أوساط عديدة في الهند تعتبر أن مؤسسة طائفة السيخ غورو ناناك تأثر بقوة بأفكار كبير
اشتغل كبير بحياكة الألبسة قبل أن يتفرغ للتعليم والدعوة إلى الله
المزار الذي أقيم تكريما للشاعر كبير في العام 1521 في المكان الذي كان يجلس فيه لإلقاء أشعاره والاجتماع بالمحبين
لماذا تصارع يا كبير مع كبير
الشّاعــــــرُ الصّوفـــــــــيُّ الهنـــــــــديُّ «كَبيـــــــــر»
مَجَّدَ في شعره التّسامحَ والحُبَّ الإنسانيَّ
وندّدَ بالتَّعصّبِ والتَّدَيُّن الخالي من الرُّوح
أخذَ بـ «دين الحبِّ»هائماً في الأرضِ
فتدافعَ الألوفُ لسَماعِ قصائدهِ وتعاليمه
رفض الرَّهبانيَّة والانسحابَ من العالم
واعتبرَ الحكمةَ ثمرةَ التّسليمِ وطَهارة القلب
يحتلُّ الشّاعر الصّوفيُّ الهنديُّ العظيم “كَبير” (1440 م ـ 1518م) مكانةً رفيعةً في أدبيّات الشّعر الصّوفيّ العالميّ وقد زاد من شهرته والشّهر ة التي يتمتّع بها شعره وشخصيّته الفريدة التي جمعت بسبب نشأته وتطوّره الرّوحيّ أغنى ما في الرّوحانيّة الهندوسية البراهميّة وبين أرقى تعبيرات الشّعر الصّوفيّ الإسلاميّ، وقد اشتُهر “كبير” بإنشاده لأشعار الحبّ الإلهيّ والإنسانيّة الواحدة والتّسامح وأظهر في شعره وتعاليمه احتقاره للتعصّب ونقده لنوع التنسّك الطّقْسيّ الصّارم الذي كان سائدا بين ناسكي الهندوس الذين كانوا يتفنّنون في أعمال الإماتة وقهر الجسد والممارسات الشّديدة باعتبارها الطّريق إلى الحقيقة، ورفض “كَبير” الرّهبانيّة في السّلوك الرّوحيّ والعزلة عن العالم فعاش بنفسه بين النّاس وتزوّج مشدّداً على أنّ السّعيَ إلى الله والتحقّق الرّوحيّ ليس نتاج العمل الذي نقوم به مهما بل ونعمة وعطاء محض ومكافأة للقلب السليم وللتّسليم التامّ للمرشد وللمولى. وركز “كبير” كثيراً على قِيَم الحبّ الإلهيّ وطهارة القلب والبساطة والتّسامح وقبول الآخر.
بين كبير ويونس أمره
هناك أوجه شبه كثيرة بين قِصّة “كبير” وبين قِصّة الشّاعر الصّوفي التّركي الشّهير يونس أمره وأهم جوانب الشّبه هو في الغموض المحيط بحياة كلٍّ من الشاعرين إذ لم يعرف الشيء الكثيرعن حياة يونس أمره كما لم يعرف الكثير عن نشأة الشاعر الصّوفيّ “كبير” وقد نسجت حول حياته العديد من الرّوايات وإن كان معروفاً أنّه تربّى وسط أسرة من النّسّاجين المسلمين. وقد زادت رواية أنه عُثِر عليه من قبل نسّاج مسلم يدعى نيرو وزوجته نعمة، في ليهارتارا التي تقع في فاراناسي (بنارس) وكان كلٌّ من نيرو ونعمة فقيرين جدّاً وأمّيّين، فقاما بتبنّي الطفل وعلّماه صناعة النّسيج. لكنّ غموض ظروف النّشأة ليس وجه الشّبه الوحيد بين “كبير” ويونس فالاثنان كانا من أعلام شعر الحبّ الإنسانيّ الذي يتجاوز الفوارق والتّعريفات والشّكليّة في الدّين وقد ذهب كلاهما إلى حدّ التّعبير عن بعض التمرّد على القوالب والتّعريفات الجامدة. أمّا وجه الشّبه الأهمّ فهو أنّ شهرة يونس أمره ودين الحبّ الذي سلكه وجعل منه ديدنه وأسلوب حياته تحوّل إلى أساس للكثير من القصائد التي نظمها محبّوه في الأزمنة التّالية ونسبوها إلى الشّاعر وقد حصل الأمر نفسه لـ ”كبير” الذي قام بعض تلامذته بعده بنظم أشعار مستوحاة من فلسفة الحبّ والتّسامح التي بشّر بها ونسبوها إليه أيضا. يحتلُّ الشّاعر الصّوفيُّ الهنديُّ العظيم “كَبير” (1440 م ـ 1518م) مكانةً رفيعةً في أدبيّات الشّعر الصّوفيّ العالميّ وقد زاد من شهرته والشّهر ة التي يتمتّع بها شعره وشخصيّته الفريدة التي جمعت بسبب نشأته وتطوّره الرّوحيّ أغنى ما في الرّوحانيّة الهندوسية البراهميّة وبين أرقى تعبيرات الشّعر الصّوفيّ الإسلاميّ، وقد اشتُهر “كبير” بإنشاده لأشعار الحبّ الإلهيّ والإنسانيّة الواحدة والتّسامح وأظهر في شعره وتعاليمه احتقاره للتعصّب ونقده لنوع التنسّك الطّقْسيّ الصّارم الذي كان سائدا بين ناسكي الهندوس الذين كانوا يتفنّنون في أعمال الإماتة وقهر الجسد والممارسات الشّديدة باعتبارها الطّريق إلى الحقيقة، ورفض “كَبير” الرّهبانيّة في السّلوك الرّوحيّ والعزلة عن العالم فعاش بنفسه بين النّاس وتزوّج مشدّداً على أنّ السّعيَ إلى الله والتحقّق الرّوحيّ ليس نتاج العمل الذي نقوم به مهما بل ونعمة وعطاء محض ومكافأة للقلب السليم وللتّسليم التامّ للمرشد وللمولى. وركز “كبير” كثيراً على قِيَم الحبّ الإلهيّ وطهارة القلب والبساطة والتّسامح وقبول الآخر.
بين كبير ويونس أمره
هناك أوجه شبه كثيرة بين قِصّة “كبير” وبين قِصّة الشّاعر الصّوفي التّركي الشّهير يونس أمره وأهم جوانب الشّبه هو في الغموض المحيط بحياة كلٍّ من الشاعرين إذ لم يعرف الشيء الكثيرعن حياة يونس أمره كما لم يعرف الكثير عن نشأة الشاعر الصّوفيّ “كبير” وقد نسجت حول حياته العديد من الرّوايات وإن كان معروفاً أنّه تربّى وسط أسرة من النّسّاجين المسلمين. وقد زادت رواية أنه عُثِر عليه من قبل نسّاج مسلم يدعى نيرو وزوجته نعمة، في ليهارتارا التي تقع في فاراناسي (بنارس) وكان كلٌّ من نيرو ونعمة فقيرين جدّاً وأمّيّين، فقاما بتبنّي الطفل وعلّماه صناعة النّسيج. لكنّ غموض ظروف النّشأة ليس وجه الشّبه الوحيد بين “كبير” ويونس فالاثنان كانا من أعلام شعر الحبّ الإنسانيّ الذي يتجاوز الفوارق والتّعريفات والشّكليّة في الدّين وقد ذهب كلاهما إلى حدّ التّعبير عن بعض التمرّد على القوالب والتّعريفات الجامدة. أمّا وجه الشّبه الأهمّ فهو أنّ شهرة يونس أمره ودين الحبّ الذي سلكه وجعل منه ديدنه وأسلوب حياته تحوّل إلى أساس للكثير من القصائد التي نظمها محبّوه في الأزمنة التّالية ونسبوها إلى الشّاعر وقد حصل الأمر نفسه لـ ”كبير” الذي قام بعض تلامذته بعده بنظم أشعار مستوحاة من فلسفة الحبّ والتّسامح التي بشّر بها ونسبوها إليه أيضا.
مريدا للحكيم راماناندا
رغم تنشئته الإسلاميّة فقد قُيِّض لـ”كبير” أن يسلك طريق التّصوّف والنّسك منذ نعومة أظفاره على يد الحكيم الهندوسيّ الشّهير “راماناندا”، ويُعتَقد أنّ عائلة “كبير” كانت تعيش في المكان الذي عاش فيه الحكيم وأنّ “كبير” سلك على يد معلّمه وهولا يزال طفلاً يافعاً.
وتشير المصادر إلى أنّ “راماناندا” اطّلع على الإرث الشّعري المشبوب بالحبّ الإلهيّ لمتصوّفة كبار مثل العطّار وسعدي والرّومي والشّيرازي وقد مارست هذه المدارس الشّعرية مع ما حملته من مشاعر راقية من العشق الإلهي والوَجْد الصوفي تأثيراً قوياً على الفكر الرّوحيّ الهنديّ في تلك الفترة، وقد بلغ من تعلّق “رامانندا” بالشعر الصّوفيّ الإسلاميّ حدّ الطّموح إلى إيجاد مصالحة بين هذا الشّعر القائم على الوَجْد والفناء في الله وفكرة الله المتعالي عن كل وصف وبين النّظام التأمّلي الزّهديّ العميق لتوحيد الفيدانتا الهندوسيّة، وقد وجد الحكيم في تلميذه “كبير” الرّجل الذي يمثل في حياته ذاتها (كمسلم النشأة وفيدانتي التّعليم) ومفاهيمه هذا المزج الطّبيعيّ بين الرّوحانيّتين الهندوسيّة والإسلاميّة فقام بتنشئته وفق هذه النظرة الجامعة، وكان لتعليمه ولا شكّ الأثر الأوّل في تكوين شخصيّة “كبير” وطريقه الرّوحيّ ثم شعره وتعاليمه في مرحلة لاحقة. لكن وبخلاف أتباع الفيدانتا الأوائل، فإنّ “كبير” رفض نظام الطّوائف أو الطّبقات Casts الهندوسيّ الذي يربط بين الفرد والطائفة الاجتماعيّة التي وُلِدَ فيها إلى الأبد ويحتقر طبقة المنبوذين كما رفض عبادة الأوثان المتداخلة مع الممارسات والطقوس الدّينية الهندوسيّ .
ويظهر التمازج بين الرّوحانيّة الهنديّة والتّصوّف الإسلاميّ واضحاً في شعر “كبير”من خلال المفردات الصّوفيّة الإسلاميّة وكذلك المفردات الفلسفية الهندوسيّة التي يستخدمها مثل البراهمان (الله) والكارما (وهي أعمال الشخص التي تتراكم وتحكم مساره) وتقمص الرّوح re-incarnation كما استعار “كبير” من التّوحيد الهنديّ (الفيدانتا) مبدأ الأتمان أو الروح الأعلى والسّاهاجا والعشق الإلهيّ (بهاكتي) لكنه عارض في الوقت نفسه وبشدة التعصّب في كلٍّ من الهندوسيّة والإسلام. وبسبب عدم حصوله على تعليم وبسبب تربيته البسيطة فقد كانت لغته الهنديّة تميل إلى العاميّة، والصراحة، والرِّقة على النحو نفسه الذي تتّصف به فلسفته، وكان “كبير” (الذي كان أيضا موسيقيّاً ماهراً) يبدأ عادة بإطلاق عبارات لاذعة لصدم مستمعيه وكان يتبع ذلك بإلقاء أعذب قصائد الحب الصوفي.
يتمتع “كبير” بشهرةٍ واسعة في الهند منذ خمسة قرون، ليس باعتباره شاعرا فحسب بل باعتباره حكيماً ورمزاً روحيّاً أيضاُ يبلغ عدد أتباعه اليوم نحو تسعة ملايين، معظمهم يوجد في ولاية تشاتيسغار وسط الهند حيث وُلد وعاش الجزء الأكبر من حياته، وفي مدينة مجاهر بشمال البلاد وحيث توفي أيضا عن عمر 78 عاماً.
ونظرا إلى شموليّة فكره وإنسانيّته فقد قامت جماعة السيخ التي تتبع بدورها مذهبا توفيقيا متفرعا عن الهندوسية بدمج بعض النصوص المنسوبة إلى “كبير” بالكتاب المقدّس لمذهبهم، واعتبر مؤسّس هذا المذهب، غورو ناناك، نفسه تلميذا لـ”كبير”.
وما نعرفه عن “كبير” أيضاً هو أنه تخلّى تدريجياً عن مهنة النّسج وانطلق في التّبشير بطريق السّير إلى الله وبالحبّ الإلهيّ فتحوّل حانوته إلى مكان تجمّعٍ وصلاة وتعليم. وبما أنه كان يكره التّعصب الدّينيّ فقد كان يهزأ بالمتزمّتين بغض النظر عن انتمائهم، وهو ألَّف معظم أشعاره في الحب الإلهيّ والتّسامح والزّهد وتمجيد المرشد والفناء في الله. وبالنظر لحياة الفقر والسياحة وفي الأرض التي كان يعيشها فقد اعتبره بعض الناس أوّل الأمر مجنونًا، إلا أنّهم عادوا ليروا فيه شخصاً متنوّرا قبل أن تُسبّب حرّيته الفكرية وصراحته في نقد المعتقد الشعبيّ مشاكل جدّية، إذ سيندّد خصومه بتعاليمه أمام الإمبراطور سيكاندر الذي سيضطهده ثم يحكم عليه بالإعدام فيُضطرّ إلى مغادرة بنارس.
آثاره الشعرية
برغم الإرث الشعريّ الغزير الذي خلفه فإنّ “كبير” لم يكتب في حياته سطراً واحداً بل اكتفى بإلقاء تعليمه وأقواله وأناشيده (أو قصائده) شفهيّاً أمام مستمعيه كما أنّه لم يعطِ لنفسه دور المرشد الرّوحيّ ولم يتّخذ مريدين. لكن محبّيه والمستمعين إليه كانوا يتوافدون بالمئات ويتابعونه في كل مكان يحلّ فيه. ووفقا للمؤرّخة شارلوت فودفيل فإن أشعار “كبير” تمّ خطّها وحفظها على يد أتباعه أثناء استماعهم إليه، وهي كُتبت بلهجة الأفادي المستخدمة آنذاك في شمال الهند ويتخلّلها الكثير من الكلمات العربيّة والفارسية.
وأشهر دواوين “كبير” هو ديوان “بيجاك” (وهي كلمة تعني “بذرة” و”مفتاح” في آن واحد) الذي جمع نصوصه بجفان داس عام 1600م وتُرجم إلى لغات عديدة بينها التّرجمة البنغاليّة وهي التي اعتمدها الشّاعر طاغور لنقل مائة نصّ منها إلى اللّغة الإنجليزيّة. وفي مطلع القرن العشرين نقل الفيلسوف الفرنسيّ أندريه جيد عن ترجمة طاغور 22 نصّاً إلى الفرنسيّة قبل أن تُقدِم الكاتبة الفرنسيّة هنرييت ميرابو تورانس على ترجمة الدّيوان كاملاً عام 1922.
مفارقة
عاش “كبير” حياة سياحة في الأرض ولم يتّخذ مقرّاً ثابتاً حتى سنين متأخّرة من حياته، وأدّى تجواله والشعبيّة الكبيرة التي كانت تكتسبها أشعاره إلى تحوّله إلى رمز للتّسامح والمحبّة والانعتاق الرّوحيّ، وتحوّل في نظر الملايين إلى قِدّيس وكثُر أتباعه ومحبّوه وتوافد إليه الألوف حيثما حلّ وأينما جلس، لكن كما يحصل للكثير من أقطاب المحبّة والتّسامح الدّينيّ فإنّ الكثير من الذين اتّبعوه لم يدركوا حقيقة رسالته ولم يهتمّوا بالتزام المبادئ التي علّمها بقدر اهتمامهم بتقديسه والتعصّب له، وقد ظهرت هذه المفارقة بين تعليم أهل الله وبين سلوك الأتباع جليّة بعد وفاته إذ تعارك تلاميذه وبعض الأمراء على جثمانه وإرثه، فتمّ في مرحلة أولى تشييد ضريحٍ له في مدينة مجاهر يتردّد عليه المسلمون والهندوس ليكون هذا الضّريح تجسيداً لمبادئ التّعايش والتوادِّ الهندوسيّ الإسلاميّ، لكن لم يطل الأمر حتى اندلعت صدامات بين الفريقين حول الضّريح وإدارته اضطرّ الهندوس على أثرها إلى تشييد ضريحٍ آخر له إلى جانب الأوّل.
ربما على سبيل الإدانة لهذا الاختلاف حول شاعر جسّد في حياته وشعره المحبّة والتّسامح فقد ظهرت بعد موته حكاية باتت رائجة في أوساط محبّيه ومحبّي شعره وهي رواية قد لا تكون قد حصلت فعلاً لكنّها باتت تمثّل أبلغ صورة عن الأسلوب الذي كان “كبير” سيحلّ به الخلاف حول جسده وتذكاراته.
تقول الحكاية أنّه عند وفاة “كبير” اختصم أتباعه من المسلمين والهندوس في طريقة دفنه: المسلمون قالوا يُدفن على الطريقة الإسلاميّة، والهندوس قالوا يُحرَق جثمانه وفق الطّقوس الهندوسيّة. وفيما هم يختصمون، ظهر لهم “كبير” وطلب منهم أن يفتحوا النّعش، وعندما فعلوا ذلك وجدوا مكان الجثمان كومة كبيرة من الأزهار، فاقتسموها بينهم. المسلمون دفنوا نصفها والهندوس أحرقوا النّصف الباقي.
وفي الجزء التّالي من هذا المقال نعرض لمختارات من شعر “كبير” كما نقلها عن الفرنسيّة إلى العربية الشّاعر الليبيّ عاشور الطّويبيّ.
من قصائدِ شاعرِ الحُبِّ الصّوفيِّ «كَبير»
1
يا عبدُ، تطلبُني أينَ؟
أنظرْ! أنا بجانبِك.
لا في معبد
ولا في جامعٍ أنا
لا في كعبةٍ
ولا في كايلاش1 أنا
لا في طقوس
واحتفالاتٍ أنا،
لا في يوغا
و لا في زهدٍ أنا.
لو كنتَ باحثاً حقيقيّاً،
ستراني
حالاً في لحظة
ستقابلني. يقول “كبير”، “يا فلان!
الإله نَفَسُ كلِّ نَفَسْ.”
2
يا صديقي!
ليكن هو مُرادُك
وأنت حيٌّ،
اعلمْ
وأنت حيٌّ،
افهم
وأنت حيٌّ:
لأنّ الخلاصَ فرضٌ
إنْ لم تكسرْ قيودَكَ
وأنت حيٌّ،
أيُّ أملٍ للنّجاة
من الموت؟
لا شيءَ سوى حُلُمٍ فارغْ،
على الرّوح أن تتّحِدَ مَعهْ
لأنّها غادرت الجسد:
إذا اُكْتِشفَ الآن،
اُكْتِشفَ لاحقاً.
إذا فَشِلنا،
ليس لنا سوى الذّهابِ للإقامة
في مدينة المَوْت.
إذا اتّحدتَ الآن،
ستحصلُ عليها فيما بعدْ.
استحمَّ في الحقيقة،
اعرفِ المرشدَ الحقيقيَّ،
ثقْ بالاسمِ
الحقيقيِّ!
يقول “كبير”: “ إنها روحُ البحث التي تُعين؛
أنا عبدُ هذه الرّوحْ”.
3
لا تذهبْ إلى حديقةِ الأزهارْ!
لا تذهبْ إلى هناكَ يا صَديقي!
حديقة الأزهارِ في داخلِك
خذْ مِقعدكَ فوقَ ألفِ بَتَلَةٍ لزهرةِ لوتُسْ،
و حدِّقْ
في الجمالِ اللّانهائيِّ.
4
يا أخي قلْ لي، كيفَ يمكنُني التخلّي عن وهمِ المايا2؟
لمّا تخلّيتُ عن علائق الأسباب، بقيتُ أشدّ قميصي عليّ
لمّا تخلّيتُ عن شدّ قميصي، بقيتُ أُغطّي جسدي في طيّاتِهْ.
ولمّا تخلّيتُ عن العاطفةِ، بقي الغضبُ؛
ولمّا تخلّيتُ عن الغضبِ، بقي الطّمعُ؛
ولمّا هُزمَ الطّمعُ، بقي الكبرياء و الصّلف؛
ولمّا انفصلَ العقلُ وأبعدَ المايا، بقي متشبّتاً بالرّسالةْ.
يقول “كبير”: “استمعْ لي، عزيزي فُلان!
من النّادرِ أن يجدَ المرءُ الطريقَ الحقيقيَّ.”
5
القمرُ يسطعُ في جسدي، لكنّ عينيّ العمياوَتَينِ لا تستطيعانِ رؤيتَهْ:
القمرُ في وجودي، وكذلكَ الشّمس.
فيّ طبلِ الأبديّةِ الذي لم يضْعُف صوتُهُ؛ لكن أذنيَّ الصُّمِّ لا تستطيعان
سماعَهْ.
طالما بقيتْ دعوى الإنسانِ: هذا “أنا” و هذا “لي”
فإنّهُ لا قيمة لأعمالِه
وعندما يموت كلُّ الحبِّ لـلـ “أنا” و للــ “لي” يكتملُ عملُ المولى.
ولا هدفَ للعملِ سوى بلوغِ المعرِفة
وحين تأتي المعرفةُ، يوضعُ العملُ بعيداً.
من أجلِ الثّمرةِ تتفتّحُ الزّهرةْ
حين تأتي الثّمرةُ تذبُلُ الزّهرة.
المسكُ في الظّبيِ، لكنّهُ لا يبحثُ عنهُ في داخلِهْ:
فهو يجوبُ البراري بحثاً عن العشب.
6
عندما يظهرُ نفسُه بنفسِهْ
يأتي المولى إلى عالمِ الظّاهر
فيصبح ممكنا أن نشاهدَه
كما البذرةُ في النّباتْ،
كما الظلُّ في الشّجرة،
كما الفراغ في السّماء،
كما أشكالُ اللّانهائيِّ في الفراغ
لذا مِن وراء اللّانهائيِّ، يأتي اللّانهائيُّ
ومنَ اللّانهائيِّ يمتدّ النّهائيُّ.
الكائنُ موجودٌ في الله واللهُ موجودٌ في الكائن:
مُختلفانِ هما على الدّوام، مُتّحدان هما على الدّوام.
هو ذاتُه الشّجرةُ والبِذرةُ والكائناتُ المِجهريّة
هو ذاتُه الزّهرة والثّمرة، والظّلُّ.
هو ذاتُه الشّمس والضّوءُ، واللّطيفُ.
هو ذاتُه الخالقُ، وهو سرابُ الوجودِ الظّاهرْ
هو ذاتُه الأشكالُ المتعدّدةُ والفضاءُ اللّانهائيُّ
هو النَفَسُ وهو الكلمةُ وهو المَعنى.
هو ذاتُه الحدُّ واللّاحدُّ وهو وراءَ المحدودِ واللامحدودْ
هو الطّاهرُ، وهو العقلُ الجوهريُّ في الخالقِ والمخلوقْ
الرّوحُ السّاميةُ تُرى في داخل الرّوحْ،
النقطةُ تُرى في داخل الروح السامية،
و في داخل النّقطةِ، يُرى الانعكاس مرة ثانية.
“كبير” مبارك إذ أُعطيَ هذه الرؤية المتسامية!
7
في داخل هذا الوعاء التّرابي أكواخٌ وبساتينْ،
وفي الدّاخلِ خالقُ كلِّ شيء
في داخل هذا الوعاء البحار السّبعة والنّجوم التي لا تُحصى.
في الداخل المحكّ وعيّاري الجواهر
وفي داخل هذا الوعاءِ، الصّوتُ الأبديُّ، و الينبوعُ المتدفّقُ إلى أعلى.
“كبيرٌ” يقول: “استمعْ لي، يا صديقي! في الدّاخلِ حبيبي و مولايْ”
8
آهٍ، كيف يمكنُني أن أعبّرَ عن الكلمةِ الخفيّة تلكْ؟
آهٍ، كيف يمكنُني القولُ هو لا يشبه هذا، وهو لا يشبه ذاك؟
لو قلتُ إنّه في داخلي، يخجلُ الكونُ:
لو قلتُ هو بدوني، فهذا باطلْ.
هو يجعلُ عالمَ الباطنِ وعالمَ الظّاهر واحداً لا يتجزّأ
الوعي واللّاوعي، كلاهما بساط لقدميه.
هو ليس ظاهراً ولا خفيّاً، هو ليس مُعلنا ولا غيرَ مُعلن:
لا توجد كلماتٌ يمكن أن تُخبرَ عنه.
9
إليكَ يا حبيبي اجتذبتَني!
كنتُ نائما في حُجرَتي، وأنت أيقظتَني.
ضربتني بسوطك!
كنتُ غارقا في أعماق بحرِ هذا العالم،
وأنت أنقذتني: حضنتني بذراعيك!
كلمةٌ واحدةٌ فقط لا ثانيَ لها-
وجعلتَني أمزّق كلَّ قيودي!
“كبيرُ” يقول: “أنتَ جعلتَ قلبكَ وقلبي واحدا”
10
لعبتُ ليلَ نهارَ مع رفاقي،
وأنا الآنَ في خوفٍ عظيم.
قصرُ مولاي في أعلى عليّين، قلبي يرتعد لأصعدَ دَرَجَهْ
واجبٌ عليّ ألّا أكون خجولاً، إذا رغبتُ في الاستمتاع بمحبّته.
على قلبي أن يلتصقَ بمحبوبي، عليَّ أن أخلعَ حجابي،
عليَّ أن ألاقيه بكلّ كياني
على عينيّ أن تستعرضا حفلَ قناديلِ الحبّ.
“كبيرٌ” يقول: “استمع لي، يا صديقي: هو يفهم المحبّين
إذا كنتَ لا تشعرُ بالشّوقِ إلى حبيبك،
لا جدوى أن تزيّن جسدك،
لا جدوى من وضع المراهم على جَفنيك.”
11
يا بَجعةُ، أخبريني قِصَّتَك القديمة.
يا بَجَعةُ، من أيّة أرض تجيئين؟
إلى أيّ شاطئ ستطيرين؟
يا بَجَعةُ، أين سترتاحين، وعمَّ تبحثين؟
يا بَجَعةُ،
هذا الصباحُ أيضاً،
يستيقظُ،
ينهضُ،
يتبعُني!
هناك أرضٌ
لا شكَّ فيها
و لا أسًى:
لا خوفَ من الموت.
و غاباتُ الرّبيع في ازهرار،
الرّائحةُ العَطِرَةُ “أنا”
وُلِدْتُ فوقَ الرّيح:
هناكَ
نَحلةُ القلبِِ مغمورةٌ عميقاً،
لا تشتهي
متعةً أخرى.
12
مولايَ الذي لم يَلِدْ ولم يولدْ، من الذي يخدمُك؟
كلّ نصير يَهَبُ عبادتَهُ إلى إلهٍ مِن خَلقه:
يقوم بعبادتهِ كلَّ يومٍ-لا أحد يطلبه،
الكاملُ: الرّبُّ المولى غيرُ قابل للانقسام.
هم يؤمنون بعشرةٍ من تجلياتِ الرّبوبية؛ لكنْ لا يوجدُ تجلٍّ
يمكن أن يكون الرّوحُ اللانهائيُّ، لأنّه سيتعذبُ بنتائجِ أعمالِهْ
الواحدُ العليُّ، غيرُ هذا.
اليوغيُّ والنّاسكُ والزّاهدُ، يجادلون بعضَهم بعضا:
“كبيرٌ” يقول: “يا أخي، من رأى نورَ العِشقِ، فإنّهُ نَجا.”
13
النهرُ وأمواجُه زَبَد
ما الفرقُ بينَ النّهرِ وأمواجِهْ؟
عندما ترتفعُ الموجةُ، فهي الماء؛
وعندما تتراجعُ، فهي الماءُ مرّةً أخرى
قل لي، سيدي،
أين هو الفرقُ؟
لأنها سُمِّيَتْ موجةْ،
لن يُنظَرَ لها كماء؟
في داخل المُطلَقِ المُتَسامي
تمُّر العوالمُ كحبّاتِ سُبْحةْ:
انظرْ إلى تلك السّبْحَةْ
بعينيِّ الحِكمة.
14
بين قطبيِّ الوعيِ واللّاوعيِ،
صَنَع العقل أرجوحةً:
تُعلّق عليها كلّ الكائنات وكلّ العوالمْ،
ولا تفقد الأرجوحةُ حركتها أبدا:
ملايينُ من الكائناتْ:
الشّمسُ و القمرُ في فلكيْهما هناك:
ملايينُ السنينَ تمرُّ،
والأرجوحةُ في حركةٍ دائمة.
الكلّ يتأرجحُ!
السذماءُ
والأرض
والهواء
والماءْ،
والمولى ذاتُهُ
يأخذُ شكلاً منظورا
معاينةُ هذه العجيبةِ
جعلتْ من “كبيرٍ” خادما
تمكن في ظل مناخ التسامح العباسي من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء
عالِمُ الأمّةِ وحُجَّة الدّين
الإمامُ جعفرٌ الصّادق
من أوضح كراماته اجتماع المسلمين سُنّة وشيعة على إجلاله
والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ
كرّس حياته كلها للعلم ونأى بنفسه عن خلافات زمانه
وتجنب أهل السلطان رغم سعيهم للتقرّب منه وكسب ودّه
كتب إليه المنصور : لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!” فأجابه :
ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له
من أوضح كرامات الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه اجتماع المسملين جميعاً سُنّة وشيعة على إجلاله والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره الكبير في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ وصياغة قواعده وأحكامه، ويكفي القول إنّ اثنين من مؤسسي المذاهب الفقهيّة لأهل السّنة وهما الإمام أبي حنيفة النّعمان ومالك بن أنس حضرا مجلسه في المدينة المنوّرة وكانا من بين المتابعين لحلقته ودروسه، وبينما اعتبره الشّيعة الإماميّة أو الإثنا عشريّة سادس الأئمة المعصومين، فقد أفاض علماء السنّة والتفسير والسِّيَر في الإشادة بعلمه الوافر وبزهده وحكمته وحجّته البليغة، ولم يختلف حوله مسلمون طيلة العصور باستثناء ما كتبه بعض شيوخ المذهب الوهّابي المتزمّتين ممّا لا يبدّل في شيء من الإجماع الإسلاميّ حول هذا الإمام العَلَم الجليل من مشارق الأرض إلى مغاربها.
برز الإمام الصّادق ولمع اسمه في الآفاق في وقت عصيب كان قد شهد انتقال الملك من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسية التي استفادت من دعم الحركات الشّيعيّة للفوز بالملك وبمؤسّسة الخلافة قبل أن تبدّل مواقفها إلى محاربة تلك الحركات بعد أن وجدت فيها وفي انتسابها إلى آل البيت خطراً يهدّدها، لكنّ الإمام حرص مع ذلك على اجتناب الدخول في خلافات المسلمين والابتعاد في الوقت نفسه عن أهل السلطان وهذا رغم سعي الحكّام في العهدين الأمويّ والعبّاسي إلى التقرّب منه وكسب ودّه، وهو دعا في أجواء الاحتقان والخلاف للحفاظ على الوحدة ونبذ الفتن والاحتراب وأظهر حكمة بعيدة وصبراً وجلداً على ما ناله من ظلم الحكام اضطهاداً وسجناً دون سبب سوى الخَشية من مكانته وتهافت الناس من كافة الأقطار لأخذ العلم والسّلوك على يديه.
زمانه
يعتبر زمن الإمام جعفر الصادق عصراً مفصليًّا في تاريخ الإسلام والمسلمين، زمنٌ اتّسعت فيه رقعة الدّولة الإسلاميّة من المحيط الأطلسيّ حتى تخوم الصّين وتدفّقت بسبب ذلك الثّروات والأموال وبرزت معالم الثّروة والجاه في كلّ مكان، وبرغم استمرار الدّولة الإسلاميّة في “جهاد التّوسع” الجغرافيّ وصدّ التهديدات على الدّولة الفتيّة فإنّ السّمة العامّة كانت قد أصبحت منذ ظهور الانقسام حول الخلافة نزاعات سياسيّة وفتن لا تنتهي، لكن على صعيد آخر كان الإسلام يشهد توطيد أركانه كرسالة خاتمة عبر نشاط هائل في حفظ القرآن الكريم وتدوين السّيرة والأحاديث وإطلاق حركة التّدوين والنّقل والتّرجمة والاجتهاد في مختلف الأصول والفروع، وفي هذه البيئة الشديدة الحيويّة كان الإمام الصادق طيلة حياته بمثابة المحور الجامع لتلك الحركة المباركة وقطبها وقد كان أعلم علماء المدينة المنوّرة، لكنّه كان في الوقت نفسه أكثرهم تواضعاً وتراحماً وتلاحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة بشكل فطريّ، فكان يصدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه. وينقل الإمام الذّهبيّ في كتابه سير أعلام النبلاء عن عمرو بن أبي المقدام قوله “كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبييّن”.
إلى جانب علومه الدينيَّة، كان جعفر الصادق عالماً فذّاً في ميادين علوم وضعيّة عديدة، مثل: الرّياضيَّات، والفلسفة، وعلم الفلك، والخيمياء والكيمياء، وغيرها. وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أشهر كيميائيٍّ عند المسلمين هو أبو موسى جابر بن حيَّان المُلقّب بأبي الكيمياء. كما حضر مجالسه الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وقد نقل الأخير 12 حديثاً عن جعفر الصّادق في مؤلفه الشّهير “المُوطّأ”، بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسّس مذهب المعتزلة، وأخذ عنه أيضا ابن جريج وشُعبة والسفيانان ووهيب وحاتم بن إسماعيل ويحيى القطّان وخلق كثير غيرهم. وروى له مُسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة. وكان الصّادق حريصاً على أن تستفيد الأجيال من علمه الغزير، فكان يحثّ الناس على العلم والتعلّم والاستفادة من العلماء بقوله “سَلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي”.
غزارة علمه وفقهه
سُئل الإمام أبو حنيفة عن أفْقَهِ من رأى فقال: ما رأيت أحدًا أفقهَ من جعفر بن محمد؛ وذكر الإمام أبو حنيفة في هذا السياق أنّ الخليفة أبو جعفر المنصور لما قدم الحيرة بعث إليه فقال: “يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيِّئ له من مسائلك الصّعاب”، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلَّمت وأُذِنَ لي فجلست ثم التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة قد أتانا، فقال المنصور: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.”
من أقوله البليغة
يقول الإمام جعفر الصّادق (ر):
• إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتمّ فإنّه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها.
• إيّاكم والخصومة في الدّين فإنّها تشغل القلب وتورث النّفاق.
• الصلاة قربان كلّ تقي، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصّيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرّزق بالصّدَقة، وحصّنوا أموالكم بالزّكاة، وما عال من اقتصد، والتّقدير نِصف العيش وقلّة العيال من اليسارين.
• من أحزن والديه فقد عقّهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مُصيبة فقد حبط أجره، والصّنيعة لا تكون صنيعة لا عند ذي حسب أو دين.
• الله يُنزل الصبر على قدر المُصيبة، ويُنزل الرزق على قدر المُؤنة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذّر معيشته حرمه الله.
• أول حدود الصّداقة أن تكون سريرة الصّديق وعلانيّته لك سواء. والثّانية أن يرى شينك شَينه وزينك زَينه، و الثالثة لا يغيره مال ولا ولاية، والرّابعة لا يمنعك شيئًا تناله يدُه والخامسة وهي تجمع هذه الخصال وهي أنْ لا يُسلمك عند النّكبات.
نسبه
هو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد سُمي باسم “جعفر” تيمّناً بجده جعفر الطيّار الذي كان من أوائل شهداء الإسلام1. كُني جعفر الصادق بعدة كِنى منها: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى. ولُقّب بالصّادق، والفاضل، والطّاهر، والقائم، والكامل، والمُنجي.
والدة أبيه محمد الباقر هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.
والدته هي: أمّ فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق. أمَّا والدة أمّه فهي: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدّيق.
وقد اجتمعت في نسبه خصائص ميَّزته عن غيره كما قال الأستاذ عبد الحليم الجندي: “فجعفر قد ولده النبي مرّتين. وعليّ مرتين، والصدّيق مرتين، ليدلّ بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده”
وُلد جعفر الصادق في المدينة المنورة بتاريخ 24 أبريل سنة702م، الموافق فيه 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة. وقد وُصف الصّادق بأنّه مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض الوجه، أزهر، له لمعان كأنه السّراج، أسود الشعر، جَعِده أشمّ الأنف قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهراً، وعلى خده خال أسود2 .
تبوِّئه للإمامة
والده الإمام محمد الباقر خامس الأئمّة عند الشّيعة الإماميّة، وقد اتّخذ من ولده جعفر وزيراً، واعتمده في مهمّات أموره، في المدينة وفي سفره إلى الحجّ، وإلى الشام عندما استدعاه الخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك لأنّه كان أنْبَهَ إخوته ذِكراً، وأعظمهم قَدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة3 فكان أبوه الباقر مُعجباً به، ونُقل عنه أنّه قال: “إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبه خَلْقِه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلْقي وخُلُقي وشمائلي”. وعند أهل السّنّة والجماعة أن جعفر الصادق كان يُدافع عن الخلفاء الراشدين السابقين لعليّ بن أبي طالب، ويمقت الذين يتعرّضون لأبي بكر (جدّه لأمِّه) ظاهراً وباطناً ويغضب منهم.
آلت الإمامة، وفق مذهب الشّيعة الإماميّة، إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربيعه الرابع والثلاثين (34 سنة)، وذلك بعد أن توفّي والده مسموماً (وفق بعض المصادر مثل كتاب “الفصول المهمة “لابن الصباغ المالكي) وكان ذلك في ملك هشام بن عبد الملك، وتشير المصادر إلى أن الأخير كان وراء سمّ الباقر4. وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصّادق قال: “قال لي أبي ذات يوم في مرضه: “يا بنيّ أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم”، فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: “يا جعفر إذا أنا مِتُّ فاغسلني وكفنّي، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء”، فلما خرجوا قلت له: “يا أبتِ لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوماً تشهدهم”، فقال: “يا بنيّ أردت أن لا تُنازَع، وكرهت أن يُقال أنّه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحُجة” ووفق المعتقد الشّيعي فإنّ الإمام الباقر رغب من وراء هذا أن يُعلم الناس بإمامة الصادق من بعده. وفعلاً فقد قام الإمام الصّادق بغسل والده وتكفينه على ما أوصاه، ودفنه في جنَّة البقيع إلى جانب الصّحابة الذين تُوفّوا قبله5
زوجاته وأبناؤه
تزوَّج الصادق من نساءٍ عديدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبوها ابن عم زين العابدين، ومنهنّ حميدة البربريَّة والدة الإمام موسى الكاظم، واتّخذ إماء أخريات. وكان له عشرة أولاد، وقيل أحد عشر ولداً، سبعة من الذكور وأربع إناث، فأما الذكور فهم: اسماعيل (وإليه ينسب المذهب الإسماعيلي)، وعبد الله،وموسى الكاظم، وإسحق، ومحمد، وعلي (المعروف بالعريضي)، والعبَّاس. وأما الإناث فهنّ فاطمة وأسماء وفاطمة الصّغرى وأمّ فروة، وكانت زوجة الصّادق الأولى هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي أمّ إسماعيل وعبد الله وأمّ فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسية، يرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حميدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشّرع والدّين ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشّيعة وبالأخصّ نساؤهم، لورعها وتقواها وحكمتها6”.
وفاة ابنه البكر إسماعيل
كان الإمام شديد التعلّق بولده البِكْر اسماعيل وهو ما جعل قومٌ من أنصاره يظنّون أنه الإمام بعد أبيه، وهؤلاء قالوا بأنّ جعفر الصادق نصّ على إمامة اسماعيل، ثم وقع الخلاف بينهم: هل مات إسماعيل في حياة أبيه أم لا؟ والأشهر أنه مات في حياة أبيه سنة 145 هـ7 لكن على الرّغم من ذلك بقي فريق من الشيعة يعتقدون بإمامته وحياته حتى بعد وفاة والده الصّادق. وكان اسماعيل رجلاً تقياً عالماً، أمَّا أخوه عبد الله فقد اتُهم بمخالفة أبيه في الاعتقاد وأنّه عارض أخاه موسى الكاظم في الإمامة، وادّعى الإمامة بعد أبيه لنفسه، احتجاجاً بأنّه أكبر أخوته الباقين، واتّبعه حشدٌ من الناس قبل أن يرجعوا لإمامة موسى الكاظم8.
علاقة حذرة مع الأموييّن
كان موضوع الخلافة أساس النزاع بين المسلمين، وقد تفرّقت الأمة بسببه إلى فرق وطوائف كثيرة، كما عانت صراعات دمويّة لفترة طويلة. وقد رأى قسم من المسلمين -وهم أهل السّنّة- أنَّ الخلافة تكون بالشورى والاختيار كما قال الرسول محمد (ص)، فينتقي المسلمون أفضل الرجال وأكثرهم عدلاً وقسطاً وعلماً، وبناءً على هذا بايع المسلمون أبا بكر وباقي الخلفاء الراشدين من بعده. أمَّا القسم الثاني من المسلمين – أي الشّيعة – فإنّهم اعتبروا أن الرسول لم يعتمد الشّورى أساساً لاختيار الخليفة، بل إنّه أوصى بإمامة علي بن أبي طالب ثم ابنيه الحسن والحسين من بعده، وأنّ الخلافة تستمرّ بأن ينصّ كل إمام على الإمام الذي سيأتي خليفة من بعده. وبناء على ذلك عارض الإماميَّة خلافة بني أميَّة واعتبروها غير شرعية، وقامت عدَّة ثورات شيعيَّة على الحكم الأمويّ، عمد الخلفاء إلى إخمادها. ولمَّا كان جعفر الصّادق سادس الأئمة عند الشّيعة، فقد حرص الأمويّون على مراقبته تحسّباً لأيّة ثورة قد يعلنها على الحكم في دمشق9.
وزاد في حذر الأمويين أنّه وبعد وفاة الإمام محمد الباقر بفترةٍ قصيرة وتسلّم ابنه جعفر الصادق مقاليد الإمامة، خرج عمّه زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بالكوفة يريد قتاله وإرجاع الخلافة إلى بني هاشم. لكنّ الأمويين أحبطوا المحاولة وتوفّي زيد (الذي تنسب إليه طائفة الزّيديّة) متأثراً بسهم أصابه خلال المواجهة.
لكن على الرّغم من مقتل عمَّه على يد الأمويين، فإنَّ الإمام جعفر بن محمد لم يثُر على الدولة، ورفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة رغم حثّه على ذلك من قبل عدد من أتباعه، كما رفض الصادق التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر. في المُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ الصّادق رفض الثّورة على الحكومة الأمويَّة خوفاً على حياته، وكي لا يصيبه ما أصاب الحركات الشيعيَّة السابقة وقادتها ورجالها من قتل وهزائم وخسائر جسيمة 10. ويُقال أنّه أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصب الخليفة11.
“كان أعلم علماء المدينة، وأكثرهم تواضعاً وتراحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة، فكان يصــــدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه”
رفض التقرّب من المنصور
كان الإمام الصّادق مدركا لخطورة الصّراعات السياسيّة التي كانت تضرب عالم الإسلام، وبينما رأى كثيرون في تلك النزاعات فرصة للثّورة واستعادة الخلافة لآل البيت فإنّ الإمام الصّادق تمسّك بالابتعاد عن السّياسة سواء معارضة الحكّام أو التقرّب منهم، وبينما كان العباسيّون يُحضِّرون لضرب الدّولة الأمويّة، حاول أبو مسلم الخراساني أن يزجّ الإمام في الثورة العبَّاسيَّة نظراً لكلمته المسموعة خصوصاً بين الشّيعة الذين يرونه معصوماً، وبين سائر المسلمين الثائرين، لكنّه رفض، وتملَّص من الدّعوة، وتفرَّغ لما اعتبره الهدف الأهمّ وهو تعزيز مناعة العقيدة الإسلاميّة في مواجهة الأفكار الدّخيلة والمذاهب الفكريَّة المنحرفة التي انتشرت في تلك الفترة. إلا أنّه وعلى الرّغم من انصراف الإمام جعفر إلى شؤون التّعليم والإرشاد وابتعاده عن السياسة، فإنّه بقي محطّ أنظار الخليفة العبَّاسيّ، لا سيَّما وأنّ عدداً من أتباع زيد بن علي انضمّوا إلى مجالسه واستمعوا لكلامه ومواعظه وإرشاداته بعد أن لاحقهم العبَّاسيّون بلا هوادة12، فأقدم العبَّاسيّون على اعتقال الصّادق غير مرَّة، وزُجَّ بالسّجن لفترة من الزّمن على أمل أن تنقطع الصّلة بينه وبين تلاميذه الذين يُحتمل أن يهددوا استقرار الدّولة وينفّذوا انقلاباً على الخلافة. وقد تحمَّل الصّادق ما تعرَّض له من مضايقات من قِبل الحكومة العبَّاسيَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمرّ يقيم مجالسه العلميَّة ومناظراته الدينيَّة مع كبار علماء عصره من المسلمين وغيرهم من معاصريه.
الأثر الفقهيّ الكبير للإمام الصادق
لكن رغم تخوّف العباسيين من أصناف المعارضة وخصوصا الحركات الشّيعية ومناصريّ آل البيت فإن عهدهم كان من أكثر عهود الإسلام انفتاحا وتقبّلا للتنوّع الفكريّ وتميّز بهامش من الحريّة الفكريّة جعل حتى الملاحدة يناقشون في حلقات العلم دون خوف.
وفي ظلّ هذا المُناخ تَمكَّن الإمام الصّادق من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الكوفة: “أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول”حدثني جعفر بن محمد13” مع العلم أنّ بين الكوفة والمدينة (التي كانت معقل الإمام الصّادق) مسافة شاسعة وهذا يدل على مدى التأثير العلمي الذي أحدثه الإمام جعفر الصّادق في أرجاء العالم الإسلامي كافّة. بذلك، وبمجرّد أن ارتفع الضّغط الذي كان يمارسه الأمويّون على مدرسة الإمام بدأ الطلّاب يتوافدون على مدرسته من كل حدبٍ وصوبٍ، ينقل أسد حيدر فيقول: “كان يؤمّ مدرسته طلّاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية، وذلك بسبب ارتفاع الرّقابة وتراجع الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمّد أولادها من كل قبيلة14” ويقول الشيخ محمّد أبي زهرة في كتابه “الإمام الصّادق”:
“إن للإمام الصّادق فضل السّبق، وله على الأكابر فضل خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف النّاس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلاً. وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزّهري، وكثير من التّابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جعل الله له الشّرف الذّاتيّ والشّرف الإضافيّ بكريم النّسب، والقرابة الهاشميّة، والعترة المحمديّة15”
مناظراته الشّهيرة
ويدخل في مساهماته العلميّة والفقهيّة الوفيرة مناظراته العلميّة والدينيّة مع العلماء والفقهاء وغيرهم من أتباع الفرق والفلاسفة، وقد اتّبع الإمام الصّادق منهجاً منطقياًّ يُبرز رجاحته وإحاطته الواسعة وقدرته على استحضار كافة جوانب الموضوع وحضور البديهة في الردّ، ومن تلك المناظرات المدوّنة: مناظرة له مع الملحدين ومناظرة مع أبي حنيفة في القياس وفي حكم التوسل بالنبي، ومناظرة مع رؤساء المعتزلة، ومناظرة مع طبيب هندي. ومناظرة مع عبد الله بن الفضل الهاشميّ ومناظرة مع الزّنادقة ومناظرة في الحكمة من الغيبة. ولم تكن الأسئلة التي تُطرح على الإمام الصّادق مختصّة بالمسائل الفقهيّة أو مسائل الحديث، فقد كان عصره عصر ترجمةٍ وعلوم، وكان يأتيه علماء ومفكّرون متأثرين بتيّارات الفلسفة اليونانيّة التي كانت منتشرة في تلك الحقبة من الزّمن، ويُلاحظ هذا المعنى واضحاً في نقاشات الإمام الصّادق مع عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان يشكّك في الدين والعقيدة الإسلامية من منطلق فلسفي وكلامي.
مذهبه ومنهجه الاجتهادي
يتوافق منهج الإمام جعفر ومنهج علماء السنَّة في أمور أساسيَّة، فهو يعتمد كمصدر للتشريع بالتّدريج القرآن والسنَّة النبوية ثم الإجماع ثم الاجتهاد. لكنه -حسب المصادر الشيعية اللاحقة- أضاف إلى ذلك أمراً أساسيّاً هو الاعتقاد بالإمامة وما يترتّب عليه من تقييم للصّحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت. ويترتّب على المفهوم الشّيعي للإمامة القول بعصمة الإمام. فكانت اجتهادات الإمام غير قابلة للطعن، لأنّه معصوم عن الخطأ والنّسيان والمعصية؛ بل إنَّ أقواله واجتهاداته تدخل حكماً في إطار السنَّة16.
وفاته
توفي جعفر الصادق سنة148 هـ، الموافقة لسنة 765م كما نصّت على ذلك بعض المصادر التاريخيّة؛ قال ابن كثير( المتوفى سنة774 هـ): “ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة، وفيها توفي جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق، وقال ابن الأثير (المتوفى سنة630 هـ) في تأريخه للأحداث التي وقعت في سنة 148 هـ : “وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يُزار هو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب”. وقد كان الإمام جعفر الصادق في آخر لقاءاته مع أبي جعفر المنصور يقول له: لا تعجل، فقد بلغت الرّابعة والستّين وفيها مات أبي وجدي فرأى بعض الباحثين أنّ هذه الكلمة توحي بأنّ الإمام جعفر الصادق كان يشعر باقتراب أجله17.
ورغم قول بعض المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على يد الخليفة العبَّاسيّ أبو جعفر المنصور فإنّ كتب السّير والمدوّنات المعتمدة لم تشر إلى ذلك، واستند أصحاب نظريّة اغتيال الإمام الصّادق أنّ الخليفة المنصور كان يغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فيه: “هذا الشّجن المُعتَرِضُ في حُلوقِ الخلفاءِ الّذي لا يجوزُ نفيُهُ، ولا يحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعني وإيّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِكَت في الذرّيّة، وقُدِّست في الزُّبر، لكان منِّي ما لا يُحمدُ في العواقبِ، لِمَا بلغني من شدّة عيبِهِ لنا، وسوءِ القول فينا18” وتدّعي تلك المصادر أنّ المنصور حاول قتل الإمام الصادق أكثر من مرَّة، وأرسل إليه من يفعل ذلك، لكن كلّ من واجهه هابَه وتراجع عن قتله، لكنّ مصادر أخرى رفضت نظريّة موت الصّادق مسموماً بالتّشديد على أنَّ المنصور كان يخشى أن يتعرَّض للإمام، لأنّ ذلك سيؤدّي لمشاكل جمَّة ومضاعفات كبيرة19. وممّا قيل عن الفتور الذي كان بين الصّادق والمنصور، أنَّ الأخير كتب له يقول: “لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!”، فأجابه جعفر الصّادق: “ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها وفي نقمة فنعزيك بها”. فكتب إليه مجدداً: “تصحبنا لتنصحنا”. فكتب الصادق إليه: “من يطلب الدّنيا لا ينصحُك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك20”بالمُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ المنصور لم يُقدِم على تسميم جعفر الصّادق؛ على الرّغم من تخوّفه من أيّ انقلاب مُحتمل بقيادته، فقد كان يجلّه ويحترمه، ويرعى فيه صلة الرّحم وحقوق العمومة، وحزن عليه أشد الحزن لمّا توفّي لأسباب طبيعيَّة، بعد أن تقدَّم به العمر وضعف جسمه. وفي رواية لليعقوبيّ أنّ اسماعيل بن عليّ قال: “دخلت على أبي جعفر المنصور وقد اخضلّت لحيته بالدّموع وكأنّه متأثّر من مصيبة وألمّ به أمر جلل” وقال لي: “أما علمت بما نزل بأهلنا؟” فقلت: “وما ذاك يا أمير المؤمنين؟!” قال: “فإنّ سيّدنا وعالمنا وبقيّة الأخيار منا توفّي!!” فقلت: “ومن هو يا أمير المؤمنين؟” قال: “ابن عمّنا جعفر بن محمد” قلت: “أعظم الله أجر أمير المؤمنين! وأطال بقاءه” فقال: “إن جعفراً ممن قال الله فيهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، وكان هو من السابقين في الخيرات21 كما لم يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “مقاتل الطّالبييّن” أن الإمام الصادق قتل مسموماً.
“رفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة أو التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونــه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصـــب الخليفة”
أقوال علماء السنَّة فيه
يعتبر الإمام الصّادق أكثر الأئمة رواية في كتب الحديث عند طائفة الإثني عشريَّة، بل يُطلَق على الطائفة الشّيعية اسم الجعفريّة بسبب نسبة المذهب بمجمله إلى الإمام جعفر الصّادق، وبناءً على ذلك فإنّه لا توجد حاجة للاستشهاد بآراء العلماء الشّيعة لأنّهم مجمعون على عصمته وحُجيّة قوله، لكن الملفت وما يكتسي دلالة كبيرة على المكانة التي يحتلها الإمام جعفر الصّادق هو التبجيل الشامل الذي حظي به بين أعلام السنّة، ومن ذلك أنّه يعتبر شيخ الطريقة الخامس في سلسلة المشايخ الأربعين للطّريقة الصّوفيّة النقشبندية. وهنا بعض أهم شهادات كبار علماء السنّة في الإمام جعفر الصّادق:
قال الإمام النّووي عنه : “اتَّفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته”
وقال عمرو بن أبي المقدام: “كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين”.
وقال ابن خِلِّكان: كان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصّادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر”
وقال محمّد الصبّان: “وأمّا جعفر الصّادق فكان إِماماً نبيلاً. وكان مُجاب الدّعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه”22
وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السِّيَر: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرّئاسة
قال الشيخ محمَّد بن طلحة الشّافعي المُتَوفّى في سنة 652 هـ :”هو من عُظماء أهل البيت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيِّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه23”
وقال مالك بن أنس إمام المالكية: “وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصّادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً ويقول في كلمة أخرى: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد.
وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: “كان جعفر الصادق – من بين أخوته – خليفةَ أبيه، ووصيَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعته بالفضل؛ وكان أنبهَهُم ذِكراً، وأجلَّهُم قدراً”24
قال حسن بن زياد: “سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفْقَه من رأيت؟ فقال: “ما رأيت أحداً أفقَهَ من جعفر بن محمّد”.
الهوامش
1. راجع: الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 130
2. منبر فاطمة: الإمام جعفر الصّادق
3. موقع الشّيخ علي الكوراني العاملي. الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام): الفصل الخامس
4. A Brief History of The Fourteen Infallibles. Qum: Ansariyan Publications. 2004
5. مؤسّسة الرسول الأعظم قصّة الإمام محمد الباقر عليه السلام 2008
6. جمعيَّة الأشراف: فصل في ذكر ترجمة الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه.
7. تعريف بفرقة الإسماعيلية.
8. مؤسّسة الإمام الصّادق: المقالات العربيَّة، العقائد. لماذا حُرم السيد عبد الله بن جعفر الإمامة بعد شقيقه اسماعيل الذي مات في حياة والده؟
9. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions). USA: Facts on File
10. 108 The Sources of Esotericism in Islam – Page
11. Armstrong, Karen (2000). Islam: A Short History
12. المصدر نفسه
13. رجال النّجاشي، ترجمة الحسن الوشّاء، برقم 79.
14. أسد حيدر، الإمام الصّادق
15. محمد أبو زهرة، الإمام الصّادق: 30.
16. الوافي في الفلسفة والحضارات. تأليف: عبده الحلو، محمد عبد الملك، د. كريستيان الحلو. دار الفكر اللبناني (1999). بيروت – لبنان. صفحة: 159
17. الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 369.
18. شبكة النبأ المعلوماتيَّة: فاجعة استشهاد الإمام جعفر الصّادق.
19. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions)
20. بوّابة صيدا: إسلاميَّات…مع الصّحابة والصّالحين. الإمام جعفر الصّادق والمنصور العبّاسي
21. الرّابطة العلميَّة العالميَّة للأنساب الهاشميَّة: الإمام جعفر الصادق
22. إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار ص 208
23. مطالب السَّؤول في مناقب آل الرّسول: 436.
24. مناقب آل أبي طالب 3/396.
المعالـــــــمُ الدّينيّةُ فـي منطِقـــــــــة حاصبيّـــــــــا
علامــاتُ حضـارةٍ وتاريــــخٍ تستحـقُّ الزّيــــــــارة
كتبنا في عددٍ سابقٍ من الضُّحى عن ميزة في منطقة حاصبيّا تفرّقها عن مناطقَ كثيرةٍ من لبنانَ وهي غنى المنطقة بالمعالم الدينيّة والمقامات التي يزورها الناس بهدف أخذ العبرة والتبرّك وذكر الله تعالى في رحابها، وأوّل ما تتميز به تلك المعالم والمزارات أنّها مقصودة ليس فقط من الموحّدين الدروز بل من الناس على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وهذا يدل على كرامة لأصحاب تلك المزارات الذي شدد القرآن الكريم على أنّ الإسلام لا يفرق بينهم:
}قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ (البقرة 136)
أما الأمر الثاني الذي تتميز به تلك المزارات فهو احترام الموحّدين الدّروز بخاصة لها وحرصهم على خدمتها وقد قام أفراد منهم عبر الأزمنة ببناء أكثرها والعديد منها يتولّى الموحدون خدمتها ويعتبرون ساكنيها أو من أقيمت على نيّتهم من أنبيائهم وقديسيهم. وهذا يشهد على اتّساع حدود التّوحيد وشموله وانفتاحه كما أوصى الإسلام وكتاب الله العزيز.
في هذه المقالة سنقوم مع القارئ بجولة على تلك المعالم الرّوحيّة على سبيل التعريف بمنطقة حاصبيّا وغناها بآثار الأقدمين الصّالحين ومن ثم التّعريف بكلّ من تلك المزارات وإعطاء معلومات موجزة عن أصحابها وعن تاريخها وقصدنا أيضا تشجيع قرائنا الكرام على زيارة المنطقة واستكشاف معالمها والتبرّك بقديسيها وصالحيها لأنّ في ذلك كسب للفائدة وللأجر في آنٍ معا.
مقام النّبي حزقيال
أولاً مع الزائرين لمنطقة حاصبيّا عبر طريق- بيروت – صيدا النّبطية، والذين يمكنهم أوّلاً أن يجتازوا بلدة مرجعيون متّجهين شمالاً نحو بلدة بلاط حيث سيواجههم مزار ومدفن النّبي حزقيل (حزقيال) (ع) وهو بناء قديم يعود مع السنديانة التي أمامه إلى مئات السنين، وممّا يشار إليه عند ترميم وتجديد بنائه أيام العهد العثماني ما رواه أمامنا رجل من آل حسيكي في بلدة بلاط إذ قال إنّ جدّهم من بلدة بيصور الشّوفيّة ومن آل ملاعب قد أتى به الأتراك لتجديد البناء، غير أنّ ما صادفه كان يدعو إلى الدّهشة والاستغراب إذ إنّ ما كان يبنيه في النّهار كان يُهدم أثناء الليل. ولما تكرّر الأمر ذهب إلى مشايخ البيّاضة وسألهم عن سبب ذلك، فكان جوابهم أن سألوه عمّن يدفع له أجر عمله، فقال إنّها الدولة (العثمانية) فأجابوه: هذا هو السّبب، فإن أردت إكمال البناء فعليك أنْ تشتغل لوجه الله دون أجر، وذلك ما حدث واستكمل البناء بإذن الله. ويضيف الرّجل إن القوّات الإسرائيليّة أجرت حفريّات أمام المزار عند اجتياحها لبنان في العام 1982 واكتشفت مدافن من الصّخر الطبيعي يتّسع كلّ منها إلى ثمانية نووايس لكن تم ردم الموقع في ما بعد لأسباب لا نعرفها.
وعن النّبي حزقيال تقول بعض المراجع المخطوطة إنّ من أخبار سيرته عليه السلام، أنّه كان من جملة أسرى بني إسرائيل في عهد نبوخذ نصّر الكلداني وكان عددهم سبعين ألفا، على ما قيل، فأقام فيهم مدّة ثم تنبـّأ بهم عشرين عاما وكان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر، فصدّقته القِلَّة وكذّبه الكَثرة منهم. فلما ألحّ عليهم بالإنذار وبالغ في النّصح والتّذكار ردّوا كلمته وقتلوه غير خائفي الله من فعلتهم، وهذه عاداتهم في قتل الأنبياء.
مقام الدّاعي عمّار
بعد زيارة ذاك المقام الشريف، ينتقل الزّائرون إلى بلدة إبل السقي، حيث أقيم على التلّة المقابلة لبلدة بلاط لجهة الغرب مقام في المكان الذي يُعتقد أنّه شهد سقوط أوّل شهيد لدعوة التوحيد هو الداعي حسن بن يقظان المعروف بالدّاعي عمّار، وأصله من طرابلس الغرب وقد أتى إلى وادي التيم لردع جماعة مارقة عن البدع والأفعال الرديّة، فلمّا اخبرهم بالمهمة التي بُعِث بها وبيّن لهم قُبح أعمالهم أنكروا وأعرضوا وأصرّوا ولم يتركوه بل أوقعوا به وجرحوه، ولمّا خرج من عندهم تبعوه إلى أرض إبل السّقي فدلّهم على مكان تواجده رجل من آل بصبوص فقتلوه وغيّبوه إلى رجمة من الحجارة، ويُعتقد أنّه المكان الذي أقيم عليه المقام الحالي على نيّة صاحبه.
مقام النبيّ شُعيب
بعدها يمكن الانتقال إلى بلدة الفرديس حيث مقام النبي شُعيب (ع)، لكن يمكن للزّائرين وهم على الطريق بين مرجعيون وحاصبيّا أن يعرّجوا إلى مكان يدعى الهرماس على نبعٍ صغير ملاصق للطريق المذكوره ويُعرف بنبع مار جرجس أو الخضر عليه السلام، وهو نبع يعتقد بعض الناس أنّه مبارك، وحتى وقت ليس ببعيد كان الناس يأتون إليه بكل إمرأة عاقر أو بالبنات اللّواتي ينشد ذويهِنّ تزويجهنّ للاستحمام في مياهه، لكن هناك شرط على الناذر والمنذور هو التزام الصمت وعدم التحدّث لأحد وذلك اقتداء بالسيّدة مريم التي أمرها القرآن الكريم بذلك بعد ولادة السيّد المسيح بقوله جلّ من قائل:
}فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا{ (مريم: 26) وبالمناسبة فهذا النّبع يُزار من جميع الطّوائف والمذاهب.
أما مقام النّبيّ شعيب (ع) في بلدة الفرديس فكان يُزار سابقاً من قبل سكّان البلدة في القرون السّابقة وهم من الطائفة الأرثوذكسيّة ويتباركون به. كما أنني كنت أشاهد في طفولتي النّسوة من النّصارى وهنّ يزرنه ويشعلن السّرُج من زيت الزّيتون لإيفاء النذور. وهو في الواقع مقامٌ بديع البُنيان، أقيم فوق الكهف الذي كان كان يسستظلّه النبي شعيب في نسكه وصلواته، وتكتنف البناء أشجار الصّنوبر من جهاته الأربع، ويوم العُطَل كأيّام الجمعة والسّبت والآحاد ربّما لا تجد مكاناً للجلوس مع عائلتك في بهوه أو في الأماكن المحيطة به لكثرة الزوّار ومن شتى المناطق والبلدان.
وسيرته كما ورد ذكره في القرآن الكريم أنّه وُلد في مدْيَن على ساحل الحجاز لجهة البحر الأحمر وكان قومه (قوم مديَن) يغشّون الناس في البيع والشراء، فإذا باعوا شيئاً استعملوا المكيال الصّغير، وإذا اشتروا استعملوا المكيال الكبير، فأرسل الله تعالى إليهم النبيّ شُعيب يأمرهم بعبادة الله وعمل الخير والصّدق في البيع والشراء. وذات يوم جاء النّبيّ شعيب تاجر من إحدى القرى وشكا إليه أنّ تجار المدينة باعوا له مئة كَيلة فلمّا كالها وجدها ثمانين كَيلة، فغضب النبيّ على هؤلاء التّجار المخادعين، وأخذ بيد التاجر وخرج معه إلى السّوق يدعوهم إلى التّوبة وإعطاء التاجر حقّه وينذرهم من عاقبة أعمالهم ومن عقاب ربّ العالمين، لكنّهم استمرّوا في ضلالهم وهددوا شُعيباً والذين معه بالطّرد، فابتهل النبيّ شعيب إلى الله تعالى قائلاً: }رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ{(سورة الأعراف:89).
آنذاك سلّط الله عليهم ريحاً صرْصَراً ثم زلزالاً قويّاً فأحرقهم وأهلكهم. وتقول الرّوايات إنّ النبي شعيب انتقل إلى بلادنا أي من شماليّ فلسطين إلى جبل عامل ووادي التّيم، وإنّ إحدى دلائل تواجده لمدّة في المنطقة وجود مزار له في حطّين في فِلِسطِين ومزار له في الفرديس يقال أنه بُني فوق الكهف الصّخري الذي كان يتعبّد فيه، كما يوجد له مقام في “ السّفينه ” في موقع تابع لبلدة الكفير وهناك بئر وجامع على اسمه في بلدة بليدا العاملية، وقد اشتغل النبيّ شُعيب بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر والدّعوة إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والضَّلال. وتُوفي شُعيب ودُفن في مغارة في جبل حِطّين من أعمال فلسطين المحتلّة.
وقد ورد ذكر النبي شعيب 11 مرّة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:
}وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلــه غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلكم خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{(الأعراف:85)
“احتضان الموحّدين الدّروز للمقامات والمزارات الرّوحية على تنوّعها يشهد على اتّساع التّوحيد وشموله وأنّ عمره من عمر الدّيانات السماويّة جميعها”
في رحاب خلوات البيّاضة
بعد الجولة على المزارات يمكن التوجّه لزيارة مباركة لخلوات البيّاضة في حاصبيّا منارة التّوحيد وركن اجتماع الأمّة وقِبلة المؤمنين الزّاهدين، وتقع خلوات البيّاضة على هامة رابية من الرّوابي التي تحيط ببلدة حاصبيّا لجهة الجنوب، وهذه الرّابية ربّما قّدستها وأعلت مكانها كموقع إقامة وتنقّلات الدّعاة الأوّلين في شِعاب وهضاب وادي التّيم وكذلك الإقامة الدّائمة فيها منذ مئات السنين للزّهاد الموحّدين الذين نذروا أنفسهم للعبادة وخدمة المؤمنين والزائرين فأصبحت رمزاً للبساطة والفَقر والتّواضع في سبيل الله وبرز منها مشايخ أكابر رفعوا راية الحق وكانوا بمثابة الحصن الحصين للطّائفة في المُلِمّات. وأهمّ ما في خلوات البيّاضة ابتعادها عن كل ما يفرّق الموحّدين فلا توجد هنا سياسة وولاءات وانتماءات بل اتّفاق على الوحدة ونبذ الفرقة وشؤون الدنيا وفي رأسهاسهأسها السّياسة.
نشأت البياضة في أواسط القرن الحادي عشر للهجرة أي نحو 1650 ميلاديّة، وهي لتاريخه، بالإضافة إلى الخلوة الكبيرة أو ما يُعرف “بالمجلس” تحيط بها أكثر من خمسين خلوة لجميع المناطق والعائلات التوحيديّة، ومن أهمّ مميّزاتها تواضع وبساطة المفروشات والزّهد والتقشّف في المأكل والمشرب من قبل سكانها. وفوق هذا وذاك مُحرّم العيش فيها من قبل الأزواج ومهما تكن الظّروف صعبة عند المتعبّدين الكبار، فالعُرف الدّيني يحتّم عليهم البعد عن كل الشّبهات، إذ إنّ العيش فيها فقط للعبادة والتّفقّه والتعلّم وحفظ ما هو مطلوب ومعلوم وليس التّنعّم أو المفاخرة أو المباهاة، والزّيارات مسموح بها للجميع بعد استئذان الحرّاس أو القيّمين عند مدخلها.
مزار النّبي رؤبين
بعدها ينتقل الزّائر من خلوات البيّاضة لزيارة مقام وقبر النبي رؤبين في حاصبيّا وموقعه عند أسفل البلدة بالقرب من القصر الشّهابي وبجانب مجرى ماء شتوي يُعرف بالبصيص.
والنبي رؤبين هو من الأسباط الاثني عشر من أولاد يعقوب (ع) وهو أكبرهم. وكلمة الأسباط في اللغة العربية ومعناها ولد الولد. أمّا الأسباط في بني إسحاق فهم كالقبائل في بني اسماعيل، وقوله تعالى في القرآن الكريم : }وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا{(الأعراف: 160)
“مقام النبي شُعيب في الفرديس مقصد يتمتّع بشعبيّة كبيرة بين مختلف الطــّوائف ويزار من مختلــــف مناطق لبنان”
مزار السّتّ صالحة
وبعد الانتهاء من زيارة بلدة حاصبيّا ينتقل الزّائرون إلى بلدة ميمس حيث مزار السّتّ صالحة كمال، التي ولدت في مطلع القرن التاسع عشر وتُوفّيت قبيل أحداث عام 1860، وكانت منذ ولادتها ضريرة، وكانت تتقن اللغة اليونانية بالإضافة إلى العربية. ويوم أحرق ابراهيم باشا المصري الحيّ الجنوبيّ من بلدتها ميمس والذي يعرف بالبيسانيّة سابقاً عام 1837 بقيت مع إمرأة أخرى ضريرة ورجل آخر ضرير في أحد أقبية القرية وإذ بجنود من بلاد البلقان يتجوّلون في القرية ويتكلّمون اللّغة اليونانية، فخاطبتهم بلغة بلادهم وبكلام قاسٍ: لماذا أحرقتم قريتنا، ولماذا هذه الأعمال الوحشيّة؟ ممّا أدهش الجنود، فتقدّم أحدهم وخاطبها: هل أنت من اليونان؟ فأجابته: نعم، آنذاك أخرج من جيبه كتاباً دينياً وقدمه إليها قائلاً: خذيه، ربّما قُتِلتُ في أحدى المعارك فأنت أولى به. هذا الكتاب انتقل بعد السّتّ صالحة فيما بعد إلى خلوات البيّاضة وبقي يُتَداول به حتى إحراقها عام 1925 من قبل المستعمر الفرنسي إذ فُقد مع جميع محتوياتها.
ويُنسب إلى السّتّ صالحة كلام عن ملامح آخر الزّمان جاء فيه: “عندما تشربون من الحيط، وتضيئون بالخيط وتكرّجون الغربال، أي الدولاب، فيصل إلى عريش مصر وأخيراً تأتي بلادنا عساكر ترتدي زي الضفادع (الثياب المرقَّطة)..أمّا مزارها ومدفنها عند مدخل بلدة ميمس الغربي الجنوبي فهو بناء لائق ويُسمح بزيارته في كل الأوقات.
بعد ذلك يمكن الانتقال إلى بلدة الخلوات حيث يقع في ظاهرها لجهة الشرق معبد النّبيّ “شئت” وهو معبد مقام ربّما فوق معبد رومانيّ أو وثنيّ قديم، ويعود تاريخه إلى آلاف السّنين، واللّافت للأمر الناووس الضّخم أمامه وهو كناية عن حجر كبير مجوّف من داخله ليتّسع الجثمان وفوقه غطاء صخري من قطعة واحدة، ويروي الكثيرون من المُعْمرين عن المستعمرين السابقين كالأتراك والفرنسييّن وسواهم أنّهم زاروا هذا المدفن وربّما قاموا ببعض الحفريات إذ لتاريخه لم تزل هناك العديد من النّواويس وبقايا هياكل وأعمدة، وحديثاً أقام أبناء البلدة بناء يليق بالعبادة والاستقبال وفيه ما يحتاجه المقيمون والزائرون.
ويروي عن هذا المقام الشيخ شرف الدين عمار من مزرعة النبيّ شِئت، وهو من مرافقي وتلامذة الشيخ الفاضل (ر) أي منذ حوالي 375 سنة إذ يصفه بقوله إنّ أمامه سنديانة ربّما هي السّنديانة الحاليّة والتي يلزم لإحاطتها سبعة رجال.
مقام الشّيخ الفاضل
أمّا مسك الختام فزيارة سيّد المقام والمقال الوليّ الطّاهر الشيخ محمد أبي هلال والمعروف بالشّيخ الفاضل في بلدة عين عطا، ومدفنه ومزاره فوق تلّة صخريّة تعانق السماء بشموخها وأوّل ما يستقبلك نَسرٌ كبير منحوت في الصّخر فاتح جناحيه، وقد بُني المدفن والمزار فوق معبد روماني قديم. والواقف على شرفاته لا يحجبه عن رؤية البحر سوى بُعد المسافة وتكاثف الغمام والضباب في الأفق البعيد، ويتألّف البناء من عدّة طبقات وقاعات وغرف للمنامة من قبل الزّوار.
ولد الشيخ الفاضل في بلدة الشّعيرة قرب كوكبا أبو عرب، وهي اليوم بلدة دارس، وله مزار في بلدة كوكبا المذكورة غير أنّه قضى معظم أيامه وحياته في بلدة شْوَيّا، إذ كان يأوي ليلاً إلى كهف يقع بين الكروم لجهة الجنوب ويأتي نهاراً إلى القرية حيث يجلس مع مريديه تحت سنديانة لم تزل قائمة مع المزار المقام على نيّته لتاريخه.
في النّهاية نقول إنّ من تيسّرت له هذه السّياحة الدينية المكرّمة لمنطقة حاصبيّا التيميّة، وهذا ليس بالصّعب في هذه الأيام، وخصوصاً لسهولة التنقّل وتيسّر الأمان، وبالإمكان زيارتها في يوم واحد والعودة إلى أيّ مكان.
إنّ القيام بهذه الزّيارة للمعالم والمقامات الرّوحية تثبيت وتجديد للاعتقاد وتعزيز للإيمان لكن شرط وجود النيّة لذلك والالتزام باحترام تلك الأمكنة وعدم التلهّي عن الهدف بأنواع التّسلية والطّعام والسّمَر كما يحصل في بعض الأحيان.
(الصور الفوتوغرافية للمصور زياد الشوفي مع الشكر)
ما لا تعرفُه عن أسلافنا الذين هيمنوا على تجارة العالم
لمـــــــــــــاذا يجــــــــب أن
نحـــــبَّ الفينيقييّــــــن؟
الفنيقيّون سيطروا على تجارة العالم القديم دون جيوش
ونَبغوا في مُسالمة الجميع ومشاركتهم وكسب احترامهم
تستّروا على معتقداتهم احتراماً للشّعوب الأُخرى الزائرة
وأقاموا نُصُبَ عبادةٍ مفتوحةٍ للزّوّار على تنوّع شعائرهم
الفينيقيّون عَربٌ نَزَحوا من جنوب الجزيرة بسبب القَحط
وبصمتُهم الجينيّة وُجِدَت في أكثرِ مدنِ البحرِ المُتَوسّط
إذا سألتَ اللبنانييّن اليوم أن يُبيٍّنوا مدى معرفتهم بالفينيقييّن، ثمة احتمالٌ بأن يُردِّدوا الحقائق الثلاث الأكثر شهرةً عن هؤلاء القوم: كانوا روّاد التجارة البحريّة، واشتُهِروا بالصِّباغ الأُرجوانيّ المستخرَج من أصداف “الموريكس”، وعرّفوا العالمَ القديم على الأبجديّة الأولى ــ وهم على الأرجح، بحسب ميولهم السياسية، إمّا يُصرّون على فكرة أنّ ثمة تاريخاً مُشترَكاً مع هؤلاء القُدامى المغامرين في البحار وهم يواصلون إرثهم حتى اليوم، وإمّا يرفضون ذلك رفضاً تامّاً. وبعدما أصبحت هذه المسألة في صميم الخلافات السياسية فقد حُرِمَ لبنانيّو هذا العصر من فَهمٍ حقيقيّ ومحايد للفينيقييّن وهم لا شكّ في ذلك أسلاف اللّبنانييّن ليس بالمعنى العِرقي بالضّرورة لكن بمعنى مشاركتنا كمجتمع وكاقتصاد للحتميّات الجغرافيّة والطبيعيّة التي كان على الفينيقييّن التعامل معها وبناء نمط اقتصادهم وتجارتهم ودبلوماسيّتهم الخارجيّة بالاستناد إليها، إنّ المعلومات والدّراسات الأخيرة بما في ذلك الأبحاث الآثاريّة والجينيّة باتت تؤكّد الأهميّة الكبرى لحضارة الفينيقييّن التي قامت على السّاحل الشرقيّ والشمالي للبحر الأبيض المتوسّط لنحو من 1470 عام (من 1550 ق.م وحتى 79 ق.م). كما تؤكّد تلك الأبحاث نواحي التميّز الأساسيّة التي فرّقت إمبراطورية البحر الفينيقيّة عن بقية الإمبراطوريّات والممالك التي تعاقبت في العهد القديم. لقد كانت الممالك الفينيقيّة مثلاً نموذَجا فريداً لمجتمع تجاريّ بحريّ لا يمتلك جيشاً ويحترم الممالك المجاورة ويهادنها ويساعدها في ترويج تجارتها وفي بناء سفنها، كما كان مجتمعاً يحترم ديانات الشّعوب التي تعايش معها ولا يركّز على إظهار شعائره ومعتقداته فلم يبنِ لذلك المعابد بل اكتفى بوضع نُصُبٍ صغيرَة تدلُّ على أمكنة العبادة كما شجّع الزّائرين من مختلف الأصول والمعتقدات على ممارسة شعائرهم في معابد صغيرة تضمّنت عموماً رموزاً وشعاراتٍ تمثّل تلك الدّيانات.
فمن هم الفينيقيّون فعلاً وما هي درجة انتساب اللّبنانييّن المعاصرين للعرق السّاميّ الفينيقي؟ وما هو سرّ التفوّق الذي حقّقه الفينيقيّون وهم شعبٌ صغيرٌ يسكن بضعة مدن على الساحل الشرقيّ للبحرِ المتوسّط في نطاق العالم القديم، كيف تمكنوا وهم شعب لم يكوِّن جيوشاً ولم يؤمن بفائدة شنّ الحروب من الحفاظ على أنفسهم وممالكهم ومصالحهم التّجاريّة والاقتصاديّة طيلة ما يقارب الاثني عشرَ قرناً؟ كيف تعاملوا مع الحضارات المختلفة في المنطقة وما هي الإسهامات الكبرى الأساسيّة التي يمكن أن تُنسَب لهم ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم؟.
أحدثت دراسة نشرتها مجلّة ناشونال جيوغرافيك الشّهيرة في العام 2008 ضجّة في أوساط اللبنانييّن بسبب ما توصلت إليه من أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين (سواء أكانوا مسلمين أم مسيحييّن) هم من أصول فينيقيّة1
استندت المجلّة العلميّة في استنتاجها إلى أبحاث الدكتور بيار زلّوعة المختصّ في دراسة الحمض النّووي والذي قام بدراسته كجزء من مشروع الجينوم الذي ترعاه مؤسّسة ناشيونال جيوغرافيك ويهدف إلى وضع بيانات مفصّلة بالبصمات الجينيّة للشّعوب المختلفة ومحاولة فَهم حركات هجرة الشّعوب القديمة وإقامتها، وعلاقة الشّعوب المعاصرة بأولئك الأسلاف.
ورغم أن دراسة الدكتور زلّوعة تمكّنت من إقامة رابط بين جينات الفينيقييّن وبين نسبة لا بأس بها من اللّبنانيين المعاصرين وسكان مناطق مختلف على سواحل البحر الأبيض المتوسط، أي مناطق الانتشار الفينيقي، إلّا أنّها لم تحسم الجدل حول أصل الفينيقييّن أنفسِهم والمناطق التي جاؤوا منها قبل أربعة أو خمسة آلاف عام من ظهورهم على السواحل الشرقية للمتوسط.
وبصورة عامّة فإنّ أكثرَ الدراساتِ التّاريخيّة تَعتبر أنّ الفينيقييّن هم كنعانيّون ساميّون من صُلب سام بن نوح، بينما تُرْجِع أكثر تلك الدراسات نَسبهم أو مصادرهم التّاريخيّة إلى جنوب الجزيرة العربيّة، فالمؤرّخ الروماني سترابون الذي عاش بين العام 64 ق.م والعام 19الميلادي أشار إلى أنّ المقابر الموجودة في جزر البحرين تشابه مقابر الفينيقييّن، وأنّ أسماء جُزُرِهم ومدنهم هي أسماء فينيقيّة مثل صور على ساحل عُمان، و جُبَيْل وجزيرة أرواد (وهي الاسم القديم لجزيرة المحرّق في البحرين) وجزيرة تاروت بالقطيف التي تقارب اسم مدينة بيروت بلبنان وقد عُثِر بتاروت والقطيف على اثار فينيقية كثيرة، كما عُثِر في جميع هذه المدن على هياكل تشبه الهياكل الفينيقية.
ويرى فرنسيس لزمان مؤلف “تاريخ الشّرق القديم” أنّ الفينيقييّن “سلكوا طريق القوافل من القطيف نحو بلاد الشّام الخصبة”. وقال هنري راولينسون إنّ أصلَ الفنيقييّن (الكنعانييّن) من سكّان البحرين والقطيف في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى سواحل الشّام منذ نحو خمسة آلاف عام. وأنّهم عرب بأصولهم وأنّ هناك في الجزرة العربية مدناً أسماؤها فينيقيّة مثل صور وجبيل وأرواد.
وإذا أخذنا بمجموع النّتائج التي توصّل إليها البحث الجينيّ للدّكتور زلّوعة وآراء المؤرّخين الثّقات من أيّام سترابون الرّوماني فإنّ من الممكن الخروج برأي يوافق اللّبنانييّن جميعهم، أي أنّ اللبنانييّن يحملون أصولاً فينيقيّة بالتّأكيد (وقد أثبت علم الجينات الحديثة ذلك) لكنّ الفينيقيين أنفسهم لم يهبطوا من المرّيخ بل جاءوا ضمن الهجرات التي انطلقت من الجزيرة العربيّة التي شهدت قبل 12 ألف عامٍ ثمّ في مراحل تالية فترات قَحط وتَصَحُّر أو كوارث مثل انهيار سدّ مأرب دفعت بتلك الشّعوب النّشِطة التي قادت التوسّع الإسلاميّ في العالم في ما بعد إلى الهجرة نحو بلاد الشّام الخصبة وهي كانت أصلاً تَعرف عن تلك البلاد وتتاجر معها منذ أقدم الأزمان.
“دراسة ناشونال جيوغرافيك للبصمات الجينيّة للشـــّـعوب أكّدت: كلّ واحد من ثلاثة لبنانييّن (مسيحيّاً أو مسلماً) من أصل فينيقيّ”
نموذجٌ لحضارة التّجارة والسَّلم
يعتقد المؤرّخون أنّ الفينيقييّن تمكّنوا من الحفاظ لأكثرَ من 12 قرناً على إمبراطوريّة مزدهرة وسط الصّراعات وتعاقُب الممالك القويّة بفضل إحجامهم عن بناء قوّة عسكريّة مُكلفة اقتصاديًّا واللجوء بدلاً من ذلك إلى الاستخدام الفعّال لسلاح المصالح والتّجارة والدبلوماسيّة وقبل كلّ شيء عبر تقديم أنفسهم كمجتمع مسالم يتخصّص في التّجارة مع الحضارات التي تجاوره بدلاً من تهديدها. بذلك تآخى الفينيقيّون مع المصرييّن ومع غيرهم واستطاعوا عموماً حماية تجارتهم وسط العواصف والأمواج المتقلّبة للممالك وتعايشوا وإن بصعوبة أحياناً وبأثمان ماليّة مرهِقة مع الحِثِّييِّن ثم مع الهكسوس ثم مع الإغريق والفرس الرّومان.. وتحتوي الرّوايات القديمة على شهادات عديدة في مهارة الفينيقييّن أبرزها وصف هوميروس لهم في الأوديسّة بالقول “هؤلاء البحّارة المَهَرةُ والتّجار الماكرون” وقد أضاف هوميروس إلى ذلك وصفهم بالـ “القراصنة” في شهادة تعكس في نظر بعض المؤرخين شعور الغَيْرَةِ والحسد الإغريقيّ من هذه الامبراطورية البحريّة المقدامة لكنّها تعكس في الوقت نفسه حجم الهيمنة التي كان الفينيقيون قد حقّقوها على تجارة العالم القديم وسيطرتهم على البحار. وقد كان الإغريق في نمط حياة أقرب إلى عصر ظلمات ولم تكن لهم لغة مكتوبة عندما كان الفينيقيّون يجوبون البحار وصولا إلى شواطئ كورنوال البريطانية الجنوبيّة الغربية وأيرلندة وسيقوم هؤلاء الإغريق في وقت متأخّر (نحو 400 ق.م.) بتطوير لغتهم المكتوبة لأوّل مرّة بالاستناد إلى الألفباء الفينيقيّة.
لا يعني ذلك أنّ الفينيقييّن تمكّنوا دوماً من التّفاهم مع الدّول الغازية فقد أدّت الغزوات المتوالية التي قامت بها شعوب المنطقة إلى دمار عدد من المدن الفينيقيّة بصورة متكرّرة لكنّ الفينيقييّن أعادوا بناء مدنهم في وقت قصير وتمكّنوا عادة من توفير صيغة للتّعايش أو للمشاركة بينهم وبين القوّة المهيمنة الجديدة.
كيف أصبحت اللغة الفينيقية
لغة العالم وأمّ اللغات القديمة
يعتبر اختراع وتطوير الألفباء الحديثة أحد أعظم مساهمات الفينيقيين في الحضارة الإنسانية، لكن الفينيقيين لم يكونوا أول من استخدم اللغة وكتبوا بها، فقد وجدت قبلهم لغات عدة مثل المسمارية المستخدمة في ممالك بلاد ما بين النهرين والهيروغليفية المصرية لكن أهمية الإنجاز الفينيقي – وما جعل اللغة الفينيقية قفزة كبيرة في الحضارة البشرية- هي أنها -مثل اللغة الحديثة- كانت أول لغة لا يحتاج المرء للكتابة والتحدث بها لأكثر من عدد محدود من الرموز، وحيث كل رمز في حد ذاته يمثل صوتا محددا. وكانت هذه البساطة قفزة كبيرة بالمقارنة مع لغات قديمة، مثل المسمارية أو الهيروغليفية اللتين استخدمتا رموزا كثيرة ومعقدة.
لقد كان لدى الفينيقيين حافز مهم لتطوير لغة “عالمية” يمكن (بسبب سهولتها) استخدامها من كافة الشعوب (وهو دور يشبه الدور الذي باتت تلعبه الإنكليزية في العالم المعاصر) وهذه اللغة ستؤمن للفينيقيين وسيلة فعالة للتواصل ليس فقط مع الملوك والكهنة والقادة المهمين بل مع كثير من الناس والأجناس التي كانت تدخل معهم في تجارتهم المنتشرة في كل مكان. وقد سمحت بساطة اللغة الفينيقية بتعلمها والكتابة بها ليس فقط من نخبة المجتمع بل من الناس العاديين، وهي كانت بالتالي عاملا مهما في تطوّر العلاقات الاجتماعية بل وفي بروز مفهوم معين من “الديمقراطية” سيتطور لاحقا في الممالك الهيلينية والرومانية.
ويعود اختراع الألفباء الفينيقية إلى نحو العام 1050 قبل الميلاد وهي الفترة التي عاشت فيها المدن الفينيقية عصرها الذهبي من توسع في التجارة البحرية مع مختلف شعوب العالم القديم. وتعتبر هذه الألفباء الأقدم على وجه الأرض، وهي تتألف من 22 حرفا وأصبحت يومها الأكثر انتشارا واستخداما في الكتابة حول العالم. وتعتبر العبرية القديمة والآرامية واللغة اليونانية القديمة ثم اللاتينية والقبطية كلها متفرعة عن اللغة الفينيقية، وكانت الفينيقية تكتب في العادة من اليمين إلى اليسار، وفي العام 2005 قامت المنظمة العالمية للثقافة والعلوم (الأونسكو) بإعلان اللغة الفينيقية جزءا من ذاكرة البشرية ومن تراث لبنان.
تجّار عابرون للقارات
لقد حجبت شهرة الفينيقييّن كتجّار بحار الشّهرة التي حققّوها أيضا كتجّار قوافل غطَّوْا بنشاطهم رقعة واسعة من آسيا وأفريقيا وهم اعتمدوا في تجارتهم البرّيّة طريقين رئيسين، أوّلهما يتفرّع عن الطّريق السّاحليّ الشّماليّ. فيذهب من أوغاريت نحو حماه وحلب والرُّها وكركميش ونِصّيبين في القفار السّورية الشماليّة وكان هذا الطّريق يتّصل بوادي الفُرات حتّى ما بين النّهرين، أو يذهب من حَرَّان إلى نَينوى. أما الطّريق الثّاني فكان يعبر جبال لبنان إلى الزّبداني فدمشق فتدمر فبلاد ما بين النّهرين وشرق سوريا. وهذا هو الطّريق الأقصر، لكنّه الأصعب. وكانت الجزيرة العربيّة وبلاد ما بين النّهرين الصّلة الجغرافية بين فينيقيا والشّرق الأقصى خصوصاً الهند.
وفي طرقهم البريّة هذه، وبسبب الحجم والقيمة الكبيرين للبضائع التي كانوا ينقلونها في رحلاتهم وبسبب طول مدّة إقامتهم (وكانت بعض الرّحلات تستغرق 3 سنوات) كان الفينيقيّون يقيمون علاقات الودِّ مع شعوب البلدان والمناطق التي يعبرونها أو يقيمون فيها لمدة مؤقتة فيعزّزون أواصر المودّة مع القبائل، ويستعينون ببعضها كوسطاء أو كمرشدين، الأمر الذي حفظ قوافلهم من مخاطر اللّصوص وقطاع الطّرق الذين كانون يتربّصون المناطق النّائية أو الممرّات الجبليّة المنعزلة. وسهَّل ذلك للفينيقييّن إقامة المحطّات التّجاريّة على طول طرقهم التّجاريّة، كما أنّهم بنَوْا أحياءهم الخاصّة بهم في بعض المدن التي أقاموا فيها.
“أنشأوا نظاماً ديمقراطيّاً تشاركيّاً لإدارة مصالح المجتمع واحترموا المرأة واختاروا ملكـــــاً منهم فقط لحاجتهم إلى «مفاوض» لملوك الشّعوب الأُخرى !”
إعادة التّصدير
عندما اشتُهر لبنان في القرن الماضي بتجارة إعادة التّصدير وبكونه طريق التّجارة العابرة من ساحل المتوسّط فهو كان بذلك وللأسباب الجغرافيّة والاقتصاديّة نفسها يستعيد تقليداً فينيقيّاً أصيلاً كبلد خدمات وتجارة لا يمتلك الموادّ الأوّليّة ومقوّمات الاقتصاد الزّراعيّ لبلاد النيل أو بلاد ما بين النّهرين. رغم تطوّرها الاقتصاديّ فإنّ فينيقيا لم تكن تملك ما يكفي لتلبية احتياجات أسواقها الواسعة باستثناء أخشاب الأرز (وتقليد قطع الغابات وتعرية الجبال في بلادنا ليس جديداً !) وكميّات محدودة من الزّيوت والأصباغ والخمور والأنسجة وبعض المصنوعات البرونزيّة والفضّيّة أو مصنوعات العاج. لذلك اتّكل الفينيقيّون على إنتاج غيرهم يشترونه بأسعارٍ رخيصة ثمّ يبيعونه بربح جيّد، وهم استوردوا الصّوف والجلود واللّحوم من وسط سوريا، والعسل والحبوب من فِلِسْطين، والتّوابل من الشّرق الأقصى، والنّحاس من قبرص واليونان والقفقاس، والفضة من إسبانيا، والحجارة الكريمة والذّهب والكَتّان والقُطن من مصر ، والعطور من بلاد الرّافدين، والأبَنُوس والعاج من السّودان، والخيول من أرمينيا. وحقّق الفينيقيّون فتحاً تجاريّاً مهمّاً عندما وصلوا عبر مضيق جبل طارق إلى جنوب الجزر البريطانيّة حيث توجد مناجم وفيرة من القصدير وبسبب ذلك، ولاكتشافهم طريقة صهر القصدير مع النّحاس لإنتاج معدن البرونز فقد حقّق الفينيقيّون لمدّة طويلة شهرة في الصّناعات المعدِنيّة وتفوّقاً على جميع معاصريهم في هذا المجال. وقد كتب ديودورس الصّقلِّي، المؤرّخ اليونانيّ، حول هذا الموضوع قائلاً: “إنّ بلاد الأيبيرييّن (إسبانبا) تحتوي على أغنى مناجم الفضّة التي نعرفها ولم يكن لدى السكّان المحلييّن خبرة في طرق معالجة هذا المعدِن النّفيس واستخدامه، لكنّ الفينيقييّن كانوا يبادلون كميّات كبيرة من الفضّة الخام مقابل كميّة صغيرة من البضائع، ثم يقومون ببيعها في أسواق اليونان وآسيا وشعوب أخرى بأرباح ضخمة وهم اكتسبوا من ذلك ثروات كبيرة”.
وكانت رحلة التّجّار الفينيقيّين تستغرق بضع سنواتٍ أحيانًا. إذ كانوا تجارا متجوّلين، أو “مغتربين” بصورة مؤقتة، وهم كانوا يأخذون وقتهم في التعرف على أسواقهم وبناء العلاقات مع مجتمعاتها، الأمر الذي عزز موقفهم وسهل مبادلاتهم وساهم في تحقيقهم لثروات كبيرة، حتى أنهم كانوا أثناء فترة المتاجرة يزرعون المحاصيل في بعض الأماكن وينتظرون وقت حصادهم فيستفيدون أيضا بصورة مضاعفة من إقامتهم.
“بسبب عدم وجود جيـــــــش يمكن أن يدعم الدّكتاتوريـــّـــة لم يحصل في تاريخ الفينيقييّن نزاع عنيف على المُلْــــــــك ولم يُسمَع عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة بسبب الظّلم الاجتماعيّ”
سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.
سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.
إدارة الأعمال وفق النّمط الفينيقيّ
بسبب الاعتماد الكبير للفينيقييّن على التّجارة وعلى الرّحلات البحريّة كانت الحاجة ملحّة لإيجاد إدارةٍ ذكيّة وماهرة للمغامرات البحريّة وكافّة العمليّات التّجاريّة واللّوجستية التي تفرّعت عنها فالاستثمار في أيّة رحلة كبير، والمخاطر أكبر، والمطلوب في مثل هذه الحالات استنباط ترتيباتٍ دقيقة وتبنّي نظام فعال لتخصيص المسؤوليّات والمخاطر والمشاركة في المغانم. لقد كان على جميع المستثمرين في الرّحلة (بُناة السّفينة، وربّانها، وطاقَمها ومزوّديها بالبضائع ومموّليها) أن يعملوا كشركة بالمعنى الحديث للكلمة أي أن يلتقوا ويتخذوا معا القرارات المهمّة التي ستؤثّر على مسار الرّحلة ونتائجها. ولم يكن مسموحاً بتفرّد أحد مهما كانت خبرته بالرّأي وإلّا فإنّ الأعضاء المتململين كانوا سينسحبون من المغامرة ويمتنعون عن المشاركة فيها. فضلاً عن ذلك، وبعد الاتفاق على التّفاصيل كلّها كان على هؤلاء الشّركاء أن يختاروا واحداً من بينهم ليكون الشّريك الأكبر، وهو ما يوازي في لغة العصر موقع العضو المنتدب أو المدير التّنفيذي، وكان دور هذا الشخص يتركّز في مراقبة تقدُّم الاستعداد للرّحلة وتنظيمها وإطلاقها وإدارة شؤونها ومعالجة الأمور التي تطرأ وذلك حتّى نهاية البعثة التّجارية وعودة السّفينة – أو السفن- إلى قواعدها.
لكن مع تنامي أعداد السكّان في المدينة على مرّ السنين، غدا استدعاء الجميع لمثل هذه اللّقاءات خطوةً غير عملية. ونتيجةً لذلك نشأت في ذلك الوقت أولى مجالس الممّثلين عن الشّعب. وكان يُعقد اجتماع عموميّ لجميع الشّعب، وربّما على أساس سنَويّ، واختيار أعضاء المجلس والتّعبير بقوّة عن امتنان أو عدم رضى الشّعب تجاه ما تمّ تحقيقه منذ الاجتماع العموميّ الأخير. ومن ثمّ يجتمع أعضاء المجلس عند اقتضاء الضّرورة ويعمل بأداءٍ أشبه بمجلس إدارة يُدير جميع المستثمرين، ومن ثم اتّخاذ القرارات المهمّة. وكان المجلس يمنح أحد أعضائه أيضاً الحقّ باتّخاذ قرارات يوميّة إزاء المغامرات التّجاريّة وتحمُّل مسؤوليته ليبدو في الظّاهر كقائدٍ للمدينة واستدعاء أعضاء المجلس عند الحاجة إلى اتّخاذ قرارات كبيرة.
“تعاملوا بحزم وحكمة مع أعتى القوى التي سادت زمانهم لكنّهم لم يتباهَوْا يوماً بإلهِ حرب، ولم يتغنّوْا كغيرهم بسحق الأُمم، وتدمير المــــدن وإحراقـــها ونهبها وقتــــل سُكّانها”
ملِك فينيقيّ ولكن..
على الرّغم من أنّ الفينيقييّن اتّبعوا نظام الحُكم التّشاوريّ الخاصّ بهم، فإنّهم احتاجوا إلى التّعامل مع مجتمعاتٍ وكياناتٍ أخرى كان يحكمها ملوك. وبالرّغم من أن نظامهم لم يكن مصمّماً لقيام ملك مطلق الصّلاحية فإنّهم رأوا أنّ من الأفضل، ولو لأجل المظاهر البروتوكوليّة، أن يكون لهم ملِكٌ هم أيضاً. لذا أعلنَ فينيقيّو جُبيل قائدَهم “مَلِكاً”، وشكّل ذلك سابقةً في التّاريخ القديم لأنّ الملك جاء هنا باختيار الشّعب بينما كان الملوك يصلون إلى السّلطة عبر الغزوات وسفك الدّماء ويحمون حكمهم المطلق بالقوة العسكريّة العنيفة.
لقد اختار الفينيقيّون أن يجدوا لأنفسهم “مَلِكاً” ليس لأنّ تنظيمهم الاجتماعيّ والسياسيّ كان في حاجة إلى هذا الابتكار بل لأنّهم يحتاجونه من أجل اكتساب الشّرعيّة والاحترام الدّوليّ لمجتمعهم كما أنهم يحتاجونه في التّعامل مع الشّعوب الأخرى التي كان لها ملوك وكان لا بدّ لهم من أن يقيموا علاقاتهم مع الجيران من خلال ملك لهم يمكنه التّعامل والتّفاوض مع ملوك الأقوام الأخرى.
وكان من السّهل على الفينيقييّن المحافظة على منصب الملِك، لأنّ الأخيرَ عبر اختيار المجلس له بمصادقةٍ من المدينة وسُكّانها، كان ينحدِرُ غالباً من العائلات العريقة فيها. لكن هل كان الحكم الملكيّ الفينيقيّ وراثيّاً؟ كان في حقيقته تسوية توفّق بين استمراريّة الملك وبين ضمان اختيار الأفضل. فعند الحاجة لاختيار خليفة للملِك فإنّ الخيار الأول كان يتّجه لاختيار أحد أولاد الملِك السّابق، لكن دون التزام بأن يكون الابن الأكبر للملِك هو الخيار الوحيد. إذ كان ممكناً اختيار ولد آخر معروف بالكفاءة أو ربّما عضو من أُسرة نبيلة أخرى. وكان معيار الاختيار هو جدارة الملك المعيّن لقيادة الأعمال التجاريّة للمدينة وعلاقاتها الدبلوماسيّة. وعندما كان الملِك يُقصِّر في أداء مهمّته، كان من السّهل القيام بالتغييّر إذ إنّ ذلك كان لا يتطلّب أكثر من قرار تتّخذه جمعيّة الممثّلين المنتَخبين لتمثيل المدينة. والملفت أنّه لم يسجَّل في تاريخ العهد الفينيقيّ أنْ نشأ نزاعٍ عنيف على السلطة أو محاولة أيّ فينيقيٍّ للاستئثار بالمُلك خلافاً وكانت هذه شهادة بليغة على المستوى الحضاريّ الذي ساد علاقات المجتمع الفينيقيّ ونظامه السياسيّ.
كان الفينيقيّون يدركون في الوقت نفسه أنّ ثمّة مخاطر دائمة (بسبب طبيعة النّفس الإنسانيّة) من أن يصبح القائد الجديد مُفتَتناً بالقوة، وأن يسعى إلى تنصيب نفسه ملِكاً حقيقيّاً، أي حاكماً مستبدّاً على المدينة، لكن هذا الاحتمال قلّل كثيراً منه عدم استناد الدّولة الفينيقيّة إلى جيش أو قوّة مسلّحة يمكن أن يستخدمها الطّاغية لفرض سلطانه. وأكثر ما قام به الفينيقيّون كان تشكيل حاميات قليلة العدد داخل كلّ مدينة بغرض السّهر على الأمن وحفظ النّظام العام، لكن من دون أن يكون لأيٍّ من تلك الحاميات قوّة كافية للسّير خارج المدينة بهدف خوض معارك داخليّة أو خارجيّة.
وحيث إنّ الملِك لدى الفينيقييّن كان يحكم من دون جيشٍ يفرض إرادته، لم يكن ثمّة خطرٌ يُحيق بالمجلس المُنتَخَب والشّعب. وممّا زاد هذا الشّعور بالأمان هو وجوب أن تعود جميع القرارات الرّئيسة إلى المجلس المذكور. فلم يكن بوسع الملِك أن يبرمَ اتفاقيّات تُضفي مزيداً من السّلطة على حُكمه لأنّ المجلس ما إن يشعر بتحرُّكٍ مماثل حتى يُعيِّن ملِكاً جديداً. وهكذا بدأ تقليد جُبَيل بتنصيب مَلِكٍ، ذلك التّقليد الذي استمرّ لعهدٍ طويل. ويُعتقَد أنّ الملِك كان يقطن في القسم السّكَنيّ من دار التّجارة الرّئيسيّ في المدينة، قريباً من جميع العمليّات اليوميّة التي كان مسؤولاً عنها. وهذا الملِك الذي يُشبه إلى حدٍّ كبير مديراً إداريّاً أو مديراً تنفيذيّاً لشركة حديثة، كان في تصرُّفه فريقٌ كبير من الأشخاص لتنفيذ العمل الفِعلي تحت إشرافه. وهو كان بدوره يعود بالنّتائج إلى مجلس مدراء، أي المجلس المنوَّه عنه أعلاه.
لقد عاد مبدأ المشاركة بالغُنْمِ والغُرْم بالنّفع الكبير على الفينيقييّن وأصبح قوّة دافعة وراء كلّ ما أنجزوه على مر القرون. ذلك ما جعلهم متّحدين في مجتمعٍ متكاملٍ، بدلَ أن يكونوا مجموعة من الأتباع يُهيمن عليهم قائدٌ قوي، كشأن الشّعوب الأخرى. وكونهم يتّصفون بمجتمعٍ كهذا هو الذي أمدّهم بالقوة والتّميُّز وهو الذي مكّنهم من أن يمدّوا في عمر حكمهم النّاجح والمُزدهر قروناً طويلة من الزّمن.
المساواة والمشاركة في الثروة
أحد المبادئ الأساسيّة للمجتمع الفينيقيّ كان المساواة والمشاركة في الثّروة. ولم يُقْصَدْ بذلك أنّ كلّ عضو في المجتمع يجب أن يكون مساويا كلّيّاً في كلّ نواحي الحياة للآخرين، فبعض العائلات كانت نشطة على وجهٍ خاصٍّ في التّجارة، وهي غامرت واستثمرت وحقّقت بعض الثّروات الإضافيّة لنفسها. لذلك، فإنّ المبدأ الفينيقيّ في المساواة كان يعني أنّ الضّعفاء وأشدّ النّاس عوزاً كانت تُحسب لهم حصة في الأرباح المُكْتَسبة من قِبَل المجتمع بأكمله، وعلى الرّغم من أنّ التّجارة الدّوْليّة، وبناء السّفن، وإنتاج السّلع على غرار الملابس الشّهيرة المصبوغة بالصِّباغ الأُرجوانيّ المَلَكيّ، قد جعلت الفينيقييّن من أغنى المجتمعات في العالم القديم على الإطلاق، فإنّ الهوّة بين الغنيّ والفقير في ما بينهم كانت أصغر بكثير ممّا كانت عليه لدى معظم المجتمعات الأخرى في تلك الأيّام.
فالمناطق الأخرى غالباً ما كان يحكمها ملِكٌ قوي ومجموعة صغيرة من العائلات الفائقة التّرف تطغى على طبقة “نبيلة” تابعة لكنّها محدودة الحجم، بينما يبقى على القسم الأكبر من السُّكّان كسب قوتهم يوماً بيوم. وكان شائعاً بين الفينيقييّن، وحتى الفقراء منهم، العيش في منازل تتألّف من غرفٍ عديدة، في وقتٍ كانت المنازل ذات الغرفة الوحيدة هي السّائدة في المجتمعات المجاورة. وعبر اختيارهم لأعضاء مجالسهم وملوكهم، والقدرة على استبدالهم، حرص الفينيقيّون على ألَّا تستأثر أُسرة واحدة بثروة المجتمع. واللّافت أنّ المدن الفينيقيّة لم تُقلِّد أبداً ظاهرة بناء القصور الفرديّة الباذخة كما في مصر وبلاد ما بين النّهرين وفارس ومناطق تاريخيّة أخرى.
وفي المجتمع الفينيقيّ، كان لكلّ شخصٍ صوتٌ في شؤون الجماعة، وحِصّةٌ في نجاحها. وكان من شأن مبدأ المساواة هذا أنْ أحدثَ تأثيراتٍ مهمّة. أوّلاً، لم يُسمَع طيلة تاريخ الفينيقييّن الطّويل عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة أو فتنة أو تمرّد. فالهوّة الصّغيرة نسبيّاً بين الطّبقات العليا والدّنيا من المجتمع لم تُشكِّل عامل احتقان يمكن أن يؤدّي إلى حصول مثل تلك القلاقل، فضلاً عن أنّ شعور الفينيقييّن الدّائم بوجود تهديد كامن أو علنّي لمصالحهم فرض عليهم واجب التّضامن من أجل حماية طريقة عيشهم وازدهارهم.
احترام المرأة
كان الشّعب الفينيقي يحترُم المرأة ويُوقِّرها، وهذا ما مكّنه من الإفادة على نحو أكمل من قدرات المرأة في تنفيذ استثماراته الواسعة الانتشار وتنظيم شؤونه المدنيّة. ومع ازدهار الأعمال الفنيّة في أوساط الفينيقييّن، أخذت المرأة تُشارِك بالكامل في نشاطات المدينة، وعزا بعض الباحثين ذلك إلى أنّ الفينيقييّن كانوا يعبدون “سيّدة جُبيل”، التي كانت يُسبَغ عليها صفات “الأرض” و”الطّبيعة الأمّ”، و”حامية النّساء والأطفال”، التي تجلب خيرات الأرض للنّاس، وذلك في مقابل الإله “بعلشميم”، “إله السماء” الذي لم يجعلوه على الأرض بل في السّماء، سيّد العواصف، وهو ما كان نابعاً من هواجس الفينيقييّن بشأن البحر وصعوبة التّنبّؤ بسلوكه في وقت كان اعتمادهم تامّاً تقريباً في أكثر رزقهم على مزاجه وأحواله.
فنّ التّعايش مع الأقوياء
في المراحل التّالية من تاريخ “أمراء البحار” الفينيقييّن، حينما انبثقت التّجارة البحريّة، كحِرفةٍ وفنٍّ ومصدرٍ للعيش الكريم، لم يستحدث الفينيقيّون آلهةً لكلِّ غَرضٍ في الحياة كغيرهم من الشّعوب والحضارات الأخرى في تلك العصور. وبدلاً من ذلك، اتّبعوا وجهةً فريدة عكست نمط حياتهم، ومجتمعهم وتميُّزهم.
بسبب اختلاطهم بعد كبير من الشّعوب والمجتمعات المتنوّعة كان لكلٌّ منها لغته وعاداته ومعتقداته الخاصّة، وكان المصريّون القُدامى، على سبيل المثال، يبدون للآخرين بمظهر الافتخار والتّعالي على مَنْ حولهم وظهر ذلك بحِرصِهم على بناء التّماثيل الهائلة المُهيبة، والمصنوعات الذّهبيّة اللمّاعة، ونظام الحكم المُطلق، والجيوش الجرّارة الجاهزة للتحرُّك في أيّ وقت.
في المقابل، حافظ الفينيقيّون على ثقافتهم الخاصّة، لكنّهم سعَوْا في آنٍ إلى الاختلاط بالشّعوب الأخرى التي كانوا يُصادفونها في رحلاتهم التّجارية. وقد كان من خصائصهم وعاداتهم المتميّزة، أنّهم ما إن يصلوا إلى أرضٍ جديدة حتى يُظهرِوا إعجاباً كبيراً بالثّقافة المحلّيّة فيها، بما في ذلك الطقوس والمراسم. وثمّة أدلّة كافية على أنّ الفينيقييّن أظهروا عاطفةً شديدة في مدح المصرييّن وحضارتهم وفراعنتهم. وفي المقابل فقد عاملهم المصريّون كما لو كانوا “أبناء عمومة” يقطنون ناحية الشّرق من بلادهم، وكانت أشجارُ أرز لبنان وأخشابُ غاباته وصِمغه في غاية الأهمّية لعادات المصرييّن في تحنيط موتاههم، وبناء المعابد والهياكل، وتأثيث القصور، بل إنّ سلوكهم الرّاقي في الاختلاط أيضاً جعلَ وجودَهم مقبولاً بالفعل في هذه المنطقة الشّديدة الحساسيّة.
وغدت هذه العلاقة عميقة ومتجذّرة لدرجة أنّها أثّرت في تقاليد المصرييّن وأساطيرهم الدّينيّة، لا سيّما في أسطورة “إيزيس وأوزوريس”، وبسبب نزوعهم إلى المسالمة وحبّهم للتّواصل مع الشّعوب الأخرى، وإرساء الشّراكات والمبادلات التّجارية فإنّهم مالوا بطبيعتهم إلى احترام أديان ومعتقدات وعادات وتقاليد الشّعوب الأخرى، ورأَوْا في ذلك عاملاً إضافيّاً في حماية مجتمعاتهم وإنشاء روابط المودّة مع الشّعوب المحيطة بهم. وكما يقول أحد الباحثين المختصّين، فإنّ الفينيقييّن بكونهم مطّلعين على مختلف المجتمعات، ربّما “وصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ كلّ تلك المجتمعات كانت تعبدُ ربّاً واحداً لكن بأسماءَ وتصوُّراتٍ مختلفة”. وفيما كانوا يتّبعون هذا السّلوك السبّاق في احترام أديان الآخرين وتقاليدهم، فإنّهم في الوقت ذاته لم يجعلوا لأنفسهم نُصُباً يتعبّدونها، كتلك التي استخدمتها الشّعوب الأخرى، كأصنامٍ حجرية تُصوِّر آلهة بأجسامٍ بشريّة أو رؤوسٍ حيوانية، أو ثيرانٍ من ذهب كما فعلَ أبناء عمومتهم الكنعانيّون. فما اعتمدوه هو مجرّد “مصطبة” حجرية تدلُّ المهتمين على أنّ المكان هو مكان لتقديم القرابين والعبادة.
مهارة دبلوماسيّة
برع الفينيقيّون في مملكة جُبيل وشقيقاتها في استخدام التّفاوض ودبلوماسيّة المصالحة والسَّلم لفضّ النّزاعات وتجنُّب المواجهات. لذلك لم يذكر التّاريخ أنّهم تباهَوْا يوماً بإلهِ حربٍ، ولم يتغنّوا كالشّعوب الأخرى بسحق الأُمم، وتدمير المدن وإحراقها وقتل سُكّانها وسلب غنائمها. ومع ذلك، لم يكونوا ضعفاء بأي شكلٍ من الأشكال، فهم بشجاعتهم هيمنوا على التّجارة عبر العالم وتعاملوا مع أعتى القوى السّائدة في زمانهم، لكنّ الحربَ لم تكن خيارهم على الإطلاق، إنّما تمسّكوا بمفاهيم السَّلم والتّواصُل واحترام الآخر. بل يذكر التّاريخ إنّهم تحالفوا مع “شعوب البحر” العنيفة التي اجتاحت المنطقة ودمّرت حضاراتها في العام 1200 قبل الميلاد ولم يصطدموا بهم خلال اجتياحهم لشواطئ شرق البحر المتوسط.
إنّ هذه المهارة في احتواء الأزَمات واجتناب الصّدامات ليست فقط في أساس النّجاح الفينيقيّ في مَدّ عمر الامبراطوريّة لقرون طويلة بل كان أحد أهم أسباب الازدهار الاقتصاديّ للمدن الفينيقيّة التي تمكّنت من توفير الأموال الهائلة التي كانت تُنْفق على الجيوش والحملات العسكريّة لاستثمارها في تحقيق مستوى معيشة كان الأعلى في المنطقة وفي تعزيز القوّة البحريّة للممالك الفينيقيّة وهيمنتها على تجارة العالم القديم.
قرطاجة
إسبارطة الفينيقييّن التي ذهبت بمجدهم
في العام 820 قبل الميلاد، حدَثَ نزاعٌ في مدينة صُور الفينيقيّة، بعد وفاة ملِكها ماتان الأول الذي أوصى بالحُكم من بعده لِوَلَدَيْه، ابنته الكبرى أليسار وشقيقها الصّغير بيغماليون. وانقسم المجلسُ الفينيقيّ بين هذَين الخَيارَين، لكنّ التجّارَ الأثرياء الكبار والكهنة، وعلى رأسهم زيكار بعل، كبير كهنة معبد ملقارت وصاحب الثّروات الضخمة، وقفوا إلى جانب أليسار الابنة الكبرى الذّكية والطموحة. وقد تزوّجت أليسار من زيكاربعل. لكنّ شقيقها الصّغير السّنِّ ومَنْ حوله أحسّوا بالخطر، وتآمروا على قتل زوجها داخل المعبد. وداهمَ الخطرُ أليسار ومَنْ ناصرها، فأقنعت شقيقها أنّها ستنطلق في رحلةٍ تجاريّة عبر البحر كشأن الفينيقييّن، وأخذت كنوزَ زوجها وفعلَ مثلها الأثرياء الكبار الذين هربوا بثرواتهم إلى السّفن، وانطلقوا بعيداً نحو الغرب.
القصة تقول إنّ سفن أليسار رست في شاطئ شمال أفريقيا بالقرب من مدينة يوتيقا (“عتيقة” في تونس اليوم)، تلك المستعمرة الفينيقيّة منذ أمدٍ والتي لعبت دوراً كبيراً في التّجارة. لكنّ المُرتحلين أرادوا أن ينطلقوا من بقعةٍ جديدة تقع على بُعد أميال من عتيقة. وتقول الأسطورة: إنّ أليسار تفاوضت مع مَلِك السُكّان البربر للمنطقة على منحها قطعة أرض صغيرة بحجم جلد ثور. وأمرت أليسار جماعتها بقطع خيوطٍ من هذا الجلد ووصلها ببعضها بعضاً ورسم نصف دائرةٍ حول تلّة عالية (كانت تُدعَى بيرسا) في تلك المنطقة القريبة من الشاطئ. وبذلك اختار الفينيقيّون المرتحلون تلّةً عالية يمكنهم من خلالها الإشراف على المناطق المحيطة بها والدّفاع عن مدينتهم العتيدة. وذُهِلَ ملكُ البربر لذكائها الخارق، وأوفى بعهده. وأخذت أليسار تبني معابد ومساكن فيها، وأُطلِقَ على هذه المدينة الناشئة اسم “قرت حدشيت”، وتعني حرفياً “المدينة الجديدة”، هذا الاسم الذي تحوّل لاحقاً إلى “قرطاجة”، تلك التي وفَدَ إليها أثرياءُ صور فُرادى وزرافات في موجاتٍ متتالية من المهاجرين.
وكان من الطبيعيّ أن تُنسَج الأساطير حول تأسيس قرطاجة والإمبراطورة القويّة التي قادتها في ذلك الزمن الغابر. ودارت تلك الأساطير حول شخصيّة أليسار (أو ديدون، أي المترحِّلة بالفينيقيّة) ورحلتها من صور تيهاً في البحر نحو شمال أفريقيا. ويعود أوّل نصٍّ يتحدّث عن مغامراتها إلى تيماوس الصّقلّي (Timaeus of Sicily) بين عامَي 256 و 200 قبل الميلاد. هذا النصُّ فُقِد، لكن بقي منه بعضُ الاقتباسات في نصوصٍ أخرى. وهو الذي حدّد تاريخ تأسيس قرطاجة حوالى العام 814 قبل الميلاد، وهو تاريخٌ مقبول من النّاحية التاريخيّة حيث إنّ ملِك صور “بيغماليون” قد حكم بين عامَي 820 و 772 قبل الميلاد.
وقد أوردَ قصّةَ أليسار وتأسيسها لقرطاجة الشّاعرُ الرّوماني الشّهير فيرجيل (Virgil) في ملحمته الرائعة “الإنيادة” (Aeneid). وتتحدّث الملحمة في بدايتها عن قدوم البطل الإغريقيّ “أنياس” إلى شواطئ شمال أفريقيا حيث أخبرته “أفروديت” قصّة أليسار، لتنشأ بعد ذلك قصّة رومانسيّة تجمعه مع المَلِكة الفينيقيّة.
ربّما من المؤسف أنّ الفينيقيين لم يحتفظوا بكتابات عن أمجادهم وحُكّامهم، وكلّ ما انتقل إلينا هو قِصَصٌ كتبها خصومهم، ولا سيّما الرّومان الذين خاضوا مع القرطاجييّن ما عرف بـ “الحروب البونيّة”، والذين كتبوا عن أليسار والفينيقييّن وقرطاجة بينما أصوات فِيَلَةِ هنيبعل لا زالت تزعق في آذانهم وجيوش الغازي الفينيقيّ الجرّارة تُحاصر روما.
لأسباب تاريخيّة وجغرافية اختلفت فلسفة قرطاجة عن مَنْشَئِها الفينيقيّ على السّواحل اللّبنانيّة ربّما لأنّ الممالكَ الأُمَّ في ظلّ الملك بغماليون هي التي ورثت امبراطوريّة الفينيقييّن البحريّة ومصالحهم التّجاريّة وفلسفتهم السلمية. بينما نزعت قرطاجة لمحاولة بناء إمبراطورية على النّمط التقليديّ أي مملكة تقوم على الجيوش العظيمة (التي تستخدم المرتزقة) والفتوحات وإخضاع الأمم الأخرى.
ولا بدّ من القول: إنّ خلاف أليسار وبغماليون وما رافقه من مكائدَ كان نذير شؤم على الإمبراطورية التي لم تكن قد شهدت حتى ذلك التّاريخ نزاعات بهذه الحدّة على المُلْك، كما أنّ قيام قرطاجة على ضرب وحدة المجتمع الفينيقيّ والطّموحات الجامحة التي غذّتها، وتبني فينيقيّو تلك المستعمرة النّائية لِعَقليّة توسّعية مناقضة تماماً لفلسفة الفينيقييّن المسالمة، كان أيضا نذير تحوّلات مشؤومة ستؤدّي قبل وقت طويل إلى انهيار قرطاجة وذهاب مجدها القصير، لكنّ النتائج الكارثيّة لن تقف عند ذلك الحدّ لأنّ التوتّر الشّديد وروح العداء الذي أثارته حملة هَنيبعل على روما ذهبت بالاحترام التّقليديّ الذي كانت تتمتّع به ممالك الفينيقييّن على ساحل المتوسّط وخلقت ما يكفي من المبررات لارتداد الرّومان على الممالك الفينيقيّة وإنهاء ملكها وإزالة آثاره إلى الأبد.
نِيْحــــا الشّوف
جارةُ أيوبٍ النّبيّ وملجأ المظلومين
الهرامشةُ توطّنوا فيها ثم انتقلوا بعد معركة عين دارة إلى السمقانية
قلعتُها الشّهيرةُ حَمت أسرةُ الأمير فخر الدّين من الكُجك
وأولادَ الشّيخ بشير جنبلاط ووالدتهم من الأمير بشير وحلفائه
من يزُرها للمرة الأولى يشعر على الفور أنّه في بلدة سبقت زمانها من حيث ما تتميّز به من مظاهر الثّروة والعمران والتفنّن في بناء القصور والفيلات المنغرسة بصورة متناغمة مع طبيعتها الجبلية الخلابة. ويمكن القول دون حرج أنّ نيحا تبدو متقدّمة في نواحٍ كثيرة على معظم قرى الرّيف اللّبناني، فهي إلى جمال طبيعتها تمتاز بالنسبة المرتفعة من بيوتها التي أنشئت وفق طابع عمرانيّ يجمع بين الحداثة واحترام التّراث، وأحد مظاهر الرّخاء الاقتصاديّ في البلدة ظاهرة بناء الفيلّات والقصور الحجريّة المنتشرة في كلّ أرجائها جنباً إلى جنب مع بيوتها التّراثيّة والتقليديّة، وهو ما يضفي عليها رونقاً وجمالاً. ورغم التّباطؤ الاقتصادي في البلد وفي البلدان المجاورة ولاسيّما في الخليج فإنّنا نرى الورش العمرانيّة فيها مزدهرة وقد باتت البيوت السكنيّة الأنيقة والحجريّة تغطي كلّ المساحات الخضراء المخصّصة للبناء بموجب تصنيف الأراضي من قبل التّنظيم المُدُنِيّ، بدءاً من منطقة الحماري في باتر، مروراٌ بأراضيها المتداخلة بأراضي جباع. وعلى طول السّفح الذي يتكوّن منه عريض السّنديان الشّهير لجهة الشّرق، بما فيه الطّريق المؤدّي إلى النّبع الذي يروي معظم أراضيها. ومن هناك باتجاه الطريق التي تؤدي الى مقام النّبيّ أيّوب عليه السّلام، وفي التّلال المشرفة على وادي بسري، وجزّين وقرى الشّوف السّويجانيّ، وإقليم الخروب. وما يزيد في جمال موقعها، جبالها المكسوّة بأشجار الصّنوبر والسّنديان التي تحيط بها من معظم جهاتها الأربع.
وإذا كانت تلك صورة نيحا في حاضرها، فإنّ ماضيها الغنيّ بالمآثر الطّيبة لا يقلّ شأناً عن واقعها الرّاهن بحُلوه.
التّسمية والمَوقع
يرى المؤرّخ كمال أبو مصلح في كتابه معجم العربي المستعجم من أسماء القُرى والمدن والأماكن في جمهوريّة لبنان الكبير، على أنّ كلمة نيحا تعني المتمايلة الغصون. أما أنيس فريحة فرأى في كتابه معجم أسماء المدن والقرى اللّبنانية، على أنّ كلمة نيحا هي من أصل سريانيّ، ومعناه الهادىء والمستريح والحليم. وهي تقع على السّفح الغربيّ من جبال نيحا التي ترتفع عن سطح البحر 1853م وهي تعرف بـ “تومات نيحا”، المكمّلة لسلسلة جبال لبنان الغربية بين جبل الباروك لجهة الشمال، وجبل الرّيحان لجهة الجنوب. وتقدّر مساحة البلدة مع مشاعاتها بنحو 22,000 هكتار، أي ما يعادل220 كيلو متر مربع، وهي بحسب د. غنام تساوي 2 في المئة من مساحة لبنان. وتحدّها القرى التالية: جباع، باتر، بحنين، عارَيّْ، جزّين، عين مجدلي، دير المزيرعة، كفرحونة، عين التّينة، مشغرة، عيتنيت، مزرعة بمارع، وهي تقع كما أسلفنا على تقاطع محافظات جبل لبنان، والبقاع، والجنوب.
ويذكر المؤرخ الدكتور رياض غنّام، الباحث في تاريخ جبل لبنان، في كتابه نيحا الشّوف في التاريخ . إنّ أقدم الوثائق التي ذكرت اسم نيحا تعود إلى سنة 654 هجرية الموافق 1256 ميلادية. أي إلى بدايات عهد المماليك، وذلك في المنشور الذي وجهه الملك المعز عز الدين أيبك، إلى الأمير سعد الدين خضر بن محمد بن حجي بن بحتر أحد أمراء الغرب التّنوخيين،
ويرتبط اسم نيحا بتاريخ الأشواف وجبل لبنان ارتباطاً وثيقاً، وهي تأتي في مرتبة متقدّمة من حيث تكرر ورود اسمها في كتب التاريخ والمراجع التاريخية بعد المختارة، وبعقلين، ودير القمر، وبيت الدين، وعين دارة. والثّابت أنّ نيحا كانت مأهولة بالسّكّان منذ أيّام الرّومان، وهذا ما تشير إليه كثرة النّواويس والمغاور الموجودة في بَرِّيتها، ومعظمها منقوش في الصخر. وذلك قبل أن يأمر الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور مجموعة من القبائل العربية بالانتقال إلى مواقع مختلفة من جبل لبنان لتأمين حماية ثغور الدّولة ومواصلاتها من قراصنة الإفرنج وهجمات البيزنطييّن.
أبرز العائلات التي توطنت في نيحا
إنّ الأسماء الواردة في مخطوطة قواعد الآداب حفظ الأنساب لا تلحظ أية صلة بين العائلات التي تقيم في نيحا اليوم، والعشائر التي وردت في مدونات الأشرفاني، وابن سباط، وصالح بن يحيَ وغيرهم. وبرأي د. غنام وبعض المطّلعين على تاريخ البلدة، فإنّ ذلك لا يعني أنّ أسر نيحا القديمة قد رحلت عنها، أو أنّها استبدلت بعائلات أخرى، وإنّما هي نفسها انقسمت وتبدّلت أسماؤها وتحوّلت إلى جبوب وبطون وأفخاذ فقدت صلتها بجذورها القديمة واسم العائلة الأصليّ واتخذت بدلاً منه أسماءً جديدة باتت تمثل تركيبة العائلات والأسر الموجودة حاليّاً. والسّبب في ّذلك بسيط جدّاً فالعرب غالباً ما تغلب فيهم الكنية واسم الأب أو الجدّ على اسم القبيلة التي ينتمون إليها. ولعل أقدم الأسماء التي عرفتها نيحا تدويناً هو اسم سعد بن نبا الكسروانيّ، وكان والده يقيم في دير القمر، وله ثلاثة أولاد هم: مردان وجمعة، وسعد، وقد رحل عن دير القمر واستقرّ في نيحا، وكان لقبه أبو الفضل، ويبدو أنّه كان يستقبل الوافدين إلى نيحا بكرم وأريحيّة، فوفد إلى البلدة من كفرفالوس بني مبيع، وبني صيدان، ومنهم مونس وابن عمه إسماعيل، فحصلت بين سعد وإسماعيل مصاهرة إذ كان لسعد ثلاث بنين بلا زواج ولإسماعيل ثلاث بنات في سن الزّواج وصار لهم يوم فرح عظيم. وفي زمن الصّليبيين كانت نيحا ملجأ للهاربين من اعتداءاتهم، فلجأ أحد أمراء العرب ربيعة بن خالد مع جماعته إلى جزّين، لكنّهم تعرضوا للمضايقة، فرحلوا إلى أرض نيحا مستجيرين بسعد بن نبا فرحّب بهم فأقاموا في ربوعها، ويبدو أنّ إقامة ربيعة في نيحا لم تكن بدون بدل فخصّ سعد بقطيع كبير من المواشي مع عبد اسمه فرج يرعى له القطيع.
يؤكد الباحث أحمد أبو سعد أنّ اسم رُكَين هو عبارة عن تجمّع قبلي ضمّ عدّة أسر من الموحّدين الدّروز في نيحا يتفرّع منه عائلات: ماجد وسيف ومزهر وقيس وأبو شهلا وغيرهم. ثم انضمّت إلى هذا التجمّع بعض الأسر المسيحيّة منها: أبو راشد وعجيل. أما قعيق فهو اسم مشترك بين الموحّدين الدّروز في نيحا الشوف، والشّيعة في ياطر والنّبطيّة وتبنين والطّيبة ويتفرّع من الاسم في نيحا عدّة فروع: عسّاف وذبيان ومرشاد والخطيب والبراضعي وكليب وبدران.
قبيلة “بنو خميس” تفرّعت أصلاً من قبيلة أجشم التي انتقلت الى مجدل بَعنا ثمّ إلى بلاد الأشواف واستقرّت في نيحا، ومن فروعها آل غيث وأبو هدير وفرحات وعزام وغيرهم.
تتوزّع عائلات نيحا (حسب أصولها) على الشّكل التالي:
بنو قعيق: ويتفرّع منهم آل ذبيان وآل غنّام وآل كليب وآل مرشاد وآل الخطيب وآل البراضعي وآل الشّمندي وآل ابو شقرا وآل بدران وآل أبو رشيد وآل مصلح.
بنو خميس: ويتفرّع منهم آل عزام وآل فرحات وآل أبو هدير و آل غيث وآل عسّاف وآل عرنوس و آل أبي عجرم وآل الزّوَيْني وآل الحلبي و آل ورد و آل عبد الشافي و آل أبو زين وآل قيس وآل ملّاك وآل بوراس وآل ميّاس وآل يزبك وآل نعمان وآل عبد السلام وآل عماد وآل حسام الدّين وآل حمد.
بنو رُكين: ويتفرع منهم آل سيف وآل مزهر وآل عزيز وآل ماجد وآل أبو شهلي وآل نصار وآل قمر
عائلات سكنتها ثم رحلت عنها
آل جمّول وآل الجوهري وآل الدّاوود وآل طحموش وآل قسّام وآل الشارب وآل رحّال وآل الحنّاوي وآل المغوّش وآل هرموش..
التوطّن المسيحيّ في نيحا
يعود تاريخ التوطّّن المسيحيّ في نيحا إلى عهد الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني، وفي دراسة أعدّها الدكتور لطيف لطيف عن معركة جلّ الشوك وانتقال الشّيعة من جزين يشير فيها إلى أنّ الوجود المسيحيّ في الشّوف يعود لتلك الفترة. مستشهداً بالزيارة التي قام بها بطريرك الرّوم الملكيين الكاثوليك مكاريوس الحلبي إلى بلاد الشّوف لتفقد رعيّته، وذلك سنة 1648 في عهد الأمير ملحم المعني وقد التقاه في بعقلين. وكانت نيحا المشهورة بقلعتها التي لجأ إليها الأمير فخر الدّين المعني الثّاني وحصاره من قبل الكُجك أحمد من بين القرى التي زارها. ومن أشهر العائلات المسيحيّة في نيحا آل الخوري، وآل الحدّاد، وآل العجيل الكاثوليك، وآل فرنسيس الموارنة.
نيحا في ظلّ الحكم الشّهابيّ
برز اسم محمود أبو هرموش المقيم في نيحا كواحد من دهاقنة العمل السياسيّ، وهو استطاع بعد انتقال الحكم من المعنييّن إلى الشّهابييّن إقامة علاقة وطيدة مع الأمير حيدر الشهابي، بعد القضاء على تمرّد آل الصّغير حكام جبل عامل، وقد عينه نائباً عنه على تلك الديار. لكن هذه العلاقة ساءت بعد أن تحالف أبو هرموش مع آل علم الدّين زعماء الحزب اليمني الذين حاولوا إقصاء الأمير حيدر عن الإمارة. وبعد معركة عين دارة وانتصار الأمير حيدر على خصومه اليمينييّن عمد إلى مصادرة خمس قرى كبيرة في الشّوف وتخصيص عائداتها مباشرة له.
كانت نيحا من بين تلك القرى إلى جانب بعقلين، وعين ماطور (عمّاطور) وبتلون، وعين دارة. كما قام بهدم بيوت الهرامشة في نيحا ما اضطرّهم للانتقال إلى السّمقانية. وفي عهد الأمير يوسف الشهابي حصلت عدّة مواجهات بين الدّروز والشيعة، وفي معركة النّبطية قتل من الدروز عدد وافر، بينهم عدد من شبّان نيحا، ومنذ ذلك الوقت شاعت عبارة “أرامل نيحا”. وتفيد المراجع التاريخية أنه في حمأة الصّراع على الحكم بين أولاد الأمير يوسف وجرجس باز من جهة، والشّيخين بشير وحسن جنبلاط من جهة ثانية، لجأ الشّيخ حسن إلى نيحا بعد ما لاحت بين الفريقين بوادر معركة غير متكافئة. وكذلك لجأ إليها مشايخ آل حمدان من حوران بعد غضب والي الشام صالح باشا عليهم. ولما تعرّض دروز الجبل الأعلى وحلب إلى مضايقات استهدفت القضاء عليهم سنة 1811 أرسلوا يستجيرون بالشّيخ بشير جنبلاط والأمير بشير الشّهابي الثاني فاتفقا على نجدتهم ونقلهم مع عيالهم إلى كنف الإمارة. وأوفد الأمير بشير إليهم بعثة من أربعة أشخاص وهم:
الشّيخ حسّون ورد من نيحا، والشّيخ حسين حماده من بعقلين، والشّيخ حسن أبو شقرا من عماطور، والشّيخ فارس الشدياق من الحدث، وتمكّن الوفد من المجيء بأربعمائة عائلة توزّعوا على قرى الشّوف، وعاليه، والمتن، ووادي التّيم، وبيروت، وعرفت هذه الأسر باسم الحلبي. وكان نصيب نيحا منهم 75 شخصاً ما زال أحفادهم إلى اليوم يحملون اسم الحلبي. أما الحادثة الأهم فكان مسرحها قلعة سانور في فلسطين، إثر الخلاف بين عبد الله باشا والي صيدا وهو حليف الأمير بشير وأهالي نابلس الذين تحصّنوا في القلعة، فأرسل إليه الأمير رجال الشّوف وبمساعدتهم تمكن من القضاء على المتمردين. وقد سقط نتيجة المواجهات عدد كبير من القتلى والجرحى كان لـ نيحا النّصيب الأوفر منهم. ومع اشتداد الصراع بين الأمير بشير الشّهابيّ والشّيخ بشير جنبلاط في العام 1824 لجأت زوجة الشّيخ بشير مع أولادها نعمان وسعيد وإسماعيل إلى نيحا ومكثت فيها فترة قبل انتقالها إلى حوران. ويذكر حنّا أبي راشد أنّ الشّيخ سعيد جنبلاط بعد تسلّمه حاكميّة الشّوفين كان مولعاً بصيد الحجل في برّية نيحا، قرب عين الحلقوم وإنّه رافق الشّيخ سعيد سنة 1858 في رحلة صيد امتدّت لشهرين وكان الشّيخ يسكن الصّواوين، وكان يتوجّه كلّ يوم مع الصّيادين. كما يذكر زيارة الشّيخ سعيد مع أولاده لمقام النّبيّ أيّوب للتبرّك وتناول الغداء ثم الرّجوع إلى نيحا.
معالم نيحا الطبيعية
تومات نيحا : يعتبر جبل التّومات أو ما يعرف بـ تومات نيحا أبرز المعالم الطّبيعيّة في نيحا وهو عبارة عن قمّتين مخروطيّتَيّ الشّكل يبلغ ارتفاع أعلاهما 1850 م أمّا الثانية فيبلغ ارتفاعها 1175م كانت تمر على سفحها إحدى الطّرق التي كانت تربط السّاحل بالداخل السّوري، وتُعتبر التلّة التي يقع عليها مقام النّبي أيّوب عليه السّلام من أبرز المعالم الطّبيعيّة الجميلة للبلدة. أمّا العريض، الواقع قبالة نيحا لجهة الشّرق فإنّه يُعدّ من أجمل المواقع الطّبيعيّة للبلدة، ومن المعالم التي تميّز بلدة نيحا عشرات الأجران والنّواويس والآثار المنتشرة في برّية البلدة والتي تُعتبَر أبرز شاهد على التّاريخ العريق للبلدة.
ثروة مائيّة هائلة
تُعتَبَر نيحا من البلدات الغنيّة بمياهها بحكم موقعها في سفح جبل الباروك الذي يلتقي بتومات نيحا فيشكّلان زاوية قائمة من التلال والآكام تختزن في جوفها ثروة مائية هائلة تفجرّت ينابيع وعيون يتساوى عددها مع عدد أيام السّنة وأهمّها:
1. نبع نيحا، ويقع شرق البَلدة يروي معظم البساتين الواقعة من حوله، وقد تمّ جرّ قسم من مياهه إلى البلدة منذ ما يقرب المئة عام.
2. عين الحلقوم، التي قام الأمير فخر الدين بجر مياهها إلى قلعة نيحا.
3. وهناك عشرات العيون والينابيع منها: عين علق،عين أبو يحيى،عين النّبعة، عين شاوية السّند، عين الخوري، عين شرشر، عين القاطعة (وتقع في وسط البلدة على الطريق المؤدّي الى مقام النّبيّ أيّوب) عين المغاير، عين عطشين، عين باطوم، عين فارس، عين النّهير، عين الحجل، عين المراحات، عين التّينة، عين النّعمان، عين الشّرفي، عين الموالح، ينابيع جل البرك،نبعة الفوّار، عين الباردة، عين مراح الخنازير، ينابيع المغاريق، ينابيع شِعب السيادة، عين القميم ، عين ملتقى السّواقي، نبعة عرق الجبل، عين القنيْبة، عين صخر، عين تركمان، عين الخوخ، عين ملاكي، نبعة صرة الدّحروج، عين الحمير. كما أنّ نهر الزّهراني الذي يروي مناطق شرق صيدا والنّبطية ينبع من تومات نيحا لجهة الجنوب.
مقام النّبيّ أيّوب
زاد من الأهميّة الجغرافيّة لنيحا، وجود مقام النّبيّ أيّوب عليه السّلام على كتف أحد تلالها الفائقة الجمال، تظلّله أشجار السّنديان التي يصل عمر الكثير منها إلى ألف سنة. ويُعْتَبرُ النّبيّ أيّوب أحد الأنبياء الممقدّسين لدى الموحدين الدروز يزورون مقامه للتبرك والنذورات. هذا بالإضافة إلى الزّيارة السّنوِيّة التي يقوم بها المشايخ الدّروز إلى المقام يتقدمهم سماحة شيخ العقل وممثل عن رئيس الجمهوريّة وهذه الزّيارة تُعْتَبَر من الأيام المباركة لدى جميع الدّروز، أمّا أهالي نيحا فإنّهم ينتظرون هذه الزّيارة بفارغ الصبر، وكأنّها يوم عيد بالنّسبة لهم.
أعلام نيحا
نيحا غنيّة بأعلامها ورجالاتها عبر تاريخها الطّويل وإذا كانت بعض الأعلام برزت في تاريخها الوسيط بالتّقوى والوَرَع وتبوّء المناصب العالية، أمثال مشايخ آل ورد، فإنّ تاريخها الحديث يزخر بالأسماء التي لمعت وتبوّأت أعلى المراكز في الدولة، بينهم مدراء عامّون، وعمداء، وضباط، من رتب عالية في الجيش اللّبناني وقوى الأمن الداخلي. وأصحاب مراكز هامة في دوائر الدولة وخارجها. ومن أبرز الشخصيات التي أنجبتها البلدة المرحوم الشّيخ بهجت غيث قائمّقام شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز 1992 – 2006 وقد عُيّن خلفاً لشيخ العقل الرّاحل محمد أبو شقرا. وفي القطاع الخاص برز من نيحا أيضاً رجال أعمال وأصحاب شركات ومؤسّسات كبيرة ومتوسّطة الحجم، أصابوا نجاحاً ملحوظاً في لبنان وخارجه، وهناك العديد من الأطبّاء والمحامين والإعلامييّن والأدباء والفنّانين، وأهل فكر وقلم وعلم وعمل. وأصحاب مِهن كبيرة ومتوسّطة الحجم. وباختصار فإنّ طموح شباب نيحا لا حدود له، وهو واضح في كلّ ما يمارسونه من أعمال ومن حالة الرّخاء والازدهار التي تعمّ القرية وتظهر في عمرانها وحياتها الاجتماعية.
وديع الصافي
مطرب لبنان الأوّل وديع الصّافي 1921 – 2013 يُعَدُّ من عمالقة الفنّ العربيّ وما زال صدى صوته الصّافي يرنّ في كل أقطار العالم. رصيده الفنّيُّ 5,000 أغنية ولحن. ولمّا توفاه الله أصرّ وجهاء البلدة على دفنه في تراب نيحا.
تاريخ العمران
تبعد نيحا عن بيروت نحو 65 كلم وقد وصلت طريق العربات إليها في عهد المتصرّف مظفّر باشا بين عاميّ 1902 و1907 وبلغ عدد سكان البلدة في إحصاء 1910 في عهد المتصرّف أوهانس باشا 1113 نسمة. عدد الدروز 876 نسمة والموارنة 173 والرّوم الأرثوذكس 64 وكان عدد المنازل153 معظمها بني بجدران حجريّة مزدوجة. وقد بدأت الهجرة في نيحا منذ زمن مبكّر، وفي العام 1910 أحصي عدد المهاجرين من نيحا إلى الأميركيتين وبعض الدّول الأوروبيّة وأفريقيّة وسورية فبلغوا 167 شخصاً منهم 79 من طائفة الموحّدين الدّروز و39 من الطائفة المارونيّة و49 من طائفة الرّوم الأرثوذكس.
يحا المعاصرة
توسّعت بلدة نيحا في كلّ الاتّجاهات وامتدّت حتّى أطراف باتر خصوصاً مع تملّك أثرياء ومغتربين من نيحا لمساحات زراعيّة شاسعة في باتر قسم كبير منها تمّ شراؤه من آل الحمدان الملّاك الأساسييّن للأراضي الزّراعية في باتر لأكثر من ثلاثة قرون من الزّمن، وتزايد عدد سكّان البلدة ليصل في إحصاء سنة 2000 إلى 5,230 نسمة. أمّا اليوم وبسبب الهجرات المتوالية فقد أصبح العدد نحو 2800 نسمة ويبلغ عدد منازل البلدة 580 بيت وعدد الناخبين 2810 ناخباً، وسبب زيادة عدد الناخبين عن عدد السكان هو أنّ الكثير منهم هم من بين المهاجرين من السّكّان الذي غادروا البلدة إلى أماكن سكن بديلة في لبنان أو إلى المغتربات لكن لا زالت أسماؤهم تَرِد على لوائح الشّطب. ويوضّح التناقص الكبير الذي أصيبت به البلدة في سكّانها المقيمين حجم النّزف الذي تعاني منه البلدة بسبب جاذبيّة الاغتراب، وقد ساهم وجود عدد كبير من مغتربيها النّاجحين في الخارج في اجتذاب العديد من شبّانها للعمل مع أقاربهم أو في أعمال مستقلّة في المهاجر. لكن رغم الأثر البشريّ الواضح لحركة الاغتراب فإنّ آثارها الإيجابيّة بادية في حركة العمران والرّخاء التي يتمّ تمويلهما من تحويلات المغتربين إلى البلدة.
مؤسّسات عامّة واجتماعيّة
في نيحا مركز لقوى الأمن الدّاخلي تشمل صلاحيّاته قرى باتر وجباع ومرستي.
وهناك مدرسة ثانويّة وأخرى تكميليّة ومركز لرابطة العمل الاجتماعيّ ويضمّ مستوصفاً خيريّاً ومكتبة عامة للمطالعة ومركزاً لشركة الهاتف (أوجيرو) ومكتباً للبريد ومركزاً للدّفاع المدنيّ ومركزاً لجرف الثلوج في موسم الشتاء.
قلعة نيحا..إن حكت
حصن الأمراء وملجأ المظلومين
استخدمت كحصن من قبل الرومان والصليبيين والمماليك وفخر الدين لكن انكشاف مصدر المياه السري أفقدها قيمتها كملجأ في الملمات
لا يمكن الحديث عن نيحا من دون الحديث عن قلعتها الشهيرة التي تدعى أيضا “ شقيف تيرون” وذلك بسبب الأدوار الكثيرة التي لعبتها هذه المغارة الحصينة في تاريخ لبنان والمنطقة، وقد تعاقب على استخدامها أو اللوذ بها ملوك وأمراء وقادة جيوش كما استخدمها الفارّون من الحروب أو النزاعات، لذلك فقد امتلأت المصادر المصادر التاريخية التي تحدثت عنها كثيرة. وحسب تلك المصادر فإن قلعة نيحا تعود إلى العهد الروماني، والبعض الآخر يرى إنّ كلمة تيرون يونانية وتعني الصخر الكبير. أما إبن سباط فيقول: إنّ القلعة تسمى شقيف تيرون وهو اسم رجل وقد نحتت في صخر أصم وهي في شاهق جبل يحتوي على كهف عظيم لا يمكن بلوغه إلا بصعوبة ، ولا يمكن لمن بداخلها التسلق إلى سطحها، ولا يناله أحد لا بالسهام ولا بالمدافع، وحتى لو أصيبت أو هدم قسم منها فإنه لن يستطيع أحد من المهاجمين أن يدخلها. والقلعة مشيدة على جبل شاهق يبلغ ارتفاعه 350م وليس لها سوى مدخل ضيق، لا يصلها الإنسان إلا بواسطة سلم خشبية، وكانت تصلها المياه من عين الحلقوم بواسطة قناة سرية، وكانت تعتبر من أهم المعاقل والحصون الموجودة في لبنان وهي الآن من أهم وأشهر المواقع التاريخية التي يحرص الناس على زيارتها وتفقدها لما تحمله من مغازي تاريخية وسياسية.
أما الأهمية التاريخية للقلعة فبدأت كما يبدو من الأدلة في أيام الرومان، حيث استخدمت حصناً لإمارة الجنادلة لأكثر من نصف قرن، ثم احتفظ بها المسلمون 110 سنوات، قبل انتقالها إلى الصليبيين. ثم تمكن سلطان المماليك الكبير الظاهر بيبرس من استرجاعها وإعادتها إلى سيادة الدولة الإسلامية. وتحولت القلعة إلى أهم قلاع الأمير فخر الدين المعني الثاني في عهد الإمارة المعنية، وقد اختار قبل سفره الى توسكانا في نوع من المنفى الاختياري، أن يضع فيها إحدى زوجاته وهي ابنة علي بن سيفا مع أولاده. كما نقل إليها الكثير من ممتلكاته الثمينة، وبعد عودته إلى البلاد وتعاظم شأنه وجهت إليه الدولة العثمانية حملة كبيرة بقيادة الكجك أحمد، فلجأ إلى قلعة نيحا بنفسه هذه المرة محتميا بموقعها الحصين. ويروي الأمير شكيب أرسلان كيفية إكتشاف الكجك أحمد لمورد المياه المدفون تحت الأرض فقام بتعطيش الخيل فحملتها شدة العطش على التفتيش عن المياه وعندما شمّت رائحة المياه راحت تضرب الأرض بسنابكها، عندها أمر الباشا بحفر المكان حتى ظهر المجرى المائي المطمور تحت الأرض، وهو قام عندها بنحر بعض الأبقار ورمي في المجرى نفايات مختلفة حتى أفسد الماء وجعلها غير صالحة للشرب، الأمر الذي اضطر الأمير إلى الاستسلام لجيش الوالي العثماني.
وفي عهد الإمارة الشهابية، وبعد أن كشف النقاب عن مصدر المياه الذي يغذيها فقدت قلعة نيحا أهميتها الإستراتيجية كحصن، لأنها لمن تعد تمتلك مصدر مياه آمن يحمي المستجيرين بها من الموت عطشا. كما أن الأسلحة الحربية شهدت تطورا كبيرا خصوصا مع تصنيع المدافع الثقيلة وتطور قوتها التدميرية.
ومن مفارقات القدر أن هذه القلعة التي كانت ملجأ للملوك تحولت في وقت ما إلى زريبة يستخدمها الرعاة لإيواء قطعان الماعز، كما تعرضت القلعة التي تقع على فالق زلزالي شهير هو فالق روم إلى هزة عنيفة لا زال أهالي المنطقة يستذكرونها ويتحدثون عن هولها وقد اتت الهزّة على قسم منها، وتكفل بالباقي القصف المدفعي الذي تعرضت له القلعة في الحرب العالمية الثانية أثناء الحرب بين جيش حكومة فيشي وجيش فرنسا الحرة والقوات البريطانية ولعل الأجزاء التي لحقها الدمار والتخريب هي التي نراها اليوم في الواجهة الغربية للحصن المشرفة على مرج بسري والمناطق المحيطة به، وخصوصاً الأجران الكبيرة من مياه عين الحلقوم. ولحسن الحظ فقد استيقظت الهيئات الأهلية على الأهمية التاريخية للقلعة وأهمية الحفاظ عليها وتحركت بصورة خاصة رابطة العمل الاجتماعي في نيحا، ونجحت في إدخال قلعة نيحا في نطاق محمية أرز الشوف، بينما قامت بلدية نيحا بترميم بعض أجزائها وتأمين طريق آمنة إليها، وتحويلها إلى معلم تراثي سياحي.
ونحن ندعو الجميع إلى زيارة هذا الأثر الطبيعي الذي يحفل بالذكريات وقصص البطولات التي سطرها القادة المسلمون وأمراء الموحدون الدروز عبر التاريخ وعلى رأسهم الأمير فخر الدين المعني، ليس في لبنان فحسب وإنما في سائر منطقة بلاد الشام. يقول شاكر الخوري إنّ قلعة نيحا كانت ساعة بكاسين، أي عندما تصل الشمس الى وجهها الغربي يكون الوقت ظهراً.
الشيخ محمد أبو شقرا في ذكرى مرور 25 عاما على وفاته
شيخ العصر
الشيخ محمد أبو شقرا طبع زمانه بطابع لا يمحى
وأعطى الموحدين مؤسسات وأنظمة وهيبة وكرامة
يوافق الرابع والعشرون من تشرين الأول 2016 الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة الشيخ محمد أبو شقرا عن عمر إحدى وثمانين سنة قضاها في الجهاد والبذل والتضحية وخدمة طائفته ووطنه والقضايا العربية والإسلامية.
نتذكّره في هذه المناسبة ونترحّم عليه كما نتذكّره ونترحّم عليه عند ذكر مآثره ورؤية إنجازاته واستعراض مواقفه. إنه أحد الرموز الروحية والوطنية. والرموز خالدة في صفحات التاريخ، ماثلة في الذاكرة الشعبية حيّة في ما تركته من أعمال، وخصوصاً من مؤسّسات تدرُّ الخير العام والنفع المستدام.
الشيخ العلم
أشتهر العديد من الرؤساء الروحيين عند الموحِّدين ( الدروز) منذ أن برزوا طائفة إسلامية لها خصوصيتها الناتجة من تفسيرها الخاص لبعض آيات القراَن الكريم. وعُرف هؤلاء الرؤساء الروحيون بلقب شيخ العقل منذ أواسط القرن الثامن عشر، وكان لمعظمهم شهرة في أحد الميادين التالية: الفقه، والعلم، والأدب، والشعر، والزهد، والتقوى والتصوّف، والمواقف من أرباب الأمور، وأشهرهم وأشهر أولياء وعلماء الموحِّدين ( الدروز) قاطبة هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي المعروف بالأمير السيد ( قدّس الله سرّه).
ومع تبدّل الزمان والأحوال والدول، والانتقال الى الحكم النظامي في لبنان الصغير منذ سنة 1861، ثمّ في لبنان الكبير منذ سنة 1920، صار لمشيخة العقل دور رسمي تمثيلي، قُدّر للشيخ محمد أبو شقرا أن يقوم به وأن يجلّي فيه بما كان عنده من صفات ومزايا وقوّة شخصيّة وحسن تمثيل، وبما أقام من مؤسسّات وأحدث من إصلاحات وتنظيمات، وإتخذ من مواقف جريئة ووطنيّة حتى يصح القول إنّه ظاهرة قد لا تتكرّر، وقد لا يجود الزمان بمثله.
إن الحديث عن الشيخ محمد أبو شقرا يتطلّب أكثر من مقالة مهما كانت طويلة حتى إنه يتطلّب أكثر من كتاب، ذلك أنه تصعب الإحاطة بجميع جوانب شخصيّته وحياته الحافلة بالنشاطات المتعدّدة والإنجازات الكثيرة، وبالجهاد في ميادين مختلفة منذ أن حمل السلاح، وهو فتى، في سنة 1925 ليجاهد في الثورة السورية الكبرى التي أعلنها وقادها سلطان باشا الأطرش، وليجاهد بعد ذلك في سنة 1945 مدافعاً عن مدينة دمشق ضد اعتداءات الفرنسيّين عليها، ومنذ أن انبرى إلى ساح العمل الخاص فأسّس شركة للنقل وغدا رئيساً لمجلس أرباب العمل والعمال لنقابة السيارات والسائقين في الجمورية العربية السوريّة، ثمّ حين تسلّم مشيخة العقل في لبنان نزولاً عند طلب أبرز القادة الروحيين والسياسيين الدروز، فكان الشيخ العلم، وكان شيخ العقل في الطائفة، وعقل الشيخ في الوطن، لدوره الكبير على صعيد الطائفة وعلى صعيد الوطن لبنان.
بداية المسيرة
أُنتخب الشيخ محمد شيخ عقل في اجتماع حاشد في مقام الأمير السيد عبد الله (ق) بتاريخ 29 نيسان 1949 ضم كثيراً من رجال الدين وعلى رأسهم شيخ العقل الشيخ محمد عبد الصمد، والكثير من الفعاليات الزمنيّة، وعلى رأسهم الأمير عادل أرسلان وكمال بك جنبلاط. وكان الشيخ محمد مسمّى، بناءً على ثنائيّة مشيخة العقل التي كان معمولاً بها، إلا أنه أعلن منذ البداية نهجه المتحرّر من الفئويّة والغرضيّة ووضع نفسه في خدمة الجميع بقوله في أول خطبة له عند استقباله في دار المختارة لدى قدومه من سورية بتاريخ 5 حزيران 1949،وهو أنه لا يعتبر نفسه ممثلاً لحزب دون آخر، أو لفئة معيّنة أو منطقة، بل يعتبر نفسه مسؤولاً لدى كل فرد من أبناء الطائفة، عما فيه خير المجموع، وعبداً مأموراً من الحق سبحانه للتوجيه نحو الخير حيثما وجد، والسعي إلى الإصلاح وتوحيد الكلمة.
كان الشيخ محمد يعرف حاجات الدروز ومتطلّباتهم، وبين تاريخ إنتخابه وتاريخ قدومه إلى لبنان، تعرّف أكثر إليها بدراسة أوضاعهم الخاصة والأوضاع العامة، فوضع منذ البداية برنامج عمل من عدة بنود أساسية يحدّد كيفية قيامه بمصالح الطائفة، وتحصيل حقوقها ورعاية شؤؤنها، وإنشاء ما تفتقر اليه من مؤسسات، ووضع ما تحتاج اليه من أنظمة وقوانين، والنهوض بها في شتّى المجالات.
لقد رسم الشيخ محمد الخطوط العامة لمسيرته، وحدّد المبادئ التي يلتزم بها، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، والدور الذي يمكن أن تقوم به مشيخة العقل على عتبة النصف الثاني للقرن العشرين. وما كانت المبادئ عنده شعارات تُرفع وتُطلق، بل هي ترجمة عمليّة لصفات تحلّى بها، وإيمان صادق راسخ في النفس يترجم سعياً مخلصاً وعملاً دؤوباً. وما كان برنامج العمل موادَّ كُتبت على الورق، وإنما هو خُطط مدروسة ستنفّذها عزيمة صادقة، وإرادة صلبة تتغلب على الصعوبات مهما كبرت، وإدارة حكيمة وسليمة تتوّخى السبل والمساعدات الضروريّة.
باستعراض ما قام به الشيخ محمد أبو شقرا خلال مسيرته في مشيخة العقل بين سنة 1949 وسنة 1991، نرى أنه حقّق معظم نقاط البرنامج، وأن ما لم يستطع تحقيقه يعود سببه إلى الواقع السياسي والواقع الاجتماعي الدرزي، وتعاقب الأحداث العامة والخطيرة وخصوصا بعد سنة 1975. كما يعود أيضاً إلى الحدود السياسية التي اصطدم بها، وإلى التشدّد في بعض أوساط الطائفة، وإلى محاربته ممن خَشَوْا تعاظم دوره وشأنه. ومع هذا يكفيه فخراً ما قام به، وهو بريء الذمة أمام الله والناس مما لم يستطع القيام به لأنه حاول جهده في ذلك.
“جاهد في الثورة السورية الكبرى سنة 1925 ثم جـــــاهد مدافعاً عن دمشق ضد إعتداءات الفرنسيين سنة 1945”
رعاية شؤون الموحّدين
كان الشيخ محمد أبو شقرا الراعي الصالح لجميع الموّحدين ( الدروز) أنّى وُجِدوا، سواء في لبنان أم في سورية وفلسطين وشرق الأردن، أم في جميع بلدان الاغتراب ، وبناءً على ذلك، وعلى اهتمامه بالكثير من النواحي بشكل غير مسبوق، وبنسبة عالية، تتصف رعايته بالشمول، كما أنّ من الطبيعي أن يأخذ الدروز اللبنانيون القسط الأكبر منها لأن الشيخ محمد هو شيخ العقل عندهم.
تعود المكانة الرفيعة التي حظي بها الشيخ محمد إلى دوره الريادي في الاهتمام بشؤون الموحِّدين الدروز بالوجوه المألوفة سابقاً، وفي وجوه استدعتها الحداثة وسنّة التطور، وأوجدها عقله الخلاّق ونشاطه المميّز. وهي رعاية للشؤون الدينية والاجتماعيّة، واهتمام بالقضايا المعيشيّة، واتصال مباشر وفعّال بالناس، ورعاية لنشاطاتهم، ومطالبة بحقوقهم، والدفاع عن قضاياهم، والدفاع عن كرامة الطائفة ضد المسيئين والمفترين، وتنظيم شؤون الدروز، مما سيجري الحديث عنه.
الرعاية الدينية والاجتماعيّة
كانت الزيارات التي يقوم بها شيوخ العقل، والسهرات التي يحيونها في المساجد ( المجالس) والخلوات، وأحياناً في البيوت، محدودة وتقتصر على القيام بالفروض الدينيّة. لكن الشيخ محمد كثّفها وجعلها متتالية وأحياناً شهرية أو أسبوعيّة، يحدّد مكانها وزمانها في السّهرة أو الزيارة الحاصلة، حتى بلغ عددها المئات، منها عدة زيارات للقرية الواحدة، وشملت الأكثرية الساحقة من القرى اللبنانيّة المأهولة بالدروز. كما أنّه طوّرها إلى لقاءات مع الزمنيين، والى مناسبات وعظٍ وإرشاد يلقي فيها الخطب والمواعظ والإرشادات.
إن تلك الزيارات والسهرات والاجتماعات الدينية، بمختلف وجوهها وأمكنتها، كانت مناسبات للتثقيف الديني والتوجيه الاجتماعي، والتوعية، والدعوة إلى التمسّك بأهداب الدين والعمل بنواهيه، كما كانت واحداً من المجالات التي شاءها الشيخ محمد لمعالجة بعض المشكلات الاجتماعيّة وإبداء وجهة نظر الدروز في القضايا المطروحة والأمور المصيريّة وتبليغ الرسائل إلى الجهات الرسميّة وإلى غيرها من الجهات. ومن هذه المجالات النداءات والبلاغات المتكرّرة التي تحضّ على التشبّث بالعادات والتقاليد والقيم والفضائل، وتظهر مساوئ الآفات المتفشيّة بقوّة وبسرعة في جميع المجتمعات.
هناك أمر آخر من الرعاية الاجتماعيّة هو رعاية الشيخ محمد لعشرات المصالحات في القرى، وقد كثرت إبّان الأحداث اللبنانيّة بين سنتي 1975 و 1990. وكانت كل من هذه المصالحات تنهي النزاعات الدمويّة بشكل جذري، وذلك بصفح ذوي القتلى، وبعدم مطالبة العديدين منهم بحقوق ماديّة إكراماً لراعي المصالحة الشيخ محمد وقد تم العديد من تلك المصالحات بمساهمة الزعيم وليد جنبلاط وكان يشارك الشيخ محمد أحياناً في الرعاية بعض زعماء الدروز أو وجهاء ومشايخ أبرزهم المرجع الروحي الشيخ أبو حسن عارف حلاوي.
يضاف الى ذلك وجوه شتّى من الرعاية، منها تقديم المساعدات للمنكوبين من خلال صناديق ولجان شكّلها الشيخ محمد أو اشترك في تأسيسها، كمساعدة منكوبي جبل العرب إبّان اعتداء الشيشكلي عليهم في سنة 1954، ومساعدة منكوبي زلزال آذار 1956 ، ومساعدة منكوبي المتن الأعلى على يد القوات الكتائبية في أواخر سنة 1976، ومساعدة المتضرّرين من الأحداث اللبنانيّة بتأسيسه مع الأمير مجيد أرسلان ووليد بك جنبلاط صندوق الطوارئ سنة 1982، والمؤسسة الدرزية للرعاية الاجتماعية سنة 1983. ومن وجوه الرعاية رعاية المؤسسات والجمعيات والنشاطات الفكرية، التي أولاها الشيخ محمد اهتماماً كبيراً ودعمها ورعى مناسباتها.
الاهتمام بالمغتربين
إن اهتمام الشيخ محمد أبو شقرا بالمغتربين، والتواصل المستمر معهم، ورعاية نشاطاتهم ومؤتمراتهم، ومتابعة جميع شؤونهم، أمور غير مسبوقة من قبل مشيخة العقل. وقد بدأ الشيخ محمد بذلك بعد أشهر من تسلّمه لمهامه، فعيّن بالاتّفاق مع نظيره الشّيخ محمد عبد الصمد المعتمدين من قبل مشيخة العقل ليقوموا بممارسة الطقوس الدينية في المغتربات. وناشد الشيخان المغتربين في ندائهما الأول لهم أن يرعوا حرمة العهود، ويثبتوا على المألوف من دأب الدروز وتقاليدهم.
كما أولى الشيخ محمد أبو شقرا شؤون المغتربين عناية كبيرة فراسلهم وراسلوه، وطرح له معتمدو مشيخة العقل المشكلات والصعوبات فساعدهم في حلّها وفي التكيف مع الواقع الجديد دون التخلّي عن الأصالة والمبادئ وما فعله في هذا المجال عزّز صلات المغتربين بالمقيمين وصلتهم بالوطن الأم، وزاد التحام الفروع بالجذوع والجذور، وساعد المغتربين على التمسّك بعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وبهويتهم الدينية والوطنيّة، وساهم أكثر في اتّحادهم في المغتربات، وفي تأسيس الجمعيات والنوادي والبيوت العامة التي تجمعهم في المناسبات، والتي عُرف كل منها في المدينة التي أُقيم فيها باسم “ البيت الدرزي”.
المطالبة بحقوق الطائفة
من مآثر الشيخ محمد أبو شقرا مطالبته بحقوق الدروز كأفراد لكلٍّ منهم الحقّ بتسلّم وظيفة او مركز في الدولة هو أهل له، ومطالبته بحقوق الطائفة ككل لدى الدّولة والمؤسسات، ومطالبته بتنفيذ المشاريع وإيصال الطرقات إلى القرى والمناطق المأهولة بالدروز. وقد قدّم في هذا المجال عشرات المذكّرات والعرائض والاحتجاجات والنداءات إلى المسؤولين، مرفقة ببيانات إحصائية تظهر عدد الوظائف والمراكز في كل قطاع أو مؤسسة وعدد الدروز فيها، مما يظهر الغبن اللاحق بهم. وهذه البيانات والإحصاءات اعتمدها وزراء ونواب الدروز وقدّموا على أساسها المذكرات موّقعة منهم ومن الشيخ محمد الذي كان أبرزهم في المطالبة بحقوق الطائفة لانشغالهم بالأمور العامة وبحقوق المناطق والناخبين أكثر من انشغالهم بحقوق الطائفة العامة.
علّق الشيخ محمد على سياسة الإهمال والإجحاف المعتمدة إزاء الدروز فقال: إن ما يؤخذ من الدروز لا يفقرهم، ولا يغني من أخذه، ولكن العدل جميل والإنصاف واجب والتوزيع يجب ان يكون، في النظام الطائفي السائد في لبنان، قائماً على أساس النسب المقرّرة للطوائف. وكان يحرص، من أجل حفظ حقّ الدروز، على استمرار هذا النظام واستمرار توزيع المناصب والوظائف على الطوائف على أساسه “كي لا تأكل السمكة الكبيرة السمكة الصغيرة” بحسب قوله.
“رعى خلال سنوات الحرب عشرات المصالحات التي تكللت بإنهاء النزاعات وصفح ذوي القتلى وأسقاط الكثيـــــرين للحقــــوق المادية إكراما لـــه”
الدفاع عن كرامة الطائفة
كان الشيّخ محمد أبو شقرا أبرز رجال زمانه في الدفاع عن كرامة الطائفة، لأنه كان مركّزاً على كل ما يعنيها، ومتابعاً أكثر من غيره لما يسيء إليها وينال من كرامتها. وقد تصدّى للمفترين والمسيئين، وكان يمنع نشر أي كتاب أو منشورة تتضمن إساءة ولو بجملة إلى الدروز، ويوقف تمثيل أي مشهد لمسرحية فيه شيء من هذا القبيل، ويطلب من كل مسيء، عن قصد او عن غير قصد، الحضور إليه لتقديم الاعتذار أو نشر الاعتذار في وسائل الإعلام، حتّى بات الجميع يتهيّبون الأمر ويمتنعون عن نشر وتمثيل وتصوير ما يتضمن إساءة للدروز معلنة كانت او مضمرة.
وكثيرة هي الكتب التي مُنعت وأوقف بيعها،وتلك التي أُتلفت، لأنّها تتضمّن افتراءات واتهامات وأباطيل تشّوّه عقيدة الموحّدين وتنسب إليهم ما هو بعيد عن مفاهيمهم وقيمهم، ومناقض للحقيقة وللواقع، حتى إن الشيخ محمد طلب إحراق ألف نسخة من كتاب فيه إساءة إلى المعتقد عن جهل وعن غير قصد، لكنه عوّض على المؤلف ثمن تلك النسخ.
وكان الشيخ محمد يطلب ممن يعتمدون على كتب مؤلّفين مغرضين أو يعوزهم الاطلاع الكافي أن يعودوا إلى المراجع والمصادر الصحيحة، وأن يعتمدوا في ما يكتبون على ما يصدر من الدروز، وعلى ما يكتبونه، وهو من أجل هذا كان يوضح، في بعض ما يكتبه من مقالات وما يقوله من خطب، حقيقة مسلك التوحيد، ويؤكّد على إسلام الموحِّدين لدحض افتراءات واتهامات الجاهلين والمغرضين. كما أنّه كان يشجّع أي مؤلّف يوضح ذلك أو يكتب تاريخ الدروز الصحيح.
كان الدفاع عن الكرامة الشخصيّة لأي درزي، والدفاع عن الكرامة العامة للدروز، نهجاً سار عليه الشّيخ محمد قبل أن يتولّى مشيخة العقل، وتابعه بشكل أعم وأشمل، ومن موقع القوّة والمسؤولية بعد أن تولاّها. وقد ثارت ثائرته وحرك فعاليات جبل العرب في سورية للاحتجاج والتظاهر في العام 1951 ردا على التعرض بالإساءة من موظف حكومي للمرحوم عارف النكدي الذي تسلّم وظائف رفيعة عدّة في الجمهورية العربية السورية.
وفي آذار من السنة المذكورة، وبعد حادثة الباروك التي افتعلتها السلطة اللبنانيّة لإفشال المهرجان الذي أقامه الزعيم كمال جنبلاط في البلدة، أوقف حاجز للدرك مقام في سهل السمقانية وفداً من نخبة رجال الدين وفتّشهم. فانبرى الشيخ محمد للدفاع عن الحرية المضطهدة في الباروك، ثمّ انبرى للدفاع عن الكرامة المهانة على حاجز قوى الأمن، وحرّك عموم الدروز فقدّموا العرائض الاحتجاجيّة، وصرّح يومها بأن رجال الدين الدروز لا يُهرّبون السلاح ولا يحملونه، لكنهم سيحملونه للدفاع عن الكرامة إذا اقتضى الأمر، وهدّد بالثورة، ووقف الى جانبه زعماء الدروز في لبنان وسورية والمعارضون للحكم من سائر الطوائف. وفي مناسبة لاحقة للحادثة وجد نفسه أمام بعض رجال السطلة فخاطبهم قائلا: بلّغوا رئيس الجمهورية أن من الخير له وللبلاد أن يضع حدّاً لهذه التصرّفات وإلا سيكون لنا معه شأن آخر. فما كان من رئيس الجمهورية بشاره الخوري الا أن أرسل إليه محافظ جبل لبنان فؤاد صوايا للاعتذار منه ومن رجال الدين المجتمعين معه في بلدة عبيه، ثمّ أعطى الأمر بمنع تفتيش رجال الدين الدروز.
تنظيم شؤون الطائفة
رأى الشّيخ محمد أبو شقرا ضرورة مركزة القرار الديني في مشيخة العقل، وتطوير بعض الطرائق المتبعة، ووضع أنظمة جديدة تتماشى مع روح العصر وسنّة التطوّر، فطرح الأفكار والمشاريع على نظيره الشيخ محمد عبد الصمد ، وجرى تنفيذها باسم مقام مشيخة العقل، وقد استطاع خلال هذا التعاون المشترك تحقيق بعض الأمور، كما استطاع بالتعاون مع القيادات السياسيّة تحقيق أمور أخرى. وهذا أهم ما تحقق في مجال تنظيم الشؤون الدرزية.
• توحيد الطقوس الدينية: يقترن باسم الشيخ محمد أبو شقرا توحيد الطقوس الدينية في لبنان وسوريّة، وذلك بتوحيد نص عقد الزواج وخطبته ومقدّمة الوصيّة، وتوحيد نص الصلاة على الميت، والقيام بالصلاة من قبل مصلّين يتقنونها. وقد رأى الشيخ محمد توحيد الرحمة على الميت عند الصلاة عليه، لأنّها في الأصل دعاء لله تعالى واستغفار منه تحوّل مع الزمن إلى تأبين للميت وشهادة به مبنيّة على حسن الظن، وقد رأى ضرورة إعادتها إلى الأصل وإخراجها من دائرة التأبين والشهادة، لأنها كشهادة كثيراً ما تخضع لمزاج المصلّين وللعوامل السياسيّة والمصلحيّة، وكثيراً ما يساء إعطاؤها فيزاد منها لغير المستحق وينقص للمستحق.
• تنظيم رجال الدين: رأى الشيخ محمد أبو شقرا ضرورة تنظيم رجال الدين وفق صيغة بعيدة عن التنظيم الإكليريكي عند المسيحيين، وفي إطار يتوافق مع مسلك التوحيد العرفاني البعيد عن المظاهر والطقوس والوجاهة. لقد عمل على إحصاء رجال الدين وتدوين أسمائهم في سجلات، وتحديد كيفية الانتساب إلى سلكهم بطريقة تركّز على الجوهر لا على المظهر. وكان يرى أن هناك خطأ في تصعيب دخول المريد إلى السلك المذكور، وتقييده بالزِّيّ فيما يتعلّق بالموظّفين والمجنّدين والعاملين، لأن الزِّيّ عنده مظهر لا يوصل الى الجنّة، وعدم التقيد به لا يحرم منها. لذا كان يسهّل دخول المريدين من هؤلاء شرط تزيِّيهم بالزيّ الديني عند أداء الفروض الدينية مع إخوانهم. كما طلب من رجال الدين عدم الانغماس في الشؤون السياسيّة، لأن ذلك منافٍ للتعاليم الدينية التوحيديّة، ولأن عند رجل الدين ما يكفيه عن ذلك، ولأن السياسة لا تدخل شيئاً إلا وتفسده.
كما حرص الشّيخ محمد على ألّا ينتسب إلى سلك الدين ويستمر فيه إلا من يستطيع القيام بشروطه الأساسية والحفاظ على كرامة الشعار الديني. كما رأى ضرورة إنشاء مدرسة للعلوم الدينية تخرِّج مشايخ علماء متديِّنين، وهذا الأمر الذي لم يتحقق في عهده تحقق في سنة 2014 بإنشاء “معهد الأمير السيِّد للعلوم التوحيدية” برعاية المجلس المذهبي ومشيخة العقل الحالية في عبيه، لكنه عوّض عن ذلك بما كتبه من مقالات وخطب ومواعظ في السهرات والاجتماعات والمناسبات والندوات، بهدف الإرشاد والتوجيه والتوعية الدينية.
• إنشاء الهيئة الروحية العليا: تألفت هذه الهيئة في 23 تشرين الأول 1949 من شيخي العقل في لبنان: الشيخ محمد أبو شقرا والشيخ محمد عبد الصّمد، ومن شيوخ العقل في سورية: الشيخ أحمد الهجري، والشيخ أحمد جربوع، والشيخ يحيى الحناوي. وهذه الهيئة هي صاحبة الحق المطلق بمعالجة القضايا ذات المساس بكيان الطائفة العام، أو بمصلحة رجال الدين دون تفريق في الأمكنة والأقاليم.
• إنشاء المجلس الروحي الأعلى: عرض الشيخ محمد أبو شقرا فكرته بتأسيس هذا المجلس في صيف 1950، وتمت الموافقة على نظامه بصفته النهائية في 10 ايار 1952. وغايته العمل على رفع مستوى الهيئة الروحيّة، وتنظيم المعابد والمؤسسات الدينية العامة، وإنشاء المدارس الروحيّة ومعالجة قضايا الطائفة الملّية. لكنه استثني من التشريع القانوني فيما بعد.
• وضع نظام إنتخاب شيخ العقل في سنة 1953: وقد هدف الشيخ محمد أبو شقرا من هذا النظام انتخاب شيخ العقل بموجب أسس قانونيّة ووفق شروط محدّدة، من أجل تجنيب الدروز أزمات هذا الاستحقاق، كالأزمة التي جرت في سنة 1946 عندما انتُخِب الشيخ محمد عبد الصمد خلفاً للشيخ حسين حماده، والأزمة التي جرت في سنة 1949 عند انتخاب الشيخ محمد أبو شقرا نفسه خلفاً للشيخ حسين طليع، والأزمة التي ستجري لاحقاً في سنة 1954 عند انتخاب خلف للشيخ محمد عبد الصمد.
• وضع قوانين تنظيم القضاء المذهبي والمجلس المذهبي وإنتخاب شيخ العقل: كان للشيخ محمد أبو شقرا فضل كبير في إصدار هذه القوانين. وقد صدر القانون الأول في 5 اَذار 1960. وصدر القانونان الأخيران في 13 تموز 1962، وتم إنشاء المجلس المذهبي بموجبهما، وهما يتفقان مع معظم ما طرحه الشيخ محمد من قبل في نظام المجلس الروحي الأعلى ونظام انتخاب شيخ العقل.
تأخر الرئيس فؤاد شهاب في إصدار هذه القوانين وماطل وأخلف بوعود كثيرة قطعها للشيخ محمد، مراعياً بذلك خواطر المعارضين لها، والتوازن بين أفرقاء الدروز المختلفين حول نصوصها، مشترطاً أخذ موافقة جميع النواب الدروز. لذا لامه الشيخ محمد على موقفه هذا، وهاجمه بالرغم من تقديره له وتأييده لمواقفه السياسية، حتّى إنه قال له عند مماطلته بإصدار قانون تنظيم القضاء المذهبي: “هل نحن في مقام رئاسة الجمهوريّة أم في سوق النوريّة”. فكان هذا حافزاً للرئيس على إصدار القانون المذكور بعد أيام.
وكان للشيخ محمد أبو شقرا الفضل الأكبر في وضع ملاكي المجلس المذهبي ومشيخة العقل وبقي العمل بموجبهما حتى صدور قرار تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز بتاريخ 12/6/2006 المعمول به حالياً والذي وحّد مقام مشيخة العقل.
الاهتمام بالبناء
تميّز الشيخ محمد أبو شقرا عمن سبقه من الرؤساء الروحيين، وعن الكثير من أعيان الموحِّدين (الدروز) ومسؤوليهم، باهتمامه بالبناء.لذا تقترن باسمه مجموعة من الأبنية، منها بناء يحمل اسم “المؤسّسة”، ومنها قرية، الأمر الذي يحمل على القول إنه رجل البناء، وإنه ذو عقل مؤسساتي.
إن اهتمام الشيخ محمد بالمقامات الدينيّة يدخل في صلب مهامه، ومن ذلك تحسين مقام النبي أيوب وإضافة الطوابق والغرف العديدة عليه وإيصال المياه والكهرباء والطريق إليه، وإعادة بناء مقام الأمير السيد في عبيه بعد عبث “القوات اللبنانيّة” فيه خلال حرب الجبل. وإن بناء دار عماطور يندرج في إطار كونه إبن هذه البلدة، وعليه الاهتمام بكل موضوعاتها ومشاريعها، ولكن الفضل الأكبر له هو إصراره على بنائها لتكون داراً لجميع العماطوريين، ومعارضته إقامة أية دار عائلية. وهذا يدلُّ على نهجه الذي عبّر عنه منذ قدومه من سورية إلى لبنان، ووصوله إلى عماطور في 5 حزيران 1949، إذ قال لأبنائها إنه يريدهم كتلة واحدة في سبيل مصلحة البلدة دون أي تمييز بينهم. وهذا ترجمة لنهجه العام الذي تعبّر عنه الأمور الصغيرة كما الأمور الكبيرة. كما أنه حدّد قواعد استعمال الدار، فهي لإقامة المناسبات الثقافية والندوات ولإقامة المآتم دون ندب، والأفراح دون رقص وغناء وموسيقى في داخلها، وهذه القواعد اقتبستها بعض القرى.
أما الأبنية التي شادها الشيخ محمد أبو شقرا ببادرة منه، أو كان له الفضل الأكبر في إقامتها، فهي التالية بحسب التسلسل الزمني لبدء العمل بها:
• دار الطائفة الدرزية في بيروت: وهذه الدار هي من جملة بنود برنامجه الموضوع في سنة 1949. وقد باشر ببنائها معوّلاً على أريحية بني معروف ( الدروز)، ومعتمداً على مبلغ من المال قدّمه له رئيس الجمهورية بشاره الخوري لينفقه كيفما يشاء، فحوّله لبناء دار عامة في العاصمة بيروت تكون للدروز مرجعاً وملتقى بعد أن كانوا يحارون أين يجتمعون في المناسبات وأين يستقبلون زوارهم من الشخصيات الكبيرة، ولتكون أيضاً مقراً لمؤسساتهم وهيئاتهم، ومرجعاً للمّ الشمل وتعزيز الكرامة وإحياء المآثر. وقد احتُفل بوضع حجر الأساس لها في 16كانون الثاني 1953، ودُشنت في 4 نسيان 1965 ، وارتفع عليها العلم الدرزي المخمّس الألوان، كأول بناء درزي يرتفع عليه، كما ارتفع من قبل، ولأول مرّة ،على سيارة مشيخة العقل بوضعه على مقدّمة سيارة الشّيخ محمد.
• قرية المعروفيّة: بوشر العمل بها في سنة 1957 لتكون بيوتاً للنازحين من أبناء جبل العرب بعد أن أُجبروا على ترك الخيام التي أقاموا فيها في محلّة “ وطى المصيطبة” في بيروت. وكان للشيخ محمد فضل فك اشتباك هؤلاء مع قوى الأمن، وفضل تحصيل حقوق قتلاهم وجرحاهم، وتأمين التعويضات لبناء بيوت لهم في مكان اختاره بين الشويفات وعين عنوب حيث عرف باسم “ المعروفيّة” نسبة إلى بني معروف.
• المؤسسة الصحيّة للطائفة الدرزيّة: وهذا المشروع كان كدار الطائفة من جملة بنود برنامج الشيخ محمد. وقد باشر بتنفيذه معتمداً كما اعتمد في بناء الدار على أريحية بني معروف وعلى مبلغ من المال قدّمه له المحسن إلياس شربين أثناء الحوادث اللبنانية لينفقه في سبيل خير الدروز، فجعله لمصلحة مؤسسة تأوي عجزتهم وتستقبل مرضاهم ومرضى سواهم، وقد جرى الاحتفال بوضع حجر الأساس لها في 16/05/1978 ،وجرى الاحتفال بافتتاحها في 04/06/1989.
“بذل جهوداً كبيرة في ما كان يكتبه من مقالات أو يلقيه من خطب، لتوضيح مسلك التوحيد، والتأكيد على إسلام الموحِّدين ودحض افتراءات واتهامات الجاهلين والمغرضين”
“اقترن اسمه ببناء المؤسسات وتوحيد الشعائر الدينية ووضع قواعد السلوك والتحذير من السياسة والمظاهر وبإعفاء الموظفيـن والمجندين والعاملـين من الزيّ الدينـــي”
التميّز في تمثيل الطائفة
كانت مهمة الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين (الدروز) محدودة النطاق في الماضي، لا تتعدّى الإطار الدرزي، إلا عندما يضطر هذا الرئيس للوفود إلى ولاة الأمور. ومع شيخ العقل الشيخ حسين حماده (1858-1946) ازداد حضور مشيخة العقل على صعيد رسمي، ثمّ ازداد أكثر مع الشّيخ محمد أبو شقرا مما عزّز موقع الطائفة بين الطوائف. وأسباب ذلك تعود إلى قوّة شخصيّته ومهابته ووقاره ولباقة حديثه وذكائه وحيويّته وشجاعته واشتراكه في الأكثرية الساحقة من القمم الإسلامية الروحيّة، والقمم الإسلامية الروحيّة السياسيّة، والقمم الإسلاميّة المسيحيّة، والعديد من الاحتفالات بالأعياد والمواسم الدينيّة الإسلاميّة، بسبب ازدياد تعاطي رؤساء الطوائف في الشؤون السياسيّة، ولاسيما في الحوادث اللبنانيّة التي جرت بين سنتي 1975 و 1990.
كان الشّيخ محمد ديّنا تقيّاً حافظاً للكتاب الكريم، عاملاً بتعاليمه، وكان على يقين أن الأجر لا يتأتى من العبادة والتقوى فقط، بل يتأتى من العمل لأجل الآخرين ولأجل تحقيق مصالحهم، وأن الأجر الكبير يتأتّى بحسن أداء المسؤوليّة التي يتولّاها المرء وبحسن تمثيل طائفته والوفاء بالتزاماته إزاءها. لذا لم يرَ ضيراً في التعاطي بالشؤون السياسيّة، لأنه تعاطى فيها بهدف خدمة الوطن والمساهمة في حلّ مشكلاته، ومن زاوية “تديين” السياسة لا تسييس الدين، كما تعاطى فيها من موقعه الرسمي التمثيلي لإظهار انفتاح طائفته على الآخرين، وتحقيق مصالحها وتعزيز كيانها.
مثّل الشيخ محمد الطائفة في مناسباتها الخاصة، وترأس قممها الدينية والسياسية، ومثّلها في الكثير من المؤتمرات والقمم داخل لبنان، لكنه لم يمثّلها في أي مؤتمر خارجه إلا في سورية فقط، لأنها الجار والشقيق، ولأنها الوطن البديل الذي عاش فيه ست عشرة سنة. وما عدا ذلك كان ينتدب من يمثله في المؤتمرات التي دُعي إليها في الدول العربية والأسيوية والاتحاد السوفياتي.
كان الشيخ محمد يتميّز في أي مؤتمر أو اجتماع يحضره أو في أيّة قمة يمثّل الطائفة فيها. وكثيراً ما ارتفعت يده مع يد مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ويد رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، يعلنون إتحاد المسلمين، وكان هو يركّز على إلغاء مقولة: مسلم وشيعي ودرزي، الّتي يقصد بها تفريق المسلمين الدروز عن إخوانهم السنّة والشّيعة، ويؤكد على إسلامية الموّحدين وعلى أنهم كالسنة والشيعة طائفة إسلاميّة.
كان الشّيخ محمد أبو شقرا كبيراً مع كبار من رؤساء الطوائف في لبنان عاصرهم والتقى بهم في المؤتمرات والاجتماعات والقمم، وهم المفتي محمد علايا، والمفتي حسن خالد، والإمام موسى الصدر، والإمام محمد مهدي شمس الدين، والبطريرك مار بولس بطرس المعوشي، والبطريرك مار أنطون بطرس خريش، والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير، والبطريرك أغناطيوس الرابع هزيم، والبطريرك مكسيموس حكيم، وجارى سائر الرؤساء الروحيين في الانفتاح على بعضهم البعض، وفي تبادل غير مسبوق للزيارات حيث زار مقر البطريركيّة المارونيّة، وزاره البطريرك الماروني. كما زار هو مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، اللذين زاراه في منزله وفي دار الطائفة الدرزية، التي عقدت فيها كما في دار الفتوى وفي مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بعض القمم الروحية والقمم الروحيّة السياسيّة.
وكان الشيخ محمد أبو شقرا ممثلاً كبيراً لطائفة قامت بدور كبير قبل أن تصبح الطائفة الخامسة في العدد في لبنان. لذا كان حين يتكلّم في المؤتمرات والمناسبات يتعملق بشخصيّته القويّة وبأطروحاته ومنطلقاته التي يرتكز فيها على تاريخ الطائفة الدرزيّة ودورها وقيمها ومفاهيمها. وكان يتكلم مع المسؤولين على مختلف مستوياتهم بناءً على ذلك. قال ذات يوم في أحد المؤتمرات إنّه كان أول طلب له من رئيس الجمهوريّة هو الحفاظ على الأخلاق. وتكلم في أول مؤتمر إسلامي حضره، وعُقد في 5 كانون الثاني 1952 استنكاراً لمطالبة المحامين تحويل بعض صلاحيات المحاكم المذهبيّة إليهم، فأدهش الحاضرين واستحسنوا كلامه وصفقوا له طويلاً، وقال رئيس المحكمة الجعفرية الاستئنافيّة العليا محمد جواد مغنيّة: إن المسلمين لديهم كافة أنواع الأسلحة إلا أنهم تنقصهم “القنبلة الذريّة” فوجدوها الآن بشخص الشيخ محمد.
قابل الشيخ محمد أبو شقرا الكثير من رؤساء الدول والوزراء والسفراء والقناصل ورؤساء البعثات والهيئات، وزاره الكثير من هؤلاء فأعجبوا بشخصه وبلباقة حديثه وجرأته. وضمّن حديثه ذات يوم مع السفير الفرنسي كلاماً باللغة الفرنسيّة، فقال له بيتين للشاعر الفرنسي كورناي مدلولهما أن عمر المرء لا يقاس بعدد السنوات وإنما بروحه الفتيّة. وتكلّم في أحد مؤتمرات المغتربين الذي انعقد في دار الطائفة الدرزيّة بالإنكليزيّة ليرحّب بهم، لأنّه علم أن الكثيرين منهم لا يعرفون العربية، ثم دعاهم إلى تعلّم اللغة الأم.
رجل المواقف
كان الشيخ محمد أبو شقرا شفافاً في تصرّفاته، صريحاً في كلامه حتى لو إتسم بالقسوة، شجاعاً في قول الحقّ حتّى على الأقوياء الذين يهابهم الناس، مبدئياً في سلوكه وفي تعاطيه، لا يتردّد في اتخاذ الموقف الملائم حتى ولو أبعد المحبين عنه وأغضب الكثيرين منه وأتت نتائجه على حسابه. وقد كان محبّوه يلفتونه إلى ضرورة تخفيف لهجته، وعدم اعتماد الصراحة دائماً وتسمية الأشياء بأسمائها، فكان يجيب أن من واجبه أن يكون صريحاً، وأن يمسك بمبضع الجرّاح لإنقاذ المريض، وأن يقول الحق لأن الساكت عن النطق به شيطان أخرس، وأن يجاهد لإحقاقه ضد مغتصبيه وضد الظلمة، وأن المؤمن القوي المجاهد خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف المستكين.
اتخذ الشيخ محمد أبو شقرا الكثير من المواقف الشجاعة مع المسؤولين وفي المحطّات الصعبة والخطيرة، وأدلى بالكثير من التصريحات والأقوال التي سكت عن قولها الكثيرون، وواجه رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزارات وسائر المسؤولين وكبار القادة الروحيين والزمنيين بصراحته وصدقه المعهودين.وقد تعدّدت مواقفه الشجاعة في مخاطبة الكبار وفي إبداء آرائه وفي إظهار موقف الطائفة الدرزيّة في المحطات الصعبة والخطيرة وإزاء القضايا الوطنيّة والعربيّة والإسلاميّة. ومن الصعب استعراض جميع هذه المواقف وأقوال الشيخ محمد فيها التي كثيراً ما تردّدت ولا تزال تتردد على ألسنة الناس، لذا نكتفي بذكر بعضها كنماذج.
منذ أن طُلب الشيخ محمد لتسلّم مشيخة العقل، وقبل أن تبدأ مسيرته فيها، اتخذ موقفاً يدلُّ على شممه وإبانه، وحرصه على كرامة المشيخة التي يجب أن تولّى لا أن تُطلب، وهو رفضه الوصول إليها من باب أية زعامة، ورفضه القدوم من سورية إلى لبنان إلا بصفة شيخ عقل.
كان الشيخ محمد رجل المواقف التوحيديّة الدرزيّة، يشدّد دائماً على وحدة طائفته ويعمل على تحقيقها وعلى إزالة الخلافات الداخلية وكل ما ينال منها، وكثيرة هي دعواته لِلمِّ شملها وجمع أبنائها تحت شعار التوحيد مما حمل بعض القادة الدروز على القول عنه إنّه كان “يلفُّهم بعباءته”. فلقد تمكن مثلاً في سنة 1958 بوقفته الشجاعة في الباروك أن يعيد إلى الدروز وحدتهم التي حاول الرئيس كميل شمعون وأعوانه زعزعتها، وإحداث الفتنة بين الدروز. وحاول مراراً رأب الصدع الدرزي الناتج من الخلاف حول انتخاب شيخ العقل سنة 1954 إلى أن أثمرت جهوده وجهود سائر القادة عن المصالحة السياسيّة والروحيّة العامة في أواخر سنة 1966.
انسجم الشيخ محمد في الكثير من المبادئ والمواقف مع القائد كمال جنبلاط، والتقى وإياه في العديد من المواضيع الإصلاحيّة على صعيد لبنان، وفي المواضيع الإصلاحيّة على صعيد الطائفة الدرزيّة. وقد آزره في إنهاء عهد الرئيس بشاره الخوري، وفي عدم التجديد للرئيس كميل شمعون، والتقى وإياه في تأييد الرئيس فؤاد شهاب. كما آزر وليد بك جنبلاط في قيادته الناجحة للطائفة خلال الأحداث اللبنانيّة. ومما يذكر عنه نزوله من عماطور، بعد تسلّمه للمشيخة بقليل، لمؤازرة كمال جنبلاط عندما جرى التحامل عليه في المجلس النيابي، وخرج منه غاضباً، وبهذا وقف إلى جانبه ضد سياسة الإرهاب الفكري. ومما يؤثر عنه عدم استقباله وفد الحكومة السوريّة التي قامت بالانفصال عن الجمهوريّة العربيّة المتحدة سنة 1961 ،معتبراً هذا الانفصال ضربة للوحدة العربيّة.
عمل الشيخ محمد مع مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على تحقيق وحدة المسلمين. كما عملوا مع رؤساء الطوائف المسيحيّة على تحقيق وحدة اللبنانيين حين تصدّعت بسبب الاختلاف حول انطلاقة العمل الفلسطيني المسلّح ضد إسرائيل من لبنان، وحين زاد تصدّعها بعد نشوب الحوادث اللبنانيّة في سنة 1975.
قدّم الشيّخ محمد مشروع حلٍّ لإنهاء الحوادث اللبنانيّة رحّب به أكثر القادة، إلا أنّ الرئيس إلياس سركيس لم يسر به. ومن أجل منع قيام حرب الجبل بين الدروز والمسيحيين زار الشيخ محمد القصر الجمهوري وقابل الرئيس أمين الجميل وقائد “القوات اللبنانيّة” فادي إفرام، وعرض عليهما مشروع حلٍّ متكامل لقضية الجبل انطلاقاً لحل المشكلة اللبنانية، لكن اليد الدرزيّة الممدودة عبر الشيخ محمد إلى المسيحيين وإلى الحكم الذي يهيمنون عليه، لم تقابل يبد ممدودة، لأن “ القوات اللبنانيّة” اختطفت القرار المسيحي، فكان ذلك من أهم أسباب حرب الجبل.
لم يترك الشيخ محمد مناسبة إلا وذكّر فيها بضرورة وحدة المسلمين والعرب لجهاد الصهاينة الذين كان يعتبر الجهاد ضدّهم فرض عين، ويكفل الدروز في القيام بذلك. وقد توجّه إلى دروز فلسطين عند قيام حرب تشرين المظفَّرة في سنة 1973، طالباً منهم المسارعة إلى الثورة على الصهاينة. وتكلّم في الاحتفال بحلول القرن الخامس عشر الهجري، في 9 كانون الأول 1979، فناشد العاهل السعودي الملك خالد أن يدعو إلى مؤتمر في مكّة المكرّمة منطلق الهجرة الأولى للمسلمين، لإقرار ما يجب عمله. وقد قوبلت بالتصفيق مراراً كلمته الحماسية التي تذكّر بأسباب قوّة المسلمين عند انطلاقة الإسلام وبأسباب ضعفهم الحالي، والتي تدعو إلى عدم التأخر في إعلان الجهاد المقدّس لتحرير فلسطين.
اشتهر الموّحدون الدروز عبر تاريخهم بالاتجاه العربي الإسلامي، وعبّروا عنه قولاً وفعلاً. ويكتسب التعبير عنه على لسان رئيسهم الروحي الشيخ محمد أبو شقرا أهمية كبيرة في مرحلة إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين واشتداد أخطاره على جميع الدول العربيّة مما يستدعي من جميع القادة والمسؤولين والفعاليات الزمنية والروحية حشد القوى في مواجهة هذه الأخطار وسواها من الأخطار الخارجيّة.
الدور الكبير
إن دور أي منصب أو موقع ديني أو سياسي ِأو اجتماعي أو عسكري يزداد فعاليّة أو ينقص تبعاً لشخص متسلّمه ومقدرته وكفاءته. فهو عند البعض اعتيادي أو دون ما يستحقه المنصب أو الموقع، وهو عند النخبة كبير، كما هو متألق عند القّلة من هذه النخبة. وهكذا كان دور الشيخ محمد أبو شقرا الذي تألق بأعماله وإنجازاته ومواقفه التي جرى الحديث عن بعضها فتألقت معه مشيخة العقل وتعملقت، وبلغت على يده عصرها الذهبي وتعزّز شأنها بين الرئاسات الروحيّة.
تألّق دور الشيخ محمد أبو شقرا إبان ثنائية مشيخة العقل بين سنتي 1949 و 1954، وتألّق في ثلاثيتها بين سنتي 1954 و 1970، ثم تألّق أكثر عندما توحّدت المشيخة بشخصه من سنة 1970 إلى حين وفاته في سنة 1991. وقد ترافق توحّدها هذا مع توحّد القيادة السياسيّة بشخص وليد بك جنبلاط. وتكاملت هاتان القيادتان وعملتا معاً في سبيل مصلحة الطائفة الدرزيّة واجتيازها بنجاح أصعب المراحل التاريخيّة.
تعدّى دور الشيخ محمد أبو شقرا الإطار الدرزي فعمل على حل مشكلة المقاصد الخيرية الإسلاميّة القائمة بين الرئيس صائب سلام ومعارضيه. وطٌلب منه إنهاء النزاع بين الإمام موسى الصدر وكامل بك الأسعد. كما إنه قبل طلبا من عائلات زغرتا للتوسط وإنهاء نزاع بينها أدى الى وقوع عشرات القتلى، وقد نجح الشيخ محمد في تحقيق المصالحة التي تمت بإشرافه ومباركته. بل أن دوره تعدّى الإطار اللبناني عندما طلب توّسطه بين الهند وبنغلادش لإطلاق سراح الأسرى الباكستانيين المحتجزين لدى الهند.
قُدِّر للشّيخ محمد أبو شقرا أن يتسلّم مشيخة العقل لمدّة طويلة بلغت الاثنتين والأربعين سنة حفلت بعطاءات وإنجازات كانت على مستوى عزمه وحيويته ونشاطه الذي لا يعرف الكلل ولا الملل حتّى بدا كأنّه فريق عمل. وكانت أيضاً على مستوى التحديات والمراحل الصعبة والمحطات المصيريّة. وكان من حسن حظّ الموحِّدين (الدروز) وجود الشيخ محمد قائداً روحياً لهم في هذه المراحل والمحطات.
اختلف الناس بشأن الشيخ محمد كما اختلفوا بشأن أي رجل عظيم. لكن المختلفين بشأنه متفقون على أنّه قائد عظيم وشيخ علم بارز من شيوخ الموحِّدين الدروز وعلم من أعلام الوطنيّة، أشاد به الكثيرون في حياته، وأشاد به الكثيرون في يوم مأتمه، وأصدرت الضحى عدداً خاصاً في أربعينه تضمن أهم مواقفه وما قيل في مدحه والثناء عليه. ومن أفضل القصائد التي قيلت فيه قصيدة الشاعر أديب العطّار، التي قالها بمناسبة افتتاح المؤسسة الصحيّة في عين وزين ومنها البيت التالي:
لـــــم تعرف الأجيــــــــــال مثـــــلك سيّـــــــــــــــــــــدا للعقل من بعد الأمير السيّد.
اَلُ الحمدان
في تاريخِ جبلِ حَوْرانَ
جرى الحديث عن اَل حمدان في تاريخ جبل لبنان، وعن أصلهم ونَسَبِهم، وذلك في العدد 17 من مجلّة “ الضّحى”. وفي ما يلي سيجري الحديث عن أقربائهم في تاريخ جبل حوران. وإذا كان لهذين الفرعين الحمدانْيّين تاريخ مشترك في شمال سورية وفي النزوح منه إلى جبل لبنان، ونزولهم في منطقتي “ الغرب” و “المناصف”، فإنّه صار لكلٍّ منهما تاريخ منفصل عن الاَخر منذ نزوحهم من المنطقتين المذكورتين.
نزوح الحمدان إلى جبل حوران
عُرِف آل حمدان في جبل حَوران باسم آل الحمدان وباسم الحمدانيين، لذا سنذكرهم بهذين الاسمين. كما سنذكر الجبل باسم “جبل حوران” لأنّه الاسم المتداول في زمنهم قبل أن يصبح جبل الدّروز، ثم جبل العرب، وأخيرًا محافظة السّويداء التي هي إحدى المحافظات السّوريّة.
أنشأ الأمير فخر الدّين المعني الثاني علاقات مع قبائل حوران، ورمّم قلعة صرخد (صلخد) في جبل حوران، وجعلها مخزنًا للحبوب، إلا أنّ هذا لم يتعدَّ إنشاء قاعدة مؤقّتة للحكم المعني، وذلك في إطار سياسة الأمير التّوسّعية التي أعقبت عودته من أوروبا سنة 1618.
يقترن أول نزوح درزي إلى جبل حوران بغية توطُّنه بتاريخ محدَّد، هو سنة 1685، وبأمير اسمه علم الدّين، مختلف على نسبه، إذ يقول البعض إنّه مَعْنيٌّ، ويقول البعض الآخر إنّه يمنيّ، ويقول أمين بك آل ناصر الدّين إنّه من آل ناصر الدّين التّنوخيين وإنه لجأ إلى جبل حوران خوفًا من انتقام الأمير أحمد المعني منه لجريمة ارتكبها1. وتتّفق الرّوايات على أنّ الأمير علم الدين عاد إلى لبنان وعاد معه بعض من رافقوه الذين هم عند البعض 150 فارسًا مع عيالهم، وعند البعض الآخر 1500 نسمة.
وتتفق معظم الرّوايات أيضًا على أن حمدان الحمدان من قرية كفرا (الغرب) هو من ثبَّت أقدام النازحين إلى جبل حوران، فيما هو في نظر المؤرِّخ سليمان أبو عز الدين أول النازحين. وقد ذكر هذا نقلاً عمّا سمعه من أعيان دروز حوران أثناء زيارته لهم في سنة 1897، في مقالة له بعنوان “توطّن الدروز في حوران” نشرتها مجلة “الكلّية”2. كما أنّ المؤرِّخ الدّمشقي نعمان قساطلي رأى قبل المؤرِّخ سليمان أبو عزّ الدين أنّ الحمدان هم أوّل من توطّن الجبل، وذلك في مقالته عن الجبل في سنة 1910 في مجلة “الهلال”3.
إنّ أبرز النزوحات الدّرزية الأولى إلى جبل حوران هي نزوح سنة 1685، ونزوح سنة 1711. إلا أن هناك نزوحات بينهما منها نزوح حمدان الحمدان المختلف على تاريخه، بسبب اعتباره من البعض أوّل النازحين، وبسببه عدم وضوح تاريخ إحراق كفرا، والمُختَلف فيه أيضا على علاقة آل الحمدان بالأمير علم الدين، إذ من الروايات ما ينفي أية علاقة بين الفريقين.
أما لماذا نزح الموحِّدون (الدّروز) إلى جبل حوران في أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر، فهذا عائد إلى الصراع القيسي اليمني الذي أسفر عن مواقع كثيرة انتصر في معظمها القيسيون على اليمنيين، وتوَّجوا انتصارهم عليهم في موقعة عين داره في 5 آذار 1711، ومن فصول هذا الصّراع هجوم آل تلحوق القيسيين بقيادة الشيخ بشير تلحوق على قرية كفرا (الغرب)، قرية الحمدانيين، وإحراقهم لها، واضطرار حمدان الحمدان وسائر الحمدانيين إلى تركها.
التوطُّن في جبل حَوران
أقام النازحون الأوائل في مطحنة الدّنيفات أولّاً، وفي إحدى الرّوايات في شمسكين، أي الشيخ مسكين. كما أقاموا في خربة الدّلي الواقعة إلى الغرب من إزرع. وبعد التحاق نازحين جُدُد بهم انتقلوا جميعًا إلى قرية تُبْنَة الواقعة إلى الغرب من اللّجاه المُسمّاة أيضًا “الوعرة” لوعورة مسالكها، وقد شكَّلت للموحِّدين (الدّروز) الحصن المنيع للاحتماء به في حروبهم أثناء تصدِّيهم للحملات المصريّة والعثمانيّة والفرنسيّة. وتقع اللّجاه على حدود المقرن الشّمالي والمقرن الغربي من جبل حوران، ذلك أنّه جرى تقسيم الجبل، انطلاقًا من وسطه حيث تقوم السّويداء، إلى أربع مناطق سمَّوها مفارق أو مقارن، هي المقرن الشّمالي، والمقرن القبلي أي الجَنوبي، والمقرن الشّرقي، والمقرن الغربي. وهذه التّسميات مبنيّة على معنى “المقرن” اللغوي، الذي يعني قطعان الغنم التي ترد إلى الجبل من الجهات الأربع، لترعى فيه.
أقام النازحون في تُبْنة لمدّة سنتين ازداد خلالهما عددهم، بفضل من لحقوا بهم من اليمنيّين على إثر هزيمتهم في عين داره سنة 1711، وإحراق قرية كفرا (الغرب) قرية الحمدانيين. فانتقلوا إلى المَجْدَل وريمة اللّحف، أي ريمة لحف اللجاه، المسمّاة أيضًا ريمة الفخور نسبة إلى آل أبو فخر تمييزًا لها عن ريمة خازم الواقعة أيضًا في جبل حوران. ونزل حمدان الحمدان في قصر في نجران معروف بـ “قصر مقري الوحش”. حيث عثر في أحد جدرانه على كميّة من النقود الذهبية -حسبما يروى- كانت من أسباب غناه.
كان جبل حوران مسكونًا من بعض البدو المستقرِّين، وبعض عشائر سنِّيّة ومسيحية، يتحكَّم بها البدو الذين يتخذون من الجبل ممرًّا أو مرعى لقطعانهم في فصل الصيف، ويفرضون الضرائب، ويعيثون خرابًا في الأملاك. وكانت علاقة البدو مع النازحين الدّروز علاقة مسالمة وصفاء في بادئ الأمر. إلا أنّهم ما لبثوا أن نظروا إليهم نظرة حذر وريب وخوف منهم، ومن تزايد أعدادهم، ومن مقاسمتهم الأراضي التي تسرح فيها مواشيهم، فقد صمَّموا على قتالهم وإخراجهم من المنطقة، وظنُّوا ذلك سهلاً كما فعلوا من قبل مع فئات عدة تمكنوا من تهجيرها. لكنّ المتوطِّنين الجُدُد كانوا رجال حرب أشدَّاء، متمرِّسين في القتال، فصمدوا بقيادة حمدان الحمدان، واستبسلوا زيادة في الدفاع عن مواقعهم، لاعتبارهم المعركة معركة حياة أو موت، إذ إنّ نهايتهم ستكون التّهجير من جديد بعد أن هجروا أوطانهم الأصلية، أو ستكون الذلّ والخضوع لسيطرة البدو الذين لا يرحمون.
وبما أنّ مهاجميهم كثيرو العدد، وهم من قبائل زبيد والسّرديّة والفحيليّة، اضطرَّ النازحون إلى الاستنجاد بأعداء أعدائهم، أي أبناء قبيلة المخمس، فآزرهم هؤلاء، وساهموا في صمودهم وانتصارهم، فسمّوهم الجوابرة، أي الذين جبروا خاطرهم وأنجدوهم عند الضّيق، ووقَوْهم شرّ الهزيمة.
كان لانتصار النّازحين بقيادة حمدان الحمدان أثره الكبير، ونتائجه البعيدة المدى، إذ إنّه من ناحية ثبَّت أقدامهم، وكبَّر شأنهم، وعظَّم هيبتهم في عيون مجاوريهم ومساكنيهم حتى بات الجميع يتهيَّبونهم ويحسبون ألف حساب قبل أن يخاصموهم. ومن ناحية أخرى سَرَّع وكثَّف عمليات نزوح الموحِّدين (الدّروز) من جميع المناطق الشّامية إلى جبل حوران، لأنهم رأوا فيه مكان العيش الكريم، وفسحة الحريّة المنشودة، والملجأ الأمين، والحِصن الحَصين، والمستقَرّ المضمون. وكلّ هذا صبَّ في مصلحة حمدان الحمدان بالتّأكيد على قيادته، وعلى استمراريّة هذه القيادة بشخصه وبأشخاص ذرّيته من بعده.
“انتصار النّازحين بقيادة حمدان الحمدان ثبَّت أقدامهم في جبل حــــــــوران وفتح باب النــــــــزوح إليــــه من جميع المناطق الشّـــــامية”
وبعد أن كان البدو لا يعترفون للفلاّح في جبل العرب بحق الجيرة والحمى إلا بما يحيط بمنزله فقط، أصبح الجبل كلّه بقراه وأهاليه وأراضيه حمًى واحداً، يهبُّ أبناؤه للدّفاع عن نزيل أيٍّ منهم، والدّفاع عن أرض أي فلاح، واسترجاع ماشية أيّ إنسان أو أية قرية، يسلبها البدو، حتى إن أهل الجبل كثيراً ما استعادوا المواشي المسلوبة من أطراف نجد في المملكة العربية السّعودية.
توطَّن حمدان الحمدان والنّازحون الأوائل في قرى المقرن الغربي الذي هو الممرُّ الرئيس للقادمين إلى الجبل من المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدّروز) في لبنان وفلسطين وسورية. وبعد ذلك تمدَّد التوطّن إلى السّويداء ومقارن الجبل الأخرى إبتداء بالمقرن الشمالي فالشّرقي فالقبلي (الجنوبي). وما تناقله الرواة، وما جاء في كتب الرحَّالة الأجانب، لاسيّما الرحّالة جون لويس بركهاردت، يفيد عن قلة عشائر الجبل السنّية والمسيحية قبل تكاثر الدّروز فيه، كما يفيد عن أنّ قراه، بما في ذلك أمّاتها: السّويداء وشهباء وصلخد، كانت بقايا آثار، وبيوتًا مسكونة بأُسَر قليلة. لذا كانت القرى المهجورة والبيوت الخَرِبة تنتظر من يعيد بناءها ويؤهِّلها للسّكن، وكانت الأراضي الواسعة والخصبة تنتظر من يستغلّها في الزرع.
ازداد التوطُّن في الجبل بفضل دعوات حمدان الحمدان وأبنائه، وتشجيعهم على النزوح إليه، فعُمّر وتحوَّل من حالة البداوة إلى حالة الحضارة، ومن منطقة قليلة السّكان إلى منطقة عامرة. كما أن اسمه الذي استقرَّ عليه (جبل حوران) بعد اسمه العربي (جبل الريّان) تحوّل إلى اسم (جبل الدروز) لتكاثر بني معروف (الدروز) فيه، ولتشكيلهم أكثريّة سكانه منذ أواخر القرن الثامن عشر. فغدا اسمه جبل الدروز منذ أوائل القرن التاسع عشر في التعابير المحلية، ومنذ أواخر هذا القرن في التقارير الرسمية. ثم سمِّي مؤخَّرًا جبل العرب لنفي أبنائه الدروز الصّفة الفئوية المذهبيّة عنه، وليصبح اسمًا على مُسَمّى، أي جبل العرب المسلمين الموحدين الذين يعتزّون بعروبتهم وبمساهمتهم في التاريخ العربي والإسلامي، ويعتزّون خصوصًا بنضالهم الوطني والقومي بقيادة أحد رموزهم سلطان باشا الأطرش، ابن جبل العرب.
المَشْيَخة الحمدانيّة في جبل حوران
نزح حمدان الحمدان من كفرا (الغرب) إلى جبل حوران وبرفقته أخوه، فيما يذكر حنا أبي راشد أنه نزح وحده من كفرا وأن أخاه هو أخ بالتعاهد لا من الأب والأم، وأن اسمه خليل الحمدان، نزح من صفد في فلسطين، ونزل ضيفًا عليه فأحبَّه وقرَّبه منه وتآخيا على الحياة والموت4. وهنا يصح التساؤل: كيف أصبح حمدان الحمدان شيخًا في جبل حوران وليس له إلا أخ واحد من دمه أو بالتعاهد؟ وفي رأينا أنه غدا شيخًا في الجبل لأنه كان شيخًا لقرية كفرا وقد نزح منها ومعه بعض أقربائه وبعض أهلها، ولأنّه كان أيضاً الأبرز بين سواهم من النازحين الذين قدَّموه عليهم. وفي اعتقادنا أنّ اَل الحمدان لم ينزحوا دفعةً واحدةً، وأنّ آخر النازحين منهم نزحوا عقب هزيمة اليمنيين في موقعة عين داره.
كانت الأكثرية الساحقة من النّازحين من العشائر العاميّة، وممّن جار عليهم حكّامهم، فهربوا من ظلمهم وإجراءاتهم، أو جار عليهم زمانهم فألجأتهم الحاجة إلى النّزوح، أو تركوا مواطنهم بسبب المنازعات، فكانوا يصلون أولاً إلى دار حمدان الحمدان أو دار من خَلفَه من أبنائه وأحفاده، فيسمّي لهم قرية يقيمون فيها، ويعيِّن عليهم شيخًا هو، على العموم، كبير النازحين، هذا إذا لم يكن في القرية المسمَّاة شيخ من آل الحمدان. فلقد لاحظ بركهاردت، الذي قام برحلات في جبل حوران من سنة 1810 إلى سنة 1812، أنّ أكثر من ثماني قرى يرأسها أقرباء الحمدان، وأنّ الرّؤساء الآخرين هم من العائلات الدّرزيّة الكبرى5. كما أنّ الشّيخ الحمداني بلغ من القوة حدًّا سمح له بالتحكُّم في تعيين مشايخ قرى السّهل الحوراني، المتاخمة للجبل، إذ لا يعيَّن شيخ عليها إلا بموافقته.
وكما كان للشّيخ الحمدانيّ سلطة تعيين الشّيوخ على القرى، وحقّ إسكان النازحين في أي مكان، كان بإمكانه أن يُرَحِّل من يشاء، إذ رحَّل العديد من الأسر، لكنّه عجز عن ترحيل القويّة منها كآل أبو فخر، مثلاً، الذين أبدوا مقاومة له. ولم يكن تغيير المكان بالأمر الصّعب، إذ يستطيع ربّ البيت أن يحمّل أمتعته على جمل أو حمار ويرحل مع أفراد عائلته. كما أن إيجاد البديل عن مكان السّكن كان سهلاً لكثرة البيوت المهجورة، ولكثرة القرى الخَرِبة الخالية أو شبه الخالية من السّكان. وتِبْعًا لذلك كان سكان القرى ينقصون أو يزيدون. فمدينة صلخد التاريخية –وهي ثالث مدينة في الجبل حاليُّا- كانت مأهولة في أواخر القرن الثامن عشر، وغدت في سنة 1810 خالية من السكان.
كان شيوخ القرى مرتبطين بالتّبعيّة بالشيخ الحمداني، يدفعون له الضّرائب المترتّبَة عليهم، ويدفع هو منها ما يترتّب للمتصرّف العثماني في حوران. كما كانوا يسيرون على رأس مقاتلي قريتهم للقتال معه عند الحاجة. وإذ تتسلسل أهميّتهم تبعًا لقوة عصبيّات عشائرهم، أو تبعًا لعددها أو قدمها في توطُّن الجبل، يبقى الشّيخ الحمداني الشّيخ الأكبر، أي شيخ المشايخ. وعلى هذا الأساس استقرَّ الحكم العشائري في جبل حوران زمن المشيخة الحمدانية حيث كانت أمور كلّ قرية تُبحَث في مجلسها من قبل شيخها وشيوخ عشائرها، فيما كانت الأمور العامّة تُبحث في مجالس شُورى تضمّ شيوخ القرى والعشائر وعلى رأسهم الشّيخ الحمداني.
كانت علاقة الشّيوخ الحمدانيين حسنة مع باشوات دمشق، وظلّت كذلك حتى أواخر الرّبع الأوّل من القرن التاسع عشر، إذ إنّ الدولة العثمانية كانت تحكم جبل حوران عن طريقهم، شأنه في ذلك شأن الكثير من الأطراف البعيدة عن المركز، مستغنية بذلك عن حكم عصبيته المذهبية الدّرزية بطريقة مباشرة، وبإرسال الموظّفين والجنود. وبفضل هذه العلاقة الحسنة، وطريقة الحكم غير المباشر، تمتّع الشّيوخ الحمدانيّون بالامتيازات والحقوق التّالية:
• الزّعامة الأولى في جبل حوران وما يتّصل بها كإعلان الحرب، وإجراء السلم، والدّعوة إلى الاجتماعات، وعقد الاتّفاقات، والتكلّم باسم الأهالي، وتعيين الوفود لمقابلة المسؤولين.
• حقّ تعيين الشّيوخ في القرى.
• جباية الضّرائب ودفع المطلوب منها للدّولة.
• قبول النّازحين الجدد.
• استضافة الغرباء.
• ترحيل المُقيمين وفق مبدأ ألّا يملك الفلاح إلّا باب بيته.
• أخذ ربع إنتاج الفلّاحين.
• السماح للبدو بالمرور في الجبل مقابل جزية تسمّى “القود”، وبالإقامة المؤقتة مقابل جزية تسمى “القلاط”، وبالإقامة الطويلة مقابل جزية تسمى “القُصْرَة”، وذلك كي يحقّ للبدو الاستفادة من مراعي الجبل ومياهه.
• أخذ رسم “الحوّاط” ورسم “الخُلْعة” أي ما يخلع على العريس، ورسم الزواج من المسيحيين.
• أخذ ضريبة المَنْزول (المضافة).
• أخذ شاة من كل قطيع يرعى في الحمى، وخُمس ما يولد من ذكور الأغنام والماعز.
• حقّ تسخير الفلاّحين.
جدول بأسماء اّل حمدان حتى سنة 1925
تميّز اَل الحمدان بأنهم لم يتكاثروا، بل ظلّوا قلائل خلال قرنين وربع. وفي ما يلي ثَبْتٌ بأسمائهم حتى سنة 1925 اعتماداً على حنّا أبي راشد الذي قام سنة 1925 بجولات ميدانيّة في جبل حَوران، المعروف اَنذاك باسم “ جبل الدروز” وسلسل أسماء اَل حمدان بدءاً بحمدان الحمدان، وبأخيه (خليل). إلّا أنه، في رأينا، لم يذكر جميع أسمائهم بدليل أنّه لم يذكر شبلي الحمدان الذي ذكره الرحّالة بركهاردت، وابن شبلي الذي ذكره الرحّالة بورتر، والأخوين حمد ومحمود وابن محمود (خطّار) الذين ذكرهم حيدر الشهابي، وسترد هذه الأسماء لاحقاً، وبدليل أنّ هناك العديد من الشّيوخ الحمدانيين غيرهم، ومنهم وهبي ابن شيخ السّويداء (حسين)، وخزاعي الحمدان وشيخ السويداء وهبي الذي كان معاصراً لشيخ عرى شبلي الحمدان ومنهم الشيخ سلامة حمّود والشيخ سليمان حمّود.
المشيخة الحمدانية في السّويداء
أثناء إقامته في نجران بالمقرن الغربي علم حمدان الحمدان أنّ إلى الجنوب الشرقي منها مدينة كبيرة دارسة اسمها السويداء، وأنّ الإقامة فيها أفضل من إقامته الحالية. ففضَّل الانتقال إليها تاركًا نجران لأخيه خليل. وأخذ السّويداء من عشيرتين كانتا تتناوبان المَشْيَخة فيها، هما عشيرة إسلامية من بني سويدان، وعشيرة مسيحيّة معروفة بدحدل.
إنّ السّويداء مدينة تاريخية قديمة، غنيّة بالآثار الّنبطية والرّومانية، لا يقلّ محيط خرائبها عن عشرة أميال، الأمر الذي وفّر للشّيخ الحمداني الإقامة في أحد دورها الكبيرة، ووفَّر للقادمين الكُثُر إليها بناء منازل من حجارتها ومن حجارة خرائب سيع القريبة منها. ومُناخ السّويداء جيد ومعتدل، وهي وسط الجبل، وعقدة المواصلات فيه، وكانت على طريق الحجّ سابقًا بدليل وجود بركة للمياه اسمها “بركة الحَجّ”، وحولها أراض واسعة وغنيّة. كلّ هذا وفَّر للسويداء عوامل النمو، فغدت أكبر بلدات الجبل، وقاعدته أو عاصمته، ومقرًّا للشيخ الحمداني.
تسلَّم مشيخة السويداء بعد حمدان الحمدان أبناؤه وأحفاده. ويذكر حنّا أبي راشد أنّ يوسف ـــ وهو حفيد خليل الحمدان الذي ورد ذكره عنده كأخ لحمدان الحمدان الأوّل بالتّعاهد- انتزع زعامة السّويداء من يحيى الحمدان، ورحَّله إلى عرى، وحين شبّ ولدا يحيى: هزاع وواكد استرجعا السّويداء، وظلّا زعيمَيّ عرى والسّويداء إلى أن انتزعهما منهما آل الأطرش6. وقد لجأ الشّيخ بشير جنبلاط وأخوه الشّيخ حسن إلى الشّيخ الحمداني في السّويداء عندما تركا الشّوف بعد أن قضيا على ابني عمّهما الشّيخ نجم جنبلاط، في نيسان 1793، وقد أمضيا في ضيافته في السّويداء مدة سبعة أشهر.
تخلَّى الأمير بشير الشّهابي الثاني عن الإمارة في سنة 1820، ولجأ مع حليفه الشّيخ بشير جنبلاط إلى جبل حوران، وبعد أن رضيَ عنه والي صيدا عبد الله باشا عاد إلى شفا عمرو في فِلِسطين فيما بقي أبناؤه والشّيخ بشير جنبلاط في ضيافة آل الحمدان. وقد وصف المؤرِّخ حيدر الشهابي إكرام الشّيوخ الحمدانيين للشّيخ بشير جنبلاط ولأبناء الأمير بشير ومرافقيهم، فقال: “وفي 2 رمضان 1236 [3 حزيران 1821م] رجعوا المراسيل من عند الأمير بشير يأمر أولاده وناسه بالتوجّه لعنده حالاً فساروا من قرية “الكفر” نهار الأحد في رمضان إلى نبع خراشي الذي شرقي قرية السويده [السويداء] وحضروا المشايخ بيت الحمدان لوداعهم. وقد كانوا المشايخ المذكورين في مدّة إقامة الأمير وناسه في جبل حوران أبدوا كل خدامة ومعروف في الزخاير والإكرام وقدَّموا كلما قدروا عليه. وهم أناس مشايخ دروز حوران. ولم يوجد أكرم منهم في تلك البلدان. وهؤلاء أصلهم من بلاد الدّروز من مقاطعة الغرب من قرية كفرا التي هي الآن خراب فحضر جدّهم حمدان لديار حوران واقتنى قرايا ومواشي. وتظاهر عند الدّول إلى أن حصلوا على هذه الحالة والذين هم موجودين الآن من أكابرهم المشايخ يوسف ويحيى وحمد وأخوه محمود والد خطَّار”7.
ويذكر المؤرِّخ حيدر الشهابي أيضًا لجوء آل الحمدان إلى جبل لبنان سنة 1244هـ= 1828/ 1829م، وإكرام الأمير بشير الشهابي لهم، فيقول: “وفي هذه السنة غضب صالح باشا والي الشام على بيت الحمدان مشايخ حوران وقبض على كبيرهم الشّيخ يوسف، وبعدما سلب ماله قتله. فنزحوا جميع أهله إلى جبل الشّوف فقبلهم الأمير بشير بكلّ إكرام وعَيَّن لهم الميرى وسكنوا في قرية نيحا وقدَّم لهم كلّما يحتاجوا وبقَوْا في حمايته إلى أن عُزِل صالح باشا وولِّي مكانه محمد باشا. فحرَّر إلى الأمير أن يأمرهم في الرجوع إلى أوطانهم وأن يكونوا متسلّمين كما كانوا. فقبل الأمير بشير سؤال الوزير ورجعوا بعدما أكرمهم الأمير في الخُلَع وهم ناشرين رايات الثّنا والحمد من الأمير بشير”8. وقد استقرَّ حسين بن يوسف شيخاً في رساس المجاورة للسويداء. وهنا يصحّ التّساؤل التالي: لماذا سكن اّل حمدان في نيحا ولم يسكنوا عند اّل حمدان في باتر المجاورة لنيحا؟. وفي رأينا أنّ هذا يعود إلى أنّ تاريخ سكنهم يتزامن مع تاريخ غضب الأمير بشير على اَل حمدان لنصرتِهم خصمه الشيخ بشير جنبلاط، ولربما شاء هذا الأمير ردّ الجميل لاَل الحمدان بإنفاقه عليهم.
حضر الرَّحَّالة الأوروبي بورتر إلى جبل حوران سنة 1852، وكتب سنة 1853 عن مشاهداته فيه، فقال: “إنه قابل إبن الشيخ شبلي الحمدان في عرى”. وذكر أربعة زعماء آخرين، وقال: “إنّ الحمدان ما زالت العائلة الأقدم وجاهة”. ووصف الشّيخ واكد الحمدان، شيخ السويداء، فقال: “يمتطي مُهرًا أبيض أنيقًا، ويرتدي عباءة قرمزية وعمامة بيضاء.. من أشرف عائلات حوران، مُعترف به كأعلى مرتبة شيوخ الدّروز. ولكن ليس من شجاعة كبيرة في ميدان القتال”9.
“بقيادة الحمدان تحوَّل جبل حوران من البداوة إلى الحضــــارة ومن منطقة مقفرة إلى منطقة عامرة وتبدّل اسمه إلى «جبل الدروز» بعد أن أصبحوا أكثرية سكــــانه”
المَشيخة الحمدانية في عرى
كان هناك عدة شيوخ من آل الحمدان في قرى الجبل، أبرزهم شيخ عرى الذي يُعتبر الزّعيم الثاني بعد الزّعيم الأوّل المُقيم في السويداء. وكان شبلي الحمدان شيخ عرى في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر. وقد وصفه الرحَّالة بركهاردت بأنّه ألطف وأكرم إنسان تعرَّف عليه في سورية، وأنّه شديد الشّغف بتوسيع معارفه وتعلَّم اللغات الأجنبيّة والاطِّلاع على عادات الأوروبيّين وأخلاقهم، كما أنّه جواد مضياف يطعم أكثر من 40 إنسانًا يوميًّا، بالإضافة إلى الأعراب الذين يمرُّون في طريقهم إلى مضارب البدو. وقد جذب بصفاته هذه، وبتسامحه، الفلّاحين إلى قريته بمن فيهم جميع أفراد الطّائفة المسيحيّة في السّويداء وعلى رأسهم خوري الرّوم حتى صارت عرى واحدة من أكثف قرى المنطقة، “بحيث بات يصحّ القول بأنّه الزعيم الدرزي لحَوران [جبل حوران] مع أنّ هذا اللقب يُطلق على حميّه حسين بن حمدان شيخ السّويداء”10.
كان الشيخ شبلي الحمدان كريماً كمن سبقه ومن أعقبه من الحمدانيّين الذين وصفوا بالجود، وإنّ هذه الصفات التي تمتّع بها، وخصوصاً تسامحه مع الفلاّحين والمسيحيّين، إضافة الى كرمه وحسن ضيافته، ورغبته في التثقّف، هي إحدى الصفحات المضيئة من تاريخ الحمدانيين، الذين تمادى البعض عند الكتابة عنهم، في الحديث عن ظلمهم للفلّاحين.
تقدَّمت في عهد شبلي الحمدان القوّات الوهَّابيّة إلى بلاد الشام، ووصلت طلائعها إلى سهل حوران وتجاوزته إلى جبل حوران في تموز 1810، فبلغت قريتي صَبحة وصُبحيّة اللّتين كانتا خربتين من خرائب الجبل، ضُمّتا فيما بعد إلى شرق الأردن عند تخطيط الحدود بين منطقتي الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي، وقد جرت فيهما الموقعة الأولى مع القوّات الوهّابية، ثم جرت موقعة أخرى معها في عرى حيث هُزمت وارتدّت. وقد رأى الرحَّالة بركهاردت آثار القتال مع الوهّابيين في حقل محروق لا يزال حتى اليوم يعرف عند أهالي عرى بـ “كرم المْوَهّب” نسبة إلى الوهابيين، وقد غنم شبلي فرس وبندقيّة القائد الوهابي الذي قتله.
في الثورة على إبراهيم باشا
أرسل محمد علي باشا، والي مصر، ابنه ابراهيم على رأس ثلاثين ألف جندي لاحتلال بلاد الشام التي طمع بالسيطرة عليها وانتزاعها من السلطان العثماني محمود الثاني. وبعد احتلال ابراهيم باشا لها تقرَّب من السكّان، وأصلح النّظام الضرائبي، وأضعف الإقطاع، وأنشأ مجالس المَشورة لإدارة المدن، ووضع الأنظمة الحديثة، وحقَّق المساواة بين النّاس أمام النّظام، وألغى تمييز المسلمين عن النّصارى. فبدا الحكم المِصري في بدايته أفضل من الحكم العثماني في أعين النّاس.
لكنَّ ابراهيم باشا ما لبث أن عدَّل في سياسته، فاتّخذ، بضغط من الحاجة، ومن ضرورات الاستعداد والتجهُّز لمتابعة القتال ضدّ الدولة العثمانية، مجموعة من الإجراءات والتّدابير التي ضايقت الناس ونفَّرتهم من الحكم المصري ودفعتهم إلى الثّورة عليه، هي زيادة الضرائب، وإحتكار بعض السلع، والسخرة، ونزع السلاح، والتشدُّد في تنففيذ التجنيد الإلزامي. فقامت بوجهه الثّورات في طرابلس وعكار ومنطقة العلويّين وجبل نابلس والخليل، وفي صفد التي أدت ثورتها إلى نزوح أكثر من خمسمائة عائلة درزية منها إلى جبل حوران. وقد استطاع ابراهيم باشا إخماد هذه الثّورات، وتجنيد السكّان بالقوة بمن فيهم دروز جبل لبنان الذين، بعد أن رفضوا ذلك وفرَّ بعضهم إلى جبل حوران، قبلوا بتجنيد 450 شابًّا بدلاً من 1500 شابّ طلبهم في البداية، لكنّهم اشترطوا بأن يكونوا في فرق خاصة بهم.
وبعد أن أعفى ابراهيم باشا دروز جبل حوران من التّجنيد الإلزامي في سنة 1834، عاد وطلب من شريف باشا حكمدار الشام تنفيذ ذلك. فاستدعى شريف باشا شيوخهم إلى دمشق، فنزلوا اليها وعلى رأسهم الشيخ يحيى الحمدان. وحين طلب منهم تقديم 150 شابًّا للخدمة الإلزامية، أجابه الشّيخ يحيى الحمدان أنه لا يمكن للدّروز أن يقدِّموا شبابًا لأنّهم على تخوم البادية، وبحاجة إلى الرجال ليدافعوا عن قراهم ومزروعاتهم ضد تعديات البدو، وأنّه يمكنهم تقديم ضرائب إضافية عن مائتي فدان إذا أُعفي الجبل من التجنيد الإلزامي11. وعندما ألحَّ الشّيخ يحيى في رجائه إعفاء الدّروز من التّجنيد، غضب شريف باشا وتقدَّم منه وصفعه، وأمره بتنفيذ التّجنيد خلال عشرة أيام. وقد جاء في مخطوطة بعنوان “قصّة اللّجاه” كتبها في سنة 1842 الرئيس الروحي للموحِّدين(الدّروز) في جبل حوران، الشّيخ حسين ابراهيم الهجري، ما يلي:
“فجعل المشايخ يبدون الرّجاء لشريف باشا إعفاءهم عن ذلك، فلم يزداد عليهم سوى حَتمًا وجبرًا وتشديدًا، وجعل يبدي لهم الغيظ والكظم والتهديد، فلجَّ بالرّجاء من أجل هذا الشّأن من أخذته الغَيْرة على العيال والولدان الشيخ يحيى الحمدان طمعًا بقبول الرّجاء، فعند ذلك مشى الوزير بنفسه إليه وقيل إنه صفقه بيده على خدِّه وغضب غضبًا شديدًا عليه12”.
كان دروز جبل حوران يؤمِّنون حمايةً لمنطقتهم تعجز عنها الدولة ويريحون الجيش المِصري من تأمينها، كما أنّ تجنيد 150 شابًّا منهم لن يزيد في قوة الجيش المصري في بلاد الشام، ومع هذا أصرَّ ابراهيم باشا ونائبه في الشّام شريف باشا على ذلك، لا لكسب هذا العدد القليل جدًّا، وإنما للتّمهيد للسيطرة على الجبل وعلى اللّجاه اللّذين أصبحا ملجأً للفارّين والعاصين، يهدِّدون منهما أمن منطقة حوران، وكانا يريدان كسر شوكة الدروز الذين يظهرون آنذاك استثناءً عن محيطهم، وقد تمظهر ذلك بدايةً في إهانة شريف باشا للشّيخ يحيى الحمدان.
عاد الشّيخ يحيى الحمدان ومرافقوه إلى الجبل، واجتمعوا في السّويداء مع سائر الشّيوخ، وتباحثوا في إساءة بالغة لهم ولجميع الدروز ممثَّلةٍ بإهانة شيخهم الأكبر، وفي طلب صعب التحقيق. لقد وُضِعوا أمام أمرين مُرَّين: إمّا إفراغ جبلهم من عدد كبير من شبابهم، وهذا يجعله مكشوفًا أمام غَزَوات البدو، والعيث بالأملاك والمزروعات، والتعدِّي على العيال، وإمّا الثورة وما فيها من صعوبات وخسائر، لأنّهم قلَّة وجيوش ابراهيم باشا كبيرة وقوية، هَزمت الوهابيين واليونانيّين والجيوش العثمانية، وأخضعت كلّ الثّورات في بلاد الشّام. وكان اتخاذ أيِّ قرار بشأن هذين الأمرين صعبًا أمام الشّيخ يحيى الحمدان وسائر الشّيوخ، لذا قرَّروا مشورة الرئيس الرّوحي الشّيخ إبراهيم الهجري، فذهب إليه بعضهم، ودخل عليه الشّيخ حسين أبو عسَّاف شاكي السلاح –وكان في المسجد (المجلس) يتعبَّد- فقال له: “فزت يا أبو عسَّاف دخلت الجنة بسيفك ورمحك”. وكان هذا موافقة منه على ثورة يعتبرها حربًا مقدَّسة؛ وهو القائل: “ما لابراهيم إلا ابراهيم”.
قرَّر دروز جبل حوران الثّورة والهجيج، وكان هذا في كانون الأول 1837. والهجيج هو انتقال الجميع: رجالاً ونساءً وشيوخًا وأطفالاً، مع المواشي إلى مكان آمن. وآمَنُ الأمكنة بالنّسبة إليهم كانت اللجاه أو الوعرة التي تحميهم بكثرة صخورها البركانية ومغاورها، ووعورة مسالكها التي يعرفونها ويجهلها الغرباء. وبدأوا الثورة بمهاجمة القائد علي آغا البصيلي في الثعلة، وكان قد جاء ليباشر بجمع الشّباب وسوقهم إلى الجندية، فأبادوا حملته. وتتالت بعدها الحملات المصرية عليهم، وتتالت وقائعهم معها فبلغت 60 موقعة، أو بحسب مصطلحاتهم، 60 شرًّا أو يومًا أو كونًا، سمّوا بعضها ذبحة كذبحة البصيلي. وقد انتصروا في أكثرها مع أنهم ما كانوا يزيدون عن ألفي رجل، حتى إن لفظة “ درزي” باتت تثير الجزع والخوف في قلوب المصريين لما لاقوه من الأهوال في مواقع اللّجاه مع الدروز. ولا مجال هنا للتكلُّم عن تلك الحملات والوقائع التي تحدّثنا عنها إذ تحدّث عنها الكثيرون13. وإنما هناك ضرورة للتحدُّث عن أبرز الحملات والمراحل، وعن دور الشّيخ يحيى الحمدان.
بعد إبادة الحملة المصرية الأولى أرسل شريف باشا حملة ثانية بقيادة محمد باشا مفتش الجيش المصري، وعددها ثمانية آلاف جندي، وفي المراجع الدّرزية إثنا عشر ألف جندي مزوَّدين بالمدافع التي تعامل معها دروز حوران لأوّل مرة وغنموها وتمكّنوا من سحق تلك الحملة.
إزاء هذا قاد شريف باشا بنفسه حملة ثالثة عددها عشرون ألف جنديّ وفي المراجع الدرزية أكثر من ذلك، لأنها تألّفت من معظم القوات المصرية في بلاد الشام، إضافة إلى جيش يقوده وزير الحربية أحمد منيكلي باشا. لكن الثوَّار هزموها فتشتَّت الناجون منها في مجاهل اللّجاه.
كان يحيى الحمدان، بصفته شيخ مشايخ جبل حوران، القائد الأوّل للثوار، إلا أنّه لم يكن في المواقع الحربية أبرز من بعض القادة المقاتلين الشجعان، وبعض حمَّالي البيارق الذين يصبحون القادة الفعليين في المعارك، لأنّ القتال يتركَّز حول البيرق، وإنّ الدروز الذين يقدِّمون أعيانهم عليهم في المجالس والمضافات كثيرًا ما يتقدمونهم في المعارك، ويبزُّونهم في الشّجاعة والبطولة. ولقد برز لقب “سبع اللجاه” وغيره على العديد من الفرسان، وبرز من الأبطال إبراهيم الأطرش الذي قُتل في إحدى المواقع، وابن أخيه اسماعيل الأطرش، وحسين أبو عسَّاف، وحسين درويش، وقسَّام الحنَّاوي. وكان الشّيخ يحيى الحمدان على رأس مجالس الشورى التي تُعقد للنّظر في كيفية التصدِّي للحملات الزاحفة، وكيفيّة تحرّك هجيج الدروز وتنقُّلهم في اللّجاه، وكيفيّة توسيع نطاق الثّورة للتخفيف من الضّغط على الثوَّار المعتصمين باللّجاه. وبرز إلى جانبه الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري. ومن محاولات توسيع نطاق الثّورة الطّلب من شبلي آغا العريان إيقادها في سفحي جبل حرمون: الشّرقي والغربي.
بعد أن هزم الثوّار الحملة الثّانية أرسل الشّيخ يحيى الحمدان رسائل إلى بعض أعيان دمشق وغوطتها يستحثّهم على الثورة، ومنها رسالة إلى كلّ من الأعيان الآتية أسماؤهم: شيخ ومفتي قرية الهِيجَانة إحدى قرى المرج، وشمدين آغا أكبر أعيان أكراد دمشق، وأبو السّعود أفندي، وعمر آغا البوزلي من أهالي حي الميدان، وعبد المحسن أحد عساكر الجهادية الفارّين من الجيش المصري. وهذا ملخّص الرّسائل، وهو أن الدروز شتَّتوا العساكر المرسلة إليهم فلم يبقَ منها إلا القليل، وأنهم غنموا المدافع والجبخانة والذخيرة، وأنّهم لا يحتاجون إلى مساعدة، بل هم مستعدُّون لمساعدة أهل الغوطة ودمشق إذا هبُّوا إلى الثورة، ليطردوا المصريين من دمشق “ولينقذ الله جمع الإسلام من قوم أهل ضلال”، وأنّهم، أي الدروز، “يضربون بسيف الله والسلطان فيما غيرهم ماتت المروءة فيه”14.
لكن حكمدار الشام شريف باشا تمكّن من منع قيام الثورة في دمشق وغوطتها بأساليب الشدّة والقمع التي بلغت حد إعدام كل يوم أو كل يومين ثلاثة من الدّروز لإرهاب الناس كما يقول معاصر لذلك.
حين علم إبراهيم باشا بهزيمة الحملة الثّالثة حضر بنفسه إلى جبل حوران، ومعه معظم قواته، وأمدَّه والده محمد علي باشا بنجدات كبيرة، فبلغ مجموع حملته عشرين ألف جنديّ فيهم خيرة القادة والضّباط والجنود، وفيهم القائد سيف المعروف بسليمان باشا الفرنساوي. أحاط إبراهيم باشا باللجاه من كل الجهات، وضيَّق الحصار على الثوّار المحاصرين فيها، وسمَّم ينابيع المياه، وبركها التي تسمَّى الواحدة منها “المصنع” وفي تعابير أهل جبل حوران “المطخ”، لكي يضايق الثوار ويميتهم عطشًا إن لم يستسلموا. وبفضل هذا الأسلوب غير الإنساني وغير الأخلاقي، الذي عارضه ناظر الصحة في جيشه كلوت باشا، استطاع أن يجبر الثوار على القبول بالصّلح والتسوية، بعد أن تمكّن من إخضاع الثورة التي قام بها شبلي آغا العريان في جهات وادي التّيم، وشارك فيها دروز جبل لبنان بقيادة الشيخ حسن جنبلاط والشّيخ ناصر الدين العماد.
كان إبراهيم باشا مضطرًّا لترك دروز حوران وشأنهم والعودة إلى شمال سورية لمواجهة الجيوش التي أعادت الدولة العثمانية تجهيزها. وكان دروز حوران مضطرّين لوقف القتال لعدم قدرتهم على مواصلته بعد خسائرهم البشرية والمادية، وبعد أن أصبحوا وحيدين في معركة غير متكافئة. وتوصّل الفريقان إلى تسوية تقضي بخضوع الدروز التام للحكم المصري، وتسليمهم 700 بندقيّة من سلاحهم و2000 بندقية مما استولوا عليه من أسلحة الجيش المصري، مقابل إعفائهم من التجنيد الإلزامي والسخرة، والسماح لهم بحمل السلاح. وهم يعيبون على إبراهيم باشا تسميمه المياه من أجل إخضاعهم، لكنهم يذكرون مأثرته بعدم السماح لأي جندي بالاعتداء على النّساء.
“كان الشيخ شبلي الحمدان كريماً متسامحا مع الفلاّحين ومع المسيحيّين وكان حسنُ الضيافة راغباً في التثقف فسطّر إحدى الصفحات المضيئة من تاريخ الحمدانيين”
أسباب نهاية المشيخة الحمدانية
عاشت زعامة الحمدان في جبل حوران أكثر من قرن ونصف، وكانوا في البداية حكَّامه، وشيوخ مشايخ عشائره. لكنهم مع الزّمن وجدوا أنفسهم أمام عشائر كثيرة، تزداد أعدادها بفضل النزوحات الفرديّة والجماعيّة المتتابعة، وأكبرها بعد سنة 1711، ونزوح عائلات كثيرة من الجبل الأعلى في سنة 1811 على إثر نزاعهم مع جيرانهم، ونزوح عائلات كثيرة من جبل لبنان على إثر انتصار الأمير بشير الشّهابي على الشيخ بشير جنبلاط سنة 1825، ونزوح أكثر من خمسمائة عائلة من صفد إبّان الثورة فيها على إبراهيم باشا. وكانت من بين هذه العشائر، التي تكاثرت أعدادها في الجبل، عشائر ذات نفوذ في الماضي، مثل آل الأطرش وآل عز الدّين وغيرهم، فيما لم يتكاثر آل الحمدان، بل ظلُّوا قليلي العدد لا يستطيعون تأمين الشّيوخ على القرى إلا لأقل من عشرة.
وبهذا أصبح شيوخ عشرات القرى من العشائر الوافدة التي عمدت إلى تقوية وضعها بالتّحالف فيما بينها، والتي كان منها قادة أبطال مثل الشيخ إسماعيل الأطرش والشيخ حسين أبو عساف والشيخ حسين درويش، وهؤلاء برزوا في معارك اللجاه، كما برز غيرهم فيها وفي مجابهة حملة السّاري عسكر سنة 1852، التي انتصر فيها الدروز انتصارًا باهرًا على تلك الحملة وغنموا المدافع والأسلحة، في الوقت الذي لم يشترك الحمدان في الهجوم عليها، كما لم يسجِّل لهم أي دور قيادي للدروز في معاركهم بعد ذلك.
ومع ازدياد عدد النازحين إلى الجبل، وتكاثر المقيمين القدامى فيه، ازداد عدد “الفَلتيّة” وهم الذين لا يملكون أرضًا، ويعملون بالأجرة أو مرابعين، وتوسَّعت دائرة الصّراع الطبقي وازدادت حدّته بين مشايخ يملكون النّسبة الكبيرة من الأراضي، وهم مُعفَوْن من الضّرائب، ويأخذون الضّرائب من الفلّاحين، وبين عامّة الناس (العاميّة) الذين يتطلَّعون إلى التّغيير وإلى تحسين أوضاعهم، ويرفضون الواقع المعاش. ففيما دار الصراع بين دروز جبل لبنان على أساس الغَرضية القيسيّة واليمنيّة، تم الغرضيّة الجنبلاطيّة واليزبكيّة، دار الصراع بين دروز جبل حوران على أساس طبقي وعشائري.
ومقابل شعور “العاميّة” بالغبن وتكتّلهم، وترافق ذلك مع رغبة شيوخ العصبيّات القويّة بالمزيد من النّفوذ، لم يكن المشايخ الحمدانيّون موحَّدين، بل كانوا منقسمين على أساس الفرعين الرّئيسين وهما فرع حمدان الحمدان وفرع أخيه بالتعاهد خليل، وكانت عندهم ثنائيّة الزّعامة وازدواجيتها المتمثَّلة بالزّعامة الأولى في السويداء التي هي المقرّ الأساس، والزّعامة الثانية في عرى. كما كانوا متفرِّقين يكيد بعضهم لبعض، ويعمل شيوخ عرى على أخذ مكان شيوخ السويداء من أجل تسلّم الزعامة الأولى. وهذا ما قام به شيخ عرى يوسف الحمدن من فرع خليل الحمدان الذي أجبر شيخ السويداء يحيى الحمدان من فرع حمدان الحمدان على الانتقال إلى عرى، و حلّ هو مكانه، وهذا ما قام به أيضاً شيخ عرى واكد يحيى الحمدان الذي استعاد السّويداء من الشيخ حسين ابن يوسف الحمدان، وحلّ مكانه فيها. يضاف إلى ذلك وقوف بعض آل الحمدان المصاهرين لآل الأطرش إلى جانب آل الأطرش في صراعهم مع آل الحمدان الآخرين وذلك للوصول إلى زعامة عرى.
إضافة إلى هذه العوامل التي أضعفت الحمدانيين جاءت سياستهم إزاء الفلاَّحين، وبعض شيوخ العشائر، تزيد من النقمة عليهم، وتؤلِّب المزيد من العشائر ضدهم، ذلك أن بعضهم تمادَوْا في ظلم الفلاحين وتسخيرهم، وفرض الضّرائب عليهم، وترحيلهم، والاقتصاص من معارضيهم، واللّجوء في بعض الحالات إلى الشنق في قنطرة من بناء أثري قديم، سُمِّيت لهذا السبب بـ “المشنقة”، وسُمّي الحي الذي تقوم فيه بالسويداء “حيّ المشنقة”. ولقد حاول الشّيخ الحمدانيّ شنق ظاهر عامر الذي حال بينه وبين زواج فتاة لم ترتضيه، لكنّ الدّروز الذين دعاهم إلى الاجتماع في هذه المناسبة منعوه من تنفيذ حكمه الجائر.
كان المشايخ الحمدانيون يستمدُّون، خلال تولّيهم المشيخة، السّلطة والهيبة من رضى الوالي العثماني ومن متصرّف حوران، لكنهم فقدوا جزءًا منهما في سنة 1828 عندما غضب والي دمشق عليهم وقتل أحد شيوخ السويداء الشّيخ يوسف الحمدان. كما فقدوا أيضًا الغطاء المعنوي الدّيني بنزاع شيخ السويداء واكد الحمدان مع الرّئيس الرّوحي الشّيخ إبراهيم الهجري، الذي تطلَّع الفلّاحون إليه لوقوفه إلى جانبهم، وكانوا يتجاوزون الشّيخ الحمدانيّ في سلوكهم الطّريق إلى مقرّ الشيخ الهجري في قنوات، ما أغاظ الشّيخ الحمدانيّ، فهدَّد وتوعَّد مقسمًا على إهانة “هذا الشّوفاني”، أي الشّيخ إبراهيم القادم من الشّوف، إذا لم يلزم حدّه. ومع أنّه لم ينفِّذ ما توعَّد به، فقد خَطَّأته والدته لتجرُّؤئه على هذا الشيخ الجليل الذي يُطلب رضاه وبركته، وأنذرته بقرب زوال سعده. وهكذا كان إذ لم يَطُل الأمر بعد ذلك حتى انتهت المشيخة الحمدانيّة على يد الطّرشان.
نهاية المشيخة الحمدانية في عرى
فيما كانت الزّعامة الحمدانية تشيخ وتضعف، ودوحتهم تذبل، كانت زعامة شابّة تنشأ بشخص الشّيخ إسماعيل الأطرش الذي وصفه الرحّالة بورتر قائلاً: “إنه الأشجع، يتحدَّر من عرق شجاع، فهو يتفوَّق على كثير من الزّعماء الآخرين في شجاعته وبراعة شخصيته. بهذا حصل على نفوذ وتأثير كبيرين، ليس عن طريق مكانة إجتماعية أو ثروة، وليس عن نسب قديم وشريف، بل كمقاتل استطاع بسيفه أن يشقّ طريقه نحو الزعامة”15. وقد أقدم اسماعيل الأطرش حيث أحجم الحمدان في مجالات عدّة، منها نصرة تاجر من دروز لبنان وتحصيل حقِّه من بدو في سهل حوران، ونصرة دروز لبنان في الفتنة الطائفية التي نشبت سنة 1860. وهذا، إضافة إلى شجاعته وقوّة شخصيته، جعل أبناء مجتمع يمجِّد الفروسية، ويزعِّم الأبطال، يتجهون إليه. ثم إنّه زاد من مؤيّديه بالتّحالف مع آل القلعاني وآل عزّام، وبالتّحالف والتصاهر مع آل الحجلي وآل الحنَّاوي.
قال ابن خلدون في مُقدَّمة تاريخه: “ولا بدّ في الرّئاسة على القوم أن تكون من عصبيّة غالبة لعصبيّاتهم واحدة واحدة، لأنّ كلّ عصبيّة منهم، إذا أحسَّت بغلبة عصبيّة الرئيس لهم، أقرُّوا بالإذعان والإتباع”16. فلم تعد عصبية آل الحمدان هي الغالبة بل نافستها عصبيّة آل الأطرش ثم تفوَّقت عليها، وغدت هي العصبيّة الغالبة وفق مبدأ ابن خلدون.
كان الصّراع يشتدّ في الخفاء بين اسماعيل الأطرش وآل الحمدان، وينتظر سببًا مباشرًا، ولو بسيطًا، لينفجر، فجاء هذا السبب سنة 1859 حين أرسل شيخ السّويداء، واكد الحمدان،ومنهم من يقول شيخ عرى هزّاع الحمدان، بائع أمواس للحلاقة إلى اسماعيل الأطرش في القريَّا، من قبيل الهزء به والاستخفاف بشأنه. وحين وصل البائع إلى دار اسماعيل وعلم اسماعيل أنه مُرسَل من الشّيخ الحمداني فسَّر ذلك أنّه رسالة فيها إهانة وتهديد له ولأسرته بالقتل. فاستدعى أنصاره وأعلمهم بالأمر، وسار على رأسهم إلى مكان الزّعامة الحمدانيّة الأقرب، وهو عرى حيث طرد الشّيخ هزَّاع الحمدان منها بدون إراقة دماء.
بات هناك زعامتان في الجبل: زعامة الشّيخ واكد الحمدان في السّويداء، وهي الأهمّ والأقوى على الصّعيد الرسمي، وزعامة الشّيخ اسماعيل الأطرش في عرى، وهي زعامة ناشئة باتت الأقوى على صعيد الوقائع، وعلى الصّعيد الدّرزي خصوصاً. لكن الشّيخ الحمدانيّ قدَّم لوالي دمشق مبلغًا كبيرًا من المال اشترى به موافقته على التخلُّص من الشّيخ اسماعيل الأطرش، فكتب الوالي إلى قائمّقام بصرى أن يسمِّم لاسماعيل، فدسَّ له السّم في فنجان قهوة، ما أدَّى إلى وفاته بعد أسبوع. لكنّ ابنه إبراهيم ورث الزّعامة الطّرشانية بعده، وأكمل ما بدأه.
نهاية المشيخة الحمدانيّة في السّويداء
إن الأسباب التي أدَّت إلى نهاية المشيخة الحمدانيّة في عرى هي في معظمها من الأسباب التي ستؤدِّي إلى نهاية أختها في السويداء، ذلك أنّ واكد الحمدان الذي استطاع أن يزيح بالرّشوة أكبر خصومه وأخطرهم، اسماعيل الأطرش، فشل في تلبية مطالب الفلاَّحين الذين تكاثرت أعدادهم في جهات الجبل بما في ذلك السّويداء التي رحَّل منها واكد الحمدان اَل جربوع إلى أم الرمّان، فوقف هؤلاء ضدّه.
تكتل الفلاَّحون الناقمون على الحمدان، وانضوَوْا تحت لواء قادة منهم ومن مشايخ العشائر المتنفّذة، وقدَّموا إلى الشيخ واكد الحمدان المطالب التالية: “عدم تسخير الفلّاحين وترحيلهم من قراهم- السّماح للفًلتيّة [الذين لا يملكون أرضًا بامتلاك الأرض ولأهل السّويداء بتحويل الأراضي المشاع إلى أراض زراعيّة- دفع الضرائب المتأخرة للدّولة العثمانية من أموال القلاط وهي الضريبة المفروضة على البدو الذين يؤمّون الجبل- عدم أخذ ضرائب تعسّفية من الفلّاحين”17.
لم يكترث واكد الحمدان لمطالب الفلّاحين فزادت معارضتهم له، فاتّجهوا نحو إبراهيم الأطرش الذي تبنَّى مطالبهم، واتّخذ منهم وسيلة لتحقيق طموحه الشّخصي، وهو القضاء على المشيخة الحمدانيّة في السّويداء، وتزعّم الجبل، فسار بهم وبأنصاره نحو السّويداء عام 1869، وما إن وصلت البيارق إلى الكوم الواقعة جنوبها حتى كان الحمدانيّون قد غادروها إلى ولغا بعد أن رأوا كثرة الجموع الزّاحفة إليهم، ولمسوا عدم مقدرتهم على مواجهتها ومواجهة خصومهم في السّويداء نفسها، لقلّة عددهم كأسرة ولقلة مناصريهم من الأسر الأخرى كاَل عزّي وبضع أسر صغيرة غيرهم وهذا يثبت كثرة أعداء الحمدان في المرحلة الأخيرة من عهدهم، كما يثبت وصف بورتر لواكد الحمدان حين قال عنه “إنّ لا شجاعة عنده في القتال”، إذ إنّه تخلَّى بسهولة عن السّويداء حتى أنه تركها بسرعة مع أقربائه دون أن يتمكّنوا من أخذ مقتنياتهم وأموالهم، لكنّ المنتصرين أرسلوا لهم قسمًا منها إشفاقًا عليهم، وإظهارًا للوفاء لهم لما قدّمه أسلافهم للجبل، وتقديرًا لتوفيرهم الدّماء ولتركهم السّويداء بدون مقاومة وبهذا رُحِّلوا بعد أن كانوا هم يُرحِّلون.
“أهان الحاكم المصري شيخ الحمدانيين فاندلعت ثورة أباد الدروز خلالها ثلاث حملات كبرى للمصريين وشتتوا شملها فاضــطر ابراهيم باشا لقيادة جيش جرار بنفسـه لإخماد الثورة”
لم يتحمّل واكد الحمدان الصدمة إذ لم تمضِ أيام قلائل على تركه السّويداء حتى توفِّي فجأة في ولغا تم تبعه أخوه هزَّاع، وولده إسماعيل خلال أسبوع واحد، ودُفنوا جميعًا بالقرب من زيتونة لا تزال حتى اليوم منتصبة أمام مضافة داود أبو عسَّاف18.
انتقل آل الحمدان من ولغا إلى بصرى الحرير في سهل حوران، وبعدوا عن قومهم وأصبحوا عرضةً للتعدِّيات والمضايقات. فطلبوا من صهرهم شيخ شهباء، أبي طلال وهبه عامر، النّظر في أمرهم، فدعا إلى اجتماع في شهبا حيث قرَّر المجتمعون إعادتهم إلى الجبل. ووافق الشّيخ ابراهيم الأطرش على ذلك شرط ألّا يجتمعوا في مكان واحد، وأن يوزَّعوا في أكثر من قرية. وبناءً على ذلك عادوا إلى الجبل وتوزَّعوا في سليم وشهبا والعفينة وكناكر. وبناءً على الاتّفاق المعقود قبل الزّحف إلى السويداء وطرد اَل الحمدان منها، أخذ اّل الأطرش وأبناء عمّهم ما كان فيها لاّل الحمدان المطرودين، أي ربع الأراضي، فأخذ إبراهيم الأطرش وسط دار الحمدان، وأخذ اّل المعّاز الجانب الجنوبي، واّل العبّاس الجانب الشمالي. واستقرّ إبراهيم في السويداء وله زعامتها، فيما استقرّ أخوه شبلي في عرى، وله زعامتها وربع أراضيها. وأصبح الطرشان شيوخ مشايخ الجبل، ولهم المرتبة الأولى، يليهم آل عامر فآل هنيدي فآل عز الدّين فآل نصّار فآل مرشد، وغيرهم من العشائر التي تتسلسل في الأهمية، لكنّ العامة سيثورون عليهم بعد عشرين سنة، اي سنة 1889 للمطالبة بحقوقهم، كما ثاروا من قبل على الحمدان، وسيتجدّد الصراع الاجتماعي السّياسي في سنة 1947 باسم نزاع الشّعبية والطّرشان.
إنتهى دور آل الحمدان في سنة 1869 على صعيد مشيخة السّويداء التي هي قاعدة جبل حوران، لكنه بقي لهم دور في التّنظيم الإداري الذي أحدثه العثمانيّون بجعلهم الجبل قضاء، وإحداثهم مجلسًا فيه للإدارة والدعاوى، يرأسه قائمّقام، وفيه أعضاء منتخبون من كبار مشايخ العائلات المتنفِّذة، فكان الرئيس الروحي الشّيخ حسين ابراهيم الهجري الشّخصية الثّانية بعد القائمّقام، يليه الرئيس الروحي الشيخ أبو علي قسَّام الحنَّاوي فالشيخ يحيى واكد الحمدان الذي استمرَّ في مجلس إدارة القضاء حتى سنة 191877
وإضافة إلى هذا الدور الإداري المحدود الذي انتهى سنة 1877، حاول الحمدان استعادة دورهم القياديّ، فأبلوا بلاءً حسنًا في موقعة قرّاصة ضد الحملة العثمانيّة التي قدمت سنة 1878 إلى الجبل بقيادة جميل باشا، بينما تراخى إبراهيم الأطرش في ذلك، فلامه أحد أبناء السّويداء، وهدَّده قائلاً: “إنّ صاحب السّويداء سيعود إليها”. ويبدو أنّه كان في نيّة آل الحمدان المقيمين في سليم الانتقال إلى السّويداء “وقد اعتزم أحدهم العودة إليها لولا أن فاجأته المنية، ثم أراد أخوه بعد وفاته أن ينتقل إليها، ولكن المنيّة أيضًا فاجأته قبل أن يحقِّق رغبته. وهكذا لم يتمكّن الحمدانيون من استعادة زعامتهم المفقودة”20.
ناصر شبلي الأطرش العاميّة في ثورتهم على الطّرشان سنتي 1889 و 1890، على أمل أن يتسلّم بفضل ذلك زعامة الجبل مكان أخيه ابراهيم. لكنّه تحوّل عن نصرتهم لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. وكان من أطروحات هؤلاء إحلال سعيد بن يحيى بن واكد الحمدان مكان ابراهيم الأطرش.
ظلَّ هناك من يأسف على سقوط آل الحمدان من أبناء حوران جبلاً وسهلاً. ومن هؤلاء الشاعر الحوراني المشهور أحمد العليّان الذي دعا على السّويداء بالخراب والحرق لأنّها رضيت بعزل آل الحمدان الذين كانوا أسياد الجبل، وقيام مشيخة الطّرشان مكانهم، وبعض هؤلاء كانوا رعاة ماعز، لا يزالون إلى اليوم يحملون شهرة “المعَّاز” وهذا ما قاله أحمد العليّان:
يبلاك يا دار السّويدا بطوب يهدّك ويصبغ حنوتك21 بنيل وجــــــــــــــــــــــاز
عـــــــــزلت ابن حمــــــــــــــــــدان قـــــــــدوة بلادنا غاب الملك وتنصّب المعَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاز
زرنا في سنة 1982 آل الحمدان المقيمين في شهباء، في إطار جولاتنا الميدانيّة التي كانت آنذاك لجمع المعلومات عن بحثنا الذي أصدرناه في سنة 1985 بعنوان “جبل العرب”، فوجدناهم يجهلون تفاصيل ما جرى لأسلافهم في الثّلث الثاني من القرن التاسع عشر، ولا يعلمون إلا القليل من المدوّن عن تاريخهم في جبل حوران. أما المحامي حازم الحمدان من قرية كناكر، وهو ابن يحيى بن عسّاف بن مصطفى بن هزّاع بن يحيى (قائد الثورة على إبراهيم باشا) فقد أرسل إلينا إبّان إعدادنا هذه المقالة رسالة تتضمّن في ما تتضمّنه الأمرين التاليين:
أولاً: أسماء الأكثريّة السّاحقة من أبناء آل الحمدان منذ نزوحهم إلى جبل حوران حتى اليوم ووجود فروع من اَل الحمدان خارج جبل العرب، نشأت بعد انتقال الحمدانيين منه في فترة انتقال المشيخة منهم إلى اّل الأطرش، فلقد نزح قاسم وشعلان وعلي الحمدان إلى جهات حمص وحماه، ومن أبنائهم وأحفادهم تكوّنت الفروع التالية:
1. اّل حمدان في الرستن التابعة لمحافظة حمص.
2. اّل الشيخ في بلدة صوران في منطقة حماه.
3. اّل رزّوق في بلدة صوران في منطقة حماه.
ثانياً: وجهة نظر اَل الحمدان في بعض مجريات الأمور، نوردها كما هي دون مناقشتها، مكتفين فقط بالإشارة إلى انفرادهم بها، وإلى مخالفتها للشائع والمتداول، ومفادها نفي صحّة روايات ثلاث ورد ذكرها سابقاً، هي رواية شنق الشيخ الحمداني لبعض الفلّاحين في القنطرة الأثرية القديمة المعروفة باسم المشنقة، ورواية نزاع الشّيخ الحمداني مع الشّيخ إبراهيم الهجري، ورواية بائع أمواس الحلاقة الذي أرسله الشيخ الحمداني إلى إسماعيل الأطرش. فهذه الرّوايات هي، في رأي المحامي حازم الحمدان نقلاً عن السّلف، من أساليب الدّعاية التي اعتمدها الطرشان وأنصارهم لتشويه سمعة اّل الحمدان، وتأليب الناس عليهم22.
إن وجود اَل الحمدان في الأماكن التي ورد ذكرها -وإن كسائر عموم الناس- هو مما يذكِّر بأسرة قامت بدورٍ بارز في تاريخ جبل حوران (جبل العرب) بحيث لا يبحث أحد فيه إلا ويتطرَّق إليهم لأنّ لهم الفضل الأول والأكبر في تأسيس تجمّع درزي غدا أكبر تجمّعات الموحِّدين (الدروز) في دول لبنان وسورية وفلسطين. ولا يزالون يُذكرون بالفخر والخير بالرّغم من الشوائب التي اعترت مسيرتهم وشوَّهت بعض بهاء صورتهم، وأدَّت في آخر الأمر إلى نهايتهم.
ذكرت لنا المعمِّرة السيدة فايزة فلحوط (مواليد 1895) وهي والدة الشاعر والمسؤول الثقافي والسياسي في سورية، الدكتور صابر فلحوط، أنشودة قيلت في الهجيج أثناء قدوم حملة ممدوح باشا على الجبل، وهي تصف ما حلَّ بالأراضي أثناء الحملة، وتذكر طلبات ممدوح باشا الشبيهة بطلبات من سبقه من القادة العثمانيين وتذكّر بإبراهيم باشا المصري، وباَل الحمدان23. ومما جاء في أبياتها الخمسة البيتان التاليان:
أرض حوران صـــــــــــــــــــــــــــارت بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور ومـــــــــــــــــــــــــــا ظل فيها فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَّان
وما ظل فيها ولا فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّان هيـــــــــــــــــــــــــــذي قرايــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدان
الهوامش
1. أمين اَل ناصر الدين: الأمراء اَل تنوخ، مجلة “ أوراق لبنانية”، المجلد الثالث ص 300-303
2. مقالة سليمان أبو عز الدين في مجلّة “الكلية” عدد تشرين الثاني 1925، وقد اوردناها كاملة في كتابنا: جبل العرب… دار النهار، دار عويدات 1985، ص399-402.
3. مجلة “ الهلال” عدد أوّل كانون الأول 1910. وقد أوردنا نص مقالة المؤرخ نعمان قساطلي في كتابنا: جبل العرب… ص 379-383.
4. حنا ابي راشد: جبل الدروز، منشورات مكتبة الفكر العربي، طبعة 1961، ص 50.
5. بركهاردت: رحلات إلى سوريا، تعريب سلامة عبيد، بعنوان: جبل الدروز في القرن التاسع عشر، ص 43.
6. حنا أبي راشد: جبل الدروز، ص51.
7. تاريخ حيدر الشهابي المعروف بالغرر الحسان، منشورات الجامعة اللبنانية 1969، القسم الثالث، ص 674.
8. المرجع نفسه، ص795.
9. برجيت شيبلر: انتفاضات جبل الدروز – حوران، دار النهار 2004، ص 79.
10. بركهاردت: المرجع المذكور سابقاً، ص 41-42.
11. مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا لمؤلف مجهول، تحقيق أحمد غسان سبانو، ص 81.
12. قِصّة اللّجاه للشيخ حسين إبراهيم الهجري (مخطوطة) ص 48 من النسخة التي نحتفظ بصورة عنها في مكتبتنا.
13. للمزيد من المعلومات أنظر كتابنا: جبل العرب ص 177-189. ومقالتنا في مجلة “ الضحى” بعنوان: ثورة الموحِّدين الدروز على الحكم المصري”، العدد 10 نيسان 2014، ص 28-37. وعباس أبو صالح: تاريخ الموحِّدين الدروز السياسي في المشرق العربي، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء 1980، ص 209-232.
14. أنظر عن هذه الرسائل، ونص إحداها، أسد رستم: المحفوظات الملكيّة المصريّة، منشورات المكتبة البولسيّة، طبعة ثانية 1986، المجلد الثالث، ص 334-336. أيضاً مذكرات تاريخيّة عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، ورد ذكرها، ص84.
15. برجيت شيبلر: انتفاضات جبل الدروز، ص 79.
16. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: تاريخ ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي، ص 132.
17. هيثم العودات: انتفاضة العاميّة الفلاحية في جبل العرب، ص 32. وللمزيد من المعلومات انظر كتابنا: جبل العرب ص 202-208. وعبد الله حنا: العامية. الانتفاضات الفلّاحية في جبل حوران، دار الأهالي 1990، ص 107 وما بعدها.
18. علي أبو عسّاف: تاريخ اّل أبي عسّاف، دار جبران، السويداء 2012، ص 86.
19. فندي أبو فخر: تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840-1918، دمشق 1999، ص 38-39. وعبد الرحيم أبو حسين: حوران في الوثائق العثمانية 1842-1918، ص41.
20. شبلي العيسمي واَخرون: التعريف بمحافظة جبل العرب، وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية 1962، ص60 -61.
21. حنوتك: حجارك.
22. رسالة المحامي حازم الحمدان إلينا بتاريخ 10 ايلول 2016، وفيها إجابات عن أسئلة عدة وجّهناها إليه.
23. شريط مُسجّل بتاريخ 21ــ 12ــ 1987.
الضُّحى تُطلقُ باباً خاصّاً بالعملِ البلدِيِّ
حـــــــــــــقُّ الاطّـــــــلاع
واجــــــبُ المُشـــاركَة
رغم أهمّيته الكبيرة لعمليّة التّنمية المحلّيّة فإنّ العمل البلديّ لا يحظى بالاهتمام والمتابعة اللّازمين، فلا معلومات كافية عمّا يجري في البلديّات ولا اهتمام بالتّجارب النّاجحة أو تبادل خبرات وتعاون بين البلديّات أو بين اتّحاداتها، ولا تفاعل حقيقيّاً بين البلديّة وبين الجمهور الذي انتخبها ولا شفافية مالية بشأن موارد البلدية وأوجه إنفاقها متاحة للمواطنين دافعي الرسوم ولا تقاريرَ سنويًّة من قبل المجالس البلديّة ولا غيرَ ذلك من أساسيّات الوضوح والتّشارك بين المجلس وبين المواطنين. لهذه الأسباب تُطلق “الضّحى” مع هذا العدد باباً مخصّصاً لمتابعة عمل البلديّات تأمل أن يساهم في مواجهة تلك النّواقص وأن يحفّز إلى مزيد من الشفافيّة في العمل البلديّ وإلى تحسين مستويات التّواصل داخل القرية وتطوير ثقافة الخدمة والعمل العامّ.
إنّ العمل البلديّ (والمخترة) هو الآن الصّيغة الأقدم والأكثر نضجاً للحكم المحلّي الذي نمارسه منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهذا العمل في قرى الجبل (على سبيل المثال) يشمل بفوائده مئات الألوف من المواطنين وتتوافر له ميزانيات استثمار بعشرات الملايين من الدّولارات. فضلاً عن ذلك فإنّ المجلس البلديّ ينتمي إلى البلدة وهو مُنتَخب من سكّانها ويخضع لإعادة الانتخاب كلّ ستّ سنوات بينما الإدارة الحكوميّة لا هي منتخبة ولا هي خاضعة للمسائلة من قبل المواطن دافع الضّرائب.
أخيراً فإنّ العمل البلديّ مموّلٌ بنسبة كبيرة من المكلّفين المحلّييّن من خلال الرّسوم البلديّة المختلفة وهذه السّمة تعتبر في أساس العلاقة التّعاقديّة بين البلديّة وبين السكّان وهي أيضاً في أساس ما يعتبره المواطنون حقّهم في أن يعرفوا ماذا يجري في البلديّة وفي البلدة وإن كانت الأكثريّة منهم، و لأسباب عديدة، لا تمارس هذا الحقّ كما هو مفترضٌ حتى الآن.
فما هو سبب هذه اللّامبالاة؟ وكيف نفسّر هذا التّناقض بين الحُمّى التي تسبق الانتخابات البلديّة والهدوء الذي يحلّ على البلدة، بل حالة النّوم التي تقع فيها لمدّة ستِّ سنوات كاملة؟!!
سبب ذلك واضح وبسيط وهو أنّ أكثر البلديّات يتمّ انتخابها على أسس عائليّة بل وعلى أساس تحالفات داخل العائلات نفسها، وبالطّبع عندما تفوز البلديّة بأصوات نِصف النّاخبين أو أكثر فإنّ أكثر هؤلاء سيكتفون من العُلى بمجرد فوز اللّائحة التي دعموها وهم يشعرون بأنّهم هم الذين “ربحوا” البلديّة، وبذلك فإنّ شعورهم الأصليّ هو الولاء للرّئيس أو لأكثرية الأعضاء التي تنتمي إليهم وهم سيميلون للدّفاع عن البلدية تجاه انتقادات “المعارضة” التي لم تُوَفّق في الانتخابات. أمّا المعارضة المُحْبَطة فإنّ لسان حالها غالباً هو إمّا أن نكون نحن في البلديّة وإمّا أن ننصرف عن العمل البلديّ بكلّيته في انتظار تغيير الأمور في انتخابات قادمة، وهذا حصل فعلاً في بلدات عدّة.
كلا الفريقين بذلك، أي الذين ساهموا في إنجاح المجلس المُنتخَب والذين لم يصوتوا له ينتهيان إلى موقف السّلبية واللّامبالاة، وهو عكس المُرتَجى بالطّبع لأنّ العمل البلديّ النّاجح في حاجة إلى كلّ كفاءة في القرية بمن في ذلك الذين كانوا بالأمس في خانة المنافسين و”الخُصوم”. وبسبب هذه السّلبية ينصرف المجلس البلديّ إلى العمل لكن من دون مشاركة كافية من النّاس، وبعض أقطاب العمل البلديّ يساهمون في هذا الوضع عندما لا يبذلون جهوداً كافية لبناء ائتلافات ذات طابع تمثيليّ واسع أثناء الانتخابات ولا يسْعَوْن (بعد فوزهم في الانتخابات) لاستقطاب شخصيّات وكفاءات مستقلّة أو أشخاصٍ من أصحاب التّجارب لاستشارتهم وإعطائهم دوراً في العمل العامّ في البلدة، وسبب ذلك أنّ كلّ مجلس بلديٍّ يريد أن يُنسِبَ الفضل في العمل إليه ليكون ذلك بمثابةِ ورقةٍ في يده في الانتخابات التّالية، وهذا من أبرز علامات ضَعف ثقافة العمل المدنيِّ والحكم المحلّيِّ التّشاركيِّ الذي هو من النِّعِم القليلة التي يوفّرُها النّظامُ السّياسيُّ في لبنان.
رئبس التحرير
تحت الضوء
المجلس البلدي العاشر في نيحا
يبني على سجل طويل من الإنجاز
أولويات للمجلس الجديد: البيئة والتكميلية والنفايات
الانتخابات البلدية الأخيرة في نيحا خلفت أجواء يصعب اجتنابها في مناخ المنافسة على الرئاسة وفي تشكل اللوائح، وقد ساهم في ذلك التركيبة المعقدة لعائلات البلدة التي تتوزع تاريخيا على ثلاث أنساب أو عشائر هي : بنو قعيق وبنو خميس وبنو ركين.
تشكل المجلس البلدي العاشر 2016 لبلدة نيحا من السادة: وهيب غيث رئيساً، داني ابو هدير نائباً للرئيس، وفاء فرحات، أنيس الشمندي، أنطوان العجيل، منرفا الحداد، وديع أبي راشد، محمود ماجد، صلاح أبو رشيد، ماهر الزويني، سهيل مرشاد. وانتخب كل من نبيل عزام والمختار نجم ذبيان لمنصب المختار.
ويرأس رجل الأعمال المعروف وهيب غيث البلدية للمرة الثانية ( إذ تولى رئاسة البلدية في الفترة 1998-2004) وهو يحمل إلى ذلك تجربة طويلة في العمل المحلي والعمل الشعبي في نيحا وقد التقته “الضحى” وسألته عن أجواء العمل البلدي في البلدة وعن مشاريع المجلس البلدي الجديد فقال:
• كل انتخابات فيها منافسة، ومن الصعب (خصوصا في البلدات المتعددة العائلات) التوصل إلى تزكية (كما حصل في عدد محدود من قرى في الجبل) لذلك يبقى أن يترك الأمر للناخبين، وأعتقد أن من المهم القبول بنتائج الاقتراع وإلا فإن العملية لا يعود لها قيمة.
> الضحى: ما هي أهم مشاريع المجلس البلدي الجديد.؟
سنركز على المشاريع المهمة التي لم يتح الوقت للبلديات السابقة لاستكمال تنفيذها وهي كثيرة ومتشعبة، والعمل البلدي استمرارية ولا يتوقف. سنعطي اهتماما خاصا لتكملة شبكة الصرف الصحي لتشمل كل بيوت نيحا وصيانة مياه الشفة وإعادة تأهيل عدد من الطرقات الفرعية كما سنتابع متابعة موضوع النفايات ونركز على توفير الدعم اللازم للتكميلية والثانوية والمحافظة على الثروة الحرجية. وأهم شيء العمل من أجل الإفراج عن أموال البلديات التي هي في عهدة الصندوق المستقل للبلديات.
> الضحى: ما هي أبرز الإنجازات التي حققتها بلديات نيحا المتعاقبة للبلدة؟
أكرر أن العمل البلدي استمرارية ونحن وكافة أهالي نيحا ممتنون جدا للجهود التي بذلتها البلديات السابقة والتي أثمرت إنجازات عديدة ساهمت في جعل نيحا إحدى أجمل قرى المنطقة وأخص بالذكر إنشاء الحديقة العامة في محلة السهل على مساحة 3000 متر مربع وتجهيز الشوارع العامة بشبكة إنارة حديثة وإنشاء بئر ارتوازي لمياه الشفة في محلة النبع لحل مشكلة المياه في البلدية، مع مدّ خط 4 إنش وصولاً إلى الشبكة العامة، وتكملة العمل في مبنى رابطة التضامن الاجتماعي وقاعة الاجتماعات ومكتبة العامة والمستوصف الخيري. لقد جرى الاهتمام أيضا بتطوير وتحديث شبكة مياه الشفة والبنى التحتية من طرقات وجدران دعم فضلا عن العناية بالأحراج وتنميتها عبر غرس الأشجار وغيرها الكثير.
تنظيمُ وجود السّورييّن
لا زال التّعامل مع الإخوة السّورييّن في قُرى الجبل يفتقد إلى التّنسيق بين البلديّات المختلفة التي يطبق كلٌّ منها تدابير لا تتّفق بالضّرورة مع ما هو متّبع في بلدات مجاورة. فإحدى البلديّات مثلا تتقاضى مبلغاً محدوداً من كلّ أسرة سوريّة كتعويض عن الخَدمات البلديّة وبلديّة ثانية تتقاضى مبلغ 10 آلاف ليرة مقابل جمع النّفايات وبلديّة ثالثة لا تتقاضى أيّة مبالغ لكنّها تتجه لتطبيق رسوم “المسقَّفات” (أي الرّسم على القيمة التأجيرية) على المقيمين السّورييّن إسوة بالمقيمين اللّبنانييّن. وهناك أكثر من نظام لساعات التّجوّل من حيث تحديد فترة السّماح به وفترة الحظر، وتقوم بلديّات بتطبيق إجراءات أمنيّة تتضمّن تركيب كاميرات بينما لا ترى بلديّات أخرى ضرورة لذلك وتزيد بعض البلديّات على ذلك تكليف شباب بأعمال الحراسة قد يزيد عددهم في بعض البلديّات عن 10 أو 15 شخصاً بينما تخالف بلديّات أخرى هذا المبدأ لصالح تعيين شخص أو شخصين بأعمال السّهر على أمن القرية. ألم يَحِن الوقت لوضع نظام متجانس تجاه السّورييّن في مختلف قرى الجبل بالتّعاون مع الجهات المختصّة؟
احتراق معمل فرز النّفايات في بعذران
نتيجة الإهمال وسوء الإدارة شبّ حريق هائل في معمل فرز النّفايات في بعذران الذي أُنشئ حديثاً وهو مخصّص لفرز النّفايات في الشّوف الأعلى أدىّ لتوقّفه عن العمل وقد تطلب إصلاحه أكثر من ثلاثة أسابيع بكلفة مادية عالية. ولم تُعرَف بعد أسباب الحريق، وما إذا كان بسبب وجود موادّ الاشتعال بين النّفايات التي تنقل إلى المعمل الذي يستوعب من 12 إلى 20 طن من النّفايات يوميّاً.
في هذا الوقت يتابع اتّحاد بلديّات الشّوف السّوَيْجاني عمليّة إدارة معمل فرز النّفايات الصّلبة في منطقة الصّليِّب في خَراج بَلدة الكحْلونية وذلك بعد أن قرّر تولّي الأمر بنفسه على أثر خلاف مع المتعهّد الذي اعتُبِرَ غير متقيّد بشروط الالتزام. ويستقبل معمل فرز النّفايات نحو 40 طنّاً يوميًّا من النّفايات المنزليّة في قرى الاتّحاد التّسع وهي بعقلين وعينبال وغريفة وعترين والسّمقانيّة وعين وزين والجديدة والمزرعة والكحلونيّة. وتتّبِع القرى جدولاً محدّداً ينظّم استقبال المعمل للنّفايات من كلّ قرية في أيّام معيّنة من الأسبوع كما يعين عدد رحلات الشّاحنات الصّغيرة المخصّصة لكلّ قرية .
إزالة المطبَّات في عين قَني
في خطوة حضاريّة قامت بلديّة عين قَني بإزالة المطبَّات العشوائيّة التي زُرعت في الشّارع الرّئيسيّ في السّابق، بحيث باتت الطّريق حرّة ومفتوحة للسير العاديّ والطّبيعي دون إعاقة غير ضروريّة. وكان نشر المطبَّات من البلدية السّابقة قد أثار انتقادات مُرّة من المواطنين ومن السائقين الذين يمرّون في البلدة، لذلك كان نزعها أوّل عمل قام به المجلس البلديّ الجديد. بلدية عين قَني السّابقة ليست وحدها المُلامة بل الكثير من البلديّات التي تلجأ لزرع المطبَّات بصورة كيفيّة دون استشارة أحد من المواطنين وخلافاً لقرارات وزارة الداخليّة التي تمنع وضع المطبَّات إلّا في نقاط معيّنة مثل مداخل المدارس والمستشفيات وبعد موافقة السّلطات. وهذا يعني أنّ الأكثريّة السّاحقة من المطبَّات القائمة على الطّرقات عشوائيّة وهي خرق صريح للقانون.
نشير هنا إلى أنّ “الضُّحى” ستنشر تحقيقاً خاصًّا عن موضوع المطبَّات العشوائيّة في مناطق الجبل في العدد القادم.. فترقبونا!!
«الضحى» تتلقــى دعمــا واسعــا
مجلــس أمنــــاء جديــد موسّـــع
تلقت مجلة الضحى دعما واسعا من شخصيات وفعاليات بارزة في الطائفة ونجم عن ذلك قيام مجلس أمناء موسع شهد مضاعفة عدد أعضاء المجلس الذي بات يضم 13 عضوا يمثلون مختلف قطاعات الأعمال والمغتربات والمناطق.
ومن أجل التعريف بالأعضاء الجدد عقد مجلس الأمناء الموسع أول اجتماع له في دار الطائفة الدرزية في فردان بدعوة من سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن ورئيس التحرير الأستاذ رشيد حسن، وشارك من المجلس المذهبي كل من الأستاذ رامي الريس رئيس اللجنة الإدارية والمحامي الأستاذ نزار البراضعي أمين سر المجلس المذهبي وبعد التداول خلص الجميع إلى ضرورة دعم هذا الإنجاز وتطويره إلى عمل مؤسسي تنبع ديمومته من القوة الذاتية والإدارة الفاعلة وذلك بالتنسيق بين رئيس التحرير وسماحة شيخ العقل ومجلس أمناء المجلة والمجلس المذهبي ولجانه.
الأعضاء الجدد والحاليون في مجلس أمناء مجلة الضحى في صورة جامعة على أثر الاجتماع الأول للمجلس الموسّع في دار الطائفة. ويبدو وقوفا من اليمين كلٌ من السادة (مع حفظ الألقاب) : رافع أبو الحسن، سميح ضو، رامي الريِّس، أنور أبو الحسن، توفيق الشعّار، كميل أبو غانم، سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حس، نديم مكارم، جمال الجوهري، غازي دمج، مثقال عطا الله، ونزار البراضعي ورشيد حسن. وغاب عن الصورة لظروف اضطرارية أعضاء مجلس الأمناء السادة: علي عبد اللطيف، سليم عابد وكميل سريّ الدين. ولم يظهر فيها رجل الأعمال الفنزويلاني فرزان البعيني بداعي السفر والسيد رامي ضو بسبب انضمامه إلى مجلس الأمناء بعد انعقاد المجلس.
أثناء اللقاء في دار الطائفة بالسيد رامي ضو على أثر انضمامه إلى مجلس أمناء مجلة “الضحى” ويبدو جلوسا من اليمين كل من: رئيس التحرير الأستاذ رشيد حسن، الأستاذ وهيب فياض، سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن، المُكرّم السيد رامي ضو، أمين سر المجلس المذهبي الأستاذ نزار البراضعي ورئيس اللجنة الإدارية في المجلس المذهبي الأستاذ رامي الريِّس.
شَرِيــــــفُ
فيّــــــاض
يَفْخَرُ الموحّدون الدّروز بأبطالهم ويكرّمونهم أعظمَ تكريمٍ وهم رُواةُ جيّدون للمعارك تفيض شاعريّتهم في وصفها وفي تسجيل سِيَرِ فُرسانها المُجَلّين ومآثرهم الخالدة، وهذا التّقليد الرّاسخ له جذوره في تاريخ الموحّدين الدّروز الذين فُرِض عليهم على مرّ القرون أن يدافعوا عن وجودهم المسالم في وجه شتّى أنواع التّعدّي وأنْ يعتنوا لذلك أشدّ الاعتناء بإعلاء قِيَم الشّجاعة واحتقار الجبن وتمجيد الإقدام والاستخفاف بالأخطار مهما عَظُمت.
في هذا السّياق بالتّحديد يجب أن نفهم الكلمات المؤثِّرة التي قالها الزّعيم وليد جنبلاط في تأبين المقدّم شريف فيّاض وقد حرص، وهو الذي كان في قلب المعارك والمواجهات في تلك الفترة، على ألّا يُغيَّب هذا البطل في التّراب مثل أيّ رجل عاديّ، وخَشِي أن يكون الزّمن الذي مرّ على تلك الأحداث المؤلمة قد ألقى بغبار النّسيان على أحد أهم رموزها فعمل بأسلوبه الخاصّ على أن يدخل شريف فياض سجلّ أبطال الحركة الوطنيّة والعشيرة المعروفيّة وأن يحصل بذلك على التّكريم الذي يستحقّه رجلٌ بذل معظم حياته المهنيّة وسنوات عمره من أجل أن يبقى الجبل ويبقى أبناؤه الأباةُ أعزّاء في أرضهم وفي وجه أعتى التّحدّيات.
قبل حرب الجبل بنحو خمس سنوات وبالتّحديد في العام 1978 ترك المقدّم فياض الخدمة في الجيش اللّبنانيّ الذي كان تحت سيطرة المارونية السّياسية وتسلّم على الفور مهمّة بناء الجيش الشّعبيّ الذي كان قد أصبح الأولوية المطلقة لوليد جنبلاط الذي كان يستشعر بحَدسِه السّياسيِّ الإعصار القادم على لبنان والمنطقة، فجعل بذلك من توفير البنية التّحتيّة الكاملة للدّفاع عن الجبل ووجوده مسألة في غاية الإلحاح. وفي المواجهات التي كان يرتقب حدوثها مع ميلشيات عالية التّسليح والتّدريب أو مع جيش لبنانيّ تتحكّم به المارونيّة السّياسيّة أدرك وليد جنبلاط أنّ الجواب يجب أن يكون في بناء قوّات شبه نظاميّة عالية التّسليح والتّدريب تكون هي قوّة الصّدام الأولى، وفي الوقت عينه قوّة الاحتراف والقيادة التي يمكنها أنْ تضبطَ وتُفعِّل إلى أقصى الحدود دور المتطوّعين والقوّات الشّعبيّة غير النّظاميّة. وكان شريف فيّاض في ذلك السّياق الرّجل المطلوب لتلك المهمّة الدّقيقة والصّعبة، إذ كان على هذا العسكريّ النموذجيّ أن يبني جيشاً مُحترفاً من الصّفر وأن يبني هيكليّته وهرميّته القياديّة وتخصّصات مجموعاته وأن يفاوض في موسكو أو في سوريا وغيرهما على سُبُلِ تسليحه وتدريب كوادره وأن ينسّقَ العمل اليوميَّ مع قوى الأمر الواقع الحليفة والسّوريّة وأن يتعامل بحِنكة وجرأة مع الخطر الدّاهم الذي تمثل بالاحتلال الإسرائيليّ- القوّاتي والاحتقان الشّديد الذي بدأت تولِّده استفزازات القوّات في القرى الدّرزية والمختلَطة.
ولَقَدْ عايش شريف فيّاض كافّة مراحل حرب الجبل بحلوها ومرِّها وحقَّق انتصارات وإنجازات بسبب كفاءته العسكريّة والقياديّة وتجرُّده وسهره ودأبه الشّديد في العمل. في كلِّ تلك المراحل تميَّز هذا القائد إلى طيب معشره وصلابته العسكريّة بالتكرّس التّام لعمله مع الزعيم وليد جنبلاط لأكثر من 38 عاماً متواصلة في كلِّ المواقع والمسؤوليّات التي طُلِب منه الاضطّلاع بأعبائها، وأبرزها بناء الجيش الشعبيّ وقيادة معاركه ثم أمانة السرّ العامّ في الحزب التّقدميِّ الاشتراكيّ، وقد قامت بين الرّجلين بمضيّ السّنين رفقة سلاح حقيقيّة ومودّة من النّوع الذي لا يمكن أن ينشأ إلّا في شراكة المعارك ومهنة بذل المُهَج.
هكذا حمل شريف فيّاض مجموع الخِصال التي يحملها المقاتلون الفُرسان تلك التي جعلت منهم دوماً مثالاً وقُدوةً للأجيال، فهو انبرى للدّفاع عن الحِياض بغريزة المُروءة والغَيْرَة على أبناء عشيرته وكرامتهم دون أن يُخالط جهادَه أيَّ غَرَضٍ شخصيّ ودونَ أن تذهبَ مآثرُهُ وأعمالُه بأصالتِه وبتواضعِه، إذ كان في نظر نفسه دوماً عسكريّاً لبّى نداء الواجب ليمضي بعدَها في حياته العاديَّة دون مِنَّة أو طمعٍ بجاهٍ أو أجر.
فُرِجَتْ .. رُبَّما!؟
لبنانُ المأزومُ يتابع عيشه المُعتاد. أزْمَةٌ اقتصاديّة، أزْماتٌ اجتماعيّة، شكوى من كلِّ شيءٍ تقريباً، انقسامٌ وطنيٌّ واستقطاباتٌ طائفيّة ومذهبيّة وشخصيّة، تحالفاتٌ مثل غيومِ تِشرين تتجمّع ثم تتفرّق، ثم تتجمّع ثانية.. لكن في هذا البلد فقط يمكن أن يطالعك المشهد الغريب في هذه الفترة السّوداء من تاريخ المنطقة العربيّة لانتخاب رئيسٍ في مجلس النّوّاب وبواسطة صُندوق اقتراع!
صحيحٌ أننا انتظرنا طويلاً، صحيحٌ أننا خسرنا كثيراً بسبب التّعطيل، لكنْ صحيحٌ أيضاً أنّه لم يكن ممكناً للرّئيس عون أو غيره أن يصبحَ رئيساً للبلاد بغير وسيلة اقتراع النوّاب. وهذا استثناءٌ يكاد يكون وحيداً في العالم العربيّ كلِّه حيث أكثر الأنظمة ملكية ووراثيّة وحيث جاء العديد من الرّؤساء أو الزّعماء من طرق مختلفة لكنْ ليس بينها اقتراعٌ حقيقي، أيْ على مُرشّحِين مُتنافسِين أو انتخابٍ في برلمان.
هناك الكثير من السّوداويّة والسّوداويّون اليوم، لكنْ علينا أن نعلم أنَّ العالَم في كلِّ مكان ليس في أحسنِ حاله، وأنَّ من الأفضل عند الحصول على نِصف كاسِ ماءٍ التمعّن في نِصفه الملآن بدلَ التّحسّر على النِّصف الفارغ، وهذه نصيحة في محلِّها على الرّغم من التّردِّي الذي بلغه حالنا، لأنَّ الكثيرين في المنطقة لم يعد عندهم أصلاً كأس ليتجرّعوا به الماء، وعندما يُمتَحن الإنسان بمصيبة فإنّ من أسباب السّلوى واحتواء الألم النّظر إلى مُصيبة غيره، ولبنانُ إذا قورن وضعُه بما حلّ ويحِلّ في المنطقة قد يجد أسباباًعدّة للسّلوى بل للحمد الكثير. ولا يعني ذلك أنّ الفضل يعود لنُضْجِنا السّياسيِّ في هذه الفُسْحة من الهدوء التي لا زالت متوافرةً لنا، بل الفضلُ هو لرحمةٍ من السّماء جعلت جملةً من العوامل المحلّيّة والإقليميّة تضعنا خارج هذه الفوضى المدمّرة حتى الآن. ولا ننسى أنّ هناك رغم هذا الجوّ الاحتفاليّ ناراً مشتعلةً في أطراف الثَّوب، وهناك من يقدح شَرَرَها في أماكن أخرى لكنَّ المِزاج اللّبنانيَّ العامَّ يبدو وقد مال إلى شيءٍ من التَّصالُح قد يتبعُه انفراجٌ وعودةٌ لِدَوَران عَجَلَةِ البلد وحياة النّاس إلى حالٍ من الاستقرار.
لهذا المُناخ التّصالُحِيّ، رغم أهميّة العامل الخارجيّ، قَدْرٌ كبيرٌ من الأسباب المحليّة أوّلُها أنّ اللبنانيين جميعُهم مَلّوا بالفعل التّعطيل المستمرّ المكلِف جدّاً للاقتصاد والعباد. والبعض الآخر منهم أصابه الوهنُ من مِهنة النّزاعات وهي مهنةٌ مُكْلِفَةٌ ولا نهايةَ لفصولها، وباتت بعض القوى اللّبنانيّة في حاجة ماسّة لإراحة قاعدتها الاجتماعيّة ومنحها فُسحَةّ للتّنفُّس واستذكار الحياة الطَّبيعيَّة بعد سنواتٍ من أوضاعِ استنفارٍ قلبت حياةَ النّاس رأساً على عَقب.
لكنّ العامل الأهمَّ الذي عزّز التّوجُّهَ نحو حلٍّ ومهّد الطّريق لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة هو ولاشكَّ عاملُ الاقتصاد. فالاقتصادُ اللّبنانيّ دخل دائرة الخطر الدّاهم بسبب انفلات شؤون الدّولة، والفساد، وتردّي الخِدْمات، وتوقُّف الاستثمارات، وتزايد عبء الدَّيْن وغيرها من مظاهر انحلال الدَّولة، وقد لعب مَصْرِفُ لبنانَ دوراً استثنائيّاً في محاولة سدّ الفراغ الحكوميِّ والإبقاء على درجة من الحياة في اقتصاد البلد، لكنْ كلّ تلك الجهود ليست أكثر من علاجات إسعافيّة ليس في مقدورها وقفُ النّزف والعجوزات المتراكمة. وربّما أدرك السياسيّون والقوى المتحكّمَة باللّعبة، وقد باتت لهم حِصّةٌ كبيرةٌ في كعكة الاقتصاد، أنَّ الانهيارَ سيصيبُهم هم كما يصيبُ الجميع، وأنهم قد يصبحون وزراء ونواب لكن في دولة مفلسة وفاشلة ما لم يبادروا هم إلى العمل بسرعة من أجل تدارك الموقف، وهم أدركوا بالتالي أنه لم يعد أمامهم مُتّسع لترف إضاعة الوقت والتسلّي بلعبة عض الأصابع بينما البلد يتداعى إلى الأركان.
وبحسبِ هذا التَّحليل فإنَّ انتخابِ الرّئيس ميشال عون (بتأثير تفاهُمات خارجيّة وتوافقات داخليّة) قد يكون عنوانِ انفراجٍ أوسع للمدى المنظور، وقد ينتج عن هذا الجوِّ الانفراجيِّ تأليف حكومة وفاقيَّة وتحريك عمل مجلس النّوّاب، والتّحوّل بكل جديّة للاهتمام بالاقتصاد ومالية الدولة وملفّات كثيرة حيويّة لم يَعُدْ من الجائز أو الممكن المضيّ في تأجيلها.
نتمنى لفخامة الرئيس التوفيق في مهماته على رأس الدولة.
رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
المسؤوليـــــة وثوابتهــــا فــــي خدمــــــــة الخيــــــــر العـــــــــام
ترتبطُ المسؤوليَّةُ بمعناها الاجتماعيِّ بفكرة وحدة المصلحة العامَّة. ويحملُ هذا الارتباطُ بُعدًا إنسانيًّا وجوديًّا حين نعي خضوعه، توحيديًّا، لثوابت الاستقامة والأخلاق والعدل والصدق ونقاء السَّرائر والضمائر والذمم والقانون وغيرها.
والمسؤوليَّة يجبُ ألا تنفصمُ عن احتسابِ أبعادها العامَّة الكبرى. وأثرها في النواة الأولى للمجتمع الإنساني، أي الأسرة، يتشابك مع الخلايا الناشئة وفقا لمسار تطوُّر البنيات الاجتماعية وصولا إلى المستوى الوطني. وهذا يعني أن الفرد مسؤول عن تصرُّفه الشخصي ومسؤول عن تصرُّفه العام في شؤون أية مسؤوليَّة أمام الجماعة من نواحٍ عدَّة متعلّقة بمفهوم الخير العام. وتصطدم المسؤولية بفكرة العصبيَّات المحليَّة التي تنفعلُ وكأن العالَم يبدأ وينتهي عند حدود البلدة أو الحيّ أو العائلة وكثيراً الأنا الشخصية.
ولا بدَّ لنا من مواجهة صادقة شجاعة وحقيقيَّة مع الإشكاليَّات الكبرى التي تعوِّقُ، في الواقع العمليّ، المسيرة نحو نهضةٍ فعَّالةٍ من شأنها أن تؤتي ثمارها المرتجاة في كافَّة حقول الخير وخدمة المجتمع. إنَّ أحدى هذه الإشكاليَّات المؤذية في نطاقِ مجتمعنا هي نزعة الارتجال والاعتداد بالرأي ولو في غير مُكنةٍ منه عِلمًا وعقلًا. وأكثر ما نعنيه هنا هو الانخراط هنا أو هناك، لهذا او لذاك، في الإدلاء بانطباعٍ عام في مسائل الدِّين ومقارباته الفقهيَّة والتربويَّة والاجتماعية مع حبّ الظهور. نتحدَّث هنا عن حالات كثيرة تداهمنا إمَّا في الاعلام وإمَّا بإبلاغنا عن العديد من التجاوزات السيّئة في الشكل والمضمون في وسائل التواصل الاجتماعي وما شاكل، ومعظمها يدخل في إطار المغالطة والسفسطة وتجاوز الحدّ والمبالغة التي في غير محلِّها، ناهيك عن ركاكة الرأي ووهن القدرة العلميَّة ورداءة الذوق.
إنَّ مثل هذه الأمور، وبأسفٍ بالغ، تحدث. ونحن هنا نوضح بصوتٍ واضح، أنّها لا تمثِّـلنا، ولا تمثِّـل تراثنا الأثيل، لا في حقائق المعرفة فيه، ولا في دقائق لطائف معانيه، ولا خصوصًا في رزانة مسالكه العمليَّة والخُلقيَّة.
نودّ، بهذه الإشارة إلى بعض مظاهر هذا الإفراط المعيب، أن نستحضرَ معنى المسؤوليَّة الفرديَّة، خصوصًا في محلِّها الخُلقيّ والمسلكيّ، وبالتالي الروحيّ، من كينونة الإنسان. لقد جمع التَّوحيد الخلاصة الجوهريَّة للقيَم الإنسانيَّة. وتحدَّد مسارُه في تفاعل المعاني اللطيفة لتلك القيَم في قلب الإنسان وسريرته. نتيجة لذلك، فإنَّه من الضرورة الحتميَّة انعكاس ذلك التفاعُل في الأعمال والأقوال والحركات والسكنات. لان سياق الوجود متولد من الصراع الكبير بين الخير والشر. إنَّ القاعدةَ الأساسيَّة في تقليدنا الرُّوحيّ المسلكي هي الصدق، يعني أن تكون الفاظُ المرء وأقواله متطابقة مع نوايا القلبِ وحركة الخواطر والأفكار منه. على الطريق المستقيم ضمن قواعد الحلال والحرام. فإذا، لا سمح الله، تناقضت الأقوالُ مع النوايا والمسالك الحسنة او العكس، يكونُ الباب مشرّعًا نحو ظواهر الكذب وبواطنه، وتلك آفة كبرى من شأنها أن تميت النفس عن كلِّ نسمة حياة. وما يتبعها من رياء ونفاق وطمع وغيبة ونميمة وغيرها من الآفات التي تهدم مقوّمات المجتمع الإنساني. وليس هذا على الإطلاق نهج الموحِّدين الصادقين الَّذين عرفوا في دواخلهم الانسجام العميق بين غاية العلوم من جهة وما يتحقَّق في ظاهر العيان من عملٍ ومسالك. والفاضلُ من كان للحق حُجَّة بشهادته الصادقة المعبَّر عنها في نزاهته وشهامته، ليس فقط في ذات نفسه، بل أيضًا في سائر معاملاته وتصرفاته مع الآخرين، في محيطه ومجتمعه، وفي ايّة مسؤولية يتحملها في المستوى الوطنيّ العام.
إنَّ العمل بمنهاجية الصدق ومعانيه وهي مدرسة كبرى هو واجبٌ تقتضيهُ الحقيقة والأصُول، بل هو المسارُ الأسلم لبراءة الذمَّة ونقاء الضَّمير. وعلى العاقل أن يحذر أشدّ الحذر من انخداع النفس والتباس المفاهيم في طواياها تحت وطأة الإغراءات الدنيويَّة، والنزعات الأنانية، التي تدفع نحو الانغلاق في زاوية ضيّقة هي خدمة المصلحة الشخصيَّة في غفلةٍ عن فسحة الخير العام. فطوبى لعائلةٍ تربي أولادها على الاخلاق، وطوبى لدولةٍ تنشئ ابناءها على الوطنية، وهنيئاً لمن عرف حدّه ووقف عنده.
مجلة الضحى ودار طائفة الموحدين الدروز، شارع
بني معروف، فردان بيروت
مجلة الضحى، دار طائفة الموحدين الدروز، شارع بني معروف، فردان بيروت