السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المعهــد الجامعـي فـي عبيـه ينطلق بأربعة اختصاصات هندسية وتكنولوجية

بعد انتظار طويل أصبح لطلاب منطقة عاليه وجوارها معهد جامعي عالي بأرفع المواصفات يعطي الإجازة في فروع هندسة وتكنولوجية عدة بتكلفة بسيطة ويدير أعماله بالتعاون مع مؤسسة الحريري والسفارة الفرنسية.
المعهد الجامعي الجديد جاء نتيجة لترميم وتحديث وتجهيز شامل لما كان يعرف سابقا باسم الكلية الداوودية في عبيه والتي تحولت الآن إلى معهد جامعي عالي يعطي إجازته العلمية في أربعة اختصاصات أساسية هي الهندسة المدنية، والهندسة الصناعية، وهندسة شبكات المعلومات والاتصالات والمعلومات التطبيقية لإدارة الأعمال.
وتستهدف هذه الاختصاصات التي يتم توفيرها بالتعاون بين الجامعة اللبنانية ومؤسسة الحريري والحكومة الفرنسية تهيئة الطلاب لشغل وظائف تغطي الحاجات المتزايدة في مجال التكنولوجيا لدى العديد من المؤسسات والشركات والصناعات. وتستغرق الدراسة في هذه الاختصاصات ثلاث سنوات يحصل الطالب بعدها على دبلوم جامعي يصدر عن الجامعة اللبنانية ويعادل إجازة جامعية للتكنولوجيا بناءً على القرار 230/77 الصادر عن وزارة الثقافة والتعليم العالي.
ويعتبر إنجاز ترميم دار الحكمة من أهم منجزات لجنة الأوقاف نظراً للقيمة التاريخية لهذا الصرح التعليمي الذي شُيّد من عائدات وقف الشيخ أحمد أمين الدين في بلدات عبيه، كفرمتى وبيصور عام 1862 بدعم من المتصرف دوواد باشا. وبدأت “الداوودية” كمدرسة ابتدائية بمساحة 1300متر مربع لتعليم أبناء الموحدين الدروز، لكنها توقفت قسراً عن رسالتها التعليمية بسبب الحرب العالمية الأولى وأعيد افتتاحها في العام 1925 بعهدة المربي سامي سليم، ثم أضيف إلى بنائها ضعفي البناء المصلح الاجتماعي بعناية السيد عارف النكدي الذي استلم إدارة الأوقاف عام 1930 لتصبح الكلية ثانوية مساحتها 4000 متر مربع بفرعيها الداخلي والخارجي وبقسميها الفرنسي والإنكليزي.
يذكر أن المدرسة شهدت تألقاً علمياً بالتعاون مع الأزهر الشريف ورعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وما لبث أن تغير اسمها من «الكلية الداوودية» إلى «دار الحكمة» في مئويتها الأولى عام 1962تيمناً بدار الحكمة في القاهرة، إلا أن ظروف الحرب الأهلية عادت وأقفلت أبوابها عام 1978 بعد أن تعرض مبناها لأضرار جسيمة.
وكان قرار ترميم الكلية وتحويلها إلى صرح علمي يفيد أبناء منطقة عاليه والقرى المجاورة أحد أول الخطوات التي اتخذتها لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وتم إنجاز أعمال الترميم بتكلفة ناهزت الـ 966 مليون ليرة لبنانية (نحو 645 مليون دولار). وتأجير المدرسة للجامعة اللبنانية في نيسان 2009 ببدل إيجار سنوي قدره 275,000,000 ليرة. كما تم تدشين المعهد الجامعي في السادس عشر من أيار 2009 ليتم بعدها، وبناءً لطلب من المجلس المذهبي استصدار مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بتحويل الكلية إلى معهد جامعي تكنولوجي يتبع للجامعة اللبنانية في الاختصاصات الأربع المشار إليها، وهذا مع العلم أن إدارة المعهد تعد لإدخال اختصاصات علمية جديدة في المستقبل بعد استكمال دراسة الحاجات لدى الطلاب وسوق العمل.
وتكمن الأهمية الإضافية للمعهد الجامعي في دار الحكمة في كونه يوفر فرص التخصص في مجالات التكنولوجيا والهندسة وفق ارفع المستويات العلمية بتكلفة محدودة لا تتعدى كلفة التسجيل في الجامعة اللبنانية.

المعهــد الجامعـي فـي عبيـه ينطلق بأربعة اختصاصات هندسية وتكنولوجية

عبيه – الضحى

عد انتظار طويل أصبح لطلاب منطقة عاليه وجوارها معهد جامعي عالي بأرفع المواصفات يعطي الإجازة في فروع هندسة وتكنولوجية عدة بتكلفة بسيطة ويدير أعماله بالتعاون مع مؤسسة الحريري والسفارة الفرنسية.
المعهد الجامعي الجديد جاء نتيجة لترميم وتحديث وتجهيز شامل لما كان يعرف سابقا باسم الكلية الداوودية في عبيه والتي تحولت الآن إلى معهد جامعي عالي يعطي إجازته العلمية في أربعة اختصاصات أساسية هي الهندسة المدنية، والهندسة الصناعية، وهندسة شبكات المعلومات والاتصالات والمعلومات التطبيقية لإدارة الأعمال.
وتستهدف هذه الاختصاصات التي يتم توفيرها بالتعاون بين الجامعة اللبنانية ومؤسسة الحريري والحكومة الفرنسية تهيئة الطلاب لشغل وظائف تغطي الحاجات المتزايدة في مجال التكنولوجيا لدى العديد من المؤسسات والشركات والصناعات. وتستغرق الدراسة في هذه الاختصاصات ثلاث سنوات يحصل الطالب بعدها على دبلوم جامعي يصدر عن الجامعة اللبنانية ويعادل إجازة جامعية للتكنولوجيا بناءً على القرار 230/77 الصادر عن وزارة الثقافة والتعليم العالي.
ويعتبر إنجاز ترميم دار الحكمة من أهم منجزات لجنة الأوقاف نظراً للقيمة التاريخية لهذا الصرح التعليمي الذي شُيّد من عائدات وقف الشيخ أحمد أمين الدين في بلدات عبيه، كفرمتى وبيصور عام 1862 بدعم من المتصرف دوواد باشا. وبدأت “الداوودية” كمدرسة ابتدائية بمساحة 1300متر مربع لتعليم أبناء الموحدين الدروز، لكنها توقفت قسراً عن رسالتها التعليمية بسبب الحرب العالمية الأولى وأعيد افتتاحها في العام 1925 بعهدة المربي سامي سليم، ثم أضيف إلى بنائها ضعفي البناء المصلح الاجتماعي بعناية السيد عارف النكدي الذي استلم إدارة الأوقاف عام 1930 لتصبح الكلية ثانوية مساحتها 4000 متر مربع بفرعيها الداخلي والخارجي وبقسميها الفرنسي والإنكليزي.
يذكر أن المدرسة شهدت تألقاً علمياً بالتعاون مع الأزهر الشريف ورعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وما لبث أن تغير اسمها من «الكلية الداوودية» إلى «دار الحكمة» في مئويتها الأولى عام 1962تيمناً بدار الحكمة في القاهرة، إلا أن ظروف الحرب الأهلية عادت وأقفلت أبوابها عام 1978 بعد أن تعرض مبناها لأضرار جسيمة.
وكان قرار ترميم الكلية وتحويلها إلى صرح علمي يفيد أبناء منطقة عاليه والقرى المجاورة أحد أول الخطوات التي اتخذتها لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وتم إنجاز أعمال الترميم بتكلفة ناهزت الـ 966 مليون ليرة لبنانية (نحو 645 مليون دولار). وتأجير المدرسة للجامعة اللبنانية في نيسان 2009 ببدل إيجار سنوي قدره 275,000,000 ليرة. كما تم تدشين المعهد الجامعي في السادس عشر من أيار 2009 ليتم بعدها، وبناءً لطلب من المجلس المذهبي استصدار مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بتحويل الكلية إلى معهد جامعي تكنولوجي يتبع للجامعة اللبنانية في الاختصاصات الأربع المشار إليها، وهذا مع العلم أن إدارة المعهد تعد لإدخال اختصاصات علمية جديدة في المستقبل بعد استكمال دراسة الحاجات لدى الطلاب وسوق العمل.
وتكمن الأهمية الإضافية للمعهد الجامعي في دار الحكمة في كونه يوفر فرص التخصص في مجالات التكنولوجيا والهندسة وفق ارفع المستويات العلمية بتكلفة محدودة لا تتعدى كلفة التسجيل في الجامعة اللبنانية.

الصفحة الأخيرة – فلما فرحوا .. أخذناهم بغتة

«فلما فرحوا … أخذناهم بغتة»

«التغيير». لا يوجد اليوم في قاموس الناس، مثقفيهم وعامتهم، ما هو أكثر استعمالاً من هذه الكلمة. ولا يبدأ حديث في صالون أو في مجموع إلا ويبرز بعضهم ليحرك لسانه بهذه الكلمة فإذا بالأعناق تهتز وتنحني بالموافقة وينشأ على الفور بين المتحاورين تفاهم على حاجتنا الماسة إلى «التغيير»كأن بشر هذا الزمان وقد تقطعت جذورهم وانحلت شخصيتهم في كيمياء الحضارة المادية والاستهلاكية فقدوا من جراء ذلك حس الاكتفاء والطمأنينة فباتوا جرياً مع وتيرة الزمن في بحث لاهث لا ينقطع عن شيء جديد يداوون به حس الحرمان والخواء الروحي والوحشة والقلق العميق من قادم الأيام. هؤلاء الذين هم في الأصل ضحية التغييرات السريعة التي أذهلت وجودهم وزعزعت أفكارهم ومعتقداتهم وقضت على استقرارهم، يبحثون عن الدواء في الداء نفسه كمن يضيع طريقه وسط نفق مظلم فيقرر التوغل أكثر معتقدا بأن النفق موصول في طرفه الآخر بعالم النور، فإذا به يحثّ الخطى مبتعدا عن نقطة ارتكازه أكثر فأكثر داخل النفق الذي لا آخر له ولا بديل من ظلمته إلا المزيد من الظلمة والضياع. وحتى وإن سعى هذا المسافر التعس لأن يعود القهقرى من حيث أتى حالت العتمة والشعب الكثيرة للنفق بينه وبين أن يعرف طريق العودة إلى عالم الضياء. عاش الناس على سوية الفطرة والبساطة آلاف السنين وترعرعوا في كنف الطبيعة يأكلون من خيرها ويحمدون الله تعالى على وفير إنعامه فكانت حياتهم البسيطة نعمة حقيقية لأنها كانت في تناغم تام مع الأرض ومع قوانين الاستدامة التي ترعى الكون. كانوا مستقرين في قراهم لا يبرحونها إلا لتجارة أو سبب جلل، وكان في هذا الاستقرار منفعة لهم ومنفعة للأرض التي يعيشون عليها ويخدمونها على مدار العام. كان العمل في الأرض هو الغذاء وهو الصحة البدنية والروحية وهو الصلاة اليومية الحقيقية وكان اجتماع الأسرة الواسعة تجديد يومي لروابط البشر في حاجة الواحد منهم للآخر ولقانون التعاون على العيش وصنوف الدهر وكانت هذه الحاجة المتبادلة في أساس روابط المحبة بين الناس. في الوقت نفسه كان مجتمع العمل والتعاضد الأوسع هو المدرسة التي يتعلم فيها الأحداث اليافعون أصول السلوك وأسس الأخلاق القويمة والتقوى ويتربون فيها على مهنة الرجولة حتى إذا اكتملت أهليتهم واجتازوا اختبار النضج والعقل دُعوا -عندما يكون الزمن قد دار دورة- إلى تسلم الراية من السابقين. في ذلك الزمان-كان يقول المعلم الشهيد كمال جنبلاط- «كانت قوى الجذب هي الغالبة في الكون» أي القوى المتسببة من طاقة الحياة والتي تجعل الكائنات كلها من جماد وبشر وحيوان ونبات تنجذب إلى المركز وتحافظ (كما تحافظ الذرة) عن ذلك الطريق على اتزانها وتماسك أجزائها، ومن ذلك أيضاً ينبع السلام والسعادة لأهل الأرض. ولا شيء يعبِّر عن قوة الجذب هذه أكثر من المحبة أو الحب الشامل الذي هو لحمة الكون وسداه ومحور توازنه. أما في زمن التفكك وما قد يطلق عليه البعض نهاية الدور، فإن قوى الجذب -حسب المعلم أيضاً- تضعف لتقوى قوى التنافر و”الضدّية”، حتى إذا حصلت لهذه الغلبة بدأت عناصر الوجود بالتفكُّك تدريجياً إيذاناً بانهيار الحياة كما عرفناها، واختتام دورة كاملة في التاريخ الأبدي لهذا الوجود الذي يحير العقول. هناك آية جميلة في القرآن الكريم تلخص تلك القاعدة الكونية، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام:44)، إن الخالق ينبئ في محكم كتابه عن الحالة التي ستؤخذ فيها حضارة البشر بغتة وهي حالة يكون العالم قد امتلأ فيها بكل أنواع المتاع والمتع ويكون الناس قد غرقوا فعلاً في لجة الأغراض التي تستعبد نفوسهم وتدفعهم إلى شتى صنوف العداوة والغفلة وقسوة القلب. وقد فرح الناس كثيراً، بل ثملوا وأضاعوا عقولهم في هذه الملاهي والمقتنيات التي نزلت عليهم وعلى رأسها أدوات القتل والقوة الغاشمة والتكنولوجيا، وحتى الأطفال أصبحت لهم حصة من آخر مخترعات “القتل الافتراضي” بألعاب الفيديو أو “تقنيات الثرثرة” وقتل الوقت التي يلهون بها مع الكبار.الشيء الأكيد هو أن مغزى الآية قائم في حياتنا اليوم، ليس فقط في الغفلة والغرق في لجة الإنكار والأنانية والاستكبار، بل هو في تسارع التفكُّك الكوني على كل صعيد نتيجة غلبة قوى النفور والتباعد على قوى الجذب. وها هي الشراسة -بل قل التوحش ونزعة الافتراس- التي يقتل بها الناس بعضهم البعض وذئبية المشاعر والأحقاد، وها هو عنف الطبيعة الذي يتفجر براكين وزلازل وفيضانات وأعاصير، وها هو عبوس البيئة الحانية وتبدل الفصول وغور الأمطار وربما قريباً ظهور عواصف شمسية مدمرة، ها هو كل ذلك يرسل إلينا نذراً واضحة بأن السقوط يتسارع، وبأنَّ علينا أن نستقيم وأن نصحِّح قلوبنا وسلوكنا قبل فوات الأوان.

الصـــــــلاة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين
الصلاة في جميع الأديان هي حلقة الوصل بين الإنسان وربه. وعلى الرغم من أن الصلاة تنوَّعت بتنوُّع الثقافات والأزمان، فإن الأساس فيها هو نية التوجّه بالخضوع نحو الخالق تعالى. والصلاة الصادقة عبادة محض، بمعنى أن العابد لا يرجو منها غرضاً، ولا يحملها طلباً أو رجاء سوى في ما يرضي الله، لأنها مجرد تسليم وخضوع واعتراف بالعجز في حضرة المولى جلَّ جلاله. كما أنَّ الصلاة تختلف عن غيرها من العبادات مثل الدعاء أو الأذكار في أن لها أوقاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103). ولأن الصلاة امتثال في حضرة المولى، فإنها مشروطة بطهارة البدن (الوضوء)، والنفس (عدم انشغال الفكر بأي شيء سوى الله). فضلاً عن ذلك فإن الوقوف في حضرة الحق أمر عظيم، لذلك اعتبرت الصلاة عاصماً من الفواحش والمنكرات، كما في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
(العنكبوت: 45).

أهمية الصلاة
الصلاة في الإسلام هي الركن الثاني، لقول النبي محمد (ص): “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً”. وهي عامود الدين لا يقوم إلا بها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “رَأْسُ الأمْرِ الإِسْلام وَعَمُوده الصَّلاةُ، وَذِرْوَة سَنامِهِ الجِهَادُ في سَبِيْل الله…” (أخرجه الترمذي).
فمداومة الصلاة أمر واجب ولا تستقيم حياة الإنسان إلاَّ بها. وهي – أي الصلاة الصادقة – تذكار دائم للمرء تشعره أنَّ خالقه معه ومراقبه، ممَّا يجعله متَّزناً متقياً عند أخذه لأي قرار في حياته اليومية، سواء أكان عادياً أم مهماً، وتردعه عن الإقدام على الفاحشة أو الرذيلة لدوام شعوره بمراقبة ربه. والتزام الصلاة هو أمر واجب ولا عذر للمؤمن في تركها، فمن تركها يكون قد أهمل العمَل بالواجب الشرعيّ، وهذا فيه خطر كبير، قال الإمام علي(ر): “فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر”، وقد ربط الله تعالى بين تركها وبين اتباع الشهوات حيث قال إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وحيث ذم المضيعين لها والمتكاسلين عنها: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ آلصَّلاَةَ وَآتَّبَعُواْ آلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ( مريم : 59 ). وقد تكلم العديد من العلماء عن فوائد الصلاة على النفس والروح، كقول ابن القيِّم الجوزي: “الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، طاردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن”. والشيخ الفاضل أبو هلال محمد (ر) يذكر بوجوب الصلاة في كل يوم، “لأنها أمر رب العالمين، وتشريع سيد المرسلين، وما أمرنا بها إلا لمصلحتنا”، ويقول أيضاً: “هي واجبة محتمة على كل عاقل ديان ممن تأسم بسمة الدين من الرجال والنسوان”؛ ويقول: “إن من خالف أمر الله ورسوله فقد عصى وحاد وكان من أمره في شك متماد”.

صدق الصلاة
كما أن الصلاة تفصل بين المؤمن والكافر، فإن صدقها يفصل بين المؤمن والمنافق: (إنَّ آلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ آللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى آلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ آلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ آللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : 142). فالصلاة الصادقة يتوجه بها المؤمن إلى ربه بصدق النية – وهي الشرط الأول لصحة الصلاة – مما يعكس خشوعاً على جوارح المؤمن وسلوكه ومعاملته في حياته اليومية: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون :1-2)، أما المراءاة في الصلاة فهي حرام، لأنها عبادة للناس والقصد منها الشهرة، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع): “ان الله يكره الشهرتين: شهرة اللباس وشهرة الصلاة”. وقد نقل الصحابي الكريم عمار بن ياسر عن رسول الله (ص) قوله: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها (أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبَّان). ونقل عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قوله: “الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى ومن طفف فقد علم ما قال الله في المطففين”. وتوضيحاً للحالة الروحيَّة التي يستحضرها الموحِّدُ إذا ما نوى الصّلاة وأدّاها، شرح الأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي (ق)، في جواب لهُ لابن الكسيح، حقيقة الاستشعار عند الدخول في الصلاة، قال: “نقوم بالأمر، ونمشي بالسكينة، وندخل بالقصد، ونكبر بالتعظيم، ونقرأ بالتوسل، ونركع بالخشوع، ونسجد بالخضوع، ونسلم بالنية، ونتمثل الجنة عن يميننا والنار عن شمالنا، ونقول في أنفسنا ان الله حاضر معنا واننا قد لا نصلي صلاة بعدها”. والانتباه إلى أهمية الصلاة اختلاءً أمر مستحسن، وذلك لضمان صدقها وبعدها عن الرياء، ويكون هذا عملاً بنص الآية الكريمة: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول). (الأعراف 205).
والله ولي التوفيق.

العرس القروي

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.

إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

العرس في راشيا وحاصبيا

العرس في راشيا وحاصبيا

حسرة على اندثار العرس القروي وأفراحه

وخروج المجوز والدبكة ومشاركة الناس

يتذكَّر المواطنون في منطقتي راشيا وحاصبيا أعراساً مضت بكثير من الحسرة. كانت المنطقة حتى عقدين ربما من الزمن ما زالت مصانة من منتجات المدنية المعاصرة وغزو الاستهلاك وقيم المباهاة. وكان الناس يتابعون إرث الأجداد في مناسبات الفرح، ويعيشون سعادة حقيقية في العرس القروي، الذي كان فعلاً مناسبة جامعة وفرصة للتعبير عن مشاعر المحبة والتآخي، وتأكيد قيم الرجولة التي يقوم عليها كيان الطائفة عبر الأجيال.
ماذا حدث إذاً حتى تبدَّلت الأوضاع؟ كيف قَبِلَ الناس خروج الدبكة والمجوز والعزيمة وتحدِّي رفع «العمدة”، وأخلوا بدلاً من ذلك بدعاً ومبتكرات، ليس فقط لا علاقة لها بالتراث، بل هي أيضاً مرهقة لأهل المناسبة، وباتت تُشكِّل عبئاً يدفع البعض لتأخير الزواج بانتظار أن يتدبَّر التكلفة فيجرؤ على دخول الميدان.

يتذكَّر الأستاذ نعمان الساحلي، مدير ثانوية الكفير الرسمية، كيف كان العرس مناسبة جامعة فعلاً يشارك فيها حتى رجال الدين الذين كان لهم القسط الأول في إجراء عقد الزواج، لكنهم كانوا أيضاً يتقدَّمون أهل العريس وأصدقاءه في المسيرة نحو منزل والد العروس، لتسير خلفهم مجموعة من الشباب بالحداء والأهازيج والتصفيق يرافقهم العريس والأهل والأصحاب.
كان أصدقاء العريس يأخذونه إلى مكان يُعرف بـ “جرن العريس”،حيث يشذِّب شعره ويستحمّ ليرتدي سروالاً جديداً، وغالباً ما يكون هذا السروال قد لبسه من قبل عرسان سابقون في البلدة، وكانت هذه الاستعدادات تتم على وقع الأهازيج والردّات السائدة آنذاك وتُعرف بـ “الترويدة”:
طلَّت الخيل وطلَّينا بأولها وإن أدبرت الخيل مكسّرها الرجاجيمة
وبعد الإنتهاء من ارتداء العريس لثيابه الجديدة، يقول أحد الشبان ردَّة حداء ما زالت تتردَّد حتى اليوم تقال لشقيق العريس:

فــــــــــــلان كــــــــــرّب عالفــــــــــرس عريسنــــــــــا جهــــــــــازو خلــــــــــص
يـــــا نجــــــوم بــــــي أعلــــــى سمــــا عـــــــــــــالأرض تعملــــــــــو حــــــــــرس
قبل استلام يد العروس كانت عائلتها تأتي بـ “العَمدة”، وهي عبارة عن جرن حجري لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً وتضعه أمام العريس وتطلب منه أن يرفعه، وذلك لإثبات جدارته بالحصول على عروسهم، وتالياً أهليته للتقرُّب منهم والانتساب إليهم بالمصاهرة. وكانت هذه إحدى اللحظات الأكثر دراماتيكية وإثارة في حفل الزفاف، لأنَّ العريس يصبح في داخل حلقة واسعة من الشباب والكبار الذين يترقَّبون قيامه برفع الجرن. فإن قام بذلك علّت الأهازيج وهلَّل الجميع، وخصوصاً وفد عائلة العريس الذين يعتزون بالإنجاز الذي “بيض وجههم”، وعندها يتم تسليم العروس للعريس بكل طيبة خاطر. لكن كان العريس في بعض الحالات يفشل في رفع “العمدة”، وكان ذلك يعتبر نكسة لا بدّ من مواجهتها بسرعة. وكان ذلك يتم عبر التدخُّل الفوري لأحد المقرَّبين منه لإنقاذه من الموقف. وغالباً ما كان العريس غير الواثق من قدرته على التحدِّي يصطحب معه مجموعة من الشبان المعروفين بقوة البأس والذين يكون على أحدهم القيام بهذه المهمة إذا دعت الحاجة، لكن على الشاب أن يكون من عائلة العريس وليس أي شخص آخر. لأن المهم هو المعنى الرمزي لهذا الاختبار لدى أهل العروس، وهو أن العائلة التي تُصاهرنا عندها “رجال” يمكن أن يهبُّوا إلى نصرتها عند الحاجة.

وهل حدث أن تراجع أهل العريس عن تسليم العروس في حال فشل العريس في رفع الجرن؟
نعم، يجيب الأستاذ الساحلي. مضيفاً: “حدث ذلك لكن في حالات قليلة عندما كان أهل العروس يمثلون أسرة عريقة أو ذات عنفوان وبأس، ولم يكونوا لذلك ليقبلوا أن يكون صهرهم العتيد أقل منهم شأناً في ميدان المروءة والفروسية، لأن “الصهر سند الظهر”، كما يقال. كما أن مجتمع الموحِّدين كان يقوم على مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشرف والعِفَّة والبنية الجسدية على اعتبار أن الأسر كانت تتخيَّر في أنسابها القَوي والعفيف، لأنها كانت ترى في ذلك ضمانة الحصول على ذرية قوية وصالحة تنتفع بها الجماعة في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
بعد وصول العروس إلى منزل العريس كان يأخذ بيدها ويبارك له الحضور. وعندها يدعو أهل العريس جميع الحضور إلى تناول الطعام، وغالباً ما كانت أرض الدار هي المائدة، فكان الخوان يوضع على الأرض ويجلس الناس متربعين أو على ركبهم لتناول طعام الفرح، وبعدها تبدأ التهاني ويعقد الشباب حلقات الدبكة ويتبارى بعضهم في غناء المعنّى والعتابا والميجانا. وهذه المشاركة غالباً ما كانت تغذِّي المواهب عند الناس في قول الشعر والمحافظة على تلك العادات. وكان العرس يستمرُّ أسبوعاً كاملاً يبدأ بـ “التعليلة” ليلة الجمعة ويستمر على امتداد الأسبوع، بحيث تشهد كل ليلة حلقات الدبكة والغناء والحداء والفرح على وقع المنجيرة والمجوز، وهي آلة طربية من القصب غالباً ما كانت ترتبط بالرعاة الذين كانوا يسلون أنفسهم بالعزف عليها وسط الطبيعة الخلاَّبة”.

كيف ينظر الأستاذ الساحلي إلى أعراس اليوم؟
يقول متنهداً: “شتّان ما بين الأمس واليوم! لقد زال الكثير من معالم العرس كما كنا نعرفه، وذلك بعد أن بدأ الناس يسيرون في ركب القيم المستوردة وحضارة المادة والتباهي، ويتخلون في سبيل تلك القشور عن العادات الشرقية والعربية، سواء في الشكل أم في المضمون. وقد تحوَّل العرس اليوم إلى حدث باهت لا روح فيه، وحلّت الموسيقى الصاخبة محل حنين المنجيرة وحلقات الرقص العفوي، وحلًت المطاعم بدل الولائم أو العزائم، وحلّ اللبس الغريب وغير المحتشم محل اللباس الراقي للأزمنة السابقة، وأخذت فِرَق الزفة وحركاتها البهلوانية محلَّ حلقات الدبكة الشعبية، وبات الفرح اليوم عبارة عن مهرجان يجلس فيه الناس على الكراسي بلا أية مشاركة أو دور حقيقي في المناسبة.

محمود فارس غزالي، الذي يقترب من عامه الـ 90، يعتبر أن أعراسنا أصبحت مناسبة جوفاء تهيمن عليها المزايدات والمظاهر الفارغة وتُلقي أعباءً كثيرة على كاهل العريس، الذي غالباً ما يرزح بسببها تحت وطأة الدين لإرضاء الناس.
يذكر غزالي كيف كان “جهاز العروس” في الماضي بسيطاً يوضع كله في صندوق يُعرف بـ “صندوق العروس” أو” الصندوق المطعّم”، وقد كان دولاب الثياب (الخزانة) في تلك الأيام غير معروف. وكانت العَمدة (أي تحدي رفع الجرن) هي التي تقرر معدن الرجال وأهليتهم لنيل العروس، بينما أصبح الشخص يأخذ عروسه هذه الأيام لا شروط إلاَّ

شرط أن يكون لديه المال”.
يضيف غزالي أن جميع أبناء القرية كانوا يشاركون بعضهم بدافع المحبة، ولم يكن في المنازل البسيطة سوى إنتاج المنقول ( الزبيب والجوز واللوز والتين) وكانت الهدية هذا النحو، أي من حاضر البيت، فكان أصحاب المواشي المقتدرين مثلاً يقدِّمون للعريس أحد رؤوس الماشية ليصار إلى ذبحها وطهيها لتقدم إلى المعازيم؛ كما كانت الحلوة أو “التحلاية” بعد الغداء من إنتاج البيت (رز بحليب)، أما اليوم فقد أصبحت الهدية من وحي العصر شاملة بذلك الأدوات الكهربائية وصولاً إلى ضيافة البوظة.
من التقاليد المهمة والجميلة التي اندثرت “ليلة النقوط”، النقوط حين كان يصار إلى جمع المال للعريس من قِبَل الحاضرين كلٌّ حسب قدرته مع حفظ سجل بتلك التبرُّعات التي تصبح بمثابة “دين” على العريس عليه أن يوفيه إلى من يتزوَّج بعده من الحاضرين أو من أبنائهم. ومن التقاليد التي ذهبت أيضاً “الشوبشة”، حيث يقوم الأهل والأصدقاء بتقديم المال أو الذهب إلى العروس. أما اليوم، فقد أصبح سيد الموقف رقم حساب العريس في المصرف”.

السيد صالح نوفل، رئيس بلدية الكفير، يضيف القول بأن “نكهة الأعراس” اختلفت كثيراً. فالطبلة والمنجيرة والمجوز تلاشت لحساب آلات موسيقية مستوردة، أو موسيقى معلبة وصاخبة أو مبتذلة، و”هو ما يجعل بلدة الكفير تحنُّ إلى الماضي الذي يكاد يصبح صورة
شاحبة في الذاكرة”.

يقول: “إن المشاركة في العرس أصبحت اليوم رمزية ومن قبيل “المسايرة” أو الواجب، وقد تقلَّص عدد المحتفين، كما تحوّل الحفل إلى حفل لا يلائم مجتمعنا، حتى أننا نكاد نفقد تراثنا الشعبي الذي عاش معنا لمئات السنين”. وأخطر ما حصل في رأس رئيس بلدية الكفير هو الارتفاع الكبير في تكلفة العرس، حيث نرى متوسطي الحال يتماثلون بالميسورين والأغنياء فيلجأون إلى بيع بعض الممتلكات الثابتة لتغطية تكلفة العرس. وهذا الواقع قد يستدعي إقامة أعراس جماعية تساعد على خفض التكلفة.

وختم بمطالبة السلطة الدينية لو تستطيع أن تكبح هذا الإفراط لما لقراراتها من رضى وقبول.

الأستاذ عامر عامر، من الخلوات حاصبيا، يستهجن “دخول الموسيقى الأجنبية إلى حياة الريف”، كما يلاحظ شيوع الاختلاط والكثير من البدع التي جعلت هناك انقساماً في المجتمع أزاء العرس بعد أن كانت المشاركة عمومية، بما في ذلك رجال الدين الذين كانوا يشاركون في حلقة الدبكة”. يضيف القول: “إن المزايدات أدخلت الناس في مرحلة الإفراط، إذ كانت مأدبة الغداء في السابق تقام من حواضر بيت الفلاح وكذلك “الضيافة”، حيث كانت مأدبة الطعام تمدّ أمام الناس على الأرض والكل يشارك. أما اليوم فإنَّ الميسورين الذين يزايدون في تقديم الضيافة والطعام، والكثيرون منهم يهدفون إلى إبراز ثرائهم وكسب الجاه، لكن هذا الأمر ينعكس سلباً على ذوي الدخل المحدود الذين يسعون إلى التماثل بهم”.

السيد حسن مدَّاح الذي ينظّم الشعر ويلقيه بدافع المحبة في المناسبات، وخصوصاً الأفراح، يقول عن أعراس اليوم: “رزق الله على أيام زمان” عندما كان أبناء منطقتنا فلاحين بمعظمهم والإمكانات المادية متواضعة، لأن تلك الأيام كانت تسودها المحبة والإلفة والنخوة. أما اليوم فإنهم يحاولون دفن ذاكرتنا وإخراجنا من ذواتنا وهويتنا”. مضيفاً: “في الماضي كان فرح العريس هو أيضاً فرح الناس، أما الآن فأصبحنا نأتي بمن يفرح عن الناس حيث تقوم فرق الزفَّة بتمثيل ما يفترض أن يقوم به أهل العريس وأصدقاؤه”. وأكد أنه يريد لحفل زفاف ابنه أن يكون على وقع التراث وبمشاركة ومباركة رجال الدين، وأن يسير الناس لجلب العروس على وقع الحدا والحوربة، بعيداً عن هذه البهرجة المزيَّفة والمصطنعة التي تبعدنا عن أصالتنا وتراثنا، لافتاً إلى أن إحدى أهم نتائج تدهور العرس الدرزي الأصيل، هو أننا خسرنا مشاركة المشايخ ومباركتهم للمناسبة، وقد باتوا يتجنَّبون حضور تلك المناسبات لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث، خصوصاً زوال الحياء ومشاهد الفوضى بين النساء والرجال سواء في حلقات الدبكة أو الرقص، ناهيك عن المُسكرات التي لا يتوانى البعض عن تقديمها في المناسبة.
وختم بهذه الأبيات من الشعر:
الأفــــــراح نحن كلنـــــــــا نريدهــــــــا منمشي مثل ما قال عنها سيدها
بدنــــا المشايـــخ بالفـــرح يتدخَّلـــــوا حتــى عوايدنـــا القديمة نعيدهـــا

مجتمع الموحدين.

يوسف إمري

ثــلاث قصائـد لـ يونــس إمــري

شاعــر الحـب والوحـدة الإنسانيــة باللـــه

بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتـــذللاً
تعـــال وانظـــر إلى مـــا نالـــني مـــن أثـــر العشـــق

يحتل الشاعر الصوفي يونس إمري بين الشعوب الناطقة بالتركية مكاناً يكاد يكون مشابهاً للموقع الذي يحتله حافظ الشيرازي. فهذا الدرويش الذي عاش زاهداً كل حياته، كان مفعماً أيضاً بالحب الروحي الذي أنفق حياته في التعبير عنه بأعذب الأشعار. عاش في الأناضول التركية في القرن الثالث عشر الميلادي وذاع صيته وأصبح لشعره الرقيق واختباره الروحي وتمجيده للوحدة الإنسانية والحب تأثير كبير على الثقافة التركية، بل والعالمية إلى يومنا هذا.

وبسبب شهرته وأثره في الأدب التركي والعالمي تحول يونس إمري إلى موضوع لندوات ومؤتمرات عالمية تبحث في شعره وفلسفته ولغته الشعرية، وأدخلته منظمة اليونيسكو ضمن قائمة أعظم الشخصيات الثقافية في العالم، بل وأعلنت العام 1991 «السنة العالمية لـ يونس إمري» وتمت ترجمة أعماله إلى لغات عدة حول العالم.

على الرغم من الشهرة التي يحظى بها اليوم، فإن حياة يونس إمري يحيط بها الغموض، وكل ما يُعرف عنه أنه كان درويشاًَ سائحاً في الأرض قبل أن ينضم إلى  مجموعة من الدراويش وجد بينهم المرشد الكامل الذي يرقيه في مراتب المعرفة. ويقال إن إمري أمضى عقوداً طويلة في خدمة الدراويش عبر قطع الحطب وجبله إلى الزاوية على سبيل العبودية لله. وبسبب حياته البسيطة حتى وفاته فإن الكثير من وقائع حياته وتجربته بقيت غير معروفة، وحلت محلها بعد ذلك مجموعة كبيرة من القصص والأساطير التي رفعت الشاعر إلى مرتبة القداسة وحاكت القصص الكثيرة والغريبة أحياناً التي استهدفت إظهار مكانته الجليلة لدى أهل الأناضول التركية وما نسب إليه من عجائب وكرامات. هناك قصة عن لقاء إمري بشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي وانبهاره الشديد، لكن ليس معروفاً إن كان إمري اتبع طريقة ذلك الشاعر، وإن كان مؤكداً أنه اتخذ له شيخاً ومرشداً.

وصف نفسه يوماً بهذه الأبيات:
أنا يونس إمري درويش الأحزان
أثخنتني الجراح من الرأس وحتى الأقدام
بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتذللاً
تعال وانظر إلى ما نالني من أثر العشق
يتّسم شعر إمري بفلسفة تشدد على وحدة البشر والحب الإنساني وتشكو من التفرقة والتأثير السلبي للتعصب، بل إنه يفرق في شعره غالباً بين دين الحب والوحدة الإنسانية في الله وبين أولئك الذين يحكمون على الآخرين ويفرقون بين الناس باسم اختلاف العقائد، لأنهم لا يفهمون حقيقة الإيمان ويتعلقون بظاهره فحسب.
في ما يلي ثلاث قصائد لـ يونس إمري منقولة عن الترجمة الانكليزية للنص التركي:

إبحث عنه في داخلك

إن عزمت على أن تمسح
كل هذا الصدأ عن القلوب
فقم بنشر هذه الكلمات
فهي بحق مختصر الحياة

«من لا يرى
شعوب الأرض كلها كخلق واحد
هو عاص لله حتى ولو رأى فيه
بعض أهل الورع قديساً»

أصغي أيضاً, فإن لي رأياً
في ما يسمونه الشرائع والقانون
الشرائع سفينة
والحقيقة هي البحر

مهما كانت ألواح السفينة
سميكة ومتلاصقة
فإنها لا بدّ ستتحطم وتتبعثر
إن هاج البحر وماج

جنوني هو عشق الحبيب
وحدهم المحبون يدركون مغزى كلامي
الإثنينية يجب أن لا تكون
الله وأنا العبد يجب أن لا نعيش متفرقين

الله يتخلل هذا العالم الكبير
لكن حقيقته سر مخفي على الجميع
إن أردت البحث عنه فأنظر في داخلك
فأنت لست كياناً منفصلاً عنه

لست بناظر لدين أحد من الناس
كما لو كان خصماً لاعتقادي
والحب الحق لا بدّ أن يسود
عندما تتحد العقائد كلها في الحقيقة الكاملة

الناس أطلقت عليّ اسم «الصوفي»
لكن لي مع ذلك عدوّ: الحقد
ليس في قلبي كدر أو كره لأحد
لأن هذا الوجود في نظري واحد

عندما يختبر الإنسان

الحب الحق
لا بدّ سيترك التعصب
للعقائد وروابط الأوطان

وأنتم لا تنفكون عن التذكير بالعقائد
وتدعون الناس إلى ما تسمونه النعيم
وماذا في النعيم. بضعة حوريات؟
أقول الحق: ليس هذا مرادي

رباه
لم كل هذا القدر من الكلام
وما الحكمة من كل هذا الجدل
حول حفنة من تراب؟

كلمــــة واحــــدة

في إمكان كلمة واحدة أن تضيء
وجه رجل يعرف معنى الكلمات
الكلمة التي تنضج في عالم الصمت
تختزن قوة كبيرة على الفعل

الحرب يمكن وقفها بكلمة
وهناك كلمات تداوي الجراح
وكلمات يمكنها أن تبدل السم
إلى عسل مصفى

دع الكلام ينضج في داخلك
ولا تدع مجالاً للخواطر المرتجلة
هلم وافهم ذلك الكلام
الذي يحول المال والثروات إلى تراب

اعلم متى يمكنك النطق
ومتى يتعين عليك الصمت
كلمة واحدة تقلب سعير جهنم
إلى جنات ثمانية

اتبع طريق القوم ولا يغرنك
كل ما تعلمته في السابق وكن يقظاً
فكِّر قبل أن تنطق
فلسان الحمق قد يدمغ روحك بالسواد

يونس! قل الآن شيئاً أخيراً
عن قوة الكلمات:
فقط كلمة «أنا»
تقطعني عن الله

الإنسان الحقيقي

لن تكون إنساناً حقيقياً على الطريق
إن لم تكن بسيطاً متواضعاً
وإن نظرت باستعلاء إلى أي مخلوق
فسيتم دفعك إلى أسفل الدرجات

إن ارتفعت نفسك فإنك سترفع بعيداً عن هذا الطريق
لا فائدة من كتم ما أنت فيه
لأن ما في جوفك يظهر لا محالة في سيمائك

حتى ذلك العابد ذو اللحية البيضاء
ذلك الذي يُظهر الحكمة في محيّاه
لو تجرأ فكسر قلب إنسان
ما الفائدة من حَجِّه إلى مكة؟
إن كان عديم الرحمة
فما الغاية من وجوده؟

قلبي هو عرش المحبوب
والمحبوب هو مقصود قلبي
كل من يكسر قلباً لإنسان
فلن يجد طريقاً إلى الله
لا في هذا العالم
ولا في غيره

الذين يعرفون لا يتكلمون إلا نادراً
لكن الضواري منهمكة دوماً بسيل من الكلام
كلمة واحدة تكفي من في قلبه العلم الحق

إن بحثت عن المعنى في الكتب المقدسة فهو ذا:
كل ما كان نافعاً لك تقاسمه مع غيرك

كل من يأتي إلى هذه الدنيا يهاجر منها
وكل من شرب خمر الحب يفهم قولي

يونس! لا تنظر باحتقار إلى هذا العالم

أبق ناظريك مسمرتين على وجه الحبيب
لأنك عندها لن ترى الصراط
في يوم الحساب العظيم

إحيــاء الاقتصـاد الزراعــي فـي الجبـــل

في العدد السابق من “الضحى” خصصنا ملفاً أساسياً لموضوع الأرض، وقد شدّدنا فيه على ما يلي:
1. إن انسلاخ جمهور الموحِّدين الدروز عن الأرض، تسارع بصورة خطيرة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، بحيث باتت أقلية من أهل الجبل تعتمد في عيشها على الأرض وعلى الاقتصاد الزراعي بالمعنى الواسع، بينما انصرفت الغالبية إلى قطاعات الوظيفة العامة أو الخاصة، أو حتَّى إلى قطاعات التجارة والخدمات.
2. إن هذا الاتجاه يهدد بتحويل الأرض من أصول اقتصادية مُنتجة للدخل إلى مجرد أصول عقارية تكتسب قيمتها الوحيدة من قيمتها المحتملة كمواقع للبناء. ونظراً للطلب القوي على البناء، نتيجة التزايد السكاني وارتفاع مستوى المعيشة وتدفُّق التحويلات من المغتربين، فإنَّ أسعار الأراضي كالعقارات، ارتفعت إلى حدٍّ جعل بيعها في كثير من الأحيان مغرياً للمالك، الذي غالباً ما يحتجُّ بأن الاحتفاظ بالأرض كأصول زراعية لم يعد يحقِّق له دخلاً كافياً للعيش، وأنَّ بيعها بالتالي يوفِّر له سيولة نقدية فورية، تمكِّنه من أن يستخدمها في مشاريع معينة، أو أن ينفقها لبناء منزل أو تعليم أولاده، أو تلبية حاجات ملحة.
في الوقت نفسه، شدَّدنا أيضاً على أن الحجة الأساسية التي جعلت الناس يهجرون الأرض ويهبطون بها إلى مستوى العقار الجماد، ليست بالضرورة حجة اقتصادية، بقدر ما أصبحت ترتبط بتبدُّل أسلوب العيش ورغبة الكثيرين – وخصوصاً الشباب الذي يتلقَّى قسطاً من التعليم – تقليد الحياة كما يعيشها أهل المدن، أو كما يرونها على شاشات التلفزيون أو عبر الإنترنت؛ وبالتالي فإنَّ اتخاذهم القرار بهجرة أي نشاط يدوي أو زراعي على اعتبار أنه لا ينسجم مع قيم المجتمع الجديدة الذي يريدون الانضمام إليه، والتوجه تالياً إلى نشاطات لا تتطلب الجهد نفسه في قطاعات التجارة أو الخدمات، أو السفر إلى الخارج للعمل في مجالات مماثلة.
بمعنى آخر، إن تراجع الاهتمام بالأرض لا تبرره بالضرورة أسباب  اقتصادية، ولا يمكن من هذا المنطلق تبريره بتراجع إنتاجيتها.
علماً أنَّ هذه النقطة المهمة نخصص مقالتنا هذه للتأكيد عليها وإيضاح نتائجها. وسنبدأ أولاً بعرض بعض الوقائع الأساسية التي تؤكِّد أنَّ إحياء الزراعة وتطوير عدد من الصناعات المتصلة بها قد تكون خياراً مجدياً بل مفضَّلاً إذا تمَّ الأخذ بعدد من القواعد الأساسية التالية:
أنَّ النشاط الزراعي لم يتوقف إطلاقاً في الدول الغربية التي يتسابق البعض إلى تقليدها، بل إنَّ الزراعة والمزارعين ما زالوا يعتبرون في تلك الدول فئة محظوظة لأنها تعيش في الريف وتتمتع بحرية أكبر، وهي تعتبر غالباً فئة ميسورة.
أنَّ التلوُّث المتزايد في المدن بات مصدراً لعدد كبير من الأمراض، كما أنَّ الازدحام المتزايد سلب المدينة الكثير من رونقها

 السابق وجعل الكثيرين يسعون للعودة إلى الأرياف، لكن العودة هذه تتطلَّب، بالطبع، أن يتمكَّن العائدون من توفير مصدر رزق بديل لهم في الزراعة ونشاطاتها.
أنَّ في لبنان نفسه فئة واسعة ما زالت تعيش على الزراعة، سواء في السهول الساحلية أو سهل البقاع؛ وهناك أيضاً فئة تجمع بين الوظيفة والنشاط الزراعي.
يجب الإقرار بالطبع أنَّ إحياء النشاط الزراعي يتطلَّب وضع استراتيجيَّة شاملة تلحظ توفير متطلبات الحد الأدنى، ولاسيما مصادر المياه، هذا فضلاً عن التدريب والإرشاد لحلِّ مشكلتي التسويق وتصنع الفوائض الزراعية. لكن هذه الاستراتيجية يمكن حفزها واستقطاب الموارد إليها في حال توافر نهضة واهتمام متجددين بالنشاطات الزراعية المنتجة من قِبَل المواطنين، إلى جانب قيام تجارب رائدة ناجحة يمكن للآخرين النسج على منوالها، أي أننا بحاجة إلى روَّاد في هذا القطاع، وإلى تجارب نموذجية توفِّر بحدِّ ذاتها أساساً يمكن للآخرين البناء عليه.
إن منطلق تطوير الزراعة كنشاط اقتصادي في الجبل يتطلب وضع مخطط توجيهي جديد يقوم على دراسة شاملة لأنواع التربة

 وجغرافية الأراضي والمناخات ومصادر المياه القائمة والتقنيات الملائمة Appropriate technology ، أو تلك التي يمكن إضافتها، كما يقوم هذا المخطط على إدخال ما يمكن اعتباره الجيل الجديد من الزراعات الاقتصادية، وهي عبارة عن نصوب تمّ تكوينها على أصول جذرية قوية، وجرى تأصيلها، بحيث باتت تبدأ بالإنتاج من السنة الثانية للزرع وتتميز بتحمّلها لمختلف أنواع التربة والجفاف الجزئي ومقاومة الأوبئة. وهذه الأصناف من الأشجار المثمرة غير معدلة وراثياً، ولكنها نتيجة تجارب طويلة وناجحة من التهجين واختبار الأصول الجذرية التي يتم التطعيم عليها، باتت معتمدة باعتبارها أنواعاً اقتصادية ترفع كثيراً الجدوى الاقتصادية للحقل.
أنَّ منطقة جبل لبنان نظراً إلى طبيعتها الوعرة، قد حافظت إلى حدّ كبير على المزايا الطبيعية فيها، ولم يلحق بها التلوُّث الكيميائي الذي لحق بالسهول نتيجة

للزراعات المكثفة، وللاستخدام العشوائي للمسمدات والمبيدات العشبية أو الحشرية والفطرية.

وتالياً فإنَّ الجبل ما زال يحتوي على مقوِّمات أساسية لقيام زراعات عضوية تجعل منه المقصد الأول للمستهلكين الراغبين في استهلاك هذه المنتجات، أو لشركات التوزيع والتسويق المتخصصة في تلك المنتجات أو للزراعات العسلية، أي التي تزرع لذاتها – مثل الخزامى Lavender أو اكليل الجبل Rosemarry أو القصعين Sage أو الصعتر- لكن التي يمكن في حال زرعها بكثافات كافية أن تصبح مصدراً رئيسياً لإنتاج العسل العضوي بخصائص رفيعة غذائية وطبية أيضاً. 

أنَّ أي مخطط توجيهي جديد لإحياء النشاطات الزراعية الاقتصادية في الجبل، يجب أن يعتمد على تعيين ثمار ومحاصيل مثلى، وأن يأخذ في الاعتبار دورة المحاصيل لتلك الثمار، بحيث يمكن لتلك المحاصيل أن تنزل إلى السوق في توقيت مناسب يحفظ سعرها، كما أن هذا المخطط يمكن أن يلحظ مجموعة المواصفات التي تتيح تصدير المنتجات الزراعية العضوية أو الطبيعية إلى أسواق مختارة في الخليج أو أوروبا أو في الولايات المتحدة وغيرها.
أنَّ الاستثمار في النشاطات الزراعية الجديدة، وفي مشروع تحويل الجبل إلى مقصد للراغبين في المنتجات العضوية وتسويقه على هذا الأساس Branding على نطاق واسع، يمكن أن يوفِّر فرصاً عديدة للمغتربين الراغبين في توفير مبرِّر أقوى للتواجد الدائم في الوطن، أو استثمار أموالهم في مشاريع مجزية تساهم في خلق فرص العمل للشبان والشابات في القرى الجبلية.
أنَّ إحياء الاقتصاد الزراعي كفيل بوضع الأسس لدورة اقتصادية جديدة في الجبل، لأنَّ الزراعات الجديدة والأصناف المحسنة، والدفع في اتجاه تخصص متزايد لاقتصاد الجبل في الزراعات العضوية التي توفر الأسس لصناعات صغيرة ذات قيمة مضافة عالية، تبدأ بصناعات التعليب والمعالجة والتجفيف إلى التقطير، ويمكن لهذه الصناعات أن تشكِّل في مجموعها قطاعاً متقدماً موجهاً للشريحة العليا أو المتطلبة من المستهلكين وللتصدير لأسواق متقدمة في آن واحد.

أنَّ الصيغة المناسبة للاستثمار الزراعي في الجبل، هي صيغة المشاريع الصغيرة المستندة إلى الأُسر أو إلى المجموعات القروية المتقاربة، وليست صيغة التصنيع ذات العمالة الكثيفة، لأنَّ الهدف منها هو توفير الاقتصاد المنزلي أو القروي الملائم للنسيج الاجتماعي وللقيم والعادات، خصوصاً أن فئة كبيرة من سكان الجبل باتت من الملتزمين بسلوك الدين وموجباته، وهذا الأمر يجعل من الصعب عليها القبول ببيئات الاختلاط الواسع التي تفرضها المصانع الكبيرة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ تشجيع الزراعات الجديدة أو المرتبطة بمتطلبات قطاع المنتجات الغذائية العضوية، ينسجم بصورة أفضل مع المزارع الصغيرة أو

المتوسطة، ويستوعب في الوقت ذاته الملكيات الصغيرة التي هي الشكل الأغلب للملكية في الجبل، ولا يتطلب بالتالي إحداث بلبلة أو زعزعة في الأساس الاقتصادي لحياة القرية.
أنَّ الصناعات الجديدة المقترحة يمكنها تغطية دورة إنتاج متكاملة لا تتوقف على تسويق المنتج الأصلي، مثل الثمار أو الأعشاب في سوق تنافسية، بل تتوسَّع باتجاه إضافة القيمة على المادة الخام، بحيث لا تكون تلك المنتجات معتمدة بكليتها على التسويق المباشر قبل أي تصنيع أو معالجة، بل على العكس من ذلك فإنَّ تكوين قاعدة صناعات صغيرة تعتمد على المنتجات العضوية أو الطبيعية كمادة خام، سيجعل من الأفضل والمنطقي أكثر عدم بيع كامل المنتج في حالته الخام، بل العمل على تصنيع أكبر نسبة منه بهدف إضافة القيمة وتحقيق أعلى مردود ممكن على المنتج النهائي.
أنَّ طبيعة الاقتصاد الزراعي، الذي نقترح العمل على تطويره، والمنتجات المحسنة والعضوية ستضع في حدّ ذاتها الأسس لتبني أحدث أساليب خلق الماركات التجارية والترويج والتسويق لتلك المنتجات، وهذا في حدّ ذاته قطاع متكامل لا بدّ أن يقوم ويتطور بسرعة إلى جانب القطاع الإنتاجي، بهدف استكمال دورة المشروع وتوفير مقوِّمات الجدوى والربحية. وبهذا المعنى، فإنَّ تطوير اقتصاد يقوم على الزراعات المتقدمة والأصناف المحسنة والصناعات الغذائية سيضع الأسس لقيام قطاع خدمات وقطاع بيع بالتجزئة ومحلات متخصصة تصبح بدورها مقصداً للمستهلكين من داخل وخارج المنطقة. وفي حال توافر الطلب الخارجي على تلك المنتجات، فإنَّ قطاعات مكملة يمكن أن تنشأ وتتطور إلى جانب المنتجات الغذائية عالية النوعية، مثل، قطاع الصناعات الريفية والحِرفية، وهو قطاع ينسجم أيضاً مع التركيبة الاجتماعية للجبل، بإمكانه أن يتطوّر ليصبح مكوَّناً أساسياً من اقتصاد الجبل وقطاعاته الإنتاجية.
أخيراً، فإنَّ النتيجة الأهم لوضع هذه الرؤية موضع التطبيق هي توفير الأسس لتعظيم حلقات القيمة Value chain في اقتصاد مؤسَّس على الزراعة، لكنّه يشمل بمفاعيله قطاعات أخرى متكاملة ويعتمد بعضها على البعض الآخر. وغنيٌّ عن القول إن هذه الصيغة ستساعد في توفير الآلاف من فرص العمل لسكان الجبل، سواء في البيوت (خصوصاً للنساء)، أو في المشاغل والمحترفات أو في التعاونيات الإنتاجية. وتالياً، سيتبع ذلك توفير الأسس لتعزيز الارتباط بالقرية ووقف النزف السكاني باتجاه المدن، ومعالجة جذرية لواقع بطالة الشباب مع ما ينشأ عنها من آفات اجتماعية متزايدة؛ كما أنَّ المأمول هو أن تسهم النهضة الزراعية -الصناعية في إضعاف الحوافز للهجرة بالنسبة إلى عدد كبير من الشبَّان، وتعزيز الرابطة الاقتصادية والمعنوية للموحِّدين الدروز بأرضهم وقراهم، لأنَّ العمق الجغرافي لن يكون عمقاً فارغاً، بل سيتحوَّل إلى عمقٍ اقتصادي أيضاً.

العدد 2