباب اليها مثل السمك الفاسد، الخل الأبيض، رب البندورة المذاب مع الماء بنسبة 10%، البروتين المتحلل، رش جزء من الشجرة من الجهة الشرقية الشمالية بمحلول يحتوي على 5% من دبس العنب او الخروب ومبيد حشري مع الماء.
4. استعمال المصائد الجاذبة لمعرفة وقت ظهور الحشرة ومكافحتها بمزيج من محلول الحر الحار جداً بمعدل 100 غرام مع 200 غرام من خل التفاح تذاب كلها في 20 لتر ماء.
5. حراثة التربة من أهم اعمال المكافحة الميكانيكية لأنها ترفع الخادرات الى سطح التربة لتموت بعد تعرّضها لأشعة الشمس المباشرة أو الصقيع الربيعي او يمكن ان تأكلها الحيوانات والحشرات والطيور.
6. في النهاية وإذا لزم الأمر، يلجأ المزارع الى الرش بالمبيدات الجهازية المتخصصة على أن يتم الرش بعد رصد بداية ظهور الحشرة.

ثمار كرز مصابة
ثمار كرز مصابة

النفايات العضوية وأثرها على إنتشار الذباب
تعتبر بقايا الأطعمة المنزلية المتخمرة ( المحمّضة )الجاذب الرئيسي للذباب ومنها ذبابة الفواكه وذبابة الزيتون بالإضافة الى الكثير من أنواع الذباب الموجود في الطبيعة مثل الذبابة المنزلية التي تضع الكثير من البيوض المخصبة في الطعام المكشوف طازجاً كان او متخمراً. والنفايات العضوية هي الحاضنة الأمثل والملجأ الجاهز لتكاثر الذباب مما يؤدي الى تزايد أعدادها بشكل يفوق التقدير والخيال، أي بعد وضع البيض من قبل الذبابة الملقحة في النفايات المتخمرة تحتاج هذه البيوض الى أسبوع في فصل الصيف لتفقس ويخرج منها يرقات صغيرة جداً وتبدأ بالتغذية مباشرة من النفايات العضوية ثم لا تلبث ان تصبح يرقة ناضجة وتتحول الى خادرة أو عذراء داخل كيس من الحرير تحيكه بنفسها لتتحول في ما بعد الى ذبابة كاملة وعند خروجها من ذلك الكيس تتغذى الذبابة من النفايات المحيطة بها ثم تفرز رائحة من غدة خاصة موجودة في بطنها لتجذب الذكور إليها لتلقيحها.

حكايات الامثال

قصص الأمثال

الحلقة 8

قسم كبير من الحكايات والأمثلة الشعبية يتناول المبالغات، فهؤلاء «الفشارين» أو «الفنّاصين» هم غالباً من البسطاء المهمشين الذين يسعون إلى شدّ انتباه الناس إليهم عبر رواية حكايات مفبركة تقوم على مبالغات مكشوفة فيظن هؤلاء أن الناس يصدقونها. وأكثر من يستمع الى هذه القصص يلعب اللعبة كما يقال فيتابع القصة وهو يبدي دهشته من فصولها ويهزّ برأسه تصديقاً لكي يشجع الفناص على المزيد من دون أن يدري الأخير أن الناس اجتمعت حوله لتستمتع بقصصه الخيالية وليست لأنها تصدق خبرياته المثيرة.
في جانب آخر تتناول حكايات الأمثال قصص التجار الفاشلين وهم غالباً يأتون إلى مهنة البيع والشراء دون خبرة ومنهم من تنقصه الفطنة فتنتهي تجارتهم إلى خباء وخسائر. وقصص التجارة الفاشلة مسلية ومفيدة لأنها جزء من الخبرة الجماعية وفيها حث على الفطنة وسخرية من الغباء في الأعمال.
في ما يلي بعض الحكايا التي تتناول حالتي المبالغة في الرواية والتجار الفاشلين:
(الضحى)

حَطِّط عن جَحْشتَـك

هي عبارة تقال للرجل الذي يحاول التدخل في شؤون الآخرين، أو يحاول تقديم مساعدة غير مرغوب فيها ولم يطلبها أحد منه، فيعرضون عنه بقولهم: « حطط عن بغلتك » أي لا نريد نصيحتك أو مساعدتك .
وقد روى سلام الراسي حكاية هذا المثل، وذكره برواية : «حطط عن جحشتك» . فقال :
يروى أن رجلاً كان على خلاف دائم مع زوجته، حتى ضجر منها . وقُدر لها أن ماتت . فأخذ يشعر بالفراغ لفقدها، وأحس بقيمة الزوجة، وسوء حال من يفقد زوجته . فأسف على ما بدر منه تجاهها، وقرر أن يتجول في المدينة، فيسدي النصائح للرجال حتى يحسنوا معاملة زوجاتهم، كي لا يصيبهم ما أصابه، فتوجه إلى سوق المدينة، واشترى جحشة ليركبها لهذا الغرض .
ويبدو أن عدداً كبيراً من الرجال كانوا يعانون من علاقاتهم السيئة مع زوجاتهم، فاجتمعوا في ساحة المدينة يتداولون في طريقة الخلاص من زوجاتهم، فتذكروا الرجل الذي ماتت زوجته، فقالوا: لا بدّ أنه قد تدبر أمر موتها بطريقة ما . وقرروا التوجه إليه لسؤاله كيف تخلص من زوجته، فوجدوه يشدّ البردعة على ظهر جحشته، فسألوه :
ـ إلى أين تمضي ؟
فأجابهم :
سأتوجه إلى الرجال ليحسنوا معاملة زوجاتهم، كي لا يصيبهم ما أصابني. عندئذٍ قالوا له:
ـ حطط عن جحشتك . أي لا داع لكي تشد بردعة الجحشة وتمضي في مشوارك لأننا لسنا بحاجة لنصيحتك .
فغدت عبارتهم قولاً سائراً1

جازة حمزي براس الإمّان

والمثل معروف في أنحاء الجبل كافة، وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد2 في أمثاله على نحو مختلف « جازة حمزي براس المعناي3.
ويضرب المثل في الرجل إذا ألحّ في طلب الشيء دون مراعاة الوقت المناسب وحكاية المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الأستاذ عبيد . ولم أقع على المكان الذي جرت فيه واقعة الحكاية غير أنهم يذكرون أن حمزة هذا خطر له أن يتزوج في موسم الحصاد، لأمر ما بينه وبين عروسه، ولما أنه لم يكن من المنطق أن يتوقف عن الحصيدة ليتزوج، فقد طلب منه أهله التريث ريثما ينتهون من عملية الحصاد، لكنه أبى، وأصرّ على الزواج قبل إتمام الحصاد، فذهبت زيجته مثلاً في الأمر إذا أُلح في طلبه في وقت غير ملائم فقالوا : « جازة حمزة براس الإمَّان « والإمّان هو مساحة من سهم الحصيدة يباشره الحصاد في كل شوط، ويقدر عرضه بحوالي المتر لكل حصاد، أما طوله فلا يزيد على خمسين متراً وعندما يتعاون عدد من الحصّادين في حصاد الحقل يأخذ كل منهم مسؤولية خط معين ويتقدمون بالتوازي في عملية الحصاد من أول الحقل وحتى نهايته أي حتى «راس الإمَّان». والمقصود بالمثل أن حمزة لا يريد أن ينتظر إلى ما بعد الحصاد بل يريد بمجرد بلوغ نهاية الخط في حصاد حقل القمح أن تكون عروسته قد حضرت فيتسلمها في «راس الإمان» وهذا دليل الإلحاح وقلّة الصبر.

حنا من فروع طوال، والما يطول يقطع!!

يضرب هذا المثل في معرض التفاخر حين يغمز أحدهم من قناة الآخر، لقصر قامته أو نحو ذلك .
وحكاية المثل أرويها عن والدي في معرض حكاية بدوية تقول إن عمير الضيغمي وإبن عمه عرار كانت بينهما منافسة على زعامة قبيلة الضياغمة في الجزيرة العربية، وكان عرار طويل القامة لكنه قليل الحيلة، بينما كان عمير قصيراً غير أنه راجح العقل ومحبوب أكثر من ابن عمه عرار، ما أثار حفيظة عرار، وجعله يتحين الفرص للتقليل من شأن عمير .
وصادف أن خرج عرار وعمير إلى الصيد مع بعض الرجال، فاصطاد عرار غزالاً فيما كان عمير ما يزال يبحث عن صيد ما . وذبح عرار الغزال، وقطّعه، وشوى قسماً منه وجلس للغداء مع بعض الرجال، وأفرد قسماً من الغزال، فعلقه في غصن شجرة عالٍ، وقال لرجاله :
الآن سيأتي عمير، فنقول له إن نصيبك من الغزال معلق في الشجرة، وسيقفز عمير لتناول حصته من اللحم مثل الكلب دون أن يستطيع إدراكه، وهذا ما يمكننا من النيل منه .
وحين أتى عمير قال له عرار :
ـ دونك نصيبك .
وأشار إلى اللحم المعلق فما كان من عمير إلا أن امتشق سيفه، وضرب الغصن الذي علق فيه اللحم، فإذا هو أمامه . وقال مخاطباً عرار :
ـ حنا من فروع طوال، والما يطول يقطع .

خبز بكماج ولا لحم الجاج

الكماج : الخبز الإفرنجي
والمثل يضرب لمن لا يميزالجيد من الرديء
وحكاية هذا المثل كما رواها سلام الراسي تقول : إن قروياً أمّ المدينة لأول مرة في حياته، فبهرته المدينة بتنوع سلعها، وشموخ أبنيتها، وزحمة الناس فيها . . واتفق أن مرّ أمام بائع خبز إفرنجي، وسأله :
ـ ما هذا ؟ . فأجابه البائع :
ـ هذا كماج .
فقال القروي في نفسه : لا بدّ أن يكون « الكماج « مأكولاً لذيذاً حتى أطلقوا عليه هذا الإسم العجيب الغريب . ومن دون تردد اشترى الرجل رغيف كماج دون أن يعرف حقيقته وفتح زوادته من الخبز المرقوق، وراح يغمس خبزاً مرقوقاً بكماج . على بركة الله .
وعندما رجع الرجل إلى القرية، وقدم القوم للسلام عليه، أخذ يحدثهم عن مشاهداته وانطباعاته في المدينة، حتى وصل إلى « الكماج « فأسهب في وصفه ولذته، فسألوه :
ـ وهل يؤكل الكماج وحده، أم مغمساً بالخبز ؟
فهز الرجل رأسه وأجاب :
ـ « خبز بكماج، ولا لحم الجاج »
فذهب قوله مثلاً4

خبز وبصل مأكول الأصل

وتطلق هذه العبارة في معرض القناعة بما هو موجود لعدم توفّر ما هو أفضل . وأصل العبارة كما كان يرويها لنا الكبار أن ثلاثة رجال جمعتهم مهمة ما، فحمل كل واحد زوادته ومضوا . وحين حان موعد طعامهم فتحوا زواداتهم وبدأوا يأكلون . كان الأول يحمل خبزاً وبصلاً، فصار يأكل الخبز والبصل قائلاً معزياً نفسه : « خبز وبصل مأكول الأصل5 » .
أما الثاني فكان يحمل خبزاً حافاً وماء، فأخذ يبل لقمته بالماء ويقول ـ « خبز وماء مأكول العلماء».
فقال ثالثهم ساخراً :
ـ « كله فلاس من قلة الغماس »، أي كل هذا الكلام لأنه لا يوجد مرق (أي غماس) يغمس به الخبز.
وقد أورد سلامة عبيد المثل وجعل أحدهم يحمل خبزاً وزيتوناً، وجاء برواية : « خبز وزيتون أحلى ما يكون6» .

خمَّنــا الباشا باشا

يضرب هذا المثل في الرجل الذي ترسم له في مخيلتك صورة ناصعة جراء ما سمعت عنه، فإذا رأيته وجدته أقل شأناً مما تصورت .
وقد أورد سلامة عبيد المثل دون الإشارة إلى حكايته، غير أن سلام الراسي ينقل حكاية المثل على النحو التالي :
عندما تولى الأمير بشير الشهابي الثالث إمارة جبل لبنان، كانت صورة سلفه الأمير الشهابي الكبير ما تزال ماثلة في أذهان اللبنانيين . لحية غضة كثيفة، وعينان مشرقطتان تحت حاجبين متنافرين، وسيف مذهب، وعباءة مزركشة، وصوت جهوري يقصم الظهر .
لذلك لم يملأِ خلفه الأمير بشير الثالث عيون مواطنيه . فقد كان حليقاً، نحيلاً، خافت النبرات، تعوزه مظاهر الرجولة، فثاروا عليه، وأرغموه على الفرار . وانتهى بذلك حكم الإمارات المتعاقبة على لبنان من تنوخيين ومعنيين وشهابيين خلال أجيال عدة .
وعيّنت الدولة العثمانية بعدئذٍ عمر باشا النمساوي، وكان لقب باشا يعني في نظر اللبنانيين أكبر من لقب أمير، بالنظر لما رسخ في أذهانهم من عظمة أحمد باشا الجزار، ومحمد علي باشا، وابنه إبراهيم باشا، وسائر باشوات ذلك الزمان، الذين كان أمراء جبل لبنان يخضعون لهم في أغلب الأحيان . لذلك أكبر اللبنانيون مبادرة الدولة العلية بتعيين أحد الباشوات حاكماً على جبل لبنان، إلا أنهم ما لبثوا أن أصيبوا بخيبة أمل عندما رأوا الباشا يطل عليهم من فوق صهوة جواده، فقالوا : «خمنا الباشا باشا، تاري الباشا زلمي» . وجرى كلامهم مجرى المثل إلى يومنا هذا7 .

داوي الحاضر بالحاضر

يضرب المثل في الرجل الذي يحاول حل مشاكله بالمتاح بين يديه، فإذا احتاج شيئاً ما تدبره بما بين يديه من دون ان يتكلف عناء البحث عن وسائل بعيدة .
وأصل المثل كما يروي سلام الراسي عن أم سعد إحدى عجائز عين مريسة في بيروت أن الدكتور يوحنا ورتبات أحد مؤسسي معهد الطب في الجامعة الأميركية في بيروت جاء مرة يزور أحد المرضى، فوجد حالته قد تحسنت عما كانت عليه في الزيارة الأولى، فسأل ذويه ماذا فعلوا من أجله ؟ . فقالوا :
ـ نحن جماعة فقراء، نداوي الحاضر بالحاضر، أحضرنا له كمية من البطيخ، ورحنا نطعمه منها باستمرار، ونضع قشور البطيخ الباردة على جبينه الحار، فيرشح جسمه بالعرق من أكل البطيخ، ويتندى جبينه بالبرودة من قشوره الباردة . بهذه الطريقة نعالج المريض إذا ارتفعت درجة حرارته . فصار الدكتور ورتبات كلما رأى مريضاً ارتفعت حرارته قال له : « داوي الحاضر بالحاضر « فصارت العبارة قولاً مأثوراً .

الحق على برقة لكن القاضي بو حسون

مثل يضرب في الحق الضائع، حينما يتواطأ القاضي مع المحقوق لإماتة الحق . والمثل معروف في أنحاء الجبل، وحكايته أرويها من الذاكرة ..
و«برقة» إسم إمرأة اتهمت بسرقة دجاجة فاشتكتها صاحبة الدجاجة إلى «بو حسون» شيخ القرية وقاضيها . وكانت تقوم بين برقة وأبي حسون صداقة فحاول إحراج المدعية لإظهار بطلان دعواها.
قال للمرأة الشاكية : أنت تقولين أن برقة سرقت دجاجتك لكن هل وجدت دجاجتك بين دجاجات برقة؟ .
قالت المرأة : لا، ولكنني وجدت ريشها .
القاضي بو حسون: وما أدراك أنه ريشها ؟
قالت المرأة : دجاجتي وأعرفها .
قال بو حسون : إذن إبعثي لي دجاجة أخرى من دجاجاتك، وسأذبحها، وأضع ريشها بين ريش من دجاجات أخرى، فإذا استطعت أن تنتقي ريش دجاجتك من بين الريش الآخر يكون ادعاؤك صحيحاً .
فخرجت المرأة من بيته وهي موقنة بأن صداقة القاضي للسارقة أضاعت حقها وكانت تقول :
ـ « الحق على برقة لكن القاضي «بو حسون» !!» .
أي كيف يمكن أن يحكم «بو حسون «على برقة وهي صديقته ؟! .

الدعسة دعسة عجيلة . والشغل شغل حجيلة

يضرب المثل في حال عدم كفاية الأدلة لاتهام أحدهم، مع الاعتقاد بتورطه في الفعل، وحكاية المثل نقلها سلامة عبيد. إذ أورد أن فتاة أرادت أن تسرق الشعير من معلف الحصان، ولإخفاء أثر أقدامها كانت تركب على ظهر عجلة8 . وأضاف عبيد أن المثل يضرب في اتهام شخص تنقصه البراهين الواقعية9.
والمثل في صيغته يشبه مقولة سعد بن أبي وقاص حينما رأى فرسة البلقاء تكر في المعركة وفوقها فارس يشبه أبا محجن الثقفي، مع أن أبا محجن كان محبوساً في سجن سعد بجريمة شرب الخمر، فأطلق سعد عبارته قائلاً : « الكر كر البلقاء، والضرب ضرب أبي
محجن»، ليتبين بعد نهاية المعركة أن زوجة سعد قد أخرجت أبا محجن من الحبس، وأسرجت له البلقاء في حكاية تناقلتها كتب الأدب .
من جانب آخر، فإن حكاية الفتاة في سرقة الشعير تشبه حكاية الرجلين اللذين عزما على سرقة العنب من أحد الكروم . فركب أحدهما ظهر الآخر وقطف العنب . وحين شكاهما صاحب الكرم إلى القاضي أنكرا فعلهما، ما دفع القاضي إلى إلزامهما باليمين، عملاً بالقاعدة الفقهية : اليمين على من أنكر . ورضخا للأمر فأقسم الراكب أنه لم يدس الكرم بقدميه وأقسم الآخر أنه لم يقطف عنقوداً واحداً فكان قسمهما صحيحاً مع تورطهما في جريمة السرقة .

حروب التقسيم

حـروب التقسيـم والتهجيــر ….والنفــط

أكبر عملية نقل للسكان في التاريخ الحديث
تتم في وضح النهار لأن أوروبا في حاجة للعمالة

التدمير المتعمد للحدود والمجتمعات والكيانات السياسية
هل يمهد لرسم خرائط الدويلات ووضع اليد على النفط؟

إسرائيل لا تريد للحروب القائمة في المنطقة أن تتوقف
وهي تنتظر للتمدد في فراغ انهيار الكيانات السيادية

حلف “الناتو” نشر خرائط بينت خط تمزيق المنطقة
وإحدى الخرائط باتت مادة لتدريب كبار ضباط الحلف

ماذا يجري في المنطقة؟ ماذا وراء هذه الحروب المتداخلة والمتنقلة وهذه الأزمة الإنسانية الرهيبة التي لم نشهد مثلها منذ ضياع فلسطين؟ كيف يجب أن نفسِّر فضيحة اللامبالاة الدولية تجاه انهيار وعذاب منطقة اعتبر استقرارها دوماً حجر زاوية في الاستقرار العالمي؟ أين أوروبا المتحضرة؟ أين الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ أين العالم العربي؟ أين الجمهورية التركية النامية، الظهير الاستراتيجي الذي تطلع إليها العرب لكي تكون قوة استقرار ومنعة على غرار الدور الذي كانت تلعبه الدولة العثمانية لمئات السنين؟ كيف تحوّلت وكالة غوث الى وكالة «تسفير» منظم للسوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم من معذبي الأرض في منطقتنا من أجل سد النقص الخطير في العمالة في الأسواق الأوروبية التي شاخ سكانها وترفض نساؤها أن يلدن الأطفال؟ كيف يمكن لرئيس البنك الدولي أن يمدح علناً استيعاب اللاجئين في دول العالم معتبراً ذلك “محركاً للنمو الاقتصادي الدولي” كأن سوريا لم تعد موجودة وكأن شعبها قد أعيد تعريفه (مع شعوب العراق و ليبيا واليمن وغيرها) كمصدر للاجئين والعمالة الجاهزة الرخيصة. هل انحط العالم إلى هذا الدرك ونحن في غفلة نتلهى بخداعهم ومكرهم وقسوتهم التي لم تعد لها حدود؟

أوطان في المزاد
منذ أن تمّ للغرب إزالة السلطنة العثمانية، والصراع على إرثها الواسع وممتلكاتها السابقة لم ينقطع، وقد نجم عن هذا الصراع عقب الحرب العالمية الأولى توزّع مختلف ولايات السلطنة وتقاسمها بين الدول الأوروبية المهيمنة، والتي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، كما وضعت اتفاقية “سيفر” المذلة للعثمانيين والتي قسمت ما تبقى من كيان لتركيا بصورة رمت بوضوح إلى إزالتها كدولة عن الخارطة، وتناولت اتفاقية «سايكس بيكو» السرية عام 1916 تقسيم الشرق الأوسط العثماني بكامله بين فرنسا وبريطانيا ونشأ عن تلك الأوضاع، ثم عن اتفاقية لوزان عام 1923 (التي عدّلت اتفاقية «سيفر» إرضاءً لأتاتورك)، وضع هش استمر حتى نكبة فلسطين وقيام الكيان الصهيوني.
ورغم فداحة ما حصل من إزالة الخلافة الإسلامية التي استمرت منذ فجر الإسلام بعد وفاة الرسول (ص) وتفتيت الواقع العربي بصورة اعتباطية وفق مصالح الدول المستعمرة، فقد نشأت عن تلك الترتيبات ممالك ودول بنيت وفق مفاهيم الدول المنتدبة وثقافتها السياسية والإدارية والقانونية، فقام في العراق نظام ملكي إكتسب شرعيته من ذرية الشريف حسين الهاشمي القريشي، وكذلك الأمر في المملكة الأردنية بينما أنشئت في سوريا ولبنان أنظمة دستورية وإدارية استوحيت من النظام الفرنسي ووضعت دساتير وأنشأت برلمانات وقامت نظم سياسية أفسحت لقدر من حرية التعبير، وتمتعت الإدارات الحكومية بقدر من الفعالية (والنزاهة)، وقام في المجتمع شيء من حكم القانون.
صحيح أن تلك التجارب لم تبدأ كذلك، إذ حاولت فرنسا فرض حكم مباشر ثم تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، لكن رغم ذلك فقد كان قيام دول مستقلة وحكومات «عصرية» وانطلاقة التنمية الاقتصادية تطوراً مهماً أمل كثيرون، بمن فيهم الأمير شكيب أرسلان، أن يعوِّض عن فقد العرب للكيان الجامع الذي كانت تمثله الدولة العليّة. وشهدت الفترة التالية للحرب الأولى استقراراً سياسياً نسبياً وقيام اقتصادات قوية ونشوء التعليم والإعلام، وظهرت حياة سياسية غنية في مختلف بلدان المنطقة بإستثناء فلسطين التي بقيت تحت ربقة الحكم البريطاني لتسهيل هجرة اليهود إليها من مختلف بلدان العالم ولاسيما أوروبا، والتمهيد لإقامة الكيان الصهيوني.
لقد كان ممكناً لو قُيِّض لتلك التجارب السياسية الناشئة أن تتطور أن ينتج عنها منطقة عربية ذات تأثير في الإطار الإقليمي، كما أثبت نجاح التجربة السياسية العراقية والأردنية في ظل الأسرة الهاشمية، وكذلك ازدهار مصر وليبيا في ظل ملكية دستورية عاقلة، والنجاح النسبي لتجربة الحكم البرلماني في كل من سوريا ولبنان. لكن تزامن قيام تلك التجارب الواعدة مع تأسيس الكيان اليهودي كإسفين فاصل بين شرق العالم العربي وغربه أظهر أنه لم يكن للدول المستعمرة أي نية في ترك المنطقة وشأنها أو إعطائها حق الوجود الثابت والحدود المستقرة، كما هي الحال في دول العالم التي تكرّست حدودها باتفاقية إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية .
وبينما كانت اتفاقية “سايكس بيكو” والتفاهمات الدولية قد وضعت حدوداً واضحة للدول الحديثة في الشرق الأوسط فإن إسرائيل (وكانت أصبحت كياناً عضواً في الأمم المتحدة) كانت بين جميع دول المنظمة وحدها التي رفضت تكريس وجودها القانوني ضمن حدود نهائية مثل بقية الدول، وكانت هذه هي الثغرة التي تركت لتهبّ منها العواصف والزلازل السياسية فتزعزع نسيج المنطقة وتجعله تحت تهديد دائم بالاستنزاف والإبتزاز. وكان استخدام إسرائيل من قبل بريطانيا وفرنسا في عدوان 1956 على مصر (رداً على تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس) أوضح دليل على كونها قلعة متقدمة للإستعمار الغربي في المنطقة العربية.

اتفاقية-سايكس-بيكو-السرية-بين-بريطانيا-وفرنسا
اتفاقية-سايكس-بيكو-السرية-بين-بريطانيا-وفرنسا

الدور الإسرائيلي
لقد كانت أنظمة الحكم المدني الملكية أو البرلمانية والتعددية الدينية والعرقية في دول المنطقة التحدي الأكبر لنظام صهيوني يبحث عن مبرر لفكرة الدولة اليهودية في تحطيم تلك التجارب اليانعة القائمة تاريخياً على التسامح والتعايش والشراكة بين مكونات الوطن كلها دون تمييز. لقد كان المطلوب إظهار فشل العرب في إقامة أنظمة ديمقراطية وإقناع العالم مع الوقت بأن الشعب العربي شعب «بائد» لا حضارة له وأنه لا بأس بالتالي من النظر إلى المنطقة باعتبارها منطقة لا تستحق الاستقلال أو العيش الحرّ. وهل أفضل لمستقبل هيمنة إسرائيل على المنطقة من التوصل عبر مدة قصيرة نسبياً من الزمن إلى نقل العرب من مرحلة الأنظمة المدنية الديمقراطية التي بدأوا عليها إلى مرحلة «الدويلات» و»المناطق» المذهبية والدينية والقبلية وجعل الناس «تأكل بعضها بعضاً» كما يقول المثل؟
لذلك كان أول ما قامت به إسرائيل بمجرد قيامها ككيان سياسي (غير نهائي في حدوده من وجهة نظرها) في العام 1948 هو التركيز على تدمير التجارب السياسية المدنية التي كانت قامت واستمرت حولها منذ عقود طويلة، فبدأت الإنقلابات العسكرية على الأنظمة البرلمانية أو على الملكيات المستقرة في سوريا ثم في مصر وأزيلت الأسرة الهاشمية الشريفة في العراق وافتعلت الحرب الأهلية في لبنان وتم في أقل من عشر سنوات من قيام إسرائيل بتدمير الاوضاع المستقرة في جميع دول الطوق التي يعتبر إضعافها الهدف الأول للكيان الصهيوني، ليس فقط لأنها على حدودها (لبنان سوريا ومصر) وتشكل بالتالي خطراً طويل الأمد على أمنها، بل لأنها تدخل في المدى الطويل في مخطط الهيمنة والتوسع والإخضاع الذي ينتظر الوقت المناسب لتنفيذه مرحلة بعد مرحلة.
أما العراق فقد تمّ استهدافه بانقلاب 1958 لأنه كان الدولة الأقوى في المنطقة والأغنى والأكثر وعداً لجهة قيام حكم ديمقراطي متنوع أثنياً ودينياً. فقد كان العراق في ظل المغفور له الملك فيصل الثاني ومن سبقه أسرة واحدة متضامنة تضم العرب والكرد والأشوريين والأزيديين كما تضم المسيحيين والسنة والشيعة، وكان الحكم يقوم على مشاركة حقيقية حتى من اليهود العراقيين الذين كان وزير المالية (ساسون) منهم أكثر من مرة بينما كان رئيس الوزراء شيعياً وكبار الوزراء أكراداً في أكثر من حكومة عراقية. وكان العراق ينام على ثروة نفطية هائلة بدأ استغلالها قبل قيام إسرائيل وكان الاستقرار السياسي والثروة الاقتصادية والنظام الملكي الديمقراطي عناصر كفيلة بقيام دولة كبيرة وذات ثقل إقليمي ودولي في منطقة الشرق الأوسط.
إن التوسع الاستيطاني والجغرافي وتفتيت الكيانات المجاورة هما وجهان للعملة الإسرائيلية نفسها ومرتكزان متلازمان في الاستراتيجية الطويلة الأمد الإسرائيلية، ولن يتم لإسرائيل المزيد من التوسع والهيمنة إلا بزوال الكيانات السياسية التي تحيط بها وانهيار الحدود السياسية بين الدول وانهيار الوحدة الوطنية في كل منها بحيث يزول الشعب الواحد المستعد للدفاع عن بلده ووطنه المشترك ويتعزز الفراغ السياسي والشلل وتسرع كل طائفة أو فريق لطلب الحماية الخارجية من الآخر ضد الطائفة الأخرى. وإسرائيل لا تتوقف عن العمل، وبينما العرب على اختلاف مشاربهم منشغولون بالكيد لبعضهم بعضاً وإثارة القلاقل والمتاعب لهذه الدولة العربية أو تلك واستنزافها فإن العدو يعمل بفعالية على إذكاء النيران المشتعلة ولا يريد طبعاً لهذه الصراعات أن تتوقف، وهو سينتهز أي فرصة لاستغلال الانهيارات في النظام العربي وهدم حدود الكيانات وإشعال الجميع بحروب داخلية ليجد في الوقت المناسب فرصته لملء الفراغات وتحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
إن للدول الغربية (أوروبا والولايات المتحدة خصوصاً) مصالحها الضخمة في المنطقة وفي ثرواتها النفطية وفي موقعها الاستراتيجي كصلة وصل بين آسيا وأفريقيا والقارة الأوروبية، لكن لإسرائيل أيضاً والحركة اليهودية العالمية أجندتهما الخاصة في المنطقة على الدوام وهناك توافق وتكامل دائمان (وليس صراع) بين الأجندتين. ولا يوجد أي شك أن الصهيونية العالمية التي تمتلك تأثيراً كبيراً على سياسات الكثير من الدول الغربية ليست غائبة عن الجروح النازفة المفتوحة في سوريا أو في العراق أو في غيرهما من دول المنطقة العربية.

الفرار-من-الجحيم-a
الفرار-من-الجحيم

جذور «الربيع العربي»
حقيقة الأمر أنه مع زوال الشرعيات السياسية التي ورثت الحكم العثماني، وإجهاض الآمال بقيام الدولة العربية الحديثة (والموحدة) قامت ديكتاتوريات عسكرية وإدارات فاشلة للاقتصاد والموارد فنجم عن تلك التجربة تضييع فرص كبيرة وتراكم مشاكل اجتماعية وحالات حقد طبقي أو اجتماعي، كما إن النخب السياسية العسكرية الفاشلة والفاسدة لم تتردد عندما بدأ وضعها يزداد حراجة في استخدام العامل الطائفي وتقسيم الشعب وتحريض فئاته بعضها ضد البعض بحيث يتحول انتباه الناس عن المشكلات الاجتماعية وعن نهب البلاد إلى الاقتتال الداخلي فتصبح كل طائفة خائفة من الأخرى ويمد النظام الفاشل في عمره بذلك وفق سياسة فرّق تسد وهي نفسها التي طبقها النظام الاستعماري السابق. نتيجة لتلك السياسات الفاشلة والمدمرة تحولت المنطقة مع الوقت إلى برميل من البارود الذي نشهد انفجاره منذ سنوات وانفتحت بذلك في اعتقادنا المرحلة التالية والحاسمة لاستكمال عملية التفتيت التي وضعت خطوطها العريضة في مطلع القرن الماضي وما زال العمل عليها جارياً حتى الآن.

حروب التقسيم
لقد كانت معاهدة “سيفر” سنة 1922 مؤشراً ساطعاً على الكيفية التي تنظر بها دول الغرب إلى منطقة الشرق الأوسط أي باعتبارها مشاعاً لا صاحب له. لقد جرى تمزيق أعظم إمبراطورية وأكثرها حضارة واستقراراً في التاريخ وتوزيع كيانها بصورة إعتباطية كمغانم بين الدول التي اعتبرت حليفة للغرب في الحرب العالمية الأولى. وهذه الوحشية في وضع الخرائط والخبث في قتل الدول واغتصاب الثروات لم تتبدل في الجوهر ولا يغرَّن أحد كل تلك المظاهر الخادعة من أمم متحدة واتحاد أوروبي ودموع تماسيح ولا يخدعنَّ أحد بمعسول الكلام الذي يرِد من صوبهم، فالذي نراه أفصح من أي كلام والأعمال على الأرض تشير إلى أن عملية التفتيت دخلت مرحلة جديدة هي أخطر مرحلة في تاريخ العرب الحديث.
إن هناك اتفاقيات غامضة بين الدول الكبرى فحواها أن معاهدة “سايكس بيكو” والحدود السياسية التي رسمت يومها لم تنجح وأنه لا بدّ من إعادة رسم الخارطة في المنطقة وفق معايير جديدة وهذه المعايير -المناسبة تماماً للكيان اليهودي – هي معايير الدول الطائفية بل المذهبية.
كان الاحتلال الأميركي للعراق إشارة إنطلاق أساسية لمرحلة التفتيت الجديدة، فقد تم دون أي سبب مفهوم حلّ الجيش العراقي بمجرد الدخول الأميركي وتمت بعد ذلك تصفية الإدارة الحكومية والمدنية تحت ذريعة “استئصال البعث” وتمّ تشجيع التنافس والشكوك المتبادلة بين مكونات العراق والتفريط الفضائحي بثروة البلد وتسيّب منابع النفط وجعلها نهباً للقوى المؤثرة. ولعب الشحن المتصاعد في العراق دوراً كبيراً في تفجير الساحة السورية، وها هو المشهد اليوم وقد استقر على انهيار الحدود السيادية ودفع أكبر دولتين من حيث الثروات وحجم السكان إلى أتون الحروب العرقية والمذهبية والخراب الاقتصادي، وإذا أضفنا إلى كل ذلك الحرب الأفغانية والحرب اليمنية والحروب الليبية واضطرابات سيناء وشلل الوضع اللبناني واللامبالاة التامة بكل تلك الملفات وكل ما يجري من مآس إنسانية في المنطقة، بل ترك الأمور تزداد انهياراً وتآكلاً فإنه من المنطقي التساؤل عن الأهداف الحقيقية من وراء هذا “التدمير الخلاق” المنهجي الذي وُعِدنا به قبل سنوات، لكننا ربما بدأنا اليوم فقط ندرك أبعاده المرسومة ونتائجه البعيدة.
إن العنوان العريض لأزمات المنطقة هو حروب اقتتال داخلية تتم تغذيتها وإطالتها دون أي حل بهدف استكمال عملية تفتيت الدول وهدم الكيانات السياسية وتدمير الاقتصاد وأسباب معيشة السكان، وخلق أزمة إنسانية خانقة تفرض على مئات الألوف من أبناء المنطقة وأسرها ولاسيما ذوي المستويات العلمية والكفاءات المهنية منهم الهجرة إلى أوروبا وإلى دول الغرب عموماً.

الغزو-الأميركي-للعراق-نقطة-الانطلاق-لمشروع-الشرق-الأوسط-الجديد
الغزو-الأميركي-للعراق-نقطة-الانطلاق-لمشروع-الشرق-الأوسط-الجديد

لماذا أحبطوا تسوية الأزمة السورية
لقد أصبح واضحاً أن العالم الغربي والدول المؤثرة ولاسيما الكبرى منها قررت ترك الأزمات في الشرق الأوسط من العراق إلى سوريا إلى اليمن وأفغانستان وليبيا دون أي اهتمام بإيجاد حل، وقد سلّط الوسيط الدولي في الأزمة السورية والرئيس السابق لفنلندا مارتي أنتيساري Martti Ahtisaari الضوء ساطعاً على تلك الحقيقة عندما كشف مؤخراً لصحيفة «الغارديان» البريطانية أنه توصل مع الروس في العام 2012 إلى تفاهم يقومون فيه بدور في بلورة تسوية سياسية للحرب الأهلية في سوريا، لكن دول الغرب وتحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تجاهلت تقرير الوسيط الدولي، ورفضت بالتالي اقتراحه السيرَ بالتسوية، ودلّ ذلك في نظر الوسيط نفسه على أن دول الغرب لم تكن تريد تسوية الأزمة السورية كما إنه من غير المطلوب حل الأزمة الوطنية في العراق، ولا في اليمن ولا في ليبيا لأن الهدف في هذه المرحلة هو إطالة الأزمات (في المناطق النفطية أو ذات الأهمية الإستراتيجية) وتمديد المأزق سنوات وسنوات لا يتم خلالها تمكين أي طرف من حسم الأمر لأن المطلوب هو استرهان الجميع، وتفاقم الثمن البشري والاقتصادي وبلوغ الأزمات والانهيار الوطني مرحلة اللاعودة تمهيداً لرسم «حدود الدم» بين الدويلات واستكمال عملية التفتيت ووضع اليد على المنطقة وعلى نفطها.

التدمير الخلاق
خلال حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان في العام 2006 أطلقت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت من تل أبيب تعبير «الشرق الأوسط الجديد» وأعلنت رايس وأولمرت للصحافة الدولية أن هناك مشروعاً لشرق أوسط جديد قد بدأ تنفيذه، وأن إشارة الانطلاق لهذا المشروع هي لبنان.
جاء تصريح وزيرة الخارجية الأميركية بمثابة تأكيد على خارطة طريق أنغلو أميركية إسرائيلية للمنطقة استغرق العمل عليها سنوات، ويتلخص المشروع في خلق حالة من العنف والفوضى الخلاقة وعدم الاستقرار والحروب المحلية تمتد من لبنان وفلسطين وسوريا مروراً بالعراق وإيران والخليج العربي وحتى أفغانستان، وذكرت أوساط المشروع يومها أن الهدف من توسيع دائرة العنف في المنطقة بأسرها هو تمكين بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل من «إعادة رسم خارطة المنطقة» بما يلائم الحاجات الجيوستراتيجية والاقتصادية لتلك الدول. من هنا تعبير «حدود الدم» التي تعني الحاجة إلى رسم الحدود الجديدة على قاعدة العنف الشامل والكثير من الدم والقتل والتدمير، ربما وفق حالة باكستان والهند التي كانت بريطانيا أيضاً مهندستها في أربعينات القرن الماضي.
يومها تلقى مشروع كوندوليزا رايس تأييداً حماسياً من المحافظين الجدد الذين كانوا قد سيطروا على السياسة الخارجية وسياسات الدفاع للولايات المتحدة إبان عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وأعلن البروفسور اليهودي مارك لفين أن إدارة الرئيس بوش سوف تطلق موجة من «الدمار الخلاق» Creative destruction باعتبار ذلك السبيل المناسب لإنتاج «النظام العالمي الجديد» واعتبر فيلسوف المحافظين الجدد ومستشار الرئيس بوش اليهودي مايكل لدين أن خطة الرئيس بوش للنظام العالمي الجديد «ستطلق قوة رهيبة وثورية للدمار الخلاق».

عمران-مدمّر-وطريق-مفتوح-إلى-دروب-الهجرة-الواسعة
عمران-مدمّر-وطريق-مفتوح-إلى-دروب-الهجرة-الواسعة

خرائط جديدة
في العام نفسه الذي شهد إطلاق رايس والمحافظين الجدد لشعار «الشرق الأوسط الجديد» (وهو عام الحرب على لبنان عام 2006) بدأ التداول في أوساط حلف شمال الأطلسي بخارطة أولية لـهذا «الشرق الأوسط الجديد»، وأعلن يومها أن الخارطة تمّ وضعها من قبل الكولونيل الأميركي رالف بيترز وتمّ نشرها أولاَ في مجلة القوات المسلحة الأميركية. ورغم أن الخارطة لم يتم تبنيها من البنتاغون الأميركي، فقد تمّ تدريسها ضمن برنامج تدريب لقوات الناتو في معهد الدفاع المخصص لكبار ضباط قوات الحلف. ويعتقد ان الخارطة تمّ رسمها بناء على خرائط أخرى سابقة كان يتم التداول بها في أوساط البنتاغون وبعض دوائر حلف شمال الأطلسي.
المراقبون والمحللون الذين تأمّلوا في خارطة “الشرق الأوسط الجديد” كما يتم تداولها في أوساط حلف شمال الأطلسي لاحظوا كيف تمّ حصر مناطق النفط كلها في دويلة في شرق المملكة السعودية مع مد حدودها لتشمل قسماً من خوزستان في إيران (حيث معظم النفط الإيراني) وكيف تم إنشاء دولة شيعية في العراق في مناطق النفط الجنوبية ودولة كردية في مناطق النفط الشمالية وهو سيناريو يرمي إلى حرمان كل من إيران والعراق والمملكة السعودية، أكبر دول المنطقة وأغناها، من نفوطها وحصر تلك الثروة الإستراتيجية في دويلات تسيطر عليها شركات النفط الأميركية والدولية.
بالطبع قد تكون الخارطة المشار إليها من باب التهويل أو بالونات الاختبار، لأن هناك خرائط أخرى مختلفة نشرت منها في مجلة “أطلانطيك” القريبة من اليمين الأميركي تضمّنت تقسيماً مختلفاً وخلق مزيد من الدويلات المذهبية، لكن مجرد إبراز موضوع الخرائط الجديدة ضمن شعار «الشرق الأوسط الجديد» ليس بريئاً، فهو بمثابة بيان إلى الدول المعنية بأن مصيرها قيد البحث في مراكز القرار الدولية والغرف المغلقة، وأن “الدمار الخلاق” الذي نشهده يعم المنطقة بأسرها وحالة التجاهل الدولية له أمران لا ينفصلان عما يبدو أنه حروب تفتيت ما هو قائم تمهيداً لإعادة تجميع القطع وإعادة رسم معالم الدول والمجتمعات وفق الخطط المرسومة.

أوروبا تستورد السكان
لاحظوا هذا الشغف اليهودي بتعبير «الدمار» مع إضافة وصف «الخلاق» إليه بهدف تجميله في نظر صانعي السياسات وإعطاء النوايا الجهنمية طابع الإدارة العقلانية و«البناءة» للصراعات، وكأننا بهؤلاء المنظرين يهيئون العالم للمشاهد الرهيبة التي نراها اليوم في نشرات الأخبار. لقد استوحى المسؤولون الإسرائيليون من تعابير كوندوليزا رايس والمحافظين الجدد حجم التدمير الشامل الذي انهالوا فيه على لبنان إبان حرب تموز 2006 وقد وقف قائد جيش الدفاع الإسرائيلي يومها محاطاً بأركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ليعلن أمام وسائل الإعلام وبعنجهية الواثق أن إسرائيل “ستعيد لبنان واقتصاده خمسين سنة إلى الوراء”.
إذا نظرنا إلى ما يحدث في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي ليبيا فإننا نجد أمثلة لافتة مشابهة على حجم «الدمار الخلاق» الذي وعدت به بلدان المنطقة، وقد تميزت الحرب في سوريا وفي العراق بقدر هائل من التدمير لمساكن المدنيين وللقرى وقدر أكبر من العنف الوحشي وعمليات التهجير ضد السكان الأبرياء، كما تميزت بعنف على الأقليات المسيحية وغير المسيحية التي كانت تعطي لمجتمعات الشرق الأوسط (وهي مهد الديانات السماوية الثلاث ومثوى أنبياء البشرية ومستودع إرثها الروحي والثقافي) طابع التنوع الحضاري والشرعية التاريخية، وبسبب تكاثر القوى المتقاتلة وتبدل المواقع وتحرك خطوط الجبهات وشمول الحرب مناطق شاسعة من العراق ومن سوريا فقد تكونت موجات نزوح داخلي ونزوح خارجي غير مسبوقة في تاريخ الشرق الأوسط، إلا ربما أثناء حرب فلسطين ثم احتلال إسرائيل للضفة الغربية وكذلك أثناء حرب الهند وباكستان وبعدها حرب انفصال بنغلادش.. وباتت أنباء الزوارق والغرقى وحشود النازحين على حدود هذه الدولة الأوروبية أو تلك تتصدر نشرات الأخبار في وسائل الإعلام الدولية أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
هنا يبدو الجانب الخلاق للتدمير الشامل للمنطقة وتفتيتها في شكل آخر غير متوقع هو الفوائد الكبيرة التي اكتشفت أوروبا أن في إمكانها أن تجنيها من بحر البؤس والأهوال الذي ألقي فيه سكان مناطق النزاع، وهذا ربما أحد الأسباب التي تفسر حجم اللامبالاة بالأثمان الإنسانية لاستمرار الأزمة، وعدم وجود أفق واضح حول متى وكيف يمكن لهذه الكارثة البشرية أن تنتهي!!
إن أوروبا وأكثر الدول «المتحضرة» في الغرب تتصرف كما لو أنها على علم بخطوط المأساة الجارية وبأن هناك خطة مقررة للمنطقة يتم تنفيذها بالدم، وهذه الخطة ليست لها مصلحة في مقاومتها أو التصدي لها، وهي لذلك تسعى للإفادة من «الفرص» التي تفتحها المأساة وترحيل (بمعنى الترانسفير Transfer) مئات الألوف (وربما الملايين إذا امتدت الأزمة وتفاقمت أوضاع النازحين المعيشية) إلى بلادها بسبب حاجتها الاقتصادية الماسة إلى العمالة وتعزيز نسبة الشباب في تكوينها السكاني الهرم.
إن أكبر عملية نقل للسكان في تاريخ المنطقة تتم في وضح النهار لأن أوروبا في حاجة ماسّة إلى حل مشكلة النقص الخطير في السكان وما يجرّ إليه من نقص بنيوي في العمالة يمكن بعد سنوات أن يهدد اقتصاد العديد من دولها. ويجب التوقف هنا أمام خطاب ألقاه رئيس الاتحاد الأوروبي جان كلود جونكر في البرلمان الأوروبي في 11 أيلول/ سبتمبر حثّ فيه الدول الأوروبية على استقبال النازحين السوريين ومن أهم ما قاله «إن علينا أن ننظر إلى أزمة النازحين ليس كمشكلة بل كمورد» وكان جونكر يعني بذلك أن علينا أن نعتبرهم مورداً بشرياً مهماً للاتحاد الأوروبي وهو لذلك طالب بأن يسمح للنازحين بدخول سوق العمل فور وصولهم إلى بلدان الإستقبال.

الحل-لمشاكل-الشرق-الأوسط-حسب-الكولونيل-رالف-بيترز-والبنتاغون-خلق-دول-طائفية-والسيطرة-على-نفط-إيران-والسعودية-والعراق
الحل-لمشاكل-الشرق-الأوسط-حسب-الكولونيل-رالف-بيترز-والبنتاغون-خلق-دول-طائفية-والسيطرة-على-نفط-إيران-والسعودية-والعراق

تدمير سبل العيش
يجب أن نتذكر أن موجات النزوح المتزايدة من سوريا ومن بلدان مثل العراق واليمن وليبيا ليست هجرات اقتصادية طوعية، وذلك لأن استيراد هذه الأمواج البشرية بمئات الألوف سنوياً لا يمكن أن يتم في ظروف السلم والاستقرار الاقتصادي التي كانت تعيشها بلدان المنطقة بل نراه يحصل على خلفية تعميم الموت وزوال الأمن والتدمير المنهجي للاقتصاد وتهجير السكان وتدمير البيوت، وهو ما يؤدي إلى سد سبل العيش والعمل أمام المواطنين ولاسيما الأسر الشابة ويدفعها إلى حالة من اليأس تجعلها في نهاية المطاف تقطع علاقتها العاطفية ببلدها وتندفع نحو الهجرة بأي وسيلة. .
إن وضع سوريا يمثل هنا حالة نموذجية على تطبيق تام وشامل لأساليب «الدمار الخلاق». فقد جاء في تقرير أعدّه المركز السوري لأبحاث السياسات بالتنسيق مع الأنروا والـ UNDP في آذار/مارس الماضي أن الخسائر المباشرة للاقتصاد السوري تقدّر بأكثر من 143.8 مليار دولار وأنه حتى لو توقفت الحرب في سوريا الآن وعاد الاقتصاد السوري لينمو بمعدل وسطي سنوي قدره 5% فإن سوريا تحتاج إلى ما لا يقل عن 30 عاماً لكي تعود إلى المستوى الذي كانت عليه في العام 2010. (لنتذكر تهديد إسرائيل بـ «إعادة لبنان 50 سنة إلى الوراء” فالتشابه ليس من قبيل الصدفة).
لقد أدت الحرب في مناطق النزاع إلى تدمير تام للقاعدة الصناعية وإلى انهيار الأعمال والإفلاسات وهروب الرساميل والنهب الواسع النطاق للأعمال والشركات والمنازل. نتيجة لذلك تعمّمت البطالة (أكثر من 54% في سوريا) وانتشر الفقر وباتت أكثرية الناس خصوصاً في المناطق المغلقة غير قادرة على إيجاد قوتها وقوت أطفالها ناهيك عن انهيار خدمات المياه والكهرباء أو التعليم والعناية الصحية. ويؤدي هذا المزيج من الخوف وتناقص أساسيات العيش إلى موجات نزوح داخلية وإلى الخارج في كل اتجاه سواء من مناطق الصراع في العراق أم في سوريا أو غيرهما من البؤر المتفجرة. وحسب الإحصاءات التي أوردها تقرير المركز السوري والأنروا فإن 9 ملايين سوري اضطروا لترك منازلهم إما إلى داخل سوريا وإما إلى البلدان المجاورة أو ما يتعداها.
لكن اللاجئين المقيمين حالياً في لبنان أو في تركيا أو في الأردن أو غيرها من البلدان هم تجمعات غير مستقرة ويمثلون البيئة المناسبة لتجنيد المزيد من المهاجرين إلى أوروبا أو الولايات المتحدة أو غيرهما. ولا بدّ من الملاحظة أن النازحين السوريين أو غيرهم يلقى بهم في اوضاع اقتصادية بائسة تزيد ضعوط التفكير بالهجرة عليهم، بدليل أنه بينما يزداد عدد النازحين يومياً منذ بداية الأزمة الإنسانية فإن المساعدات المقدمة من المصادر الدولية لتمويل العناية بهم وإغاثتهم تشهد تراجعاً مطرداً (راجع الرسم البياني).

الوسيط-الدولي-السابق-مارتي-أهتيساري-كشف-عن-أن-الغرب-لم-يكن-راغبا-في-حل-الأزمة-السورية
الوسيط-الدولي-السابق-مارتي-أهتيساري-كشف-عن-أن-الغرب-لم-يكن-راغبا-في-حل-الأزمة-السورية

 

 

 

مستشار الرئيس بوش وواضع نهج التدمير الخلّاق مايكل لدين
مستشار الرئيس بوش وواضع نهج التدمير الخلّاق مايكل لدين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خلاصة
إن الوصف الواقعي لما يمرّ به الشرق العربي حالياً من «دمار خلاق» هو عنوان لحروب تقسيم وتهجير وتفتيت للدول وأن الهدف الحقيقي من كل ذلك هو «تحرير» النفط من السيادات السياسية عبر تحطيم وحدة الدول وإزالة الكيانات الحاضنة لتلك الثروات أو إعادة رسم معالمها. إن الهدف هو إقامة دويلات طائفية ومذهبية وعرقية تنزع الشرعية عن الدول المستقرة وتفتح الباب بالتالي أمام تداول رعاة التدمير الخلاق في كيفية تقاسم الأسلاب الدسمة.
يبقى الانتباه إلى نقطة أساسية في هذا المشهد المحزن وهو أن عمليات الترحيل والتهجير (والتطهير المذهبي أو العرقي) التي باتت أسلوباً «مباحاً» في سياق الصراعات الدموية بين المكونات العربية المتناحرة الآن وشريعة الغاب التي لا تحترم عهداً ولا ذمة، قد يكون أحد أهدافها -أو أحد فوائدها- هو خلق الذرائع أو السوابق العامة التي قد تتيح لإسرائيل حسم مشكلة باتت تقضّ مضجعها وهي مشكلة الأقلية العربية في فلسطين والتي باتت في طريقها للتحول إلى أكثرية عرقية ودينية قد تفقد إسرائيل أهم مبررات اعتبار نفسها دولة يهودية. وإذا كان العرب يلجأون اليوم إلى عمليات التهجير والترحيل المتبادلة على أساس مذهبي أو ديني أو عرقي فلماذا لا تكون لإسرائيل الحجة أو الذريعة لاستثارة النزاعات نفسها داخل فلسطين عبر إطلاق عنان المتطرفين اليهود والمنظمات اليهودية الفاشية ضد السكان العرب وخلق ما يشبه «حرب أهلية مبرمجة» داخل فلسطين يتم في خضم فوضاها وحجم القتل الذي يرافقها تطبيق حل التسفير Transfer الذي بات أحد الأهداف المعلنة للعديد من الأحزاب الأساسية الإسرائيلية، وهو على الأرجح الهدف الكامن للدولة العبرية التي سيكون لها هي تعيين التوقيت المناسب لمشروع بهذا الحجم والتمهيد لتسويق نتائجه الكارثية المتوقعة.

رئيس-البنك-الدولي-يقول-أن-موجات-اللاجئين-مفيدة-للاقتصاد-العالمي
رئيس-البنك-الدولي-يقول-أن-موجات-اللاجئين-مفيدة-للاقتصاد-العالمي

التصريح-الفضيحة لرئيس البنك الدولي:
أزمة اللاجئين مفيدة للاقتصاد الدولي!

فيما تستمر أزمات المنطقة ومسلسل الدمار والدم والنزوح الجماعي على حاله وسط عدم اكتراث واضح من الدول الكبرى المؤثرة، نشر رئيس البنك الدولي الأميركي (الكوري الأصل) جيم يونغ كيم مقالاً امتدح فيه «الفوائد الكثيرة» الناجمة للإقتصاد العالمي وخصوصاً دول أوروبا «الهرمة» من التدفقات اليومية للاجئين السوريين وغيرهم.
الذي يقرأ المقال الذي استغرق أكثر من 4 صفحات وتضمن تحليلات حول فوائد استقبال اللاجئين يدهش لغياب أي إشارة إلى المحنة السورية ولا إلى ضخامة الأزمة الإنسانية والتدمير الحاصل على كل الجبهات، كأنما كل هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة مجرد تفصيل أمام الموضوع الاقتصادي الذي يلفت رئيس البنك الدولي ويثير اهتمامه. فتدمير بلدان بكاملها مسألة فيها نظر لأن الأهم هو ما ينتج الآن من فوائد للغرب ومن فرص اقتصادية من بحر العذاب الإنساني.
وجاء في رسالة رئيس البنك الدولي أن فتح الباب أمام اللاجئين الفارين من الحروب المدمرة في المنطقة يعتبر «إستراتيجية ذكية، خصوصاً خلال هذه الفترات من النمو الاقتصادي العالمي المنخفض، لأن البلدان التي ترحب باللاجئين وتساعد بلداناً أخرى بشكل منتج على استضافتهم، ستكون قد فعلت ما هو صواب، سواء لأخوانهم في الإنسانية الذين يعانون، أو للإقتصاد العالمي الذي سينمو بقوة أكبر على المديين المتوسط والطويل».
كلام رئيس البنك الدولي كان سبقه تصريح رئيس الاتحاد الأوروبي في اجتماع للبرلمان الأوروبي دعا فيه إلى التعامل مع أزمة اللاجئين ليس كمشكلة بل كـ «فرصة» مشدداً على الدور الذي يمكن لموجات اللاجئين أن تسهم به في حل مشكلة نقص العمالة وتلبية حاجات الاقتصاد الأوروبي.

تزايد عدد النازحين وتناقص المعونات
تزايد عدد النازحين وتناقص المعونات

وكالة غوث اللاجئين
أم وكالة “تسفير”؟

تلعب الوكالة الدولية لغوث اللاجئين دوراً مفيداً في عملية تصدير المهاجرين من كتلة النازحين البؤساء، إذ إنها تقوم بتجميع قاعدة بيانات عن ملايين النازحين السوريين والعراقيين وغيرهم في أماكن تجمعهم ولجوئهم.
فعن طريق تقديم المساعدات الغذائية والمدرسية والصحية وغيرها يتم وضع استمارات شاملة عن كل نازح رجلاً كان أم امرأة واستمارات عن عدد الأولاد ومؤهلهم الدراسي وغير ذلك من المعلومات المهمة بما فيها الوضع الصحي وأرقام الهواتف الخليوية التي يمتلكها النازحون والتي باتت أفضل وسيلة للإتصال بهم من ممثلي سلطات الهجرة في هذا البلد أو ذاك.
المهم أن قاعدة البيانات المفصلة التي وضعتها وكالة غوث اللاجئين يمكن للمؤسسات المختصة باستقدام المهاجرين في الدول الأوروبية،الوصول إليها واستخدامها للاتصال بمن تراهم مؤهلين للهجرة وهناك العديد من النازحين الذين يتم الاتصال بهم بهدف عرض الهجرة عليهم وأسرهم وهناك أيضاً سماسرة سوريون في العواصم الأوروبية يجرون الاتصالات بأقاربهم ومعارفهم لتسهيل انتقالهم إلى المهاجر الجديدة.

في-مركز-لاستقبال-المهاجرين-في-بودابست---هنغاريا
في-مركز-لاستقبال-المهاجرين-في-بودابست—هنغاريا

وجهة نظر ألمانية
الأوروبيون في حاجة إلى المهاجرين

مقتطفات من مقال للكاتب الألماني إيان بورما الذي يدرّس في معهد بارت في نيويورك وهو يشدّد بوضوح على الفائدة التي تجنيها أوروبا من أزمات اللجوء واللاجئين لسدّ النقص في سوق العمل وتعويض النقص المتفاقم في عدد السكان هنا أبرز ما جاء في مقاله:

إنه لشعور مبهج حقاً ذلك الذي يتملك المرء عندما يصل إلى ألمانيا، حيث يحمل مشجعو كرة القدم لافتات ترحب باللاجئين من الشرق الأوسط الذي مزقته الحرب. لقد أصبحت ألمانيا أرض الميعاد الجديدة لليائسين والمسحوقين، الناجين من الحرب والنهب والسلب.
ومن المتوقع أن يدخل ألمانيا هذا العام نحو 800 ألف لاجئ، ولا عجب في أن ميركل تريد من البلدان الأوروبية الأخرى أن تستقبل المزيد من اللاجئين في إطار نظام إلزامي للحصص.

“الهجرة المنظمة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي ضرورة ليس لأسباب عاطفية
بل لأن أوروبــــا تحتاج إليها”

ربما كان المزاج في ألمانيا المعاصرة استثنائياً. ذلك أن استقبال اللاجئين، أو أي مهاجرين، لم يكن قط بالمهمة السياسية السهلة. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان اليهود في ألمانيا والنمسا في خطر مميت، كانت قِلة من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة الثرية، على استعداد لاستقبال أكثر من حفنة من اللاجئين. وسمحت بريطانيا بقدوم نحو 10 آلاف طفل يهودي في عام 1939، في اللحظة الأخيرة، ولكن فقط شريطة أن يكونوا تحت رعاية كفلاء محليين وأن يتركوا آباءهم من ورائهم.
بيد أن التركيز بشكل شبه كامل من قِبَل الساسة ووسائل الإعلام على أزمة اللاجئين الحالية يحجب قضايا أوسع نطاقاً تتعلق بالهجرة، ذلك أن صور أسر اللاجئين البائسين وهم ينجرفون في البحر تحت رحمة المهربين الجشعين ورجال العصابات من الممكن أن تلهم بسهولة مشاعر الشفقة والرحمة (وليس فقط في ألمانيا). ولكن أغلب الناس الذين يعبرون الحدود الأوروبية بحثاً عن عمل وبناء حياة جديدة لا ينتمون إلى هذه الفئة.
يسود الإفتراض على نطاق واسع بأن المهاجرين من داخل أو خارج الاتحاد الأوروبي هم في الأساس فقراء تركوا ديارهم لكي يعيشوا على أموال الضرائب التي يدفعها أثرياء نسبياً. والواقع أن أغلبهم ليسوا متطفلين فهم بكل بساطة يريدون العمل وكسب الرزق. ومن السهل لذلك أن ندرك الفوائد التي قد تعود على البلدان المضيفة من قدومهم، فالمهاجرون الاقتصاديون يعملون عادة بقدر أعظم من الجدية في مقابل قدر أقل من المال مقارنة بالعاملين المحليين وقد لا يصبّ هذا في مصلحة الجميع بكل تأكيد: فالإشارة إلى الفوائد المترتبة على العمالة الرخيصة لن تقنع الأشخاص الذين قد تتأثر أجورهم سلباً، والأسهل حسب كثيرين في أوروبا هو إلتماس الرحمة للاجئين من إبداء الاستعداد لقبول المهاجرين الاقتصاديين، حتى في ألمانيا.

أوروبا في حاجة إلى المهاجرين
في عام 2000، كان المستشار الألماني غيرهارد شرودر راغباً في إصدار تأشيرات عمل لنحو عشرين ألف خبير في مجال التكنولوجيا المتقدمة، وكان كثيرون منهم قادمين من الهند. وكانت ألمانيا في حاجة شديدة إليهم، ولكن شرودر قوبِل بمعارضة سريعة ومفاجئة، حتى إن أحد الساسة صاغ شعاراً يقول «(إنجاب) الأطفال بدلاً من (استقدام) الهنود».
ولكن الألمان، مثلهم في ذلك كمثل غيرهم من مواطني البلدان الثرية، لا ينجبون العدد الكافي من الأطفال. وتحتاج هذه البلدان إلى المهاجرين الذين يتمتعون بطاقة الشباب والمهارات اللازمة لشغل الوظائف التي قد لا يتمكن أو لا يرغب المحليون في شغلها لأي سبب كان. ولا يعني هذا أن كل الحدود لا بدّ أن تكون مفتوحة للجميع. ولا بدّ من تطبيق فكرة الحصص التي طرحتها ميركل على المهاجرين الاقتصاديين أيضاً.
ولكن حتى الآن، لم يأت الاتحاد الأوروبي بسياسة متماسكة بشأن الهجرة. فبوسع مواطني الاتحاد الأوروبي أن ينتقلوا بحرية داخل الاتحاد (تريد بريطانيا أن توقف ذلك)، ولكن الهجرة الاقتصادية من البلدان خارج الاتحاد الأوروبي، في ظل ظروف تُدار بعناية ودقة، مشروعة وحتمية وليس هذا لأن المهاجرين يستحقون التعاطف من قِبَل الأوروبيين، بل لأن الأوروبيين يحتاجون إليهم.

تربية الدجاج

فوائد لا تحصى بثمن بسيط وجهد قليل

تربية الدجاج البيتي

مكوّن أساسي في الغذاء الصحي للعائلة
وثروة كبيرة لأسلوب الزراعة العضوية

كلنا يشكو دجاج المزارع وبيض المزارع
لكن قليلون هم الذين يتحركون لإيجاد البديل

أصبحت تربية الدجاج البيتي حالة نادرة في الكثير من البيوت في القرى الجبلية رغم الفوائد الكبيرة التي يمكن للأسرة أن تجنيها من وراء ذلك، الأمر محير خصوصاً وأن البديل عن إنتاج البيض السليم الصحي في “مزرب” المنزل أو طهي الفروح البلدي الطبيعي هو شراء بيض المزارع النمطي ذي اللون الواحد والحجم الواحد كما لو أنه خرج من ماكينة تصنيع عالية الدقة. لا حاجة للكلام عن مخاطر تلك المنتجات وما بداخلها من هرمونات مسرطنة ومواد غريبة ربما لا نعرف الكثير عنها وهي التي صممت لإنتاج فروج كامل في غضون 32 يوماً فقط في وقت يحتاج الفروج البلدي الذي يستخدم في تربيته العلف الطبيعي إلى ما لا يقل عن ستة أشهر لكي يصبح ديكاً ناضجاً. اللافت أن هذه المعلومات عامة ويتداولها الناس في البيوت وفي السهرات لكنهم وبدلاً من تربية بضعة دجاجات في زاوية الحديقة يذهبون في اليوم التالي لشراء نفس المنتجات المشكو منها!!

ربما يعود السبب إلى عدم الخبرة لدى الأجيال الجديدة واعتيادها منذ الصغر على التعامل مع منتجات المداجن كما تعرضها المحلات، وكذلك إلى توهم أن تربية الدجاج أمر صعب أو مكلف أو أنه “يحدث رائحة غير مستحبة” وهذا خطأ كبير لأن الرائحة تنتج فقط في حال تغذية الدجاج بالعلف المركب المحتوي على منتجات كيميائية وهرمونات.  أما الدجاج البلدي فإنه في حال تصميم المزرب تصميماً صحيحاً واختيار مكان مناسب له لا يحدث أي روائح مطلقاً. لهذه الأسباب نعرض في ما يلي لموضوع مختصر ومفيد عن تربية الدجاج البيتي تتضمن إرشادات عملية سهلة التطبيق آملين أن يساعد ذلك على تشجيع الذين يمتلكون حديقة أو أرضاً حول المنزل في بناء مزرب دجاج صغير أومتوسط الحجم يصبح مصدر تموينهم الدائم بالبيض البلدي المغذِّي وبلحم الدجاج البلدي الملائم لصحتهم وصحة أطفالهم..

ينتمي الدجاج البلدي إلى سلالات أو “أنواع” مختلفة وغير متجانسة في جميع صفاتها من حيث الحجم والشكل واللون، لكن بشكل عام يربى الدجاج البلدي في القرى وخصوصاً عند الأشخاص الذين يملكون منازل منشأة في أرض زراعية يكون في احدى زواياها ,و في مكان منها غير صالح للزراعة يمكن أن يبنى فيه مزرب الدجاج.

بين البلدي والزراعي: فروقات أساسية
يتّصف الدجاج البلدي بحجمه الصغير الذي يميّزه عن الدجاج الأجنبي المهجن، ويصبح وزن الدجاجة البلدية الواحدة ما بين 900 إلى 1200 غرام عند نضجها أي بعمر حوالي الستة اشهر، و من ثم يبدأ وزنها بالتزايد تدريجياً كلما تقدمت بالعمر حتى تصل الى 1600 غرام أو ربما 2,000 غرام حسب نوعها ويكون وزن الذكر أكبر من وزن الأنثى، إذ يزيد وزنه بنسبة 25% عن الأنثى.
أما شكل الدجاج البلدي فيختلف من عدة نواحي أهمها: طول ساقيه – العرف – الأذنان – كثافة الريش – حجم العين – طول الرقبة – طول ريش الذيل… وللدجاج البلدي ألوان عديدة ومختلفة اذ تظهر في الكثير من الأحيان فراخ تحمل صفات تختلف عن أبويها خصوصاً في لون الريش والجلد، ويعود ذلك الاختلاف إلى عدة قواعد علمية أهمها: الصفات الوراثية للأم والأب، والتي قد تعود إلى الوراء عشرات السنين – التلقيح الخلطي بين الدجاج البلدي والأجنبي اذ قد يؤثر سلباً أو إيجاباً في الفراخ الناتجة حديثاً من حيث قلة وضعها للبيض أو على العكس، وكذلك حجمها وحجم بيضها الكبير او الصغير وشكل البيضة ولون وسماكة قشرتها ولون وحجم العينين.
ويختلف الدجاج البلدي عن غيره من الدجاج بأسعاره المرتفعة وارتفاع اسعار منتجاته ايضاً من البيض واللحوم بالمقارنة مع أنواع الدجاج الأخرى خصوصاً الدجاج المهجن التجاري، ويعود السبب الى أن المستهلكين الواعين يفضلون اللحم والبيض الناتجين عن الدجاج البلدي أولاً لأن فيهما مواصفات غذائية وصحية أعلى وكذلك لأنهما ألذ وأطيب من اللحم والبيض الناتجين عن الدجاج الآخر أو المستورد وهذا الاعتقاد عند المستهلكين صحيح في حال اعتمدت طرق تغذية الدجاج البلدي الصحيحة من المصادر الطبيعية من دون أي إضافة للفيتامينات والهرمونات المستخدمة في المداجن الكبيرة.

 

ديك براهما - مثالي لتأصيل الدجاج البيتي
ديك براهما – مثالي لتأصيل الدجاج البيتي

 

نتاج البيض
يبدأ الدجاج البلدي بوضع البيض عندما ينضج جنسياً ويصبح قابلاً للتزاوج من الذكر وعندما يصبح عمر الفراخ بين خمسة وستة أشهر في حال تمت تغذيتها بالأعلاف المركزة التي تقدم لدجاج اللحم، ولكن من الأفضل تأخير الفراخ عن وضعها للبيض لمدة سبعة أشهر تقريباً حتى تصبح قناة البيض قد اكتملت تجنباً من إنتاج بيض صغير الحجم أو جرح قناة البيض فتتسبب بنزيف دموي عند الفرخة خصوصاً اذا ما كانت البيضة كبيرة الحجم نوعاً. ويتميز الدجاج البلدي عن الدجاج الهجين بكفاءته العالية في إنتاج البيض هذا إذا خضع لبرنامج تغذية صحيح ومتكامل.

البلدي أكثر بيضاً
تضع أنثى الدجاج البلدي من 160 الى 200 بيضة سنوياً، بالمقارنة مع أنثى الدجاج المهجن التي تضع حوالي 60 بيضة الى 100 بيضة في الظروف العادية التي يعيش فيها الدجاج البلدي اي من دون تكييف المزارب وإنارتها والرعاية المكثفة.
ويبلغ وزن البيضة التي تنتجها الدجاجة البلدية حوالي 45 غراماً، في التربية التقليدية (على الطريقة القديمة) من دون أن تعامل معاملة مكثفة من غذاء وتكيف للمكان. أما الدجاج التجاري المعروف بـ “الزراعي” فيبلغ وزن البيضة حوالي 55 غراماً أو أكثر لأنها تخضع الى تربية مكثفة وغذاء مركّز يحتوي على فيتامينات وأدوية كيميائية .
الدجاج البلدي لديه القدرة على التأقلم مع جميع الظروف البيئية الخاصة والصعبة وكذلك قدرته على انتاج كمية كبيرة من البيض. ويتميز الدجاج البلدي أيضاً بمجموعة من الصفات الوراثية التي ما زالت تحملها من الطبيعة قبل تدجينها مثل النوم المتكرر خلال النهار وقدرته على الطيران المحدود اذا فوجئ بخطر ما.
تربية الدجاج البلدي
تحتاج تربية الدجاج البلدي الى خبرة أكانت هذه الخبرة موروثة او مكتسبة من الأقارب والأصحاب، لكن يفضل لمربي الدجاج البلدي المبتدئين ان لا يبدأوا بأعداد كبيرة تجنباً لتعرضها للتلف، ومن المستحسن ان يبدأ المربي بعدد قليل لا يزيد على 25 طيراً بين دجاج بالغ او صغير (صيصان) كمشروع تجريبي، فإذا نجحت يمكنه زيادة الأعداد حسب قدرته على تأمين مستلزمات الدجاج إضافة الى المساحة المتوفرة. وقد اتجه العديد من مربي الدجاج البلدي في الفترة الأخيرة الى تقليد نمط التربية المتبع بمزارع الدجاج البياض المحسن وراثياً من خلال الاعتماد على التربية المكثفة للدجاج البلدي ضمن المزارع معتمدين بذلك على المعلومات السائدة حول مقاومة الدجاج البلدي للأمراض لكنهم فوجئوا بكوارث بين الدجاج من جراء افتراسهم لبعضهم بعضاً، ويعود ذلك الى حاجتهم لعنصر الصوديوم الذي يوجد في ريش الدجاج، وبعد التهامهم ريش بعضهم بعضاً فإن بعض الريش الحديث في النمو ملتصق تماماً مع جلد الدجاج وبعد سحبها تأخذ معها جزءاً من الجلد مما يؤدي الى ظهور دم (الدجاج البلدي يحب اللون الأحمر) وهذا ما يلفت نظر عدد كبير من دجاج المزرعة فيبدأون بملاحقة هذا اللون الأحمر ونهشه ما يؤدي في النهاية إلى إلتهام قسم من الدجاجة قبل موتها. ويساهم في حصول هذه الظاهرة ازدحام الدجاج في مكان غير كاف والحرارة المرتفعة وعدم التوازن في عناصر خلطة العلف، والتهوئة السيئة….

دجاج مربى على طريقة الغذاء العضوي في الطبيعة
دجاج مربى على طريقة الغذاء العضوي في الطبيعة

تغذية الدجاج البلدي
من المستحسن تغذية الصيصان في بداية حياتها على العلف المركّز حتى مرحلة اكتمال ريشها ولكن يجب عدم الاستمرار في هذه التغذية تجنباً من ان يصبح الدجاج البلدي كالدجاج الزراعي من حيث إنتاجه للبيض، وبالتالي يجب الانتقال منذ بلوغ الصوص الشهر الثاني أو الثالث من العمر إلى نظام التغذية الطبيعية باستخدام بقايا الطعام المنزلي وفضلات الخضار إضافة الى القمح والشعير البلدي والذرة والنخالة (قشرالقمح). إن جميع هذه الأطعمة تؤدي الى انتاج الدجاج لبيض ولحم لذيذي الطعم ولا تصدر عنهما “الزنخة” المعتادة في منتجات المداجن مع الانتباه الى كمية الخضار والحشائش المقدمة للدجاج بحيث لا تزيد الكمية على ما تستهلك لساعة واحدة. فالتغذية بالخضار تقلل من كمية البيض وتقلل من فوائده الغذائية لأن الخضار لا تحتوي على جميع الفوائد التي يحتاجها الدجاج البلدي وبيضه.
أخيراً فإن أفضل تغذية متوازنة للدجاج البيتي أن توفّر له مساحة خلف البيت تكون محمية من الثعالب وغيرها لكي يسرح حراً ويدعم غذاءه بمزيج ممتاز من الحشرات وحبوب الأرض وعشبها والبحص والتراب..

أهم منتجات الدجاج البلدي
للدجاج البلدي فوائد عديدة مهمة بالنسبة إلى القرويين المزارعين إذ كانوا يعتمدون عليه لأنه يؤمن جزءاً من حاجة العائلة للغذاء خاصة في الأيام التي يكون جميع افرادها خارج المنزل اي في الحقول والبساتين لمؤازرة ومساعدة ارباب العائلة في العمل. وبعد العودة الى المسكن يذهب أحد أفراد العائلة إلى “مزرب الدجاج” أو “القن” ويأتي بالبيض الذي يمثل غداء جاهزاً سريع الطهي، اما إذا كان في الدار زوّار فيأتي المربي بديك او دجاجة كبرت في العمر لتذبح وتطهى للغداء، لكن في وقتنا الحاضر أصبح الدجاج والبيض من اهم العناصر الغذائية التي يعتمد عليها الإنسان هذا على مستوى الغذاء. اما فضلاتها أي برازها المنتج من الغذاء المقدم لها، فيصبح من أفضل الأسمدة العضوية للمزروعات لأن سماد الدجاج البلدي غني بالمواد الغذائية خاصة عنصر الفوسفور الذي يكون ضئيلاً في الأسمدة المأخوذة من فضلات الحيوانات الأخرى مثل البقر والماعز والغنم والخيل، كما إن ريش الدجاج يستخدم في صناعات عديدة منها الفرش والمساند والمخد إضافة الى انها تستخدم في الزينة نسبة إلى ألوانها الزاهية.

قفص دجاج نموذجي مع مشربيات ومكان للمنامة ومسرح مسقوف
قفص دجاج نموذجي مع مشربيات ومكان للمنامة ومسرح مسقوف

” الدجاج البلدي لديه القدرة على التأقلم مع جميع الظروف البيئية الخاصة والصعبة وهو مشهور بقدرته على انتــــــاج كمية كبيــرة من البيض “

تربية الصيصان
لتفريخ الصيصان طريقتان هما: التقليدية القديمة والحديثة.
الطريقة التقليدية في التفقيس
عادة يوجد في المنزل فرد من العائلة يهتم بشكل عام بالدجاج، عندما يجد هذا المهتم أن إحدى الدجاجات لا تفارق البيض و”تربخ” فوقه أو لا تذهب إلى المبيت مثل بقية الفراخ بل تمكث في مكانها مع البيض، فإن هذا يعتبر دليلاً على أنها تريد التفريخ، عندها يأخذ المُربِّي عدداً من البيض ويذهب الى جيرانه الذين يربون دجاجاً بلدياً ليبدل تلك البيضات التي في حوزته ببيض حديث ولإعتقاده بصوابية المثل القائل (غيِّر بذارك ولو من عند جارك) ويعود إلى المنزل بعد تبديل البيضات جميعها ثم يضعها في مكان مفصول عن المزرب تجنباً من أن تضع الدجاجات الأخرى البيض فوقها وهو يضع الدجاجة الحاضنة على البيض المستبدل ثم يغطيها، وفي اليوم التالي يرفعها عن البيض ليقدّم لها الطعام والماء ولمدة لا تتجاوز العشر دقائق خوفاً من أن تبرد البيوض، الأمر الذي قد يؤدي الى موت الجنين. وبعد مضي واحد وعشرين يوماً تفقس الصيصان من البيض الذي كان متمماً الشروط الأساسية وهي:
1. إحتواء البيضة على حيوانات منوية من الديك، وهناك طريقة سهلة للتأكد من وجود “النضفة” أو العلقة عبر تقنية وضع البيضة فوق يد مضمومة وإضاءتها بكشاف الهاتف من تحت، ويمكن التدرب على هذه الطريقة وإتقانها لأن المربي يوفّر على نفسه بذلك خسارة بيض عقيم لا يوجد فيه “صوص”.
2. أن تكون البيضة نظيفة وخالية من الأوساخ.
3. أن لا يكون مرّ على البيض أكثر من 5 -6 أيام، والقاعدة التي يجب تذكرها هي أنه كلما كان البيض طازجاً وجديداً كلما زاد حظ التفقيس والحصول على صيصان صحية وقوية.
4. عدم وضع البيض في البرادات التي تكون حرارتها أقل من 12 درجة مئوية.
5. عدم تعرض البيض الى أشعة الشمس مباشرة.
6. عدم تعريض البيض للماء أي عدم غسله (بهدف تنظيفه) لأن ارتفاع الرطوبة الى أكثر من 80% يؤدي الى عدم الفقس.
7. تجنّب خروج فضلات الدجاجة الحاضنة (القرقة) على البيض مما يؤدي الى تسكير المسام التنفسية للبيضة وبالتالي يؤدي الى إختناق الجنين.
8. يجب أيضاً أن يستبعد البيض الذي يحتوي على قشرة رقيقة او سميكة تجنباً من الكسر او عدم قدرة الجنين على كسر القشرة والخروج منها.
9. يستبعد البيض الدائري لأنه لا يحتوي على غرف هوائية تكفي حاجة الجنين.
10. يستبعد أيضاً البيض الصغير الحجم أو الكبير الحجم فوق العادة.
أما مواعيد التفريخ فتبدأ عندما يتحسن الطقس في فصل الربيع حتى منتصف فصل الصيف لإعطاء الصيصان فرصة حوالي الثلاثة أشهر قبل فصل البرد والصقيع تجنباً لموتها.
من المفضل أخذ البيض المراد تفقيسه من دجاج مخصب (ملقح) من ذكر (ديك) أي كل حوالي 8 دجاجات بحاجة الى ديك هذا يرفع نسبة خصوبة البيض الى حوالي 95%.

فقاسة منزلية بطبقتين تحضن نخو 95 بيضة, الأصلية منها تكلف نحو 400 دولار
فقاسة منزلية بطبقتين تحضن نخو 95 بيضة, الأصلية منها تكلف نحو 400 دولار
صفار البيض البلدي وصفار بيض المزارع
صفار البيض البلدي وصفار بيض المزارع

الطريقة الحديثة في التفقيس
تشمل عدة انواع من الفقاسات الكهربائية منها التي تحتاج الى تدخل المربي لمراقبة الحرارة والرطوبة وتقليب البيض يدوياً لأنها ثابتة وغير مصنّعة لتحريك البيض وتقليبها. وتتسع هذه الفقاسات الكهربائية
لـ 50 بيضة ويمكن أن تتسع لـ 150 بيضة. أما الفقاسات الأوتوماتيكية فهي تنظم الحرارة والرطوبة حسب التقلبات المناخية التي لا تتأثر بها وتقلب البيض آلياً من دون أن تؤثر أو تكسر من البيض. والصغيرة من هذه الفقاسات تتسع لـ 50 بيضة أو 100 لكن توجد فقاسات كبيرة تتسع لآلاف البيض. ان طريقة التفقيس الأوتوماتيكي مهمة بسبب كمية وعدد الصيصان المنتجة، وغالباً ما تستعمل الفقاسات الكبيرة في المزارع الكبيرة جداً، لكن من الضروري التقيّد والإنتباه إلى موعد إيقاف التقليب في اليوم 18 أي قبل موعد الفقس بثلاثة أيام، وفي اليوم 20 و 21 يجب الإنتباه الى عملية الفقس وأخذ الصيصان الفاقسة إلى الحاضنة المكيّفة التي تؤمن الحرارة المثلى حوالي 37 درجة مئوية إضافة الى الغذاء والماء.
يجب تشغيل الفقاسة قبل إدخال البيض بحوالي 24 ساعة على الأقل قبل وضع البيض، حتى يتم التأكد من ثبات درجة الحرارة والرطوبة.
من المهم جداً وضع الفقاسات في غرف مغلقة ويجب عدم فتحها إلا للضرورة تجنباً لموت الجنين نتيجة لتغير في درجات الحرارة والرطوبة.
ان الصيصان التي تفقس بعد اليوم المحدّد للفقس يجب التخلص منها، هذا في الفقاسات الكبيرة والحديثة اما في التربية التقليدية فتموت جميع الصيصان المتأخرة بالفقس في الأسبوع الأول، لأنها لا تحمل الصفة الوراثية الجيدة إضافة الى ان هناك خللاً ما أثناء تكوينها منها نقص في الأوكسيجين او الرطوبة وعدم انتظام الحرارة والرطوبة وتقليبها غير المنتظم.. كذلك يجب التخلص من الصيصان التي تكون غير طبيعية من حيث التشوهات الخلقية او المريضة والهزيلة لأنه لا حظ لها بالعيش بسبب عدم قدرتها على المنافسة على الطعام وكذلك بسبب احتمال أن تنقل الأمراض التي تحملها الى الصيصان السليمة، علماً أن الصيصان الضعيفة تموت عادة بعد أيام من تفقيسها الأمر الذي يشجّع الصيصان القوية على نهشها وافتراسها خصوصاً عندما يصبح عمرها أكثر من عشرة اسابيع.

قفص دجاج نموذجي مع مشربيات ومكان للمنامة ومسرح مسقوف
قفص دجاج نموذجي مع مشربيات ومكان للمنامة ومسرح مسقوف

فوائد تربية الدجاج البلدي
لتربية الدجاج البلدي فوائد عظيمة صحية واقتصادية وبيئية أهمها:
1. أهم الفوائد من تربية الدجاج البلدي هي حماية صحة الأسرة وخصوصاً الأطفال من الأضرار الصحية لتناول بيض المزارع أو فروج المزارع ولن نفصِّل في هذه الأضرار لأنها باتت معروفة.
2. التخلص من النفايات العضوية المنزلية من دون تكدسها في مستوعبات النفايات وعلى الطرقات التي تتخمر وتؤدي الى امراض خطيرة، إضافة الى أنها تصبح الملجأ النموذجي لجذب وتكاثر الحشرات الضارة خصوصاً بالمزروعات مثل الذباب…
3. إن الدجاج المربى في أقبية أو حدائق وبساتين المنازل القروية يقدّم مساعدة كبيرة للمزارع من دون أن يدري، إذ يلتهم الكثير من الحشرات الضارة بالمحاصيل مثل الفراشات والذباب والديدان وشرانق الحشرات التي تمضي بياتها الشتوي في المنطقة السطحية للتربة بعد سحبها وهي (تبركش).
4. توفِّر للمزارع سماداً عضوياً مهماً لأنه يتميز عن الأسمدة العضوية الأخرى باحتوائه على نسبة جيدة ومهمة من الفوسفات إضافة لخلوه من بذور النباتات البرية.
5. تساعد المزارع على تخفيض كلفة إنتاجه من جراء التهامها للأعشاب والنباتات البرية التي تنمو على أرض البساتين المغروسة بالأشجار المثمرة والتي تزاحم تلك الأشجار على الغذاء.
6. تؤمن الأسر الريفية دخلاً إضافياً لا بأس به، إذ تعتمد عليه لأنه يؤمن مصدراً جيداً من البروتين الحيواني إضافة الى إنتاج البيض وبيعه بأسعار جيدة مقارنة بالبيض الناتج عن الدجاج المربى تربية مكثفة ضمن المزارع.

تأثير الفلسفة

تأثير الحكمة الهرمسية المصرية
في تطور الفكر الفلسفي اليوناني

بِتاح فكَّرَ بالكون ونطَقَ به فكان الوجـــود

محاورات أفلاطون أظهرت مدى تأثر الفكر اليوناني
بتعاليم هرمس المثلث العظمة وعلومه المختلفة

فيثاغوراس قرأ الرسوم على جدران المعابد المصرية
فذهل كهنتها وأدخلوه معابدهم وأصبحوا هم من مُريديه

“ألا تَعْلَم يا أشقلبيوس، أنّ مصرَ هي صورةٌ للسموات، بل في مصرَ، كلُّ القِوَى التي تحكمُ وتُدبِّرُ في السماء قد نُقلت إلى الأرض».
(أشقلبيوس III – الفقرة 24b، من النصوص الهرمسية)

هَمَسَ الكاهنُ الأكبر بمدينة ممفيس في أُذن المُشرِّع والحكيم الإغريقي الكبير صولون (Solon)، “إنّكم أطفالٌ أيُّها الإغريق»، (عبارة هزّت أعماق صولون)، والمقصود بها أنكم أطفالٌ في معرفة الحقيقة والعقل وسرّ الوجود، سوى الذين منكم جاءوا إلى مصر يلتمسون أذيالَ ثوبِ الحقيقة فيها، مصر خزّان العلوم السرّية والحِكَميّ، محجة الحكمة والأسرار الروحانية منذ أقدم الأزمان.
بين صولون ولقائه بكاهن الحكمة المصرية وزيارة فيثاغوراس الغامضة إلى مصر ومكوثه فيها ردحاً طويلاً من الزمن ثم زيارات كبار مثل أفلاطون والقائد الاسكندر وكذلك معاهد الحكمة التي كان المصريون يقبلون فيها الطلبة الإغريق نشأت قصة أكبر عملية نقل للحضارة الحكمية القديمة من الشمال الشرقي الأفريقي في مصر الفرعونية إلى بلاد الإغريق التي كانت قد خرجت لتوها من عصر ظلمات مديد وبدأت تبحث عن وسائل لتكتب فيها فكرها وإرثها الشفهي. إنها قصة رحلة حضارة وفكر عادت فطبعت العالم بأسره عبر امتداد الحضارة الإريقية في ما بعد إلى مختلف أنحاء العالم بما في ذلك بلاد الشرق والمجتمع الإسلامي الذي كان في عزّ تعطشه إلى مختلف أشكال المعرفة ليجد ضالته في أصولها ومصادرها اليونانية الغنية. فما هي حكاية هذا التفاعل العميق والشامل بين أقدم حضارتين سبقتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية لتؤثرا فيهما بعد ذلك أيما تأثير؟ وكيف تمكن المصريون من تشكيل الوعي الفلسفي المعاصر عبر القناة الإغريقية وكيف تمكن كهان غامضون لم يعرف أحد عنهم ولم يسمع بأسمائهم من ممارسة هذا التأثير الهائل عبر السنين على الحضارة الإنسانية في مجملها؟

فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه
فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه

لقد بات واضحاً أن المصريين عرفوا التوحيد بصورته الجلية وغير الملتبسة على الإطلاق – كما يتضح من التعاليم الهرمسية نفسها من التأثير الحاسم الذي مارسته تلك التعاليم والشخصية الغامضة للحكيم هرمس في الفكر المصري القديم ولاسيما منه التفكير الروحي والخلاصي. وقد حفظ المصريون هذا التعليم وأسراره في معابدهم ومعاهدهم وحلقاتهم السرية وعلموها بشروط للمستحقين فقط، وبعد التأكد من أهلية المريد، لكنهم ربما بسبب ما كانت تتعرض له عقيدتهم الصوفية من عداء من قبل التفكير «الأصولي» الخاضع لنفوذ الملوك وكهنتهم فإنهم قرروا في وقت معين التحول إلى أسلوب التعليم السري وإلى الرمزية الكثيفة في نصوصهم، وفي تعبيراتهم وكتاباتهم الفلسفية. لكن المدهش هو أن الإغريق فهموا أبعادَ تلك اللغة الأسطورية وقاموا بتأويل معانيها إلى لغة يفهمها الإغريق ونقلوها بالتالي من مصر إلى بلادهم وقد لعب العقلُ الإغريقي البارع دوراً تاريخياً في جمع حلقات الحقيقة وصياغتها بصورة منطقية وفلسفية، كما قام بصياغتها بلغة شفافة وعقلانية وعمد عند الضرورة إلى استعارة مفيدة للتعبيرات الأسطورية لحضارة الإغريق.

الحجُ إلى مصر والتلاقُحُ الفلسفي
إن أهم ما ثبت من دلائل وبراهين على التأثير الحاسم لمصر القديمة في الفكر الفلسفي اليوناني هو «قوافل الحَجَّ” التي تشكلت من الإغريق التائقين إلى اكتساب المعرفة الصوفية نحو مصر ليكونوا مُريدين في تعلُّم نظام الأسرار وسُبُلِ الخلاص الرُّوحي ومبدأ الخير الأسمى ومعرفةِ النفس والتحلِّي بالفضائل، وجاءت شهادات دور مصر في تعليم اليونان تلك المعارف على ألسنة فلاسفة يونانيين، أبرزهم أفلاطون في محاورات «كريتياس” و”تيماوس” و”القوانين”، وهو ما يُثبته أيضاً الفيلسوف طاليس، أب الفلسفة اليونانية من الناحية التاريخية، والفيثاغوريون، وفلاسفة المدرسة الأيونية الأولى، وفلاسفة المدرسة الإيلية اللاحقة. وقد نقلوا هؤلاء «الأمانة الحِكمية» من مصر إلى بلادهم ولاسيّما روّاد المدرسة الفيثاغورية والأورفية الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الفكرَ الرُّوحاني الصوفي في بلاد الإغريق. وقد تحدثت المصادر التاريخية عن تمكُّن الحكيم فيثاغوراس، خلال زيارته إلى مصر ومكوثه هناك لسنين عدّة، من قراءة الرسوم والنقوش الهيروغليفية على جدران المعابد، وهو ما أذهل الكهنة المصريين، ففتحوا له أبوابَ معابدهم، بل وأصبحوا هم من مُريديه يستقون منه التعاليم الرُّوحيّة على نحو مشترك. فهو كان يشرح لهم بواطن أسرارهم المصرية ويدهشهم بمدى عمقه الفلسفي والرُّوحي.
وهناك أيضاً رواية عن زيارة أفلاطون لحاكم صقلية ديونسيس، حيث التقى هناك بالفيلسوف الفيثاغوري فيلولاوس ودفعَ له المال السخي ليستحصل منه على كتابٍ ضمَّ في حناياه تلك التعاليم الرُّوحانيّة التي تكاملت فيها أسرار العلوم الرُّوحانية المصرية والفلسفة الفيثاغورسية.

أهمية الفكر الفيثاغورسي
من هذا التلاقُحِ الفلسفي الرُّوحاني، تعرَّف اليونانيون على الفكر الفيثاغورسي الصوفي وبعض أهم مفاهميه: الأضداد (نور وظلمة، خير وشر)، والتناغم، والنار الكونية، وكذلك المبادئ الأساسية: العقل الكوني، وخلود الأرواح، والخير الأسمى وغاية الفلسفة. وقد بنى على هذه الركائزِ العقلية الرُّوحانية كبارُ فلاسفة اليونان، من طاليس إلى فلاسفة المدرسة الأيونية الأولى: أنكسماندر وأنكسيمانس، ومن ثم فلاسفة المدرسة الإيلية (بانتقال الفلسفة مع فيثاغوراس إلى إيطاليا) وهم إكزينوفان وبارمنيدس وزينون، ومن ثم الفلاسفة الكبار هيرقليطس وإمبيدوقليس وأنكساغوراس (أول مَنْ تكلّم عن “العقل الكوني” Nous) وصولاً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو.

” الدارسون وطلاب الحكمة الإغريق توافدوا دوماً إلى مصر ومعابدها لتعلّم أسرار الوجود وسبل الخلاص الروحي ومعرفة النفس  “

التهيُّؤ الرُّوحي والخلاص
في مصر، تعلّمَ الإغريقُ نظريةَ الخلاص الرُّوحي، عبر تشبُّه الإنسانِ بالعوالم الرُّوحانيّة العقلية تحرُّراً من قيود الجسد بلوغاً للتحقُّق الصوفي والكشف الرُّوحي واستنارة البصيرة. فقد كان المُريدون في مدارس التهيُّؤ الرُّوحي المصرية يخضعون لمنهاجٍ معرفيّ شامل. يبدأون بتعلُّم اللغة والخطابة، ومن ثمّ الهندسة والرياضيات وعلم العدد والمنطق وصولاً إلى تعلُّم الفضائل والرُّوحانيات لتحقيق السعادة الخالدة، وبذلك يصبح المُريد شاهداً حيّاً للعقل الكوني «اللوغوس. لكن وقبل أن يدخل المُريدُ مرحلة التهيُّؤ الرُّوحي، كان يتعيّن عليه أن يُظهِر تحلِّيه بصفاتٍ تُحاكي الفضيلة: استقامة الفكر والعمل، بتحكُّمه بفكره وسلوكه، والمثابرة لتحقيق الهدف السامي المنشود، والأخلاق الرُّوحيّة، والتزام تعاليم المرشد الرُّوحي والثقة به، وكذلك الثقة بالقدرة على التعلُّم، وعدم الغضب عند التعرُّض لاضطهاد، وكلّ ما تنطوي عليه هذه السجايا الخُلُقية من فضائل، تغنَّى بها فلاسفة الإغريق في تعاليمهم هم أيضاً.
ولاحظ الباحثون مدى تشابه “آلهيات” الفكر اليوناني مع مثيلاتها لدى مصر وبابل، وأبرز ما دلَّ على هذا التأثُّر هو التشابه بين فلسفتَي أفلاطون وأرسطو ومَنْ جاء بعدهما من الفلاسفة الرُّوحانيين (كأفلوطين)، وبين فلسفة الحكيم المصري «بِتاح حتب» الذي يُعتقَد أنّه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد، وربّما قبل ذلك، في مدينة ممفيس. وجوهر هذه الفلسفات هو تفسير الكثرة في الكون وردّها إلى منشأ واحد. ولو أنّ انطلاقة الفلسفة اليونانية كانت تبدو للبعض ماديّة، بيدَ أنّها انتهت إلى ما ورائيات ميتافيزيقية جليّة.

الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر
الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر

مصر المُلهِمَة عند أفلاطون
ممّا يُدلِّلُ على تأثُّرِ أفلاطون بمصر، وهو الذي أمضى فيها ثلاث سنوات( وفي رواية أخرى 13 عاماً) حديثُه المباشر عنها في إحدى عشرة محاورة من محاوراته، وعلى الأخص «كريتياس» و«تيماوس» و«فايدروس» (Phaedrus) و«القوانين» و«السياسي»، في نحو ثلاثة وعشرين موضعاً مختلفاً من تلك المحاورات، حيث أكّد فيها أنّ مصر هي منبع الحكمة وأصل الحضارة.
وفي نهاية محاورة «فايدروس»، وهي من المحاورات المتأخّرة التي كتبها الفيلسوف بعد محاورتَي «الجمهورية» و«المأدبة»، يقصُّ أفلاطون في الحوار، الذي تناول المحبّة والنفس والخطابة، قصةً توارثتها الأجيالُ عن أصل الكتابة تؤكّد أنّ الشخصية الأسطورية المُبجَّلة لدى المصريين «تحوت» (Theuth)، الكاتب الأعظم عند المصريين، هو مُكتشِف علوم الرياضيات والعدد والهندسة والفلك وحروف الأبجدية، وعلم الحروف الصوتية. إنّه الشخصية التي أصُبِغَت عليها في عصور لاحقة صفة إله الحكمة والمعرفة، وبالتالي اعتبرت هذه الشخصية مصدراً للإلهام والحكمة. وقد أطلق الإغريق على هذه الشخصية «هرمس مثلث العظمة» (Hermes Trismegistos).
لقد شكّلت مصر «تحوت/هرمس المثلث العظمة» وعلومه المختلفة مصدراً للإلهام الفلسفي، وتبدَّى ذلك واضحاً في محاورات أفلاطون التي تناول فيها أصلَ العالم وكوزمولوجيا الخلق وظهور الكائنات العلويّة والإنسان والطبيعة والنفس البشرية.
وتحدّث أفلاطون في محاورتَيه «تيماوس» و«كريتياس» عن تلقّيه التقليد الدقيق للنظام الكوني والعقول العشرة استناداً إلى علم العدد من مصر عبر سلفه صولون، ووصْفه بلغة فيثاغورية للكائن الأول «الموناد» (Monad) الذي وُجِدَ منه الكائن العلوي الثاني «دياد» (Dyad)، ومن ثمّ الكائن الثالث “ترياد” (Triad)، ومن ثمّ العناصر الأخرى والأفلاك، ووجود العالَم الأصغر كإنعكاس للعالَم الأكبر. فالعالَمُ الأصغر يعكس «بالعدد» حقائقَ العوالم السماوية من الأفلاك والكواكب إلى الأرض ومَنْ عليها، ولاسيّما الإنسان.

ما الذي نقله صولون؟
في مقارنة بين ما أورده المؤرّخ الإغريقي هيرودوت عن مصر، من حيث الاهتمام التاريخي والمقارنة بين معتقدات وعادات الشعبين في مجالات الحياة والسياسة، وما تحدث عنه أفلاطون فهو التأكيد على أوجه الشبه الفكري بين المصريين والإغريق القدامى، ولا سيّما في عصر صولون، بما يُوحِي بوجود تلاحمٍ قديم بين الشعبين، ولاسيّما في تناقل الحكمة القديمة السرّية.
فالإغريقي بدا للكهنة المصريين توّاقاً مُغامِراً يتميّز بروح الشباب الدائم والأفكار المتجدّدة التي لا تركن إلى التقليد والنقل بل تسعى إلى الإستزادة بالمعرفة العقليّة والتحقُّق الرُّوحي. ومصر هي مُلهِمةُ الفلاسفة الإغريق، ومهدُ التاريخ والحضارة الإنسانية. لقد ورثت مصر «ما قبلها» وأورثته لمَنْ بعدها في سلسلة متصلة من العلم الصوفي الحِكمي الرُّوحاني.
وفي مطلع محاورة «كريتياس» قوله: «إذا ما تذكّرنا تماماً وأوردنا أقوال الكهنة المصريين وقد نقلها صولون إلى بلادنا، فأكاد أعلم أنّنا سنبدو للقوم بمظهر مَنْ أنْجَزَ لهُ ما يليق به…». لكن ما الذي نقله صولون إلى بلاد الإغريق عدا روايته عن قارة أتلانتس الغارقة، وترك ذلك الأثرَ الكبير في الفلسفة الإغريقية وعلم الإلهيات تحديداً؟

بتاح قال للكون كن .. فكان
ثمة باحثون يربطون بين الرؤية الفلسفية لنشأة العالم لدى أفلاطون، ومن ثم أرسطو، وفكرة العقل الكوني الأول «اللوغوس» ونظرية الخلق «الممفيسيّة» (نسبةً إلى ممفيس)، وكذلك ما جاء في نصوصٍ داخل الأهرامات، التي تتحدّث عن الكائن الأعلى «بِتاح» (ويبدو بهيئة بشرية دون أن يصبغ عليه صفات إلهية، وهو ما حدث في وقت متقدم لاحق)، الذي أوجده الإله الأول «آتوم” (Atum)، ووضعَ في فكرِه بالفعل كلّ ما هو كائنٌ. لقد فكَّرَ “بِتاح” بالخلق ثم “نطَقَ” به فكان الوجود، وأوجدَ منه كائناتٌ علويّة أخرى، فأرسى النظام في ثُمانيّة من «الأزواج المتضادة” أو تاسوعيّة (Ennead) تضمّه، وهي ما تُذكِّرنا بالعقول العشرة عند أفلاطون والعقول التسعة لدى أرسطو. فما هي «إلهيّات» ممفيس التي تعود بنا أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟

بتاح نطق بكلمة فوجد المكون
بتاح نطق بكلمة فوجد المكون

حجر «شاباكا» و «إنجيل» ممفيس
في المتحف البريطاني، يُحفَظ حجرٌ يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد يُفسِّر نشأة الكون عند المصريين القدامى، كوزمولوجياً وفلسفياً ودينياً. وهو نقشٌ منقولٌ عن “مخطوطة” تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، إلى الحقبة الأولى المبكرة من التاريخ المصري، وُجِدَ في العاصمة الحاضرة آنذاك مدينة ممفيس (قبالة القاهرة اليوم)، “استنسخه” عن مخطوطة قديمة جداً ملكُ مصري اسمه شاباكا (من السلالة الخامسة والعشرين قرابة 712-698 قبل الميلاد)، ودُهِشَ علماءُ الحضارة المصرية لمدى التشابه بين الفلسفة اليونانية، ولاسيّما فلسفة أفلاطون وأرسطو وبعدهما أفلوطين، وما كُتِبَ في هذا الحجر، ومن ثم وجِدَ في نصوص داخل الأهرامات، حول النظام الكوني وعلاقته بـ “موجِدِه الواحد”، ولو بلغة “أسطورية”، أو بالأحرى رمزية كأنما أراد كاتبها أن يخفي مقاصده إلا عن الراسخون في العلم.
وقد اعتبر بعضُ الباحثين المختصّين في مصر القديمة وأبرزهم العالمُ والفيلسوف البلجيكي ويم فان دين دونغن
(Wim van den Dungen)، والعالمُ والفيلسوف الهولندي هنري فرانكفورت (Henri Frankfort) حجر شاباكا كأساسٍ أوّليّ للفلسفة الإغريقية بأكملها. فلم تتردّد فيه فحسب العبارةُ الفلسفية الشهيرة التي تُنسَب إلى سقراط: «اعرَفْ نفسك»، والتي وجدها هؤلاء العلماء منقوشة أيضاً على جدران المعابد المصرية، ولا الفضائل والسجايا «الأفلاطونية» الإنسانية كالشجاعة والاعتدال والحكمة والعدالة، بل أيضاً أشار ت إلى “المُحرِّكَ الأولَ غير المُتحرِّك» لدى أرسطو، و”الفيض” الذي اشتُهِرَ في فلسفة أفلوطين.
وكذلك وجِدَ في النقش ما يشبه “الأضداد الفيثاغورية”، والصانع الوسيط العلوي بين الإله والخلق وأصل النظام الكوني، و”الصوادِر الأُوَل”، التي وُجِدَت بـ “كلمةٍ نطقَ” بها الكائن الأعلى الأول «بِتاح” الذي يحمل في قلبه كلّ موجود، الذي “أوجده الإله الأول آتوم ليكون صانعاً للإبداع والخلق”. فكَّرَ “بِتاح” في عقله بكلّ الموجودات ونطقَ بها كلمةً أوجدَت الخلق بعد أن صدرَت عنه ثمانية كائنات علوية أخرى وهي أزواج متضادّة، ليصبح وإيّاها أشبه بالعقول التسعة عند أرسطو.
يُفكِّر «بِتاح” بعناصر الكون في عقله («القلب») ويُوجدها بأمره، وبذلك نجد في بدء التاريخ المصري مقاربةً لعقيدة “اللوغوس” كوسيط للخلق. فالعقل الإلهي الأوّل، وبالتالي الكلمة الإلهية الأولى، أوجدَت الحقيقة انبثاقاً عبر الكائنات العلوية الثمانية تحت «بِتاح”، وهو ما قد يُشكِّل خاتمة القصة التي لم يُكمِلها صولون، وأشار كريتياس إلى أنّها قد تكون لا تزال محفوظة في مخطوطاتٍ ورثها عن جدّه صولون. ولفتَ بريتشهارد إلى أوجه التشابه مع العِلّة الوسيطة للخلق لدى أفلاطون، وكذلك مع “العِلّة الأولى” للفكر المَحْض لدى أرسطو.
وفي هذا المعنى، يقول الكاتبُ دايفيد فيديلير (David Fideler)، المختص بالأديان والفلسفات والكونيات القديمة، في كتابه حول الكوزمولوجيا القديمة والرمزيّة المسيحية الأولى1(**): “يُمثِّل اللوغوس صميمَ النظام الكوني ومصدرَ الوجود، وممثوله الشمس، مصدر الحياة والنور”. وحول تعاليم اللوغوس في المدرستَين الفيثاغورية والأفلاطونية، يقول فيديلير: “يُمثِّل اللوغوس المستوى الأول من التبدِّي أو الكينونة، إذ إنّه يضم في ذاته جميعَ القوانين والعلاقات التي تحكم الكون الظواهري»، ويخلُص إلى القول: «اللوغوس هو مصدر كلّ وجود وهو مرتبطٌ بمبدأ العقل الكوني Nous، الذي تكمن فيه جميع الصور والمبادئ الكونية الذي يستند إليها الخلق».

صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية
صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية

ما كمِنَ في حَجَر “شاباكا” من «وحدانيّة مَشُوبة» لفِقه “الإلهيّات” الممفيسيّة تلوح منه أفكارٌ انجلت في سياق مبدأ اللوغوس الأفلاطوني ومن ثمّ فكرة اللوغوس لدى المسيحيين الأوائل. وفي هذا يقول الباحث جيمس هنري بريستد (James Henry Breasted) في مقالة له عن “الإلهيات” الممفيسية تحت عنوان «فلسفة كاهن من ممفيس” إنّ ما جاء في “إلهيات” نقش حجر «شاباكا” عن “العقل” الذي ولَّد العوالم
بـ “كلمته” يُشكِّل أساساً كافياً للإقتراح بأنّ مبدأَي العقل الأول Nous والكلمة الإلهية Logos “قد جاءا أيضاً إلى مصر في وقتٍ مبكر من التاريخ نقلاً عن إلهيات وكونيات حضاراتٍ مُوغِلَة في القِدَم”، وكما يؤكّد التقليد الإغريقي عودة أصول فلسفته إلى مصر، ثمة هيروغليفياتٍ تُلمِّح إلى أنّ ثمة مَنْ “همَسَ” أيضاً في آذان الكهنة المصريين حقائقَ توارثتها الأجيالُ من الحكماء عبر تعاقب الحضارات. ويشير بريستد إلى أنّ كلمة Nous اليونانية التي تُشير إلى العقل الكوني، قد تكون مشتقة من الكلمة المصرية «نو» (Nu)، وتشير إلى الرؤية البصرية والعقلية.
يتضح إذاً أنّ المصريين القدامى أخذوا مِشْعَلَ هذا الفكر الوضّاء عمَنْ سبقهم من شعوب، وقدّموه إلى الإغريق الذين بعقلهم المُبدِع أناروا العالم. ومن ثمّ توارت هذه الحقائقُ المصرية تحت رمالِ الآثار وسراديبِ الأهرامات من الأزمان السحيقة. لكنّ السطرين الـ 56
و 57 من نقش حجر “شاباكا” الممفيسي أبَيَا إلَّا الخروج من تلك الرمال والسراديب لينطقا بالحقيقة التي تلقّفها الفلاسفة الإغريق: «انظروا، كلُّ كلمةٍ من الإله أصبحت كائنةً في الوجود عبر أفكار العقل (القلب) والكلمة الآمرة (اللسان)”.

الكتابات الهرمسية
ومبدأ حفظ الأسرار

الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي
الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي

ظهرت الكتابات المسماة (المجموعة الهرمسية) في القرن الميلادي الأول، وكان ظهورها المكثّف في الإسكندرية، وإن كانت الهرمسية لم تكن محدودة بالإسكندرية، فقد كان للهرمسيين تجمعات (سرية) في عديد من المدن القديمة، ومنها ما هو في صعيد مصر.
وقد احتوت مجموعة (مخطوطات نجع حمادي) الشهيرة، التي اكتشفت بالصدفة سنة 1945، على عدد من الرسائل والكتابات الهرمسية، وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، يظهر امتزاج النـزعة الصوفية للهرامسة، مع العناية بعلم الكيمياء الذي كان في الزمن القديم مرتبطاً بالسحر، مع الاهتمام بعلم الفلك الذي كان آنذاك مرتبطاً بالتنجيم ..
وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، تظهر بقوة النـزعة التوحيدية. وفي كتاب «زجر النفس» المنسوب لهرمس، تأكيدٌ لا لبس فيه على «التوحيد» وعلى أنه السبيل الوحيد للمعرفة والعلم والتحقيق الروحي. وترى الهرمسية أن تعدُد الآلهة سخافةٌ، وإنكار التوحيد هو أكبر مرض يصيب النفس الإنسانية مع أن إدراك الإله الواحد، صعبٌ، وفهمه والكلام عنه مستحيل.
والله عند الهرامسة منـزهٌ عن العالم المادي/ الجسماني، وهو يتجلى في كل الموجودات من دون أن يحتويه شيء، مع أنه يحتوي الأشياء كلها. وقد صنع الله العالم، في المذهب الهرمسي، عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون الله مرئياً في مخلوقاته.
والإنسان حسب الهرمسية هو مقياسُ الكون وأبدعُ المخلوقات، وهو قسمان أساسيان: الجسم والنفس.. ونفس الإنسان هي «فيض من الله» لكنها أسيرة الجسم المادي المحسوس، مع أنها ليست مادية ولا محسوسة. وهي جوهرٌ روحاني شريف، يستطيع بالتجرُّد عن شهوات الجسد، وبالطقوس التطهيرية أن يستطلع العالم العلوي (الإلهي) ويستشرف الأفق السرمدي، فيصير كالملائكة .
وتؤمن الهرمسية بتقمص الأرواح، فالأشخاص الذين عاشوا حياتهم بشكل رديء، تعود أرواحهم في أبدان المواليد، لتحيا من جديد وتتطهَّر من المساوئ السابقة، وتظل الروح تنتقل في الأبدان، حتى تخلص في نهاية الأمر من خطيئتها.
فقرات من كتاب «سر الخليقة وصنعة الطبيعة» وهو نصٌ توجد منه بعض النسخ الخطية القليلة. منها المخطوطة التي كُتبت قبل ألف سنة، بالعربية، وتوجد اليوم في مكتبة جامعة (أوبسالا) بالسويد !

“الآن أبيِّن لكم اسمي، لترغبوا في حكمتي وتتفكروا في كلامي.. أنا بلنيوس الحكيم، صاحب الطلسمات والعجائب، أنا الذي أوتيت الحكمة من مدبِّر العالم.. كنتُ يتيماً من أهل طوانة (تيانا) لا شيء لي، وكان في بلدي تمثالٌ متلوِّن بألوان شتى، وقد أُقيم على عمود من زجاج، مكتوب عليه بالكتاب الأول (اللغة القديمة): «أنا هرمس المثلَّث بالحكمة، عملت هذه الآية جهاراً، وحجبتها بحكمتي، لئلا يصل إليها إلا حكيم مثلي. ومكتوب على صدر ذلك العمود، باللسان الأول: من أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة، فلينظر تحت رجليّ.. فلم يأبه الناسُ لما يقول، وكانوا ينظرون تحت قدميه فلا يرون شيئاً”.
“وكنتُ ضعيف الطبيعة لصغري، فلما قويتْ طبيعتي، وقرأتُ ما كان مكتوباً على صدر ذلك التمثال، فطنتُ لما يقول، فجئت فحفرت تحت العمود. فإذا أنا بَسَربٍ (سرداب) مملوء ظُلمة، لا يدخله نورُ الشمس. دخلتُ السَّرَداب، فإذا أنا بشيخٍ قاعد على كرسيٍّ من ذهب، وفي يده لوحٌ من زبرجد أخضر مكتوب فيه: هذا سرُ الخليقة وعلم علل الأشياء. فأخذت الكتاب واللوح مطمئناً، ثم خرجتُ من السَّرَداب، فتعلَّمت من الكتاب علم سرائر الخليقة، وأدركتُ من اللوح صنعة الطبيعة وعزمتُ على شرح جميع العلل في جميع الخلْق. وأخبركم أيضاً أنِّني إنما وضعت هذا الكتاب وأجهدت نفسي فيه، لأحبائي وخاصتي من نَسْلي”.
“فالآن أقسم وأُحلِّف من سقط إليه هذا الكتاب (وصل إليه) من ولدي وقرابتي، أو ذوي جنسي من أولاد الحكماء، أن يحفظوه مثل حفظ أنفسهم، ولا يدفعوه إلى غريب أبداً. والحلف واليمين بالله الذي لا إله إلا هو.. ألا تغيرِّوا كتابي هذا، ولا تدفعوه يا وُلدي إلى غيركم، ولا تُخرجوه من أيديكم. فإنني لم أدع علماً قلَّ أو كثر، مما علَّمني ربي؛ إلا وضعته في هذا الكتاب، ولا يقرأ كتابي هذا أحدٌ من الناس، إلا ازداد علماً واستغنى عما في أيدي الناس.. والله الشاهدُ على مَنْ خالف وصيتي، وضيّع أمري”.

حجر شاباكا
حجر شاباكا

ماذا في حجر “شاباكا”؟

قُبالة القاهرة، حيث وضعَ جوهرُ الصقلّي الأساسَ الأوّل للعاصمة الفاطمية سنة 970 ميلادي، وعلى بعد يقل عن 18 كيلومتراً، تكمن آثارُ مدينة ممفيس عاصمة الممالك المصرية منذ السلالات الأولى، وبين تلك الآثار، عَثرَ علماءُ الآثار على أرشيفٍ في مكتبة معبد بِتاح وُجِدَ فيه حجرٌ منقوش أسود مائل إلى الأخضر (يبلغ قياس الحجر 138,5 سنتيمتر× 93 سنتيمتراً، أمّا مساحة النقش فهي 134 سنتيمتراً × 69 سنتيمتراً، وثُقِبَ في وسطه كحجر الرحى) يحمل اسمَ الملك المصري شاباكا (حوالي 698- 712 قبل الميلاد) من الأسرة الخامسة والعشرين، وهو الملك الذي تمكّن مجدّداً، ولو لفترةٍ قصيرة، من إعادة مصر إلى التوحيد وجعل ممفيس مقرّاً لحكمه مع نهاية «الفترة الوسطية الثالثة» (664 -1075 قبل الميلاد) التي أعقبت فترة «المملكة الجديدة» (1075 – 1539 قبل الميلاد). وقد نقلَ اللورد جورج جون سبنسر، الملقّب بآرل سبنسر، هذا الحجرَ إلى المتحف البريطاني في العام 1905.
وفي الأسطر الأولى للنص المنقوش باللغة الهيروغليفية، يؤكّد الملك شاباكا أنّه “أنقذ” ما وردَ في مخطوطة قديمة «أخذ يأكلها الدود» تعود إلى التاريخ الأول لتأسيس ممفيس والسلالات الأولى الحاكمة في مصر ما بين 4000
و 3500 قبل الميلاد، وحفظها في نقشٍ يصمد مع الزمن ويمنعه من الضياع.
ويتألف النصُ المنقوش من ستة أقسام تبدأ بمقدّمة تمهيدية عامة حول الملك شاباكا وإنقاذ «مخطوطة أسلافه» التي أخذ يأكلها الدود بنقشٍ دائم، ومن ثم تمجيد لـ «بِتاح» الصانع، والكائنات العليا التي “أوجدها الإلهُ آتوم” انبثاقاً من بِتاح. وتتحدّث الأسطر بين الـ 53 و الـ 61 عن إلهيات ممفيس وكيف “فكّر” بِتاح (Ptah) في عقله و”نطق” بكلماته فأوجدَ الكائنات العليا الثمانية، المؤلّفة من أربعة أزواج متضادة، ومن ثم الخلق. ويرد فيها أيضاً أنّ بِتاح هو في الأعلى (في السماء) كما هو في الأسفل (على الأرض).

المؤرخ حافظ ابو مصلح

ذِكرى المؤرّخ والأديب والشاعر

حافــظ أبــو مصلــــح
مكتبــة فــي رجــــل

أكثر ما يدهش في الإرث الفكري والأدبي للمفكر الراحل الشيخ حافظ أبو مصلح هو تلك الغزارة وذلك الثراء الكبير في إنتاجه الذي امتد على مدى يزيد على النصف قرن وشمل في مواضيعه التاريخ والتأمل الروحي والفلسفي والأدب والقصة والشعر والترجمة حتى يصح القول فيه إنه كان مكتبة في رجل، وقد كان بسبب سخائه في العطاء وفي الكتابة من تلك القلّة النادرة من كتَّاب وجدوا لكي يكتبوا وهو الذي لم ير نفسه إلا في الكتابة التي كانت أنيسة روحه ورفيقة حياته، كأنني به من تلك الفئة من الخلاقين الذين تنطبق عليهم حقيقة إن لم تكتب تموت! هو الذي كان يردّد على مسامعنا أن الكتابة هي الهواء لرئتيه ونبضات قلبه، وأنه إن توقّف عن الكتابة فسيشعر بدنوّ الأَجَل.

عندما جفّ الحبر
كم كان صادقاً في ذلك القول لأنه وفي الفترة الأخيرة التي بدأت فيها صحته بالتدهور، وبدأت الآلام والعمليات الجراحية تدهم جسده النحيل، ولم يعد لديه الوقت والقوة على الكتابة، بدأ يشعر بأن العدّ العكسي بدأ فعلاً، وقد تسلل الموت إلى قلمه ونبض وجوده قبل أن يأتي على جسده وقد ترافق انقطاعه عن الكتابة أو عجزه عن القيام بواجباتها بتراجع متسارع في صحته عجّل في انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
رغم ذلك، لم يودّع حافظ أبو مصلح هذه الدنيا إلا قرير العين بسبب القدر الكبير من التكريم والتقدير اللذين حظي بهما على الدوام من مقدري أدبه وفكره، وقد أوفاه محبوه بعض حقه وهو على قيد الحياة عندما قاموا بتكريمه في احتفال كبير دعت إليه اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بتاريخ 6 أيلول 2013، في بيت اليتيم الدرزي في عبيه، تكلّم فيه السادة الشيخ سامي أبي المنى، والمؤرّخ ناظم نعمة، والأستاذ سماح أبو رسلان، والناقد والأديب سلمان زين الدين، والمكرَّم الشيخ حافظ أبو مصلح. وقد قدّم المتكلّمين د. صالح زهر الدين. وكان للتكريم يومها وقع في قلب الفقيد رغم أنه لفرط تواضعه لم يكن من المهتمين بحفلات التكريم والظهور في الإعلام.
فمن هو حافظ أبو مصلح؟ وماذا عن إنتاجه الفكري والتاريخي والمعرفي وإبداعاته في ميدان الكتابة على اختلافها؟

طفولة يتم وشوق للعلم
ولد الشيخ حافظ أبو مصلح في بلدة عين كسور سنة 1930 وعاش منذ طفولته يتيم الأب إذ توفي والده وهو إبن عامين فتولّت والدته تربيته مع أخيه الأكبر كمال. تلقى علومه الأولى في مدرسة الداوودية في عبيه، وتتلمذ على يدي أخيه كمال وعمّه هاني أبو مصلح، ثم تابع دراسته في مدرسة الليسيه الفرنسية (اللاييك) في بيروت، وبدأ مسيرته التربوية باكراً، عندما درَّس أولاً في مدرسة وادي الرطل (الهرمل)، ثم في لبّايا والعقبة وينطا في البقاع، كما درّس أيضاً في مزرعة الشوف سنة 1956.
كان من مؤسسي مدرسة البنّيه في الشحّار الغربي عام 1957 وكان المدرّس الأوحد فيها، ثم بدأ بتوسيعها وتطويرها إلى أن أصبحت مدرسة متوسطة تمنح شهادة البريفيه، وبقي مدرساً في مدرسة البنّيه لمدّة 22 سنة.
نُقل إلى تعاونية موظفي الدولة في بيروت، وفي سنة 1989 عمل على فتح فرع لتعاونية موظفي الدولة في بيت الدين-الشوف، وبقي فيها الى حين إحالته على التقاعد عام 1993، حيث كان رئيس الفرع.
عمل رئيس تحرير لمجلة “الرؤية” سنة 1990 وكتب في مجلات: “الحداثة” و“الأماني” و“الضحى”، وتمّ تكريمه في الرابطة الثقافية في البنّيه عام 2002.
توفّاه الله بعد 9 أشهر من تكريمه الأخير، وذلك في 7 حزيران 2014.

أحد مؤلفاته
أحد مؤلفاته

قلمـــــــــــــــــي أَبَيْتُ بــــــــــــأن يدوِّن مــــــــــــا اشتــــهــــــــــــى إلا إذا كــــــــــــــــان الــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدادُ مُحَـــــــــــــــــــرَّراً
وخشيت وخز العلم، إنْ شطَّ الهوى فســـــكبتُ روحي للحقيــــــــــــقة أســـطرا

حافظ أبو مصلح

إهتمامه بالتاريخ
كان لحافظ أبو مصلح ميل خاص إلى التاريخ، لذلك كان أكثر من نصف نتاجه الفكري في حقل التاريخ. وفي كثير من لقاءاتنا المتكرّرة كان يشدّد على أهميّة كتابة تاريخ القرى، وينصح كل باحث أن يكتب عن تاريخ قريته خوفاً على هذا التاريخ من الضياع، وفي هذا المجال، يؤكّد الباحث نديم الدبيسي قائلاً بأن الشيخ حافظ أشار عليّ بكتابة تاريخ قريتي مرستي، وقال لي:
“في كلّ قرية ولو صغرت، مادّة تاريخيّة تستحقّ الدراسة. لا فوقيّة في التاريخ، ولا إقطاعية فيه. يتساوى عند المؤرّخ الصّادق ما يحمله المزارع والعامل في الأرض، مع ما يتبجح به صاحب الأطيان والمزارع الكبيرة. فالأرض وجه الإنسان، أو إذا شئت الإنسان وجه أرضه”.
وقال فيه صديقه الراحل الدكتور سامي مكارم: “إن حافظ أبو مصلح، صفا أدبه، وصدق تاريخه، طيب القلب والعشرة، صديق ورفيق”، كما كان “أميناً في دراسة كتب التاريخ، رائعاً بأدبه وشعره” – حسب قول المؤرّخ ناظم نعمه.
وقال فيه الدكتور توفيق توما: “ شرب من ينابيع لبنان، وتنشق ربى جبله، فصفا أدبه وصحّ تاريخه واشتهرت قصصه”…
ولعلّ الشيخ حافظ أبو مصلح نفسه يوضح مسألة البحث في التاريخ وحقيقته بقوله: “ما دَفَعني في الحقيقة إلى هذا العمل المضني الشاق، هو ما وجدته من إهمال في كتابة التاريخ عندنا، ومن تزوير فاضح روّجته السياسة، ومن تغاضٍ مقصود ستراً لحقيقة، ومن أقلام كان همَّها إسترضاء بعض الفئات طلباً لمكسب، ومن دعاية مأجورة كان القصد منها سعياً وراء مغنم. وإنني حاولت أن أكون نزيهاً وصادقاً في نقل الحقائق، لا يحدوني ميل ولا يشدّني غرض ولا تستهويني شهرة. كان همّي أن أعطي أصحاب الحق حقّهم من التاريخ..” (من مقدمة “تاريخ عين كسور”)…
المؤرّخ التوحيدي
من ناحية أخرى، ونظراً إلى الترابط العميق والعلاقة الوثيقة بين التاريخ والتراث الإنساني، ومعرفة حافظ أبو مصلح لذلك معرفة دقيقة، فقد جاء تاريخه الإنساني مترابطاً بين الأرض والعشيرة، تماماً مثلما هو الحال بين الإنسان المعروفيّ الدرزيّ الموحّد وبين قريته وأرضه وجبله ووطنه. وعلى هذا الأساس يبرز حافظ أبو مصلح معروفياً أصيلاً، وقد جاءت مؤلفاته عن طائفة الموحدين الدروز وخلواتها وأضرحتها وتاريخها، تأكيداً على التزامه بمجتمعه والتصاقه بقيم التوحيد والتاريخ الحافل للموحدين ومحطات المجد التي لم تنقطع في مسيرتهم. وقد عبّر عن ذلك خير تعبير المؤرّخ الكبير يوسف ابراهيم يزبك الذي قال فيه: “أرّخ حافظ أبو مصلح عن الدروز بحسٍّ وطنيّ وصدق تاريخي وأمانة أخلاقية عالية”.
أما المؤرّخ ناظم نعمة فقد قال: “إكتشفت بالشيخ حافظ تأصّله العميق بعقيدته التوحيديّة وزهده اللامتناهي عن متاع هذه الأرض، فهو لا يبغي سوى مرضاة ربّه في كلّ ما كتب ويكتب. أليست رسالة التوحيد زهداً وتقشّفاً وانصرافاً عن مباهج الدنيا، والتمسّك بالفضائل الأخلاقية والإنسانيّة؟”…

أمانة فكرية ودِقَّة
يعتبر حافظ أبو مصلح من نخبة البحّاثة الموحّدين الذين جعلوا همهم الحفاظ على التراث الغني والمشرف لهذه الطائفة العريقة بعاداتها وقيمها وتقاليدها وأصالتها وقيمها العربية والإسلامية. لقد كان باحثاً ومنقّباً في مختلف الأماكن المعروفة، وغير المعروفة منها، ليستقي معلوماته من الينابيع الأصلية حرصاً على الصدق في الرواية والدقة في سرد الوقائع، وهذه من صفات الباحث والمؤرّخ الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين. وقد قام المؤرخ والمفكر أبو مصلح بزيارات وجولات في العديد من القرى والأماكن الدرزية أنفق في تلك الجولات قدراً كبيراً من الوقت والجهد والدراسة حتى أصبح بسبب ما جمعه وحققه خزَّان معرفة، ومستودع ثقافة ومعرفة في الشأن التاريخي والاجتماعي الدرزي.
كما يتميّز المخزون الفكري المنشور لحافظ أبو مصلح في غناه وسعته وتنوّعه ومعاصرته، غير انّ حصّة مجتمعه التوحيدي من مؤلفاته كانت وفيرة إلى حدٍّ أنها شملت بصورة كليّة أو جزئية كل كتب التاريخ الثمانية والعشرين التي نشرها، وخمسة من كتب الشعر، وثلاثة من القصص، واثنين من كتب الترجمة، وهذا ما يفوق الـ 70% من إنتاجه الفكري من الكتب.

حصاد ثقافي ضخم
ويكفي أن نلقي نظرة على هذا التراث الفكري التاريخي التوحيدي الذي أنتجه الشيخ حافظ أبو مصلح، لنرى كم كان هذا الأديب ثروة إنسانية حقاً، وهذه لائحة بعناوين هذه المؤلفات التاريخية (التي أعيد طباعة بعضها مرات عدّة):
1. في التاريخ
واقع الدروز وتاريخ دير القمر، تاريخ القرى، تاريخ الدروز في بيروت، تاريخ الدروز في بيروت وعلاقتهم بطوائفها.التنوخيون تاريخ وحضارة (بالإشتراك مع الأستاذ أنيس يحيى)، تاريخ قبرشمون، تاريخ عين كسور، تاريخ البنّيه، تاريخ جسر القاضي، تاريخ عين درافيل، تاريخ ديركوشة، ثوار على الإنتداب.
2. في الإيمان والتوحيد
درّة التاج وسلّم المعراج، الدروز فلسفة ومفاهيم، خلوات القطالب، حسن المآب لمن آمن واستجاب، نور الحكمة سلوك الأجاويد، الظاهر الخفيّ.
2. تأملات في الحياة
أيّها الإنسان: تمهّل، وعادت الأرض، جنّة الأموات، شرح ما يلزم، جهجاه لو عرفته، رسائل الحب، أساطير من لبنان، الستّ جندلة.
حافظ أبو مصلح والترجمة
كان الشيخ حافظ مترجماً ولاسيّما من اللغة الفرنسية إلى العربية، ومن ترجماته على سبيل المثال:
1. “ثورة الدروز وتمرّد دمشق” تأليف الجنرال الفرنسي أندريا Andria- (أعيد طبعه أربع مرات)
2. “الدولة الدرزية” (أعيد طبعه ثلاث مرات)
3. “الأم” لمكسيم غوركي
4. مدام بوفاري
5. رسائل من طاحونتي
6. من الأرض إلى القمر
7. مرتفعات وذرنج
8. قصة حب
9. كيف تكتب الرسالة

حافظ أبو مصلح القاصّ والشاعر
بقدر ما كان مؤرّخاً وموحّداً ومترجماً، فقد كان حافظ أبو مصلح أيضاً قاصاً وشاعراً. وقد قدّم الشاعرُ العربيُّ الفلسطينيُّ الراحل سميح القاسم لكتاب حافظ أبو مصلح “قصائد منمنمة”… وكتب رئيف خوري عن حافظ أبو مصلح بأنه “قصّاصٌ لامع، ولاسيّما في قصّته سيليستا اللبنانية”… أما الدكتور العلاّمة أسعد علي قال عنه بأنّه “روائي لامع. باكورته “ومعي أمي” تنمّ عن قدرته الأدبية ورفعة أسلوبه القصصي.. إياك أن تتوقّف عن الكتابة”… وكذلك الحال مع الدكتور (اللغوي المعروف) أحمد حاطوم الذي قال إن “كتاب “ومعي أمي” فرضت قراءته على ولدي. إنّه كتاب يجب أن يقرأه جميع الأبناء والبنات”.
ومن أهم ما كتب حافظ أبو مصلح في “القصة” ما يلي: 1- ومعي أمي، 2- مدى العمر، 3- دوّامة القدر، 4- سيليستا اللبنانية، 5- على طريق المطار، 6- العسل الكذوب،7- وداعاً أيّها التراب، 8- المقهى المظلم، 9- أحرقوا المدينة.
أما في “الشعر”، فله: 1- سنابل الستين، 2- أزهار كانون الأول، 3- مصفاة النغم، 4- ظلال الروح، 5- قصائد متحرّرة، 6- نفحات شعريّة، 7- وثار الصّمت، 8- قصائد الألفين، 9- قصائد منمنمة (قدّم له الشاعر سميح القاسم).

من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع
من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع

حافظ أبو مصلح، سلاحه قلم وورقة
وكتاب وإيمان
يكفي حافظ أبو مصلح الفخر، أنّه أعطى – ولم يأخذ-، أعطى عصارة فكره ودماغه وقلبه، وما اختزنه العقل من معارف وعلوم، وما جادت به القريحةُ من شعر، وما فجّر وجدانه من أدب إجتماعي وروحي، لكي يفتّح عقولاً على كنوز معرفيّة ثمينة… كما رسّخ قناعتنا بأن عَظَمَة الإنسان لا تكمن في ما يكتنزه من ذهب وفضّة، بل مما يختزنه من أدب وعلم وإنسانيّة وعطاء معرفيّ، يقوّم السلوك، ويهذّب النفوس، ويقوّم الإعوجاج – على أنواعه- في سبيل المجتمع الإنساني وأنسنة المجتمع. ولهذا نرى الشيخ حافظ يقول: أنا لا أملك مالاً ولا ثروة نقدية، ولا قصوراً، ولا عقارات… بل أملك فكراً وقلماً أغنى من كل هذه الثروات.
قد بتُّ أغنى من يروحُ ويغتدي فغنى حروفي ثـــــــــروةٌ من عَسْجَدِ
إني أموت بـــــــــــــحرقتي إنْ لم تَكُنْ فـــــــــــي منزلي كتبٌ تُنَوِّرُ لــــــــــــي غدي

في ضوء ذلك، يكفي حافظ أبو مصلح لقب “المؤرّخ الأديب”، حيث يجمع فيه الكلّ إلى الجزء، وإنك إذا دعيت يوماً إلى مائدته المزدانة بالأفكار والصور الرائعة، فإنك ستشبع العقل والوجدان من أطايب شعره وأدبه وتاريخه ولن تشعر مع ذلك بالشبع بل ستطلب المزيد. كذلك الحال في حديقته وعرائشها التي هي من حكمة الدهور وتجارب الزمن، وليست هناك ثمرة في هذا الكون أشهى من ثمرة شجرة المعرفة.
هذا، وبما أن حافظ أبو مصلح كان يتميّز بالصمت وقلّة الكلام أحياناً، لذلك قال عنه أخوه عالِمُ اللغة المرحوم كمال أبو مصلح، إن“حافظ أبو مصلح صَمْتُهُ مدوٍّ، لذلك تراه قليل الكلام”.
لقد كتب حافظ أبو مصلح في الأدب والشعر وفي التاريخ وعن التاريخ، ونقَّب في بطون الخزائن والوثائق بحثاً عن الواقعة الصحيحة وإرضاء لاستقامته الفكرية، لذلك، فإن التاريخ سينصفه كما سينصفه المؤرخون اعترافاً بأمانته وموضوعيته وتقديراً لشخصيته المتنوعة الصادقة المفعمة حباً صادقاً للإنسان من دون تمييز أو إستثناء من أي نوع.

الوسط الأدبي والفكري
يكرِّم ذكرى حافظ أبو مصلح

شهدت قاعة آل أبو مصلح في عين كسور، نهار السبت الواقع فيه 19/9/2015 احتفالاً شعبياً وأدبياً حاشداً كان موضوعه تكريم الكاتب والمفكر وتحدّث في هذه المناسبة كلّ من المؤرخ حافظ أبو مصلح، وقد تحدث فيه كل من الشيخ سامي أبي المنى، والأستاذ سلمان زين الدين، ود. صالح زهر الدين، والأستاذ أنيس يحيى، والأستاذ سماح أبو رسلان، والأستاذ نديم الدبيسي، وأسامة حافظ أبو مصلح عن آل الفقيد، وكان عريف الحفل المهندس الأستاذ كمال فخر.
وقد جاء في كلمة الشيخ سامي أبي المنى قوله: “كأني بالشيخ حافظ حكيماً واعظاً مؤمناً بأنّ أمر الله عدل وتخيير، وأن نهيه عظة وتحذير، طالما أنّ للإنسان عقلاً مميّزاً، معلناً “أنّ لا راحة للإنسان في السماء إن أهمل راحته في الأرض”، أي لا راحة لمن تعجَّل الراحة، على ما يقول الأمير السيد (ق)، ومن يهمل تحصيل زاده الروحي في الدنيا، فكيف له أن يتّقي جوع الآخرة.
وألقى الأستاذ سلمان زين الدين قصيدة عنوانها “إياب” مهداة إلى الشيخ حافظ أبو مصلح. واستذكر الدكتور صالح زهر الدين صداقته مع المرحوم حافظ تجاوزت الثلاثين عاماً وتجسّدت فيها قرابة الحبر في أسمى معانيها، حتى غدت أقوى من قرابة الدم.
وذكر الأستاذ أنيس يحيى كيف أن حافظ أبو مصلح “كان يشعر بالإرتواء عند صدور واحد من كتبه” لكن هذا الإرتواء لا يكتمل ويصبح الظمأ ملحّاً من جديد”. وقال الأستاذ سماح أبو رسلان إن ما قاله وكتبه يصلح لكلّ آن وأين، لذلك ستبقى يا حافظ في ضمير أهل الأدب إسماً، وفي دقّات القلوب وتراً، وفي محافل الشعراء نجماً، وفي قلب التاريخ بدراً”.
وذكر الأستاذ نديم الدبيسي أن منزل الفقيد في عين كسور “كان أشبه بنادٍ ثقافيّ، يلتقي فيه من حين إلى آخر وبفترات متقاربة، أصدقاء، أدباء وشعراء ومؤرّخون، يتباحثون في مختلف الأمور، فكان يستقبلهم بإبتسامته الحانية، وعينيه التي تسبق الشفاه في التعبير وقول الحق، وكذلك عقيلته السيدة أحلام التي نكنّ لها كل التقدير والاحترام”.
وكانت كلمة الختام لآل الفقيد، وقد ألقاها ولده أسامة أبو مصلح شاكراً فيها جميع الأصدقاء المتكلمين والحاضرين والراعين للحفل.
وفي الختام تمّ توزيع كتابه الأخير “أيّها الإنسان تمهّل” على الحضور.

الفـارس الآتي مـن بـاريـس

هــــــــــوَى الفـــــارس الآتــي من بـاريــــــــس

الشاعر والأديب والكاتب الأستاذ أحمـد منصور، مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في مدينة الشويفات، هـوى مـن على منبـر المكتبة الوطنية في بعقلين، بتاريخ 26/9/2015، أثناء إلقائه كلمة، خلال اللقاء الثقافي للمثقفين والهيئات الثقافية، الذي عقـد في المكتبة الوطنية في التاريخ المذكـور حيث أصيب بعارض صحّي مفاجئ فسـقط أرضاً وما لبث أن فـارق الحيـاة.
ولـد الأستاذ أحمـد منصور سنة 1942، في بلدتـه حاصبيا الجنوبية، وهـو ينتمي إلى عائلة “الكاخي” في البلدة المذكورة. تلقّى دراسته الإبتدائية والتكميلية في مدارسها، والثانوية في مدارس مختلفة، ثـم سافر إلى القاهرة ونال شهادة التعليم الثانوي.
وفي سنة 1967، غادر إلى باريس وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة السوربون لمتابعة دراسته الجامعية، وعمـل في التعليم والترجمة ونظم الشعر، ونشر المقالات الصحفية، وأنشأ مكتبة خاصّة حـوت مئات الكتب والوثائق والمجلّدات.
عـاد إلى لبنان، وكان قـد تـمّ إنشاء مكتبة عامّـة في مدينة الشويفات، أطلق عليها “ مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية”. عيّـن الأستاذ أحمـد مـديراً للمكتبة، فقام بنقل جميع محتويات مكتبته الخاصة من باريس إلى لبنان وقـدّمها هبـة إلى مكتبة الأمير شكيب المذكورة.
خلّـف الأستاذ أحمد منصور إرثاً ثقافياً ضخماً في الشعر والنثر، باللغتين العربية والفرنسية، منها:

1. باللغـة الفرنسيـة:
قاموس السبيل، لاروس، (تصحيح ومراجعة) – ودراسة حول البنية العروضية “كتاب الحب” شعـر نـزار قباني – وديـوان شعـر.

2. باللغـة العربية:
عشـرة دوادين شعـرية منشورة، وثمانية دواوين شعرية غير منشورة وجاهزة للنشر، منها ديوان شعري باللغة العامية وثلاثة كتب نثرية جاهزة للنشر أيضاً، بالإضافة إلى مئات المقالات والقصائد نشرت في صحف: الأهرام “مصر” – القدس العربي “لندن”- الإتحاد الإشتراكي
“ المغرب”- وثماني صحف ومجلات لبنانية في بيروت.
بـدأ الأستاذ أحمـد منصور بنظم الشعر صغيراً. هـو والشعر تـؤمان، يتفاعلان ويتلاحمان، فكلاهما واحـد الشاعـر والموهبـة. شعـره عميق الجـذور. يأخـذ من القلب حنينه إلى الجمال، ومـن العقل توقـه إلى الحقيقـة. مـن يقـرأه، يـرى إبداعه في سبك العبارات وصقلها ووزنها، وفي تصوير المعاني، والتحليق في الخيال والحكمة. يـوقن أن البلاغة لـم تخـلق خلقـاً ولا تصنع صنعاً، إنها تركيب دقيـق يعمل فيـه الشاعـر والطبيعـة.
في ديوانـه “مـدار الشمس”. يبدأ بذكر المعلّم كمال جنبلاط، شهيد المستحيل. ص 16
إرتجـــــــف الكــــــونُ نجـومــــــــــاً وجبـــــــــــــالا وجبيـنُ الشمس كالفحـم اسـتحالا
والسّـمــــــا انشقّــــــت بــــــزلـــــــزال هــــــــــــــــــــــوى في مـداه الشّـهبُ سـحبٌ تتعـالى
هـــــــــــــــــــل همـــــــت فــــــي بــــــعلبـك عـمــــــــــــــــــــــــــــــدٌ أم همـى “صنّين” في البحر وسالا
ألف أدهى..صرخوا..قلت إذن جنـدل الأوباش في الشـرق الهلالا

وفي ديوانـه “ حبّة من تراب غـزّة” يقـول: ص 48
أطفـال غـزّة والحـرائق أعيني
كبـدي لظـى .. نبضُ الفـؤاد جِـمارُ
أشـبال غـزّة صـولة في أمّـة
حِمـمٌ تهـبّ وطِيسـُها قهّـار.
أحمـد منصور شاعـر طليعيّ بارع، ورائـد نهضة، ومن المجـدّدين في الشعر. كما بلنـد الحيدري، ومحمـد الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، ومحمد علي شمس الدين، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، وأدونيـس، وأنسي الحاج وغيرهـم، الذين نجحـوا في تلقيح الشعـر بـدم التجديـد، النابـع من صـدق المعاناة لقضايا العصر الذي عايشـوه، والإنفتاح على ثقافات الغرب.
رحـل الأستاذ أحمـد منصور، لكنه باقٍ في ذاكرتنا وفي ضميرنا. رحمه اللـه.
8/10/2015

الغارية

الغارية عرين المجاهدين

أبو صالح فهد أبو لطيف بدأ رحلته إليها في مغارة
ثم توافد أبناء العشيرة وتعزز الحمى بالرجال

سليم الأطرش (الغول) أعيا العثمانيين في المعارك
فقتلوه وعرضوا رأسه في السويداء ثم نقلوه إلى والي دمشق

أسر مجاهدو الغارية الضابط العثماني رضا الركابي
فلما عرف سلطان أنه عربي أطلقه وأعاد فرسه إليه

الغارية قدّمت 45 شهيداً في الثورة السورية الكبرى
منهم نجيب نادر في راشيا ويحيى نادر في “رساس”

وجوه-من-مجتمع-الغارية
وجوه-من-مجتمع-الغارية

تقع بلدة الغارية في القسم الجنوبي من محافظة السويداء،على مسافة نحو 45 كلم من مركز المحافظة، وعلى ارتفاع 1125 متراً فوق سطح البحر، وهي مركز ناحية تتبع لها قرى عنز وخربة عواد والمغيّر. وتحدّها من الغرب قرية أم الرمان، ومن الشرق قريتا المغيّر وعنز ومن الشمال قرية الرافقة ومن الجنوب الحد السياسي الذي يفصل بين الأردن وسوريا.
يذكر خبير الآثار الدكتور علي أبو عساف في كتابه”الآثار في جبل حوران ــ محافظة السويداء” (ص 165) أن العمران في الغارية تأسس بعد العصر النبطي، وأنه نقلت إليها حجارات الخرب المجاورة، ومنها السواكف( العتبات) المنقوشة والمزوّقة والمذابح التي نشاهدها فيها، لكنه يعتقد أن الغارية نبطية التأسيس، والآثار المتناثرة فيها في عدة أماكن تؤكد ذلك.
يدعم ذلك الرأي ما أشارت إليه نشرة صادرة عن بلدية الغارية تقول:”ومن الغارية جلب تمثال كبير للإله بعل شامين ( إله السماء)، حسب رأي الباحث الفرنسي سوريل، يقف على قاعدة متصلة به وجهه ملتحٍ يحمل على كتفه قرن الوفرة وبيده اليمنى كأس، ولا بدّ أن عمرانها استمر في العصر الروماني البيزنطي الغساني، استناداً إلى ما فيها من آثار وكتابات، ويذكر المعمرون أن كنيسة قديمة
( ربما دير) كانت في البلدة، هي الآن مردومة.
وعلى الخريطة الجيولوجية لسوريا فالقان جيولوجيان ناجمان عن الانكسار الجيولوجي المسمى بالإنهدام السوري الأفريقي، يتجهان من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، أحدهما يمر شرق التل الشرقي للغارية، والآخر يمر في البلدة نفسها، وهذا يفسر غياب الصخر البازلتي وسط الغارية وتصدع جدران البيوت الواقعة في الغور الفاصل بين تلّي بركات غربها، والتل الشرقي شرقها.
أما متوسط كميات الأمطار التي تسقط فوق البلدة بين عام وآخر فقد بلغ خلال السنوات العشر الماضية نحو 223 مم، لكن هذا المعدل يعني أن كميات الأمطار قد تتفاوت بصورة ملحوظة وعلى سبيل المثال فإن معدل الأمطار لم يتجاوز في إحدى السنين 90 مم فقط.
ويخطئ من يظن أن عمراناً ما في الغارية يعود إلى ما دعاه البعض خطأ من حيث اللغة والتاريخ بـ “العصر الصفوي” إذ ليس هناك من عصر صفوي في الغارية، فالصفائيون،( صواباً)، سموا كذلك لأنهم سكنوا براري “الصفاة”، وهم جماعات من البدو الرعاة المتنقلين عاشوا شرق الجبل وعلى أطرافه الجنوبيه والشمالية الشرقية، ولم يتركوا عمراناً يذكر مقارنة بما تركه الأنباط من عمران وتحضّر.
أقدم عمران معروف في البلدة يعود الى عصر الأنباط، وقد عمد هؤلاء البناة إلى حفر بركتين كبيرتين في وسط غور القرية الأولى الواقعة بين التلّين الشرقي والغربي، ولعل وجود أكثر من نبع ماء في قرية شبيح القريبة منها وفّر على البناة الأوائل حفر المزيد من البرك؛ على خلاف ما هو الحال في أم الرمان المجاورة التي عُرفت فيها ست برك تعود إلى تلك العصور الغابرة. واستناداً إلى ما ذكره توفيق الصفدي في كتابه “جنوب الشام، صدى الإنسان والسنديان”، بشأن مساحة البرك وأعماقها في الغارية فإن كمية الماء المختزن في البركتين يصل إلى نحو 40,000 متر مكعَّب.
ويعتقد أن الغارية شأنها شأن سائر قرى جبل حوران مرت بمراحل من الخراب أكثر من مرّة، وذلك بسبب الجفاف، واضطراب الأمن وغياب دور الدولة المركزية، وموجات الجراد كما يشير إلى ذلك المؤرّخون والرحّالة الذين زاروا البلاد في القرنين الماضيين، وأبرزهم فتزشتاين قنصل بروسيا في أواسط القرن التاسع عشر.
وبسبب الصراعات السياسية والاجتماعية وموجات الهجرة التي قدمت من جبل لبنان بعد معركة عين دارة التي قضى فيها الشهابيون القيسيون على الحزب اليمني ومروراً بمراحل تالية شهدت اضطرابات وحملات اضطهاد كالتي جرّدها الأمير بشير الثاني الشهابي على أمراء الدروز وأعيانهم بدعم من الفرنسيين والإكليروس الماروني، فقد أطلقت الحروب وحقبات الاضطهاد موجات هجرة متوالية للموحدين الدروز من جبل لبنان إلى مختلف قرى حوران (كما كان يسمى آنذاك) واستمرت تلك الهجرات لأكثر من قرنين حتى الثلث الأول من القرن العشرين، وبذلك عمرت الغارية وغيرها من سائر حواضر الجبل التي كانت خراباً ومراعي لا حياة حضرية فيها.
ولكن سكن وإعمار بني معروف الموحّدين للغارية، ولكونها تقع في الجانب الجنوبي الأبعد من الجبل المحاذي لبوادي شرق الأردن جاء متأخراً عن إعمار سواها من الحواضر التي تقع إلى الشمال منها في ذلك الجبل.

زيد النجم باحث في التراث الشعبي
زيد النجم باحث في التراث الشعب

آل أبو لطيف..الرواد
يجمع المهتمون بتاريخ سكنى الموحدين للغارية ومنهم السيد حسن قماش أبو لطيف، وإسماعيل فرج، والأستاذ مشهور أبو لطيف (والأخير هو ابن حفيد القادم الأول للقرية) على أن أول من سكن الغارية من الموحّدين هو أبو صالح فهد أبو لطيف، وآل أبو لطيف أصلاً من عيحا في لبنان، وكان صالح قد أتى الغارية من صلخد، ترافقه زوجته،واسمها (مُرّة)، ــ وكانوا يسمون أسماء أبنائهم وبناتهم تبعاً لأحوال أيامهم ــ وكان معهما طفل رضيع، وذلك نحو العام 1854م، كانت الغارية آنذاك خربة لا سكان فيها، ولما ارتضى الرجل أن يتخذها موطناً جديداً له، فقد استبقى المرأة والرضيع في مغارة داخل دار قديمة على مدخلها باب حجري(حلس)، ورجع على دابته إلى صلخد ليجلب متاعه، وهناك حاصرته الثلوج، وبقيت الزوجة ورضيعها ثلاثة أيام تعاني الخوف بين الخرائب الموحشة إلى أن عاد الزوج بالمتاع والطحين.
في البدايات كانت حياة رائد إعمار الغارية عزلة في بيئة وحشية، وكانت الأسرة تشاهد من سطح الدار التي اتخذتها سكناً، قطعان الغزلان ومجموعات الذئاب ووحوش البرية ترد إلى البركتين. لكن ما لبث الأقارب من آل أبو لطيف بفروعهم العديدة أن بدأوا يفدون إلى القرية العديدة ــ لشد أزر بعضهم بعضاً، ومن تلك الفروع آل فهد وقماش وآل واكد ونكد وعسقول وغيرهم. وكانت تقاليد الغزو البدوية تهدد الوجود الحضري للموحّدين الذين حملوا معهم من لبنان تقاليد الزراعة والتحضر إلى بيئة غابت عنها سلطة الدولة وافتقدت للأمان قروناً.

العائلات المعروفية في الغارية
يذكر الأستاذ توفيق الصفدي في”جنوب الشام” (ص 268) قدوم مجموعة من العائلات إلى الغارية في ما بعد، منهم آل النجم ــ وهم أقارب آل الأطرش ــ كان لهم ربع أرض القرية، وآل فرج والصفدي ونادر وغزالة وصياغة، ثم قدم منصور بن إسماعيل الأطرش من قرية المنيذرة ليصير شيخاً في الغارية لكونه من أبناء الشيخ اسماعيل الأطرش، وجاء بعده آل البريحي وخداج والولي، وقيسية وكحل ومداح ونفاع وأبو رافع وأبو رشيد وأبو ديكار وصبح وفليحان والعنداري وغزلان والعقباني وعمار والبعيني، وأيم محمود مراد وعبد الوهاب وجمول ورزق وخليفة وسعيد وأبو رايد والبدعيش، وغالبية هذه العائلات تعود بأصولها إلى جبل لبنان.
ويذكر الأستاذ شفيق العودي من قرية أم الرمان أن أسرة مسيحية أرثوذكسية قدمت من عيحا من لبنان مع بعض آل أبو لطيف إلى الغارية وأن جده لأمه سعد زغيب كان في العشرينيات مختاراً لقرية الغارية، بعد أخيه يوسف.وقد ارتحل من تبقى من الأسرة في فترة سبعينيات القرن الماضي إلى مدينة قطنا في ريف دمشق الغربي.

فيلاّ من حجر البازلت
فيلاّ من حجر البازل

تاريخ كفاح
لعبت الغارية بموقعها المتقدم في الواجهة الجنوبية للجبل دور السد المانع للغزوات البدوية القادمة من الصحراء، تلك الغزوات التي كانت أبرز أسباب خراب الجبل وموات أرضه في ما مضى واجتناب الناس السكن فيه بصورة دائمة في الماضي. ويذكر توفيق الصفدي في كتابه (“جنوب الشام”..) أنه اشتهر من حملة بيرق الغارية صالح ومهنا الصريخي الصفدي، وجديع أبو لطيف.
وكان آل الصفدي قد استسهلوا سكنى الغارية المواجهة للبادية التي تفصل مواطنهم في شمال فلسطين حيث كانوا هناك قد عانوا من ظلم حكم محمد علي باشا لبلاد الشام ما بين العامين 1931 و1940، ومن سوق أبنائهم التعسفي للجندية في تلك الفترة. وقد شارك العديد من رجالهم في معارك الثورة السورية الكبرى. ومن مجاهدي البلدة المشهورين الشهيد نجيب نادر في معركة حصار قلعة راشيا، كما استشهد في معركة “رساس” الشهيد يحيى نادر. وممن استشهدوا في معركة خراب عرمان من رجال الغارية وفرسانها في المواجهة مع العثمانيين عام 1896 حمود النجم وعباس كحل، وفي معركة قنوات في تلك الفترة استشهد سلمان محمود البريحي.

“سليم الغول” يؤرق العثمانيين
إبان مرحلة تصدع الدولة العثمانية قام الموحدون الدروز في الجبل بعدة انتفاضات في الجبل ضد الوجود العثماني، وكان شيخ الغارية سليم الأطرش أحد أبطال الثورة التي قامت بمواجهة الحملة العثمانية التي قادها الجنرال سامي باشا الفاروقي على الجبل، وإلى هذا يشير سلطان باشا في كتاب “أحداث الثورة” ص 33، يقول:” في الأول من تشرين الأول عام 1910 جرت معركة حامية الوطيس حضرتها بنفسي وكنت بمعية والدي مع المشاة، في حين كان خالي سليم الأطرش مع الفرسان”، ويذكر سلطان أن خسائر العثمانيين في تلك المعركة ربما زادت على ألف قتيل، وعلى أثر سلسلة من المعارك لجأ الفاروقي إلى سياسة الوعود الكاذبة وفي هذا يقول سلطان باشا: “والجدير بالذكر أن خالي سليم الأطرش وفريقاً من الثوار لم ينخدعوا بوعود سامي باشا وعهوده، وإنما تابع الثورة في بعض القرى التي أمدتها بالمؤن والذخيرة، ففي العانات (قرية في جنوب شرقي الجبل قتلوا من القوات العثمانية التي كانت تطاردهم ستة جنود وأسروا قائد القوات سعد الدين الجباوي، فأطلق سليم سراحه لأنه عربي”، وكان الجباوي بعد أن بقي أسيراً لدى سليم مدة أحد عشر يوماً قد تعهد له إن هو أطلق سراحه بأن يسعى في إطلاق سراح سلامة أخي سليم وجدعان الأطرش قريبه من السجن العثماني في قلعة دمشق … لكن سلامة وجدعان ماتا في السجن بعد هذه الواقعة في ظروف مريبة، وذلك إثر تمكن العثمانيين من قتل سليم وبعض رفاقه في قرية الرضيمة الشرقية بالتعاون مع واشٍ محلّي، يقول سلطان: “في الرضيمة الشرقية واجهوا قوات أخرى بقيادة زكريا بك ونوري بك، فدارت معركة رهيبة عند الفجر، 18 أيلول 1911، قتل فيها خالي سليم وأسعد وذياب الصفدي، وأسر حمد الصحناوي كما قتل فيها أيضاً نوري بك وثمانية من جنوده” ويروي المعمرون أن ضباط الفاروقي أقدموا على قطع رأس سليم وعرضوه في السويداء ومن ثم نقلوه إلى الوالي التركي في دمشق للتأكيد على انتصارهم بعد أن أعياهم مراراً في قتاله مع ثلّة من رفاق جهاده.

أسر قائد في الجيش العثماني
في سياق حديثه عن الثورة العربية الكبرى عام 1918م، يذكر سلطان باشا الأطرش في كتاب “أحداث الثورة” (ص 52) الدور البطولي لفرسان الغارية في معركة تلول المانع، على المدخل الجنوبي لمدينة دمشق، يقول (ص 20) “لقد قمنا بحركة التفاف حول مواقع الأتراك، وباغتناهم بهجوم صاعق عطلنا فيه أكثر بطاريات مدفعيتهم، وقاتلناهم في خنادقهم بالسلاح الأبيض حتى استسلم لنا من بقي حيّاً منهم، وكان في مقدّمهم ضابط كبير هو رضا الركابي، الذي أسره فرسان قرية الغارية وأحضروه إليّ بصورة مهينة، فلما عرفت هوّيته العربية أمرت بإعادة سلاحه إليه، وأركبته فرساً، وعاد بصحبتنا إلى دمشق”.
ويذكر أن بلدة الغارية قدمت 45 شهيداً في الثورة السورية الكبرى عام 1925
وقال الشاعر مؤرخاً لبطولاتهم:
أهل الغاريـــــــــــــــــة صغـــــــــــــــــارها وكبارها يـــــــــــــــــوم الوغى فرسان تسعر نارهـــــــــا
وقلوبهم يـــــــــــــــــوم المعـــــــــــــــــارك صـامــــــــــــــــــدة سَـــــــــــــد المــدافـــــــــــــــــع بـــــــــــــــــالعمايم كارهــــــــــــــــــــا

نُموّ سكاني
نما عدد سكان الغارية مع الزمن ويشير سعيد الصغير في كتابه “بنو معروف في التاريخ”، أن عدد سكان الغارية بلع 4359 نسمة عام 1981، أما اليوم واستناداً الى ما ذكره الشيخ جاد الله أبو ديكار مختار البلدة حالياً فإن عدد سكانها يبلغ 7860 نسمة.

اقتصاد زراعي
تعتمد بلدة الغارية بصورة أساسية على النشاطات الزراعية وتبلغ المساحة القابلة للزراعة في البلدة 20,025 دونم. وأهم ما يشغلها زراعة الحبوب وخصوصاً القمح والحمص والشعير وكل هذه الزراعات تعتمد على مياه الأمطار. وتزرع الأشجار المثمرة مثل اللوز والزيتون والكرمة والتين والدراق والتوت.

الثروة الحيوانية
انقرضت تربية البقر الجبلي أو “البلدي” نهائياً في البلدة لصالح تربية الأبقار المحسّنة، وتربّى الأغنام والماعز بالتعاون مع رعاة من البدو .

آثار قديمة في البلدة القديمة
آثار قديمة في البلدة القديمة

الوضع التعليمي في الغارية
التعليم في الغارية: كافة المدارس ملك للوزارة ومبنية حسب المواصفات المناسبة، وفي البلدة مدرسة للتعليم الثانوي يدرس فيها تلاميذ الغارية والقرى المجاورة، وتتضمن فرعاً مهنياً فيها واحد لتعليم الإناث الخياطة، ويبلغ عدد التلاميذ 235 تلميذاً وتلميذة، وتتوفر في المدرسة أجهزة عرض سينمائي ومخبر حديث للتجارب للفرع العلمي وتتبع للمدرسة ملاعب كرة قدم وكرة السلة والكرة الطائرة. وتتألف المدرسة من 3 طوابق مساحتها 1,250 م2، وتبلغ مساحة عقارها العامة 5750 م2 .
وللتعليم الأساسي مدرستان إعداديتان، وثلاث مدارس إبتدائية، ويبلغ عدد التلاميذ العام في هذه المرحلة نحو 846 تلميذاً وتلميذة، وهذا بالإضافة إلى روضتي أطفال إحداهما تتبع لوزارة التربية والأخرى للإتحاد النسائي.

البلدية والعمران
تبلغ مساحة المخطط التنظيمي للغارية 4240 دونماً، وهي تشهد حركة عمرانية ناشطة بسبب عائدات الهجرة والاغتراب إلى بلدان الخليج ولبنان والدول الأجنبية، وتفيد مصادر البلدية أن الغارية تشهد استصدار 80 رخصة بناء سنوياً.
مركز الكهرباء: ويعمل فيه 8 من العاملين يرأسهم مساعد فني.

المركز الصحي
يقدم هذا المركز الحكومي التابع لوزارة الصحة خدمات طبية مجانية ويتضمن عيادة لتنظيم الأسرة ورعاية النساء وعيادة طب أسنان ويداوم في المركز 18 ممرضة وممرض واحد، وأطباء أسنان وهو يحتوي على مختبر لتحاليل الدم.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

من العيش ..

الى عد الأيام

كان أسلافنا يعيشون الأيام

أصبحنا نعدّ الأيام لكن لا نعيشها حقاً

عندما تفرغ الحياة من معنى مستمر هو معنى الطمأنينة والإنس بالله تبطل أن تكون وجوداً وتصبح «زمناً». الوجود الحقيقي بالله لا ينقطع والزمن هو وحدة قياس الوجود الفارغ. الوجود بالله ديمومة لا تشعرك بالوقت، الإنقطاع عن الله يجعلك وحيداً على بساط الزمان، خائفاً وجلاً.

لأن الله إن لم يملأ الزمان يجعله فارغاً مخيفاً فيتبدّى الوقت على شكل شبح الموت الزاحف. إنسان اليوم فقد الله فإذا هو قرين الموت يتبعه مثل ظله، هو في وحشة الغفلة حبيس الفراغ محروم من كل شيء ذي معنى وغارق في سراب الأشياء.

إنسان اليوم لا يعيش حقاً إلا بمعنى إنفاق الأيام المنصرمة من عمره، كما ينفق المرء رصيد المال، والحياة من دون الروح فقد دائم، وأيام تنقضي من دون كسب، وفي حديث للرسول (ص) أن «من استوى يومه فهو مغبون» أي من انقضى يومه ولم يزد في نفسه شيئاً من العلم ولم يرتق ولو درجة في مواجهة خصاله الذميمة فهو حتماً مغبون لأنه خسر ذلك اليوم الذي حسب عليه عند الله يوماً ولأن الحياة نعمة من الله لا يجوز تبذيرها، وإذا كنا نضن في حياتنا العادية بتبذير المال أو حتى الأشياء الزهيدة فكيف نتجرأ على طرح نعمة الوقت فنحيل الوجود الحق في خضم غفلتنا موتاً؟

في سياق قتل الوقت أو إنفاقه في اللاجدوى، صرنا فعلاً نمضي عيشنا نعدّ الأيام. الموظف يعيش يومه وعينه على آخر يوم في الشهر فهو يعدّ الأيام، والطالب كذلك يعدّ الأيام التي ينفقها يوماً بعد يوم قبل أن يصل إلى آخر يوم تحصيل ويعتبر نفسه حراً مع شهادة تخرّج، كذلك الصائم والمفطر والمبتلى بالدَّين والمبتلى بالربا والحسناء التي ترى انقضاء صباها والرجل الذي ظهر على مفرقه الشيب والقاضي والمحامي والعاطل عن العمل والمزارع والمسافر والقاعد والعاقل والجاهل كلهم يعدّون الأيام، ولا يحيون حقاً، لأن الله نزع بركة الوقت بعد أن فرغ الوقت من ذكره.

من علامات وحشة الوقت ما ابتلي به الناس من أنواع الأمراض والسقم والإكتئاب والخوف، وقلما يوجد اليوم إنسان لا يتناول عدة أنواع من العقاقير والأدوية. ينظر الواحد إلى علبة الدواء فيعدّ كم أحدث في كل مصفوفة من ثقوب وكم بقي من الحبات، فيعلم أنه أمضى عشرين يوماً أو خمس وعشرين يوماً وهو يتناول تلك العقاقير يوماً بعد آخر. والجوارح التي لا يكون عملها في مرضاة الله يبتليها الحق بعمل السخرة في معاينة ما ينيبها من فعل الأيام فتصبح كالمعلقة بين ما يجري عليها من صروف الدهر وبين السخرة في خدمة الدنيا فلا تذوق حلاوة الرضا ولا تقع ألحاظها إلا على الباطل والزائل من بضاعة الأوهام.

من علامات عدّ الأيام الانتظار والتوزّع الدائم للفكر بين ما مضى وانقضى وبين مجهول الأيام القادمة. وانتظار الأياميامأأا وغيوبها عبء على النفوس لكنه رفيق الرغبة والاشتهاءات لأن النفس الراضية في حال سكون وطمأنينة لا يحزنها ما مضى ولا يشغلها ما لم يزل في طيّ الزمان، لذلك كانت بركة الوقت في الماضي أن الناس تعيش أيامها دون أي قلق على صباح اليوم التالي بل كانت حتى في صباحها لا يخطر في بالها أي خاطر في ما خص رزق العشاء، ومعروفة قصة المرأة الصالحة التي تعجبت عندما أرسل لها من بيت الأمير السيد (ق) طعام يكفي للغداء والعشاء فردّت طعام العشاء قائلة إن طعام العشاء سيأتي في وقته، وإنها ليست منشغلة بشأنه لأن ثقتها بالله تعالى تامة لا يشوبها أي شك.

“الله حسبي، كفاني ربي» هذا هو لسان حال العبد المؤمن، أما الحائر الغافل فهو في تفكير دائم: “من أين سيأتي رزق الغد؟”..

الشاي الاخضر

الشاي الصيني الأخضر
شرابُ الصّحة الأوّل وعدو المؤكسدات

عشرة أمراض نقاومها إذا احتسيناه بإنتظام
السكّري والقلب والدماغ والألزهايمر والسرطان

إذا كنت تبحث عن شراب يومي تدخله في نظام حياتك وتستمد منه أعظم قدر من الفوائد الصحية فلن تجد أفضل من الشاي .. والأخضر منه بصورة خاصة.

حسب الأبحاث العلمية التي أجريت على الإنسان فإن هناك 10 فوائد صحية أساسية للشاي الأخضر هي التالية:
1. الشاي الأخضر يحتوي على مكوِّنات عديدة فاعلة بيولوجياً في تحسين الصحة.
الشاي الأخضر ليس مجرّد سائل منعش بل هو غني بمركّبات الـ “بوليفينول” (Polyphenols) على غرار “الفلافونويد” (Flavonoids) والكاتيشين” (Catechin)، وكلها من مضادات الأكسدة العالية الفعالية، وتُشكِّل مركبات الـ “بوليفينول” نحو 30 في المئة من وزن الأوراق الجافة للشاي الأخضر.
ويمكن لهذه المُرَكَّبات أن تُخفِّضُ تَشَكُّلَ ما يُسمَّى بالشوائب المؤذية أو «عناصر الأكسدة» (Free Radicals) في الجسم، وحماية الخلايا وجزيئياتها من التلف. ومن المعلوم أنّ العمل اليومي للجسم ووظائفه الطبيعية تنتجان هذه العوامل المؤكسدة التي تلعب دوراً في حدوث الشيخوخة، كما إنها في حال وجودها بكثرة في الجسم تتسبب في تراجع المناعة والإصابة بالأمراض.
ومن بين المكوّنات الأكثر فعالية في الشاي الأخضر، مضاد الأكسدة (Epigallocatechin Gallate EGCG)،الذي أثبتت الدراسات فائدته في علاج الأمراض، وربّما يكون وراء تمتُّع الشاي الأخضر بهذه الخصائص الطبية الفعّالة جداً.

2. تحسين وظيفة الدماغ والنباهة العقلية
لا يجعلنا الشاي الأخضر متيقِّظين فحسب، بل أكثر نباهة عقلياً. والمكوِّن الفاعل الرئيسي وراء ذلك هو مُنبِّه شائع الصيت، أي الكافيين وهو يحتوي على كمية أقل من الكافيين مقارنةً بالقهوة، لكنّها كمية كافية لإحداث تأثير مُحفِّز، من دون التسبُّب بتأثيرات التوتُّر العصبي المرتبطة بالإكثار من الكافيين.
وما يقوم به الكافيين، بكمياتٍ معتدلة طبعاً، في الدماغ هو إغلاق ناقِل عصبي (Neurotransmitter) كابح يدعى «أدينوسين» (Adenosine) وبذلك يزيد بالفعل من نشاط الخلايا العصبية وتركيز ناقلات عصبية محفّزة للنشاط مثل “الدوبامين” (Dopamine) و”النوريبينيفرين” (Norepinephrine)، و«السيروتونين» (Serotonin).
وقد خضع الكافيين لدراسات مكثّفة من قبل تُثبِت أنّه يُفضي إلى تحسينات في جميع نواحي وظائف الدماغ، بما في ذلك تحسينه للمزاج، والتنبُّه، وسرعة الإستجابة وقوة الذاكرة.
لكنّ الشاي الأخضر يحتوي على أكثر من الكافيين، خصوصاً الحمض الأميني «ل-ثيانين” (L-theanine)، القادر على عبور “حاجز الدماء” في الدماغ. ويُضاعِف هذا الحمض الأميني نشاط «الناقل العصبي الكابح» (GABA)، وله تأثيرات مضادة للقلق، كما إنّه يُضاعِف الناقل العصبي «دوبامين» وإنتاج موجات “ألفا” (Alpha) في الدماغ.
وأظهرت الدراسات أنّ الكافيين والحمض الأميني «ل-ثيانين» يمكن أن تكون لهما معاً تأثيرات متضافرة. فتوليفة من هذَين المُرَكَّبَين لها قدرة خاصة على تحسين وظيفة الدماغ. وبفضل الحمض الأميني «ل_ثيانين» والجرعة الصغيرة المعتدلة من الكافيين، يمكن للشاي الأخضر أن يمنح تأثيراً مُنبِّهاً على نحو مختلف وألطف من القهوة. وقد أوردَ الكثير من المشاركين في الأبحاث ذات الصلة أنّهم تمتّعوا بطاقة أكثر استقراراً ونشاطاً مُنتِجاً بعد احتسائهم الشاي الأخضر، مقارنةً بالقهوة.

رسم علمي لنبتة الشاي الأخضر
رسم علمي لنبتة الشاي الأخضر

3. حَرْق الدهون وتحسين الأداء البدني
إذا ما راقبنا قائمة مكوّنات أي مُكمِّل غذائي مُخصَّص لحَرْق الدهون، لوجدنا الشاي الأخضر من بينها ذلك أنّ الشاي الأخضر قد أثبتَ علمياً قدرته على زيادة حَرْق الدهون ورفع معدّل النشاط الأيضي (التمثيل الغذائي Metabolism).
ففي إحدى الدراسات التي شملت 10 رجال أصحاء، زادَ الشاي الأخضر معدّل حَرْق الطاقة لديهم بنسبة 4 في المئة. وأظهرت دراسة أخرى أنّ أكسدة الدهون ازدادت بنسبة 17 في المئة، ما يدل على زيادة الشاي الأخضر لحَرْق الدهون. لكن دراسات أخرى أُجريت على الشاي الأخضر أظهرت أنّ هذه التأثيرات قد تعتمد على الفرد.
من جهة ثانية، ثَبُتَ أنّ الكافيين يُحسِّن الأداء البدني عبر تحفيزه الأحماض الدهنية ونقلها من الأنسجة الدهنية وجعلها متوافرة للإستخدام في الخلايا كطاقة. وفي دراستَين منفصلتَين، أظهر الكافيين زيادة في الأداء البدني تراوحت في المتوسط ما بين 11
و 12 في المئة.

4. مقاومة السرطان
يحدث السرطان بسبب نمو غير مُتَحكَّم به في الخلايا، وهو من بين المُسبِّبات الأولى للوفاة في العالم. ومن المعروف أنّ الضرر الذي تحدثه الأكسدة يُسهِم في تطوُّر السرطان، في حين أنّ مضادات الأكسدة لها تأثير وقائي في هذا الصدد.
والشاي الأخضر هو مصدر ممتاز لمضادات الأكسدة القوية، وهو ما قد يقف وراء خفضه لمخاطر أنواع عديدة من السرطان، من بينها:
سرطان الثدي: وجدت دراسات تحليلية تعتمد على المراقبة الطويلة الأمد أنّ النساء اللواتي احتسينَ الكمية الأكبر من الشاي الأخضر كانت مخاطر الإصابة بسرطان الثدي، وهو الأكثر شيوعاً بين النساء، لديهنَّ أقل بـ 22 في المئة.
سرطان البروستات: وجدت دراسة أنّ الرجال الذين يحتسون الشاي الأخضر كانت مخاطر الإصابة بسرطان البروستات، وهو الأكثر شيوعاً بين الرجال، لديهم أقل بنسبة 48 في المئة.
سرطان القولون والمستقيم: وجدت دراسة أُجريت على 69,710 من النساء الصينيات أنّ مُحتَسِيات الشاي الأخضر كانت مخاطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم لديهنَّ أقل بنسبة 57 في المئة.
وأظهرت دراسات عديدة أخرى أنّ المُعتادين على احتساء الشاي الأخضر هم أقل عرضة بنحو كبير للإصابة بأنواع مختلفة من السرطان. ومن المهم التنبيه إلى عدم إضافة الحليب إلى الشاي لأنّ ذلك قد يُخفِّض أو يلغي فعالية مضادات الأكسدة.

شاي صيني أخضر من تويننغز
شاي صيني أخضر من تويننغز

5. أعراض الألزهايمر والباركنسون
لا يُحسِّن الشاي الأخضر وظيفة الدماغ فحسب على المدى القصير، بل يحميه أيضاً على المدى البعيد في سن متقدّمة، ولاسيّما من مرضَي الألزهايمر والباركنسون.
ومرض الألزهايمر هو مرض وَهَن الخلايا العصبية للدماغ الأكثر شيوعاً لدى البشر والسبب الرئيسي المؤدّي إلى تدهور القدرات العقلية وفقدان الذاكرة والخرف.
أمّا مرض الباركنسون فهو يليه في تدميره للخلايا العصبية للدماغ، ولاسيّما الخلايا العصبية المُنتِجة للناقل العصبي «الدوبامين».
وأظهرت دراسات عديدة أنّ مكوّنات «الكاتيشين” في الشاي الأخضر قد تكون لها تأثيرات وقائية عديدة للخلايا العصبية، وهي بدورها قد تُخفِّض مخاطر الإصابة بمرضَي الألزهايمر والباركنسون، وهذا ما أثبتته أيضاً دراسة طُرِحَت نتائجها في «المؤتمر الدولي حول مرضَي الألزهايمر والباركنسون 2015»، وكشفت أنّ المشاركين الذين احتسوا كوباً من الشاي الأخضر لأيام عدّة من الأسبوع اظهروا درجة أقل من خمول القدرات العقلية مقارنةً بالذين لم يحتسوا الشاي الأخضر. وتبيَّن حدوث زيادة في التواصُل بين القشرة الجدارِية واللحاء الجَبْهِي للدماغ، خصوصاً خلال اختبار للذاكرة.

6. البكتيريا وصحة الأسنان
تتّسِم مكوّنات «الكاتيشين» في الشاي الأخضر بتأثيرات بيولوجية مفيدة أخرى أيضاً. فقد أثبتت بعض الدراسات أنّها قادرة على قتل البكتيريا وكبح فيروسات مثل فيروس الأنفلونزا، وبالتالي ثمة احتمال أن تُخفِّض مخاطر الإصابة بالإلتهابات.
وتُبيِّن الدراسات أنّ مركّبات «الكاتيشين» يمكنها أن تكبح أيضاً نمو بكتيريا Streptococcus mutans، وهي البكتيريا المؤذية في الفم، وتُسبِّبُ تَشَكُّلَ الجير، وتُسهِم في تسوُّس الأسنان وتآكلها. إنّ استهلاك الشاي الأخضر يرتبط بتحسين صحة الأسنان ويَخفض تكوُّن الفجوات فيها. وثمة فائدة رائعة أخرى أثبتتها دراسات عديدة، أنّ الشاي الأخضر يزيل رائحة الفم الكريهة.
7. داء السكري المتأخر (النوع-2)
داء السكري من «النوع 2» هو مرض انتشر بشكل وبائي في العقود القليلة الماضية حيث هناك نحو 300 مليون شخص مصاب بهذا المرض اليوم في أنحاء العالم. وينطوي هذا الداء على مستويات مرتفعة من سكر الدم بسبب مقاومة الإنسولين أو عدم مقدرة الجسم على إنتاج الإنسولين.
وأظهرت الدراسات أنّ الشاي الأخضر يمكن أن يُحسِّن الحساسية للإنسولين ويَخفض مستويات سكر الدم. ووجدت دراسة شملت مواطنين يابانيين أنّ أولئك الذين احتسوا كمية أكبر من الشاي الأخضر، كانت مخاطر الإصابة بداء السكري «نوع 2» لديهم أقل
بـ 42 في المئة. وبحسب مراجعة لسبع دراسات شملت في الإجمال نحو 286,000 شخص، أنّ المعتادين على احتساء الشاي الأخضر كانوا أقل عرضة بنسبة 18 في المئة للإصابة بداء السكري.

8. أمراض أوعية القلب الدموية
إنّ أمراض أوعية القلب الدموية، بما في ذلك أمراض القلب والجلطات والذبحة، هي من بين المُسبِّبات الأولى للوفاة في العالم. وثمة دراسات تُظهِر أنّ الشاي الأخضر يمكنه أن يُحسِّن بعض العوامل الرئيسية وراء مخاطر الإصابة بتلك الأمراض، من بينها معدّلات الكوليسترول، والكوليسترول السيئ (LDL)، والدهون الثلاثية (الترايغليسيريد) في الدم.
كما إنّ الشاي الأخضر يُضاعِف بشكلٍ كبير قدرةَ مضادات الأكسدة في الدم، ما يمنع جزيئات الكوليسترول السيئ من التأكسد وهو ما يُسبِّب، إلى جانب عوامل أخرى، أمراض القلب.
وفي ظل هذه التأثيرات الإيجابية في التصدّي للعوامل المُسبِّبة للأمراض، ليس ما يثير الدهشة أنّ أولئك المُعتادين على احتساء الشاي الأخضر هم أقل عرضة بنسبة 31 في المئة للإصابة بأمراض أوعية القلب الدموية مقارنةً بغيرهم.
وتلفتُ نتائجُ بعض الدراسات إلى أنّ الشاي الأخضر يُحسِّن تدفُّق الدم وقدرة الشرايين على الإرتخاء، وذلك بفضل مضاد الأكسدة (Epigallocatechin Gallate (EGCG الذي قد يكون مفيداً في منع تصلُّب الشرايين، وتقترح احتساء بضعة أكواب من الشاي الأخضر يومياً للمساعدة على الوقاية من أمراض القلب.

9. خفض الوزن ومخاطر البدانة
إذا ما سلّمنا بأنّ الشاي الأخضر يمكنه أن يُعزِّز النشاط الميتابوليكي في الجسم على المدى القصير، فهذا يعني أنّه قد يساعد على خفض الوزن، بفضل مُرَكَّبات «الكاتيشين” المفيدة في حَرْق الدهون، والتي إذا ما عملت مع كيميائيات أخرى قد تُضاعِف من مستويات أكسدة الدهون والتوليد الحراري (Thermogenesis)، بحسب بحثٍ نشرته الدورية المتخصِّصة Physiology & Behavior.
فقد بيَّنت دراسات عديدة أنّ الشاي الأخضر يساعد على خفض كمية الدهون في الجسم، خصوصاً حول منطقة البطن والخاصرتَين. ومن بين تلك الدراسات، واحدةٌ أُجرِيت على نحو غير انتقائي وشملت 240 رجلاً وامرأة واستمرّت لنحو 12 أسبوعاً. وفي هذه الدراسة، سجّلت المجموعة التي احتست الشاي الأخضر تراجعاً كبيراً في النسبة المئوية لدهون الجسم، وكذلك انخفاضاً في الوزن، والدهون المحيطة بالخصر والبطن.
لكنّ بعض الدراسات لم تُظهِر نسبةً كبيرة في خفض الوزن، وهو ما يتطلّب مزيداً من البحث.

10. المساعد على إطالة العمر
استناداً إلى ما تبيّن من خلاصات الدراسات الآنفة الذكر حول كون المعتادين على احتساء الشاي الأخضر أقل عرضة للإصابة بأمراض أوعية القلب الدموية وأمراض السرطان، فمن المنطق الإستنتاج أنّه قد يساعد على إطالة العمر.

ففي دراسة شملت 40,530 بالغ ياباني من الجنسَين، تبيَّن أنّ أولئك الذين احتسوا كمية أكبر من الشاي الأخضر (5 أكواب أو أكثر في اليوم) كانوا أقل عرضة بكثير للوفاة خلال فترة 11 عاماً.
فقد كانت الوفاة نتيجةً لجميع الأسباب أقل بنسبة 23 في المئة لدى النساء، و 12 في المئة لدى الرجال، وكانت الوفاة نتيجةً لأمراض القلب أقل بنسبة 31 في المئة لدى النساء، و 22 في المئة لدى الرجال، كما كانت الوفاة نتيجةً للذبحة القلبية أقل بنسبة 42 في المئة لدى النساء، و35 في المئة لدى الرجال.
وأظهرت دراسة أخرى شملت 14,000 مُسِن ياباني تراوحت أعمارهم ما بين 65 و 84 عاماً، أنّ أولئك الذين احتسوا الكمية الأكبر من الشاي الأخضر كانوا أقل عرضة للوفاة خلال فترة مراقبة لمدّة ست سنوات بنسبة 76 في المئة.
.. وهناك المزيد
الأبحاثُ تُظهِر أيضاً فوائدَ صحية شاملة لاستهلاك الشاي الأخضر بما في ذلك تخفيض ضغط الدم، والتوتُّر والإجهاد بفعل التأكسد، والإلتهابات المُزمنة، وتحسين صحة بُنية العظام وقوتها، بتضافر مُرَكَّبات “البوليفينول” مع شكلٍ من أشكال الفيتامين «دي» (D) يدعى «ألفاكالسيدول”(Alfacalcidol) ، وكذلك الحفاظ على سلامة العين، بفضل مُرَكَّبات «الكاتيشين» التي تُغذِّي أنسجة العين. إذاً، لنبدأ صباحَنا بكوبٍ من الشاي الأخضر، والأجدر أن نكرّر هذه التجربة خلال النهار للتمتُّع بفوائده الصحية.

رفيق الحضارات منذ 5000 عام

الأسود الفوّاح لذيذ ومرغوب لكن الفائدة الأكبر في الأخضر

الشاي الأسود ليس سوى أوراق الشاي الأخضر لكن بعد تركها لكي تتأكسد بعوامل الجو والحرارة

تناول منه ما استطعت خلال اليوم لكن لا تمزجه بالحليب
تناول منه ما استطعت خلال اليوم لكن لا تمزجه بالحليب

بعد الماء مباشرةً، يُعتبر الشاي الشرابَ الأكثر استهلاكاً في العالم، ولطالما تمتّعت الشعوب بالشاي على مدى 5000 عام تقريباً. وفي إحدى الروايات أنّه اكتُشِفَ في العام 2737 قبل الميلاد عندما سقطت أوراق نبتة شاي عَرَضاً في وعاء مياه ساخنة للإمبراطور الصيني شين-نونغ، لكن يرجح أن الرواية جزء من الفولكلور الشعبي لا أكثر وأن استخدام الشاي بأنواعه عُرف من عدة حضارات آسيوية قديمة استُخدِمَت الشاي كشرابٍ ساخن منبّه وكعلاجٍ ضمن معرفتها ومعرفة حكمائها بعالم الأعشاب وخصائص النباتات والمداوة بها وقد كانت هذه هي المصدر الأهم للعلاج لآلاف السنين.
يعتقد أن زراعة الشاي كمحصول بدأت في الصين ثم انتقلت منها إلى اليابان قبل الميلاد بقرونٍ عدّة على أيدي رهبان بوذيين كعشبةٍ طبية، وبعد ذلك انتقل الشاي إلى الهند، وبعد أن استعمرت بريطانيا الهندَ، نقلت الشاي إلى أوروبا حيث كان يتأكسد طبيعياً بفعل تعرُّضه للهواء نتيجة لفترة الإبحار الطويلة، وشاع استخدامه هناك كشاي أسود يفقد جرّاء ذلك بعض خواص الشاي الأخضر وفوائده الصحية.
وجاء في تقرير للمركز الطبي في «جامعة ماريلاند» الأميركية: “في الطب التقليدي الصيني والهندي، استخدم المعالِجون الشاي الأخضر كمُحفِّزٍ ومُدرٍّ للبول، أي إنّه يساعد على التخلص من السائل الزائد في الجسم، ومخثِّر للتحكُّم بالنزيف ومساعدة الجروح على الشفاء، وكذلك لتحسين صحة القلب.
ومن بين الإستخدامات التقليدية الأخرى للشاي الأخضر، معالجة غازات الأمعاء، وتنظيم حرارة الجسم، وتعديل سكر الدم، وتعزيز العملية الهضمية، وتحسين العمليات العقلية». وهو ما تؤكده الأبحاث العلمية الرصينة في وقتنا الراهن، إلى جانب العديد من الفوائد الصحية للدماغ والقلب، وإسهامه في حرق الدهون وتحفيز النشاط الفكري والبدني.
واليوم يحظى «الشاي الأسود» (وهو الشاي المعروف) بشعبية كبيرة في العالم بسبب طعمه المميز وعطره لكنّ الشاي الأخضر الأقل انتشاراً والذي قد لا يضاهي الشاي الأسود طعماً يتفوق بالتأكيد عليه من حيث الفوائد الصحية والخصائص العلاجية.

بين الأسود والأخضر
جميع أنواع الشاي تأتي من النبتة ذاتها الدائمة الإخضرار (أي التي لا تتساقط أوراقها في الشتاء) وإسمها العلمي “كاميليا سينينسيز” (Camellia Sinensis)، إنّما عملية المعالجة ودرجة الأكسدة (التعريض للأوكسجين) وكذلك «تعطير» الشاي عبر مزجه بأنواع الأزهار أو بعض الفاكهة هي وراء عملية ينتج عنها أنواعاً مختلفة من الشاي الأسود والأحمر والأخضر والأبيض وغيرها.
بهذا المعنى فإن الشاي الأخضر كما يتم قطافه هو أصل كل أنواع الشاي لأنه يمثل أوراق نبات الشاي الطازجة كما يتم جمعها في البلاد التي تزرعه، مثل الصين والهند وسريلانكا، وهو الشاي الذي يشربه أهل تلك البلاد في الأصل. لكن عندما استعمر الإنكليز الهند وسريلانكا (وقد أطلقوا عليهما إسم «سيلان») وكذلك العديد من البلدان الآسيوية فإنهم اكتشفوا مشروب الشاي اللذيذ والمنعش، وبدأوا بشحن كميات كبيرة منه إلى بلادهم وإلى بلدان عدة في العالم، فكانت السفن التجارية البريطانية تمخر البحار والمحيطات لفترات طويلة في جو حار قائظ ورطوبة شديدة أشهراً أحياناً، وبسبب عوامل الحرارة والرطوبة التي كان الشاي الأخضر يتعرض لها أثناء الشحن، فقد كانت أوراقه تتأكسد على الطريق وتتحول إلى اللون الأسود، لكن يبدو أن الإنكليز جربوا ذلك الشاي الأسود واكتشفوا فيه نكهة عطرية وطعماً لذيذاً يفوق ما للشاي الأخضر ومن هنا فقد بدأ المستهلكون في بريطانيا وبقية الدول التي تم تصدير الشاي إليها بالتعوّد على تناول الشاي الأحمر (ويسمى أيضا الشاي “الأسود”) مما جعل الناس يعتقدون أن الشاي الأحمر هو الشاي الوحيد المتوفر ولم يكن معظمهم يدرك أنه الشاي الأخضر الذي تركت أوراقه لتتأكسد لكي تكتسب اللون الأسود والطعم المميز الذي بات الشاي الأحمر يعرف به. أما الشاي الأخضر فيتم تعريضه لبعض التبخير الخفيف قبل أن يترك لكي يجفف ويستعمل بعد ذلك.
لكن بعد قرون من هيمنة الشاي الأحمر (أو الأسود) فقد أدى

إعلان قديم عن الشاي الإنكليزي
إعلان قديم عن الشاي الإنكليزي

اتساع نطاق التجارة العالمية وخسارة البريطانيين لاحتكار الشاي ثم انتشار الوعي والمعلومات حول الفوائد الصحية للشاي الأخضر إلى اتساع نطاق استهلاكه والطلب عليه من المستهلكين في العالم. وساهمت وسائل الإعلام ونشر الكثير من الأبحاث العلمية عن الشاي الأخضر في ازدياد شهرته وتحول نسبة متزايدة من المستهلكين إليه طمعاً في ما باتوا يعرفونه عن فوائده الصحية المهمة. ويأتي الشاي الأحمر من أفريقيا والهند وسريلانكا واندونيسيا، بينما يأتي الشاي الأخضر من بلدان الشرق الأقصى مثل الصين واليابان.
وفي القرن الثالث عشر شدد راهب بوذي كان يدعى “ايساي” على التأثيرات النافعة للشاي الأخضر ونشر في العام 1211 م كتاباً حول الموضوع بعنوان “الحفاظ على الصحة بشرب الشاي” ومما قاله أن “الشاي (الأخضر) هو دواء إعجازي يحافظ على الصحة، وله قوة غير عادية في إطالة العمر” واستند الراهب في استنتاجه إلى ملاحظة أنه في كل مكان يزرع فيه الشاي يتمتع السكان بمعدلات أعمار أطول، وقد أوصله ذلك إلى الاستنتاج بأن الشاي “هو الإكسير الذي يجعل سكان الجبال يعمرون طويلاً».
ربما تأثراً بهذا النوع من المؤلفات التي شرحت فوائد الشاي، أصبحنا اليوم نعلم أن الشاي الأخضر خصوصاً كان له منذ قديم الزمان مكانة كبيرة كعلاج قوي وفعال، لكن الأبحاث المعاصرة المتقدمة قدّمت أدلة علمية كثيرة ومقنعة على أن هذه النبتة البسيطة ليست فقط شراباً لذيذاً ومنعشاً بل أيضاً دواء فعّالاً للحفاظ على الصحة ومقاومة الأمراض.

الحسن بن يسار البصري

الإمام الحسن البصري

إمام الزهد وسيّد التابعين

قوّام صوّام كثير الحزن والبكاء
شجاع في الحق عظيم الهيبة

لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار

خطابه للذين يجعلون علمهم الشرعي وسيلة لإستجداء الأمراء

والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم

ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم

أرضعته زوجة الرسول طفلاً وعاش بين الصحابة
وأصبح أعظم أهل زمانه معرفة وخوفاً وتقوى

كان الحجاج بن يوسف الثقفي، جزار العراق في أوجّ سطوته وجبروته عندما سمع عن اللهجة الشديدة التي يتكلم بها الإمام الحسن البصري عن ظلمه واضطهاده للناس مذنبهم وبريئهم على السواء، فقرر بكل بساطة قطع رأسه وطلب إحضاره إلى مجلسه وهيّأ السياف لتنفيذ المهمة فور وصول الحسن إلى مجلسه. وبالفعل جاء الإمام ذو الطلعة البهية والمهابة العظيمة ودخل مجلس الحجاج بطمأنينة تامة وتوجه نحوه والطاغية يرغي ويزيد حتى إذا اقترب الحسن البصري منه دون أي خشية أو خوف، ونظر الحجاج في وجهه حتى راعه المنظر وتغيّرت حاله وهدأت غضبته فإذا به بدلاً من أن يأمر السيَّاف بقطع رأس الإمام العالم فريد عصره يدعوه للجلوس إلى جانبه ويبدأ بسؤاله مسائل في الدين وفي غير ذلك من الأمور، وانتهى الأمر بأن ودّع الحجاج الحسن البصري بإحترام شديد وانصرف العالم المطمئن في وجه الموت المحقق كما أتى ولم يتغير في قلبه شيء من قوة المؤمن وثقته بربه، مما أذهل من كان حاضراً في مجلس الحجاج وقدَّم الدليل على أن الرجل يختزن أسراراً وقوة غير عادية جعلت الحجاج البطّاش يرضخ ويظهر الطاعة من دون أن يعلم ربما ما دهاه.

هذه القصة هي ربما خير ما يمكن أن نبدأ به سيرة إمام الزهد والورع الفقيه العارف الجليل الأمين الناصح الأسد الهصور في الحق الإمام الحسن البصري رضي الله عنه. وقد كان فريد عصره في كل تلك الصفات ومدرسة ومنهاجاً لا يضارى في خوف الله والعبادة الحق والتقوى وترك الدنيا والإعراض عن زخرفها كما كان بطلاً في القتال والفتوحات وشيخاً مرشداً يجلس للإستماع إليه المئات بل والآلاف سواء في مجلسه الخاص أو في مجلسه العام في جامع البصرة في مدينة البصرة حيث أقام الشطر الأكبر من حياته إلى أن توفاه الله. فمن هو الإمام الحسن البصري؟ وما هي أهميته الكبيرة في الإسلام ولماذا أصبح له هذا التأثير الكبير والمكانة الجليلة في صفوف العلماء والأئمة العارفين وهو تأثير لا يزال ماثلاً وكبيراً حتى يومنا هذا؟

نسبه ونشأته
هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد، كان أبوه مولى جميل بن قطبة وهو من سبيميسان، سكن المدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافة عمر بن الخطاب فولد له بها الحسن رضي الله عنه، أما أمه فإسمها خيرة وكانت مولاة لأم سلمة أم المؤمنين وكانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة وترضعه، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن إنما هي من بركة بيت الرسول (ص) إذ إن أم المؤمنين أم سلمة أصبحت أمّه بالرضاعة فأصبح عن هذا الطريق منسوباً إلى بيت النبيّ (ص)، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له وكان في جملة من دعوا له عمر بن الخطاب (ر) بقوله: اللهم فقّهه في الدين وحبّبه إلى الناس.

عيشه وسط الصحابة
بسبب ولادته وإقامته في المدينة فقد نشأ الحسن البصري منذ يفاعه بين صحابة رسول الله (ص) وقد رأى الحسن عدداً من كبار الصحابة وكان قد بلغ الحلم عندما رافق العديد منهم وتعلّم منهم وسمع منهم مباشرة وروى بعد ذلك الحديث عنهم. ومن الذين روى الحسن البصري عنهم عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي والنعمان بن بشير وجابر وجندب البجلي وابن عباس وعمرو بن تغلب ومعقل بن يسار والأسود ابن سريع وأنس بن مالك. وحضر الحسن الجمعة مع عثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهد يوم اغتياله وكان عمره أربع عشرة سنة. وفي سنة 37 هـ انتقل إلى البصرة للتلقي والتعلم، حيث استمع إلى الصحابة الذين استقروا بها، وفي سنة 43هـ عمل كاتباً في غزوة لأمير خراسان الربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وبعد رجوعه من الغزو إستقر في البصرة حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها حتى وفاته.

” دخل أصحابه عليه لعيادته في مرض فلم يجدوا عنده فراشاً ولا بساطاً ولا وسادة ولا حصيراً إلا سرير من طين  “

فرح
فرح

صفاته وشمائله
كان الحسن البصري حسن الصورة، بهي الطلعة، وكان عظيم الزند قال محمد بن سعد: “كان الحسن فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، وسيماً”. وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكان المهلب بن أبي صفرة يقدمهم إلى القتال، واشترك الحسن في فتح كابول مع عبد الرحمن بن سمرة.
قال أبو عمرو بن العلاء: “ ما رأيت أفصح من الحسن البصري”.
وقال الغزالي : “وكان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم، هدياً من الصحابة، وكان غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه”( أي من فمه).
وقال علي بن زيد: “أدركت عروة بن الزبير ويحيى بن جعدة والقاسم فلم أر فيهم مثل الحسن ولو أن الحسن أدرك أصحاب النبي وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه”.
وقال الأعمش: “ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند أبي جعفر يعني الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء”.

حزنه وخوفه
كان الحسن البصري صواماً قواماً، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس وكان كثير الحزن، عظيم الهيبة، قال أحد أصحابه: «ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة».
وقال حمزة الأعمى: “كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه”، فقلت له يوماً: “إنك تكثر البكاء”، فقال: “يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك”.
أما عن سبب حزنه فيقول الحسن رحمه الله: “يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه”.
وروى حوشب عن الحسن، قائلاً : يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولنّ في الدنيا حزنك، وليشتدنّ في الدنيا خوفك، وليكثرنّ في الدنيا بكاؤك
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إنني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بـالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
ومن شدة خوفه وحرصه على الحلال وفراره من كل حرام، قد رفض تزويج ابنته لرجل عرف عنه أنه جنى مالاً كثيراً، وفي الرواية عن حميد الطويل أن رجلا قدم نيابة عن شاب يطلب خطبة بنت الحسن البصري، وأعرب الحسن في البداية عن قبوله، ثم عاد الوسيط إلى الشيخ وأراد أن يزيد الثناء على الخطيب فقال: يا أبا سعيد، وأزيدك أن له خمسين ألف درهم. قال الحسن على الفور: له خمسون ألفاً ما اجتمعت من حلال، وإن كان جمعها من حلال فقد ضنّ بها على الخلق، لا والله لا يجري بيننا وبينه صهر أبداً”!!

مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله
مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله

واصل بن عطاء

كان العالم واصل بن عطاء من تلاميذ الحسن البصري لكنه قرر في مرحلة معينة ترك مجلس الإمام الحسن وتكوين مذهب أو جماعة سميت في ما بعد بيت “المعتزلة”. وكان سبب ذلك حسب الرواة أن واصلاً ابن عطاء سأل الحسن البصري عن عصاة الموحدين فقال الحسن: “هم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم”، فقال واصل: “بل هم في منزلة بين المنزلتين”، ثم اعتزل حلقته، فقال الحسن البصري: «اعتزلنا واصل»، فسميت فرقته منذ ذلك الحين بـ «المعتزلة».

زهده واستغناؤه عن الناس
كان الحسن البصري من الزاهدين حقاً فهو الذي زهد في ما عند الملوك فرغبوا فيه واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، فعن يونس بن عبيد وقال: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء أما أنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء) فقال: هون عليك يا هذا، فإنني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وعن خالد بن صفوان قال: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قلبي به أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضلّ قوم هذا فيهم؟! وعن مطر قال: دخلنا على الحسن نعينه فما كان في البيت شيء لا فراش ولا بساط ولا وسادة ولا حصير إلا سرير مرمول هو عليه.

مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري
مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري

“كان جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً مهيباً وجميـــــــــــلاً”

علمه
كان الحسن أعلم أهل عصره، يقول قتادة: “ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن”.
رأى الحسن عدداً كبيراً من الصحابة وروى عنهم مثل النعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس رضوان الله عليهم، ونتيجة لما سبق فقد لقّبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول:” قد وليت قضاء البصرة سيد التابعين”.
ويقول ابن سعد عن علمه: “كان الحسن جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان في من أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: “من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن”. وقال قتادة: «كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام».

علم للخاصة وعلم للعامة
وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: «كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان عن غيرها تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمرّ فيها الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، وكان منهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص وكل من هؤلاء اشتهر بحال تعنى في العبادة».

حذره من السياسة والفتن
عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت بإسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والإضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء في المسلمين، ولأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شقّ إصلاح الحاكم فما زال إصلاح المحكومين يسيراً. أما إن كان الحاكم ورعاً مطبقاً لأحكام الله مثل عُمر بن عبد العزيز، فإن الحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.
ولقد عنّف الحسن البصري طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للإستجداء فقال لهم: “ والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم، ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم”.
وكان يخاف الفتن وانزلاق الغوغاء إليها. فلما كانت فتنة بن الأشعث وقتاله الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري وقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. لكن الثلاثة خرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟ وانضموا إلى فتنة بن الأشعث وقتلوا جميعاً.

وفاته
يقول أبو طارق السعدي: “شهدت الحسن عند موته يوصي فقال لكاتب: اكتب هذا ما يشهد به الحسن بن أبي الحسن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من شهد بها صادقاً عند موته دخل الجنة. ويُروى أنه قبل أن تفارق الروح الجسد دخل في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

” كان يحذر من الفتن وسفك الدماء ويرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى ويقول فوضى ساعة يرتكب فيها من المظـــــالم ما لا يرتكب في اســـــتبداد ســــنين  “

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن

في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

قالوا في الحسن البصري
سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن، إنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال قتادة: ما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة.
وقال ضمرة بن ربيعة نقلاً عن الأصبغ بن زيد إنه سمع العوام بن حوشب يقول: ما أشبه الحسن إلا بنبي .
وعن أبي بردة، قال : ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليـه وسلَّم منه
وقال مطر الوراق، لما ظهر الحسن جاء كأنما كان في الآخرة، فهو يخبر عما عاين.
وقال معاذ بن معاذ قلت للأشعث: قد لقيت عطاء وعندك مسائل، أفلا سألته ؟ ! قال: ما لقيت أحداً بعد الحسن إلا صغر في عيني.
قال قتادة: ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن.
وعن علي بن زيد، قال : سمعت من إبن المسيب، وعروة، والقاسم وغيرهم، ما رأيت مثل الحسن، ولو أدرك الصحابة وله مثل أسنانهم (أعمارهم) ما تقدموه.
وقال يونس بن عبيد: أما أنا فإنني لم أرَ أحداً أقرب قولاً من فعل من الحسن.

أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال : اختلفت إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك.
وقال هشام بن حسان : سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله .

مختصر مفيد

جاء شاب إلى الحسن البصري فقال: “إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء“ .
فقال له الحسن:“ هل تقوم الليل“؟ فقال: “لا“، فقال: “كفاك أن حرمك الله مناجاته.

من أقوال الحسن البصري

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
وطلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب

• من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا
• فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.
• ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
• لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار.
• بئس الرفيقين: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
• من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
• ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت.
• من ساء خلقه عَذَّبَ نفسه.
• الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن.
• إن المؤمن في الدنيا غريب لا يَجزع من ذلها ولا يُنافس أهلها في عزها.
• قال الحسن البصري: “أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا وإن كان عليهم أمسكوا“. قال: “وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا، أخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر وقرأ “مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها “.
• إحذر ممن نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
• عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك.
• ما رأيت شيئاً من العبادة أشدّ من الصلاة في جوف الليل.
• إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك.
• لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
• ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
• أيها الناس ! احذروا التسويف، فإنني سمعت بعض الصالحين يقول : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ثم لا نتوب حتى نموت.
• إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله، فبغاك وبغاك- أي طلبك مرة بعد مرة – فإذا رآك مداوماً ملـَّكَ ورفضك، وإذا كنت مرة هكـذا ومرة هكذا طمع فيك.
• تفـقـَّـد الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة والقرآن والذكر، فإن وجدت ذلك فأمض وأبشر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه.
• إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته.
• استوى الناس في العافية فاذا نزل البلاء تباينوا.
• قرأت في تسعين موضعاً من القرآن أن الله قدّر الأرزاق وضمنها لخلقه، وقرأت في موضع واحد : الشيطان يعدكم الفقر… فشككنا في قول الصادق في تسعين موضعاً وصدقنا قول الكاذب في موضع واحد.• أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك (قالها لرجل مدحه نفاقاً).
• طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
• من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.
• جاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.

الحسن البصري
في مواقف مشهودة

1- وعظه للخليفة عمر بن عبد العزيز
ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبد العزيز:
أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزادَ منها تركُها والغنى فيها فقرُها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزَّها وتُفقِر من جَمَعها، هي كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوَّة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشغل بها لبُّه حتى زلَّت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدِم على غير مِهاد، ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه فزوَّاها عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائهِ اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أًكرِم بها ونسي ما صنع الله عزّ وجل برسوله حين شدّ الحجر على بطنه.
وقال الحسن أيضاً : إن قوماً أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

2- الحجاج يأمر بقطع رأسه ..ثم يخضع له
لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه : تبّاً لكم، سُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع – إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع، والنطع قطعة قماش كبيرة، أو قطعة جلد، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه، لا يلوِّث الدمُ الأثاث، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسع له و يقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، طبعا طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له : يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإنني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت ؟ فقال الحسن: لقد قلت : يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً
وسلاما عليَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم.

المؤمن في الدنيا غريب

3- كيف يَضِلُّ قوم فيهم الحسن البصري؟
حدَّث خالد بن صفوان فقال: لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة فقال لي: أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة، فإنني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير؛ أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم، قال : أنا جارُه في بيته، وجليسه في مجلسه، و أعلم أهل البصرة به، قال: هاتِ ما عندك .
قال له : إنه امرؤ سريرته كعلانيته – واحدة – و قوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له، ولقد رأيتُه مستغنياً عن الناس، زاهداً بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده “ فقال مسلمةُ : حسبُك يا خالد كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا؟”

4- شجاعته في مواجهة الملوك
لما وليّ عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية فقال:” ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن” فقال الشعبي لابن سيرين:” سفسفنا له فسفسف لنا”.

“الفتنة عقوبة الله عز وجل يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته”

5- سراب الدنيا وفتنتها
قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد ألا يعجبك مثل محمد بن الأهتم؟ فقال: ماله؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق – وأومأ إلى صندوق في جانب بيته – فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار لم أؤد منها زكاة ولم أصل منها رحماً ولم يأكل منها محتاج فقلنا: يا أبا عبد الله فلمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان ومكاثرة الأقران وجفوة السلطان فقال الحسن: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه ومكاثرة أقرانه وجفوة سلطانه !؟ ثم قال أيها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبك بالأمس جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً من باطل جمعه ومن حق منعه، ثم قال الحسن إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر فيجد ماله في ميزان غيره.
جاءه آخر فقال له: إنِّي أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أنني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته وسأله رجل عن الفتنة ما هي وما يوجبها؟ فقال: هي والله عقوبة الله عزّ وجل؟ يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته. وقيل له: يا أبا سعيد من أين أتى على الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله ـ عزّ وجل ـ قيل له: فمن أين دخل عليهم قلة الرضا عن الله ،عزّ وجل ؟ فقال: من جهلهم بالله. وقلة المعرفة به. وكان يقول: هجران الأحمق قربة إلى الله، ومواصلة العاقل إقامة لدين الله، وإكرام المؤمن خدمة لله، ومصارمة الفاسق عون من الله. وكان يقول: لا تكن شاة الراعي أعقل منك. تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة.

لا تبيعن آخرتك بدنياك
قال الحسن: “ يا ابن آدم عملك فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد ـ وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق وسعة الخلق مما يقرب إلى الله ـ عز وجل ـ يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك، يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر، فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلاً كسب وأنفقه قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته، هيهات هيهات ذهبت الدنيا، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، وأنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون؟ إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً “.

بكاء الورع وخشية الله
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال بعد أن كبر أبي وذهب بصره .. قال لي: هلم بنا إلى الحسن البصري. فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري، فلما دخلنا على الحسن قال له أبي : يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة، فاستلن لي منه!
فقرأ الحسن من سورة الشعراء}أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون(207){.. فبكى أبي حتى سقط، وأخذ يضرب برجله الأرض كما تضرب الشاة المذبوحة، وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة ثم قال : يا بني، لقد قرأ علينا آيات لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً أي جروحاً. نعم، لا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة يناجيك أو يسليك أو يتوجع.

لا تعيب الناس بعيب هو فيك
روى أبو عبيدة الناجي أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك. وعن يحيى بن المختار عن الحسن قال : إن المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .
وقال أيضاً :إن المؤمن يفاجئه الشيء يعجبه فيقول: والله إنّي لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا ؟ والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله . إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم و بين هلكتهمم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى إلى فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه و بصره ولسانه وجوارحه.
المصادر
سير أعلام النبلاء – البداية والنهاية – الطبقات الكبرى – تهذيب الكمال – تهذيب التهذيب – وفيات الأعيان – عجائب الآثار – إحياء علوم الدين – ذم الدنيا – صفة الصفوة – مكارم الأخلاق – الوافي بالوفيات.

ابو حسين يوسف

سيرة الشيخ العابد الذاكر الزاهد

أبـــو حسيـــن يوســـف
عبــــــد الوهــــــــــــــاب

رحلة تعب وورع ومجاهدة من الشوف إلى جبل العرب

كان يتابع ليلة الجمعة واقفاً ذاكراً حتى الصباح
ويكره مظاهر التنعّم في الطعام أو في الملبوس

تعفف عن الزواج لكي يصرف أيامه في الذكر
وكان يقوم الليل ويعيش على القليل من القوت

لم يكن يُشهِر صيامه ومجاهداته رفقاً بالآخرين
وكان متواضعاً بشوشاً حسن الإستماع والنصيحة

تقدم سيرة حياة الشيخ العارف أبو حسين يوسف عبد الوهاب رحمه الله تعالى مثالاً ساطعاً على جيل من النساك الزاهدين العارفين الذين كرسوا حياتهم للتقرب من الله والغوص في بحر أسرار الدين واستكشاف سبل القربى من الخالق ونيل المأرب في العلوم النورانية والحياة السعيدة في مرضاة الله تعالى.
ومثل أقرانه من أكابر أهل الحق فقد اتسمت حياة هذا الشيخ العارف بنصيب وافر من العناء والفقر وضنك العيش وقد شاء القدر له أن يبدأ شبابه في خضم الحرب العالمية الأولى وما رافقها من جوع وسنوات عجاف وجراد، الأمر الذي جعله يوجه شطره شطر جبل الدروز في سوريا ليستقر في الغارية وليبني لنفسه مع الوقت سيرة حافلة نعرض لبعض أهم محطاتها وسماتها في هذا المقال ونحن نأمل أن تضيف هذه السيرة العطرة إلى ما سبقها من سير الصالحين الذين تهتم مجلة “الضحى” بعرض أمثولاتهم وإرثهم وتعليمهم من قبيل الذكر”فذكر لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين” وكم نحن في حاجة في أيامنا هذه لأن نتعرف على سير هؤلاء الصالحين وأن نتأمل فيها وأن نقتبس منها.

ولد الشيخ (أبو حسين) يوسف عبد الوهاب في عام 1895 في قرية «عين قني» الواقعة في الشوف الحيطي، وكان والده الشيخ حمود عبد الوهاب في الأصل من قرية بريح الشوفية ولكن زواجه بالسيدة الفاضلة فضة قاسم جمال، التي تنتمي لآل ماهر جعله يتخذ من عين قني موطناً له.
وفي تلك القرية، وفي ظل والديه الموحّدَين، ترعرع الطفل يوسف، أكبر أبناء الشيخ حمود، وعندما بلغ سن التعلّم، وحيث لم تكن من مدرسة في قريته، كان يمضي إلى مدرسة المختارة، ويذكر مؤلف سيرته، ابن أخيه الشيخ علم الدين عبد الوهاب، أن الفتى كان يتلقى تعليمه في كنيسة المختارة على يد« أساتذة نصارى، كما تعلّم في عماطور أيضاً”، ولما كانت صِلات الوالد الشيخ حمود لم تنقطع بالأسرة الأصل في بريح فقد كان الصغير يوسف يمضي برفقة والدته إلى بيت جدّه هناك لمساعدة أسرة الجد في موسم الحرير وتربية دود القز الذي كان يشكل مورداً يرفد اقتصاد الأسرة…
منذ سنوات يفاعه أظهر يوسف في شخصيته صفات جليلة من الميل الروحاني وحسن التقبل وقوة الهمة في السيطرة على نوازع النفس، وحسن المعشر والصدق، وكان لا يزال في صباه عندما برز ميله الواضح لسبيل التقوى التي تميّز الموحّدين، وكان يذكر أنه في توجهّه ذاك أخذ عن الشيخ أبو يوسف اسماعيل عبد الصمد من عماطور المجاورة لعين قني، ويذكر أن صديقاً له من مثل عمره من عين قني كان يرغّبه بالذهاب إلى الشيخ عبد الصمد، وأن ذلك الصديق كان يعتذر عن الذهاب إلى الشيخ عبد الصمد لكونه «لابس لبّادة والشيخ لا يحلم على اللبادة”، أي لا يتحدث في التوحيد وعلم الباطن لمن يعتمر اللبادة، لكنه قبل في نهاية الأمر، وذهبا معاً، وعند وصولهما استقبلهما الشيخ عبد الصمد بما يستحقان من التشجيع والتكريم، وأخذا بعد ذلك يترددان عليه وهو يرعاهما بصدق التوحيد، «حتى استقام لهما الأمر وقوي فهمهما لاستيعاب الذكر»، وكان الشيخ يوسف يقول إن ذلك الشاب، صديقه، «سبقني في الدين”، ويرجح الشيخ أبو سلمان محمود الشمعة أن ذلك الشاب صديق الشيخ يوسف قد يكون الشيخ أبو محمود أسعد الشعار رحمه الله، ذلك لأن مؤلف سيرة الشيخ يوسف نسي أن يسأله عن اسم ذلك الصديق.

مجاهدة حتى الصباح
وكان المرحوم الشيخ يوسف متأثراً بورع معلمه الشيخ أبو يوسف اسماعيل وتقواه، ومن ذلك أنه في ليالي الجمعة وبعد الوعظ وعند بدء الذكر كان يتابع ليله واقفاً وقد ضم قدميه ووضع يديه في زناره ويبقى في وقوف الذكر والمناجاة حتى الصباح. ويذكر عنه أنه عند ورود بعض الآيات التي تتحدث عن العقاب كان يتغير حاله من خوفه الباري تعالى، ويظهر ذلك على وجهه واضحاً… وعلى العموم فإنه يستدل من كثرة أحاديث الشيخ يوسف عن أستاذه الشيخ الصمدي عمق تأثيره الروحي في شخصه، وكان في تلك الفترة شاباً في أول طريق مسلكه التوحيدي…
لم تترك أحداث الحياة العامة للأيام أن تمرّ رخاء في حياة الشيخ الشاب يوسف، فالأب، الشيخ حمود أقعده المرض عن العمل، ولا بدّ للأسرة من معيل، وهكذا وقعت المسؤولية على عاتق الشيخ الشاب في سن مبكرة، وكان الأب المريض يدرك ذلك ويعبر عنه بمرارة، ومن ذلك أن يوسف ذهب لجلب حملة حطب فتأخر، فقال الأب متألّماً:« تأخّر ها الصبي، بدّو يلحقه الهم وهو صغير».
وفي آخر مرّة، عندما كان الوالد على فراش الموت، وكان يوسف قد رجع متعباً من ثقل حمل كان يحمله من مسافة بعيدة، عبر طريق جبلية عسراء، ناداه الأب، فاقترب منه، وعندها مسح على جبينه بيده قائلاً “ يابني، لحقك الهمّ وأنت صغير».
كان الشيخ الشاب هو الأكبر بين الأبناء الأربعة، وكانت الأسرة المؤلفة من سبعة أنفس في أمس الحاجة لمعيل قادر على تأمين ضرورات العيش، والأسرة في حالة من الفقر وضيق الحال، والأيام أيام الحرب العالمية الأولى، أيام سفر برلك، حيث المجاعة تحدق بالبلاد من جراء الحصار البحري الذي ضرب على لبنان في ذلك الحين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصاب البلاد جدب واجتاح الجراد المعمورة فلم يبق لا زرع ولا نبات، وبسبب هذه المصائب المتضافرة وقعت مجاعات مات فيها كثيرون، ونزح آخرون إلى جبل الدروز في سوريا. ومما يرويه ابن أخ الشيخ يوسف عن لسانه في سيرته أن بنتاً لا تتجاوز عدة سنوات رآها تحبو على الأرض تلتقط حبات شعير ساقطة وتأكلها من شدة الجوع. وفي أحد الأمكنة رجل وابنه يعملان في صنعة الأحذية، فحصل الرجل على رغيف من خبز الشعير وأخذ يأكله أمام ولده، ولما طلب الولد من أبيه أن يطعمه قال له:«أنت البارحة أكلت» .

صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية
صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية

الخير في جبل الدروز
في تلك الفترة اشتغل الشيخ يوسف بدار محمد زين الدين باشا، ولكن الأخير لم يعد يشغّل أحداً عنده حتى «بالمونة»، لأن عمل الشغيل طيلة نهار عمله لا يفي بقيمة طعامه بسبب شدة الغلاء في تلك الأيام الصعبة، وهكذا اضطر الشيخ يوسف إلى الهجرة منفرداً إلى جبل الدروز، بقصد العمل وإرسال ما يعيل الأسرة، وفي ذلك الزمان كان الجبل ينعم بفضل الله بسنوات غلال ووفرة، وقد ضعفت هيمنة العثمانيين عليه بخلاف لبنان وسائر بلاد الشام، حيث قاموا بمصادرة الحبوب والمواسم لصالح الجيش العثماني آنذاك، ذلك لأن العثمانيين كانوا منشغلين بجبهات قتالهم في الحرب إلى جانب ألمانيا وحلفائها، وبخاصة جبهة قناة السويس، ولم يكونوا راغبين باستفزاز بني معروف الموحّدين بعد أن كانوا في الماضي جردوا عليهم حملات عسكرية عديدة، وقد نزل الشيخ يوسف في قرية الغارية وهي من قرى الجبل الجنوبية، ويقول مؤلف سيرته أن الأقدار شاءت أن تسوق هذا الشاب الجليل الطاهر إليها حيث تعرّف على بعض الأخوان، وحصد حصدية، وحينما انتهى من عمل موسم الحصاد عاد إلى الشوف وهو يحمل على ظهره ثلاث رباعي ( نحو خمسة عشر كيلوغراماً)، من طحين جبل الدروز. ولما وصل عين قني قال الجيران «يوسف عبد الوهاب جلب لأهله لَكَنْ (وعاء كبير من النحاس) مليان طحين من جبل الدروز”.

هجرة الأسرة
كانت ظروف لبنان في تلك الأيام بالغة الصعوبة، فالجوع سيد الموقف، والحلفاء الغربيون شددوا الحصار على موانئ بلاد الشام بما فيها لبنان، وكان جبل الدروز بسبب من حرص الإدارة العسكرية العثمانية على تجنب الاصطدام ببني معروف هو الناجي الوحيد من المجاعة وويلات الحرب، ومن هنا فقد ناقش الشيخ وضع الأسرة مع السيدة والدته، وقررا الهجرة بالأسرة إلى ذلك الجبل، وقد وُجد تاريخ خروج الأسرة مكتوباَ بخط المرحوم الشيخ يوسف يذكر فيه التالي«طلعنا من البلاد ثاني يوم وفاة محمد زين باشا، وهو يوم خمسة شباط سنة سبعة عشر وتسعماية وألف، يكون مجيئنا يوم ستة شباط».
كانت الأسرة قد حملت ما يمكن نقله من متاع، وعندما صعدت في طريقها الى القمم الجبلية إلتفت الشيخ يوسف إلى أمه قائلاً : تودّعي من رؤية البلاد فلعلّك لن تريها بعد اليوم أبداً.
كانت الشيخة الوالدة تحس بما ستولّده الغربة من معاناة البعد عن الأهل والوطن، وهمّ العيال ومسؤولية مستقبلهم المجهول، ولكنها كانت مطمئنة لقضاء الله وقدره، والى أن الشيخ يوسف يشاطرها هذا العبء الثقيل على الأسرة النازحة عن الديار.
يقول كاتب السيرة إن المرتحلين”في أعلى الجبل أكلوا آخر ما معهم من الزاد، وساروا على التوكّل، وفي مسارهم التقوا بالشيخ أبي محمود سلمان الشمعة المقيم في خلوات القطالب فتبادلوا التحية والسلام وأعطاهم من زوادته، وبعد حديث قصير ودّعوه وودعهم وتابعوا سيرهم، وقبل وصولهم إلى قرية المحيدثة تعب أخواه الصغيران حسن ووهبي فحملهما الشيخ يوسف على ظهره فوق اللحاف الذي كان من نصيبه أن يحمله…

الشيخ في نحو الثلاثين من عمره
الشيخ في نحو الثلاثين من عمرهالشيخ في نحو الثلاثين من عمره

رحلة العذاب والأمل
وعند وصولهم المحيدثة قضوا فيها ليلة، ومنها انتقلوا إلى صحنايا، فالأشرفية، وهناك أقامت الأسرة ثمانية عشر يوماً، إذ وجد الشيخ سليمان وهو الأخ الذي يلي الشيخ يوسف عملاً في حراثة الأرض، لكنّ عين الشيخ يوسف ظلّت تصوّب باتجاه الغارية، فترك الأسرة مؤقّتاً واتجه قاصداً جبل الدروز كما كان يدعى حينذاك، وفي الغارية مهّد لوصول العائلة، فرجع إلى الأشرفية لتتابع الأسرة ارتحالها من جديد نحو محطتها الأخيرة، الغارية، وعلى الطريق، بعيداً عن الأشرفية، عند نقطة التقاء طريق الشام الجبل بالطريق الطالعة من الأشرفية توقفت الأسرة هناك، كانت الطرق في تلك الأيام مخيفة، خصوصاً لانقطاع العمران على الطريق، وكثرة قطاع الطرق، وبعد انتظار، أقبلت قافلة جمال بأحمالها ورجالها قادمين من الشام باتجاه موقع انتظارهم، فتفاءل الشيخ بقدومهم، وقال “إن كان هذا القَفل قاصداً الجبل فيكون قد وجدنا رفاقاً، ويتيسّر الحال”.
وصحّ ما توقعه الشيخ يوسف، فقد أناخ أحد الجمّالة جمله بقربهم، ودعاهم للركوب قبل أن يتعرّف عليهم، وقد نُقل عنه في ما بعد أنه قال: “حين وقع نظري على هذه الأسرة وهم جالسون حول بعضهم بعضاً قلت لا شك أن هؤلاء من أهل الخير”، وكان ذلك الرجل الديّان هو حمزة السبع من قرية صحنايا، وكان الشيخ يوسف يذكر فضله وغيرته المعروفية على أسرته.
كانت الطريق طويلة، وقد قطعوها مع رفاق القافلة على مراحل كما كانت عليه حالة الأسفار في ذلك العصر، وقد عانى المرتحلون الكثير من التعب والمشقة، وكان الشيخ يوسف يقول لمن يتذمّر أو يقصر من أخوته الصغار«اللي تعبان يجي يركب على ظهري».

” كانت حياته مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبســــــط على النول  “

نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل

إقامته في الغارية
ما إن وصلت الأسرة إلى الغارية بعد كل ذلك العناء، حتى أخذ الشيخ يوسف يتعرّف على الأخوان ويتعامل معهم بما يتطلّبه واقع الحال، وكان في سياق أعماله اليومية يمارس مهنة التعليم، ومن الذين تعلّموا على يديه، أشقاؤه وأخوانه في المذهب من أهالي القرية، وبالإضافة إلى عمل الشيخ يوسف بالتعليم، كان يقوم بأعمال الفلاحة والحصاد، وقد أخذ عدة حصديات في الغارية وخارجها في قرى مثل المغيّر وسهوة الخضر. وبصورة عامة كانت حياة الشيخ الورع مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا شباناً منتجين يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبسط على النول، وتلك حرفة مهمة كانت تتطلّبها حياة القرى في ذلك الزمن. وبالإضافة إلى أعمال زراعية أخرى، وبسبب اشتهارهم في مجال التعليم فقد صار أهل الغارية يلقبونهم بـ «الخطبان».
يذكر السيد اسماعيل فرج وهو من معمري الغارية وقد جاوز التسعين عاماً، أن الشيخ يوسف وأشقاءه كانوا علماء في الدين، علّموا وأرشدوا، وعملوا على نسخ الكثير من الكتاب الكريم. أما العقيد المتقاعد زيد النجم وهو من المهتمين بالتراث الاجتماعي للجبل، فيشير إلى أن آل عبد الوهاب في الغارية تميزوا بطبع روحاني.
يروي كاتب سيرة الشيخ يوسف أنه كان يفتش وينقب عن القابلين لمادته وتعاليمه حتى نشأ جمهور من شباب الغارية إلتفوا حوله وأحبوه وساندوه واستقوا من معينه الدافق الفياض وتمسّكوا بخواطره الشريفة الطاهرة وعملوا بما أمرهم به من الطاعات، وشيدوا مواضع العبادات، وهو بينهم كالأب الشفيق، والمربي الرفيق، يقوي ضعيفهم وينير طريقهم ويسهر على مصالحهم حتى غرس في نفوسهم آداب التوحيد في الحديث والمعاملات والأخذ والعطاء والبيع والشراء، ومعرفة الحلال والحرام، وآداب الجلوس والطعام، وكان إذا لاحظ شيئاً من المخالفات يطالب به، وكان مجلسهم يخلو من المخالفين حتى ولو كانوا بزي الدين. وقد استطاع بمساعدة أخوانه وتعاونهم إيجاد مفاهيم محددة وخط واضح مستقيم بعيداً عن السياسة الجسمانية حتى أثّروا في المجتمع من دون أن يتأثّروا به.
ولما كان همّ الأم التي جاءت بأولادها اليتامى إلى جبل الدروز هرباً من جوع لبنان أن ترى ابنها البكر، الشيخ يوسف، رب أسرة، فقد رغبت في تزويجه، خصوصاً وأنه غدا شيخاً دياناً ومرشداً للشباب ويحتل منزلة اجتماعية محترمة بين مشايخ القرية، وها هم أشقّاؤه يترعرعون في محيط اجتماعي موافق، وقد وجدوا أعمالاً تنسجم مع أعمارهم في بيئة الغارية ومحيطها المجاور.
لكن الشيخ الشاب الذي حمل هم الأسرة في سنّ مبكرة من حياته، اختط لنفسه نهجاً روحانياً متعففاً عن الزواج، ولم يفلح توسّط الأصدقاء المقرّبين في تبديل ما استقر عليه من رأي ونهج في الحياة والدين. لقد كان فكره مستغرقاً بواجبات عبادة الباري تعالى، وهمه ووقته منصرفاً إلى تلاوة الكتاب العزيز والمحافظة على أخوانه، كما كان الشيخ الذي أصبح رجلاً مكتمل الرجولة يكتفي بالقليل مما يقيم بأوده فكان بذلك ملتزماً نهج النسك والخلوة والتأمل والذكر في نهاره وليله.
وعلى الرغم من ترفّعه عن المشاركة في مظاهر العلاقات الاجتماعية، فإن راوي سيرته يذكر أنه شارك في بعض معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، وجرح في معركة «عِرى».
كان الأشقاء قد كبروا، وشغلتهم هموم العيش في مجالات أعمالهم، وكانوا يمارسون مهنة التعليم في بعض القرى خارج الغارية، تلك المهنة النبيلة التي علّمهم إياها، شقيقهم الشيخ يوسف، فأفادهم بها، وهم بدورهم أفادوا مجتمعهم الذي احتضنهم، وبعد نحو أحد عشر عاماً من وصولهم الغارية تمكّن الأخوة من تملك بيت مناسب لم يزل ماثلاً بطراز بنائه التقليدي القديم الذي يستحق أن يحظى بعناية مديرية الآثار …
أما شيخنا فقد كبرت نفسه عن المجريات الدنيوية، وانفصل عن أخوته ليعيش مع والدته في بيت واحد، لكنه ظلّ بالإضافة إلى دوره التعليمي في محيطه الاجتماعي، ملتزماً المشاركة في الأعمال الإنتاجية التي تفيد حياة الأسرة كالفلاحة والحصاد وتقليم دوالي العنب والأشجار، وغيرها، إذ كانت مسؤولية الأسرة من همّه الشخصي.

راعي الأسرة الشفوق
كان الشيخ يوسف يحسّ بمسؤولية الراعي الصالح لأشقّائه، يروي أخوه الشيخ حسن أنه كان ذات سنة يعلّم التلامذة في قرية الهويّا التي تبعد عن الغارية نحو ثلاثين كيلومتراً، والطرق في تلك الأيام جبلية وعرة، والسيرعبرها مشياً على الأقدام، وقد شاء الشيخ حسن أن يحضر بين مشايخ الغارية ليلة العيد، ويكون مع الوالدة والأشقاء بعدها، والفصل شتاء.
انقضت أيام العيد، ولا بدّ للشيخ حسن من العودة إلى الهويّا. ودّع الشيخ حسن الأسرة ومشى متجهاً نحو صلخد، والثلج يغطي وجه الأرض، وما إن اقترب من موقع خربة الرشيدة على مسافة بضعة كيلومترات إلى الشمال من الغارية والتفت خلفه، حتى أبصر شقيقه الشيخ يوسف يتبعه ماشياً على أثره، وقف وانتظر حتى اقترب منه وحيّاه قائلاً: “ليش متكلّف يا خيي؟» وطلب منه أن يعود، فأبى، وتابع مشيه معه إلى أن وصلا إلى مرتفع على الطريق، فتوقف هناك وظل يراقب أخاه الذاهب عبر طريق صلخد نحو الهويا إلى أن وارته شعاب الطريق.
وفي مناسبة ثانية، تطلّبت الظروف من أخيه الشيخ حسن وضيفهما الشيخ أبي سلمان هاني الصالح من قرية الهويا المضي إلى قرية المنيذرة التي تبعد عن الغارية مسيرة نحو ثلاث ساعات على الأقدام، وصادف أن كان الطقس مثلجاً، وأيام برد شديد، وفي الطريق التقيا برجل مسن من أهالي قرية سهوة الخضر كان ضيفاً لغرض ما في الغارية وهو عائد إلى قريته الأبعد شمال شرقي المنيذرة، طلب الرجل مرافقتهما وأبلغهما أنه يحمل أمانة كانت معه ورجاهما أن يوصلاها لصاحبها إذا حدث له شيء من أمر الله في الطريق، ويبدو أن الرجل كان يشعر بحال من الضعف والمرض. في منتصف الطريق اعترضهم ذئب، ولم يكن مع أحدهم سلاح، وهذه سنّة يسير عليها مشايخ الموحّدين، والثلج الكثيف يغطي سطح الأرض، فما العمل؟ شعر المشايخ بحرج، ولا بدّ أن الذئب جائع، وإلا فمن النادر أن يهاجم الإنسان. مرّت لحظات صعبة، وإذا بالشيخ يوسف مقبل نحوهم ماشياً، وفي الحال، ابتعد الذئب عنهم، فأقبلوا على الشيخ يسألونه سبب قدومه في أثرهم، فقال لهم :«انشغل بالي عليكم وأردت أن أطمئن عنكم. وبعد تلاوة ذكر من الكتاب الشريف شكروه، ورجوه العودة إلى القرية، فمضى عائداً إلى الغارية عبر طريق ثانية إلى أم الرمان لكونها صارت أقرب إليه من الغارية في ذلك الجو القاسي، أما هم فقد تابعوا مسيرهم باتجاه المنيذرة، وقبيل وصولهم المنيذرة بنحو بضعة كيلومترات زلقت رِجل الرجل المسن فسقط في بقعة ماء ضحلة، فساعدوه حتى خرج منها، كانت ملابسه المبللة بالماء قد تجمّدت من شدّة البرد، فعجز عن المسير، وكان حمله متعذراً عليهما، وما هي إلا لحظات حتى قدمت نجدة من الرجال من قرية المنيذرة، ساعدوا الثلاثة الذين كانوا عالقين في ورطة الطبيعة القاسية، من دون أن يكون بينهم وبين القرية من وسيلة اتصال لطلب النجدة، ولعل في هذا سر من أسرار الشيخ يوسف عبد الوهاب…

من هم أقارب الشيخ أبوحسين؟
يقول راوي سيرته: «كنا نتعرّض لسؤال بعض الناس إلينا: مَن أقاربكم؟ فنسأل الشيخ يوسف، فيقول لنا «نحن قرايبنا أهل الدين، والمؤمن أخو المؤمن من أمه وأبيه». كان يعتز بهذه القرابة، و«يشمئز من العائلية والعصبية».
كانت البساطة في كافة شؤون الحياة أهم مميزات الشيخ يوسف، فلم يكن ليهتم بتنويع طعامه، يقول راوي سيرته إنه كان إذا أراد أن يأكل فلا يهتم، وكنا نراه يحضر خبزاً وزيتوناً أو ما تيسّر بحيث يكون صنفاً واحداً ويجلس فيأكل ويرجع إلى فرضه، وإذا لاءم وأكلنا معاً نلاحظ منه التمهل في الأكل وصغر اللقمة وكان يمرر بحبة الزيتون حتى تنظف نواتها، وكان إذا لاحظ من أحدنا مخالفة يطالب بالتصويب، ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه. وكان ينزعج من أي حالة فيها تنعّم أو مظهر جسماني سواء في الطعام أو في الملبوس أو الكلام. وفي سائر أمور الحياة كان يطلب التواضع والتأدّب بآداب أهل التوحيد، وكان رحمه الله لطيفاً في حركاته وكلامه دقيقاً في ملاحظاته وانتباهه، حريصاً على حقوق أخوانه ويسأل عن أحوالهم ولا يرضى منهم بالتقصير.
وكان يستحسن أقوالأ وحكماً مختارة يتوجه بها لمن يقصده، منها: أحبّ للناس ما تحب لنفسك. و «ما من نجوى ثلاثة إلا والباري تعالى رابعهم، ولا خمسة إلا وهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا» أو «ما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة وعلم أنها من عند الله إلا كتب له حمدها من قبل أن يحمُدَه عليها. ولا أذنب ذنباً وعلم أن الله تعالى مطّلع عليه إلا غفر له من قبل أن يستغفره عليه».
وكان يردد كلمات بسيطة ذات معنى عميق تدل على تعلّقه بخالقه ومراقبته لنفسه، فيقول : نحن مطالَبون وغير متروكين. نحن موثوقون ولا مماطلة ولا تأجيل ، الله يجيرنا ويقينا…
وكان شديد الاهتمام بالمرحومة والدته، كثير الاحترام والتقدير لها، وكان يذكر الكثير من حسن تربيتها ورجاحة عقلها ويعترف لها بالفضل، وعندما كانت تمرض كان يسهر على خدمتها وراحتها، ويا لها من لحظات حميمة حينما كانا يجلسان معاً يتذاكران ويتحدثان بذكرى الأيام الماضية وقصة مجيئهما من لبنان.
وكان يحب اجتماع الأسرة من الأخوة وأبنائهم، وكانوا يتحلّقون حوله لحديث ما، وكان رحمه الله إذا أراد إنهاء ذلك الحديث يبتسم دلالة على رضاه، وإن كان الحديث لا يعجبه يظهر من جانبه الانكماش، فيعلم الحاضرون قصده، فيتجنبوا متابعة الخوض فيه، أو هم يذهبون عنه، أو هو يتركهم إذا كان خارج غرفته التي كانت بمثابة خلوته التي يتعبّد فيها لله تعالى. وكان سلوكه هذا دليلاً على تهذيبه وشفافية حضوره، كانت العبادة وتلاوة الكتاب الشريف تشغلانه معظم ليله وسائر نهاره، عدا فترات الراحة، وكان يُسمع له عند التلاوة نغمات شجية فيها الكثير من الحنان والحنين.

مدخل الدار القديمة_resized
مدخل الدار القديمة

“شارك في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنســــي لســــوريا ولبنــان وجرح في معــركة «عِرى»”

شهرته على الرغم منه
لم تخفَ على الناس المحيطين بالشيخ يوسف مكانته الروحية العالية، وسلامة منهجه، وصارت تقصده وفود الموحّدين من مختلف الأنحاء يطلبون النصح والإرشاد، من حيث النية والاعتقاد، وكان يستقبل وفود القادمين لزيارته بالبشاشة والترحيب ويقوم بواجبه نحو الضيف بنفسه إن لم يكن أحد من الأسرة يساعد في خدمته، وكان زواره يغادرونه وهم منشرحو الصدور مجبورو الخواطر، يدعون له بالخير رجالاً كانوا أم نساء، صغاراً أم كباراً، وكان بعض زائريه على غير ملّته يؤمونه للتبرك إعجاباً منهم بمسلكه وبساطة حياته وطيب نيّته.
كان الشيخ يبتعد بنفسه عن الدنيا ومتعها، وذلك بفضل ما آتاه الله تعالى من همة عليّة وعزيمة وإرادة وإخلاص. لكن برغم تعففه وزهده في الدنيا الفانية، فإنه كان حريصاً أشد الحرص على ألاّ يُشعِر أحداً بذلك لأنه كان يتقصد توجيه عمله لله تعالى مستعيناً ومستشفعاً بوليّه الهادي الأمين على بساطة مسلكه الروحاني، كان يُخيّل لكلّ امرئ أنه بمسلكه المتواضع البسيط يستطيع أن يفعل فعله، وكان يجيب سؤال من يقصده بزيارة أو مجابرة أو محادثة أو مجالسة، ولم يكن مترفّعاً ولا متأفّفاً، بل كان دائم الابتسام دلالة على الرضا والتسليم، واسع الصدر كبير القلب بعيداً كل البعد عن الكبر أو الاعتقاد بقيمة نفسه.

تعففه عن الزواج
لقد كان الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب نسيج حالة روحانية فريدة، فقد ترفّع منذ شبابه الباكر عن سائر ما يشغل أمثاله من الشبان، وتعفف عن الزواج وقد كانت المرحومة والدته تشعر بغصة عندما ترى ابنها الحبيب الذي أجهد نفسه من أجل تربية أخوته وتعليمهم حتى غدوا رجالاً وأصحاب بيوت وأرباب أسر فهم قد اندمجوا بيسر وسهولة في مجتمع الجبل، وكيف لا؟، فبنو معروف ساكنو الجبل يعودون بأصولهم وجذورهم إلى أسر وعائلات لم تزل تقطن في جبل لبنان، ولكن شيخنا من جانبه حرم نفسه الزوجة والولد، وكل ما يرى فيه لذائذ الدنيا. كانت الأم بعد يأسها من إقناعه بما تراه أي أم مؤمنة خيراً لولدها في أن يكون رب أسرة موحّدة على نموذج أسرتها، فتكلّف له الأصدقاء من أخوانه المشايخ، فيزداد تمسكاً بما ارتضاه لنفسه، ومما زاد في غيرتها على صحته أنه كان لا يأكل اللحم ولا الحليب، وكذلك العنب، مع أنه كان لدى الأسرة كرم من العنب، وقد جعله المرحوم من بين أفضل الكروم في الغارية، وكان ينام فيه ولم يكن يخطر ببال ذويه أنه لا يأكل العنب إلا بعد أن باحت السيدة والدته بالسر، وعندما شعر الشيخ أن الأمر انكشف عمل على إزالة الشك فصار إذا دعي يأكل شيئاً ما من تلك الأكلات التي شاع أنه لا يأكلها على أعين الناس لينفي عن نفسه ما أشيع عنه من عنت أو مبالغة في قهر النفس وحرمانها.

وفاة السيدة والدته
كانت المرحومة الوالدة تتمنى على الله تعالى إذا قضى عليها بالوفاة أن يكون ذلك وأولادها مجتمعون حولها، وبتقدير من الباري تعالى، وكأن منادياً جمع أبناءها من لبنان والسويداء في الغارية على غير موعد متفق عليه، كان ذلك في الرابع من كانون الثاني عام 1964 وقد توفاها الله وهي بكامل وعيها ولم يقعدها المرض.

خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب
خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب

“كان إذا لاحظ مخالفة يطالب بالتصويب ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه وكان يكره التنعّم في الطعام أو في الملبوس”

مرحلة الخلوة والاعتكاف
كبر حجم الأسرة، وتزوّج الأبناء، كان لا بدّ من بناء دار جديدة. عند التأسيس وقف على الموقع، وأشار بيده إلى موقع حدّده ليكون خلوة متواضعة له ( تلك هي الغرفة التي يوجد فيها مقامه الآن)، وهي ملاصقة لبناء الدار. وكان المرحوم بكل تواضع يساعد في كثير من الأعمال بسعيه، ورأيه وحسن دعائه. وبما أنه كان يستشعر تقدمه في السن وصار يلاقي في السعي إلى المجلس صعوبة، صار يقضي الوقت في خلوته، ومن فضل الباري تعالى عليه أنه كان يقرأ دون الاحتياج إلى نظارات، ولم يتأثر سمعه، وظل متمتّعاً بكامل وعيه وسلامة تفكيره وإدراكه العقلي، وكان يقدم المشورة الصائبة للأسرة ولمن يقصده بوضوح وبساطة وصوابية رأي.
كان أخوان التوحيد يزورونه من البلاد السورية وخارجها، وقليلاً ما كان البيت يخلو من المريدين والمحبين. وكان يلاقي الناس ويودعهم ببشاشة ورحابة صدر، ويلبي طلبات زواره على حسب قدرته وإمكانيته.
أما أخوان التوحيد في الغارية التي تميّزت بروحانيته وتقواه، فقد قرروا قراءة ما يتيسر من الكتاب الكريم عصر يوم الجمعة في خلوته، كما عيّنوا عنده أيضاً السهرة ليلة الاثنين، وكانت الأيام به وبهم أنيسة ومنوّرة، وكان كثير من الناس يقصدونه طالبين منه حسن الدعاء لقضاء حاجاتهم المتعددة، وكانت حوائجهم تقضى ببركته، ومنها أنه كان بعضهم يأتي إليه بالحيوان العاصي على العمل، فيمسح بيده الكريمة عليه ويدعو لهم، وعندما يذهب صاحب ذلك الحيوان يصلح شأنه بإرادة الله تعالى، وكأن حيوانه بُدّل بسواه.

كرامات الشيخ
يذكر أحد سائقي نقل الحجاج إلى بيت الله الحرام أنه حدث له أثناء عودته من رحلة الحج أن تعطلت حافلته ولما يئس من إصلاحها نادى الباري تعالى ببركة الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب وأدار محرّكها، فانطلقت بمن معه من الركاب إلى أن وصل دمشق متعجباً مندهشاً لما حصل معه من قدرة وكرم الباري…
ويحدّث أحد الثقاة من قرية مياماس أن شخصاً من قريتهم كان مغترباً في ليبيا وكان له مبلغ كبير من المال عند مشغّله الليبي الذي رفض أن يدفع له الحق، ومضى زمن كاد الرجل أن ييأس من أخذ حقه من الليبي، فأشار عليه أحد الأصحاب أن يوجّه بنيّته نذراً إلى شيخ الغارية، فنوى صاحب الحق ذلك، وفي اليوم التالي أعطاه الرجل حقّه وديناراً زيادة واعتذر عن التأخير.
ويحدّث أحد المغتربين إلى فنزويلا وهو من بلدة الغارية وكان يملك محطة بنزين هناك، وأنه حصل عنده حريق في المحطة، عندها أيقن أن جنى عمره سيذهب طعماً للحريق، ولكنه فطن أن لديه شيئاً ما من بركة الشيخ، فأتى به ورماه في النار، فانطفأت بقدرة الباري تعالى…
ويذكر أحد المغتربين من بلدة عرى في فنزويلا، أنه كان يسوق سيارة بضاعة في أحد الأماكن الخطرة فطلع عليه أربعة لصوص بقصد سلبه، فما كان منه إلا أن لوّح بمحرمة كانت معه من بركة المرحوم الشيخ، قائلاً «إن كان بصاحبك سرّ فليظهر الآن»! فما كان من السلاّبين إلا أن تفرّقوا كل اثنين إلى جهة، وأخلوا له الطريق، وتحقق له بالدليل القاطع ما كان يسمع من كرامات تخص الشيخ المرحوم، وأرسل كتاباً للأهل في الجبل يخبر بهذه الحادثة العجيبة.
وفي بلدته الغارية كانت البلدية قد أقرّت مخططاً تنظيمياً يقضي بشق طريق غرب دار الشيخ الحالية، وكان المخطط يقضي بجرف بعض أشجار الزيتون حيث يمر بجانب خلوته، وجيء بالبلدوزر لشق الطريق، وقبل أن يصل به السائق إلى موقع الزيتونات تعطلت الآلية، فما كان من السائق المصرّ على تنفيذ مهمته إلا أن أخذ دراجة نارية ومضى إلى مدينة صلخد على بعد بضعة عشرة كيلومترات من الغارية بقصد إحضار ورشة لإصلاح آليته ، ولما وصل إلى قرية عنز على طريقة نحو صلخد، اعترض دراجته كلب شرس ولم يتركه حتى هوى من على الدراجه، ولولا رحمة الله به لقضي عليه. وهذه الحادثة يعرفها أهالي بلدة الغارية ويتحدثون بها. وهنا تركت البلدية الزيتونات ولم تعد تحرك ساكناً بشأنها، ولم تزل تلك الأشجار ماثلة أمام خلوة الشيخ المرحوم التي يؤمها الزوار يومياً من الغارية وخارجها.
ويروي صاحب سيرته أنه كان مدعوّاً معه في إحدى المناسبات إلى صلخد، وهناك في بيت صاحب الدعوة كان من بين الحضور ضيف وزوجته من قرية سهوة الخضر، ومعهما طفل عمره واحد وعشرون يوماً،قد رفض الرضاعة من ثديي أمه، والأسرة في هم وغم لهذه الحال. أتوا بالطفل ووضعوه أمام المرحوم وطلبوا منه أن يمسح بيده عليه وأن يدعو له، فاستجاب لطلبهم بكل رضا، وتلا ما تيسّر من الكتاب، وهكذا حصل، فإن الطفل وبإرادة من الباري تعالى رضع من ثديي أمه وكأنه لم يسبق له أن رفضه من قبل.
وهذه الحوادث هي بعض مما كان يحصل مع الشيخ المرحوم وبكرامته عند باريه وخالقه نسوقها عبرة للمعتبرين بحسن سيرته.

بيت-الاسرة-عام-1928_resized
بيت-الاسرة-عام-1928

وفاته، رحمة الله عليه
عاش المرحوم الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب حياة كريمة قاربت التسعين عاماً، قضاها بالتقوى عابداً زاهداً عازفاً عن متع الدنيا ومتاعها إلا ما يفي بالحاجة الشخصية الضرورية للحياة، وكان مقتصداً في مأكله، ولا يميل إلى التخليط في طعامه، ولكن العمر المحتوم له نهاية مهما طالت به السنون، وهكذا ففي الرابع من حزيران نقل الشيخ إلى مشفى السويداء على أثر شلل نصفي في الجانب الأيسر من جسمه، وبقي هناك لثلاثة أيام حيث فارقت روحه الأنيسة جسده، تاركاً في نفوس مريديه أثراً صالحاً ووصايا توجه للمسلك التوحيدي القويم، وشيّع جثمانه في محفل مهيب يوم الجمعة في الثامن من حزيران عام 1984، وقد حضرته ألوف كثيرة من الجبل والغوطة والإقليم ولبنان وديار حلب، ولما وصلت الجنازة من خلال الزحام إلى مكان المحفل وسط سيل المشايخ والرجال القادمين للتعزية صُلّي على الجثمان الطاهر وانتهى المحفل نحو الساعة السادسة مساء، حيث دفن في الخلوة التي اعتاد الإقامة فيها.
وبهذا انتهت مرحلة من حياة شيخ تقي نقي طاهر كانت مليئة بالفضائل والعبر والكرامات والطاعات والأعمال الجليلة والمثل الصالح للأجيال وللسالكين في طريق المولى أهل الحق والطهر والعرفان.

العدد 14