الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

زيت الزيتون

تحبُّ زيتَ الزّيتونِ؟ اعصرْه بنفسِك!

ماذا فَعلتُمْ بِزَيتِنا؟

زَيتُ الزّيتون (مثل العسل) دخلَ لائحةَ
أكثرِ الأغذيةِ تعرّضاً للغِشِّ في العالم

تجّار لبنانَ أتقنوا كلَّ فنون الغِشِّ المعروفةِ للـــزّيت
لكنَّ جهلّ المستهلك بأساسيّات الزّيت أكبرُ عونٍ لهم

زيتُ الزّيتون!!
يكفي ذكر الكلمة حتى تراودَ المرءَ مشاعر انتعاش وغِبطة قلّما يثيرها ذكر غذاء آخر. فزيت الزّيتون ليس فقط جزء من نمطنا الغذائيّ في لبنانَ وفي البحر الأبيض المتوسّط عموماً بل هو جزء من تاريخنا وثقافتنا كما إنّه جزء من شخصيّتنا الفرديّة وذكريات مائدتنا وسهراتنا العائليّة، ومن يمكنه أن ينسى “عروسة” الزّعتر والزّيت التي كانوا يلحقوننا بها قبل الذهاب إلى المدرسة أو قبل الانطلاق إلى ساحة القرية. وأيّة أسرة كانت تدخل فصل الشّتاء قبل أن تكون “مونة الزّيت” قد أصبحت في الخوابي أو الجرار (لم تكن العادة السّيئة لخزن الزّيت الطيب في غالونات البلاستيك قد عرفت بعد). وقد كان أكثر أهل الجبل يعتبرون امتلاك “كمْ سهم زيتون” الشّرط اللازم لنيل الاعتراف أو الاحترام في البلدة فكان زيتهم من زيتونهم ومن عصر مكابسهم. أمّا الفائض الذي كان يتجمّع لبعض كبار الملّاكين فقد كان يعود إلى سوق القرية أو القرى المجاورة فيشتريه من لم يسعفه الموسم أو من لم يُنْعم الله عليه بكروم زيتون تكفيه مَؤونته.
هذه المقدَّمة الحميمة عن أهمّ غذاء على مائدتنا هي أفضل شيء نبدأ به موضوعنا عن الاندثار التّدريجي لزيت الزّيتون اللّبنانيّ الصافي والأصيل، وهو اندثار تساهم به مجموعة من العوامل أهمّها الطلب المتزايد على زيت الزّيتون في مقابل تراجع المساحات المزروعة وغياب الخِبرة في معاملة الزّيتون وبالتّالي التردّي المستمرّ في إنتاجية الشّجرة عندنا بالمقارنة مع بلدان مثل مصرَ أو تونسَ أو اليونانِ. هذه الفجوة الواسعة بين كثافة الطّلب وقصور المعروض دخلت منها مشاكل لا تحصى يتعلّق معظمها بدخول أنواعٍ متدنّية الجودة أو بكل بساطة أنواع مغشوشة لا تحمل من زيت الزيتون إلا الاسم.
ويمكن القول براحة: إنّ غالبيّة زيت الزّيتون التي تباع في السّوق وعلى رفوف المحلّات وحتى في المخازن الكبرى هي من أصناف “مغشوشة” رغم الأسعار المرتفعة التي تباع بها.
ومشكلة غِشِّ زيت الزّيتون أصبحت مشكلة عالميّة فعلاً بسبب الزّيادة الكبيرة في الطّلب عليه والشهرة التي نالها في العقود الأخيرة كزيت مثاليٍّ للصحِّة الجسديّة وخصوصاً لصحّة القلب. وعلى سبيل المثال، فقد قفزَ استخدام زيت الزّيتون في الولايات المتّحدة عشَرَة أضعافٍ في السّنوات الـ 35 الأخيرة بالغاً 327 ألف طن سنويا في العام 2015 في مقابل 29 ألف طنٍّ سنويّاً فقط في العام 1980. ونشأت في العالم صناعة مزدهرة تقدّر مبيعاتُها السنويّة بأكثرَ من 16 مليار دولار.
لكنّ الشهرة التي نالها زيت الزيتون أفسحت في المجال لعمليّات فساد وغِشّ واسعة النّطاق في العالم وقد صدر في الولايات المتّحدة كتاب للصّحافي لاري أولمستد سلّط فيه الأضواء على العالم التحتيّ لصناعة وتجارة زيت الزّيتون، وقد كشف أولمستد أنّ الغالبيّة الكُبرى من زيت الزّيتون المباع في السوق الأميركيّة مغشوشة من خلال خلطه بزيوت نباتيّة

رخيصة ومؤكسدة مثل زيت دوار الشمس أو زيت الفستق أو زيت الزّيتون غير الصالح للأكل، حتى الزّيت الذي يباع تحت علامة زيت بكر Extra virgin يتمّ تخفيفه غالباً بزيوت رخيصة مثل زيت النّخيل أو البندق أو دوّار الشمس أو زيت بذور العنب أو غيرها. وهذه الزّيوت لا يتمّ ذكرها على القوارير أو المستوعبات التي يباع فيها، بحيث يعتقد المستهلك أنّه اشترى زيت زيتون بكر وصافٍ فعلاً. ونظراً لأنّ أكثر المستهلكين ليست لهم الخبرة في زيت الزّيتون الأصليّ فإنهم لا يستطيعون غالباً تقييم الزّيت الذي يشترونه حتى ولو تذوّقوه.
وقد أقيمت في العام 2014 دعوى احتيال على شركة أميركيّة كانت تبيع تحت إسم “زيت زيتون صاف” زيتاً مُصنَّعاً من مَهَل الزّيتون (الجفت) بعد معالجته بموادَّ ومحاليل كيماوية خطرة ثم خلطه بعد ذلك بزيوت رخيصة. وفي العام 2015 أغلقت الحكومة الإيطاليّة 12 شركة لتصنيع الزّيت في منطقة بوغليا بعد اكتشاف شبكة احتيال واسعة لبيع زيت الزّيتون المغشوش.
بناءً على تلك الحادثة وحوادث أخرى مماثلة، بدأت مصادر الصّناعة تحذر من الاعتقاد الخاطئ بأنّ زيت الزّيتون المستورد من إيطاليا يتمتّع بالميزات المفترضة للزّيت الإيطاليّ. يقول أحد خبراء الزّيت الدّولييّن إنّ زيت الزّيتون الأصليّ الذي تنتجه إيطاليا بالكاد يكفي حاجتها والأنواع الممتازة منه لا تغادر إيطاليا. في المقابل فإنّ إيطاليا هي أكبر مستورد لزيت الزّيتون في العالم وهي تستورده من بلاد المغرب العربيّ ومن سوريا وإسبانيا وتقوم بمزجه وتعليبه ثم تصديره للعالم، لذلك، فإنّك عندما تقرأ على القارورة “مُعلّب في إيطاليا” فالعبارة صحيحة لكنّها لا تعني أن الزيت معصور في إيطاليا كما لا يعني أن الزّيت لم يتمَّ مزجه مع زيوت أخرى.

لا تنخدع بالأسماء الإيطالية فالمحتوى قد يكون شيئا آخر
لا تنخدع بالأسماء الإيطالية فالمحتوى قد يكون شيئا آخر

فحص DNA زيت الزيتون آخر التقنيات
لتحليل كشف الأصناف المغشوشة

موضوع غِشّ زيت الزّيتون أدى إلى المطالبة بإنشاء هيئة لإعطاء شهادات الجَوْدة لأيّ زيت يرغب منتجوه في بيعه في السوق الأوروبية. وقد تعزّزت الآمال بإمكان إيجاد جهات مختصّة بتحليل زيت الزّيتون بعد الكشف العلميّ الذي حقّقه فريق علماء أسبان تمكّنوا فيه من تطوير تقنية لفحص الخصائص الجينيّة DNA للزّيت موضوع الاختبار، وقد أثبتت التّقنية قدرتها على معرفة مصدر الزيت وإذا كانت أنواع أخرى من زيت الزّيتون قد مزجت في المنتج أو إذا كان زيت الزّيتون يحتوي دهوناً من مصادر أخرى مثل زيت دوّار الشّمس أو الفستق أو غيرهما.
وقد لاقى الاكتشاف ردود فعل حماسية من مصادر زراعة الزّيتون في أوروبا خصوصاً والتي باتت تتوقّع أن يؤدّي الاكتشاف إلى تصنيف أفضل لزيت الزّيتون الصّافي وكشف الأصناف المغشوشة واتّخاذ التدابير الصّارمة بحقّ المرتكبين.

“زيت الزيتون (عندما لا يتمّ غشّه) يتعرّض لتدهور نوعيته بسبب أساليب القطاف والتأخّر في العصر وخزن الزّيت في غالونات البلاستيك”

صورة المحقق الإيطالي الخاص سرجيو تيرو في مقدمة برنامج 60 دقيقة على محطة سي بي أس الأميركية والذي تناول سيطرة المافيا على صناعة زيت الزيتون الإيطالي
صورة المحقق الإيطالي الخاص سرجيو تيرو في مقدمة برنامج 60 دقيقة على محطة سي بي أس الأميركية والذي تناول سيطرة المافيا على صناعة زيت الزيتون الإيطالي

دور المافيا
في مطلع العام الجاري عرض برنامج 60 دقيقة على محطّة CBS الأميركيّة حلقة أظهر فيها كيف تمّ إفساد صناعة زيت الزّيتون في العالم عبر ما سمّاه البرنامج توصّل المافيا للسّيطرة على كلّ قطاع زيت الزّيتون بدءاً بقطاف الزّيتون والعصر وتسعير الزّيت والنّقل والبيع في المحلّات. وقد بلغ من ضخامة عمليّات الاحتيال أنّ نِصفَ كمّيات زيت الزّيتون المباعة في إيطاليا على اعتباره زيت زيتون بكراً وأصلياً Extra virgin هي في الحقيقة زيت زيتون ممزوج بغيره من الزيوت النباتية الرّخيصة، وهذه النّسبة ترتفع في الولايات المتحدة إلى أكثر من 90%، كما إنّ أحد العوامل المؤثّرة في تراجع نوعيّة الزّيت هي شحنه لأسابيع طويلة عبر البحر، ثم خزنه أيضاً ولمدد متفاوتة بعد وصوله إلى السّوق وقبل تعبئته وتوزيعه على المحلّات حيث يمكن أن يبقى في المخازن أو الرّفوف لأشهر أخرى، ممّا يعني أنّ زيت الزّيتون يفقد أكثر مدة صلاحيته وجَوْدته قبل الوصول إلى المستهلك.

تحرّكٌ أوروبيٌّ
لقد أثارت الأنباء المتزايدة عن كشف عمليّات غِشٍّ واسعة في صناعة الزّيت الإيطاليّ وغيره اهتماماً واسعاً في سلطات الاتّحاد الأوروبيّ المهتمّة بالرّقابة على نوعيّة الغذاء وقمع أعمال الغِشِّ والتَّزوير في القارّة. وقد وضع تقرير أخير للبرلمان الأوروبيّ زيتَ الزّيتون في رأس المنتجات الغذائية المعرّضة للتّزوير الى جانب سلع أخرى مثل السّمك والمنتجات العضويّة والعسل وغيرها. لكن عمليات الغِشّ الأكثر تطوّراً لزيت الزّيتون ما زالت أحياناً من الإتقان بحيث يصعب كشفها. لهذا يجري التركيز في القارّة الأوروبيّة على ابتكار أساليب وتقنيات متطوّرة جداً لتحليل الزّيت بهدف كشف خلطه بنوعيّات خارجيّة أو بزيوت رخيصة أو غير ذلك. ويلعب المجلس العالمي للزّيتون وهو الهيئة الدوليّة التي تمثّل صناعة الزيت دوراً بارزاً في محاولة تنظيم المهنة، وقد طرح المجلس مؤخّراً اقتراحاً بإنشاء هيئات لمنح شهادات الجَوْدة والمصادقة للزّيت وجعل الحق في تصديره وبيعه في سوق التّجزئة محصوراً بالماركات الحاصلة على شهادة الثّقة والجَوْدَة.
وبالنّظر لعمليّات الغشّ الواسعة لزيت الزّيتون في الولايات المتّحدة فقد قرّر المجلس العالميّ للزيتون تكليف أحد أبرز المختبرات الأميركيّة والتي تعمل من ولاية كاليفورنيا بأعمال فحص عيّنات زيت الزّيتون المُعدّة للتّسويق في السوق الأميركيّة وإعطاء شهادات الجَوْدة وخلوّ الزيت من أي ترسبات كيماويّة أو غيرها من المواد الغريبة.

مشهد خلاب لمزارع الزيتون الإيطالي لكن قسماً كبيراً من الزيت الإيطالي المصدر إلى الخارج يتكون من زيت فول الصويا المعدّل جينيا وزيوت نباتية رديئة مشبعة بالمبيدات
مشهد خلاب لمزارع الزيتون الإيطالي لكن قسماً كبيراً من الزيت الإيطالي المصدر إلى الخارج يتكون من زيت فول الصويا المعدّل جينيا وزيوت نباتية رديئة مشبعة بالمبيدات

“المافيا سيطرت على زيت الزيتون الإيطالي والكثيــر مما يباع منه في الأسواق ليس إيطــــاليّاً.. ومغشــوش أيضاً”

زيت لبنان: غِشٌّ ومشاكل جَوْدَة
يُعتَبر زيت الزّيتون اللبناني من أطيب النّوعيّات في العالم، وبالطّبع فإنّ من يستطيع الحصول على زيته مباشرة من إنتاجه أو من مصادر ثقة فـ “بيته في القلعة” كما يقال لأنّه يحصل على مُنتَج أصبح نادراً أكثر فأكثر في سوق لبنان والمحظوظون وأصحاب الخبرة الواسعة في الزّيت فقط هم الذين يمكنهم تأمين مؤونة الزّيت من أفضل الأنواع.
لكن: ماذا عن بقيّة المواطنين وكيف يتدبّرون زيتهم؟
يتميّز السّوق اللبنانيّ بغياب الرقابة الفعلية على المُنتَجات الغذائيّة وعلى الخبرة الكبيرة للتّجّار في عمليّات الغِشّ وتحقيق الأرباح من بيع المُنتجات المتدنيّة النّوعيّة أو المزوّرة. ومن يقرأ الصّحف اللّبنانيّة في مواسم الزّيتون والزّيت يصطدم فعلاً لكمِّ الأخبار والتحقيقات التي تصف الطّرق المتنوّعة لغِشّ زيت الزّيتون مثل تصنيع الزّيت من مَهَل الزّيتون بعد نقعه بالزّيت النباتيّ لمدّة معيّنة ومعالجته بموادّ كيماويّة أو الغِشّ عن طريق إضافة الزّيت النّباتيّ بكميّة قد تتراوح بين 25% و50% وهناك غِشّ معاصر الزّيتون التي تضع مواسير تحت أرض المعصرة تمزج زيت الزّيتون المعصور بالزيت النباتي بصورة خفيّة وهو ما يمكّن المعصرة من السّطو على كميّة كبيرة من زيت الزّيتون التي تقوم بعصره، وهناك معالجة الزّيوت النباتية الرّخيصة بمركّز الكلوروفيل وبمُضافات معيّنة تُعطي للزّيت النباتيّ المكرّر طعم زيت الزّيتون، وهناك خلط زيتون “الجويل” (أي الذي يتساقط تحت الأشجار بسبب التسوّس أو آثار العواصف) مع زيتون القطاف بهدف زيادة كمّية الزّيت وهذا السلوك فيه غِشٌّ واضح..
لكن في جميع تلك الحالات، فإن التّجّار يستطيعون الغِشّ بسهولة لأنّ القليل من المستهلكين لديهم الخبرة بزيت الزيتون، ولأن الأكثريّة الساحقة منهم (خصوصاً الذين يقيمون في المدن) لا يشترون “مؤنة” الزّيت للسّنة كلّها من مصدر يعرفونه بل هم يشترون ما يحتاجونه من المخازن الكبرى أو السوبر ماركت. وهؤلاء هم الضّحيّة الأهمّ لصناعة الزّيت المغشوش، حتى أولئك المستهلكون الذين استعاضوا عن زيت الزيتون المحلّي بالأجنبيّ وخاصّة الإيطاليّ (بهدف ضمان الجَوْدة) يمكنهم الآن أن يعلموا أنّ الزّيت الإيطاليّ المستورد لا يمتلك دائماً صفات الجَوْدَة التي يتوقعونها وأنّ نسبة كبيرة منه هي مزيج من زيوت رديئة النّوعية لكن مكرّرة ومعلّبة تحت أسماء إيطاليّة طنّانة وهي على الأرجح من مصدر غير إيطاليّ لكنها معبأة في إيطاليا.
لكنّ مشكلة مستهلك الزّيت في لبنان لا تقتصر على الغِشّ الواسع النّطاق بل في الجهل العامّ خاصّة عند المنتجين الصّغار بأساليب قطاف الزّيتون ثم عصره وخزنه وحفظه. فقليل مثلاً من المزارعين يعلم بأهمّيّة ألّا يكون هناك وقت بين القطاف وبين العصر، والوقت الأمثل للعصر هو أن يؤخذ الزّيتون مباشرة إلى المعصرة لأنّه إن بقي لساعات طويلة في الخارج لسبب أو لآخر فإنّه لن يعطي الزّيت بالنّوعيّة المرجوّة بسبب عمليّة التأكسد التي تصيب الزيتون المكدّس. وهذه القاعدة الأساسية غير معمول بها إلّا من قبل بعض التّعاونيّات والشّركات الحديثة لأنّ المزارعين قد يجمعون زيتونهم تدريجيّاً ويتركونه مكشوفاً إلى أن يحين موعد أخذ المحصول إلى المعصرة، وبعض الزيتون قد يُكَدّس فوق بعضه بعضاً لأيّام قبل العصر وهذا خطأ جسيم يخالف ألف باء صناعة زيت الزّيتون الفاخر.
لكن حتى لو رغب المُزارع بأن يتمّ عصر زيتونه فور جلبه إلى المعصرة فقد لا يتسنّى له ذلك لأنّه سيجد أنّ العديد من المزارعين سبقوه إلى المعصرة وهم ينتظرون دورهم، لذلك فقد يُطلب منه أن يبقي على زيتونه في المعصرة إلى أن يأتي دوره وهو ما قد يأخذ يوماً أو أكثر. ويكفي زيارة مكبس زيت لنرى كميّات الأكياس المصفوفة بانتظار أن يُلقى بها في جُرن المعصرة.
وحتى إن تمت مراعاة الشّروط فالأرجح هو أنّ الزّيت لن يُخزن بالصّورة المطلوبة بل سيعبّأ في “غالونات” بلاستيك سعة 16 لتراً وهذه الغالونات قد يأخذها المُشتري إلى البيت ويتركها في مكان ما في القبو إلى أن يحتاجها. ومن المعروف أنّ الزّيت مادّة دهنيّة وهو لذلك ذو قابليّة عالية للتفاعل مع البلاستيك وخصوصاً مادّة
الـ BPA الموجودة فيه وهي مادة لها مضارّ كبيرة على الجسم بما فيها القدرة على تحريض خلايا السّرطان. بالطّبع البلاستيك “عمليّ” بالنسبة للمزارعين وحتى بالنسبة للمستهلكين الذين لا يمتلكون الوعي بخطورة استخدامه لأيّ شيء غذائي.

هذه الطريقة في تكديس الزيتون تؤثر على نوعية الزيت عند العصر فالمفروض نقل الزيتون في أقفاص نظيفة وخالية من الورق إلى المعصرة في مدة أقصاها ساعتين بعد القطاف
هذه الطريقة في تكديس الزيتون تؤثر على نوعية الزيت عند العصر فالمفروض نقل الزيتون في أقفاص نظيفة وخالية من الورق إلى المعصرة في مدة أقصاها ساعتين بعد القطاف

زيت الزّيتون سريع التّأكسد
بسبب إحتوائه على نسبة عالية من مادة الكلوروفيل فإنّ زيت الزّيتون يعتبر مادة سريعة التأكسد عند تعرضها للضوء أو الأوكسيجين (الهواء)، لكن مع الأسف فالقليل من المستهلكين يدركون هذه الناحية فيشترون الزّيت في قوارير زجاجيّة شفافة تجلس على رفوف المحلات مدة غير محددة. والشركات يهمّها بيع الزيت بقوارير شفافة لأنها تريد أن تظهر لونه الأخضر الذهبيّ الجذاب للمستهلك، علماً أنّ هذا اللون قد يكون في أحيان معيّنة نتيجة إضافة مادة الكلوروفيل الصّناعية إلى زيوت نباتيّة مكرّرة لا لون لها ولا طعم. فالمفترض هو بيع الزّيت في قوارير داكنة لكنّ المستهلك لن يُقبل عليها لأنّه يريد أن يرى اللّون الذهبيّ للزّيت. وبالطّبع وقبل أن يصل الزّيت إلى القارورة فقد تمّ على الأرجح شحنه بالبحر في صهاريج كبيرة لأسابيع ثم أُدخِل في خزّانات الشّركات لأسابيعَ أخرى قبل تعبئته، وهكذا يكون زيت الزّيتون (في حال عدم غِشّه) قد خضع لعمليّة تأكسد طويلة أفقدته أكثر خصائصه الغذائيّة المفيدة وزيت الزّيتون المتأكسد يصبح ضارّاً للصحة بدل أن يفيدها.
إنّ الطّريق الأفضل للتموين بالزّيتون هي شراء خزّان “ستنليس” Stainless مصمّم لهذا الغرض من عند تجار المعدّات الزّراعية (راجع التفاصيل إلى جانب هذا الكلام). بالنّسبة للذين لا يتمونون الزيت بكميات ويفضّلون شراءه بكميّات أقلّ هناك برميل ستنليس سعة 30 لتراً يمكن تزويده بصنبور (حنفيّة) في أسفله لأخذ الزّيت منه عند الحاجة. وهذا الخيار أفضل من غالون البلاستيك لكنه ليس أفضل كثيراً لأن الزّيت سينقص تدريجيّاً من البرميل وتتّسع مساحة احتكاك الزّيت بالهواء (الأوكسيجين)، الأمر الذي سيؤدي إلى تأكسده بصورة متسارعة.
بالنّسبة لهذه الفئة من المستهلكين فإنّ الحلّ الأفضل هو شراء قوارير زجاجية (ألفيّات) سعة ثلاثة لترات أو أقل (ويفضل الزجاج غامق اللون) وملئها بزيت الزّيتون حتى الشفة وإغلاقها بصورة محكمة ووضعها في غرفة معتمة بحيث يتمّ فتح كلّ منها للإستعمال عند الحاجة ويبقى المخزون الباقي محفوظاً بعيداً عن التأكسد.

خزّان زيت الزيتون المانع للتأكسد

الغطاء العائم يبقى ملتصقا بالزيت ويمنع تأكسده
الغطاء العائم يبقى ملتصقا بالزيت ويمنع تأكسده
خزان-حفظ-الزيت-من-الستينلس
خزان-حفظ-الزيت-من-الستينلس

يُعتبر خزّان زيت الزّيتون المانع للتأكسد إبتكاراً فريداً يستجيب لحاجة المستهلك للإحتفاظ بزيته طازجاً وفي أعلى مستوى من الجَوْدَة.
الخزّان مصنوع من «الستنليس» العالي الجَوْدة لكنّ الجديد فيه هو تزويده بتقنية فريدة لـ «حبس» الزّيت بصورة دائمة مع قطع أي تماس بين سطحه وبين الهواء المسبّب للأكسدة، ويتمّ ذلك من خلال غطاء ستنليس داخلي يترك لـ «يعوم» على زيت الزّيتون بحيث كلما أخذ المستهلك الزّيت عبر الصّنبور في أسفل البرميل هبط الغطاء العائم مع الزيت وبقي بالتالي ملتصقاً به وهو ما يمنع دخول الأوكسيجين وتأكسد الزّيت، ومن أجل مزيد من الضّبط فإنّ الغطاء نفسه يمكن عند الانتهاء من أخذ الزيت إقفاله بإحكام من خلال إطار مطاطيّ يحيط بالغِطاء ويتم نفخه بمنفاخ صغير بعد الانتهاء من أخذ الزيت، أمّا السّوار المطاطي فيلتصق بإحكام بجوانب الخزان ويقطع الهواء بالكامل عن الزّيت إلى أن يحين وقت أخذ الزّيت مجدّداً من البرميل. ويتّسع برميل الستنليس المنزليّ لكميّة من الزّيت تصل إلى 100 لتر تقريباً وهو ما يعادل “مؤنة” السّنة من الزّيت لعائلة متوسّطة أو أكثر من ذلك.

خلوات القطالب

خَلـواتُ القـطالـبِ

مِحْرابُ الزُّهّاد ومَحَجّة الدّروز في المُلمّات

بناها ناهضُ الدّين مُرِيدُ الأميرِ السّيّد ورَعَتْها أجيالٌ من المَشايخ الثّقات

تُعتَبر “خلوات القطالب” الواقعة في خراج بلدة بعذران من الخلوات القديمة العهد في جبل لبنان، إذ تمّ بناؤها قبل نحو 557 سنة من قبل أحد مريديّ الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخيّ (ق) بناء على توجيه منه، لكنّها دَرَسَت في فترة معيّنة وأعيد ترميمها وفتحها للعابدين خلال القرنين الأخيرين على الأقل. ورغم صغرها النسبيّ لعبت خلوة القطالب التي تحوّلت إلى “خَلوات القطالب” لاحقاً مع زيادة عدد الخَلوات) أدواراً دينيّة كما كانت في بعض المُلمّات الوطنيّة نقطة استقطاب للموحّدين الدّروز من كلّ مكان، وقد اهتمّ بها المعلم كمال جنبلاط فكان يزورها للتّذاكر مع المرحوم الشّيخ أبو يوسف حسين هاني ويبيت فيها أحياناً، كما عمل لاحقاً على تعبيد الطّريق إليها، وقد عزّز عهد شيخ العقل المرحوم محمد أبو شقرا الذي اختار مكاناً لإقامته في بعذران من شهرة تلك الخلوات الواقعة خصوصاً عندما دعا فيها إلى اجتماع عام لمشايخ الموحّدين الدّروز مرّتين الأولى أثناء الحرب الأهليّة والثانية إبّان الاجتياح الإسرائيليّ في العام 1982. فما هي قِصّة هذا المكان الجليل الذي يرمز إلى النّقاء الروحيّ والمجاهدة والوقفات الوطنيّة عند الموحّدين الدّروز وما هي المراحل التي مرّ بها عبر تاريخه الطّويل

الخلـوات عند الموحِّدين الدّروز هي مـراكز للترقّي الروحي يقصدها السّالكون والزّهاد الذين نذروا أنفسهم للخلوة والعبادة وصحبة الشّيوخ الثّقات والمذاكرة في القصص وسير الصّالحين بغية الترقّي في السلوك ومعارج التحقّق الروحيّ. والخلـوة هي عادة بناء متـواضع، خالٍ من الزّينة والزّخرف، ليس فيه مقاعـد أو كراس. يفترش الشّيوخ الأجاويـد والطلاّب المريـدون الأرض المغطّاة بالحصر أو السّجاد البسيط، وتـكون الخلـوات عـادة في أعالي الجبال في أمكنة بعـيـدة عـن العمران والضّوضاء. والموحدون الدروز يتابعون في ذلك سيرة الطّرق الصوفيّة التي ازدهرت في الإسلام سواء من حيث رغبة المقيمين فيها الابتعاد عن الدّنيا أم من حيث طلب العلم والارتقاء في معارف الدين. وقـد نشأ التصوّف عـن الزّهـد، وكان الغالب على الزهّاد العبّـاد، الفقـر والتقـوى والتقشّف والخـوف ومحاسبة النفـس. وكانت الحياة الصّوفية في البداية على أساس فـردي، ثـم أخـذ المتصوّفون يجتمعون حـول شـيخ. وبعـد ذلك ظهرت “الطّرق” الصوفيّة التي كانت تقوم حول أحد كبار الصوفيّين في عصره من الذين يتكاثر أتباعهم والسالكين على يدهم فتنشأ بسبب هذه الكثرة الزّوايا والتكايا الصوفيّة، وقد عرف الإسلام عشرات الطّرق الصوفيّة التي اتفقت جميعها على الغاية من التصوّف وآدابه لكنّها تنوّعت وتباينت أحياناً في أسلوب التّعليم وفي مسالك التّربية للمريدين لكن ذلك لم يعتبر في نظر الصّوفيين نقصاً بل تنوعاً يجعل للمريدين أكثر من خيار في التّعلم بحيث يختار المريد ما يميل إليه قلبه من المفيد.
والتصوّف بهذا المعنى ليس “عقيدة دينيّة” لأنّ كلّ الطّرق الصوفيّة تدين بالإسلام ديناً وبمحمد (ص) رسولاً هادياً، وغاية المتصوّف هو التقرّب من الله تعالى وهو لا ينتظرُ الآخرة للحصول على هـذا القرب. لكنّه يلجـأ إلى المجاهدات والرّياضات الروحيّة التي تتجاوز ما يفرضه الدّين. ولا يطلب السّعادة في هذا العالم. بـل ينجذب إلى سعادة أبعـد يسـتريح قلبه فيها. قال ابن خلدون: الصوفيّة من العلوم الشّرعية الحادثة في الملّة. وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى. والزّهد فيما يُقبل عليه الجمهور مـن لـذّة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في خلـوة للعبادة.

خَـلـوة القـطالب2
تقـع خَلـوة القطالب في قضاء الشوف قـرب بلـدة بعـذران، وعلى علـوٍّ شاهـق فـوق بلـدة عيـن قَنـي، وهي ترتفع عـن سـطح البحـر نحو ألـف متـر، وتبعـد عـن طـريق عـام عمّاطور – بعـذران مسافة ألـف مترٍ أيضاً. كانت تتـألّف مـن ثلاث غـرف. غـرفة فسيحة وغـرفتين جانبيّتين، كلّها مبنيّـةٌ بالحجر الصّخـري ومسقوفة بطريقة العقـد. تُشـرف على مُعـظـم قـرى الشّوف، وتحيـط بهـا الأشـجار المـثمرة والبـرّيّة، وهـذه الطّبيعة الخـلاّبة تضع الزّائر أمام منـاظر طبيعيّة ساحرة تـوحي بالتّـأمّل وتسبيـح الخـالق فكان اختيار المكان بالتّالي موفّقاً منذ البدء وقد قـام ببنـاء الخَلوة سـنة 865 هـ (1460 م) الشّيـخ ناهـض الـدّين بـن عبـد اللّـه حِصن الـدّين شـيخ بلـدة المختارة، على قطعـة أرض يملكها.3 وكما هي الحال في خَلوات الموحّدين الدّروز فقد تميّز البناء بقدر كبير من البساطة والتقشّف.

الشّـيخ ناهـض الـدّين
وُلـِد الشيخ ناهض الدّين بـن عبـد اللـه حِصن الدّين في بلـدة المختارة ونشأ فيها، كان معتدل المزاج، حسن الأخلاق والطّباع. وصفه الشيخ أبو علي مرعي، بــ “زيـن الشباب وسـيّد الفتيان”. وعنـدما أصبح دون سـنّ البلوغ، كان خبر الأمير السيّد جمال الدّين عبد اللـه التنوخي (ق) قد ذاع في طول البلاد وعرضها، فقرر التوجّه لزيارته في بلـدة عبَيْـه، برفقـة الشّيخ علـم الـدّين سليمان بن نصر من قـرية معاصر الفوقا،4 والشّيخ شرف الـدّين علي الحريريّ مـن قـرية بطمـه، ومـرّ الثلاثة بطريقهم إلى قـرية الكنيِّسة الكائنة قرب قـرية ديـركوشة في منطقة المناصف، حيث زاروا الشّيخ أبو علي مرعي ومـن ثـمّ توجّـه الجميع إلى بلـدة عبَيـْه لزيارة الأمير السيّـد، حيث استقبلهم بالتّرحاب، وأفاض عليهم مـن علمـه ووعظـه وإرشاده.5
كان الأمير السـيّد جمال الدّين عبد اللـه التّنوخي قد أصبح شيخ مشايخ البلاد واشتهر بتقواه وعلمه الواسع وحصافته وحسن نصحه وتضلعه في العلوم الرّوحانية، وكان الطلّاب يفدون إليه في عبَيـْه، مـن الإمارتين المعنيّة وقاعدتها بعقلـين، والتنوخيّة وقاعدتها عبَيْه. وكان في مدرستـه 37 تـلميـذاً بالإضافة إلى طلاّب ومريدين من وادي التّيـم ودمشق والغوطـة والجبل الأعلى وفِلِسْطين، يسلكون على يده وينهلون من علومه وحكمته، أمّا هو فقد كان يـردّد عبـارة: (الحمد للّـه الذي جعل المعرفة أساس الخير، ووفّـق إليها مـن أراد بـه الخيـر).6
عـاود الشّيخ ناهـض الـدّين حِصن الـدّين، زيارة الأمير السيّد جمال الدّين عبد اللـه التنوخيّ في عبَيْه، ودخـل مدرسته وأصبح من تلاميذه. فكان من الأذكياء النّابهين. وعندما أنجز قِسْطه من العلوم كلّفه الأمير السـيّد بأمانة الأمـر والنّهي في مقاطعته والاهتمام بشؤون الموحّدين، كمـا أمـر تلاميذه المتخرّجين في مدرسته العِرفانيّة بأن يتوزّعـوا في القرى والبلدات، لتعليم الأولاد، الصّبيان والبنات والكبار الأميّين مـن الذّكور والإناث القراءة والكتابة، وتخصيص يـوم مـن أيّـام الأسبوع للاجتماع بأهالي القرية ووعظهم وإرشادهم، وإفادتهم بأمور الـدّين والـدّنيا. لأنّ غـاية الأمير السيّـد كانت تعميـم التّعليـم المجّـانيّ في جميع القـرى والبلـدات التّـابعة لإمـامته. وبقي هؤلاء التّلاميذ على تواصل مـع أستاذهم الأميـر السـيّد، يأخـذون من علمـه ومعارفـه وإرشاده حتى وفاتـه.7
لقـد رأى النّـاس في هـؤلاء التلاميـذ القـدوة الصّالحة بأخلاقهم وأفعالهم ومسلكهم. فنسبوهم إلى معلّمهم، وأطلقـوا عليهم لـقـب “جماعة الأمير السـيّد “، وقـد جعل لهم المعلّم يـوماً معلوماً مـن أيّام الأسبوع، يجتمعون إليـه، يشـرح لهم غـوامض العلوم، ويفسّـر لهم الآيات والأحاديث. وأمـر الأمير السيّـد ببنـاء المساجـد في القرى، وتجـديد الجوامـع، وإنشاء الأوقاف، وتكليـف شيـوخ فقهاء لإقامة خطبة الجمعـة في الجوامع في كل قـرية. وكان الفقيه شهاب الدّين أحمد بن عمر بن صالح بن سبَاط، من مدينة عاليه،(والد حمزه بن سبَاط، صاحب تاريخ إبن سبَاط، صدق الأخبار). من تلاميذ الأمير السيّد، وكان فقيهاً وخطيب جامع عبَيْـه. وكان له صوت شجيّ عنـد التّسبيح والتّذكير 8 ( وكلمة فقيـه كانت تعني أيّام التنوخيّين، المعلّم أو المدرّس)، وكان الأمير السيّـد يشـدّد على القراءة الصّحيحة للقرآن الكريـم.
لقـد شـاع هـذا التّـرتيب في أكثـر البلـدان. فحسُـنت أحـوال النّـاس في جميع الجهـات، وتجنّـب المُفسـد الفساد، واللـصّ السّرقة،.وكانت الفواكه تسـقط على الأرض فـلا يتعـرّض لها أحـد. وأصبحت البـلاد في أحسن حال مـن طيب العـيش.9
أقـام الشيخ ناهض الـدّين حِصنُ الـدّين في بلدته المختارة، وبـدأ بالاهتمام بشؤون الأهالي، وتعليم الأولاد والكبار الأميين القراءة والكتابة، والاجتماع بالنّاس في يوم من أيّام الأسبوع، للوعـظ والإرشاد وشرح أسس الدّين واستقبال وتعليم الطلاب المريدين، والعمل بتعليم الأمير السيد ووصاياه مثل تنظيـم زواج الموحّدين والموحّدات وطلاقهم، وتطبيق الأوامـر والنّواهي بالنسبة لجوارح البـدن. والنّهي عـن الغضب. والمعاملة بالحـلال، والنّهي عـن الحـرام وغير ذلك من المسائل.

” الشّيخ سلمان الشمعة خَدم الخَلوة بإخلاص ثم قاتل واستُشـــهد في قتال الفرنسيّين خلال ثورة 1925  “

وقد عمـل الشيخ ناهـض الدّين حصن الـدّين بمـا كلّفـه بـه الأمير السيـد عبد اللـه التنوخي على أكمل وجـه فلقّبـه معلّمـه الأميـر السـيّد بـ “ الرّئيـس النّفيـس”، ومـن ثـمّ بعـث لـه برسالـة مـن مقـرّه في عبَيْـه إلى المختارة سنـة (841 هـ/ 1437م). ينعتـه بأحسـن النّعـوت، داعياً له بقوله “فاللـه تعالى بجـاه وليّه يمـدّك بالرّشاد، ويخلـّد لـديك نعيـم ثوابـه بالشّكـر والحمـد، ويتلقّاك بوجـه الـرّضا يـوم الجزاء والمعاد” لأنّ “السّعيد فيـه مـن ركـب جـواد المـروءة واعتبـر، وكشـف عـن ساق العزيمة وحـذّر، والشّـقي مـن أركن إلى الإهمال، وقابـل مراسيم الحـقّ بغيـر فاضل الأعمال، ولـم يستعـدّ لـزاد المَعاد قبـل ورود الآجـال”.
في سنـة 865 هـ (1460 م) عمـل الشّيخ ناهض الـدّين حِصْن الـدّين على بنـاء خَلـوة القطالب، على أرض يملكها قـرب بلـدة بعـذران، وهي بنـاء متواضع، وكان يقصدها الشّيوخ المـوحّدون، وبخاصّة مساء يوم الخميس (ليلـة الجمعة) مـن كلّ أسبوع للصّلاة والمذاكرة والتّشاور في صلاح المجتمع، كمـا كان يقصدها الطلاّب المريدون، للتـعبّـد وتلقّي العلـم.10
توفّي الشيخ ناهض الدّين حِصْن الدّين في بلـدته المختارة نحـو سنة 873 هـ/ 1468م. ونُعِي الأمير السيد (ق) فأتى مـن عبَيْـه إلى المختارة، حيث حضر جنازته وحـزن لفقـده، وشاهـد جثمانه وقبّلـه، ودعـا لـه وصلّى عليـه. ودفـن في المختارة في مـدفـن العائـلة. أمّـا طنّـوس الشـدياق فيـذكر أنّ وفاته وقعت في سنة 1477م الموافق لسنة 882 للهجرة (أخبار الأعيان ج1 ص 182).
وفي شـهر ذي الحجّـة مـن سـنة 1218هـ (الموافـق لسـنة 1803 م). عمـل الشّيخ ناصر الدين بـن أحمـد حِصْن الدّيـن، المتوفّي سنة 1250هـ (1834م)، على بنـاء حجـرة فـوق المـدفن الذي دُفِـن فيـه الشّيخ ناهض الـدّين. نقـش على بـلاطة الشّاهـد الغـربي ما يلي:
“ بسـم اللّـه الـرّحمن الـرّحيم وهـو حسـبي وبـه أستعين. أبنـا (بنـى) هـذه الحجـرة العبـد الحقيـر الشّـيخ نـاصر الـدّين في شـهـر ذي الحجّـة سـنة 1218هـ (الموافق لسنة 1803م). أمّـا بـلاطة الشّـاهد الشـرقي فقد نُقـشت عليها كتـابة لـم تعـد مقـروءة بسـبب مـرور الـزّمن والعوامل الطبيعيّـة.
وبالنّظـر لمـا كان يتمتّـع بـه الشيخ ناهض الدّيـن حِصْن الدّيـن من كـرامة وعلـو منـزلة، ولـم يـزل اسـمه ومآثـره في ذاكـرة النّاس. لذلك ارتأى بعـض الشّـيوخ الأفـاضل، بنـاء ضريـح جـديـد له ومـن أجـل ذلـك، وفي سـنة 1992م تـمّ بنـاء الضريـح الجـديـد في الطابق الأول من مبنى دار بلـدة المختارة ضمـن قاعـة المجلس، وجـرى نقـل الـرّفاة ووضعت في الضّريح الجـديـد، وتـمّ أيضاً نقـل بلاطتي الشاهـدين ووضعتا فـوقه بـعـد أن أجريت الصيانة اللازمـة للكتابة المنقوشة على بلاطـة الشّاهـد الغـربي المـذكورة آنفـاً مـن أجـل توضيحها. أمّـا بـلاطة الشّاهـد الشـرقي، فقـد نقـش عليها النّـص التّـالي:
“تـمّ نقـل هـذه الحجـرة إلى هـذا المكان تكـريماً لـرفاة النّفيـس الطّاهـر الصّدر الـرّزين المـرحوم الشّيخ ناهض الدّيـن ومـا قـد عثـر إلى جانبه في رَمسـهِ مـن رفـاة لسلفه الطاهـرين مـن آل حِصْن الدّيـن”.
(في ربيع الآخـر سنة 1413 هـجرية (الموافق لسنة 1992م).11

الشيخ-أبو-يوسف-حسين-هاني-بعذران
الشيخ-أبو-يوسف-حسين-هاني-بعذران

الخَـلوَةُ بعـد وفـاة الشّيخ ناهض الدّين
مـن المُلاحظ أنّ الشيخ ناهض الدّين حِصْن الدين، لـم يقـم بإشادة مبنى القَطالب ليجعله خَلـوة يقيـم فيها بصورة دائمة، وهو شيـخ بلدة المختارة، والقائم على خـدمة الأهلين وتدبير شؤونهم. لكن أغلب الظّن أنّـه قـام ببنائها للحضور إليها في أوقات محـدّدة للصلاة والتأمّل، ولإقامة شيوخ مزارعين يعملون في أراضيه، ومـن ثـمّ اعتُمـِدت خلـوة في مـا بعـد.
ومـن البحث عـن مـراجع أو وثـائق أو معلومات تـفـيد عـن أسـماء الشّيوخ الذين أقاموا في خَلـوة القَطالب، بعـد وفـاة الشيـخ ناهض الـدّين حِصْن الـدّين سنـة (873 هـ/ 1468م). لـم يتوفّـر لدينا سـوى وصيّة الشيخ أسـد بن زين الدّين يقظان من بلدة بعذران، المؤرّخة سـنة 1220هـ (1805م) حيث أوصى بمبلـغ خمسة قـروش إلى خلوات القطالب سويّة بين الشيخ جـرير وبين الشّيخ بـو حسين علي.12 (لـم نتـوصّل لمعـرفة اسم عائلتيّ الشّيخين المذكـورين).
وفي وصيّة الشّيخ ناصيف أبو شقرا من عماطور، المؤرّخة سنة 1164هـ (1750م). فقـد ورد فيها: (كرم معصرة القَطالب)، ولم يَـرِد اسم خَلوة القَطالب.
ولـم يـرد ذكر خَلوة القَطالب في وصيّة الشّيـخ أبو محمـود حسّـون الدّبيسـيّ من قرية مـرستي المـؤرّخة (في شهـر جمادى الأولى سنـة 1226هـ الموافق لسنـة 1811م).13 ولـم يـَرِدْ أيضاً ذكرها في وصيّة شيخ العقل الشيخ أبو علي يوسف بردويل أبو رسلان، الذي كان مقيماً في بعقلين، والمؤرخة سنة 1243هـ (1828م). وهـذا يـدلّ على أنّه حصل انقطاع في استخدام المكان للأغراض الدّينيّة التي أنشئ لأجلها.
بـعـد نهايـة الحـرب العالمية الأولى، حضر إلى خلـوة القطالب، الشّيـخ حسين هـاني مـن بلـدة بعـذران، والشّيـخ سـلمان الشّمعة مـن بلـدة عين قَـني المجاورة، وعمـلا على تـرميمها وإجـراء الصّيانة الّلازمـة لهـا، بمساعـدة بعـض الأصـدقاء، وباشـرا باستقبال الشّيوخ الذين يحضرون إلى الخَلـوة للصلاة والتعبُّـد والمذاكرة الروحيّة، وأصبح الشّيخ حسين هـاني يقيـم في الخَلـوة بصورة دائمـة، أمّـا الشّيخ سلمان الشّمعة فقد بقي مقيـماً في منزله في عيـن قَني، ويحضر إلى خَلـوة القطالب مـن حين لآخـر. وخـلال هـذه الحِقبـة، قـدِم إلى الخَلوة الشّيخ أبو حسين يوسف عبد الوهّاب14 مـن قريـة الغـاريّـة في سـوريا، محافظة السّويداء، فأقـام في المكان لمـدّة قصيـرة، ومـن ثـمّ عـاد إلى قـريته الغاريـّة. وكان عندما يحضر إلى لبنـان في ـما بعـد، يـأتي إلى خَلـوة القطالب، للـزّيارة ويمكـث فيها عِـدّة أيّـام.15
إسـتمرّ الشّيـخ حسين هاني والشّـيخ سلمان الشّمعـة بخـدمة خَلـوة القَطالب حتى سـنة 1925. وفي تلك السّنـة، إنطلقت الثـّورة السوريّة التي قادها سلطان باشا الأطـرش ضـدّ الفرنسـيّين في سـوريا، وامتـدّت إلى جنوب لبنان، فأقـام الثـوّار والمجاهـدون مـركزاً لهم في بلـدة حاصبيّا. ذهـب الشّيخ سـلمان الشّمعة إلى حاصبيا بـرفقة بعض الشبّان وانضمّـوا إلى الثوار والمجاهـدين، بعـد أن طلب الشّيخ سلمان من الشّيخ حسين هاني البقاء في خَلـوة القطالب والقيام بخـدمتها وتـدبير شـؤونها. وبـدأ الشّيخ سـلمان الشّمعة ورفاقه، المشاركة بالعمليّات الجهاديّة التي كانت تشـنّ ضـد الجيش الفرنسـيّ، في الجنوب والبقاع الغربي وراشـيّا. وبعـد عـدّة أشـهـر، أصيب الشّيخ سـلمان الشمعة بطلقات نارية أثنـاء اشتباك مسلّح حصل بين المجاهدين، والجنود الفرنسيّين قرب قـرية كـوكبا وفـارق الحيـاة، ودفـن في تلك المنطقـة. وتابع الشّيخ حسين هاني الإقامـة في خَلوة القطالب، يمارس الصّلاة والعبادة، ويستقبل الزوّار والشّيوخ والطلّاب المريدين. وقـد لقّـب بــ “أبـي يـوسـف” وكان بتولاً ولـم يتـزوّج.

زيارة مفاجئة من المعلّم
في أحـد الأيّام من ربيع سنة 1953 حضـر إلى الخلـوة المعلّـم كمـال جنبلاط، منفـرداً وبـدون علـم مسـبق، حاملاً بيـده كيسـاً ضمنـه مـوادّ غذائيّة، وقـدّمـه إلى الشيخ أبو يوسف حسين هاني، فـسـلّم الشيخ أبو يوسف عليه ورحّـب بـه وشكـره ودخـلا الخلوة. جـلس المعلّـم كمال جنبلاط على الأرض متربّعـاً، وبـدأ ينظـر في أرجائها، فـرأى أرضها مفروشـة بالبُسـط والحُصـَر، وعلى الجوانب مفروشة بالطّراريح والمسانـد. والشّيخ أبو يوسـف يجلس متربّعاً على جلـد غنــم مفـروش على أرض الغـرفة، وقـربه بعض الكتب والأوراق ومنضـدة عليها قنـديل كاز. وفي الغُرفة الثّانية وضعت مجموعة من الفُـرش والأُغطية والوسائد، تستعمل لمنامة الضّيوف وعابريّ السبيل.16
كان كمـال جنبـلاط قـد ركن سيّارته على المفـرق المـؤدّي مـن طريـق عام عمّاطور – بعـذران، إلى خلـوة القطالب، وأتى إلى الخلـوة سيـراً على قـدميه، لأنّ طريق السيارات لـم تكن قـد وصلت إلى الخلـوة، والتي تبعـد عن الطريق العام مسافة ( 1000) متر.
عنـدما علم بعض شيـوخ القـرى المجاورة بـزيارة المعلّم كمـال جنبلاط إلى خلـوة القطالب، قامـوا بإجـراء الصّيانة اللازمة لها، وفـرش أرضها بالسّجّاد، ودعـَوْا المعلّم كمال جنبلاط لزيارتها ثانيـة. وفي الوقـت والتّاريخ المحـدّدين، حضر جنبلاط إلى الخَلـوة، وكان في استقباله جمـع من الشّيوخ والأهلين، ودخل الجميع إلى الخلـوة وجلسوا على الأرض متربّعين. وقـد وضـع في الغـرفة المقابلة طاولات، عليها أنـواع مختلفة مـن الأطعمة والفواكـه. فقـال كمال جنبلاط: لمـاذا أتيتـم بكل هـذه الأنواع مـن الأطعمة؟ وهـذه تكلفـة لا لـزوم لهـا. فأجاب أحـدهم: هـذه الأطعمـة مـن بيوتنا ومـن صنع نسائنا، والفواكه مـن غـلاّت أرضنا. فقال المعلم: أنتـم أغنيـاء بالتقـوى والمحبّـة والقناعـة، وعنـد انتهاء الزّيارة ودّعهم وانصرف، فرافقـه بعضهم حتى وصوله إلى سيّارتـه. 17
وبعـد ذلـك، وبتاريـخ لاحـق، زار المعلّـم كمال جنبلاط خلـوة القطالب مـرّتين، وفي كلاهما كان يجلس مـع الشيخ أبو يوسف حسين هاني لساعات، يتبادلان الأحاديث في أمـور مختلفـة. ويبيـت الليل في الخلـوة. كان يرافقة الشيخ علي زيـن الـدّين.18
بقـي الشيخ أبو يوسف حسين هاني مقيماً في خلـوة القطالب، يقـوم بخـدمتها. وكان شـيخاً تقيّـاً طاهـراً بتـولاً زاهـداً متصوّفاً، متخلّيـاً عـن مَتـاع الـدّنيا ومغـرياتها، ثـابت الإيمان، خالـداً إلى نفسـه وربّـه، يحظى بنعمـة الرّضا ورجاحة العقـل وسكـون الإيمان، حليـماً عطـوفاً مسبّحاً بحمـد اللـه تعالى.
توفّـيَ الشـيخ أبـو يـوسـف حسـين هـانـي سـنة 1374هـ (1954م)، عن عمر 76 عاماً، ودفـن بـداخل منـزله في بلدتـه بعـذران. وبُنِي له ضريحٌ داخـل المنـزل، وجُعِل المنـزل فيمـا بعـد مجلساً للصّلاة والعبادة والمـذاكـرة فُرِشـت أرضه بالسّجـاد، وعلى الجوانب مقاعـد أرضيّة مرتّبة، وقد نُقِـش على بلاطة الشّـاهـد الشّـرقيّ من الضّريح آيــةُ الـكـرسـيّ. ونُقِـش على بلاطة الشّاهـد الغربي مـا يلـي:

المعلم كمال جنبلاط كان يزور خلوات القطالب ويسهر مع الشيخ أيو يوسف حسين هاني
المعلم كمال جنبلاط كان يزور خلوات القطالب ويسهر مع الشيخ أيو يوسف حسين هاني

تـــاريــخ وفـاة التّـقي الـزّاهـد والـورع النّـاسك العـابـد
الشّـيخ أبـو يـوسـف حسـين هـاني رحمـه اللّـه.
تقيٌّ قضى فالفضــــــــــــــل يبكيه راثيــــاً
وينعاه بدراً من سما الطّهر هاويا
غدا ناسكاً بالزّهد أوحد عصــره
وبــــــــــــــات بتــــــــــــــولاً مــطمئـــــــــنّاً وراضيـــــــــا
فقـلت وربّي ثـــــــــــــمّ أرّخت حكمــــــــــــه
أبـو يوسـف في الخلد يرقد هـانيـــــاً
(سـنة 1374هـ الموافق لسنة 1954م).

بعد وفاة الشّيخ أبو يوسف حسين هاني
بعـد وفـاة الشيخ أبـو يـوسف حسين هـاني (سـنة 1954م)، طلـب بعض الشّيوخ مـن الشّيخ أبـو علي اسماعيل زيـن الـدّين19 مـن قريـة الخريبة المجاورة، تـدبير شؤون خلـوة القطالب، وإجـراء مـا يلـزم كي تتابع الخلـوة دورها الدينيّ. فبـدأ الشيخ أبـو عليّ يحضر إلى الخَلـوة عصر يـوم الجمعة مـن كل أسبوع، يستقبل الشّيوخ والطلاب المريديـن للصلاة، ويشـرف على حلقات الذّكـر، يرافقـه ويعاونـه الشّيخ محمـود الشمعة مـن قرية عيـن قني المجاورة. وكانت سهـرة المذاكرة الـدينيّة تستمرّ سـاعات طويلة من الليالي وكان بـعض المشايخ يعـودون إلى منازلهم ليلاً، والبعض الآخـر يبيـت في الخلوة، ويعـود إلى منزله في الصّباح. واستمـّر الأمر على هـذه الحـال نحو سنـة ونصـف.
ولمّـا كان مـن الأفضل تكليف أحـد الشيوخ الإقامة في خلوة القطالب للقيام بخـدمتها وتـدبير شؤونها، وبمـا أنّ الشيخ محمـود الشّمعة هـو شـابّ تقـيّ، ويتمتّـع بأخـلاق وصفات حميـدة، وقـد تتلمـذ بالعلـوم التّوحيدية على يد الشيخ أبو يوسف حسين هاني، والشيخ أبو علي إسماعيل زيـن الدّين، فقد طلـب إليـه الشـيخ أبو علي إسماعيل زين الدين، أن يقيـم في خلـوة القطالب، فاسـتجاب لـرغبته، وأقـام في الخلـوة وعمل على خـدمتها، وذلك اعتباراً من نهايـة صيف سنة (1956).
وُلـِدَ الشّـيخ محمـود سـلمان الشّمعة في بلـدة عين قَني سـنة 1922، والـده الشيخ سلمان الشّمعة الذي قضى شهيداً قـرب قـريـة كـوكبا سنة (1925)، خلال اشتباك مسلّح مع دورية من الجيـش الفـرنسيّ، كمـا مـرّ آنفـاً/ وقـد ربّتـه والدته تربيـة صالحة، ومنـذ نشأته، كان يرافـق المشايخ للصّلاة وجلسات المذاكرة. وباشـر منـذ قيامـه بخـدمة الخلوة، بصيانتها وترميمها وتجـديـد فرشها. واستقبال الشّيوخ والطلّاب المريدين. ولـم يـُرزق الشّيخ محمود الشّمعة بولـد ذكر، ولقّـب “أبو سلمان” على إسـم والـده.

ضريح الشيخ أبو سلمان محمود الشمعة في الخلوات
ضريح الشيخ أبو سلمان محمود الشمعة في الخلوات

تزويد الخَلوة بالطّريق والكهرباء
الشّـيخ نجيـب رشـيد صالحـة مـن بلـدة رأس المتـن، تـربطه صلـة قـرابة ونسـابة مـع الشّـيخ أبو سلمان محمـود الشمعـة. بـدأ منـذ العـام (1961)، يتـردّد إلى خلـوة القطالب للـزّيارة والمساعـدة في ما تحتاجه الخلـوة مـن خـدمة، وإنجـاز معـاملات تتعلّـق بالخلـوة لـدى الـدّوائر الـرسميّة والخـاصّة. وبمـا أنّ الطّريق التي تصل مـن مفـرق طريق عـام عمّاطور– بعـذران، إلى خَلوات القطالب، لـم تـزل طـريق مشاة، ويصل الناس عبرها إلى خلوة القطالب سـيراً على الأقـدام، فقد قـام الشيخ نجيب رشيـد صالحة في سـنة 1967 بـمقابلة المعلّم كمال جنبلاط، الذي كان وزيراً للأشغال العامة ورفع إليه طلب المشايخ إجـراء مـا يلـزم لإيصال طـريق سـير السيّارات إلى خلـوة القطالب. فأصدر الـوزير جنبلاط قراراً بهـذا الشـأن، وأوفـدت وزارة الأشغال العامة جرّافة بدأت بشـق الطريق. لكن بعـد إنجاز مسافة حوالي أربعمائـة متـر، توقّـفت الجرّافة عـن العمل، بحجـّة نفـاد كمّيـة المـازوت المخصّصة لـها. فقـام الشيخ نجيب صالحة بـجمع مبلغ من المال من أقاربه في بلـدة رأس المتـن، وعمل على شراء كميّـة المازوت اللازمـة، فتابعت الجرّافة عملها في شـقّ الطريق، حتى وصلت إلى باحـة خلوة القطالب، وتـمّ تـزفيت الشارع لاحقاً.20 وفي العام التالي، أي في سنـة 1968، عمـل الشّيخ نجيـب رشيـد صالحة على متابعة ملفّ إنارة خَلـوة القطالب لـدى وزارة الموارد المائية والكهربائية، وتـمّ إيصال التيّـار الكهربائي إلى الخَلوة.21

ضريح الشيخ أبو يوسف حسين هاني
ضريح الشيخ أبو يوسف حسين هاني
ضريح مؤسس الخلوات المغفور له ناهض الدين حصن الدين الذي أنشأها في العام 1468 م
ضريح مؤسس الخلوات المغفور له ناهض الدين حصن الدين الذي أنشأها في العام 1468 م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بـما أنّـه يتـوفّـر في خلـوة القطالب مـن حين إلى آخـر مبالغ مـن المـال، تـأتي مـن النّـذور والتبـرّعات، عمـل الشيخ أبـو سلمان محمـود الشّمعة وعلى مراحل، على إشـادة عـدّة غـرف على جانبي مبنى الخلـوة، مـع طابـق علـوي، خّصص للاجتماعات والمذاكرات الدّينية. وبعـد ذلك تـمّ إنشـاء مبنيين يحويان نحو 30 غـرفة، تستخدم لإقامة الضّيوف والطلّاب المـريدين، بالإضافة إلى مبنى منفرد مـؤلّف من طابقين. خُصّص الطابق العلويّ لإقامـة الشّيخ القـائم بخـدمـة الخَلـوة، والطّابق الأسفل لاستقبال الضّيوف. كمـا جـرى شـراء عقـارات مجـاورة للخلـوة، مـن أجـل توسيع حَرَمَها، وبعـد إشـادة هـذه الأبنيـة، أُطلـق عـلى الخَلــوة إسم “خَـلـوات القـطالـب” بـدلاً مـن “خَلـوة القطالب”.
أقـام الشـيخ أبو سلمان محمـود الشّمعة عـلاقات مـودّة وتـواصل مـع الشّيوخ المـوحّدين، مـن مختلـف مناطـق لبنـان وسـوريا، حيـث بـدأوا يتـوافـدون إلى خلـوات القطالب، مـن حـيـن إلى آخـر وبمناسبات مختلفـة، للصّلاة والتعبّـد والمذاكرات الدينيّة. كمـا يَفِـد إلى الخـلوات طـلاّب ومـريدون مـن تلك المناطـق.
وفي سنـة 1970 تملّـك سماحة شـيخ العقل محمـد أبو شـقرا (1910 / 1991)، قطعة أرض قـرب خلوات القطالب، غُرِسـت بأشجار الصّنوبر والسّرو والشّربين، وبعض الأشجار المثمـرة، وابتنى وسطها منزلاً لسكنـه، وكان سماحتـه يعقـد الاجتماعات في خلوات القطالب، للتّباحث بأمـور مهمّـة تتعلّـق بشؤون الطائفة الـدّرزيّة، ومنها الاجتماع الواسع لمشايخ الطائفة الذي عقد في بـداية الأحـداث التي حصلت في لبنان سنـة 1975 والتي أطلق عليها حرب السنتـيـن، كما حصل اجتماع آخـر أثناء الاجتياح الإسـرائيليّ للبنان سنـة 1982 .
إسـتمرّ الشّـيخ أبو سـلمان محمـود الشمعة بخـدمـة خلـوات القطالب بصـدق وأمـانة عُـرِفَ خلالها بالمحبّـة وحسن السّيـرة والعناية بالضّيوف ورعاية شـؤون الموحّـدين الذين يأتـون إلى الخلوات كما إنّه كان يعلّـم الطلّاب المريدين ويـرأف بهم، ويسهـر على توجيههم وإرشادهم.
وقد خصّ المرجع الروحي المرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين خلوات القطالب بزيارات متعددة وأصبحت اليوم من الخلوات العامة التابعة لطائفة الموحدين الدروز.
تـوفّيَ الشّيخ أبو سلمان محمود الشّمعة سـنة 1999 وأقيـم لـه ضريح في الطّابـق الأرضيّ مـن المبنى الذي كان يقيـم فيـه في خلوات القطالب، ونُقـِشَ على بلاطة الشّـاهـد الشـّرقي مـن الضّريـح آيـة الكـرسيّ، وعلى بلاطة الشّاهـد الغـربيّ مـا يلـي من نظم الشيخ منذر عبد الخالق:
تــاريــخ وفـــاة
المـرحـوم الشّـيخ أبـي سـلمان مـحـمـود الشّـمعـة
يـــــــــــا شـمعة قـد ذوت في حــبِّ خالقها
جَعَلْت عمركَ عيداً بـورك العيدُ
كنتَ الأبُ الحــدبُ للإخوانِ تخدمُهم
لــــــــــــك الـتّهجّـــــــــــــــُدَ منهـــــــــــاجٌ وتـقـــــــــــــــــــــــــــــــلـيدُ
أقمـــــــــــــتَ في الخــــــــــــلوةِ الشّـــمّـــــــــــاءِ مُعْتَصِماً
أنيسُـــــــــــك الـــذّكـــــــــر تسـبيـــــــحٌ وتمجيدُ
في جَنّةِ الخــــــــــــــلدِ تثــوي سيّـــــــــــــــــداً عَلَمــــــــاً
يـــــــــــــــــــزيّنهُ الـطّهرُ والإخلاصُ والجودُ
تــــــــــــــــــاريخهُ النّــــاصـــــــــعُ المعــطاءُ فيه زَهــــــــــــــــا
نـــــــــــــــــــالَ الثّوابَ أبو سلمانَ مَحمودُ
بـعـد وفـاة الشّـيخ أبـو سلمان محمـود الشمعة سنـة 1999، طُلِب من الشيـخ أبـو سليمـان حسيب الحلبـي مـن بلـدة بطمـة، وهو من الشيوخ الثقاة المتحلين بالورع والمعارف الدينية الإشـراف على خلـوات القطالب فقام بالمهمة خير قيام يرافقه شقيقه الشيخ أبو سلمان انيس الحلبي، كمـا جـرى تكليف الشيخ منيـر أحمـد القضماني القيام بخـدمة الخلوات وتـدبير شـؤونها.
والشّـيخ منيـر أحمـد القضماني هو من مواليد العام 1954 العاصمة بيـروت، وقد تلقّى تعليمـه في مـدارسها، وهـو أيضاً لم يتـزوّج، ويكنّـى “بأبي داود”. وعمل الشيخ أبو داود في سنة 1977 مـدرّساً في مـدرسة العرفان في السّمقانية في الشوف، وكان يحضر إلى خلوات القطالب مـن حين إلى آخـر لحضور حلقـات المذاكرة الدينيـة. وفي سنـة 1983 توقـفت مدرسة العرفان عن التعليم لمـدّة سـنة، بسـبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فانتقل الشّيخ منير القضماني إلى خلوات القطالب وأقـام فيها، متفـرّغاً للصلاة والعبـادة، وتلقّي العلـوم الـدّينيـة الـرّوحانيّة ومعـاونة الشيخ أبو سلمان محمود الشّمعة، في خـدمة الخلـوات، والاهتمام بأمـور المـوحّـدين.
يسـتمرّ الشيخ أبو داود منير القضماني بخـدمة خلوات القطالب، منـذ سـنة 1999 بتفانٍ وتجـرّد. يستقبل المشايخ الموحِّـدين، والـزائرين الذين يحضرون إلى الخلوات للصلاة أو للـزيارة، ويشـرف على مجالس الذكـر، وتعلّـيم الطلّاب المريدين، ويـزور مـن حيـن إلى آخـر بعض القـرى والبلـدات، للـوعـظ والإرشـاد وشـرح تعليم الـدّين، وهو يقيـم الآن في خلـوات القطالب بصـورة دائمـة، مـن يجالسـه يـرى فيـه وداعـة الإصغـاء، وشـفافيّة التّـوحيـد وهيبـة الإيمـان. وقـد عمـل على تـزويـد مكتبـة خلـوات القطالب بمجمـوعة مـن المـراجع والمصادر في مختلـف المـواضيع بالإضافـة إلى ما كان موجوداً في مكتبتـه الخـاصّة.
وقد انتقل الشيـخ أبـو سليمان حسـيب الحلـبي إلى جوار ربه بتاريخ 3/12/2016 فكان فقده خسارة للخلوات وللطائفة،وما زال شقيقه الشيخ أبو سلمان أنيس الحلبي يتابع مسيرة شقيقه.

الهوامش

1. باحث في التاريخ
2. دعيت خلوة القطالب نسبة إلى شجر القطلب الذي كان يتكاثر في تلك البقعة. والقطلب هو شجر من فصيلة الخلنجيّات، أوراقه كبيرة بيضويّة متناسفة، وأزهاره بيضاء على شكل الجرس. (المنجد في اللغة ط 22 ص 622). تصبح الأزهار ثماراً بحجم حبّات الكرز، عندما تنضج تأكلها الطيور ولاسيّما السمّن والشّحرور.
3. الشّيخ فرحان العريضي، مناقب الأعيان، منشورات مدرسة الإشراق، عاليه، لا تاريخ، ج 1 ص 30،
4. المعاصر الفوقا، هي بلدة معاصر الشوف، وكانت تعرف أيضاً بـ معاصر الفخّار بسبب وجود معامل الفخّار فيها، وللتمييز بينها وبين معاصر بيت الدّين، وكان يطلق على هذه الأخيرة معاصر أبو الهول.
5. د. فؤاد أبو زكي، الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي منشور في العام 1997، ص 173 و 174.
6. عجاج نويهض، التنوخي والشّيخ محمّد أبو هلال، مطابع دار الصّحافة- بيروت، ط 2 ، 1963، ص 184 و 185و 188
7. كانت العلاقة حميمة بين آل حصن الدين في المختارة، وآل التنوخيّ في عبيه، وكان ناهض الدين فقيهاً لدى التنوخيين، ووالده عبد الله أيضاً.( طنوس الشدياق، أخبار الأعيان، 1: 181و 182).
8. عجاج نويهض، ن. م. ص 200.
9. عجاج نويهض، ن. م. ص 115.
10. حافظ أبو مصلح، خلوات القطالب، ن م ، ص 110.
11. مقابلة مع الشيخ فوزات العرم مواليد المختارة سنة 1964، في منزله في المختارة بتاريخ 24/11/2016. وذكر أنّه كان من عداد الفريق الذي عمل على نقل الرّفاة ونقل حجارة وبلاطتيّ الضّريح، إلى الموقع الجديد.
12. نسخة مصوّرة عـن وصيّة الشيخ أسد بن زين الدّين يقظان، لدى الأستاذ أنور بشير يقظان مواليد بعذران سنة 1945.
13. نسخة مصوّرة عن وصيّة الشيخ أبو محمود حسوّن الدبيسي، لدى المؤلّف.
14. راجع سيرة الشيخ الجليل أبو حسين يوسف عبد الوهاب في مجلة “الضحى” العدد 14 تشرين الثاني 2015
15. مقابلة مع الشيخ نجيب رشيد صالحة مواليد رأس المتن عام 1934، في منزله في بقعاتا الشوف بتاريخ 13/11/2016.
كان بعض عابري السبيل يقصدون بعض الخلوات للمنامة. وكانت خلوة مرستي الكائنة في قرية مرستي، مقصودة من المارّة والمكارين بخاصّة في فصل الشتاء أثناء اشتداد العواصف وتراكم الثلوج للاستراحة والمنامة، بسبب قرب الخلوة من طريق المشاة الرّئيسة التي كانت تنطلق من صيدا إلى الشّوف والبقاع ودمشق، والتي تمـرّ عبر جبل مرستي وثغـرة مرسـتي.
16. مقابلة مع الشيخ يوسف سليم صفا مواليد عين قني سنة 1923، في منزله في عين قني بتاريخ 13/11/2016
17. مقابلة مع الشيخ علي اسماعيل زين الدين، مواليد الخريبة – الشوف سنة 1942، تاريخ المقابلة 25 /11/2016. والشيخ علي معروف بنشاطه في حقل الدفاع عن الطائفة والخير العام، كان يرافق المعلّم كمال جنبلاط في بعض زياراته وتنقّلاته، وقد أشرف مع المعلم على تأسيس مدارس (ثم مستشفى) العرفان وهو يتولّى منذ ذلك الحين رئاسة المؤسّسة.
18. مقابلة مع الشيخ حسين سليمان هاني مواليد بعذران سنة 1963، في منزله في بعذران بتاريخ 4/12/2016
19. الشيخ أبو علي اسماعيل زين الدين، ولـد ونشأ في بلـدة الخريبة – الشوف. كان شيخاً تقيّـاً ورعـاّ، يعمل في سبيل الخير العام. وكان منزله ملتقى الموحّـدين الصادقين. توفّي سنة 1972، وأقيم له ضريح في بلدته الخريبة.
20. الشيخ علي زين الدين
21. الشيخ نجيب رشيد صالحة مواليد رأس المتن سنة 1934، منذ سنة 1961، بـدأ يحضر إلى خلوة القطالب للزيارة والمساعدة على تنظيم أمور الخلوة، ومتابعة وإنجاز المعاملات التي تتعلّـق بالخلوات لدى الدوائر الرسمية والمؤسسات الخاصة. تولّى إدارة خلوة الشقيف في رأس المتن لمدّة سبع سنوات. وبسعي منه تـمّ مسح منطقة خلوة الشقيف العقارية، وسمّي العقار وقفاً خيريّاً معروفاً بوقف “خلوة عباد اللـه الصالحين من دروز قرية رأس المتن’’ (فؤاد أبو رسلان، رأس المتن مطارح وحكايات – 2008 ص 39). وفي سنة 1976، غادر خلوة الشقيف وبـدأ يحضر إلى خلوات القطالب للتعبّد ونسخ المخطوطات. وفي سنة 1992، كان من عداد الشيوخ الذين سعَوْا بنقل ضريح ورفاة الشيخ ناهض حِصن الدّين إلى مكانه الحالي. وفي نفس السنة، أي 1992، انتقل إلى خلوات البيّاضة في حاصبيّا، للتعبد ونسخ المخطوطات. وهو المسؤول عن إدارة خلوة جبل لبنان، الكائنة بداخل مباني خلوات البيّاضة، وهو متعمّـق بعلوم اللغـة العـربية وقواعدها.

بكيفا

بكِّيفا الوادعة أنجبتْ رجالاً
وسيّدة كانت أختاً للرّجال

سَليمة درغام لحقت بالزّعيم كمال جنبلاط إلى سلّم الطّائرة
وأخذت منه توقيعاً على إنشاء أوّل معصرة زيتون في المنطقة

إقتصاد القرية الزّراعي تراجع أمام الجرّافات
والغابات المحيطة بها أصبحت وَقوداً للمدافئ

العين بصيرة في بلديّة بكِّيفا لكنّ اليَدَ قصيرة
فاضل فيّاض رئيس البلديّة بنى شعبيّته على الإنجاز.

تعود تسمية البلدة الى أصل سريانيّ وتعني الصّخرة أو الرّقعة في الصّخرة كما يبدو موقعها، وعبارة “كيفا” إستعملها السّيد المسيح في وصفه لتلميذه سمعان عندما قال له “ انت كيفا “ أي انت الصّخرة التي سوف أبني عليها كنيستي.
يقدّر عدد سكّان بكِّيفا بنحو 2300 نسمة لكنّ المقيمين منهم لا يتجاوزون الـ 1500 نسمة وهم ينتمون بغالبيّتهم إلى طائفة الموحّدين الدّروز . ترتفع البلدة 900 م عن سطح البحر وهي تبعد عن مركز القضاء 5 كلم وعن العاصمة بيروت 90 كلم.
يمكن الوصول إلى بكِّيفا من طريقين رئيسيين: شتورة -المصنع – ضهر الأحمر- بكيّفا أو مرجعيون-حاصبيّا-عين عطا- بكِّيفا. وتتبع البلدة إداريّاً لقضاء راشيّا، محافظة البقاع وهي تقع في الطرف الغربي لبلدة راشيّا يحيط بها العديد من قرى القضاء مثل تنّورة، بيت لهيا، العقبة، وهي تجاور من الجهة الشّرقية جبل الشيخ.
أبرز عائلات البلدة: حجاز، شرّوف، برغشي، درغام، البراضعي، العسل، دهام، الحلبي، أبو بركة، فيّاض، بدّور، دنيل، أبو عسلي، يونس .

أهميّة الهجرة في اقتصاد القرية
الهجرة هي إحدى الظّواهر البارزة التي طبعت الحياة في منطقة راشيّا في السّنوات الأخيرة وذلك لأسباب منها ارتفاع مستوى التّعليم والمهارات لكن من دون وجود فرص عمل، وتراجع الاقتصاد التقليديّ للقرية وخصوصاً الزراعة، وقد بدأت هجرة شباب القرية منذ مطلع القرن الماضي وتركّزت على مُغتربات بعيدة مثل دول أمريكا الجنوبيّة ومن بعدها استراليا، إلّا أنّه مع ارتفاع أسعار النّفط في السبعينيّات وازدهار الاقتصادات الخليجية بدأت تتركّز أكثر على دول الخليج العربي، ورغم ما يسببه من استنزاف للطّاقات الشّابة للبلدة فإنّ الاغتراب يسهم في تنشيط الحركة الاقتصاديّة من خلال تحويلات المغتربين إلى ذويهم أو الاستثمارات المباشرة التي يقومون بها في مجال العقار أو بناء منازل وفيلّات تخلق فرص العمل في قطاع البناء والمقاولات، كما إنّ المغتربين في البلدة كانوا دوماً مثالاً في سخاء التّقديمات التي خصّصوها لتنمية البلدة.

إقتصاد البلدة
الحياة الاقتصاديّة لأبناء البلدة متنوّعة، وهي تشمل بعض الأعمال الزّراعية وخصوصاً زراعة الأشجار المثمرة لكن وعورة الأراضي وضيق المساحة القابلة للزّراعة جعلا الزّراعة محصورة بالملكيات الفرديّة والصغيرة وعلى زراعات بعلية مثل اللّوزيات والزّيتون وكروم العنب والتّين وزراعة بعض الحبوب كالقمح والحمَّص والعدس والفول. أمّا زراعة الخضار خلال فصل الصّيف فهي محدودة بسبب نقص المياه اللّازمة للرّي. وقد لعبت الهجرة واتّجاه الشباب إلى الوظيفة دوراً في تناقص العمالة المتوافرة للعمل في الأرض، لكنّ العامل المهمّ الآخر هو تراجع مساحة الأراضي الزّراعية أمام المشاريع السكنيّة و التجاريّة ممّا أتى على الكثير من الأراضي الصّالحة للزّراعة.

المهن والحرف
لا توجد صناعة بالمعنى الحقيقيّ في القرية حيث تقتصر على بعض المصانع الصّغيرة التي تختص بصناعة الخشب والحدادة الإفرانجية وجميعها فرديّة وخاصة حيث يقوم أصحابها بتأمين معيشتهم فقط، فلا تساهم في تأمين فرص عمل إضافية إلّا في ما ندر لكنّها تؤمن احتياجات أبناء القرية من اللّوازم التي يحتاجونها في بناء منازلهم، كما يوجد في القرية حرفيّون يعملون في خدمات قطاع البناء والأعمال المتمّمة له مثل الكهرباء والصحيّة والورقة..

نهضة نسائيّة
كانت المرأة في بلدة بكِّيفا تحصر إهتمامها بتدبّر شؤون المنزل وتربية الأولاد والاهتمام في فصل الصّيف بالتّحضير لمؤونة الشّتاء الشّديد البرودة، لكن في العقود الأخيرة وبعد النّهضة التي أحدثتها السّيدة سليمة درغام، أخذت المرأة تشاطر الرّجل في شتّى ميادين الحياة العمليّة، حيث بدأت تدخل القطاع العسكريّ والمؤسّسات الرّسميّة والتّدريس في مدرسة القرية وفي المدارس المجاورة ممّا أحدث نهضة نسائيّة إنعكست على البلدات والقرى المجاورة، وكان لمعمل السّجاد ومعمل الخياطة ومعصرة الزّيت دور مهم في توفير فرص عمل لآنسات وسيدات البلدة .

جدول ماء خلال فصل الربيع
جدول ماء خلال فصل الربيع

سليمة درغام
سليمة درغام رئيسة بلديّة بكّيفا التي تبوّأت موقع رئاسة البلدية في العام 1964 واستمرّت في خدمة أبناء البلدة حتى العام 1998 كانت هذه الأعوام زاخرة بعطاءات وإنجازات قلّ نظيرها في تلك الحقبة، وقد عُرِفت سليمة درغام بجرأتها وقوّة شخصيّتها ويعود إليها الفضل في تبديل المفاهيم البالية عن المرأة وتقديمها الدّليل الحسّي على كفاءة المرأة وقدرتها على المساهمة في حياة مجتمعها وتقدّمه، ولم تكن السّيدة درغام تتردّد في طرق أبواب أهل السّلطة والنّفوذ واقتحام صالونات النّخبة ومنتدياتها رافعة الصّوت في طلب المشاريع لأبناء بلدتها. وقد سطع نجمها خصوصاً عندما استوقفت الزّعيم كمال جنبلاط قبل صعوده درج الطائرة للحصول على توقيع يخوّلها إنجاز مشروع في البلدة. وفي تفصيل تلك الحادثة: “عندما كان المرحوم كمال جنبلاط وزيراً للدّاخلية زارته السّيدة درغام وحصلت منه على وعد بمبلغ مادّي لاقامة مشروع حيويّ في البلدة وهو عبارة عن معصرة زيتون، كانت الوحيدة في البقاع في تلك المرحلة. وفي يوم، وعندما كان كمال بك يهمّ بصعود درج الطائرة متوجّهاً إلى الهند لحقت به السيدة درغام إلى ساحة المطار صارخة من بعيد قبل أن يدخل الطّائرة “يا كمال بك لوين رايح وتاركني” ممّا خلق حالة من الدّهشة لدى جميع الحاضرين لكنّ المعلّم توقّف بعد سماع صياحها وعرفها كما تذكّر أنّه وعدها بمبلغ 20 ألف ليرة آنذاك لإنشاء المعصرة فوقّع على الطلب الذي كانت تحمله السيدة درغام وتابع صعوده إلى الطائرة”، وهذه الرّواية عن اندفاع السيّدة درغام واحدة من عشرات الأمثلة عن جرأتها وتصميمها في ما كانت تقوم به لخدمة بلدتها.
حازت سليمة درغام أثناء تولّيها لرئاسة البلدية على ثقة المجتمع الأهلي برمّته حتى غدت مضرب مثل وهذا التألّق نال إستحسان رئيس الجمهورية الرّاحل سليمان فرنجيّة فمنحها وسام الأرز من رتبة فارس في العام 1974 ومما قالته خلال تقليدها الوسام:“مسؤوليّتي أن أستحقّ كل يوم هذا الوسام والويل لمن يسقط عن صدره هذا الوسام “ كما حازت على وسام الأرز من رتبة ضابط من قبل الرّئيس الراحل الياس الهراوي ونالت وسام الإستحقاق اللبناني المذّهّب“ .

منزل قديم يعود الى مطلع القرن الماضي
منزل قديم يعود الى مطلع القرن الماضي

إنجازات سليمة درغام
قبل أن ترحل سليمة درغام تركت خلفها العديد من الإنجازات التي خلّدت ذكراها في مسيرة حافلة بالعطاء ساهمت في خلق العديد من فرص العمل لأبناء البلدة كما كان للمشاريع الزّراعية دور مهم ساهم في دعم المزارعين وتثبيتهم في أرضهم وزيادة الإنتاج الزّراعي، ومن هذه المشاريع إقامة المعارض الزّراعية والعمل على تسويق منتجات المزارعين، وباكورة هذه المعارض كان في العام 1968 برعاية الرّئيس شارل حلو قبل أن يتمّ إنشاء التّعاونيّة الزّراعيّة في العام 1972 ومن ثم إنشاء التعاونيّة الحرفيّة لتعليم الخياطة والأشغال اليدويّة، كما قامت بتشييد مجمع إنمائي يضمّ مصنع سجّاد تعمل فيه عشرات الفتيات ومصنع خياطة ومركزاً صحيّاً ودار توليد وتعاونيّة استهلاكيّة وتعاونيّة زراعيّة وقاعة لتدريب الصمّ والبكم بالإضافة إلى قاعتين للنّادي تتّسعان لألفي شخص.

درغام ونظرتها للمرأة
كان للمرأة في حياتها دور هام حيث أعطتها من حياتها حيّزاً كبيراً لتشجّعها وتصبح متمكّنة قادرة على النّهوض بأعباء الحياة مثل الرّجل ولهذه الغاية قامت بإنشاء المركز الصحيّ لجمعية نهضة المرأة في بكّيفا ويؤدّي هذا المركز خدمات صحيّة كانت غير متوفّرة في خضم الحرب الأهليّة لأبناء البلدة والقرى المجاورة.

بكيفا خلال فصل الشتاء
بكيفا خلال فصل الشتاء

ولادتُها وحياتُها
وُلِدت السيّدة درغام في العام 1918 في بلدة عين عنوب قضاء عاليه وعاشت طفولتها في البلدة وتابعت تحصيلها العلميّ في صِغرها لتدخل معترك الحياة الاجتماعية من بوّابة جمعيّة نهضة المرأة الدّرزيّة التي اعتبرتها المدرسة الاجتماعية الأولى لتقترن بالسّيد علي درغام من بلدة بكّيفا الذي لطالما اعتبرته السّند في حياتها، وخلال هذه المسيرة الحافلة تميّزت بالحِنكة والذّكاء وبنظرة متقدّمة في إدارة الشأن العام حيث كانت تَعتبر أنّه من الخطأ أن يتمّ الاعتقاد أن صلاحيّات رئيس البلديّة لا تتعدّى تعبيد الطّرق وبناء الجدران بل هذه الصلاحيّة أبعد وأشمل لتشمل مختلف مرافق الحياة من صحيّة وتربويّة وثقافيّة واجتماعيّة، وقد ووريت الفقيدة في نهاية آذار من العام 2014 ليصحّ بها قول المتنبّي في رثاء والدة سيف الدّولة
ولــــــــــــــوْ كـــــــــــــــانَ النّســــــــــــــــاءُ كمَــــــنْ فَقَدْنــــــــــــــــــا
لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ
ولا التّذكيـــــــــــــــــرُ فَخْـــــــــــــــــرٌ للهِـــــــــــــــــــــــــلالِ

جانب-آخر-للقرية-الجميلة
جانب-آخر-للقرية-الجميلة

 

الحراك الشبابي
على مدى العقود الماضية تميّزت بكِّيفا بحراك شبابيّ يعكس تراثاً من العمل الاجتماعيّ وتضامن شباب البلدة في العمل من أجل بلدتهم والارتقاء بها نحو الأفضل، ومن ثمار الوعي الاجتماعيّ في البلدة نادي بكِّيفا الثّقافي الخيريّ الذي تأسس سنة 1967 أي قبل 50 عاماً بهدف إنماء وتطوير المجتمع المحلّي في الميادين الثّقافية والتّربويّة والرّياضيّة والصحيّة، كما يوجد في القرية “نادي النّسور الرّياضي” والذي لعب دوراً مهما ً في جمع المجتمع المحلّي تحت راية الرّياضة، إضافة إلى الجمعيّات الكشفيّة التي تلعب دوراً بارزاً في تنمية روح التآخي والتعاون. وفي السّنوات الأخيرة إنتدبت مجموعة من شبّان البلدة نفسها للإضاءة على البلدة من خلال العديد من الأنشطة الثقافيّة والترفيهيّة تحت عنوان بكِّيفا أجمل بلد وكان لهذا التجمّع دور رياديّ في توحيد أبناء البلدة على اختلاف انتماءاتهم الفكريّة والدينيّة .

الثّروة الحرجيّة في تراجع
بعد أن كانت تغطّي ما يقارب الـ 60% من مساحة البلدة لم تعد تشكل سوى مساحة بسيطة، وهذا التّدهور في مساحة الغطاء النباتيّ يعود إلى أسباب عديدة أبرزها القطع الجائر الذي يقوم به عدد من أبناء البلدة لتأمين حطب التدفئة في الشتاء، أمّا السّبب الآخر والذي لا يقلّ خطورة فهو الحرائق التي تلتهم سنوياً مساحات ليست بالقليلة وعدم التمكّن من السّيطرة عليها لغياب الوسائل اللّازمة لمكافحة الحرائق وكذلك لوعورة الجبال المحيطة بالبلدة وعدم توفّر مسالك سريعة إلى مكان الحريق.

التّربية و التّعليم رعاية دائمة لأجيال واعدة
على الرّغم من تراجع التّعليم الرّسمي بشكل عام وإقفال معظم المدارس الرسميّة في منطقة راشيّا ما زالت مدرسة بكِّيفا الرسميّة درع الأمان لأبناء البلدة حيث تحتضن ما يزيد على 100 طالب سنوياً وتجنّب ذوي الدّخل المحدود مشقّة الانتقال إلى خارج البلدة أو إرسال أولادهم إلى المدارس القريبة لمتابعة تحصيلهم العلميّ، كما تساهم المدرسة في توفير فرص عمل لأبناء البلدة من حملة الإجازات التعليميّة وتجنّبهم الغربة أو الانتقال إلى أماكن أخرى لمتابعة عملهم، وهذه النّهضة التربويّة تشمل عدداً كبيراً من الطلّاب الذين ينتقلون خارج البلدة لمتابعة تحصيلهم العلميّ في مختلف الجامعات والمعاهد المنتشرة في البقاع أو في العاصمة بيروت.

رئيس بلديّة بكِّيفا يعرض لأهم المنجزات

الكهرباء، البئر الارتوازية وحل محلّي لأزمة النفايات

فاضل فياض رئيس بلدية بكيفا
فاضل فياض رئيس بلدية بكيفا

المعروف عن رئيس بلديّة بكِّيفا السيد فاضل فيّاض مناقبيته في العمل وانفتاحه وتسخير مخصّصاته في المجلس البلديّ لخدمة بلدته وإعلاء شأنها. ورغم المعاناة التي عاشها خلال فترة أسر ولده، فإنّه بقي متفانياً في خدمة البلدة فاتحاً أبواب البلديّة وأبواب بيته لكلّ طالب خدمة أو صاحب شكوى، الأمر الذي دفع أبناء البلدة إلى تجديد الثّقة به كرئيس للبلدية مرات عدّة. “الضّحى” التقته وسألته عن وضع القرية وخطّط المجلس البلدي بشأنها.

> ما هي أبرز الإنجازات التي حقّقتموها ؟
خلال فترة زمنيّة قصيرة استطاعت البلديّة أن تحقّق انجازات كثيرة بدأت بإنشاء عدد من الحدائق العامّة، شقّ و تعبيد عدد من الطّرق، توسيع بعض الطّرق الدّاخلية، إقامة محميّة، تحسين شبكة الإنارة لتغطّي كافة أحياء البلدة بالإضافة إلى محطّة كهرباء جديدة و تقوية المحطّة الموجودة لتصبح قادرة على تأمين حاجة البلدة من الكهرباء و شراء مجموعة من المولّدات لتأمين التيّار الكهربائيّ عند انقطاعه، و تنظيف الأقنية ممّا يجنّب البلدة الكثير من المشاكل خلال فصل الأمطار كما تمّ تشييد ملعب لكرة الطّائرة وكرة السلّة لأبناء القرية وأبناء القرى المجاورة.
الحصول على هبة من قبل الشّيخ سعد الحريري تتمثّل بجرّار زراعيّ يساهم في الأعمال الزّراعيّة ويُستخدم في نقل النّفايات من البلدة.
إنشاء مطمر للنّفايات بمواصفات عالية تتناسب والشّروط البيئيّة .
• توسيع وتجميل مدخل البلدة .
• تحديث معصرة الزّيتون بهبَة من السّفارة الإيطاليّة وهذه المعصرة توفّر فرص عمل موسميّة لشباب البلدة.
• حفر بئر ارتوازيّة بمساعدة من مؤسّسة الوليد بن طلال .
• شراء وتجهيز سيّارة إسعاف .
• العمل على إنشاء مستوصف في البلدة، حيث نقوم اليوم بإعادة تأهيل المدرسة القديمة والتي يعود تاريخ بنائها للعام 1930 لتصبح مركزاً صحيّاً لأبناء البلدة والقرى المجاورة .

> هل من خدمات أخرى تقدّمها البلديّة ؟
نعم تعتبر البلديّة حلقة وصل بين المواطنين والمؤسسات موجودة على أراضيها من تربوية و صحية بالإضافة إلى تحمّلها مسؤوليّات بعض الوزارات في إقامة جدران دعم للطّرقات العامّة.

> ماهي أبرز مداخيل المجلس البلديّ ؟
المداخيل ضعيفة جدّاً مقارنة بالخدمات المطلوبة. مع ذلك فإنّنا نحاول زيادة الجباية والتي تعتبر مورداً بسيطاً بالإضافة الى مستحقّات البلديّة من الدولة. نحاول أن نخلق آليّة ملزمة للجباية ونأمل أن يسهم ذلك في تغذية صندوق البلديّة بشكل مستمر.

> ما هي أبرز المعوقات التي تعترض عملكم؟
إلى جانب ضَعف السّيولة الماليّة، هناك مشاكل تتمثّل في غياب الآليّات و المعدّات التي من شأنها أن تيسّر أعمال الحفر والتوسيع وبقية الأشغال العامّة، وكذلك نشكو عدم وجود سيّارة متطورة لجمع النّفايات ونقص عدد الموظّفين. ونعمل بشكل جدّي على تذليل كافّة العقبات.
وإنّني أغتنم فرصة هذا اللّقاء لأتوجّه بالشّكر والتّقدير لمجلّة “الضّحى” بسبب مبادراتها المشكورة في التّعريف بالقرى والبلدات في أقضية الجبل والجنوب فضلاً عن عملها كمنبر لإيصال صوت البلديّات وطرح القضايا الاجتماعيّة التي تهمّ النّاس.

حكايةٌ مأثورةٌ عن آلِ برغشي
واستماتتهم في حفظ سيف الدّاعي عمّار

تعتبر أسرة برغشي من العائلات الأعرق في طائفة الموحّدين الدّروز بسبب الدّور الذي لعبته في نشر مبادئ التّوحيد والدّفاع عنها وحماية أهلها. ومن المآثر التي عزّزت مكانة الأسرة الخبر المأثور عن إخلاصهم الشّديد في حفظ سيف الدّاعي عمّار حتى بثمن أرواحهم وخراب ممتلكاتهم.

وتقول الرّواية المأثورة إنّ الداعي عمّار زار منزل أبو الخير سلامة برغشي في بلدة بكِّيفا ووضع في عهدته سيفه وقميصه وغادر واستمرّ هذا السيف في حوزة العائلة لخمسة قرون (500 عام ) كانت الأجيال خلالها تتناقل هذا السيف فكان كلّ جيل منها أشدّ حرصاً من الذي سبقه في الحفاظ على السّيف.
وفي الرّواية المأثورة أنّه عندما تكلّف الشيخ خطّار برغشي بمقابلة السّلطان سليم العثمانيّ وكان برفقة وفد من مشايخ وأعيان طائفة الموحّدين الدّروز، ولدى عودة الوفد كان التّعب قد أنهكهم والظّلام والرّياح العاتية تكاد تشتّت جمعهم، فاجأ الشيخ خطّار رفاقه بالقول: “عليّ إضاءة الطّريق وعليكم كتمان السرّ” وعمد عندها إلى سحب السّيف من غِمده مقدار أربعة أصابع فأنير الطّريق وتابع الوفد السير. ويبدو أنّ الخبر بلغ السّلطان سليم من أحد جواسيسه فما كان منه إلا أن أرسل يطلب من الشّيخ خطّار تسليم السّيف. وقد حاول الشّيخ خطّار التملص من الطلب فأرسل سيفا مزيفاً طلاه بالذهب إلى السلطان، لكن الأخير اكتشف التّزييف وغضب السّلطان غضباً شديداً وأرسل ينذر الشّيخ بأنّه إن لم يبادر إلى تسليم السّيف الحقيقيّ خلال عشرة أيّام فإنّه سوف يقتل جميع أفراد الأسرة ويقطع نسلها. فازداد الوضع تأزماً واجتمع الشّيخ بعائلته وأخبرهم بما وصلت إليه الأمور والمأزق الحرج الذي يواجهه، فكان ردّ العائلة بالإجماع أنّها سوف تقاتل إلى آخر رجل ولن تسلّم السيف. ونظراً إلى خطورة الظّرف فقد تمّ نقل النّساء إلى منطقة الشّوف ومن بعدها إخفاء السّيف في أرض الشيخ خطّار بمكان ٍ لا يعلمه إلّا مجموعة مقرّبة منه ويستحيل العثور عليه وبعد انقضاء الأيّام العشرة أرسل السّلطان بخيّالته ليقضي على هذه العائلة التي اعتبرها عاصية له، وبعد وفاة الشيخ خطّار والرّجال الذين كانوا برفقته لم يعد أحد يدرك مكان السّيف وبقي هذا الكنز العظيم سرّاً لا يعرف أحد مكانه حتى اليوم.
وفي الرّواية أيضاً أنّ زوجة الشّيخ خطّار كانت حاملاً وبعد فترة أنجبت صبياً أسمته بدر الدين وأن هذا الفتى كُشف أمره فاعتُقل وسيق إلى ديوان السّلطان سليم قبل أن يودَع أحد السجون. لكن الفتى اليافع كان يكبر بعيداً ً عن والدته، وفي كل عام يزداد قوة وتزداد بُنيته الجسديّة وقاراً وهيبة حتى غدا في سنّ التاسعةَ عشْرةَ من عمره، وفي سجنه، من أقوى المصارعين في السّلطنة. وتقول الرّواية إنّ السّلطان سليم كان يهوى مشاهدة لعبة المصارعة وأنّه وضع يوماً جائزة لمن يقهر كبير مصارعيّ السّلطنة وكان السّلطان يظنّه لا يُقهر. لكن نظراً إلى شهرة الشّيخ بدر الدّين كمصارع جبّار فقد أعطي الفرصة لمنازلة هذا المصارع الصِّنديد فتمكّن منه وصرعه في نهاية المبارزة. وبسبب إعجاب السّلطان بالمصارع بدر الدّين فقد سأله أنْ يطلب منه حظوة أو مكرمة فطلب الشّيخ أنْ يأذن له السّلطان بالعودة إلى بلاده. وعندها نزل السّلطان عند رغبته وعيّنه مقدَّما على منطقة العرقوب ووادي التّيم، وقد استمرّت مرجعية وادي التّيم في عهدة هذه العائلة من جيل إلى آخر حتى اليوم وهي مستمرّة بالشيخ أبو محمد جميل برغشي .

اخبار بلدية

أخبارٌ بلديّة

هشامٌ الأعورُ عن أولويّات بلديّة قِرنايل
المياهُ، المنطقة الصّناعيّة ومعملُ فرزِ نِفايات

مازال نقص المياه المشكلة الأولى في قرنايل التي تعتمد على آبار إرتوازية تعطي نحو 400 متر مكعب يوميّاً بينما البلدة في حاجة إلى 1,200 متر مكعب إضافيّة يوميًّاً ممّا دفع البلدية أن تعد لحفر آبار جديدة، سيبدأ حفر البئر الأولى منها بالتّعاون مع المهندس فادي قمير مدير عام وزارة الطّاقة والمياه ويتوقّع أن تؤمّن هذه البئر نحو 1,000م مكعب، مع إمكان حفر بئر أخرى عند توافر الجهة المموّلة. ويُذكر أنّ آبار قرنايل إرتوازيّة وهي مملوكة من البلدة وتشرف عليها البلديّة، وليست تابعة لمصلحة مياه بيروت وجبل لبنان، لكن بالنّظر لأنّ الآبار محفورة في طبقات رمليّة فإنّها كانت تتسبب بتعطيل المضخّات ممّا اضطرّ البلدية إلى دفع مبلغ 120 مليون ليرة لبنانيّة لإصلاح وتحديث المضخّات وصيانتها بإستمرار.
وحسب رئيس البلديّة الكابتن الطيّار هشام الأعور فإنّ لمشكلة المياه في البلدة وجهاً آخر وهو أنّ عدداً كبيراً من المستفيدين لا يدفعون ما يتوجّب عليهم من اشتراكات المياه، والتي لا تتجاوز مبلغ 150 ألف ليرة لبنانيّة لا غير. لهذا السّبب، فقد قرّرت البلديّة عدم جباية رسوم عن المياه احتراماً لمشاعر النّاس الذين لا تصلهم.
الأعور شرح لمجلّة “الضّحى” أولويّات البلديّة فقال: إن في رأسها، موضوع المياه، المدينة الصناعيّة غرب البلدة لجهة بلدة أرصون التي ستبنى على مشاع بمساحة 300 ألف متر مربّع، تضمّ كلّ المصانع والمعامل الموجودة على مداخل البلدة لجهة الجنوب والشمال، مع إنشاء حدائق عامّة وبساتين، وهذا المشروع سيموَّل من قبل دولة هولندا. ومن أهداف البلدية أيضاً:.
• إدخال العمل البلديّ مرحلة المؤسّسات عبر إدخال التقنيّات الرقميّة وأنظمة الإدارة الحديثة.
• إنشاء معمل لفرز النّفايات بالتّعاون مع وزارة البيئة، تستفيد منه كل بلديّات المتن الأعلى وعددها 12 بلدية
• تعديل الرّسوم على البيوت السكنيّة والقصور والفِلل.
• إعادة تأهيل شبكة الصّرف الصحّي بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار.
• تحويل إنارة الشوارع الرّئيسة على الطاقة الشمسيّة بمبلغ 181 ألف دولار. كلفة عمود الإضاءة الواحد مع اللّوح الشمسي ولوازمه 700 دولار، والعدد يزيد على 200 عمود إضاءة.

نِيحا تبحثُ عن مَصْدرٍ إضافيّ لـ مياه الشّفة
أفادنا رئيس بلدية نيحا السيّد وهيب غيث بأنّ البلدة واجهت نقصاً حاداً في كميّة مياه الشّفة إبتداءً من شهر أيلول الماضي وفي شهري تشرين الأول والثاني، ما اضطرّ البلديّة الى اعتماد سياسة التقشّف والتّقنين من أجل تأمين المياه لكلّ المنازل السكنيّة. وأضاف غيث أنّ البلديّة تبحث عن مصادر إضافيّة لسدّ حاجة البلدة من المياه، وأنّها تدرس كل الخيارات المتاحة في هذا الصدد، ومنها حفر بئر إرتوازية بعد التأكّد من الدّراسات الهندسيّة ووجود احتمال قويّ للعثور على كميّات من المياه الجوفيّة تلبّي إحتياجات السكّان.

بلديات الحرف وبريح والفوّارة ووادي الستّ
تعترض على إنشاء مكبّ للعوادم في أراضيها
في إطار المساعي الجادّة لاستيعاب النّفايات التي تفرزها بلدات العرقوب ليتمّ فرزها في معمليّ الشّوف السويجانيّ والشّوف الأعلى شريطة إنشاء مكبّ للعوادم الناتجة عنها في نطاق منطقة العرقوب، وبعد أن وقع خيار إنشاء هذا المكبّ في خراج بلدة وادي الستّ، بالقرب من طريق عام الفوّارة – بريح – نبع الصفا، وطريق البيرة – المعوش – مجدل المعوش كفرنيس – الجعايل، والتي يؤمن الإستفادة منه لـ 12 بلدة من بينها كْفَرْنَبْرَخ- بتلون – الباروك – الورهانيّة – عين زحلتا – نبع الصّفا بالإضافة إلى القرى الآنفة الذِّكر، جوبه هذا الاقتراح بمعارضة شديدة من مُعظم بلديّات المنطقة، ممّا عطّل إنشاءه. ويتمّ البحث حاليّاً عن بدائل أخرى، منها أن تتكفّل كلّ بلديّة بطمر عوادمها، ولكنْ حتى السّاعة لم يتوصّل المعنيّون لحلّ هذه المشكلة رغم تدخّل بعض الجهات المسؤولة لحثّ تلك البلديّات على تليين موقفها وقبول الإقتراح بإنشاء مطمر العوادم.

المطبات

أكثرُ المطبّات مخالفةً صريحةً للقانون

قائمّقام الشّوف مارلين قهوجي لـ «الضّحى»

وزارة الأشغال تعتبرُ المطبّات تعديّات على الطّرق العامّة
والقائمّقاميّة طلبت من البلديّات إزالة المطبّات العشوائيّة

في نطاق جهودها لبلوَرَة موقف مُشترك حول المطبّات العشوائيّة المؤذية التي انتشرت في أنحاء جبل لبنان والعديد من المناطق اللّبنانيّة تنشر “الضّحى” إلى جانب هذا الكلام صورة عن مذكرة وزير الأشغال الصّادرة بتاريخ 29 أيلول 2015 وكذلك مذكّرة قائمّقام الشوف السيدة مارلين قهوجي حول الموضوع وفيهما يتأكّد كيف أنّ العديد من بلديّات المنطقة ليس فقط لم تراعِ الاعتبارات العمليّة والفنيّة في زرع المطبّات على الطّرقات العامّة، بل إنّها خالفت ولا تزال تخالف القانون اللبنانيّ والأصول المقررة من قبل السّلطة المخوّلة منح التّراخيص بإنشاء المطبّات، وهي وزارة الأشغال العامّة والنّقل، ونضيف أيضاً أن المطبّات تُقام رغم المعارضة الشّديدة لها من الغالبيّة السّاحقة من المواطنين الذين باتت تجربة الإنتقال الحرّ من مكان إلى آخر بالنّسبة إليهم مقيّدة ومحفوفة بمخاطر الحوادث وبالأضرار الشّديدة المتراكمة التي تسبّبها لسيّاراتهم.
ويتّضح من مذكّرة وزارة الأشغال أنّ الطّرقات العامّة (الرّئيسة) في منطقة الجبل ليست ملكاً للبلديّات لأنّها تُستخدم من الجمهور اللبنانيّ في التّنقل والتّجارة ولأغراض عديدة، ولذلك فإنّها تُعتبر ملكاً للدولة ممثّلة بوزارة الأشغال العامّة، وبهذا المعنى، فإنّ الطّرق الداخليّة ضمن القرية والتي ليست جزءاً من شبكة الطّرق العامّة يمكن وحدها إعتبارها من مسؤولية البلديّات، لكن حتى في هذه الحال، فإنّ البلديّة ملزمة بإستشارة المواطنين في أمر أيّ مطبّ وبالتّالي تبرير إقامته في المكان المعيّن وشرحه للمواطنين لنيل رضاهم، وعليها فوق ذلك، أن تلتزم في بنائه مواصفات السّلامة الفنيّة مثل تصميم المطبّ وطلائه ووضع المسامير الفوسفوريّة قبله وبعده، وهذا نادراً ما يحصل.

لقاء مع قائمّقام الشّوف
“الضّحى” التقت سعادة قائمّقام الشّوف مارلين قهوجي وسألتها رأيها في هذا الموضوع، فأوضحت بأنّ كلّ ما يحصل على الطّرقات العامّة هو من مسؤوليّة وزارة الأشغال، ولا علاقة لوزارة الداخليّة به لا من قريب ولا من بعيد، ولكنّها بحكم مسؤوليّتها المباشرة على البلديّات وجّهت كتاباً إلى وزارة الأشغال لفتت فيه إلى هذا الموضوع فكان ردّ وزارة الأشغال ضرورة إزالة كلّ التعدّيات على الطّرقات العامّة. ولفتت إلى قيام بعض البلديّات (كفرحيم مثلاً) بإزالة المطبات والإستعاضة عنها بالمسامير، وشدّدت على ضرورة التواصل والتّنسيق مع البلديّات من أجل إزالتها والاستعاضة عنها بتزويد شرطة البلديّة برادارات محمولة لضبط السّرعة الزّائدة أو تركيب رادارات متّصلة بغرف العمليّات لدى قوى الأمن الداخليّ كما هي الحال الآن على معظم الطّرق السّريعة والرّئيسة في مناطق لبنان. وقد أدّت تلك الرّادارات إلى ضبط الألوف من مخالفات السّرعة الزّائدة يوميّاً وهي ستؤدي إلى ضبط المخالفات في الجبل أيضاً، علماً أنّ الغرامات المفروضة على مخالفات تجاوز حدّ السّرعة القانونيّة باهظة وموجعة وهي بالتّالي الرّادع الأفضل لأنّ المخالف يخاف على جيبه في نهاية الأمر أكثر ممّا يحسب حساباً للمطبّات. على هذا النّحو، يمكن حسب السّيدة قهوجي حل هذه المشكلة، وإراحة المواطنين وجع المطبّات وطيش بعض السّائقين.
مسألة المطبّات إذاً واضحة جدًّا ولا داعي للمكابرة والإستكبار في التّعامل مع الاحتجاجات الواسعة من قبل المواطنين على تكاثرها وعشوائيّتها، فالأحرى بالبلديّات أن تتواضع وأن تزيل هذه السّواتر التي خرّبت طرقاتنا المخرّبة أصلاً بالحُفَر وبمخلّفات مشاريع الحَفر ومدّ الأنابيب والكابلات وغيرها، والبلديّات إذا قامت بتقييم الطّرق في محيطها فإنّها ستجد الكثير المفيد الذي تفعله غير زرع المطبّات.
”الضّحى” في نطاق متابعة هذا الملفّ ستقوم إبتداء من العدد القادم برصد دائم لموقف البلديّات التي تزرع المطبّات والتي لا تزرع المطبّات في طرقاتها أو تقوم بإزالتها، حتى يتبين الأبيض من الأسود في هذا الملف الذي لم يعدّ يحمل تأجيلاً.

مذكرة وزارة الداخلية بضرورة إزالة المطبات باعتبارها تعدّيات على الطرق العامة
مذكرة وزارة الداخلية بضرورة إزالة المطبات باعتبارها تعدّيات على الطرق العامة

بلديّة كْفَرْحيم تستبدلُ المطبّات.. بالمسامير

علمت “الضّحى” أنّه برز في بلديّة كفرحيم تفكيرٌ بإعادة المطبّات لكن الأمر لاقى معارضة سياسيّة حازمة فتمّ استبدال المطبّات بزرع صفوف من المسامير الفوسفوريّة باتت تقطع الطّريق في عدد من الأمكنة على طريق كفرحيم- بعقلين (مروراً بديردوريت) وفي مكان على الأقلّ على الطّريق المتّجه إلى دير القمر. بالطّبع تقنيّة المسامير الفوسفوريّة أرحم بكثير من المطبّات العشوائيّة لكنّ ذلك لا يمنع من التّساؤل: ما هي الفائدة منها؟ وما هي الحكمة من عدم ترك طريق رئيسة تمرّ عليها ألوف السيّاراًت ليلاً ونهاراً حرّة ومن دون عوائق. ونعود إلى النّقطة أنّه يجب إيجاد حلول حضاريّة موحّدة بين البلديّات جميعاً بدلاً من اجتهاد كلّ بلديّة بمفردها، ونحن نرحّب بأيّ توضيح من بلديّة كفرحيم حول الحكمة من تلك الخطوة وسنقوم بنشره في هذا المكان بمجرّد أن يصلنا.

مطب على طريق عيناب لا زال قائما رغم المطالبات الشعبية في المنطقة بإزالة المطبات
مطب على طريق عيناب لا زال قائما رغم المطالبات الشعبية في المنطقة بإزالة المطبات

 

طريق كفرنبرخ – الباروك الأسوأ
على الإطلاق

ما زالت طريق كْفَرْنبرخ – بتلون – الباروك – الورهانيّة تحتلّ المركز الأوّل كأسوأ حالة على الفوضى والعشوائيّة في زرع المطبّات ، فعلى هذا الطّريق الدوليّ الذي يعتبر جزءاً من طريق الشّوف- البقاع – دمشق والذي لا يتجاوز طوله الثّلاث كيلومترات أحصت «الضّحى» وجود 22 مطبّاً بـ 22 تصميماً مختلفاً وكلّها غير مطابقة وغير مطليّة بالأبيض والأصفر ولا توجد صفوف مسامير أمامها لتحذير السّائقين، كما إنّه لا توجد إلّا إشارة واحدة تحذّر من وجودها مع أنّ القانون يفرض وضع إشارة قبل مسافة لا تقلّ عن 100 متر من كل مطبّ.

حوار مع رئيسة بلدية كفرنبرخ

جانب من قرية كفرنبرخ

المرأة التي قَبِلتِ التّحدّي

وســــــــــامُ الغضبــــان أولُ رئيســــــة لبلــــــديّة كفَرْنَبْــــــــرَخ:
واثقــــــةٌ منفتحــــــةٌ ومشاريعــــــــها كثيــــــرةٌ للمستقبــــل

انتخابي أحدث صدمة إيجابيّة لأنّه أظهر أنّ المرأة إنسان مفكّر ومنضبط وقادر على العمل الشاقّ من دون حسابات أو مطامعلست من روّاد الصبحيّات النّسويّة والجلسات التي لافائدة منها
ويومي يبدأ في الخامسة صباحاً وينتهي بعد منتصف اللّيل

أتعجّب من بعض رؤساء البلديّات الذين لا يحضرون الى مكاتبهم
سوى مرة واحدة في الأسبوع أو لترؤس إجتماعات المجلس البلديّ

يكتسب الحوار مع رئيسة بلديّة كفرنبرخ السيّدة وسام الشّامي نصر الغضبان أهميّة خاصّة، لأنّ نجاحها وفوز لائحتها في الانتخابات البلديّة الأخيرة، شكّلا منعطفاً مهمّاً في حياة بلدتها كفرنبرخ بل في العمل البلدي لأنها من بين النساء القلائل اللواتي حظين بثقة مجتمع اعتاد على انتخاب الرجال لهذا المنصب العام، لكن السيدة الغضبان لم تصعد إلى رئاسة البلدية إلا بعد أن تحقق مجتمع كفرنبرخ من كفاءتها وتفانيها في العمل الاجتماعي عبر رئاستها لأكثر من 20 عاماً لجمعية سيدات كفرنبرخ، وهي تجربة صقلت شخصيّة السيدة الغضبان وعمّقت خبراتها في العمل العام بحيث أن انتقاءها إلى قيادة العمل البلدي يتم من دون صعوبات أو تهيب للمسؤولية.
“الضّحى” التقت السيّدة وسام الغضبان في حوار تناول تجربتها في العمل النّسائي والاجتماعيّ ودلالات اختيارها لرئاسة المجلس البلدي ثم خطّة عمل المجلس البلديّ الجديد الذي ترأسه والمهمّات العديدة التي تتصدّر جدول أوّلويّاته ، فكان الحوار التّالي:

> على سبيل تقديم نفسك إلى القرّاء نسألكن أوّلاً: ما هي العوامل التي ساعدت على إنتخابكن رئيسة للبلديّة؟
اِسمي وسام الشّامي نصر الغضبان زوجي المرحوم زياد الغضبان وأنا أمّ لثلاثة شبان. تمرّست بالعمل الاجتماعي منذ فترة طويلة، وأشغل منصب رئيسة هيئة سيّدات كفرنبرخ منذ عقدين من الزّمن، وما زلت في هذا الموقع إلى جانب مسؤوليّتي الجديدة كرئيسة للبلديّة. لقد اخترت الترشّح لرئاسة البلديّة بعد أن سعيت مع سيّدات كفرنبرخ لتنفيذ الكثير من المشاريع التّنمويّة في البلدة لكنّنا لم نوفّق بسبب افتقادنا كجمعيّة للوسائل الضّرورية لتحويل الأفكار إلى إنجازات على الأرض، وقد تبيّن لي أنّ البلدية هي المؤسّسة المناسبة والقادرة على الإنجاز، لذلك قرّرنا السّعي لاختيار مجلس بلديّ نكون جزءاً منه وقد نجحنا بفضل ثقة المواطنين، وأسأل الله ان يوفّقني لتحقيق ما كنا نصبو إليه وما تحتاجه البلدة.

> كيف إستطعتن كهيئة سيّدات، العمل طوال هذه الفترة، وكيف تجاوزتن العقبات واستمرّيتن في العمل؟
صمدنا لأنّنا لم نتعاطَ السّياسة. فعملُنا كان ولم يزل اجتماعيّاً مَحضاً، وهذا هو سرّ نجاحنا. لم ندخل طرفاً مع أحد أو ضدّ أحد، وهذه كانت توجيهات وليد بك لنا منذ البداية، إضافة إلى تشجيعه لنا والعمل على موضوع إعادة اللّحمة مع الأخوة المسيحيّين بحيث نكون يداً واحدة تعمل لمصلحة البلدة، ومن سار على الدّرب الصّحيح وصل.

> كيف تصفن أهمّ ما أنجزتموه في هيئة سيّدات كفرنبرخ؟
أنجزنا الكثير وكنّا نعمل بجد وحماس من أجل الآخرين..وكنّا نساعد الجميع من دون استثناء، وتمكّنا بذلك من خلق جوّ من الألفة انسحب على كل أهلنا في كفرنبرخ، وتمكنّا من مساعدة الفقراء منهم، وقمنا بدفع فروقات تكلفة العلاج في المستشفيات، ودعمنا تكاليف نقل الطلّاب الى المدارس، وقدّمنا العديد من المنح المدرسيّة للطلّاب المحتاجين، وبلغت قيمة هذه المنح نسبة 50 في المئة من الأقساط المدرسيّة، كذلك خصّصنا مبلغاً لا بأس به من الأموال التي جمعناها لذوي الأمراض المستعصية وما أكثرها اليوم، وأنشأنا مستوصفاً فاعلاً، ويعدّ من أهم المستوصفات في المنطقة. وحاليّاً نحن بصدد تشييد مبنى له يكون على قدر آمال النّاس ويفي بالغرض المطلوب، وقد بلغت موازنة المستوصف في أيام الوزير وائل أبو فاعور 145 مليون ليرة لبنانية، ولمّا تسلمته كانت موازنته لا تتجاوز 35 مليون ليرة لبنانية.
> هل يمكن أن يتمّ تحويل المستوصف الى مركز رعاية اجتماعيّة؟
هذه الفكرة تراودنا منذ فترة طويلة، ونحن نعمل على تطوير المستوصف باستمرار بهدف تحويله إلى مركز دائم للرّعاية الاجتماعيّة، وذلك بعد إنجاز المبنى الجديد المخصّص له، وقد أنجزنا الطابق الأول بانتظار الانتهاء من بناء الطّوابق الأخرى. فهو يتألّف من ثلاثة طوابق لكي يلبّي حاجات النّاس بعد تحويله إلى مركز صحّي اجتماعيّ، مع حضانة للأطفال، وإنشاء مكتبة للمطالعة، وصالة كبرى للمناسبات تُستخدم للنّدوات، وعرض الأفلام القصيرة للأطفال، وعقد النّدوات التي تخصّ الشّباب، كما سنقوم بتأسيس مشغل لتأمين فرص عمل خصوصاً للصّبايا اللّواتي يرغبن العمل بحرفة أو عمل منتج.

> من هي الجهات الدّاعمة لكلّ هذه المشاريع؟
أطلقتُ على الجمعية تسمية ( جمعية الألف ) لأنّنا كنا نتقاضى ألف ليرة فقط بدل إشتراك، وبإعتباري عضواً في جمعيّة سيّدات لبنان، كانت توجّه إليّ الدّعوات للمشاركة و المساهمة بـمبالغ كانت تصل إلى 50 دولاراً ومئة دولار. فأخبرتهم بأننا في “جمعية الألف” لا يمكن أن نساهم بهكذا مبالغ. وبالفعل فإنّ كلّ ما قمنا به من مشاريع جمعناه بالألف والألفي ليرة. ولكي يستقيم العمل لا بدّ من التّواضع والرّضا بالقليل. مداخيلنا بالأساس من الاشتراكات، ومن بعض التّبرّعات والحوافز الأخرى. منها: إصدار روزنامة سنويّة، اعتماد التّامبولا في المناسبات وغيرها من الأمور التي لا ترهق المساهمين، وفي أيّ مشروع قمنا به وجدنا الجميع الى جانبنا. مثلاً قمت بمشروع تنمويّ مع وزارة الشّؤون الاجتماعيّة وهو عبارة عن تأمين شبكة خطوط لمولّدات الكهرباء بكلفة 13 مليون ليرة لبنانية وكان يتوجّب علينا المساهمة بمبلغ معيّن قدّمه لنا وليد بك وحصلنا بالمقابل من وزارة الشّؤون على مبلغ 75 مليون ليرة. بإختصار، فإنّ المواظبة على العمل أساس النّجاح وليس كميّة المال. بالطّبع الجميع في كفرنبرخ كانوا وما زالوا إلى جانبنا.

يوم-السيدة-وسام-الغضبان-يبدأ-بواجبات-المننزل-ويكتمل-بواجبات-العمل-العام
يوم-السيدة-وسام-الغضبان-يبدأ-بواجبات-المننزل-ويكتمل-بواجبات-العمل-العام

> برأيكن ما هي متطلّبات النّجاح؟
أولى متطلّبات النّجاح الصّدق والشّفافية في العمل، وثقة النّاس، والتطلّع إلى الأمام، وعدم الإكتراث بما يقال من هنا وهناك، وأنا لم أتذكّر على مدى 20 سنة بأنّني كنت قلقة على شيء أو متخوّفة من شيء. الحمد لله بأننّي أغفو كلّ ليلة مرتاحة البال والضّمير.

> كيف توازنّ بين عملكن في الحقل الاجتماعي وبين واجباتكن نحو أسرتكن؟
في البداية واجهت بعض الصّعوبات، أثّرت عليّ بشكل جدّي، خاصّة وأننّي ربّة منزل وأم لثلاثة أولاد، وكان زوجي رحمه الله يمتلك محطّة للمحروقات ومعظم عملنا كان ضمن البيت، وفي إحدى المرّات خيّرني زوجي بين الجمعيّة ووضعي كزوجة. فسألته هل أنا مقصّرة بشيء تجاهك وتجاه الأولاد فأجابني لا، عندها قلت له بكلّ صراحة لطالما أنّك تعترف بأنّني لست مقصّرة بشيء، فأنا مستمرّة بعملي في الجمعيّة طالما ليس هناك ما يجعلني أخجل منه. وقد انحاز أبناؤنا إلى جانبي لأنّني كنت محقّة بما أفعله، وانتهت المسألة عند هذه النّقطة. لقد علّمت أولادي في أفضل الجامعات ولم أقصّر في حقّهم بأيّ شيء. فأنا لست من روّاد الصبحيّات النّسويّة والجلسات التي لا فائدة منها. نهاري يبدأ في الخامسة صباحاً وينتهي بعد منتصف اللّيل بعد أن أكون قد أنجزت كلّ ما هو مطلوب مني، ولقد استمرّيت بتحمّل مسؤوليّات منزلي إلى جانب زوجي حتى وفاته قبل ثلاث سنوات ونصف، وها أنا اليوم أقوم بدور الأب والأمّ بالنّسبة لأولادي.

> برأيكن ما هي الأسباب التي أدّت الى إقفال مصنع تعليب الفاكهة، وما هو مصير المعدّات التي تمّ تجهيزه بها؟
السبب الأوّل للفشل كان سوء الإدارة، لقد كان مُفتَرضاً بهذا المعمل أن يؤمّن العيش الكريم لأكثر من 40 عائلة، ولكن قلّة الخبرة وسوء الإدارة وتعدّد الآراء، والاتكاليّة أوصلت إلى هذه النتيجة مع الأسف، ولا أذيع سرّاً إذا قلت لك إنّ وليد بك طلب منّي الإشراف عليه، لكنّني إعتذرت على اعتبار أنّه كان في عهدة الاتّحاد النّسائي التّقدّمي، وبالمقابل فإنّ النّظام الدّاخليّ لجمعيّتنا لا يسمح لنا بالعمل في مؤسّسات حزبيّة أو أن نتعاطى السّياسة.

> كيف انتقل طموحكن من رئاسة جمعيّة نسائيّة إلى رئاسة البلديّة؟
لم أكن أفكّر يوماً بالتّرشّح لرئاسة البلديّة، لكنّ زميلاتي في الجمعيّة رغبنّ في ذلك وعملنَ له بقوّة. وعندما وصلت الأمور إلى غربلة الأسماء والمرشّحين أصبح هناك إصرار ورغبة من جانب قسم من الأهالي بضرورة الترشّح وخوض الإنتخابات من الباب العريض. لقد قامت الجمعيّة باستمزاج رأي الأهالي والوقوف على رأيهم وهذا التّصرّف ساعد كثيراً على بلورة الفكرة. ونزولاً عند رغبة الأهالي وزميلاتي قرّرت الترشّح ووضعت حساب الرّبح والخسارة في كفّتين متعادلتين، وهكذا خضنا التّجربة وكان الفوز إلى جانبي بعد أن تخطّيت كلّ الحواجز .

> إلى من تعتبرن نفسكن مدينات بوصولكن إلى رئاسة البلدية؟
إلى كلّ من دعمني وآمن بأنّني قادرة على تحقيق ما لم يتمكّن من تحقيقه من سبقوني في هذا الموقع. فأنا صوت المرأة التي تعتبر نفسها مسحوقة أمام تعنّت الرّجل ورفضه لفكرة الشّراكة مع المرأة والاعتراف بقدراتها، وأنا مدينة لكلّ حرّ وشريف إقترع لي ولم يعبأ بالأخبار الكاذبة والإشاعات المغرضة. وبالنّتيجة، فإنّ الإنتخابات أصبحت وراءنا، وأنا اليوم رئيسة بلديّة لكلّ كفرنبرخ ولجميع أهلها الذين انتخبوني منهم والذين لم يصوتوا لي. وأنا أؤمن بالحوار وبإحترام الجميع، ما يهمّني هو إعلاء شأن هذه البلدة والحفاظ على التّعايش وتأمين الخدمة والرّفاهية لكلّ أبنائها من دون استثناء.

> هل وجودكن على رأس البلديّة وسّع لكنّ آفاق العمل أكثر من الجمعيّة؟
طبعاً العمل البلديّ يفتح آفاقاً أوسع في جميع المجالات. ولدينا مجموعة مشاريع حصلنا عليها عن طريق الهبات تتعلّق بالأقنية الزّراعيّة وهي بطول 7 كيلومترات من قبل برنامج الأمم المتّحدة للتّنمية UNDP وقد باشرنا بتنفيذه. وهناك مشروع هبة أخرى من وزارة الطّاقة والمياه، لتأمين مسارب لمياه الشّتاء، كما قدمنا غرفة خاصة لصالح شركة أوجيرو لتقوية الاتّصالات والإنترنت سيتمّ تدشينها قريباً، و قمنا بتوفير الدّعم اللّازم للفرقة الموسيقيّة من صبايا وشباب، بالإضافة إلى دعم النادي الرّياضي، و تأمين رخصة لنقل الصّخور والأتربة لصيانة الأراضي والطّرقات بموافقة من المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص، ونعمل على حفر بئر إرتوازيّة لزيادة مياه الشّفة. فالبلدة بحاجة ماسّة إليها، كما يجري العمل على تأمين الإنارة بواسطة الطّاقة الشمسيّة لكلّ بيت من بيوت كفرنبرخ، أيضاً نحن كمجلس بلديّ بصدد دراسة مشروع إنارة عامّة لشوارع البلدة بواسطة الطّاقة الشّمسية.

> ما هي خطّتكن لتحسين التّعايش المشترك في البلدة؟
لا أنكر عليك أنّ موضوع التّعايش مسألة مهمّة تتطلّب عناية كبيرة، فأنا والحمد لله كنت وما زلت محلّ ثقة أخواننا المسيحيّين. منذ تأسيس جمعيّة سيّدات كفرنبرخ تعاونت معنا مجموعة سيّدات مسيحيّات لأن ّ جمعيّتنا بعيدة عن السّياسة وعملنا مُنصَبٌّ لمصلحة بلدتنا بكلّ أطيافها ومن دون تفرقة، ولذلك، نجحنا وحضينا بثقة الجميع من دون استثناء، ولم ننقطع عن زيارة الأخوة المسيحيّين في كلّ مناسبة، حيث كنا نشاركهم أفراحهم وأعيادهم وفي جميع المناسبات. وأهمّ من كلّ ذلك أقنعناهم بالحضور إلى دار البلدة وإقامة المناسبات فيها.

> ما هو الأثر النفسيّ والاجتماعي لوجود امرأة على رأس المجلس البلديّ في كفرنبرخ؟
المجلس البلديّ لبلدة كفرنبرخ يضمّ أربع نساء ولست أنا العنصر النّسائيّ الوحيد. والسيّدات هنّ سناء يارد نائب الرّئيسة ونسرين رعد وريموندا يزبك أعضاء، طبعاً الصّبايا لم يفكرن يوماً بخوض هذه التّجربة، وبمجرّد أن أعلنت عن ترشيحي فإنهنّ اندفعن إلى ترشيح أنفسهنّ، ويشرّفني بأنّني كنت السّبب في ذلك، وآمل أن يزداد تمثيل العنصر النّسائيّ في المجالس البلديّة وبقيّة هيئات العمل الاجتماعيّ. ما عدا ذلك، فإنّ انتخابي أحدث صدمة إيجابيّة لأنّه أظهر للجميع رجالاً ونساءً أنّ المرأة قادرة على العطاء وهي إنسان مفكّر ومنضبط وقادر على العمل الشاقّ والمجهد، وهي تعطي من قلبها وليست لها حسابات ومطامع. وأنا على سبيل المثال أحضر بشكل يوميّ الى مكتبي لمتابعة قضايا النّاس، وعندما لا أكون موجودة في المكتب أكون في جولة على المشاريع قيد التّنفيذ والتي يجب أن تُنفّذ، ومع ذلك أشعر أحياناً بالتّقصير، وأتعجّب من بعض رؤساء البلديّات الذين لا يحضرون إلى مكاتبهم سوى مرّة واحدة في الأسبوع، أو أثناء انعقاد اجتماعات البلديّة.

> ما هي خطّتكن لمعالجة الإنهيارات التي حصلت في السّنة الماضية وباتت تهدّد البيوت السكنيّة؟
صدقني هذا الموضوع يأخذ حيّزاً كبيراً من اهتمامي، هناك أكثر من 22 منزلأ مهدّدة بالسّقوط في أيّة لحظة بالإضافة إلى انقطاع الطّريق عن مجموعة من القرى المجاورة. الفوّارة- بريح – وادي الستّ – نبع الصّفا، وقرى الحرف البيرة – المعوش – مجدل المعوش، كفرنيس. وللأسف لم يهتمَّ مسؤول للأمر بإستثناء وليد بك الذي قدّم لكلّ عائلة تضرّرت من هذا الانهيار مبلغ عشرة ملايين ليرة لتدبّر أمورهم. مجلس الإنماء والإعمار تقدّم بمشروع بكلفة تصل إلى 32 مليون دولار أميركي، علماً أنّ الشّركات التي استعنت بها لدراسة كلفة هذا المشروع وعدت بإنجازه بمبلغ لا يتعدّى عشرة ملايين دولار أميركي. لذلك فإنّني أتمنّى الموافقة على هذه الدّراسة والمباشرة بالعمل في أسرع وقت.

> كيف تعالجن مشكلة الصّرف الصحّي آنياً في ظل عدم معالجة هذه المشكلة بشكل جذريّ؟
المعالجة تتم بتطبيق القانون، إذ لا يمكن إعطاء رخصة بناء لأحد دون التّوقيع على إنشاء ثلاث برك فنّية لتكرير الصّرف الصحّي وبعدها يجري شفط ما تبقى من مياه بواسطة صهاريج خاصّة. أمّا الهمّ الأكبر الذي بدأنا نواجهه فيتعلّق بموضوع النّفايات المكدّسة في خراج البلدة ممّا يسبّب ضرراً على المياه الجوفيّة. وكنّا قد اتّفقنا كمجموعة بلديّات العرقوب على إرسال النّفايات إلى معمليّ السويجاني وبعذران من أجل الفرز على أن نتكفّل بمكان لطمر العوادم . ولغاية الآن لم يتمّ الاتّفاق على المكان، والأمور أصبحت معقّدة، والبلديّة بصدد دراسة مشروع حلٍّ متكامل بطلب من وليد بك على أمل الوصول إلى حلّ قريب.

> ما هي رسالتكن إلى المرأة كسيّدة ناجحة في الحقل الاجتماعيّ والخدماتيّ؟
أريد التأكيد على أمر مهمٍّ جدّاً بأنّ مشايخنا الأتقياء لم يعترضوا أبداً على عمل المرأة المحافظة على كرامتها وبيتها وبيئتها، حتى أنّ سماحة شيخ العقل نعيم حسن في كلّ اللقاءات والمحاضرات التي يقيمها في دار الطّائفة الدّرزيّة في بيروت وقد حضرت عدة محاضرات له عن دور المرأة، لم أسمع منه إلّا ما يشجّع المرأة ودورها في بناء الأسرة الصالحة وبناء المجتمع والوقوف إلى جانب زوجها وأسرتها. وأنا أقول للمرأة انطلقي إلى العمل شرط أن تحافظي على بيتك وكرامتك، فتنظّمين حياتك وتلغين القيلولات التي لا فائدة منها، عندها فقط تحقّقين ما تريدين، وتجدين الكلّ إلى جانبك.

> كلمةٌ أخيرة
في ختام هذا الحوار أطلب من الله أن يوفّقني كي أجعل من كْفَرْنَبْرخ من أجمل بلدات هذا الجبل وحَرِيّة بأن تصبح مقصداً سياحيّاً وتجربة نموذحيّة في العمل البلديّ والإنجاز الاجتماعيّ.

تاريخ صلاح بن يحيى

تاريخُ صالحٍ بنِ يَحيى وتاريخُ ابن سباط

أضواءٌ على مرجِعيَن حَفِظا الكثيرَ من تاريخِ الدّروز

تقتصر المصادرّ التّاريخيـّة المعتمدة حول تاريـخ العصور الوسطي لجبـل لبنـان وجـواره، لِحِقْبة العصـور الـوسطى، على التّواريـخ الكاثوليكيّة المارونيّة وهي عـديـدة. والـوثائـق المـوجودة في محفوظات الفاتيكان، عـن العلاقـات بيـن الكنيسة الـرّومانيّة وطائفـة الموارنـة وهناك أيضاً منها ما يغطي علاقات الكنيسة مع طائفة الموحّدين الدّروز.
أمّـا المصـادر التّـاريخيّة الـدّرزية المتعلّقة بحقبـة العصور الوسطى، فتقتصـر على مؤلَّفيـن اثنيـن همـا: تاريـخ صالـح بـن يَحيـى، الأمير البحتـريّ المتوفّي في أواسـط القـرن الخامس عشـر. وتاريـخ حمـزه بن سباط بـن الفقيه أحمـد العاليهي أحد أتبـاع الأمـراء البحتريين، المتوفّي سـنة 1523م.
كان أوّل مـن قام بتحقيق تاريـخ صالـح بـن يَحيى، الأب لويس شيخـو اليسوعيّ. حيث عَثـر عليـه بينمـا كان يسـرّح النّظـر في أرفف خزائن مكتـبة باريـس الجامعية حيـث كان يستنـسخ بعـض مصنّفاتهـا، فبـادر إلى مطالعتـه وبـدأ بنقـله. والنّسخة الأصليّة تشتمل على 135 ورقـة، وفي كلّ صفحةٍ خمسةَ عَشًرَ سـطراً، مكتوبة بالخـطّ النسخيّ الـدّقيـق. كتبهـا المـؤلّـف وزاد عليهـا عـدّة إفـادات، وعلّـق عليهـا في الحـواشي، وجمـع فيـه مـا أمكنـه مـن الحـوادث عـن بيـروت وآثـارها وفتوحاتها. وتـاريخ بنـي بحتـر المعـروفين بأمـراء الغـرب، والذين تـولَّوْا زمنـاً طـويلاً على بيـروت ومـا جـاورها مـن قِبَـل ملـوك مِصـرَ في عهد دولـة الممـاليـك.
عمـل الأب لويس شيخو على نشـر الكتاب مـع بعـض التصرّف، وذلك تحـت عنـوان “تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتـريين مـن بنـي الغـرب”. وصـدر عن المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت سنـة 1920 ، ثـمّ صـدرت طبعـةٌ ثانيـةٌ منـه مُصَحّحـةً سنـة 1927.
أُعيـدَ تحقيـق هـذا الكتاب بعـد ذلك مـن قِبَـل الأب فرنسيس هـورس اليسوعيّ، والدكتور كمـال سليمان الصليبي، بالاشتراك مـع آخـرين. بالإشارة إلى العنوان الأصليّ وهـو “ أخبار السّلف مـن ذرّيّـة بُحتـر بـن علي أمير الغرب ببيروت “. وصـدر عن دار المشـرق – المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت سـنة 1969.
وفي سـنة 2015، قامـت مـؤسّسة التـّراث الـدّرزي بطبـع وتـوزيع خمسمائـة نسـخة مـن هـذا الكتاب، بموجب اتّفاق مـع دار المشـرق، صاحبة الحـقّ بطباعـة الكتاب وتـوزيعه، وذلـك تعميمــاً لفـائـدة هـذا المـَرجِع التاريخيّ الهـامّ.
المـؤلَّفُ الثّاني هـو كتـاب “صِـدْقُ الأخبـار”. المعروف بتاريـخ حمـزه بـن الفقيه أحمـد بـن سبـاط العاليهي، المتوفّى سنة 1523م، وهـو مـؤرّخ مُخَضـرَم، عاصر سنوات التحوّل من حكـم دولـة المماليك إلى حكم الدّولة العثمانيّة. وتاريخ ابـن سباط هـو المكمّـل لتاريخ صالح بـن يَحيى.
يتـألّف كتاب “ صِـدْق الأخبار”، المعروف بتاريخ ابـن سباط، مـن جـزءين، ومـن أحَـدَ عَشَرَ باباً. كلّ بـاب يتضمّن وقائـع مئـة عـام، مـا عـدا الباب الأول والأخيـر، وأنّ الجـزء الأوّل مـن الكتاب فُقِـد بكاملـه، كمـا فُقـِد قسـمٌ مـن الجـزء الثّاني، وبقيَ القسـمُ الأكبر منـه. والأبواب الباقية هـي:
• الباب السّابع من حوادث سنة 526 هـ / 1172 م. حتى سنة 600هـ / 1203 م.
• الباب الثّامـن من سنـة 601 هـ / 1204 م. حتى سنة 700 هـ / 1300 م.
• الباب التّاسع من سنة 701 هـ / 1301 م. حتى سنة 800 هـ / 1397 م.
• الباب العاشر من سنة 801 هـ / 1398م. حتى سنة 900 هـ / 1494 م.
• البابُ الحادي عَشَرَ من سنة 901 هـ / 1495 م. حتى سنة 926 هـ / 1520م.

أهـمّ مـا في القسـم الأخير مـن الكتاب، الفتـرة المعاصرة للمـؤلّف، حيـث ذكـر أخباراً مفصّلـة لمجريات الأحـداث التي عاشها، وأثبـت في تدوينها مقـدرته التـأريخيّة، وصـدق تعامله مـع الخبــر والحـدث. والجـديد في الكتاب أيضاً، مـا أضافـه من تكملة لتاريـخ صالح بـن يحيى، عـن التّنـوخيّين وتراجم أعيانهم ووفيّاتهـم، وتـراجم جماعـة مـن وفيّـات الغـرب وساحل الشّـام.
جـرى تحقيق تاريخ ابـن سباط، مـن قبل الدّكتـور عمـر عبـد السّلام تـدمـري الذي عمـل على تحقيق الأبواب الباقية، والمـذكورة آنفـاً، تحـت عنـوان: “صـدق الأخبار تاريخ ابن سباط”. تأليف حمـزه بـن أحمـد بـن عُمَـر المعروف بابـن سباط الغربيّ. وصـدر عـن مؤسّسة جروس بـرس – طرابلس- لبنان سنة 1993، في مجلّـدَين.
وكانت الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائدبيه، قـد قامـت قبل ذلك بتحقيق البابَيـن العاشـر والحادي عشـر مـن هـذا الكتاب، ووضعت عنـواناً للباب العاشـر”الفصل الأوّل”. وللباب الحادي عشَـرَ”الفصل الثّاني”. ووضَعت عنوانا للكتاب: “ تاريخ الدّروز في آخر عهد المماليك”، منشورات المجلس الدّرزي للبحوث والإنماء، طبعـة دار العَـودة – بيروت سنـة 1989. والكتاب في الأساس رسالة ماجستير قـدّمتها الدّكتورة نائلة إلى دائرة التّاريخ والآثار في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ونالت بموجبها درجـة الماجستير في الآداب.
لقـد ورد في مجلّة “الضّحى“ الغـرّاء، في العـدد 16 شهر أيار 2016. وفي الصفحة 78 وتحت عنوان: “ مؤسّسة التّراث الدّرزيّ في إصدار جـديد، ( الكتاب الآخر هـو الذي وضعه حمـزه بـن سباط تحت عنوان” صدق الأخبار” وقـد تولّت تحقيقه الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائد بيه).
والحقيقة أنّ الدّكتورة نائلة قائـدبيـه، قامت مشكورة بتحقيق الباب العاشر والباب الحادي عشر مـن كتاب صِدْق الأخبار، كما ذُكـر أعـلاه.

كارل يونغ

يُعتَبَرُ كارل غوستاف يونع من ألمع المفكّرين الذين أنجبتهم الإنسانيّة في القرن العشرين، فهو ليس فقط أحد أبرز المؤسّسين لعلم النّفس التحليلي بل هو أكثر المفكّرين المعاصرين تميّزاً في إدراكه للبعد الرّوحيّ للحياة وفَهمه للبنية المركّبة للنّفس البشريّة ولديناميكيّة تشكّل الجماعات والحضارات والعوامل التي تحدّد معارفها وسلوكها. ومن أبرز ما ميّز شخصيّته الخلّاقة انفتاحه بل انجذابه المبكر إلى الحضارات الآسيويّة والإرث الفلسفيّ والروحيّ الهندوسيّ بصورة خاصة، إذ رأى فيه مكمّلاً مهمّاً لعلم النّفس الحديث وعثر فيه على أدوات كثيرة تساعد على سبر الأغوار السّحيقة للنّفس البشريّة الفرديّة والجماعيّة وبالتّالي فهم المضامين الحقيقيّة للميثولوجيا والإرث الميتافيزيقيّ للحضارات. وكانت الرّؤية الكلّية التي تبنّاها يونغ لعلم النّفس ولما يمكن تسميته أيضاً “علم الإنسان” أحد الأسباب الأساسيّة التي دفعته للانفصال ومنذ وقت مبكر عن أستاذه وأبرز مؤسّسي علم النّفس سيغموند شلومو فرويد (1856-1939)،إذ اعترض على تحليله الضيّق الذي ربط أكثر مظاهر اللّاوعي الإنسانيّ بالغريزة الجنسيّة Libido وبما يسمّيه “الكبت” وهذه النّظرية اعتبرها يونغ تتضمّن تعريفاً دونيّاً ومَرَضياً للإنسان بينما نظر إليها العلماء الآخرون الذين عارضوها بإعتبارها وفّّرت أساساً مزيّفاً لدعوات الانحلال والتفلّت من القيود الاجتماعيّة والأخلاقيّة. ويُذكر أنّ النظريّة الفرويديّة لاقت رواجاً كبيراً في ستينيّات القرن الماضي إلا أنّها فقدت الكثير من تأثيرها في ما بعد خصوصاً بعد اتّهام فرويد بالتّلاعب بالتجارب المختبرية وتلفيق النّتائج لدعم نظريّته، وصدرت مجلة “تايم” الأميركيّة الواسعة النّفوذ قبل سنوات وعلى غلافها صورة لفرويد مع عنوان: هل فرويد عالم مُحتال؟

كارل يونغ
كارل يونغ

على عكس النهج الوحيد الجانب للتّحليل الفرويديّ فقد قدّم كارل يونغ بدائل أكثر نضجاً وإحاطة بالنّفس البشريّة والتّكوينات الاجتماعيّة وأماط اللّثام عن العديد من غوامض التّكوين الثّقافي الجمعيّ للشّعوب وخصائصها المميّزة من خلال النّظرية العبقريّة للّاوعي الجماعي، إذ اكتشف يونغ أنّه كما إنّ لكلّ فرد لاوعياً خاصّاً به هو نتيجة حياته وما يمرّ عليه من تجارب ومحرّضات وما ينتجه من خيالات وأعمال فإنّ لكلّ شعب أو مجموعة بشريّة أيضاً لاوعياً جماعيّاً هو نتيجة أسلوب عيش الجماعة والظّروف التي تمرّ بها عبر تاريخها واللّاشعور الجمعيّ هو بهذا المعنى “مخزن الخبرة الشّاملة لجماعة عرقيّة أو أثنيّة” وهو ما يطبع شخصيّتها وسلوكها ويجعل منها أثنيّة متميّزة عن الجماعات الأخرى. ويرتبط بهذه النّظريّة لـ يونغ صياغته لما يسمّى نظريّات المثالات الجمعيّة Archetypes وهي تعبيرات خارجيّة للّاوعي الجماعيّ يمكن استنتاجها من الصّور والرّموز والفنّ والأساطير والدّيانات أو الأحلام، وعرَّف يونغ المثالات الجمعيّة بأنّها صور نفسيّة مغرقة في القدم تنبع من اللّاوعي الجماعيّ وهي المرادف النّفسانيّ للغريزة بمعناها المُحدّد. وهذه المثالات هي احتمالات موروثة تتحوّل إلى فعل عندما تظهر إلى صعيد الوعي والعالم الخارجيّ، وهي بواطن سلوك فريدة بكلّ شخص أو جماعة ومستبطنة لكنّها تأتي إلى السّطح عندما تدخل صعيد الوعي فتأخذ تعبيرات محدّدة في سلوك الأفراد وثقافتهم. والرأي السائد هو أنّ نظريّة المثالات الجمعيّة لـ يونغ تأثّرت بالتّفكير الأفلاطونيّ حول “عالم المُثل” وبمفهوم مستويات الوعي Categories للفيلسوف الألمانيّ “كانت” Kant وأخيراً بالفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي تحدّث عن المثالات السلوكيّة prototypes.
يبقى القول إنّ يونغ الذي كان سويسريّاً ناطقاً بالألمانيّة عانى بسبب نزاهته العلميّة وإصراره على فصل العلم عن النّزاعات السّياسيّة من مواجهات مع طرفين متناقضين، فهو أولاً اصطدم بالحكم النازيّ في ألمانيا كرئيس لأهمّ جمعيّة لعلم النّفس في أوروبا عندما رفض تطويع الجمعيّة لأغراض الحزب النازيّ وأصرّ على السّماح للعلماء اليهود بالنّشر في مجلّتها، لكنّه وبسبب استمراره في رئاسة الجمعيّة في وقت كانت النّزعات المعادية لليهود في ألمانيا قد أصبحت سياسة رسميّة فإنّه اتُّهم بمعاداة السّامية، لكنّ هذه الاتّهامات كانت بلا أيّ أساس وهي لم تحمِه على أيّة حال من إجراءات انتقاميّة اتّخذها المسؤولون الألمان بحقه بما في ذلك مصادرة مؤلّفاته ووضعه على اللّائحة السّوداء.
يبقى القول أخيراً إنّ التطوّرات العلميّة في علم النّفس وفي العلوم الإنسانيّة الأخرى عزّزت كثيراً من النّفوذ الفكريّ العالميّ للعالم يونغ في الوقت الذي تمّ الابتعاد عن الدّوغما الفرويدية والتي اتّضح أنّها بُنيت على أسس علمية واهية بل ومُلفّقة، كما سجّل عالميّاً ابتعاد الطبّ النفسيّ الحديث عن أسلوب المعالجة النفسيّة المستند إلى مدرسة فرويد وتحوّله أكثر فأكثر إلى مدرسة يونغ في التّحليل النفسيّ، وهذا بعد أن بات الكثير من الأطبّاء النفسيّين يَرَوْن أنّ الأسلوب الفرويديّ ليس فقط غير ذي فعالية في شفاء المرضى النّفسيين بل هو على العكس زاد في أغلب الحالات من أعراضِ المرض الذي يعانون منه.
نظراً إلى الأثر الهائل الذي تركه كارل غوستاف يونغ في الفكر الإنسانيّ وفي علم التّحليل النفسيّ رأت “الضّحى” أن تقدّم هذه الشّخصيّة الفذّة للقارئ المهتمّ وذلك في سياق عنايتها بنشر الإنتاج الفكريّ العالميّ وتوسيع اطّلاع القارئ على بعض أهمّ الأشخاص والأحداث التي وَسَمَت تاريخنا البشري.

يونغ شرحَ إيمانَه الصّوفيَّ بمصطلحاتِ علمِ النّفس
ومساهماته الكُبرى مهدّت لتراجعِ نفوذِ الفرويْديّة

التعدُّدَ في العالَم الإختباري يستند إلى وحدةٍ كامنة
وما يبدو مجزأ ينتمي إلى وجود أوحد لا يدرك بالحواس

أيُّ تشكُّكٍ في النّفس البشريّة حول “حقيقةِ الله”
يسبّب إضطراباً وشقاءً في الجسد والنّفس على حد سواء.

وضع تفسيراً نفسيّاً لقصّة الخُضرِ والنّبي موسى
اعتُبِر دليلاً على تضلُّعه بالإسلام والقرآن الكريم

كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung (1875-1961) هو أحد الروّاد الكبار المؤسِّسين لعلم النفس، وقد كان لأعماله وحياته ومحاضراته الأثر الأكبر على التّحليل النفسيّ، لكن التّأثير الواسع ليونغ لم يتوقّف على علم النّفس والتّحليل النفسيّ بل تعدّاه إلى فتوحات مُلفتة في مَيدان علم السّلالات والحضارات (الأنثروبولوجيا) وعلم الرّموز والشّيفرات الثقافيّة وعلم الآثار والأدب العالميّ، كما إنّه تفرّد عن علماء عصره وعن بيئة العلمنة والإلحاد التي طبعت مجتمع العلوم الطبيعيّة والنّفسية في زمانه في أنّه تبنّى رؤية علميّة متصالحة مع مرتكزات التّفكير الرّوحي وتفهّم بقوّة أهميّة درس الجانب الآخر الغامض وغير المَرئي للحياة الإنسانيّة وهو الجانب الرّوحي، وكان يونغ يميل خلال فترة تعليمه ما قبل الجامعيّ إلى الجيولوجيا وعلم الحيوان والحفريّات وكان شديد الاهتمام بالعقائد الدينيّة المختلفة والحضارات الإنسانيّة والآثار خاصة ما تعلّق باليونان ومصر وعصور ما قبل التّاريخ مع ميل واضح للتأمّل والتّفكير خارج الأطر الرّائجة. ودرس يونغ الطبّ في مدينة بازل حيث تخرج طبيباً وبدأ حياته العمليّة عام 1900.
رغم اكتشافه لأهميّة البعد الرّوحي في حياة الإنسان والجماعات فإنّ يونغ حرص على استخدام لغة علميّة ورمزيّة خاصة للتعبير عن قناعاته أو قل حاول التّوفيق بين الروحيّ والعلميّ عبر استنباط مفاهيم جديدة في علم النّفس تفي بالغرض وتسمح له بالإشارة إلى الحقائق الروحيّة لكن بمصطلحات ابتدعها هو وقد ساعده ذلك على تجنب المواجهة مع التيّارات المعارضة للفكر الدينيّ، فكان بذلك يعيش بصمت وبنوع من التّورية على إيمانه الحقيقيّ وسعيه الدّؤوب لاستجلاء الأبعاد الخفيّة لعالم الرّوح واللّاوعي في النّفس البشريّة.

يونغ والبُعد الرُّوحيّ
لقد أثارَ البُعد الرُّوحي والصوفيّ لدى كارل يونغ فضول الباحثين الذين دُهشوا للطريقة التي كان يعرض فيها لغوامض الرّوح والنّفس البشريّة بأسلوب منطقيّ وبتعبيرات علميّة جديدة ومبتكرة. وهذا ما سَلَّط عليه الضّوء الكاتبُ الأميركي غاري لاشمان (Gary Lachman) في كتابٍ تحت عنوان “يونغ الصوفيّ: الأبعاد الرُّوحية الباطنيّة لحياة كارل يونغ وتعاليمه1”، حيث أولى اهتماماً خاصّاً بعددٍ من الأحداث والتجارب والعلاقات التي ساهمت في إرساء معتقدات يونغ ومقاربته، لا سيّما نظرياته الشّهيرة “المثالات الجمعية” (Archetypes)، و”اللّاوعي الجماعي” (Collective Subconciousness)، و”التكوّن الفردي” (Individuation)، و”الذات العُليا” (The Self)، و”العقدة النفسيّة” (Psychological Complex)، و”الماندالا” (Mandala) وهذا الكتاب هو معالجة مشوّقة في العمق حول حياة هذا العالم والمفكّر الكبير والمعتقدات التي كانت قد تكوّنت لديه في السّنوات المبكرة لانطلاق علم النّفس.
ويُناقش لاشمان الوحدة التي كان يعانيها يونغ طفلاً وبعض الرّموز التي استحدثها وأبقاها في أماكن سرّية، وهو ما استخدمه يونغ لاحقاً كإثباتٍ على آرائه حول مشاركتنا للّاوعي جماعيّ على مرّ العصور دون أن نعي ذلك. ويتحدّث الكاتب عن نشوء يونغ في جو محفوف بالظّواهر الرُّوحانية حيث كانت والدته إيميلي تختبر رؤى روحيّة تركت أثراً كبيراً على حالتها النفسيّة ومزاجها، وهذا الأثر وجَّه حياة يونغ من الناحيتَين الشّخصية والمِهَنية في وقتٍ لاحق.
وكان يونغ على قناعة منذ سن الثّانيةَ عشْرةَ بأنّ لديه شخصيّتَين: الأولى فتًى سويسريّ عادي، والأخرى رجلٌ نبيل وذو سلطة ونفوذ من الماضي. وكانت هاتان الشّخصيّتان في صراع دائم أثناء تطوّر حياته النفسيّة وكذلك الروحيّة.

.

اهتم يونغ كثيرا بالفلسفات الشرقية وها هو هنا يقدم تفسيره لرمز المندالا الروحي في الفلسفة الهندوسية
اهتم يونغ كثيرا بالفلسفات الشرقية وها هو هنا يقدم تفسيره لرمز المندالا الروحي في الفلسفة الهندوسية

يونغ وفرويد واللاّوعي الجماعيّ
الحَدَث الأبرز في انطلاقة كارل يونغ المِهنيّة كانت علاقته مع عالِم النّفس الشّهير سيغموند فرويد (Sigmund Freud)، حيث رافقه لعددٍ من السّنوات وتعاون معه في تطوير “التّحليل النفسيّ” (psychoanalysis)، بَيْدَ أنّ اهتمام يونغ بالأمور الرُّوحيّة أبعده عن تركيز فرويد العلميّ الماديّ المحض، ولو أنّهما تعاملا سويّةً مع سلوك الإنسان وحوافزه التي يمكن مراقبتها وتنظيرها، لكنّهما وصلا في النّهاية إلى خلاصتَين مختلفتَين.
هذه الصداقة بدأت في العام 1906 واستمرّت لفترة ستّ سنوات من التّعاون على مبدأ التّحليل النفسيّ، لكن في نهاية المطاف بدا واضحاً أنّهما على خلافٍ جوهريّ في آرائهما حول النّفس والعلاج النفسيّ وطبيعة الإنسان. فقد كان فرويد يرى أنّ النفسَ البشريّة هي أشبه بجبل جليدٍ، يُمثِّلُ جزؤه المرئيّ الصغير العقلَ الواعي، فيما يُمثِّلُ الجزء الأكبر المنغمس تحت الماء اللّاوعي. وكلّ ما يدفع الإنسان إنّما ينبعُ من عمق هذا الجبل الجليدي، المشاعر المكبوتة والذّكريات والنّزاعات. لكنّ يونغ في المقابل كان يرى أنّ ثمّة تأثيراً كبيراً على الطّبيعة البشرية لا ينبع من جبل الجليد هذا فحسب، بل من المحيط بحدّ ذاته – أَلا وهو اللّاوعي الجماعيّ للبشريّة. وإضافة إلى ذلك خرج يونغ من خلال عمله وتحليله لشخصيّات مرضاه بقناعة أنّ التحليل النفسيّ وجبَ أن يكون إيجابياً وذا هدفٍ راقٍ يُمكِّن الإنسان من إحراز إمكانيّاته العُليا. لكنّ فرويد على العكس كان ماديّاً ومُتَشكِّكاً بالطّبيعة البشريّة ويرى أنّ الحياة غير ذات مغزى وأنّ التّحليل النفسيّ يمكنه في أفضل الحالات أن “يُخفِّف من بؤس الإنسان”.
اختبرَ يونغ نظريّات التّحليل النفسيّ الفرويدي، الذي يهدف إلى العمل كعلم آثار للحياة النفسيّة، يستنبط الذّكريات القديمة المكبوتة والمنسيّة للطفولة المبكرة. لكنّه في ممارسته للتّحليل النفسيّ لمرضاه لم يجد ذكريات مكبوتة فحسب بل كنزاً من الصّور ذات المحتوى الرُّوحي، ورموزاً دينيّة وأسطورية كامنة في حنايا النّفس.
وفي العام 1912، اكتمل الانفصالُ النّظريّ والشخصيّ ما بين هذَين العالِمَين، حيث انتقد فرويد علناً اهتمامَ يونغ بالمسائل الرُّوحية العميقة واتّهمه جهارةً بـ “الصوفية”، لكنّ يونغ مضى في طريقٍ امتدّ لسنواتٍ عديدة لتطوير نظريّاته التي تُعطي للإنسان قيمة، وللحياة جدوى، وللوجود غاية.

“يونغ اختبر أثناء نوبة قلبيّة تجربة “مغادرة الجسد” فأيقن بوجود عالم الرّوح الأزليّ وحزن للعودة إلى الجسد”

كارل يونغ (إلى اليمين) مع سيغموند فرويد (أقصى اليسار) قبل الافتراق
كارل يونغ (إلى اليمين) مع سيغموند فرويد (أقصى اليسار) قبل الافتراق

المثاُلات الجمعيّة والصورة الأسمى
خرج كارل يونغ بنظريّته الشّهيرة حول “المثالات الجمعية” الأوّلية أو البدْئية Archetypes المتماثلة مع “اللّاوعي الجماعي”، وهي مصدر كلّ الأفكار بل ومصدر كلّ الوجود، وهي تُشبه إلى حدٍّ ما المُثُل العُليا الأفلاطونيّة، أي الصّور الأُوَل في ما أسماه “العقل الكونيّ” (Cosmic Mind)، التي تُؤثِّر في النّفس البشريّة وتتبدّى لها في الأحلام، وفي الرّموز، وفي التّجارب الرُّوحيّة. وبالنّسبة إلى يونغ، فإنّ المثال الأوّليّ الأقدس هو القيمة الأعلى للذّات، الحقيقة الأصليّة للنفس وغايتها، ألا وهو “صورة الله” (Imago dei)، وأيُّ تشكُّكٍ في النّفس البشريّة، حتى ولو في اللّاوعي، حول “صورة الله” إنّما يُحدِثُ اضطراباً وشقاءً في الجسد والنّفس على حدٍّ سواء.
إنّ أعمال كارل يونغ هي أكثر من علم نفس للصحّة العقليّة، أو للمعالجة النفسيّة، إنّها تُوفّر علماً نفسانيّاً لاهوتيّاً (Psycho-Theology) للتحقُّق الرُّوحي للنّفس البشريّة، التي تسمو وترقى لتُحقِّق “صورة الله” في يقينها، كحاجةٍ نفسيّة وهدفٍ أسمى لوجوده، حيث إنّ هذا المثال الأصلي البدئي يغرس في النّفس “توقاً لرؤية تجلٍّ لتلك الصورة” (Theophanic Vision) منطبعةً على مرآة العقل، على حدّ قول القدّيس أوغسطين (St. Augustine). فهذه الصّورة كما يقول يونغ: “القيمة الأرقى والغاية الأسمى في تراتبيّة النّفس”، وهي تُوجِّه نمو وتطوُّر الحياة النفسية.
وممّا يثير الاهتمام في هذا الصدد مخطوطةٌ وضعها يونغ بخطّ يده تحت تسمية “الكتاب الأحمر” (The Red Book)، الذي نُشِر مؤخّراً بعد أن احتفظت به عائلة يونغ بعد وفاته في العام 1961 في مكانٍ آمنٍ لعقودٍ من الزّمن. ويُثبت هذا الكتاب أنّ يونغ كان بكلّ معنى الكلمة “صوفيّاً معاصراً”، لديه “انجذابٌ إلى أداء دورِ تعليمٍ روحيّ”، على حد قول الكاتب مايكل تيتشينغز (Michael Teachings).

يونغ الصوفيّ
سعى يونغ إلى التستّر على المنحى الرُّوحي والصوفيّ لحياته،

خوف أن يتمّ التشكيك بنظريّاته العلميّة من خلال اتّهام خصومه له بأنّه يتبنّى مقاربة دينيّة “غير علميّة”، لكنّ يونغ الذي كان يتمتّع بنزاهة علميّة كبيرة وجد طريقة للتّعبير عن تفكيره الروحيّ المتسامي بلغة علم النّفس وبمفردات ومصطلحات أوجدها لتساعده على المواءمة بين الموضوعين العلميّ والصوفيّ، وقد تتوَّج ذلك المنحى بهذه التّحفة الأدبيّة الكبيرة، التي وضعها ما بين العامين 1914 و 1930 وزيَّنها برسوماتٍ أشبه بكتابٍ من القرون الوسطى. وبقي الكتابُ حتى العقد الأول من القرن العشرين محفوظاً في أحد المصارف السويسريّة بعيداً عن أنظار الباحثين، لكن بعد سنوات من التّفاوض مع العائلة وُضعِت ترجمة للكتاب ونُشِرَت في العام 2009، حيث تبدّى بُعداً روحيّاً شديدَ الوضوح، لاسيّما حينما يصف يونغ في أنحاء الكتاب الشخصيّات الروحيّة التي عايشها في عالمه الداخليّ، ومنها النبيّ إيليا، وشخصيّة مرشدٍ روحيّ أسماه “فيلمون” (Philemon)، ورسمه كرجلٍ مُسِنّ ذي لحية بيضاء، يعكس مثاله الأصليّ الشهير “الرّجل الحكيم”.
هذه الأفكار والتّجارب الرُّوحيّة حدثت بعد أن اختبر يونغ ما يُسمّى بتجربة “العودة من الموت”. ففي أحد أيام شتاء العام 1944، انزلق يونغ وهو في سن الـ 68 على الجليد وكسر قدمه، ودخل المستشفى، وفيما هو هناك تعرّض لأزمةٍ قلبية، وفقَدَ الوعي واختبر تجربة “مغادرة الجسد” وهو وجدَ نفسه مُحلِّقاً على علو مئات الأميال فوق الأرض. كانت البحار والقارات مغمورة بنورٍ أزرق، وأمكنَ ليونغ أن يُميِّز الصّحراءَ العربيّة وجبال همالايا المُكلَّلة بالثلج. وأحسَّ أنّه سيفلت من المدار، لكن عندها تراءى له نصبٌ هائل، كان نوعاً من الهياكل، وعند مدخله رأى يونغ حكيماً هندوسيّاً يجلس بوضعية اللوتس. وداخل الهيكل، تلألأ عددٌ لا يُحصَى من الشّموع، وأحسَّ بأنّ وجوده الأرضيّ على وشك التّلاشي. كان شعوراً يبعث على السّرور، فما تبقَّى كان “يونغ جوهريّ!”، هو جوهر وجوده. وأدرك أنّ داخل المعبد يكمن سرُّ وجوده، وغرضُ حياته. وكان على وشك اجتياز العتبة حينما انبثقت من قارة أوروبا أسفله صورةٌ لطبيبه في مثال أصلي على هيئة ملك “كوس”، تلك الجزيرة التي يقع عليها معبد “أشكليبوس الإغريقيّ”، شفيع الطب. وأخبره طبيبُه أنّ رحيله عن هذه الدنيا لم يَحِن بعد، وأنّ العديدَ يُطالبون بعودته. وما إن سمع يونغ ذلك حتى أُصيب بالإحباط، وسُرعان ما انتهت رؤيته واختبر “العودة إلى الحياة في الجسد”. وفي اليوم الذي تماثل فيه يونغ للشفاء، أُصيب طبيبُه بتسمُّم في الدّم وأُدخِلَ إلى المستشفى حيث توفّي بعد بضعة أيام على السّرير ذاته الذي رقدَ فيه، وكأنّما افتداه بحياته.
وبعد هذه التجربة أصبح البُعدُ الرُّوحيّ أو الصوفيّ عنصراً جليّاً في أعمال يونغ، الذي بات يؤمن بأنّ “الرُّوحانيّة هي ضروريّة لعافيتنا النفسيّة والجسديّة”، لا كما كان فرويد يعتقد بأنّ التجاربَ الرُّوحيّة ما هي إلا ضربٌ من الأوهام. وقد وضعت مجلة “التّايم” على غلافها في العام 1955، “يونغ: تحدٍّ لفرويد”.

كارل يونغ وعائلته
كارل يونغ وعائلته

“فرويد إنتقد اهتمامَ يونغ بالشأن الرُّوحي واتّهمه بـ “التصوّف” لكنّ يونغ أصرّ على اعتبار الرّوحي أساساً في فَهم الإنسان”

تفسيره لقصة موسى والخُضر
في خضمّ هذا الاهتمام الرُّوحيّ، سعى يونغ إلى تفسير سورة الكهف في القرآن الكريم بمقالة تحت عنوان: “في ما يتعلّق بالولادة من جديد” (ضمن أعماله الشّاملة، المجلّد التّاسع، الجزء الأوّل)، ويصل في تفسيره إلى شخصية الخُضر، “العبد الصالح”، الذي رافقه موسى ليتعلّم منه، واعتبره يُمثِّل رمزاً لـ “الذات العُليا”، والتحوُّل الرُّوحيّ أو “الولادة الرُّوحيّة من جديد”، وقد بدا من أسلوبه الغني والمبتكر أنّه كان على معرفة جليّة بالقرآن الكريم وبشخصيّة الخُضر النَّبويّة وبالتصوّف الإسلامي. فالخُضر يمثِّل رمزاً ليس فقط “للحكمة العُليا” بل أيضاً لطريقة العيش والتصرُّف “بما يتوافق مع تلك الحكمة والعقل الكونيّ”.

كارل يونغ والفيزياء الكوانتيّة
بعد أن تلقّف المتعطِّشون للمعرفة نظريّات يونغ بكلّ دهشة واحترام علميّ رزين، لفتَ الباحثان دييغو فالاداس بونتي (Diogo Valadas Ponte) ولوثر تشايفر (Lothar Schäfer) إلى أوجه الشّبه بين نظريات الفيزياء الكوانتيّة (Quantum Physics) وعلم نفس كارل يونغ. فعلى الرّغم من أنّ الفيزياءَ وعلمَ النفس يُعتبران على غير صلة، فإنّهما قادا إلى تغييراتٍ ثوريّة في المفهوم الغربيّ لنظام الكون، حيث إكتشفا عالَماً غير تجريبي (non-empirical) لا يتألّف من عناصر ماديّة بل “صور أو مُثُل”، وهذه الصّور حقيقيّة ولو كانت غير مرئية من حيث كونها لا تظهر في العالم التجريبيّ وتعمل فيه. وهكذا يبدو العالمُ التجريبيّ “انبثاقاً من عالمٍ من الإمكانيات”، حيث تتبدَّى الصورُ بُنَى مادية فيزيائية في العالم الخارجيّ، ومثالات جمعيّة Archetypes في العقل أو النفس، وهذه الصّلة تعني أنّ الفكر أو العقل البشريّ في جوهره هو “عقل صوفيّ”.
ومنذ أن أرسى الفيلسوفُ رينيه ديكارت (René Descartes) مستنداً إلى اكتشافات اسحق نيوتن (Isaac Newton) المفهومَ الماديّ للكون، أصبحت العلومُ الغربية شكلاً من أشكال الماديّة المحض، وقد نقل داروين تلك المادّية إلى علم الأحياء عبر نظريّته المثيرة للجدل لتصبح بالنسبة إليه أساسَ الحياة التي جرّدها من أيّ فضيلة أو دور للخالق. وغدت العلومُ الماديّة خالية من الأخلاقيّات، والفلسفة وكلّ نظريّة تتناول النّفس خالية من البُعد الرُّوحيّ والدينيّ. وفي ظل هذه البيئة المادية السائدة، كان لكارل يونغ الشّجاعة الكافية للتّأكيد بأنّ عقولنا يُوجِّهها نظامٌ من الصّور الأوّلية أو المُثُل الأصلية القوية والحقيقيّة حتى ولو كانت غير ذات كتلة أو طاقة. فهذه المُثُل بحسب يونغ توجد في “نظامٍ نفسانيّ ذي طبيعة جماعيّة، وكلّية، وغير شخصيّة”، ومن هذا النّظام يمكن لتلك الصّور غير المرئيّة أن تظهر في فكرنا وتُوجِّه “خيالنا وإدراكنا وتفكيرنا”.

يونغ أفرد بحثا لشرح قصة الخصر وموسى الواردة في صورة الكهف في القرآن الكريم
يونغ أفرد بحثا لشرح قصة الخصر وموسى الواردة في صورة الكهف في القرآن الكريم

وتبيَّن للباحثَين المذكورَين أنّ رؤية كارل يونغ هذه للفكر البشريّ هي على اتّفاق تام مع أحدث اكتشافات الفيزياء الكوانتيّة، التي شكّلت في القرن الماضي صدمةً للعلم المادي، لأنّها كشفت الأخطاء الجوهريّة للفيزياء الكلاسيكيّة وقادت إلى تغيُّرٍ جذري في وجهة النّظر الغربيّة للعالَم. فهي دفعت العلماء إلى التّفكير بأنّ أساسَ العالم المادّي هو غير مادّي، بل هو عالمُ صورٍ ومُثُلٍ “عقليّة روحيّة غير مرئيّة”، وكلّ الأشياء الملموسة هي انبعاثاتٌ من عالم الإمكانيّات هذا. وبدا العالَمُ بعد ذلك “كُلّاً غير متجزِّئ يرتبط فيه البشر والأشياء في ما بينهما”، ويظهر الوعي “كخاصّية كونيّة”.
ويؤكّد الباحثان أنّ تعاليم يونغ هي أكثر من علم نفس، إنّها “شكلٌ من أشكال الرُّوحانيّة”. وأوضحا كلمة “روحانيّة” بأنّها تعني وجهة نظر للعالَم “تعتبر الرُّوحانيّ السّامي الرفيع Numinous أساساً للنّظام الكونيّ”. وعلى هذا النّحو، فإنّ الفيزياء الكوانتيّة هي أكثر من فيزياء، إنّها شكلٌ جديد من أشكال الفكر الصوفيّ، ذلك الذي يرى ترابطاً بين كلّ الأشياء والكائنات، ترابطاً بين عقولنا و”عقلٍ كونيّ”.
ففي نظريّة الفيزياء الكوانتيّة (وتسمى أحياناً “الميكانيكا الكوانتيّة”) (Quantum Mechanics)، التي تتيح فهمَ خصائص الذرّات (Atoms) والجُزَيئات (Molecules)، ليست الإلكترونات (Electrons) جُزيئات ماديّة صغيرة، أو كُريّات صغيرة من المادّة، بل موجاتٍ من الطاقة أو صور على عكس ما تبدو عليه عند مراقبتها بالأجهزة العلميّة كنقاطٍ صغيرة ذات كتلةٍ محدّدة. ويُستنتَج من ذلك أنّ العالَم المرئي (أو الملموس) يستند إلى “ظواهر” وهذا ما يتجاوز ماديّة الفيزياء الكلاسيكية. ففي جذور المادّة على المستوى الذرّي والجُزَيئيّ، بتنا نجدُ عالَماً من الصّور والأرقام الرياضيّة، لا تكتُّلاتٍ مادية. وهذا تماماً ما تحدّث عنه الفيلسوف اليوناني فيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد، حين كان يُعلِّم بأنّ “كلَّ الأشياء هي أرقام” و”الكون بأكمله أرقامٌ وتناغم”، وكذلك نجده في فلسفة أفلاطون، حيث الذرّات هي صورٌ أو مُثُلٌ رياضيّة.
وهكذا جاءت الفيزياء الكوانتيّة لتدعم علمَ نفس كارل يونغ، فاكتشاف عالَمٍ من الصّور أو المُثُل غير الماديّة في جذور المادّة، كأساسٍ لوجود العالم الماديّ المرئيّ، يجعل من الممكن تقبُّل نظرة أنّ المُثُل الصّوَريّة “هي حقيقةٌ تظهر في فكرنا أو عقلنا من عالمٍ كونيّ”. ووجهة النّظر الكوانتيّة لحقيقة كونيّة واحدة وشاملة هي على اتّفاق تامّ مع أحد أكثر مفاهيم يونغ أهمّية، وهو مفهومه المثاليّ “العالَم الأوحد” (Unus Mundus). ويقول يونغ: “ترتكز فكرة العالَم الأوحد دون رَيب على افتراض بأنّ التعدُّدَ والكثرة في العالَم الاختباري تستند إلى وحدةٍ كامنة .. وكلّ ما هو متجزّئ ومتفرِّد إنّما ينتمي إلى عالمٍ وحيد أوحد، وهو بالطبع ليس عالَم الحِسّ”، وبالتالي فإنّ هذا المثال الأصليّ، من ناحيةٍ وجوديّة (Ontological)، يعني “وجوبَ أنْ تتّحدَ النفسُ بتلك الحقيقة”.

صورة غلاف كتابه الشهير -الإنسان ورموزه
صورة غلاف كتابه الشهير -الإنسان ورموزه

التحقُّق الفرديّ
من ثمّ تأتي نظريّتُه الشهيرة عن “التحقُّق الفردي” (Individuation)، حيث يغدو المرءُ واعياً بـ “ذاته العليا”. ويقول يونغ في كتابه “المثالات الجمعيّة واللّاوعي الجماعيّ”2: “لقد استخدمتُ مصطلحَ التّحقُّق الفرديّ لتوصيف العمليّة التي يصبح بها المرءُ سيكولوجيّاً في حالة تحقُّقٍ مع ذاته، أي في وحدةٍ أو كلّيةٍ (Wholeness) غير قابلة للتجزُّؤ”. ولم يكن ثمّة مغزى لتحقيق هذه الكلّية أو الوحدة في عالَم نيوتن المُتَّسِم بالأشياء الماديّة المنفصلة، لكنّ هذا التحقُّق وجدَ أساساً له في العالم الكوانتيّ. ورأى يونغ أنّ عملية التحقُّق الفرديّ هذه هي “حافزٌ دينيّ بل مثالٌ أصليّ روحي يُوجِّه ويُنظِّم مسارَ حياة الإنسان”. فالجذر اللّغوي اللّاتيني لكلمة Religion المستخدمة في هذا السياق هي Re-Ligare وتعني “إعادة الوصل” أو “إعادة الرّبط أو الاتحاد”.
وتوضح الباحثة أنيللا جافي (Anniela Jaffé) في معرض تفسيرها لنظريّة يونغ: “ينبغي فهم التحقُّق الفرديّ باللّغة الدينيّة كتحقيقٍ لِمَا هو إلهي في البشريّ، كإنجازٍ لمهمّةٍ علويّة. وتصبح التّجربة الواعية للحياة تجربةً دينيّة، بل يمكننا القول أيضاً، تجربةً صوفيّة”.
وفي تحليله للرمزيّة في الفلسفة والكيمياء، يعتبر يونغ ما يُسمَّى “حجر الفلاسفة” كرمزٍ لعمليّة التحقُّق الفرديّ هذه، “الهدف الأسمى للذات”. ويقول يونغ بعبارة تُذكّرنا بما علّمه سقراط في محاورة “كارميديس” الأفلاطونية عن ضرورة أن تُعالَج النّفس أولاً كسبيلٍ لمعالجة الجسد: “الاهتمام الرّئيسي لعملي لا يتعلّق بمعالجة الاضطرابات العصبيّة، بل بمقاربةٍ لِمَا هو روحيّ وسامٍ، لكنّ الحقيقة هي أنّ المقاربة إلى ذلك الرُّوحي هي العلاج الحقيقيّ للعلل الجسديّة، وبقدر ما نكتسب من خبرةٍ روحيّة، بقدر ما نتخلّص من لعنة الأمراض”.
وكان عالِم الفيزياء والفلك البريطانيّ الشهير السير آرثر ستانلي إدينغتون (Arthur Stanley Eddington) قد أجرى بحثاً منهجيّاً في ثلاثينيّات القرن الماضي عن وجود الوعي في الكون، وخلُصَ إلى أنّ: “الكون هو من طبيعةِ أفكارٍ في عقلٍ كلّيّ”، ولو كره علماءُ الفيزياء الماديّون بأنّ أصل الموجودات هو ذو خاصيّة عقليّة، وذلك في توافقٍ تامٍّ مع تعاليم كارل يونغ والفيزياء الكوانتيّة.

يونغ في أوج عطائه عندما أصبح شخصية عالمية معترفا بفضلها على علم النفس والثقافة الإنسانية
يونغ في أوج عطائه عندما أصبح شخصية عالمية معترفا بفضلها على علم النفس والثقافة الإنسانية

خاتمة
فيما كان يونغ عاكفاً على درس النّفس البشريّة، اكتشف الخصائصَ العقليّة للكون، تماماً كما فعلت الفيزياء الكوانتيّة. فالمُثُل الأصليّة تتبدّى أفكاراً في العقل البشريّ، وبُنى ماديّة في العالَم الخارجيّ، وهكذا أخذت الفيزياءُ الكوانتيّة تبدو شكلاً من أشكال علم النّفس، علم نفس العقل الكونيّ. وفي المقابل بدا علمُ نفس كارل يونغ فرعاً من فروع الفيزياء، فيزياء النّظام العقلي للكون.
وأصبح الكونُ الكوانتيّ الكلّيّ ذو المنشأ العقليّ غير التجريبيّ مفهوماً صوفيّاً، وكذلك علمُ نفسِ كارل يونغ الذي تحدّث عن النّفس “المتّصلة بعقلٍ كونيّ ومَصدرٍ روحانيّ”. إنّه علمُ نفسٍ أكّد أنّ نكرانَ النّواحي العُلويّة للنّفس البشريّة قد يؤدّي إلى مشكلاتٍ كبيرة في الصّحَّة البدنيّة والنفسيّة على حدٍّ سواء. علمُ نفسٍ خَلُصَ إلى أنّ السعادة في هذه الحياة لا يمكن تحقيقها إلّا بفهم الخلفيّة العقليّة الرُّوحيّة للكون، والعيش بالتّوافق معها، وتقبُّل أهميّة الرُّوح في حياتنا.

شبعا واعرقوب

شبعا والعرقوب شُركاءُ جِهاد
وأخـوةٌ مُتَلاحمون في المُلِمّات

تْربّيْنـــا على قِــصَص بطــولات المجاهــدين في جبـــل العــرب
وقهــــرنا معــاً شبَــح المجاعــة في الحــرب العالميّــة الأولــى

إقتداء بالأخ الصّديق الأستاذ الشيخ غالب سليقة الكاتب والباحث في شؤون وادي التّيم ومآثرها وقِيَمها ودور رجالها، والمنقّب عن تراثها الأخلاقي والإنساني، آثرتُ أن تتركّز هذه العُجالة على مواقف ومآثر الأجداد والآباء في جبل الشّيخ “حرَمون” لا سيّما في الأيّام الصّعاب والأحداث الأليمة وكيف تمّت مواجهتها بروح عالية ومواقف موحّدة لإجهاض المخطّطات التي يعتمدها كلّ محتل، لاسيّما تغذية الانقسام وإشعال روح التعصّب الطائفيّة والمذهبيّة ونشر الأحقاد التي لا ينتج عنها إلا الخراب والدّمار. وقد كان لتلك المواقف الموحّدة لأجدادنا أثرها البالغ في الحفاظ على الجميع وتحقيق الانتصارات الباهرة على كلّ غاصب محتلّ وعدوٍّ آثم.
لقد تَربّيت في بيت له اهتماماته بالجوار وعلاقاته الوثيقة بأهالي القرى المجاورة، وقلّما خلت سهرة أو جلسة من الحديث عن مآثر وبطولات وشهامة الرّجال ومواقفهم في المناطق المحيطة الأقربين والأبعدين من جبل العرب إلى الإقليم، ومن حوران إلى الجولان، ومن الحولة إلى وادي التيم. وقد تأثّرت أكثر ما تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبٌّ لهم، وتعلّق بقيمهم واقتداء بأخلاقهم وسجاياهم، وكلّها تؤكد على أهمّية التّفاعل الإنسانيّ والحفاظ على الجوار والتّعاون لما فيه خير الجميع، وكلّما مرّ حدث خطر كان الموقف الواحد هو السّلاح الأمضى. ففي الثّورات المتلاحقة ضدّ المستعمر الإفرنسي، في مطلع العشرينيّات من القرن الماضي، والتي توّجتها الثّورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش وما تبعها وسبقها من أحداث. وخلال ثورة 1958، وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ واعتداءاته المتكرّرة كانت المواقف واحدة والأيادي متشابكة لاسيّما الأحداث التي تعصف اليوم في الشّقيقة سوريا، أكّدت أنّ شبعا والعرقوب هما شركاء جهاد ورفاق نضال لبني معروف في حاصبيّا وراشيّا والإقليم والجولان، وهما كالبنيان المرصوص.
لن أتوقّف عند الأحداث التّاريخيّة ومجرياتها التي أتركها لأربابها، وهم كُثُر، ولكن سأتحدّث عن بعض المواقف المسؤولة التي تنمّ عن رجولة وكبرياء وكرامة وأخلاق عالية ومسؤوليّة وطنيّة وروح عربيّة بكلّ ما تعني هذه الكلمات.

تتزاحم الرّوايات والقصص والتي تحتاج إلى مصنّفات، لكنّني سأتوقّف عند بعضها والتي كانت تتكرر مرّات ومرّات في بيتنا لما فيها من عبر ودروس يلقّنها الكبار للصّغار لتكون لهم زادٌ في مشوار الحياة الطّويل والآتي من الأيّام الصّعبة.
فالحديث عن سلطان باشا الأطرش وثورته، وجبل العرب وبأس رجاله، وفؤاد باشا سليم والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وسعيد طليع وغيرهم من كبار قادة الثّورات العربيّة المتلاحقة يطول الحديث ويتشعّب ويشمل المقلب الشرقيّ لجبل الشّيخ بدءاً من عرنة آل كبول، وحضر آل حسّون وآل الطويل، إلى مجدل شمس أبو صالح معقل الثّوار ومرقد الشّهيد فؤاد سليم، إلى عين قنيا الشّعلان كما يسمونها العرب.
تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبّ لهم، وتعلّق بقيَمهم واقتداء بأخلاقهم وسجــــاياهم.
كثيرون يعرفون أو سمعوا عن الثّورة السّوريّة الكبرى، وحفظوا عن ظهر قلب نداء سلطان باشا الأطرش الذي أصبح نداء كلّ مخلص يثور في وجه ظالم، وعن بطولات بني معروف وشجاعتهم وتضحياتهم التي حقّقت الانتصار بوسائل بدائيّة وأعتدة قليلة على جيش دولة عُظمى وقد وصفها المؤرّخ محي الدّين السفرجلاني “لقد محا بنو معروف بأفاعيلهم هذه أعاجيب الأساطير الأولى”، وقد روى شاهد عيان أنّ كثيراً ما كان البطل الدّرزي يشطر الفرنسيّ بضربة سيف.
ولكن قلّة قليلة هي التي تعرف مواقف سلطان الإنسانيّة إبّان الثورات وشهامته وعزّة نفسه التي كان يرويها والدي: كانت تأتي المعونات والمساعدات والدّعم من الأردن وفلسطين إلى الجبل على ظهور الجمال، فكان سلطان يشرف على توزيعها على الجميع لا سيّما من كانت حالتهم الماديّة ضعيفة، ولم يسمح بإدخال شيء إلى داره، وكان والدي يسأله قائلاً: “يا باشا إنّك تتحمّل الكثير، فلماذا لا تدخل إلى دارك أي شيء من الدّعم والمَعونات؟”، فكان يجيب “أنا أتحمّل ولكن يجب أن ندعم الجميع”. هذه هي أخلاق القادة الكبار. أمّا الحديث عن سعيد طليع فكان يردّد بيتين من الشعر خاطب بها فرنسا قائلاً :
يــــــــــــــا فَـــــــــرَنسا لا تُغالـــــــــــــــــي فتقولي: الفتـــحُ طابْ
ســــــوف تــــأتيك الليالي نـــــــورُهـــــــــــــا لَمـــــــــــــْــع الحِـــــراب
أمّا عن المجدل فهي بلدٌ للأبطال ومرقد الثّائر الكبير فؤاد باشا سليم، إذ يختم أحمد الخطيب مذكّراته، بعد أن منعه المستشار الفرنسيّ من مغادرة شبعا والالتحاق بأحمد مريود في العراق، قال المستشار الفرنسيّ: “لا يمكنك أن تسافر وعليك أن تثبت وجودك دائماً، وقد وُضعت تحت المراقبة”.
وفي نهاية الصّيف وصلت بوادر الثّورة إلى حاصبيّا ومرجعيون وراشيا الوادي، وقد تأثّرت الثّورة بعد استشهاد فؤاد سليم قرب بركة رام التّابعة لمجدل شمس، وقد كان من كبار رجال الثّورات العربيّة، وقد تمكّن أحمد الخطيب من زيارة ضريحه ليلاً وقرأ الفاتحة، ورغم فرض الإقامة الجبريّة عليه، والحديث يطول عن دور العرقوب ووادي التّيم في تلك الثّورة.
لقد تعاون أبناء شبعا في تجارة القمح مع عرنة وبيت جنّ وحضر وجباتا والمجدل تعاوناً وثيقاً فكان لكلّ شبعاوي بيت في كلّ قرية، وكذلك كانت بيوت أبناء شبعا مفتوحة لهؤلاء، وفي كلّ بقعة من بقاع جبل الشّيخ ألف قصّة من قِصص البطولة والجهاد من أجل حياة كريمة لا سيّما في الصّراع مع رجال السّلطات المستعمرة التي كانت تمنع البيع والشّراء أيّام الحروب، وتحتكر الإنتاج لجيوشها. لكن أبناء شبعا والمجدل كسروا الاحتكار وأمّنوا القمح لجبل لبنان خلال الحرب وقد تحدّث عن ذلك الأديب الكبير سعيد تقيّ الدين تحت عنوان “أبطال أكارون” قائلاً: هل حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم وينشدون الأغاني في أبطالهم تراهم لا ينشرون إلّا صفحة مجيدة يجب أن تكون من ألمع صفحاتها أبطال أكارون أطعموا جياع لبنان في زمن الحرب حين سوّر الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود يمنعون الغلال والقوت، إذ ذاك نهض في جنوب لبنان فِتيان وكهول تزنّروا بالرصاص وشدّوا على الدواب وراحوا يتسلّقون الجبال فإذا بلغوا حوران بعد جهد أربع ليال رجعوا إلى لبنان بالحِنطة وزغردت أجراس بغالهم منشدة “لا جوع في لبنان ونحن صِبيانه”. إنّها قِصص بطولة مَجد حقيقيّة لا يهتمّ بها مسؤول ولا يعيرها حاكم اعتباراً بل ربّما كانت الملاحقة من نصيبهم.
فتحيّة لهؤلاء الأبطال، أطعَموا الجائع وحاربوا شبح الموت عندما خيّم فوق كلّ منزل. إنّهم الأبطال والشّجعان ورجال الوطن والوطنيّة.

مجلة “الضحى” تتوجه بالشكر والتقدير للأستاذ منيف الخطيب على هذه المساهمة القيمة في الإضاءة على علاقات المودة والمحبة والاحترام التي سادت وما زالت منطقة حاصبيا مرجعيون والتي نعتبرها نموذجاً يُقتدى به في جميع أنحاء لبنان .

(رسالة شُكرٍ
بسمِ الله الرّحمن الرّحيم

مجلّة “الضحى” الزاهرة
جانب رئيس التّحرير الموقّر
تحيّة طيّبة وتقدير جزيل..
“الضّحى” أصبحت رسالة العصر في مواضيعها العلميّة والأدبيّة والثّقافية والتّاريخيّة والصحيّة وغيرها.
وأوَدّ أن أنوِّه بصورة خاصة بالمؤرخ الشّيخ غالب سليقة وذلك لجهده المتواصل في التّعريف بالتراث الثقافيّ والأدبيّ لوادي التّيم المجيد.
مع الشّكر القائم الدائم لحضرتكم لعطائكم الجزيل في خدمة الطّائفة عبر هذه المجلّة المحترمة النزيهة والتي أثبتت في مناخات الاختلاف والتباينات أنها حرة وللجميع.
أدامكم الله وسدّد خطاكم على هذا النّهج السّويّ الصّحيح إنّه سميعٌ مُجيب.
حاصبيّا في 1 كانون أول 2016
حسين رعد)

قصص الامثال

المَنْحوس مَنْحوس لو علّقولو فانوس

يُضرَب هذا المثل في الرجل الذي تتوالى عليه النّكبات جرّاء سوء حظّه، دون أن يكون قادراً على الإنتفاع بمساعدة احد .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الرّاسي أنّها تعود إلى واقعة تاريخيّة تقول: إنّه خلال النّزاعات المتلاحقة بين القيسيّين واليمنيّين في لبنان، في عهد الأمير حيدر الشّهاب،؛ كانت هنالك قرية تنتمي بأكثريّة أبنائها إلى الغَرَضيّة اليمنيّة، ما عدا رجل واحد بقي قيسيّاً مهما كلّفه الأمر. وقرّر القيسيون يوماً مهاجمة القرية، فأشاروا على حليفهم هذا أن يترك القرية مع عائلته، لكنه أبى.
ثم ما لبث زعيم القيسيّين أن هاجم القرية، وفطن إلى بيت الرّجل القيسيّ، وخاف أن يشمله الإعتداء، فأرسل سرّاً أحد رجاله ومعه فانوس، علّقه قبيل الهجوم، على باب بيت الرّجل القيسي.
لكنّ الفانوس هذا بدلاً من أن يحمي الرّجل من الإعتداء، لفت نظر المهاجمين إليه، فاقتحموا البيت ونهبوه، أحرقوه .
ولما بلغ الأمير حيدر الأمر قال: “ المنحوس منحوس، ولو علّقوا على بابو فانوس “ وجرت عبارته مثلاً على ألسنة الناس1 .

منرجع لقصة الثّور

يضرب المثل في الرّجل إذا أعاد التذكير بأمر يُهمّه، إذا لاحظ أنّ الآخرين تناسَوْا هذا الأمر أو استطردوا في موضوع آخر لا يتعلّق به.. والمثل يذكر في معرض المزاح، حين يحاول أحد الجلساء أن يقطع مجرى الحديث طالباً العودة إلى حديث كان قد بدأ وفيه مصلحة له .
والحكاية أنّ رجلاً طاعناً في السنّ ماتت زوجته، بعد أن تركت له ثلاثة شباب، . وفي جلسة من جلسات الأخوة مع أبيهم الشّيخ، بادر أحدهم إلى مناقشة وضع الوالد قائلاً :
“ لازم نجوّز الختيار، ما بيستر الزّلمي عند كبره غير حرمته “ .
وأمّن الشباب على رأي أخيهم إلا أنّ مشكلة تكاليف الزّواج قد اعترضتهم، فليس لديهم ما يدفعونه لزواج الوالد. واقترح أحد الأخوة أن يبيعوا ثوراً من الثّيران التي يحرثون عليها، غير إنّ الرأي لم يحظَ بالقبول من الأخوين الآخرين وانحرف الحديث باتجاه آخر .
وحينما رأى الشّيخ أنهم ابتعدوا عن مناقشة أمر زواجه أراد أن يذكّرهم قائلاً :
“ أي … بنرجع لقصة الثور “ .
وهو أسلوب متبع في السرد القصصي حينما يُضطرّ السّارد إلى قطع السّرد، ووصل مفاصل الحكاية قائلاً : “ بيرجع مرجوعنا للموضوع الفلاني“ 2 .
وقد وردت حكاية مماثلة في مجموعة سلامة عبيد بعنوان “احكوا لنا قصّة البقرة الصّفرا” وهي لا تختلف عن حكايتنا إلا بجعل الثّور بقرة صفراء3 .

إللّي بتجيبه معك، بتاخذه معك

يُضرَبُ هذا المثل للتأكيد على أنّ المرء يفرض إحترامه على الآخرين من خلال عمله ومسيرته.
وحكاية هذا المثل سمعتها من والدي، وكان يسردها في معرض الحديث عن عزّة النّفس والحرص على احترام الذّات وفيها أنّ الزمن جار على جماعة من أكابر الناس، كانت عندهم أملاك وخيرات ومزارع ومرابعون لكن لحكمة ربّانية تراجعت أحوال هذه العائلة بسرعة حتى خسروا كلّ شيء وأصبحوا من فقراء النّاس رغم مجدهم القديم.
قرّر أفراد تلك العائلة ان يجولوا في أرض الله الواسعة بحثاً عن الرّزق الكريم وكانت الفرصة الأكثر توفّراً يومذاك أن يعمل المرء مرابعاً لدى ملاكيّ الأرض فيتعهّدها بالعمل والقيام بأعمال الحقل والزّراعة والحصاد ويتقاضى ربع المحصول. وصل الرّجال إلى بوزريق وطرقوا باب أبو حمد فارس أبو مغضب، وكان من عقّال القوم وقاضياً مشهوراً برجاحة العقل.. إستقبلهم أبو حمد فارس دون أن يكون على معرفة سابقة بهم فعرضوا عليه العمل في أرضه كمرابعين. وتطرّق الحديث إلى شروط الإتّفاق أي واجبات الرّجال وما يعود لهم نتيجة عملهم. عندها خطر لأحد أفراد الجماعة خاطر فخاطب أبو حمد بالقول:
“شوف يا عمّي بو حمد ! نحن ما بدنا منّك إلا شي واحد”
أبو حمد : تفضّل .
قال له: نحن ما بدنا غير الكرامة والحشمة .
أجابَه أبو حمد فارس على الفور:
ـ شوف يا با ! إللّي بتجيبوه معكن بتاخذوه معكن .
أي أنّكم إن كنتم أهلاً للإحترام وإن كنتم حاملين للخصال التي توجب احترامكم فإنّكم ستفرضون احترامكم من خلال تصرّفاتكم4 .

هذا المَعطْ مش مَعط مين يسدّ

والمثل متداول ومعروف في أنحاء الجبل ويضرب في الرجل المخلاف؛ يبذل الوعود المُغرية في سبيل الحصول على غايته، فيُعرف من خلال وعوده المُغرية أنّه لن ينجز منها شيئاً .
والحكاية أن رجلاً مستور الحال أراد أن يستدين بعض المال لقضاء حاجته، فتوجّه إلى أحد الميسورين، فطلب منه الموسر رهناً على المبلغ، وحين سأله الرّجل: ما الرّهينة التي تطلبها؟ . أجاب الموسر: أريد شعرة من شاربك. فاستكبر الرّجل هذا الطلب، وتردّد في قبوله. غير إنّ ضغط الحاجة أجبره على إعطاء الرّهينة المطلوبة، فاقتلع شعرة من شاربه، وسقطت معها دمعة. ولما رآه الموسر على هذه الحال من التردّد، وثق أنّه سيسدّد الدّين فأعطاه ما يريد.
وحين عاد إلى بيته سأله جاره كيف تدبّر أمر هذا المبلغ، فحكى له الحكاية وهو يتألّم. فانصرف الجار إلى ذلك الموسر يستقرضه بعض المال، وكان أن طلب الموسر الرّهن نفسه الذي طلبه من صاحبه الأوّل. فبادر الرّجل طالب القرض إلى نتف خصلة من شعر شاربه، وقدّمها إلى الموسر قائلاً :
“ كلّ الشّوارب على حسابك“!
عندئذِ أدرك الموسر أنّ الرجل مخلاف فقال له :
“هذا المَعط مش مَعط مين يسد“
والمعط : النّتف، معط الشّعر نتفه ونزعه . ويسد : يفي الدّين. والمعنى العام: أنّ من يقوم بنتف شعر شاربه بهذه الطّريقة دون أن يرِف له جَفن خليق بألّا يفي بوعد .

أنا مَع عصايتك هالعوجا

مَثَلٌ يُضرب في الممالأة، وربّما ضُرِب في الرّضوخ للقوّة عندما لا يكون للمرء خيار غير ذلك على سبيل الحيطة واجتناب المكروه.
والحكاية جرت في خمسينيّات القرن الماضي حينما نشب في الجبل الخلاف المعروف بين آل الأطرش ومن يساندهم، وبين فئة أخرى من عائلات الجبل عرفوا بالشّعبية، وهو ما عُرِف بنزاع “ الشّعبيّة والطّرشان»، الذي حسم في موقعة بكّا الشهيرة لصالح آل الأطرش ومن والاهم، وكان أن انقسم الجبل وبخاصّة المقرن القبلي إلى شَعبي وطرشاني، واستحكم العداء بين الفريقين.
وحدث أن توجّه أحد الأشخاص من قريته إلى قرية أخرى لتأمين بعض أغراضه، فصادفه رجل مقبل من القرية التي يقصدها، وبيده عصا غليظة، وتقدم صاحب العصا من الرّجل الآخر وسأله بشيء من الحماسة، بعد أن هزّ العصا بوجهه :
إنت شَعبي ولا طُرشاني ؟ .
ولما كان الرّجل أعزلاً، لا يستطيع الدّفاع عن نفسه حيال صاحب العصا، فقد حار في أمره؛ لأنّه إن قال له “أنا شعبي”، ربما يكون صاحب العصا طرشانيّاً، وإن قال له طرشانيّ ربما كان شعبياً، فآثر الرّجل السلامة وقال له :
ـ أنا مع عصايتك هالعوجا .
فذهبت مثلاً في الممالأة5 واتقاء الشّر ولو بشيء من الخنوع.

بلاكي يا أم حارتين

أم حارتين هي قرية على طريق دمشق السويداء تبعد نحو 40 كلم عن السويداء لجهة الشّمال.
وبلاكي : تعبير شعبي يستخدم للتّعبير عن الزّهد بالشّيء، وتهوين السّعي في سبيل الحصول عليه. وحكاية هذا المثل وردتني من مصدرين مختلفين أوّلهما الدّكتور فندي أبو فخر الذي أبلغني أنّ آل الحلبي وآل المغوّش وهم من سكان منطقة اللّواء “اللجاة الشرقية” من الجبل، قام بينهم نزاع على قرية أمّ حارتين مطلع القرن العشرين، وهي خربة يومذاك. وكان آل الحلبي يقطنون قرية “لاهثة“ وما يحيط بها. وآل المغوّش يقطنون قرية “خلخلة “ وما يحيط بها. وبلغ الخلاف أشدّه بين العائلتين، فتدخل الأمير شكيب أرسلان لحلّ الخلاف القائم، وكان يومها مرشّحاً لمجلس المبعوثان، فكان إذا ذهب إلى آل الحلبي هون من أمر هذه الخربة، داعياً إلى تسوية الخلاف، فهذه الخربة الصّغيرة لا ينبغي أن تقف في طريق الوفاق. وكانت عبارته المشهورة “بلاكي يا أم حارتين”. أي لنستغن عن أم حارتين ولنسوّ الخلاف. ثم يذهب إلى آل المغوش، الطّرف الثاني في الخلاف ويتبع الأسلوب نفسه قائلاً:
“ بلاكي يا أم حارتين “ فلنسوّ الخلاف. فذهبت عبارته مثلاً .

أما الرواية الثانية فمصدرها السّيد عصام المعاز من بلدة
“ القريّا “ (50 عاماً) وهي لا تختلف كثيراً عن الرّواية السابقة، إذ قال:
“إنّ الخلاف بين العائلتين المذكورتين كاد يؤدي إلى نزاع مسلّح، حينما قرّر آل الحلبي الاستيلاء على أم حارتين، وطرد آل المغوش بالقوّة منها“ .
فاستنجد آل المغوّش بأقاربهم الذين خفوا لنجدتهم، وتمركزوا في أماكن متعدّدة على أسطح القرية. وحينما علم زعيم آل الحلبي بالأمر، وأدرك خطورة ما هم قادمون عليه، جمع رجاله وقال لهم: “ بلاكي يا أم حارتين “. وبذلك حقن دماء كثيرة من الطّرفين .
هذا وقد حدّثني السيّد منيف النّداف من قرية خلخلة. (55 عاماً) نقلاً عن السّيد أبي طرودي نصري المغوش من قرية خلخلة نفسها، وأحد وجهائها، إنّ عبارة “ بلاكي يا أم حارتين “ هي من قول الأمير شكيب أرسلان، مؤكّداً بذلك رواية الدكتور أبي فخر.
هذا وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد حكاية هذا المثل مؤكّداً أنّ العبارة من قول الأمير شكيب أرسلان، وأضاف المرحوم عبيد أنّ هذه العبارة تردد في الحثّ على التّسامح في الخلافات الفرعيّة الصغيرة والتّساهل المتبادل6 . والله أعلم.

راس مْصِيْوِل وتدبّر7

والمثل يُضرَب للتأكيد على إمكانيّة تدبّر الأمور الصّعبة، فما دام رأس مْصِيوِل قد دبِّر أمره فليس من الصّعب تدبر أمر أقل أهمية. وحكاية هذا المثل كما نقلها لنا صالح عرابي أن خلافاً نشب بين بدو صلخد تطور إلى قتال أسفر عن قتل مْصِيول السوالمة على يد صالح ابن عميش السّميران راعي مواشي آل الأطرش فذهبت زوجة المقتول ملهوفة إلى شيخ أطارشة صلخد، وأخبرته بالأمر، لأنّ القاتل راعي مواشيه، وهو بشكل ما مسؤول عنه، كما هي العادة. فما كان منه إلا أن قال :
بسيطة، بتدّبّر .
فقالت له:
ياويلي لكن مْصيول قُتِل
فقال مجددا:
بسيطة بندبّرها .
فصاروا يقولون : “ راس مْصيوِل وتدبّر» في الأمر الذي يعسر تدبيره .
وهناك رواية لهذا المثل في كتاب المرحوم سلامة عبيد لا تختلف كثيراً عن روايتنا، إلّا أنّ الأستاذ عبيد يجعل البدويّ راعياً، وُجِدَ مقتولاً في أراضي بلدة صلخد. فأخذت أمّه تنوح، وتمزّق ثيابها، فقال لها شيخ البلدة : بسيطة يا عجوز! سوف ندبّر الموضوع. فصاحت العجوز: “يا ويلي! كيف بتدبّر الموضوع، وراس مْصيوِل مقطوع ؟! «.
وأردف الأستاذ عبيد أنّه يقال في الاستهزاء من محاولة حل موضوع معقد بجهود بسيطة8 .

شو هذا يا دروز؟

هذا التعبير يُطلق عند محاولة حسم الخلاف بطريقة توفيقيّة.
والحكاية أنّه نشب خلاف في إحدى مضافات الجبل كاد أن يؤدّي إلى المواجهة. وبينما القوم في نقاش حاد أمسك رجل من الحاضرين بملقط تناوله من النّقرة9، ورفعه بيده قائلاً :
“ شو هذا يا دروز؟ .
فسكت الجميع وكفّوا عن المجادلة منتظرين حسم الخلاف من هذا الرجل. فقالوا له :
“ ملقط “ .
فقال :
“ حبّوا بعضكن والسّلام “ . فذهبت مثلاً في الحل السّطحي لمشكلات معقّدة.
وقد أورد الأستاذ سلامة عبيد هذا التّعبير في مجموعته بصيغة أخرى. إذ جعل الرّجل يسأل ويجيب في الوقت نفسه: “ شو هذا يا دروز؟ ملقط “. وعقّب قائلاً: “يقال هذا المثل للسّخرية من اقتراح حلّ وهمي أو سخيف“10.
وعندي فإنّ الرجل ربما قصد من قوله “ ملقط “ أنّ الدروز “ مَقْضَب “ وهذا اللّفظ يردّده أهل الجبل للتّعبير عن القرابة، فيقولون: عائلة كذا وعائلة كذا مقضب، أي تربطهم صلة قرابة. وإنّما لجأنا إلى هذا التّفسير فلأنّ الملقط يعبّر عن معنى المَقضب، لأنّهم يقبضون به على النّار. والله أعلم .

كرامَةُ صاحبِ دكّانٍ ماتَ مظلوماً

حدّثني الشيخُ أبو نجيب محمود الخماسي، فقال: “روى أمامي والدي عن تاجر خضار في سوق حاصبيّا عاش منتصف القرن الماضي. وكان ذلك البائع، جليل القَدر، كبير النّفس، فقير الحال، متديّناً حقاًّ وحقيقة. نهاره عمل، وليله عبادة، بيعه معتدل، وحديثه مقتضب، لا يُجيب إلّا إذا سُئل، ولا يتفاصح ولا يحدِّث إلّا بما عرف وما يُلمّ. ومع هذا، حصل له ابتلاء لم تظهر الكرامة المقصودة منه إلّا بعد وفاته وذلك عندما ظهر إلى العلن السرّ الذي أخذه معه إلى القبر وأصبحت حكايته عبرة لمن اعتبر، ونبراساً لمن أراد الصّدق وإليه امتثل.
تقول الحكاية إنّ هذا التّاجر الورع أتاه يوماً رجل اشترى بعض الحوائج والخضار من دكّانه، وبعد أن نقده ثمنها، قفل الرجل راجعاً نحو منزله، إلّا أنه نسي كيس النّقود الذي أخرج منه ثمن ما اشتراه، إلى جانب إحدى السّلال، وبداخله خمسمائة قرش تركي.
قبالة دكّان التاجر، كان حلّاق يتابع جاره عندما انتبه إلى أنّ المشتري نسيَ الكيس، فما كان منه إلّا أن تسلّل على مهل وانتشل كيس النّقود الذي نسيَه الرّجل دون أن ينتبه التّاجر أو يدري ما حصل.
ما أن بلغ الرّجل المشتري منزله، حتى تذكّر فجأة ما نسي، فعاد أدراجه مُسرعاً من حيث أتى، لكنه لم يجد الكيس في موضعه، فضرب كفّاً بكفّ وسأل التاجر بلهفة وقلق عن الكيس، موضحاً أنّه يحتوي على مبلغ كبير من المال أضيف إليه في النّهار نفسه ثمن موسم القز الأخير.
دُهِشَ التّاجر الورع لسؤال الرّجل، لكنّه عرض على الرّجل أنْ يساعده على البحث عن الكيس، راجياً من الله أن يوفّق في العثور عليه، وبالفعل إنهمك الرّجلان في البحث والتّنقيب وقلبا الدّكان وسلال الخضار وكل ما يحيط بها رأساً على عقب، لكن لم يعثرا على شيء. عندها، وعندما فقد الرّجل الأمل بالعثور على ماله دبّ الشك في صدره من أن يكون البائع هو الذي أخفى الكيس طمعاً بالثّروة التي في داخله. لذلك صرخ في وجه التّاجر بغضب “إنّك أنت المسؤول عن المال”، ثم أمسكه بصدر سترته قائلاً: إنّك لن تأكل حقي وأنا حيّ، فإمّا إعادة الكيس وإمّا الموت!”. وعلا الصّوت بين الرّجلين، ثم تدافعا بالأيد،. عندها تدخل التّجار والمارّة بينهما، وأخذ الجميع يبحثون عن حلٍّ ينهي الخلاف ويُظهر الحقيقة.
تقدّم شيخ طاعن في السنّ من الاثنين، ثم قال: “المثل يقول البيّنة على من أدّعى، واليمين على من أنكر. فعليك أيّها الرّجل إثبات ادّعائك بشاهد يؤيّد دعواك حول ما أضعت، وأنت أيها التّاجر الكريم، ما عليك سوى قَسَم اليمين لرفع التّهمة عنك”.
الرّجل المشتري سارع فوراً، فاستشهد برجل كان يرافقه حيث شهد بأنّه شاهده وهو يخرج المال من الكيس الذي فقده. أما التّاجر التقي فإنّه رفض أن يقسم اليمين عملاً بسنّة الأولياء الصّالحين، راضياً بدفع التّعويض من جيبه لعلّ ذلك يهدّئ من رَوْعِ صاحب الكيس، وهذا رغم ثقة التّاجر التامة أن أحداً ما اغتنم فرصة وجوده داخل الدّكان فسرق الكيس خِلسة وظلماً.
من أجل إنهاء المشكل عمد التّاجر التقيّ إلى كرم زيتون لا يملك سواه، فباعه ودفع ثمنه بدل كيس النّقود المفقود، وكأن شيئاً لم يكن. ورغم ذلك شاع عندَ العامّة (وأن لم يقولوه جهرة) أنّ التّاجر ربّما هو الذي أخفى كيس النّقود، وعاب على نفسه إظهاره في ما بعد.
دارت الأيام دورتها التقليديّة، ومرّت الشّهور والسّنون، ومات التّاجر وأخذ السرّ معه، أمّا جاره الحلّاق الذي أخفى كيس النّقود فقد استعمل النّقود الحرام في شراء كرم زيتون جاره التّاجر المنكوب بخسارة المال وبشكوك أكثر العامّة من النّاس في أمانته وكان ذلك أقسى عليه من خسارة المال. لكن ما أن أُسدل الستار على هذه الحادثة حتى بدأ الزّمن يعاكس الحلّاق، إذ دب الخلاف داخل الأسرة وبلغ حدّ طلاق زوجته، وتشتت شمل أولاده، فخيّم الهمّ عليه وفوق منزله. ولم يكن هذا العقاب الربّاني سوى مظهرٍ لحكمة ربانيّة قصدت إظهار سرّ التاجر وكرامته عند ربّه وعبيده وكشف السّارق الحقيقيّ.
كيف تمّ ذلك؟
بعد طلاق الحلّاق لزوجته، عمدت المطلّقة إلى فضح أعماله القبيحة وذكرت منها كيف أنّها كانت شاهداً على إخفاء زوجها الحلّاق لكيس النّقود الذي فقده ذلك الرّجل عند التّاجر المتوفّى، بعد أن راقب كيف وضعه صاحبه، واشترى بقيمته كرم الزّيتون من التّاجر المذكور. وفي أقلّ من أسبوع كان سرّ الحلاق قد افتُضِح وشاعت قصته الشائنة في أنحاء المنطقة، كما برئت في الوقت نفسه ساحة التّاجر الورع وإن بعد وفاته. ولمّا علم المشايخ والمجتمع بأكمله بما فعل ذلك الحلّاق، أسرع أبناء التاجر لمقاضاته أمام الشّيوخ الثقات فاستدعي إلى خلوات البيّاضة لتبرير ما سُمع عنه. لكنّه أمام هيبة الشّيوخ ورهبة الموقف، تلعثم وبدت على محياه صورة المذنب، وعاد المشايخ ليطلبوا إليه أن يعترف أمامهم وأمام الله بالحقيقة وإذا كان له فعلاً دور في سرقة كيس النقود. أمام هذا الموقف الرّهيب، أحسّ الحلاق بأن ثقل الدنيا كلّه وقع على كاهله في تلك اللحظة، ولم يقوَ على الاستمرار في الكذب وأنّه لن يرتاح صدره إلا بعد أن يقرّ بما حدث فأقرّ فعلاً وأنبأ المشايخ بقصّة استيلائه خِفية على كيس الزّبون. بناء على ذلك أمره المشايخ بأن يعيد كرم الزّيتون لأسرة صاحب الدكّان، أو قل صاحب السرّ الدّفين الذي ظهرت كرامته للملأ لأنّ الله أراد أن يبيّض صفحته ويظهر تقواه، وقد تقاطر النّاس في الأيام التّالية لزيارة قبر الرجل الذي مات مظلوماً، وقرأوا الفاتحة أمامه، وترحّموا عليه وأثنَوْا على خصاله أمام أفراد عائلته والعموم.
أمّا الحلاّق، فقد هجر حاصبيّا إذ لم يعد قادراً على العيش فيها بعد افتضاح عمله، وتركَهُ أولاده إلى مكان آخر بينما حلّت الزّوجة بين ذويها، وصحّ بذلك القول المأثور: “إذا كان الحلال يَذهب، فالحرام يذْهِب ومعه أصحابه وأتباعه”.

العدالةُ السّماويّةُ عند المؤمنين نعمةٌ
وعند الفاسقينَ نقمةٌ

العدالةُ السماويةُ سيفٌ قاطع، ومهما يكن الإنسان قويّاً أو جباراً فإنّ العدالة السماويّة ستلحق به عاجلاً أم آجلاً، لكنّ العقاب السماويّ المُعجّل عبرة لأولي الألباب لأنّه يرهب العاصي ويثبّت المؤمن في إيمانه ويزيده ثقة بعدالة الخالق الجبّار، وبحكمته الخالدة: إنّما هي أعمالكم تُردّ إليكم.
في هذا الموضوع حدّثني أحدهم بموعظة حدثت في جبل العرب مع تاجر ذهب، يتنقّل عادة بهدف التبضّع لمحالِّه التجارية الواقعة في مدينة حلب. وفي يوم استقلّ التاجر الحافلة من دمشق عائداً إلى منزلة وأعماله، لكن بتأثير طول الطّريق وإرهاق العمل غلب عليه النّعاس، وأخلد إلى غفوة استغرقت قسماً من الطّريق الطويل.
كان يجاوره الجلوسَ في المقعد أحدُ الركّاب الذي كان يقظاً واستيقظت حواسّه أكثر عندما انتبه إلى إغفاءة التّاجر وغطّه في نوم عميق. بدأ الرّجل بفحص جاره النّائم فلاحظ محفظة النّقود التي كانت تبرز من جيب سترته، وعلى الفور وسوس له الشّيطان وأغرته المحفظة التي بدت محشوّة بالنّقود فمدّ يده على مهل دون إثارة شبهة المسافرين وأمسك بالمحفظة وسحبها بهدوء ووضعها على الفور في جيب سترته، وبعد أن تحسّسه ألقى نظرة سريعة على ما في داخله فإذا هي حزمة من النقود تفوق قيمتها المليون ليرة سورية (كما صرّح صاحب المال في ما بعد) وهذا بالطّبع كان ثروة كبيرة عندما كانت اللّيرة السورية في عز قوّتها.
لكن بعد أن قطعت حافلة الركّاب شوطاً من الطّريق توجّه السّارق إلى مُقدَّمة الحافلة وطلب من السائق التوقّف لأنّه بلغ مقصده على اعتبار أنّ قريته على مسافة قريبة من المكان. استغرب السّائق طلب الرّجل لعلمه أنّه لا توجد أماكن مأهولة أو سكنيّة في تلك المنطقة القاحلة، لكنه مع ذلك أوقف الحافلة ليهبط منها الرّجل وتابع سيره وهو يفكّر في ملابسات سلوك الرّجل ودوافعه الغامضة.
لكن ما أن وطأت رجلا السّارق أرض الطريق السّريع حتى جاءت سيّارة مسرعة فصدمته وقذفت به لأكثر من عشرة أمتار، فسقط أرضاً يتخبّط بدمه بعد أن تشوّه وجهه وتقاسيم جسمه وغطاه الدّم بأكمله، فبات من الصّعب التعرّف على هوّيته. أما السّائق الذي دهسه فقد تابع طريقه ولم يعبأ يأمر إسعافه، وبقي الرّجل ملقى على الطّريق إلى أن أتت دوريّة عسكريّة قامت بنقله إلى أقرب مستشفًى في تلك النّاحية.
وبعد إجراء الأمور القانونيّة للتعرّف على شخصه لم يعثر إلا على محفظة النّقود التي سرقها وبداخلها هويّة صاحبها، فتمّ الإتّصال بذوي التّاجر وإبلاغهم أن يحضروا إلى المستشفى المعيّن لاستلام الجثمان مع الجزدان والدّراهم.
أمّا التاجر فعند وصوله إلى مدينة حلب تفقّد المحفظة فلم يعثر عليها، فدبّ في قلبه الهلع من خسارة “تحويشة” العمر وتوجّه إلى سائق الحافلة مستغيثاً وطالباً منه مساعدته في العثور على المحفظة أو يكشف كيف اختفت ومن يا ترى استولى عليها، وقد اتّجه الشكّ بالطّبع إلى الرّاكب الذي كان يشاركه المقعد خلال قسم من الرّحلة قبل أن يغادر الحافلة فجأة ودون سبب وجيه.
وبالفعل فقد هزّ السائق برأسه قائلاً: ظنّي هو أنّ السّارق هو الشّخص الذي كان إلى جانبك لأنّني كنت أعتقد أنّه ذاهب إلى حلب، لكنّه بدّل خطّته وقرّر الترجّل من الحافلة بعد وقت قصير من بدء الرّحلة في مكان قاحل لا أثر لسكن أو لعمران فيه، وعبّر السّائق الخبير في هذه الأمور عن شكّه في أن يكون الرّجل الذي ترجّل في ذلك المكان من سكّان تلك النّاحية. وأردف بالقول إنّ من الصّعب العثور على الرّجل لأنّه اختفى على الأرجح مع الغنيمة سائلاً التّاجر أن يسلّم أمره إلى الله وأن يسأله تعويض ما خسره. لكنّ التاجر الملتاع ردّ على السائق بأنّه خسر كلّ شيء وأنّه لم يبقَ معه حتّى ما يكفي للعودة إلى منزله في حلب. فعرض السائق مساعدته وقدّم له من المال ما يكفيه لتأمين طريق العودة.
لكنّ التّاجر بعد عودته إلى بلدته وجد أبناء قريته يقيمون له مأتماً والجميع بادٍ عليهم علامات الحزن والأسى، والبعض الآخر مشتغل بتعداد حسناته ومزاياه الحميدة، وما أن أحسّ الجمع بوجوده بينهم حتى صُعِقوا وتحلّقوا حوله غير مصدّقين ما يشاهدون أمامهم، ومع هذا علت البهجةُ والفرحةُ وجوه الجميع وعانقوه مهنّئين ومستفسرين في الوقت نفسه عمّا يا تُرى حدث معه في سفرته.
وبعد أن قصّ عليهم كيف سُرقت محفظته من قبل من كان يشاركه مقعد الحافلة، وأخبرهم أيضاً أنّه علم من بعض الشّهود في طريق العودة إلى بلده أنّ السارق استحق عقاباً شديداً إذ مات دهساً تحت عجلات سيّارة مسرعة، ثمّ كيف استضافه صاحب حافلة الركّاب وزوَّده بالمال كي يتمكّن من العودة.
آنذاك اتّضح للجميع أنّ الجثمان المشوّه هو للسّارق وأن ما قامت به السّلطات الرّسميّة كان اعتمادها على البطاقة التي وجدت داخل المحفظة، وبعد أن تبيّن أنّ الجثمان المسجّى هو للسّارق الذي استحقّ العقاب حدث هرجٌ ومرجٌ ودعا بعض الحاضرين لإحراق الجثمان، غير إنّ التاجر رفض ذلك قائلاً: ليس هذا من شيمنا وأخلاقنا، وما عليكم سوى أخذه ودفنه في أي مكان ليظهر للجميع عفونا وفي الوقت نفسه ليبقى مثواه عنواناً لعدالة السّماء ودرساً يُنقل إلى الأجيال، ثمّ توجّه للحاضرين المتحلّقين حوله شاكراً حامداً أريحيّتهم سواء أكان بحضورهم للمأتم على موته أم سرورهم وفرحهم بعودته.
سؤال للقارىء الكريم: ما رأيكم بما أصاب السّارق..؟
أليس خلف هذا كلّه إرادة سماويّة كانت سريعة وفاعلة في إظهار عدالتها وأنّ الله لا يحبّ الفاسقين؟؟

بينزع الدّبس عن الطّحينة

بعض الذين يتميّزون بالذّكاء المفرط وبالدّهاء وسعة الحيلة يصحّ فيهم الوصف القائل: “بينزع الدّبس عن الطّحينة”، وقد بقي في ظنّي أن هذا الوصف مجرّد صورة مَجازية جميلة لأمر لا يمكن أن يحصل لأنّه من المستحيلات حتى سمعت هذه القصة الغريبة عن شابٍّ من عين جرفا عمل أجيراً عند أحد الفلّاحين الكبار الذي وبسبب انشغاله بموسم الحصاد واضطراره لتناول الطّعام في البيدر طلب من زوجته أن ترسل له طعامه ومع الطّعام قصعة من الدّبس والطّحينة وهو من أصنافه المفضّلة.
الشابّ الأجير كان أيضاً ذوّاقاً و”يموت” في دبس الخرّوب لكنّه لا يحبّه مع الطّحينة، ومن شدّة حبّه للدّبس لم يستطع مقاومة رائحته اللّذيذة وطعمه الألذّ فشحذ مخيّلته وتفتّق عقله عن حيلة جهنّمية تمكّن بواسطتها من أن يأتي على معظم الدّبس قبل أن يصل إلى البيدر لتسليم معلّمه طعام اليوم. لكن بدل الدّبس والطّحينة كان سيّده لا يجد إلّا الطّحينة بمفردها في قعر الوعاء ممّا أثار حنقه على زوجته التي اعتقد أنّها تقوم عمداً بإرسال الطّحينة له من دون الدّبس وبعد تكرار هذا الحادث قرّر مواجهة زوجته وتأنيبها بشدّة بسبب ما تقوم به من عدم تلبية طلباته. وقد ختم الرّجل تأنيبه لزوجته بالقول: إذا كانت الأمور ستبقى هكذا فما أمامنا سوى الطّلاق والفراق…
بُهتت الزوجة المخلصة لهذا التّهديد، لأنّها لم تكن على علم بما يحصل وأنّ زوجها لم يكن يجد في القصعة سوى الطّحينة، أمّا الدّبس فكان يختفي تماماً، وهي كانت دائماً تردّ على تهديد زوجها بالإنكار الشّديد وكانت تُقْسم أيْماناً مغلّظة بأنّها لم تغفلْ يوماً عن إرسال الدّبس مع الطّحينة، وإن كانت لا تعلم ما الذي يحصل قبل بلوغه مكان زوجها، وفي يوم قالت له: لِمَ نستمرّ في هذه المشاحنات إذ ليس عليك سوى التحقّق والبحث عن سبب ذلك بنفسك”.
الزّوج لم يقتنعْ، ولم يكترثْ لقَسَم ويمين زوجته وكان غالباً ما يخاطب أقرانه وأصحابه بالقول: هل بإمكان أحد أنْ ينزع الدّبس عن الطّحينة؟ فالاثنان سائلان ممزوجان فوق بعضهما بعضاً، لكن يبدو لي أنّ في الأمر مَكيدة ما.
المرأة بدورها أعملت فكرها في الأمر خصوصاً بعد اتّهام زوجها لها ولهذا فهي اقتربت منه وقالت: جُلّ ما أرجوه أنّ تتحقّق من الموضوع أوّلاً عن سبب اختفاء الدّبس وأنا أصبحت مقتنعة معك بأنّ هناك مكيدة لم نعرف ملابساتها حتّى الآن.
بدأ الزوج يفكّر وانتبه إلى أنّ أجيره كان كلّما “احتدمت” بينه وبين زوجته يترك موقعه وينسحب بهدوء بعيداً في الحديقة، وكأنّ في الأمر شيئاً يخصّه أو خوفاً من السّؤال والجواب. لهذا لحق به ثم استدعاه إلى غرفته ليسأله عن سبب هربه وابتعاده عندما يعلو الخلاف بينه وبين زوجته. وقد أتّبع سؤاله بقدر من التّهديد بأنه ما لم يُصْدِّقه أجيره القول فإنّه سيطرده على الفور.
الأجير وجد الأمر في غاية الجديّة وخاف على مسيرة عمله ورزق عياله، لذلك قرّر أن يُفصح عن سوء عمله مهما تكن النّهاية، فاقترب من معلّمه ثم قال: سيّدي حقّاً إذا كان الكذب حجّة فالصّدق منجاة، لعن الله هذه النّفس الدّنيئة ومن يتبعها، لكن كما أنتم تحبّون وترغبون أكل الحلويات بعد الطّعام كذلك فإنّني أشتهي الحلوى، ولم أستطع أن أمنع نفسي من تناول الدّبس وحده لأنه عندي ألذّ حلو اً لا يقاوَم ويفوق في قيمته عندي الطّحينة التي تمزج معه.
قال معلمه: فهمت لكن أخبرني كيف توصلت إلى نزع الدّبس عن الطّحينة؟
أجاب الأجير: لقد تفتّقت مخيّلتي عن حيلة لا تخطر على بال بشر إذْ عمدت إلى قشة “فاقوع” فارغة من قلبها فكنت أغرسها في الوعاء المليء بالدّبس وفوقه الطّحينة وبهذا أصبحت أشفط الدّبس بمفرده لتبقى الطّحينة..
الرّجل استراح في محله؛ بعد أن قلب على ظهره من الضّحك لحدّة ذكاء هذا الأجير وشيطنته ثم قال: “والله والله لا يُجاريك في عملك هذا سوى الشّياطين والعفاريت، لأنّك بنزعك الدّبس عن الطّحينة كِدْت تُفْسدُ علاقتي بزوجتي الوفيّة وتخرّب بيتنا بعد طول السّنين.

الروزانا

“الروزانا” الله يجازيها

الصورة أعلاه مأخوذة في العام 1916 من منطقة البترون اللبنانية إبان الحرب العالمية الأولى وهي صورة نادرة لأنها تؤرخ لحدث تاريخي قام خلاله تجار حلب بتهريب القمح والغذاء إلى سكان جبل لبنان المهددين بالمجاعة.
نجمت المجاعة يومها عن الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء على شواطئ الولايات العثمانية في بلاد الشام فلم يعد يصلها أي مواد غذائية. في الوقت نفسه ومن أجل تخفيف آثار الحصار على جيوشها المشاركة في الحرب وضعت الدولة العثمانية يدها على تجارة السلع والمنتجات الغذائية وسخرت جميع موارد الولايات لتأمين المؤن للجيش العثماني، ثم زادت موجات الجراد مشكلة نقص الغذاء سوءاً فحصلت مجاعة حقيقية تمثّلت بندرة القمح في جبل لبنان واختفاء الخبز وكساد مواسم العنب والتفاح.
ويذكر أن سفينة إيطالية تدعى “روزانا” حاولت كسر هذا الحصار وحملت مادة القمح بهدف إيصالها إلى قرى جبل لبنان إلا أن الباخرة لم تصل إلى الشواطئ اللبنانية بسبب منعها من إكمال رحلتها وتحويلها إلى قوات الحلفاء المتمركزة على الشواطئ الشامية. ومع انتشار الخبر، ورغم القحط الذي كانت تعانيه حلب في تلك الفترة فإن التجار الحلبيين تنادوا إلى نصرة أخوانهم في لبنان وقاموا بتهريب مادة القمح بشكل كبير إليهم وشراء سلعهم من التفاح والعنب قبل كسادها الأمر الذي أنقذ الكثيرين من مجاعة محتملة.
هذه البادرة التاريخية من التضامن تحولت في ما بعد إلى موضوع أغنية (الروزانا) الشعبية التي غنّتها السيدة فيروز والأستاذ صباح فخري والتي تقول في جزء من كلماتها: عالروزانا عالروزانا كل الهنا فيها … شو عملت الروزانا الله يجازيها (بمعنى أنها لم تكمل رحلتها لإغاثة أهل جبل لبنان) يا رايحين عاحلب حبي معاكم راح… يا محمِّلين العنب تحت العنب تفاح” الخ.
(مقتبس بتصرف)

العدد 19