الأربعاء, أيار 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نُريد عربيّاً آخر

ماذا يبقى بعد اليأس
وقد تَخاذل الشّرق
وقـُـتِلت بالعُنـْفِ الأفكار
نحنُ بشرٌ بُسَطاء
نَعيشُ ولا نأبه لكلِّ أحداث الأعْمار
نحن نريد والله (عز وجل) يريد
لكنّنا وبرضانا أصبحنا بُؤساء
نـُـريدُ عربيّاً آخر يكتـُبُ حرفاً
يقرأ لغة
ويدوِّن تاريخ الأجداد . . .
نـُـريد عربيّاً يصنع قمراً
يطير من دون جناح
يُربّي أُمّاً تكتب جيلاً
لكلِّ تاريخ الأمجاد . . .
وينْحَت في السماء
قوسّ قُزَحٍ في كل الألوان
ويحرثُ بسنابكِ روحه
رملَ الصحراء
ويزرع في الصّخر
أشجار الزيتون
كي تـُـطعمَ أحفاد الأحفاد . . .
ويُرَبِّي مجتمعاً صالحاً
يروي الفرح من دمْعِ عينيه
ويُضْحِكُ مِلْءَ القلب
أولئكَ الأطفالُ الجياع
نـُـريد عربيّاً يُفكـِّرُ ويَبحثُ
في كتُب الفلسفة
وتاريخ الأمجاد
ولا يُضَيِّع ما نكتبُ
في إبداع الزّمان
نـُـريد عربيّاً يُفَكـِّرُ
ويقود العالم بالعدلِ
إلى آخر المطاف . . .

فلسفةُ تهذيب الحواسّ الخمس

إنْ شئتَ أن تحيا الحياةَ سَليما

في كُلِّ آفاتِ الحواسِ عليما

إحذرْ حواسَكَ أن تكون عقيمةً أو أن تُسلِّمها الهوى تسليما
فَلَرُبَّ عَيْنٍ جابهتْ من نظرةٍ كُلَّ الشرورِ فلن تعودَ قويما
والعينُ قبلَ النُّطقِ فيها مَضرَّةٌ فاحرِصْ عليها كي تكونَ حكيما
أمّا اللسانُ فقدْ يكونُ بهــــالكٍ إحذرْ لسانَك في القفا تذميما
إنَّ اللسانَ لفي الحقيـــقةِ ثروةٌ لو قيَّمـــوه في المـَــلا تقييما
لكنَّ أخطاءَ اللســانِ فداحــةٌ قد تعتريكَ وإنْ تكون عظيما
فاجعل لسانكَ تحت عقلٍ نَيِّرٍ فالعقلُ لا يرضى اللسانَ أثيما
قد يصبحُ المرءُ المُوَحِّدُ سيِّداً لو نطقه ُ بالخيرِ كان كريما
واللّمس ُ يبقى للحواسِ قوامُها إذ يجعلُ الكفَّ النّظيفَ حليما
لا تلمـــسِ القِرشَ الحرامَ لأنَّهُ قد حرّم الله الــــــرِّبا تَحْريما
والسَّمعُ للإنسانِ فَخٌ مُشْــــــرَكٌ فاحذرْ سَماعاً للبذيِء سَقيما
شَمُّ المُخَدِّرِ يبقى عاراً فاضـحاً المرءُ يصبحُ بالهُدى معدوما
لولا حواسَك هُذِّبت بعنــــايــةٍ رمضانُ يُضفي رونقاً وصياما
إنَّ الصِّيامَ لَفي الحقيقةِ واجبٌ والمرءُ يكسَبُ في التُّقى إقداما
أمّا الزكاةُ فلا تسلْ عن دورِها دورٌ عظيمٌ جَوْهَرَ الإسلاما
وكذا الصلاةُ فكــم تنقِّي أنفُساً فيها المـــُــوَحِّدُ ينجلي إلهاما
إنَّ الصـــــــلاةَ لِغَيرِ الله باطــــلةْ وحّـِــــدْ إلاهاً واحداً عَلاَّما
هذِّب حواسَكَ، والفرائضَ صُنْ عُلاً اللهُ يرزقْكَ الــــــحياةَ نَعيما

محترف عادل صالحة

عادل صالحة، من رأس المتن، المتن الأعلى، مبدعٌ في تشكيله للحجر والرخام وغيرها من المواد كما يشتهي. بلغ تطويعه للمادة الحد الأقصى فباتت لوحةً أكثر مما هي منحوتة، تتسم بالإتقان والتوزيع البصري والإيحاء القوي. فنان من دون ضجيج ومتحفه مدرسة في النحت والتشكيل نال جرائز وتنويهات من غير جهة إلا من الوزارات والمؤسسات التي يجب أن تحتضن النحات عادل صالحة وأعماله، كما سواه من المبدعين اللبنانيين.

السيرة الذاتية
  • ١٩٤٤، ولد بتاريخ ٢٢-١٠ في بلدة رأس المتن.
  • درس في مدرسة رأس المتن حتى أتم الصف الخامس الإبتدائي.
  • ١٩٦٠، انتقل الى مجال البناء والعمارة اللبنانية.
  • ١٩٦٧، تأهل من السيدة عفت الحلبي ولهما ثمانِ بنات.
  • ١٩٩٧، كُرِّم من قبل وزارة الإعلام بشخص الوزير باسم السبع.
  • ١٩٩٩، مثل بلدية عاليه في السمبوزيوم، وحاز على شهادات التقدير والكؤوس.
  • ٢٠٠٠، ٢٠٠١، شارك أيضاً في سمبوزيوم عاليه الدولي وحاز على شهادتي تقدير مع كؤوس من بلدية عاليه ومن نقابة الفنانين للنحت والرسم في لبنان.
  • شارك في معارص لا تقل عن ثلاثين أهمها معرض الأونسكو، وآخر في نقابة المهندسين بيروت.
  • له عدة أعمال في الساحات العامة في جبل لبنان. من أهمها الأرزة في رأس المتن وسُمي الشارع بإسمها.

[Best_Wordpress_Gallery id=”23″ gal_title=”محترف عادل صالحة”]

الشّاعرُ الحداثيّ نعيم تلحوق

آثَرَت “الضّحى” دوماً في القسم الثقافي والأدبي، أن تُفرِدَ مكاناً بارزاً لشعراء وأدباء بلغوا مرتبة عالية في فنونهم وإبداعاتهم، ولا سيّما من تجاوز منهم النّطاق اللبنانيّ إلى آفاقٍ إقليميّة ودولية، كالشاعر الحداثي الطليعي نعيم تلحوق. فمن هو هذا المُبدع؟ وعلى ما انطوى شعرُه؟ وبما تميّز أدبُه؟

منذ البدايات، أواسط الثمانينيّات ظهر نعيم تلحوق شاعراً مُختلفاً عمّا كان مألوفاً حينها، ثائراً في فكره المتوثِّب على كلِّ التراكيب الاجتماعية التي كان يرى ضرورة تغييرها (قيامة العدم).

وما لبثت الصورة الشعريّة الجديدة أن تبلورت لديه، واستقرّت أخيراً زاهيةً حرّة، سحابة نيِّفٍ وثلاثين عاماً مع مؤلّفاته الشعرية العشرة: قيامة العدم – 1986، هي القصيدة الأخيرة – 1990، لكن ليس الآن – 1992، وطن الرَّماد – 1994، هو الأخير – 1999، أظنُّه وحدي – 2001، يغنِّي بوحاً – 2005- 2013، فرس الكتاب – 2015، وغيرها.

ليست صياغات نعيم تلحوق الشعريَّة بأسلوبيَّته الجامحة خيالاً وفكراً، سهلة المأخذ، فهو اختطَّ لنفسه، تبليغيةً معيَّنة لا تشبه في مزاوجة المفردات غيره من الشعراء في قطفه المعاني والرُّؤى المُراد إيصالُها إلى عقل وقلب القارئ، فتتمّ الغاية منها تلقائياً وطازجةً، فيفوز الشّعرُ كما الأدبُ بالصور البيانية الفريدة، وهذه في ميزان الفنون الإبداعية، يقيّدها النقّاد لصالح العمل وصاحبه. ونعيم تلحوق صاحب خيال واسع يعينه على البراعة في قنص الأفكار والمعاني التي تحفل بها مؤلَّفاته… نعيم تلحوق الذي وصلت كتبُهُ إلى العالميّة، صاحبُ سيرةٍ عمليّة ناجحة، بدأها من عَيْتات، قضاء عاليه – لبنان مسقط رأسِهِ. أتمَّ دراساته العليا في الجامعة اللبنانية – 1986 – 1987، رأَسَ دائرة الإنتاج الفكريِّ والأدبي في وزارة الثقافة اللبنانية وما زال.
ترأس تحرير مجلة شؤون ثقافيَّة الصادرة عن وزارة الثقافة اللبنانيّة – عُضو الهيئة الإدارية لاتِّحاد الكتاب اللبنانييِّن، وعضو اتّحاد الكتاب العرب، ترأَّسَ تحرير مجلَّة “فكر” اللبنانيّة، الفصليّة، عَشْرَ سنوات، كتب في الصحف اللبنانيّة والعربية ما يزيد على ربع قرن، له برنامج في إذاعة لبنان الرسميّة بعنوان: “أوراق ثقافيّة”.

كُتُبٌ صدَرت عنه:
  • نعيم تلحوق، دراسة في شعره – رجاء كامل شاهين، دار الينابيع، دمشق، 2006.
  • أنطولوجيا الشعر اللبناني، بالفرنسيّة – ناديا كريت – مكتبة بيسان.
  • ديوان الشعر اللبنانيّ المعاصر – حمزة عبود – دار الفارابي – 2008 – بيروت.
  • التّجربة الشعريَّة عند نعيم تلحوق، بين المُزاوجات الصوتيَّة والانتهاكات اللُّغوية – دراسة بحثية – عصام شرتح – إدلب.
  • أنطولوجيا الشعر العربي الألماني – فؤاد آل عواد – دار شاكر ميديا، أخن، ألمانيا – 2011.
  • تُرجمت، مجموعته الشعريّة السابعة – يُغنِّي بوحاً 2011. والتاسعة “شهوة القيامة” 2015 إلى الألمانية، د. سرجون كرم وسيباستيان هانية وجويل هولاند.
  • تُرجمت مجموعته – وطن الرَّماد إلى الفرنسية – 2008 – ناديا كريت.
  • صدر عنه كتاب بعنوان “سيزيف، لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق للكاتبة ناديا كريت -2015.
  • كتاباته الأدبية والشعرية محور أبحاث ورسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعة اللبنانيَّة.
أدب نعيم تلحوق وثقافته

إضافة إلى ما كَتَب هو وما كُتِبَ عنه، مِنْ كُتب، نلمسُ بالحديث معه، أمراً واضحاً، هو تمتُّعه بذاكرة قويَّة، ولَسَانَةٍ لافتة، وثقافة كبيرةٍ، وفكرٍ مُولِّد يتنقّل به في العصور قديمها وحديثها، مُطَّلعاً، هاضماً مُعظم الفلسفات الشرقيّة والغربيّة مُطَعِّماً كتاباته بها.

ولعلَّ ما كتبته ناديا كريت في مقدمة كتابها “سيزيف” لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق، خير تأكيد على عمق تجربته الإنسانية وبما يتلاءم مع تحديد سترابونسكي، وهو ناقد غربي مشهور، أنَّ الدائرة هي الصورة الأكثر كمالاً بالنسبة للإنسان، لأنَّه ليس من شكل مُنجَز وتام أكثر منها، وهي أكثر الأشكال ديمومة، أمّا علاقة الدائرة في نتاج تلحوق الشِّعري، فهي تحتلُّ مكاناً أساسيّاً، بالغ الأهمية، حيث يُقسم شعره إلى مجموعتين دائريتين، كلٌّ منها تتضمَّن خمسة دواوين. فمن خلال مطالعاته الصوفيَّة عرف تلحوق معنى الدائرة عند ابن عربي، ومعنى النون، والنقطة في قلب الدائرة، وعرف أنَّ للأحرف الشمسيّة في النقاط مكاناً كرويّاً أو دائريّاً، ويتطوّر النّص والتحليل المعرفيَّين لديه، إلى أن نصل إلى نعيم تلحوق الأزيتريكي، وذلك بمعرفة النواحي الخفيّة اللّامنظورة في معناها اللّامحدود. هل حقّاً أنَّ التجربة الإنسانية التي رسمها نعيم تلحوق في دواوينه العشرة كانت من فيض المعاني العاصفة في ذاكرته. وهل لم يتغير نعيم تلحوق، لا بنظرته ولا بتوْقِه إلَّا نحو المزيد من التوحُّد وحِدَّةِ البهاء.

في ختام ما نصف به شعر نعيم تلحوق ما قاله الأديب محمّد زينو شومان: كلَّما تأمَّلْتَ عمارته الشعرية الشاهقة، ازددت يقيناً على يقين، بمهارة البناء، وروعة مشروعه الهندسي الضَّخم.

ولعلَّ مَن شاء أن يتبيَّن خصائص هذا المشروع يكتشف سرَّ العدد فيه وتحديداً العدد خمسة. هذا إذن هو الشاعر الفيتاغوري نعيم تلحوق وسرّ ثقافته الشعريَّة والأدبيَّة.

كلمةٌ في كتابٍ وشاعرة

 

مداخلة الشيخ سامي أبي المنى في حفل توقيع كتاب السيدة جمانة صلاح الدين “وجاءني البحر” في المكتبة الوطنية بعقلين بتاريخ 20-4-2013
جُمانة أبو مطر صلاح الدّين إنسانة مؤمنةٍ مُحبّة، ترسم شعورها في أبياتٍ منثورةً متلألئةً جمالاً وأنساً وذوقاً، وتنثر مشاعرها الرقيقةَ شعراً لطيفاً، تفلشُ جدائله المسترخية على أكتاف الحياة دون عُقَد الوزن والقافية وتعقيدات البحور وتكلّف المعاني.
في كتب السيدة جمانة ولوحاتها تقرأ روحيّة المرأة الأمّ المربيّة وسماتِها.. تقرأ الحنين والجدل وبسمةَ النّغم وخلجاتِ الفصول.. تقرأ الكلماتِ واللمعات ومواسمَ الحبّ وقناديلَ الذكريات، تقرأ الأمَّ والجدّةَ الفتيّة والأختَ الوفية ومحبّةَ الأب وحفيفَ الشعور وحِكَمَ القدر.. تقرأ وتقرأ وتقرأ، وتسافر معها في عالمٍ رائعٍ من اللطافة والأناقة واللباقة، وتنحني باحترام أمام حضورِها المُلفت الجذّاب، أدباً وأخلاقاً وفكراً نيّراً، وهي المُعذَّبةُ الفرحة بسنابل عشقها وطمأنينةِ روحها، والقلقةُ المفتّشةُ دوماً عن الألق الجميل وبريق الحبّ وألوان العطاء.
كأنكِ يا سيّدةَ البحر تأتين إليه راجيةً، وتعودين منه راضيةً، يجيئك البحر من جبال هملايا، من كهوف النسّاك، رذاذاً مُفْعماً بالبخور والورود والعطور وزهراتِ اللوتس المضاءةِ بالجمال، هكذا تقولين، يجيئك حكمةً تسطع بالحقّ، وترانيم صباحٍ آتية من ينابيع المحبة والصفاء.. تأتين إلى البحر أم يأتي البحر إليك، لا فرقَ عندك.. طالما أنّك تتألّمين وتتأمّلين، وكلا الطرفين سبيلٌ إلى صقل الذات، والمؤمنون يتّقون اللهَ فيقيهم، يناجونه فيهديهم، يأتون إليه فيسكن في قلوبهم، على قاعدة الحكمة الإنسانيةِ القائلة: “وأنْ ليس للإنسان إلاّ ما سعى”، وعلى قاعدة التوحيد في الإسلام التي تقول: “إنَّ للّه رجالاً إذا أرادوا أراد”.
تلك هي القاعدة وتلك هي فلسفة الحياة، ولذلك أنتِ مُطمئنةٌ إلى سلامة قلبك وصفاء روحك، ومُدرِكةٌ أنّ الطمأنينةَ تأتي من الإنسان ذاتِه وليس ممّا عداه، لقوله تعالى:”يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنونَ إلّا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم”، وها أنتِ تناجين حبيبَك الأوحد بهمس صلاتك، فيقذف في بصرك البصيرة، لتسْبَحي في بحارٍ صوفيةٍ بعيدة القرار، وتعودين كما أنت، مع تصفيق الأمواج العاتية على الرمال، تعودين براعمَ أملٍ” تنشر شذاها في فضاءٍ مداريٍّ”، وترجِين أن يرفعَك الحقُّ على سفوح حبِّه الكبير ويذريَك من عَلٍ، “أريجاً عابقاً يبلسمُ الجراح” و”يعتُقَكِ من العالم البرّاق”، هكذا تقولين وترتجين، وأنتِ تأملين أن تغسلي وجهَك بدموع السحاب العابر، وأن تَهيمي تحت شعاعاته وفي أنواره، وتتبخّري على مرآته، لتصبحي قطرةً في محيطه الهادر.. تأتين منه وتعودين إليه، في روعةٍ من التعبير والإخلاص والشفافية.
تحلِّقين بعيداً في فضاءات الرّوح، وترتحلين في خضمّ البحار العميقة، تبحثين عن الطمأنينة “والهُنَيهات النورانية”، وتنصهرين كالشمعة عندما تدخلين في حقيقة إشراقة الحق “وتذوبين كالعطر في وجوده العظيم”، وكأنما هناك “حفنةٌ من نورٍ” تشعُّ من داخل المحبّ، “فيرقُّ قلبُه بفرح” و”بسعادة مقدّسة”، ليقودَه الحبُّ إلى حبيبه الأوحد “؛ “مُجيبِ السائلين”، كما تقولين، وذاك هو ما يقولُه التوحيدُ، بأنّ السعادةَ تأتي من داخلِ الذاتِ وليس من خارجها، إذا ما عاشت “عطش الأماني” وطمحت لتحقيق “حُلُم الروح”، وتلك عناوينُ لكتبِك وقصائدك، قرأنا مثيلاً لها لكبار العرفانيين المُنشدين على أعتاب الحبيب، ككمال جنبلاط في ديوانَيِّ “فرح” و “السلام”، وللدكتور سامي مكارم في “مرآة على جبل قاف”، ولغيرهما من الأصفياء الذين سعَوْا من خلال مسلك العرفان إلى المسافرة الروحية في دروب الحبّ والولاء، حيث السكونُ في جنّة التّوحيد وحيث السعادةُ التي لا تغيب.
تحملين في روحكِ عبَقَ السويداءِ من جبل العرب، وتُنشدين من بعقلينَ قصائدَ من القلب والأعماق، وتحملين في عينيك وصدرِك رسالةَ الأمّ الفاضلة، تزرعين الفضيلة في بناتك ومجتمعك وتغنّين لمرابض الشجعان والشرفاء، للصخور الصلبة، جبلاً يعانق جبلاً وشعباً يثورُ لنصرة شعب، وتحلّقين بعيداً في معارج الحق والخير والجمال بكلمةٍ طيِّبةٍ وشعرٍ جميل…
شِعرٍ رقيقٍ يرتقي بعقولنا وقلوبنا نحو السعادةِ والسكينة..
ويُضيءُ فينا العمرَ، يُشعِلُ في شموع الروحِ والجسدِ الفتيلا..
شعرٍ كمثلِ حبائب البلَّورِ.. يلمعُ في ميادين الطفولة
شعرٍ يتوقُ إلى الحبيبِ بلهفةٍ وبرَفّة العين الخجولة
شعرٍ من الوجدان والعرفانِ.. يسبحُ في فضاءاتِ المدينة
وعلى بساط الريحِ يخترقُ الروابيَ والسواترَ والسهولا
شعرٍ يضجُّ سعادةً بهدوئه الروحيِّ.. يبعثُ في حنايا النفسِ والعينِ الفضولا.
الشعرُ عند جمانةٍ يختالُ.. يرسمُ لوحةً..
تزدانُ بالألوانِ… بالإيمانِ.. بالروح الأصيلة
واللونُ يكتبُ بيتَ شعرٍ مُترَفٍ.. يُوحي بأفكارٍ نبيلة
لكأنما الفنّانةُ المعطاءُ تغدو وردةً جوريّةً.. أو نجمةً مُضويّةً..
عطرٌ على عطرٍ، كما نورٌ على نورٍ..
تُرى.. وكأنها جاءت وجاء البحرُ.. يوحي بالأحاسيس الجميلة
مُذ أدركت بالحدس والإلهام ما خلف اشتدادِ الموجِ من مدٍّ وجزرِ..
إذ جاءها جاءته ترسمه.. تُلوّنه..
وتكتبُه بحبر يراعِها الممزوج من نورٍ وعطرِ..
فيصيرَ بحرَ سنابلٍ.. وبيادراً وحقولا..
ويقولَ إنّ الخيرَ يأتي من صميم الذاتِ طوعًا..
لا صراخَ ولا صهيلا..
وبأنّ ما بعد المشقّةِ ليس وهماً أو سراباً عند من يسعى..
وليس البحرُ شيئاً مستحيلا.

احفظْ لِسانَكَ فهو حصانُك إنْ خُنْتَه خانَك

احفظْ لِسانَكَ فهو حصانُك إنْ خُنْتَه خانَك

 

أيامُ التُّرام الكهربائي ركب أحدُهم من ساحة البُرج إلى حيِّ وَطى المصَيطبه في بيروت لزيارة بعض أقاربه. ولما طَلب إليه قاطعُ التذاكر دفعَ بدل القسيمة وقيمتها آنذاك خمسة غروش حجر سورية، فما كان منه إلَّا أنْ مدّ يده إلى جيبه وناوله ليرة ذهبيّة بدل الخمسة غروش والتي تشبهُها بالشّكل واللون، ولكن بعد عودته إلى منزله وتفقُّده دراهمة وجد أنَّه فقد اللَّيرة الذهبية، ثم تذكَّر ذلك أنَّه أخطأ إذ دفعها بدل الخمسة غروش السوريَّة.

تضعضعت أفكاره واحتار في أمره ماذا سيفعل وكيف سيستعيد اللَّيرة، ثم أخذ يُردِّد أمام كلّ من يعرفه عن فقدانها علَّ يساعدُه أحدَهم على إعادتها، لكنْ أخيراً استقرّ رأيُه أن يذهب إلى مدير الشركة وكان يومها السيّد فيليب رزق الله ومركزُه ساحة البرج.

بعد أن دخل عليه أقسم اليمين فوراً أمامه أنّه يتكلم الصِّدق ثم أخبره بما حدث معه. أجابه المدير: “هل تعلم رقم الترام والساعة التي ركبت بها؟”

قال الرجل صدقاً يا سيدي لا أعلم عن ذلك شيئاً وحتّى أنَّ الموظَّف الذي قبض الأجرة منّي لا أعرفه إذا صادفته.

تأكّد المدير في ذاته أنّه صادق في أقواله، لكنّه أجابه قائلاً: استمهلني ساعتين ثم آتني بعد ذلك فلربَّما نكون قد اهتدينا إلى الموظّف المذكور ثم نعيد لك الليرة.

نهاية الوقت المُحدَّد رجع الرجل إلى المدير فنقده الليرة عينَها. تعجّب الرَّجل لهذه السرعة والتوقيت معاً ثم تجرَّأ وسأل المدير قائلاً : “الشُّكر الأول والأخير لجنابكم، رَدّ الله أمانتكم، لكن إذا سمحتم لي بالقول، كيف توصَّلتم إلى معرفة الموظَّف وكيف أعادها إليكم.”

قال المدير: “هذا شعارُنا حفظ الأمانات، وهذا ما نوصي به الموظَّفين والعاملين غير أنَّ الموظف الذي وجدها بعد أن أحصى الدراهم المُحصَّلة في يومه تأكَّد له أنّه خطأ من أحد الرُّكاب فناولني إيّاها قائلاً: إنّها ليست له وهي بذمَّة الشركة إلى أن يظهر صاحبُها. ”

قال الرجل: الحمدلله، الحمدلله إنّه لم تزل هناك أناسٌ أصحاب ضمير حيٍّ كهذا الرجل والحقيقة (إن خليت خَربت) كما يقولون. لكنني أُسائلكم مع بعض الاستغراب أنّه عندما أتيتكم صباحاً وقصصت عليكم الأمر طلبتم منِّي أن أغيب ساعتين ثم أرجع، فما الداعي إلى غيابي هذا واللّيرة كانت بحوزتكم؟

ضحك المدير وقال: لربَّما لسانُكم قد خانكم وسبّب لكم ما أهانكم وأقلق بالكم. قال الرجل: بالله عليك أخبرني كي أتعلَّم من أخطائي.

قال المدير لقد أخبرتم سواكم بما حصل معكم حيث أتى أحدُهم إلينا وطلب منا ما طالبتم به فأمهلناه الوقتَ عينه لاعتقادنا ربَّما لم يكن صاحبُها، وبعد أن أجبناه بأنَّه قد أتى أحدٌ سواه وسأل عنها، آنذاك انسحب ولم يعد.

وحيث إنَّنا اقتنعنا بإجابتكم وصدقِ أقوالكم وقَسَم يمينكم أعدنا إليكم الليرة وإن تأخّرنا ساعتين لكي يبقى بالنا مرتاحاً.

قال الرجل: سبحان الله ما أبصرَكم وما أدهاكم، وما أعلمكم أيها المدير النَّبيل، وصِدقاً ما قالته الكتب السماوية: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، وصِدقاً ما قاله بنو الإنسان: “احفظْ لسانَك فهو حصانُك وإنْ خُنْتَه خانَك”.


الأمير عليّ آل ناصر الدّين ووصيَّتُه إلى وَلَدَيه

 

إياكما وترك سُنن قومِكم وأُسرتكم، فإنَّ ترك هذه السُّنن يخفض منزلة المرء إيّاً كان، واحتفظا بصداقة المخلصين لنا أيّاً كان مذهبهم الدّيني، ولا تقاطعا أحداً حتى تُوقِنا بأنَّه ليس من أهل الوفاء والثّبات، فعندئذ لا يلومُكما في مقاطعته أحد.

لا تَرْكُنا إلى المُرائين المُتَحلّفين فالرُّكونُ إليهم غباوة، ولا تثقا بأصدقاء عدوّكما، إنْ كان لكُما عدوٌّ، فإنَّ صديق العدوِّ عدوّ، وتمسَّكا بالرَّجل بقدر ما يبدو لكما من تمسّكه بشرفه وكرامته، فمَن لا يحفل بالشَّرف والكرامة لا يحفل بالصداقة. ولا تتواضعا لِمُتكبّرٍ أيًّا كان، فليس أدلّ على ذلَّة النفس من التواضع لمتكبّر، ولكن تواضعا للمُتواضع فإنّ التكبُّر على المتواضع دليلُ خِفَّةِ العقل والغطرسة. لا تبطُرا بالثّروة وإن عظُمت، فإنَّ البطرَ بالمال أوضحُ برهانٍ على وضاعة النفس، وهو شأنُ ذوي النّعمة الحديثة، واحتمِلا الإساءةَ من أصغرِ صغير ولا تحتملاها من أكبرِ كبير.

لا تُعاشرا الذين ساءت سُمعتُهم وأخلاقُهم، ولا تمزَحا في المُجتمعات فإن المِزاح يُذْهِبُ الوقار، وليكُنْ سكوتُكما أكثرَ من كلامِكما، ولا تُكثرا التَّجوال فيقلُّ الناسُ إليكما، واستقبلا زوارَكما بمنتهى البشاشة والترحيب فإنَّ للزائر على المَزور حقّاً يجب رعايتُه، وإذا بدرت بادرة تسؤكما من زائر فظٍّ فاحتملاها ولا تُسمعاه كلمة عنيفة، فإنّ إهانةَ الرجل ومن يكن في منزلِكم عَيْبٌ.

وإذا عاندكما الزمان فاعتزِلا فإنَّ العزلَة صَوْناً لمرؤتكما، وإن عاتبكما الناس كونا شديديّ الثقة بالله تعالى. واجتنبا المُحَرّمات وكلَّ ما نُهي عنه، وحذارِ من الطَّمع فإنَّه أخو الدناءة. ولا تغضبا إلّا حين يكون الغضبُ واجباً، ولا تَعِدا إلَّا إذا كنتُما قادرَين على إنجاز الوعد. واعطفا على الأقرباء والأصدقاء المُخلصين كلّ العطف، وإذا شذّ أحدُ الأقرباء عن سواء السبيل فابذُلا النّصيحة لعلّه يرجِع عن غِيِّه، وإن لم يرجِع فالبراءةُ منه خيرُ ما تفعلان.

المرحوم القاضي الشيخ حَليم تَقِيِّ الدِّين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين وآله واصحابه الطاهرين الطيبين

سماحة رئيس محكمة الاستئناف المذهبية الدرزية العليا المرحوم الشيخ حليم تقي الدين، ذكراه باقية حاضرة في وجداننا ووجدان أبناء العشيرة والوطن. فمن مثال القاضي الذي عمل جاهداً في إعلاء شأن القضاء المذهبي الدرزي تنظيمًا واجتهادًا وتأليفًا وقولًا للحق، الى الرجل الحكيم المتابع في الزمن الصعب لمجريات الأحداث الخطيرة التي عصفت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في جبلنا العزيز، مبديًا للقاصي والدّاني قامةً وطنيَّة ذات أصالة ووفاء لكلِّ القيَم، دفاعًا عن الكرامة بحقّ وعدل، وموضحًا التباسات الواقع ببصيرة نافذة، وقلب نقيّ، وبلاغة مستنيرة، ليس دفاعًا عن قومه وحسب، بل عن وطن الرسالة والعيش المشترك، مجسِّدًا امتثاله الصادق لحقيقة تاريخ الموحدين الدروز ودورهم السياسي والاجتماعي والثقافي بكل صراحةٍ وجرأةٍ حتى الرمق الأخير الذي به كانت شهادته.
إنَّ رجلا كالمرحوم الشيخ حليم تقي الدّين لا يُخمد الموتُ له حضورا طيّبًا باقيًا في ضمير شعبه، ولا يمحو له ذكرى مشعَّة من صفحات التاريخ الوطنيّ الأثيل.

شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

نعيم حسن


اليوم وفي كلِّ يوم تتداعى الذِّكريات، وتتزاحم المعاني لترسمَ بمِدادٍ من نور سيرة شهيد الحريّة والعدالة ووحدة الإيمان الإسلامي المغفور له الشيخ حليم تقيِّ الدّين.

كان رحمه الله، علَماً من أعلام القضاء والفِقه الإسلامي، وواحداً من رجالات الفكر والثقافة البارزين. تميَّز كاتباً، وخطيباً ومُحاضراً، وأستاذاً جامعيّاً، ورائد وطنية، وداعية محبَّة، ومحاوراً من الطّراز الأوّل. وأُثِرَ عنه حبُّه للعلم وأهله، وشغفه بالتراث العربي الإسلامي، وميله الطبيعي إلى اكتناه المعرفة الكُلِّيَّة، والاشتغال بالأعمال الحضاريّة عبر مجالس الثقافة ومراكز الأبحاث.

جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك. يضفي على جلسائه فيضاً من لباقته ومرَحِه وتفاؤله… ولطالما ردّد على مسمع أصدقائه وفي مواجهة محاوريه أنَّ لبنان هو الإنسان فإن مات إنسانُه ظلماً وقهراً وعدواناً فأيّ وطن يبقى لنا بعد ذلك؟ كان الشيخ حليم مثال الرجل الجَدِّي الرّصين، ومن شعاراته في الحياة العملية: “ما تريد أن تقولَه افعلْه”، و”قيمة الإنسان ما يُحْسِنُه”.

جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك.

نشأته وبيئته

وُلِدَ الشّيخ حليم تقي الدين في بعقلين، الشّوف، في 18 كانون الأول سنة 1922 وتوفِّي شهيداً، اغتالته يد الغدر والخيانة في أوّل كانون الأول 1983.
والده القاضي والشاعر الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين.

عاش مع إخوته العشرة، حياة أُلفة ومحبّة ورعاية من الوالدين: رعاية الوالد كانت في إعطائه المثال في التواضع والاستقامة والقدرة على التعامل مع الناس جميعاً، بصدق وإخلاص، ورعاية الوالدة كانت في حُسن التربية والتوجيه الأخلاقي والوطني مع عطف وحنان. فشبَّ مُجتهداً طموحاً، وقد رافقه الاجتهاد والطموح خارج المدرسة في حياته العملية. تأثّر بعوامل البيئة التي نشأ وترعرع فيها وكانت مثاليّة: أبٌ قاضٍ وشاعر، وأعمام وأخوال أدباء وشُعراء، وعائلة لها تاريخ طويل تميَّز برجال الدين، من مؤلِّف كبير في الدين، إلى شيخ عقل يرعى شؤون الطائفة دينياً واجتماعياً إلى رجال في القضاء المذهبي والعدلي، كانوا قدوةً في نهجهم وسلوكهم. فتأثيرات البيت والمدرسة والبيئة كانت كبيرة وعميقة جعلت منه رجلاً عصاميّاً يعرف حدَّه ويعطي جهده، مؤمناً بما يقول واثقاً بما يعمل.

علومُه ونشاطُه
  • تلقّى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة اليسوعية في بيروت، ومدرسة الجامعة الوطنية في عاليه، ومدرسة الحكمة في بيروت. تابع دراسته الجامعية في الأكاديمية اللبنانية (1950 – 1951) حيث نال شهادة في الحقوق العامّة وشهادة في التاريخ الدبلوماسي.
  • نال من الجامعة اللبنانية إجازة تعليمية في التاريخ والجغرافيا سنة 1955 وإجازة في الحقوق سنة 1962.
  • عُيِّن أستاذاً متعاقداً في الجامعة اللبنانية؛ معهد العلوم الاجتماعية، ابتداء من العام 1960 ولغاية 1981 حيث حاضر في التاريخ الاجتماعي والنّظم السياسية في البلاد العربية وفي الجريمة وأشرف على الرسائل والأبحاث التي قام بها طلاب الماجستير في المعهد المذكور.
  • مارس المُحاماة ابتداء من عام 1963 محامياً بالاستئناف وحتى تعيينه رئيساً لمحكمة الاستئناف العليا عام 1968، واستمرّ في هذا المنصب إلى يوم استشهاده في أول كانون الأول عام 1983.
  • رَشَّح نفسه للانتخابات النيابية – عن قضاء الشوف – عام 1964.
  • انتُخِب عُضواً في المجلس المذهبي للطائفة الدرزية ثم أميناً لسرّ هذا المجلس بالإجماع سنة 1966 وحتى 1968.
  • أسهم في تأسيس المجلس الدرزي للبحوث والإنماء وانتُخِب عضواً في مجلس أمنائه.
  • شارك في وضع الثوابت الإسلامية العشر مع سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وعدد من كبار رجال الفكر الإسلامي والوطني- وشارك في تأسيس المكتب الدائم للمؤسّسات الدرزية عام 1982 وكان أحد أركانه العاملين بفعالية ونشاط.
مؤلَّفاته
    • “ديوان الشيخ أحمد تقي الدين – شاعر القضاة وقاضي الشعراء”، الطبعة الأولى 1967، والطبعة الثانية 1982.
    • “قضاء الموحدين الدروز في ماضيه وحاضره” 1979.
    • “الأحوال الشخصية عند الدروز وأوجه التباين مع السُنَّة والشيعة مصدراً واجتهاداً”.
    • “الوصيّة والميراث عند الموحّدين الدروز ومئة مثال في تقسيم الإرث”، صدر عام 1983. وشارك في تأليفه قاضي المذهب يومذاك الشيخ مرسل نص.

وللشيخ حليم عدد من المحاضرات والندوات في مواضيع مختلفة منها في الأحوال الشخصية، وتنظيم الأسرة، والقضاء بوجه عام، وتنظيم القضاء المذهبي الدرزي، ومنها حول قضايا وطنية مُلِحّة، وقد ألقيت هذه المحاضرات والندوات في مؤسسات تربوية وروابط اجتماعية ومؤتمرات دولية داخل لبنان وخارجه. وله أحاديث ومقابلات إذاعية وتلفزيونية وصحفية متنوعة، عالج في بعضها قضايا اجتماعية، وتطرَّق في بعضها الآخر إلى قضايا وطنية، ورؤىً مستقبلية. وفي الأشهر الأخيرة قبل استشهاده، كانت له تصريحات صحفية يومية، أدلى من خلالها برأيه، بصراحة ووضوح واعتدال، وبموضوعية رصينة، بعيداً عن التشنُّج الطائفي، مُقوِّماً الأمور بمنظار القاضي العادل والوطني المخلص النزيه.

الشيخ حليم تقي الدين إلى جانب مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، السيد حسين الحسيني رأيس مجلس النواب، الدكتور سليم الحص رئيس مجلس الوزراء ورؤساء وزارات ووزراء سابقين
تنظيم القضاء المذهبي

عندما تسلَّم الشيخ حليم تقي الدين القضاء المذهبي الدرزي عام 1968 كانت السجلّات في بيوت القضاة، فأكَبّ على تنظيم القضاء، يعمل فيه ليلاً نهاراً. وبعد سنتين أُصيب بنوبة قلبية، بسبب الإرهاق والجهد والسهر والعطاء في ميدان التنظيم، حتى غدا القضاء المذهبي الدرزي بشهادة عدد كبير من المحامين والقضاة اللبنانيين من أرقى المحاكم المذهبية في لبنان والعالم العربي. حتى أنّ بعضهم تمنَّى لو كان القضاء العدلي كالقضاء الدرزي. كان في أحكامه ينسى كلَّ من حوله لدى تصفّحه الأوراق المعدّة للدرس. حتى إذا فرغ من دراستها كتب الحكم بكل ضمير حيّ، لا صديق ولا قريب يعرف سبيل الوساطة إليه، كان يقول: “أنا لم أُعطِكم شيئاً من عندي، الحقُّ مُلْكُكم أنتم”. أحبّ رسالة القضاء وأكبرَها إيماناً وثقة، إيماناً بالله وثقة بالنفس، كما أحبَّ رسالة القاضي وأكبرها عدلاً وإنصافاً، عدلاً مقروناً بالقناعة وإنصافاً مقروناً بالمساواة. وكما قال ذات مرة رحمه الله لدى سؤاله عن مشاعر القاضي وهو يقضي بين الناس: “إنّ من أولى واجبات القاضي، العُصمة في ضميره فإذا تحقّقت هذه العُصمة كان مثالاً وقدوة بين الناس، وفي إيماني أضاف: “إنّ المساواة بين الناس بالقانون، هي روح الحقّ ومُقتضى العدل، وإنّ المساواة بينهم بالمحاكمات، هي روح القانون ومُقتضى الشريعة.

مؤلَّفاته القضائية

بعد أن انتهى من عملية تنظيم القضاء واطمأن إلى استمراره بقضاته وموظّفيه، شرع في التأليف في موضوعات من صميم عمل القضاء المذهبي، وكانت غايته من ذلك تسجيل التاريخ وحفظ التراث. وأوّل ما كتبه في هذا المجال: “قضاء الموحِّدين الدروز” وهو من أهم المؤلفات في تاريخ القضاء المذهبي وأدب القاضي. جمع في هذا الكتاب الكثير عن تاريخ القضاء الدرزي وتطوره ورجالاته، آخذاً بعين الاعتبار مروره بمراحل زمنية كان خلالها قضاء متميِّزاً في تقاليده وسلوكه. استند فيها إلى اجتهادات المذهب في الأحوال الشخصية، وبخاصة في الزواج من جانب وحدانية الزوجة وفي الطلاق وواجب المساواة بين الرجل والمرأة، وفي الميراث وتقسيمه حسب مشيئة المُوصي. والمؤلف يذكر في معرض شرحه لأهداف الكتاب “إننا أردنا من هذا المؤلَّف إعطاء المثال في أنَّ هذا القضاء ما يزال مستمرَّاً في نهجه وسلوكه من حيث تحقيق العدالة بالاستناد إلى العلم والقانون بالإضافة إلى الاقتناع والضمير وهذه أكثر المزايا توافقاً مع مهمّة القضاء وتاريخ هذا القضاء.

وكتب الشيخ حليم أيضاً عن الأحوال الشخصية الدرزية ومقارنتها مع المذاهب الإسلامية الأخرى، وذلك لتعريف الدروز بنظام الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، وواجبات الموصى لهم وواجبات المورِّث وحقوق الوُرَثة، ولتعريف رجال الفقه والقانون من قضاة ومحامين وطلاب حقوق بمصدر الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، فهو مصدر إسلامي في أصله الديني، يتَّخذ من اجتهادات المذهب أحكامه الخاصة التي تبقى متَّصلة بأصله وعائدة إليه مع اجتهاد متطوِّر.

مواقفه التقدّمية والإصلاحية

كان في كل ما يؤول إلى المجتمع العربي أُسرةً وأفراداً مُصلحاً اجتماعياً من الدرجة العالية، وكان النصيب الأكبر لجهده واجتهاده في مصلحة وخير المرأة الشرقية بصورة عامة والمرأة الدرزية بصورة خاصة.

واستناداً لروح القانون ونصّه الصادر في 24 شباط 1948 ومبادئ العدل والإنصاف، أصبحت المرأة الدرزية ومن خلال عمل القضاء الدرزي وممارساته واجتهاداته متساوية في حقوقها وواجباتها مع الرجل، فبيدِها أمر الطلاق، كما بيد الرجل، تَطْلُب التفريق منه، كلَّ مرة يُسيء إليها بقصد إيقاع الضّرر بها. وحقوق المرأة الدرزية لم تَعُد مقتصرة على ما يكتب لها في صداقها المؤجَّل عند طلب التفريق منها. فحقوقها تُقاس بمقياس ما يلحق بها من ضرر مادي وأدبي وهذه القواعد القانونية والأخلاقية مُستمَدَّة من شرح الإمام السيد قدس الله سره الذي يُوْلي المرأة الموحِّدة جميع حقوقها. والشيخ حليم كان في كل المناسبات، وبالنظر إلى حريّة الإيصاء عند الموحدين الدروز الصّرخة المُدَوِّية من أجل إنصاف المرأة الدرزية في تَرِكة زوجها ووالدها عند الإيصاء.

مواقفه الوطنيّة والإسلاميّة

خاض الشيخ حليم تقي الدين مُواجهات ومناقشات متعدّدة ومتنوّعة بشأن الإصلاح السياسي والنظام الطائفي والامتيازات، وكان له دور كبير في الرَّد على الآراء الفاشية ومُخطَّطات التسلُّط والهيمنة. وكانت مساهمته في وضع “الثوابت الإسلامية العشر” وفي الاحتفالات المُشتركة للطوائف الإسلامية جزءاً من عمله الجاد لتوحيد كلمة المُسلمين ونُصرة الحَق. فبتاريخ 21/9/1983 اختتم اللقاء الإسلامي الموسّع الذي عُقِد في دار الفتوى وصدر عنه بيان بثوابت الموقف الإسلامي. حضر اللقاء مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ورئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين. والرؤساء: عادل عسيران، وصائب سلام، وسليم الحص، وحسين الحُسيني والوزير السابق سامي يونس. حذَّر البيان الذي أذاعه شمس الدين من الخطر الذي يشعر به المسلمون نتيجة السياسات والمواقف والممارسات الطائفية والفئوية ومحاولات الهيمنة الحزبية (الكتائبية) على الدولة وإداراتها ومؤسساتها، من دون أن تحزم السّلطة أمرها أو أن تُفيد محاولات النّصح والتحذير من عاقبة هذا النهج في وجودها في منطقة وغيابها في منطقة، وممارسة السلطة بأسلوب في منطقة وبأسلوب مُغاير في منطقة أخرى. وأكّد على وجوب تحقيق الذاتية الوطنية الصادقة وتعزيزها، وحدّد ثوابت الموقف الإسلامي بلبنان وطناً نهائياً بحدوده الدولية. سيِّداً، حرَّاً، مستقلاً، عربيّاً، مُنفتحاً على العالم ولجميع أبنائه، لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات ومبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. التزام النظام الاقتصادي الحرّ، والإنماء الاقتصادي والاجتماعي. إعطاء القضايا الاجتماعية حقَّها الكامل في العناية لإزالة التفاوت بين المناطق والفئات.

التمسّك بلبنان متلازم مع التمسّك بوحدة غير منقوصة، ورفض أي شكل من أشكال اللامركزية السياسية، وترحيب باللامركزية الإدارية. إلغاء الطائفية السياسية بكل وجوهها. ورفض كل ما يتعارض مع الشرعية، والإقرار بحقّ المهجرين منذ بداية أحداث 1975 بالعودة إلى مساكنهم ومناطقهم والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأمين انسحاب القوات غير اللبنانية وفق قرار الأمن مع رفض أيّة محاولة لفرض معاهدة صلح أو تطبيق علاقات مع إسرائيل. وشَكَّل اللقاء الإسلامي الموسّع لَجنة من خالد وشمس الدين وتقي الدين لمواصلة المساعي في شأني الجبل وإقليم الخروب اللذين يبعثان على القلق الشديد.
وفي الثامن والتاسع من شهر تموز عام 1983، تواصلت الاتصالات واللقاءات لإقامة صلاة عيد الفطر في باحة الملعب البلدي في الطريق الجديدة فأعلن رئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين أنّه سيشارك في صلاة العيد، وقال في تصريح صحفي: “إنّنا نرى أن الواجب الإيماني والموضوعي، يدعونا للمشاركة في صلاة عيد الفطر المبارك إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وذلك تأكيداً على وحدة الصف الإسلامي سياسياً ووطنياً، وأضاف: إنّها لمناسبة كبيرة في عيد ديني كبير، أن يلتقي المسلمون إيماناً ومحبة وتسامُحاً في صلاة هذا العيد المبارك، إنني أتمنى توحيد موعد إقامة هذه الصلاة الدينية المباركة بين المذاهب الإسلامية الثلاث، السُنّة والشيعة والدروز، وأن يكون هذا التوحيد مُنطلقاً مستمرَّاً في هذا الاتّجاه الديني السليم.

الشيخ حليم تقي الدين في صلاة الجمعة في الملعب البلدي- بيروت إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشهيد الشيخ حسن خالد، والرئيس سليم الحص، ورؤساء حكومات ووزراء سابقين

وفي الخامس عشر من أيلول 1983 أجرى المُفتي الشيخ حسن خالد اتصالاً هاتفياً برئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين دعاه فيه لحضور صلاة عيد الأضحى، وعلى أثر الاتصال قال الشيخ تَقي الدين: اتّصل بي مفتي الجمهورية ودعاني إلى صلاة عيد الأضحى المبارك، وقد لبيت الدّعوة بكل سرور، إيماناً مني بأن استمرار الصلاة الموحِّدة هو استمرار للموقف الإسلامي المُوَحَّد، فلقد توحدنا إيماناً وعلينا أن نتوحد فكريَّاً ووطنيّاً، وأضاف: إنّ إقليم الخرُّوب هو جزء من قضاء الشوف، كان عبر تاريخه واحداً بين مسلميه ومسيحييه. وإنّ التقاء أهالي إقليم الخروب هو التقاء السُنّة والدروز والموارنة حيث كانوا يشكِّلون عبر تاريخهم وحدة وطنية اجتماعية. وكانوا دائماً على وفاق وتعاون وهم جميعاً من بناة هذه المنطقة التي هي من أساس لبنان، وتأثيرها تأثير وطني في كيان لبنان ووحدته. ونحن نقول للقوات الغريبة من اللبنانيين ومن غير الشوف، الآتية من بيروت ومن الأشرفية وكسروان وغيرها من المناطق، أن تعود إلى قواعدها سالمة، وتترك أهالي إقليم الخروب والشوف الأصليين على تآلفهم وتعاضدهم ووحدتهم. وقال: نحن لم نكن نعرف تفريقاً، لا بين سُنَّة ولا بين شيعة وموارنة ولا بين كاثوليك وأرثوذكس في كلّ من إقليم الخروب والشوف وعاليه. حتى بدأت نغمة حماية المسيحيين، وكأن الحماية تتطلَّب هذه القوات المسلَّحة، مع أنَّ الحماية هي في الألفة والمحبة والصلات الاجتماعية التي كانت قائمة وسائدة في هذه القرى التي جُبِلَت على حب الوطن وحب الآخرين بدون تفريق بين مذهب ومذهب وكلّنا تابعون إلى أديان سماوية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكفانا وكفى المسلَّحين المتطرفين فتنةً بعد فتنة في كل بقعة من بقاع لبنان، وفي كل قرية منه، فليعودوا سالمين إلى قواعدهم في بيروت والأشرفية وكسروان وجرود العاقورة وليدافعوا هناك عن الكرامة التي يتحدثون عنها وعن العنفوان الذي يتباهون به. إذ ليست الكرامة ولا العنفوان في الاعتداء على المناطق الدرزية والدروز، ولا على ممتلكات الدروز ومواقعهم السياسية والوطنية فيها، ولا على إقليم الخروب.
وأكد طوال الفترة التي انقضت على الاتفاق اللبناني الإسرائيلي أن البديل لاتفاق 17 أيار 1983 غير المكتوب هو اتفاق الهدنة 1949 المكتوب. وهو الذي رفض أن يُبنى الوطن على المكاسب الفئوية والامتيازات، ولم يترك مِنْبَراً إلّا وأفاد منه لطرح فكرة الحلّ الديموقراطي للأزمة من غير تشنّج أو تعصّب ذميم، ومن غير تشبث إلَّا بأرض الوطن ووحدته وهُوِّيَّتِه العربية، والتآخي بين بنيه مُصِرَّاً على ضرورة الإصلاح الجذري للنظام السياسي.

لقد عرفه القريب والبعيد في صدقه وثباته، وفي حبه للتآخي الحقيقي بين بني الوطن، في تغليبه سلاح المنطق على سلاح الغرائز.

وآخر تصريح له قبل اغتياله قال فيه: “إنَّ القنابل مهما تنوعت وكثرت فلن تثني هذا الجبل وأهله وقادته والقادة الوطنيين في كلّ لبنان، عن تحقيق الوحدة الوطنية والسيادة لحكم مسؤول وعادل على مثال الأمير فخر الدين المعني الكبير الذي يجب أن يعود من أجل لبنان الجديد، وليس على مثال الحكم الطائفي للأمير بشير الثاني… تكلَّم الشيح حليم تقيِّ الدين بصوت عال، وإلى آخر لحظة من حياته عن انتفاضة الجنوبيين البطولية معلناً أن الجنوب ينتفض ذوداً عن حقِّه المُماثل لحقِّ الجبل في أرضه وكرامته ووجوده.

وآخر الذين زاروه قبل استشهاده، مُهَجَّرو كفرمتَّى واعبَيْه والبنيَّه وبعورته، حيث خاطبهم بقوله: لا يجوز تحميل وِزْر المجزرة هناك إلى الطائفة المارونية، وإنَّما لفئة ضالَّة حاقدة… والذين لم يعرفوا رئيس القضاء المذهبي الدرزي في عمله الرّوحي وفي رعايته لشؤون أبناء الطائفة ومعاملتهم، عرفوه في حرصه على رعاية الوطن كَحَدَقة عينه، فكان قاضياً باسم الشعب كلّه، وكان محامياً عن حقوق الناس الطيّبين والمقهورين في لبنان كلّه، وكان في نشاطاته المتنوِّعة العطاء كشمعة مُنيرة وسط ظلام حالك.

وبعد هذا هو الشهيد الشيخ حليم تقي الدين، وهذه بعض من ملامح سيرته العطرة. رجل كان في مستوى المرحلة، وعبقريٌّ مُتعدّد الميزات والمواهب، راهنَ على لبنان الإنسان فاكتملت في مبادئه وبواعثه التجربة الإنسانية، توحُّداً في الجوهر وتوجُّهاً غيريَّاً، وإيماناً بالعطاء الخَيِّر مقياساً لقيمة الرجال. لم يَخُن يوماً ذاته المتوهجة بروح الحق والعدل، والزاخرة بقيم الحريّة والتّوحيد. فكان دائماً أميناً على المبادئ حريصاً على إيقاع الانسجام بين ما يقول وما يفعل… لم يترك لحظة “الميزان” الذي التزم به ولم يدع لحظة واحدة الرّاية التي حملها، راية وحدة المسلمين ووحدة اللبنانيين وشراكة التاريخ والوطن – على حدّ قوله – بين الدُّروز والموارنة في الجبل… إنَّه وإن غاب عن مسرح نضاله جسداً وطبيعة بشرية، فهو حي بمبادئه السّامية… والمبادئ لا تموت.

“العدالةُ” عندَ أفلاطون

 

تَتَّسِمُ مُحاوَرةُ “الجمهورية”(Politeia -Πολιτεία) بالعُمقِ والدِّقّةِ في طرحها لسؤالَيْن جوهريَيْن: ما هي “العدالة”؟ وهل الحياة العادلة خيرٌ للإنسان أم خلاف ذلك؟ حيث يسعى أفلاطون إلى تعريف “العدالة” (dikaiosyne – δικαιοσύνη)، مستَنِداً إلى مِثال الخير، الذي يُعيننا على فَهْم هذه الفضيلة، معتمداً في ذلك على مبادئه الماورائية والنفسانية والأخلاقية لا سيّما نظريّة “المُثُل”. وما من كتابٍ كان له هذا التأثير الكبير في الفكر الفلسفي والنظريات السياسية بمثل مُحاوَرة “الجمهورية”، حيث يحاور سقراط مختلف الشخصيات حول معنى العدالة وما إذا كان الإنسان العادل سعيداً أكثر من الظالِم، ليستعرض أنواع أنظمة الحُكْم ومدى اتّسامِها بالعدالة أو افتقارها لها لتصل المحاورة في ذروتها إلى مفهوم مدينةٍ مُثلى فاضلة يوطوبياوية “كاليبوليس” (Kallipolis – Καλλίπολις) يحكُمها “مَلِكٌ فيلسوف” قائِمٌ بموجبات العدل.

تطرح المحاورة تساؤلات رئيسية وتسعى للإجابة عنها: هل يُقْدِم الإنسان على التصرُّف بعدالةٍ بدافع الخوف من المجتمع؟ أو خشية عقابٍ إِلَهي؟ أم أنّه يسعى إلى “العدالة” بعيداً عن الخوف أو الرجاء لكونها خَيراً في حدّ ذاتها؟ ينبري أفلاطون إلى تعريف “العدالة” في جمهوريّته هادفاً إلى إثبات أنّ “العدالة” هي فضيلة تستحقّ أنْ تُطلب لذاتها وأنّ ثمة ما يناظرها تناغماً وتوازناً في قوى النفس الثلاث. وتأتي عبقرية أفلاطون وسموّه الفكري والرُّوحي في طرحه لحلٍّ أمثل، وذلك بتعريفه لـ “العدالة” بأنّها متماثلة مع سيكولوجية الإنسان، أي مع قوى النفس البشرية، في مقاربة “نفسانية-اجتماعية”(psycho-social) بل حتى “نفسانية-سياسية”(psycho-political).

«العدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ مَلِكٍ فيلسوف»

العدالة بين المدينة والفرد

من “الفصل الأول” وحتى “الفصل الخامس” من المُحاوَرة، ومكان أحداثها هو ميناء “بيرايوس” (Piraeus) بالقرب من أثينا، نجد كيف يسعى محاوِرو سقراط، وهم غلاوكون (Glaucon)، وبوليمارخوس (Polemarchus)، وسيفالوس (Cephalus)، وثراسيماخوس (Thrasymachus)، وأديمانتوس (Adeimantus) إلى تعريف “العدالة” كلٌّ من وجهة نظره. وتتضارب الآراء ما بين كونها “ليست سوى مصلحة الأقوى أو فن مَنْح الخير للأصدقاء والشر للأعداء”، إلى اعتبارها “مُجرّد ما نملك” أو حتى كونها “عقداً اجتماعياً يَقِي من الظُلم”، أو “خوفاً من العقاب”،فضلاً عن تساؤلات حول ما إذا كانت العدالة مرغوبة في ذاتها أو لأجل نتائجها.

العدالة.. صحة النَّفْس بهُدَى العقل

بين الحديث عن العدالة في “المدينة” والعدالة في نفس”الفرد” يتدخَّل سقراط. وبعدما يوصي بوجوب التحلِّي بالفضائل الأربع: العدالة والحكمة والشجاعة والحِلْم، مؤكِّداً بأنّ “العدالة” تصقل الفضائل الأساسية الثلاث الأخرى، ولعلّها أم الفضائل عنده، وهي ثمرة نَفْسٍ حَسَنة الانتظام والتناغُم بالفضائل، يرى أنّ الحكمة وجبَ أنْ تكون بين الحُكَّام، والشجاعة بين المحاربين، والحِلْم بين جميع فئات “المدينة الدولة”، وبالتالي تتم “العدالة” فيها،حيث تقوم كلّ فئة بأداء دورها الخاص بها من دون أنْ تتدخَّل مع الفئتَين الأخريَين. ويُجادِل بأنّ النفس المتَّزِنَة بقِواها غير المُنقَسِمة على نفسها سيكولوجياً لا تعيش التناقض بين قِواها العقليّة والغَضَبيَة والشَّهَويّة بل الانسجام والتناغم، وبالتالي تكون نَفْساً عادلة تماماً كشأن “المدينة” بفضائل فئاتها الثلاث.

وبالتالي فإنّ الإنسان الحكيم العادل بالنسبة إلى سقراط هو ذلك الذي يحكُمه الجزء العقلاني من النفس الذي يُدرِك ما هو خيرٌ لكلّ الأجزاء وللنفس ككلّ.ويخلص إلى القول: “إنّ النفسَ إذا كانت في نظامٍ صحيح بين قِواها فهي عادلة، وبالتالي تكون طبيعية. إذ إنّ العدالة هي صحّة النفس”.

إذا تخفّينا هل نعدل؟

يسأل غلاوكون وأديمانتوس سقراط: هل العادِل، الذي يراه الناس ظلوماً، أكثر سعادة من الظالم الذي يُخفي ظلمه ويراه الناس عادلاً؟ يُجيب سقراط مشدِّداً على القيمة الداخلية الجوهرية للحياة العادلة وأنّ العادل بالتالي أكثر سعادة من الظالم.ويدعم غلاوكون فكرته بلجوئه إلى ما يُسمَّى “أسطورة غيغيز” (Legend of Gyges)، وهو رجلٌ اكتشفَ خاتماً يمنحَه قوة التخفِّي. لكنّ غيغيز تمكّن بحسب الأسطورة من إغراء الملكة وقتل الملك والاستيلاء على حُكْم المملكة. والمغزى هو أنّ أي إنسان سواء كان عادلاً أم ظالماً إذا ما تسنّت له فرصة إخفاء ظلمه بسبب تخفِّيه فإنّه “قد يلجأ إلى الظلم ويبتعد عن العدل”. ويحتجُّ غلاوكون لإثبات ذلك بأنّ العلّة الوحيدة التي تمنع النفوس من أنْ تكون ظالمة وتتحلَّى بالعدالة وتتغنّى بها هي الخوفُ من العقاب.

أمّا أديمانتوس فيضيف إلى كلام غلاوكون أنّ الإنسان لا يكون عادلاً إلَّا طمعاً بالمكافأة التي تجنيها العدالة، كالثروة والشَّرَف والسُّمعة والمجد وغيرها، لا لقيمةٍ بحدّ ذاتها في “العدالة”، بل هي بمثابة وسيلة للوصول إلى غاية. وهنا يقود سقراط محاورِيه في نقاشٍ حول “العدالة” في “المدينة” أوّلاً أي على نطاقٍ كبير، من أجل أنْ يُسهِّل لهم رؤية “العدالة” في نفس المرء. ومن ثمّ يُوضِح كيف أنّ تلك الفضائل في “المدينة” تتناظر مع قوى النفس بحسب تشبيه سقراط. وهذا التناظر أو التشابه بين “المدينة الدولة” والنفس البشرية هو مفهوم انفردت به الفلسفة الأفلاطونية التي أضفت عليه بُعداً نفسانياً واجتماعياً وسياسياً..

مخطوطة من القرن الثالث الميلادي ، تحتوي على أجزاء من جمهورية أفلاطون
العدالة تناغمٌ في الجسم السياسي

 

يُلقي أفلاطون الضوءَ في “الجمهورية” بدايةً على المفهومِ الأوَّليّ للعدالة الاجتماعية والسياسية لينتقل بعدها إلى استنباط مفهوم تَمَاثُل تلك العدالة مع “العدالة الفرديّة”، ليتناول من ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع، “العدالة السياسية” كتناغمٍ في جسمٍ سياسي منتظم، ويُقسِّم المجتمع المثالي إلى ثلاث فئات رئيسية. أولاً فئة المُنتِجين، من حِرَفيين وفنانين ومزارعين وغيرهم من أصحاب الصَّنْعَة والحِرَف، ثانياً فئة المحاربين، وثالثاً فئة الحُكَّام. ويكون هذا المجتمع عادلاً حينما تنتظم العلاقة بين فئاته الثلاث بشكلٍ قويم ولا يكون ذلك إلَّا إذا ما التزمت كلّ فئة بدورها المناسب في المجتمع وعلى نحو متناغمٍ ومتوازنٍ مع الفئتَيْن الأُخريَيْن.

فعلى المُنتِج أنْ يقصُر عمله على ما يتأتَّى من مهاراته الحِرَفيّة أو الفنيّة أو الزراعية أو الصناعية أو ما شابه ذلك. أمّا المحاربون فينبغي أنْ يتَّسِموا بالشجاعة والولاء والإيمان بقناعات الحُكَّام والذود عنها، أمّا هؤلاء الحُكَّام فينبغي أنْ يمارسوا الحُكْم بما فُضِّلوا على غيرهم من رجاحة العقل وسِعَة الأُفق والاتّزان النفسي وصولاً إلى حُبّ الحكمة والحُكْم من خلال ضياء هُدَاها، وبالتالي تصبح “العدالة” هاهنا تخصُّصية، أي كلٌّ يعمل باختصاصه وضمن نطاق دوره الاجتماعي والسياسي المؤهَّل له من دون التدخُّل في أدوار الآخرين.

العدالة في النفس أولاً!

بالنسبة إلى “العدالة الفرديّة”، يُماثلها أفلاطون في “الفصل الرابع” من “الجمهورية” مع “العدالة السياسية”، فالنفس البشرية بالنسبة إليه تنطوي على ثلاثة أجزاء تتناظر مع الفئات الثلاث للمجتمع. فهناك “الجزء العقلاني”(logistikon – λογιστικόν) من النفس الذي يرنو إلى الحقيقة والتفكُّر الفلسفي والتأمُّل الحِكْمَوي، وثانياً يأتي “الجزء الغَضَبِي الحَماسِي”(thymoeides – θυμοειδές) من النفس الذي يشتهي المجد والشَّرف ويستثير مشاعر الغضب والنَّخوة وحِسّ الكرامة، وثالثاً “الجزء الشَّهَوي”(epithymetikon – ἐπιθυμητικόν) من النفس الذي يشتهي كلّ الأشياء المادية والمقتنيات الدنيوية لا سيّما المال.وتكون هذه الأجزاء الثلاثة في النفس العادلة في حالةٍ تناغُمٍ بين قواها، كشأن التناغم بين فئات المجتمع العادل. فالجزء العقلاني من النفس هو الذي يحكُم، ويدعم حكمه ذلك الجزء الغَضَبي، في حين أنّ الجزء الشَّهَوي يخضع لحُكْم العقل ويتَّبعه حيثما يقوده، تماماً كما تتناغم في المجتمع العادل فئاتُه الثلاث تماثُلاً مع إرادة الحاكم المتَّسِم بالحكمة والعدل.

العدالة غَلَبة للعقلانية

 

وهنا يستفيض أفلاطون مجدّداً في عقد مقارنة بين أجزاء النفس وفئات المجتمع. فكلٌّ من تلك الفئات يهيمن عليها جزءٌ من قوى النفس المنوَّه عنها. فعلى سبيل المثال يهيمن على فئة المُنتِجين القوة الشَّهَويّة التي تدفع هؤلاء إلى جَنِي المال وتحقيق الرفاهية والمتعة. أمّا فئة المحاربين فتُهيمن عليهم القوة الغَضَبيّة التي تتَّسِم بها أرواحهم فتجعلهم شجعاناً مندفعين إقداماً وتوّاقين لتحقيق البطولة ومآثر المجد والسؤدد. في المقابل،تُهيمن على فئة الحُكَّام المَلَكَاتُ العقلية والتَّوقُ إلى التحقُّق بالحكمة، وبالتالي تحقيق “العدالة”. وهنا تتمحور الفصول “الخامس” و”السادس” و”السابع” حول فكرة تهيئة الحُكَّام ليصبحوا “مُلوكاً فلاسفة”!

وحدهم الفلاسفة الذين يُدرِكون مفهوم “المُثُل” (Forms) لا سيّما مِثال الخير، مصدر جميع المُثُل والمعرفة والحقيقة والجمال، بوسعهم أنْ يحكموا بعدالة.فالفلاسفة مُحبِّو الحكمة هم الفئة الوحيدة من البشر التي تمتلك المعرفة والحكمة وبالتالي هم أكثر الناس عدلاً، إذ إنّ نفوسهم تهدف أكثر من الآخرين إلى تحقيق أهداف الجزء العقلاني الغالِب فيها.

موقع أكاديمية أفلاطون الأثري
العدالة غاية مرجوَّة لأجل ذاتها

 

لكن هل تُطلَب “العدالة” لأجل ذاتها أم لِمَا يتأتَّى بفضلها من سعادةٍ أو خير؟ هذا ما يسعى أفلاطون إلى الإجابة عنه أيضاً في “الفصل التاسع” من “الجمهوريّة”، بجدليّةٍ يخلُص منها إلى أنّ العدل غاية مرجوَّة بحد ذاتها. فبعد استعراض الوضع النفسي لطاغٍ من الطُّغاة المستبدّين يُثبِتُ أنّ الظلم، نقيض “العدالة”، يُعذِّب نفسَ المرء، في حين أنّ النفسَ العادلة سعيدةٌ وسليمةٌ وهادئة ومتَّزِنة.

وحده “الفيلسوف الحكيم” قادرٌ على أنْ يحكُم على ما هو خيرٌ وعدلٌ بين الأنماط الثلاثة من البشر: مُحبِّي المال، ومُحبِّي المجد، ومُحبِّي الحقيقة لأنّه سَمَا في مراقِي الفكر إلى محبّة الخير والجمال والحقيقة، وبالتالي فإنّ السعادة الفلسفية الحقيقية تتمثَّل في الحياة العادلة. لكن ذلك لا يعني أنّ “العدالة” مرغوبة من أجل نتائجها والمُتع المترتِّبة عنها، بل إنّ مرغوبية “العدالة” تتّصل بالعلاقة الوطيدة الضمنيّة بين الحياة العادلة والمُثُل العليا في عالم العقل حيث وحده الإنسان العادل الحكيم يقتدي بمُثل الخير والاتّزان والعدالة وتطبيقها في حياته، ومن ثمّ تنعكس تلك من الفرد على المجتمع.

وهنا كالعادة تترابط الصورُ المجازية لدى أفلاطون كَدُرَرٍ متَّصِلة ذات ربطٍ منطقي: عربة النفس، والشمس، والخط، والكهف، وسُلَّم الحُبّ مع الفضائل العليا من خير وحق وجمال وحب وسعادة وعدالة، وصولاً إلى التناظر ما بين أجزاء النفس الثلاثة وفئات المجتمع الثلاث.

المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة.

“المَلِك الفيلسوف”.. هو الحل!

 

بين الفصلَين “السادس” و”السابع” يتناول أفلاطون مفهوم “المَلِك الفيلسوف”. ويتمحور الحديث حول “المدينة المثالية” التي يحكُمها فيلسوفٌ حقيقي يُحدِثُ تناغُماً وتعاوناً بين جميع مواطنيها عَدلاً وقسطاً وإنصافاً، وعقلاً وحكمةً وإرشاداً. وهذا “المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة، وقد اكتسب فضائله بالتعليم والتأمُّل الحكموي في مِثال الخير الذي يُضِيء وجدانَه تماماً كما يُضِيء النورُ معالمَ الأشياء. ويقول جملته الشهيرة “يَنبغي أنْ يُصبحَ الفلاسفةُ مُلوكاً، أو أنّ المُلوكَ يَنبغي أنْ يَتثقّفوا فلسفياً” فتزول تعاسة الدول والبشر!

ويتضمّن تثقيفُ “المَلِكِ الفيلسوف” الحكمةَ والفلسفة والهندسة والرياضيات وحتى الموسيقى لتهذيب النفس، والتدريبَ الجسدي والعسكري. ويتعلّم الفلسفةَ لمدّة خمس سنوات ومن ثمّ يتدرَّب على فن الجدل “الدايالكتيك”، إلى أنْ يتدرَّب على القيادة الحكيمة العادلة ليُخرِج الناس من ظلمة “الكهف” إلى رحاب النور، بفضل وعيه التام لمِثال الخير ومحبّة الحكمة.

“سفينة الدولة” والربّان الحكيم!

دعماً لهذا المفهوم المثالي، يُورِد أفلاطون هنا على لسان سقراط القصةَ الرمزية “سفينة الدولة”، حيث يُشبِّه الحُكْمَ بسفينةٍ رُبَّانُها مَلَّاحٌ حكيمٌ متبصِّرٌ وعارِفٌ بمواقعِ النجوم، وصاحبُها يفتقد إلى بُعد النظر، وبحّارتُها ديماغوجيون، وركَّابُها سياسيون لا يعلمون شيئاً عن الملاحة وطُرقها الآمنة وفنّ الإبحار بها وسط الغياهب والأمواج المتلاطمة، بل وحده ذلك الملّاحُ العَالِم هو مَن يصل بها بفضلِ حكمتِه إلى برّ الأمان، وذلك في إشارةٍ إلى “المَلِك الفيلسوف” وحُكْمِه المِثالي.

حرض السيبيديس الأوليغارشية على الانقلاب من خلال الوعد بدعم فارسي لأثينا إذا تم الإطاحة بالديمقراطية.
النقيض..تيموقراطية وأوليغارشية وديموقراطية واستبداد!

من أجل الإضاءة على مفهوم العدالة لدى “الفيلسوف الملك”، يُناقِش أفلاطون في “الفصل الثامن” إلى آخر “الجمهورية” وعلى لسان سقراط أنظمة الحُكْم الظالمة الأربعة: “التيموقراطية”(timocracy)، و”الأوليغارشية”(oligarchy)، و”الديموقراطية”(democracy)، و”الطُّغيان” أو الاستبداد(tyranny). والمجتمع يبدأ من أرستوقراطيةٍ راقية تنحدر إلى أوليغارشية التي تنحدر بدورها إلى ديموقراطية ومن ثم إلى أسفل دَرَك الطُّغيان الأكثر ظلماً. والحل البديل هو نظامٌ أرستوقراطيٌّ فلسفيّ حكموي، على رأسه “ملكٌ فيلسوف”، وحُكْمٌ تطغَى عليه محبّة الحكمة. ففي الحُكْم “التيموقراطي”، يُهيمن ذلك الجزء الغَضَبي في النفس، ويشتمل على محارِبين أو قادة كبار يهوَوْن المجد والشَّرَف والظَّفَر وامتلاك المقتنيات، وخيرُ مثالٍ عليه هو مدينة “أسبارطة”. وحينما يطغَى حُبّ جَمْع الثروة على الشَّرَف والمجد ينحدر هذا الحُكْم إلى “أوليغارشية”، الذي يُهيمن عليه أصحاب الرغبة الشديدة بالثراء، فتصبح الطبقة الحاكمة من الأثرياء والأغنياء والمستأثرين بالأموال، فيتَّسِع الفارق بين الأغنياء والفقراء ليبلغ ذروته بثورةٍ من الطبقة المسحوقة التي تسعى إلى إنشاء ديموقراطية.

ومن ثمّ تأتي “الديموقراطية” التي تنشد أقصى حرّية ومساواة بين الشعب لكن سرعان ما تُهيمن عليها الرغبة الدنيوية المادية بطريقةٍ غير مُنتظمة أو مقيَّدة تفتقد إلى الحكمة والعقلانية. ومثل هذه الشَّعبوية في الحُكْم الديموقراطي تُفضِي إلى حُكْم غوغاء يخشون الطبقات السابقة، وهذا ما يغتنمه “الديموغاجيون” للسيطرة على السُّلطة بحُكْمٍ طُغياني. ونصل إلى الحُكْم “الطُّغياني” حيث يصبح الشعب والدولة عبيداً لطاغٍ مستبدّ يستخدم قوته لإقصاء ذوي العقل والنَّخوة لكي تتسنَّى له السيطرة على السُّلطة من دون منازِع. كما أنّه يستحدث حروباً من أجل ترسيخ مكانته كقائد. ولهذا السبب يعتبر أفلاطون أنّ الطُّغيان أو الاستبداد هو الحُكْم الأكثر ظلماً وتغييباً للعدالة على الإطلاق.

السُّلطةُ تُفسِدُ النفسَ العادلة

عَوْدٌ على بدء، يُقارِن أفلاطون على لسان سقراط بين هذه الأنظمة وقِوى النفس لا سيّما في “الفصل التاسع”.ويشير إلى ميل البشر إلى أنْ تُفسِدهم السُّلطة والقوة فينحدرون تقهقراً في أنواع أنظمة الحُكْم تماشياً مع القِوى المضطربة لنفوسهم. فمن النظام الطُّغياني لـ “المدينة” ينتقل سقراط إلى المَنحَى الطُّغياني للنفس البشرية وبالتالي يُجيب على الجَدَل الأول لمحاوِره ثراسيماخوس في “الفصل الأول” الذي ادَّعَى أنّ الإنسان الظالم المفتقد للعدل، أي الطَّاغِي، ينعَمُ بحياةٍ أفضل من الرجل العادل، أي “المَلِك الفيلسوف”. ويؤكّد سقراط أنّ الطَّاغِي عَبدٌ لشهواته فيما هو سيّدٌ فحسب على مَنْ بإمكانه أنْ يستعبده. وبالتالي فإنّ الطَّاغِي يفتقد إلى الحرّية والسعادة بل هو الأكثر تعاسة، ويُشدِّد على عذابات الطَّاغِي المُستَبِّد وآلامِه وحياته المُجهِدَة بدنيّاً وفكريّاً على نقيض “المَلِك الفيلسوف” المُحِبّ للحكمة والحقيقة، إذ إنّ الطاغي لا يذوق طعمَ الحرّية الحقَّة أو الصداقة الراقية ولا يسعَهُ أنْ يحكُم بعدلٍ لأنّه لا يدرك مِثال الخير أو الحق أو الجمال.في المقابل فإنّ النفسَ المُحِبَّة للحكمة أكثر تهيُّؤاً للحُكْم العادل من خلال العقل، وهو ما يجعل الحكمة أفضل من المجد والشَّرَف والرغبة بالمال والسيطرة، وبالتالي فإذا ما قادَت الحكمةُ النفسَ البشرية أو “المدينةَ” فتصل بها إلى برّ العدالة والسعادة على نقيض الطُّغيان. وبذلك يكون سقراط قد فنَّدَ جَدَلَ ثراسيماخوس ليُثبِت أنّ الحكيمَ العادلَ هو مباركٌ، ومباركةٌ الأرض التي يحكُمها!.

خاتمة

إنّ التشبيه بين “النفسِ العادلة” و”المدينة العادلة” يُمثِّل اللِّبنَة الأساس في نظرية أفلاطون حول “العدالة”.فالعدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ ملكٍ فيلسوف! فهل لهذا القول من تأثيرٍ في أيامنا هذه بعد ألفين وخمسمائة سنة من كتابته؟ هذا ما ستُبديه الأيامُ إذا ما تنامى الوعي العقلاني، فكريّاً وسياسيّاً، على هُدى أفلاطون!


المراجع

  1. The Republic by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press. An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
  3. Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
  4. Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press.(1979).
  5. Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
  6. Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press. (1981).
  7. Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
  8. Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
  9. Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).

الشّـيخ نجيب علم الدين

إنّ عالـم الشيخ نجيـب علـم الـدّين، لـم يكـن يخشـى تيـهاً ولا ضياعاً. فنهجـه إنّ العقـل هـو مـن البدايات واللاّنهايات، عـقـل طحنته التجـارب فأثقـلتـه وصقـلتـه، لتجـيء أعماله تـرجمة لمسيرة حياتـه، مـن حيث ارتكازها على خـطّ بيـاني قـويـم. إذ تكـوَّن مفهومه الوطني على ضوء ثقافته واختباره العلمي والعملي، ونتيجة لصفاء عاطفته وأصالة مواطنيّته التي جعلت مفهـوم الوطنيّة يـرتقي في نفسـه إلى حـدّ جعلـه يتحـرّر مـن رِبقـة الطائفية والمذهبية، والترفّـع عـن الصغائر التي لا تـزال تقـوّض مقـوّمات الحيـاة الاجتماعية والعامّـه في بـلادنا.

مولده

وُلـد الشـيخ نجيـب علـم الـدّين في بلـدة بعقلين في الشوف عـام 1909. والـده القاضي سليـم علـم الـدين، ووالدته وداد علـم الـدين. تلقّى دروسه الابتدائية والتكميلية والثانوية في مـدارس بعقلين. انتقل بعـدها إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وتخـرّج منها سنة 1928، حاملاً شهادة بكالوريوس في الهندسة والرياضيات. بعـد ذلـك انتسـب إلى جامعة أكسـتر في مقاطعة ديـفـون في العاصمـة البريطانية لنـدن، بموجب منحـة دراسية مـن مؤسّسة British Council حيث أتـمّ الدراسات العليـا وحصل على شهادة ماجستير في أنظمـة التعليم الإنكليزي والرياضيات.

الحياة المهنية

عـد تخـرّجه مـن الجامعة الأميركية في بيروت، عمـل الشيخ نجيب في تلك الجامعة، بتـدريس الطلاب العـرب. وفي العـام 1933، غـادر لبنان إلى إمـارة شـرقي الأردن، وعمـل بتـدريس الهندسة والرياضيات في الجامعة الأردنية. التحق بعـدها بوزارة التربية الأردنية وعيّـن بوظيفة مفتّـش. فكان يتنـقـّل بين مختلـف مـدارس الإمارة لتقييـم أحوالها وسـبل تطوّرها. ونظـراً لحسـن إدارته وجـدّيته وتفانيه في العمـل والتنظيـم، تـمّ تعيينـه مفتّـشاً عـامّاً للجمـارك والصناعة والتجـارة. واسـتمرّ في التقـدّم والتـرقّي الـوظيفي. فعيّـن مفتّـشاّ في إدارات حـكومية عـديدة. وفي العـام 1940، تولّى مهام رئيس سكرتارية مجلس الوزراء الأردني، في عهـد رئيس مجلس الـوزراء تـوفيق باشا أبـو الهـدى، ورافقه إلى لنـدن، بصفة سكرتيـر للـوفـد الأردني لمؤتمـر الطاولة المستديرة، الذي انعقـد في لندن لبحث قضية فلسطين. كمـا ربطتـه علاقـة صـداقة مـع الأميـر عبـد اللـه بـن الحسين، أميـر شـرقي الأردن الذي منحه وسام النهضة الأردني، وعلاقة صداقة أيضا مع وجهاء العشائر والقادة في الإمارة.

في العـام 1942، عـاد إلى لبنان للعمـل في شـركة مـوارد الشرق الأدنى، التي كان قـد أنشـأها مـع عبـد الله سلام وشارل سـعـد وبإدارة شـقيقه سليمان، وقـد حقّقـت هـذه الشركة نجـاحاً كبيراً فحـاز نجيب وشقيقه على وسام بريطاني رفيـع تقـديرًا لهمـا. وأسّـس أيضاً شركة التحسينات الزراعية. ومـن نجـاح إلى آخـر. عُيّـن نجيب في العام 1951، في المجلس الاقتصادي، ومَثّل لبنان في مـؤتمرات دوليه عـديدة. وانتُخب عضواً ثـمّ رئيساً للمجلس الوطني لإنمـاء السياحة وعضواً في المنظمة الدولية للطيران “إيـاتا”.

شـركة طيـران الشـرق الأوسـط

في العـام 1951، انتخـب الشيخ نجيب علم الدّين مـديراً عـاماً لشركة طيران الشرق الأوسـط (MILLE EAST AIR LINES) M.E.A. ومـن ثـم رئيساً لمجلس إدارتها، والتي كانت قـد تأسست في العام 1945. فعمل على تعـزيـز وتطوير الشركة، التي أصبحت في سنوات قليلة واحـدة من كبريات شركات الطيران في العالم، بفعـل أسطولها وطاقمها، ومحطّاتها العـديدة في معظـم دول العالـم. واستمرّ في منصبه حتى العـام 1977، ومن ثـمّ رئيساً فخريّاً للشركة مـدى الحياة. وتُعتَبر فتـرة إدارته لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجويّة اللبنانية، بالفتـرة الذهبيـة.

كانت أسهـم شركة طيران الشرق الأوسط مملوكة من قبل مساهمين لبنانيين، من بينهم رئيس الحكومة الأسبق صائب سلام والسيد فـوزي الحص وغيرهما وشركة الطيران الأميركية “بان أميركان Pan Am . فقامت شركة الخطوط الجوية البريطانية BOA، بتاريخ 21/12/1954، بشراء أسهم شركة بان أميركان مع العلم بأن شركة طيران الشرق الأوسط، تـدين بتاسيسها وتطورها إلى شركة Pan Am، لمـا قـدمته مـن دورات تدريب ومساعدات تقنية أدت إلى تقـدم الشركة وتطورها.

في العام 1955، وصلت شركة طيران الشرق الأوسط إلى قمة نجاحها، حيث تـم شراء طائرات حديثة وتوسعت رحلاتها إلى البلدان العربية وأوروبا. وجرى تأسيس شركة تحت اسم “شركة خـدمات الطائرات في الشرق الأوسط” “MASCO”. هـدف هـذه الشركة، تشجيع بيع الطائرات البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتقديم أعمال الصيانة للطائرات وساعدت شركة الطيران البريطانية BOAC على تدريب الموظفين، وكان الرئيس صائب سلام الرئيس التنفيذي لشركة طيران الشرق الأوسط MEA. فقدم استقالته من هـذا المنصب، بسبب تضارب المواقف السياسية، وتأييـده لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر ورفضه وقوف الإنكليز ضد سياسة عبد الناصر. وعندما حصلت أحداث سنة 1958، في لبنان، توقفت الرحلات، لكن من خلال علاقات الشيخ نجيب مع الإنكليز استطاع الحصول على مساعدات مالية وتقنية، واستمرّت الشركة في العمل.

في نهاية صيف سنة 1952، واجهت شركة طيران الشرق الأوسط، أزمـة سفر الحجاج من بيروت إلى مكّة المكرّمة. حيث تـدفّـق عـدد كبير من الحجاج الأتراك إلى مطار بيروت، بطريقهم إلى المملكة العربية السعودية وافترشوا أرض المطار بانتظار المغادرة. وقـد سرت إشاعة من أحـد الأطباء عن احتمال تفشي أمراض بين الحجاج. ولم يكن أسطول طائرات شركة طيران الشرق الأوسط قادرًا على نقل الحجاج. لكن رئيس الحكومة صائب سلام أصرّ على تأمين نقـل المسافرين حتى لو اضطرّ الأمـر لاستقدام طائرات من خطوط جوية أخرى. لكن هـذا الحـل لم يكن واردًا من الناحية التقنية. فقام الشيخ نجيب علم الدين، بطلب المساعدة من السفير الأميركي في بيروت، فعمل السفير على تكليف القوات العسكرية الأميركية في المنطقة، والتي لديها طائرات عسكرية للنقل، عملت على نقل الحجاج من مطار بيروت إلى مكـة المكرّمة بالتعاون مع شركة طيران الشرق الأوسط، التي قـدّمت جميع مستلزمات السفر وتمّت المغادرة بنجاح. أمّا تكاليف نقل الحجاج فقـد جُعلت على حساب السفير الأميركي في بيروت التي قدّمها السفير إلى الرئيس صائب سلام خلال حفل علني، باسم الجمعية الخيرية الإسلامية.

قـوانيـن الطيـران

بالنّظـرلعدم وجود قانون لتنظيم الطيران المدني في لبنان، كانت هناك صعوبة بإدارة شركة الطيران، ولم تصدر الحكومات المتعاقبة تشريعاً أو سياسة لإدارة الطيران. لذلك عمل الشيخ نجيب على استدعاء خبير إيطالي قام بإيجاد مسوّدة لقانون مدني حـديث للطيران. لكنها بقيت بأدراج مدير عـام الطيران المدني، ولم تبصر النـور.

عندما تولى الشيخ نجيب وزارتي الأشغال العامة والنقل، والبريد والبـرق والهاتف. تقـدم باقتراح لتشكيل هيئة عليا للطيران مخـوّلة إتخـاذ القرارات اللآزمة، لتنظيم سياسة وإدارة الطيران. تألفت اللجنه من مـدراء الطيران المدني، التنظيم المدني، والخارجية، والاقتصاد والسياحة، يرأسها وزير الأشغال العامة لكنها لـم تُعـطَ صلاحية اتخاذ القرارات فكانت تقوم بتقديـم الاقتراحات إلى المراجع المختصة، لكـن لـم يـؤخـذ بـها.

في العام 1955، وبموجب نظام التجارة الحـرّة في لبنان، عملت الحكومة اللبنانيّة على منـح ترخيص لشركتي طيران: الخطوط الجويّة عبر المتوسط TMA للشحـن، وليـا LIA لنقل الركاب. لكن في العام 1966، وقعت شركة ليـا تحت عجـز مالي لعـدم قدرتها على الاستمرار. وبناء لطلب الحكومة اللبنانية، ضمّت شركة طيران الشرق الأوسط موظفي شركة ليـا إلى موظفيها، ودفعت لهم رواتبهم كاملة بعـد تصفيتها. ووعـدت الحكومة اللبنانية بدفع تعويض إلى شركة MEA، لقـاء ذلك، وقـد أرسل وزير المال كتاباً إلى رئاسة مجلس الوزراء بهـذا الشأن لكن الوعـد لـم ينفّـذ.

أمّـا شركة TMA، فقـد تحوّلت إلى شركة شحن منـذ إنشائها وحصلت على عقـود عمل حـول العـالم، ولكنها توقفت عن العمل بسبب الحرب الأهلية التي حصلت في لبنان اعتبارا من سنة 1975. ولم تحصل هـذه الشركة من الحكومة اللبنانية على مساعدات لمتابعة استمرارها ولكن عندما اشترت مجموعة لبنانية أسهم الشركة، قـدّمت لهم الحكومة مبالغ ماليّـة بقيمة خمسة أضعاف ما طلبه مالكها السابق1.

في شهر تموز عام 1959، طلبت شركة الخطوط الجوية البريطانية BOAC، من شركة طيران الشرق الأوسط زيادة رأس مالها عبر قروض، بحجّة أنّ الشركة البريطانية تتعرض للخسارة. لكن الشيخ نجيب لم يوافـق على هـذا الطلب، لأنه يُوْقع الشركة بالديون. وقـام بإجراء اتصالات ومفاوضات مع أشخاص ومؤسسات مالية لبنانية لجعل شركة طيران الشرق الأوسط شركة لبنانية مئة بالمئة. واستطاع إقناع إدارة بنك إنترا لشـراء 51 بالمئة من أسهم الشركة. والأسهم الباقية بيعت إلى متموّلين لبنانيين. وأصبحت شركة طيران الشرق الأوسط شركة لبنانية.

في العام 1963، جـرت عملية دمـج بين شركتي طيران الشرق الأوسط، (MIDDLE EAST AIR LINES) وشركة الخطوط الجوية اللبنانية (AIR LIBAN) وأصبحت الشركتان شركة واحـدة تحت اسـم “طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية”، وفي فترة الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، من أبـرز شركات الطيران الإقليمية وأكثرها نشاطا باعتمادها على العناصر الشابة مـن الموظفين ذوي الكفاءة، وكان لها السبق في تطـوير أساليب الخـدمة والنقـل. لكن بسـبب حـرب الأيام الستّة (حـزيران 1967)، خسرت الشركة محطـة القـدس، إحـدى أهـم الوجهات التي يقصدها السياح القادمون من أوروبا، ومـن أنحـاء العالم والتي كانت الشركة تسـيّر إليها ثلاث رحلات يومياً2.

في سنة 1963، عُيِّن الشيخ نجيب عضوًا في معهد النقل الجـويّ (ITA)، مقـرّه بلغاريا، واستمر حتى شهر كانون الأول عام 1977. كما انتُخـب عضوا في منظمة اتحاد النقل الجويّ الـدولي (IATA)، وكان في الثامنة والأربعين من عمرة وهو الأصغر سـنًّا بين أعضاء المجموعة. وأعيد انتخابه خمس مـرّات متتاليـة خـلال 15 سـنة.

طائرة مدنية، جرى تفجيرها في أثناء غارة العدو الإسرائيلي على مطار بيروت ليل 28 كانون الأول 1968

الغـارة على مطار بيروت الدولي

بتـاريخ 28 كانون الأول 1968، شـنّ طيران العدو الإسرائيلي غارة على مطار بيروت الدولي، ونـزلت فـرقة كوماندوز إسرائيلية في المطار لمـدة 40 دقيقة، وفجرت 13 طائرة مدنية، تحطمت تحطيما كاملاً وذلك ردّاً على عملية تـفجيـر طائرة ركاب لشـركة العـال الإسـرائيلية، قـام بها في مطار أثينا، عنصران من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

الطائرات المـدمّرة هي: ثماني طائرات لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، وثلاث طائرات لشركة الخطوط الجوية الدولية اللبنانية، وطائرتان لشركة الخطوط الجوية عبر المتوسط. بالإضافة إلى طائرة أخـرى جـرى تفخيخها من قبل الجنود الإسرائيليين، لكنها لم تنفجـر. وكان إجمالي قيمة الطائرات المحطمـة 44 مليون دولاراً أميركيّاً وقـد وافقت شـركة “لـويـد أوف لنـدن” للتـأمين، على دفـع مبلـغ 18 مليون دولاراً منها.
وخـلال مـدّة قصيرة، عـادت شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، لمتابعة رحلاتها مـن وإلى مطار بيروت الدولي، مـن خلال اسـتئجار طائرات.

الشيخ نجيب يحقّـق العدالة الاجتماعية

كانت شركة طيران الشرق الأوسط توظّف الأشخاص في الشركة، على أساس الكفاءة، بعيـداً عن التأثيرات الدينية أو السياسية. ومنـذ العام 1956، بـدأت الشركة بتأمين الضمان الصحي لجميع موظفيها.

ثـمّ أضافت إلى ذلك تطبيب الأسنان. ومنـذ العام 1962، بـدأت الشركة بمنـح موظفيها مساعدات مدرسية لمساعدتهم في تعليم أبنائهم وتسليفهم قـروضاً دون فـوائد. وفي العام 1964، عملت الشركة على إعطاء عشرين بالمئة من أرباحها للعمال والموظفين في الشركة تقـديراً لجهودهم. كما قـررت طـرح 5% مـن أسهم الشركة وبيعها للموظفين. فشارك نحو 62 % من العمال والموظفين، وقاموا بشراء الأسهم. كما قـررت الشركة أن يعمل موظفوها خمسة أيام في الأسبوع، وأن يعطلـوا يـومين، وهي أول شركة لبنانية قامت بهذا الإجـراء.

بتاريخ التاسع من شهر تشرين الأول عام 1965، وخلال حفل أقامته شركة “طيران الشرق الأوسـط – الخطوط الجوية اللبنانية”، بشأن توزيع المنــح المدرسية السنوية لموظفي الشركة، للمساعدة على تعليم أبنائهم، ألقى الشيخ نجيب علم الدين خطاباً أوضـح فيه نهج الشركة المتّبع لتطبيق العدالة الاجتماعية على موظفيها، وشـرح مفهومه لهـذا المبدأ بقوله: “العدالة الاجتماعية حـقّ لكل مواطن. وهي ليست هِبـَة أو مِنّـة، ولا يسيطر عليها المـنّ والتمنين. ولكن هـذا الحـقّ يجب أن يكتسب بالعمـل والإنتاج والإخلاص والتفاهـم، لا بالضوضاء والغوغائية. وإننا قـد نجحنا بسبب إيماننا وإيمان معظم اللبنانيين بالاقتصاد الحـرّ، وملاءمته لوضعنا اللبناني وأحوالنا الاقتصادية، وإني لأرجـو أن يستمـر هـذا الوضع في لبنان، وأن تـدعمه عـدالة اجتماعية تساندها الدولة. ويدعمها ويؤمن بها جميع أرباب العمل والمتمولين في لبنان. فبـدون تأمين العدالة الاجتماعية للمواطنين جميعاً، لـن نتمكن من المحافظة على اقتصادنا الحـرّ ووضعنا المالي السليم. وإنّ السبيل الأقـوم، هـو تطبيق العدالة الاجتماعية، وضروري أن يرافـق هـذا التـدبير، التطبيق العادل لاقتصادنا الحـرّ الذي يكرّس المبادرة الفردية، لأن الاقتصاد الحـرّ والمبادرة الفردية يعمل كلاهما على تحقيق مـا يحتاج إليه لبنان3.

طابع بريدي يصوّر مطار بيروت الدولي عام ١٩٥٢م

اعتمـد الشيخ نجيب سياسة وطنية في التوظيف في الشركة، أي لا يوظّف أشخاصًا أجانب إذا توفّر أشخاص لبنانيون جـديرون بالوظائف الشاغرة. كما أصدر قرارًا يقضي بعـدم تسريح بعض الموظفين من أصحاب الكفاءة، أو قبول استقالاتهم عنـد بلوغهم حـدود السن القانونية، وإبقائهم في الشركة كمستشارين، للاستفادة من خبراتهم. وكان يحث الموظفين والعمال على متابعة التواصل مع الإدارة، لخلق روح التعاون في الشركة. لذلك لـم يحصل إضراب أو خلاف أو شجار بين العمال والإدارة خلال 15 سنـة.

أنشأ الشيخ نجيب في مبنى شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية مقصفاً (Cafeteria)، تقـدّم للموظفين الطعام الصحي وبأسعار رخيصة. كما أنشأ ناديًا رياضيًّا واجتماعيّاً للموظفين.

إن القاعـدة التي بنى عليها الشيخ نجيب علم الدين مخطط العمل في شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، هي اقتناعه الكامل بأن الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، إنمـا يتحـقّق بالتلاحم بين الاقتصاد الحـرّ، الذي ينمـو بالمبادرة الفردية، وبين العدالة الاجتماعية التي تؤمن للعمال مستوى لائقاً، وتوفر لهم من الضمانات ما تبعـدهم عـن القلـق والنقمـة.

لقـد وصفت الصحافة اللبنانية خطاب الشيخ نجيب علم الدين بأنّـه “الخطاب القنبلة”، لخير لبنان والعالم العربي. ونشرت سبع عشرة جريدة يومية خطابه كاملاً على صفحاتها الأولى. كما نشرت الصحف على مـدى أسبوعين، لمـا يـزيد عن أربعين مقالاً، لنواب ووزراء وإعلاميين وأدبـاء ورجال قانون، بالإضافة إلى نقيب الصحافة حينذاك الأستاذ عفيف الطيبي. جميعهم يشيدون بخطاب الشيخ نجيب علم الدين، وصرخته الوطنية الجريئة التي أطلقها وأن يكون مثالاً يقتدي بـه جميع أرباب العمل، وأصحاب الشركات. لأنّ ما ذكره عن تطبيق العدالة الاجتماعية، هـو الحـلّ الحـقّ الذي يعمل بـه. لأنه يضمن الاستمرار والازدهار ويوطّـد الاستقـرار في لبنان.

وبمناسبة الاحتفال بعيـد العمال الذي أقامته الشركة في الأول من شهر ايّـار عام 1967، ألقى الشيخ نجيب علم الدين، خطابًا جامعًا وصريحًا في تحديد الاقتصاد الحـر والمبادرة الفردية، وشراكة العامل ورب العمل، ومسانـدة الدولة في تحقيـق المشاريع الإنمائية. وكـرر دعـوته رجال الأعمال والعمال إلى كلمة سواء والتعاون والاحترام المتبادل. في الوصول إلى تأمين العدالة الاجتماعية.

طيران الشرق الأوسط والسياحة اللبنانيّة

لـم تكن شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية شركة تجارية، تسعى بتضخيم أرباحها وزيادة عـدد طائراتها ومضاعفة خطوطها. فإلى جانب هـذا كلّه. كانت هـذه الشركة خيـر سفارة للبنان في بـلدان الاغتراب، فمكاتبها المنتشرة في مختلف عواصم العالم، كانت تبذل الـدعاية للسياحة والاصطياف في لبنان. والنجاح الذي حققتـه، كان بحـد ذاته خيـر دعاية لبلدنا لبنان، وقـدرة أبنائه على تأسيس وإدارة الأعمال البنّاءة المنظّمة.

وكان الشيخ نجيب علم الدين قـد القـى على منبـر “النـدوة اللبنانية” في بيروت، محاضرة كانت على أرفع ما تكون في البيان والأدب، حتى أدهـش حملة الأقلام من رواد النـدوة. أمّـا المحاضرة فكانت عن “الأسس الصحيحة لصناعة سياحيّة لبنانية”، لأن إسهام السياحة في بلدان صغيرة كلبنان، لا يقتصر على ســدّ العجز في ميدان المدفـوعات، بل يسهم بـدوره في معـدّل الدخل والتشغيل ونمـوّ صناعات أخرى، كالمأكولات والمشروبات والملابس والطباعة والنقـل وسواها.

وذكـر أيضاً في محاضرته: إنّ أكثر الصناعات الوطنية في بلدنا تواجه مشكلة صغـر السوق المحلّية. لذلك يمكن للصناعة السياحية أن تصبح الدعامة الرئيسية للاقتصاد اللبناني، فهي الصناعة الوحيدة التي لا تتأثّـر بصغر حجم لبنان، ولا بصغر أسواقه المحليّة. إذ تنفتح أمامها أسواق العالم كلّه، إذا عرفنا أن نبنيها صناعة سياحية لبنانية صحيحة. والدخل السياحي يمتاز بكونه لا ينحصر بطبقة معينة من المواطنين، فهـو يتوزّع على جميع اللبنانيين، كلّ بحسب اشتراكه فيـه.

في السياسـة والـوزارة

النجاحات التي حقّقها الشيخ نجيب علم الدين في أعماله، وبخاصة في شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية. قـرّبته من الحياة السياسيّة، حيث تولّى العـديد من المناصب الـوزارية. فعُيِّن بتاريخ 25 تمـوز سنة 1965، وزيـرا للإرشاد والأنباء والسياحة، في حكومة الرئيس رشيد كرامي. واستمر في منصبة حتى 21 كانون الأول 1965، حيث جرى تبديل حكومي، تـرك بموجبه هـذا المنصب، وتولّى وزارة الأشغال العامّة والنقل، واستمر حتى استقالة الحكومة بتاريخ 4 إيلول 1966. ثـمّ عيّـن مُجـَدّدًا وزيرا للأشغال العامة والنقل، في حكومة الرئيس أمين الحافظ، في 25 نيسان 1973، وهـذه الحكومة كانت من أصحاب الخبرة والاختصاص. لكنها لـم تَمْثُل أمام المجلس النيابي، بسبب الأوضاع السياسية التي كانت سائدة حينذاك. واستقالت بتاريخ 8 تمـوز 1972.

مشغـل الشّـوف في بعقلين

جـمعيّـة بعقـليـن النسائيّـة ومشغـل الشّـوف

في بدايـة ستينيات القرن الماضي، عملت جمعية بعقلين النسائية ومشغل الشوف، وبمساعـدة الشيخ نجيب علم الدين، على شـراء المبنى الحالي للجمعية في بعقليـن، وهو بناء تراثي مؤلف من طبقتين، مبنيّ بالحجر الصخري ومسقوف بالقرميد الأحمـر، وجُعِـلَ مقـرّاً للجمعيـة. وبناء لطلب الشيخ نجيب علم الدّين، بـدأت الجمعيّة والمشغل بصنع كمّيات من قطع المطرّزات والكروشّيه، مثل المناديل وفـوط السفرة، (Napkins)) والقفازات النسائية (Gloves)، وهـذه تصنع من الخيوط بواسطة الإبرة. بالإضافة لقطع أخـرى من الكـنفا والرسم على القماش والكروشية، تُصنع بواسـطة الصنّارة المعقوفة، بألوان وأشكال مختلفة، كانت تسـلّم إلى شـركة الطيران، منها ما يوضع تحت فناجين القهوة وكؤوس الشاي والمرطبات، أثناء تقديم الطعام للمسافرين على متن الطائرات. بالإضافة إلى صناعة ألعاب للأطفال وصواني الضيافة وغيرها من الأشغال اليـدويّة الفنّيـة، وتُقـدَّم جميعها للمسافرين مجّاناً دون مقابل، فكانت هـذه الطريقة تلاقي الاستحسان والوقع الطيّب لدى ركاب الطائرات. وتـؤمـن في الوقت ذاتـه دخـلاً ماليّـا جيّـداً للجمعية وللمشغـل. واستمرّ هـذا التدبير لمـدة طويلة.

كانت جمعية مشغل الشوف الخيري تؤمـن حوالي مئـة وخمسين فرصة عمـل لنساء وفتيات يعملن بصناعة المطرّزات. البعض منهـنّ كانت تعمل بداخل المشغل، والبعض الآخر يعملن في منازلهن، بعـد استلام المواد الأولية من المشغل، ومن ثم إعادتها بعـد تصنيعها. لكن هـذا العـدد تضاءل حاليّاً، كما تضاءل الإنتاج بسبب تضاؤل التسويق والمبيع.

خـلّـة خـازن أو خـلّـة خـازم

تقـع مـزرعة خلّة خازن في منطقة جبل الرَّيحان في قضاء جـزّين، وهي أراض شاسعة متعرّجة، تـقـدّر مساحتها بأكثـر مـن خمسة آلاف دونـم. تغطيها أشجار السنديان المعمّـرة ومختلف أنواع الأشجار الحرجية البـرّية، وأشجار الصنوبـر المثمـرة. وتحوي أنـواعًا عـديدة من الحيوانات البريّة والطيور.
تملّـك الشيخ نجيب علم الدين هـذه المزرعة، وجعلها محميّة طبيعية. فعمل على استصلاح نصف مساحتها وتـم غرسها بمختلف نصوب الأشجار المثمرة، وزراعة الخضار الموسمية على أنواعها، والزهور المختلفة الأنواع والألوان. وأبقى المساحة الباقية أحراجاً. وابتنى فيها منزلاً من ثلاث طبقات، كان يقضي فيـه يومي السبت والأحـد من كل أسبوع وبخاصة في فصل الصيف. كما جرى بناء 21 مسكناً لإقامة العمّال. حيث كان يقيم في المزرعة حوالي ثلاثين عاملاً بصورة دائمة. أمّا خلال موسم القطاف وجني المواسم، فكان يتواجـد في المزرعة ما يـزيد عن سبعين عاملاً، يبيتـون في هـذه المساكن.
يـوجـد في أعلى أراضي المزرعة تلّـة صخرية، جعلها الشيخ نجيب موئلاً لطيور الحجل. ومنع الصيد حفاظًا على هـذا التنـوّع الحيواني. وكان أحـد العمال يقوم بوضع الحَـبّ والماء لغـذاء الطيـور.

كانت هـذه المزرعة تنتج أطنانا من الثمـار كلّ سنة. فخـلال عام 1992، كان إنتاجها مـن ثمـار الإجاص والعنب والزيتون، مـا يـزيـد على مئـة طـن مـن كل نـوع.. أمّـا إنتاج ثمار الـدراق والخـرما والليمون والجـوز، فكان أدنى مـن ذلك بقليل. وفي العام نفـسه تـم بيـع إنتاج ثمار الصنوبر بقيمـة (32000)، اثنين وثلاثين ألف دولار أميركيّ. وكان السيد كريم علم الدين “ابن الشيخ نجيب” يحضر إلى المزرعة بصورة دائمة، للإشراف على الأعمال وتصريـف الإنتاج.
منـذ بـداية صيف سنة 1978، لـم يعـد الشيخ نجيب علم الدين يحضر إلى مـزرعته خلّة خازن، لأن الوضع الأمني في تلك المنطقة، لـم يعـد مستقـرّاً بعـد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وبعـد وفاة الشيخ نجيب، تـم بيـع مزرعة خلة خازن إلى مالكين جـدد. .

كانت مزرعة خلّـة خازن من أشهر المحميات الطبيعية في محافظة الجنوب ولبنان عامّـة، لجهة الغلاف الطبيعي المميّـز، والتنـوّع الأيكولوجي في داخلها، فضلاً عن أنواع الحيوانات البرية والطيور النادرة. وكان الجنوبيون يقولون: “إذا أردت رؤيـة الجنّة أنظر إلى خلّـة خازن”6.
لكن بعـد بيـع المزرعـة، ومنـذ العام 2002، عـمـد بعض المالكين الجـدد إلى إدخال جرافات كبيرة إلى المزرعة، وقام بـقطع الأشجار وحفـر الرمـول وبيعها إلى تجّـار البناء. فقضى بـذلك على مساحات شاسعة مـن الغابات والأشجار الحرجيّة المعمّـرة، وبخاصة أشجار السنديان والصنوبر.

مطار بيروت الدولي تحت القصف الإسرائيلي
عام ١٩٨٣م

أحـداث سـنة 1975

عنـدما بـدأت الحـرب الأهلية في لبنان، اعتبارا من صيف سنة 1975، عمل الشيخ نجيب على نقـل محـرّكات الطائرات الإضافية، وقطع الغيار والمقاعـد والأقمشة، ومعـدات متعـددة أخـرى إلى مطار أورلـي في بـاريـس. كمـا قام بنقـل أمـوال شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية مـن المصارف في بيروت، إلى مصارف في سويسرا. وعمل على تحويلها إلى “الفرنـك الفرنسي والمارك الإلماني”، هـذا التدبير ساعـد على متابعة تأمين رواتب موظفي وعمّـال الشركة عنـدما أقفلت المصارف في لبنان. وفي شهـر حزيران عام 1976، قام بنقل جميع العمليات العائـدة للشركة، من بيروت إلى العاصمة البريطانية لنـدن، ومـن ثـم إلى باريـس.

في العام 1977، قـرّر أن يستقيل مـن منصبه ويتقاعـد، فصـوّت أعضاء مجلس إدارة الشركة بالإجماع، على تنصيبه مـديراً عاماً ومستشاراً فخـريًّا للشركـة مـدى الحياة.

الوزارات والمجالس والهيئات التي شغلها

بالإضافة إلى وظيفتة الأساسية، المدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية ورئيس مجلس إدارتها. شغل الشيخ نجيب علم الـدين المناصب التالية:
– وزيرًا للأشغال العامة والنقل، مـرّتين.
– وزيرًا للبرق والبريد والهاتف.
– وزيرًا للإرشاد والأنباء والسياحة.
– عضوًا في المجلس الاقتصادي.
– عضوًا ثم رئيسًا للمجلس الوطني لإنماء السياحة.
– عضوًا في المنظمة الدولية للطيران (إياتا).
– عضوًا في منظّمة النقل الجوي.
– عضوًا في مجلس إدارة مشروع الليطاني.
– عضوًا في لجنة تنظيم القـرى.
– عضوًا في لجنة إدارة مـرفأ بيروت.
– عضوًا في المجلس الدرزي الأعلى.
– عضوًا في مجلس أمناء الجامعة الأميركية.
– رئيس جمعية متخرّجي الجامعة الأميركيّة

الأوسـمة التي نـالها

نال الشيخ نجيب علم الديـن خلال حياته العملية وعطاءاته أوسـمة عـديدة، نذكـر منها:
– وسام النهضة الأردنـي
– وسام الأرز الوطني اللبناني من رتبة ضابط أكبر.
– وسام الصليب الأكبر من قداسة البابا بولس السادس.
– المدالية الذهبية من اتحاد الطيران الأوروبي.
– وسام النجم الذهبي GOLDEN STAR من اتحاد وكالات السياحة والنقل العربية.
– وسام من مؤسسة COMENDOR OF THE BRITICH EMPAYER. وهو أرفع وسام يناله رجل عربي من ملكة بريطانيا.
– وسام من قبل الأكاديمية الكونية NOVA
PIONEER CHAIR OF WINDROS

الحيـاة العائليّة

تـزوّج الشيخ نجيب علم الدين من سيّـدة سويسرية ولهمـا أربعـة أبناء: مكـرم مواليد عـام 1944، كـريم مواليد عـام 1947، إيـدا مواليد عـام 1947، وريـمـا توفّيـت.

في فتـرة الحـرب الأهلية التي بـدأت في العام 1975، غـادر الشـيخ نجيب لبنان وأقـام في العاصمة البريطانية لنـدن، وأصدر في العام 1977، كتابين باللغة الإنكليزية همـا : “العـاصفة” و “الشيخ الطائـر”، يـروي فيـه سيرة حياته.

في بداية عـام 1995، حاول مجلـس إنماء قضاء الشوف، الذي كان يرأسه الأستاذ نجيب البعيني، إقامة حفـل تكـريمي للشيخ نجيب علم الدين، في مسـقط رأسه بعقلين، أو في الجامعة الأميركية في بيروت، أو في أي مكان آخـر يختاره، وذلك تقـديراً لعطاءاته. لكـن الشيخ نجيب اعتـذر عـن ذلك، وصرّح أن حفلات التكريم هـذه هي من المظاهر التي لا لـزوم لها. لأن ما يكرّم الإنسان هي أعماله.

قال فيـه الرئيس جمال عبـد الناصر:” لـو كان عنـدي رجل مـثل الشيخ نجيب علم الديـن، لألّفـت وزارة حكومية بشخصه وحـده.

توفِّي الشيخ نجيب عام الدين بتاريخ 11حـزيران عام 1996، وأقيم مأتمـه في بلدته بعقلين. وقـد نعتـه الجامعة الأميركية في بيروت، باعتباره عضواً فخريّاً في مجلس أمناء الجامعة. ورئيساً لجمعية المتخرّجين.

وتوفّي ولـده كـريم بتاريخ 20 آب 2015، وأقيـم مأتمه في بلدته بعقلين.

كتب الـوزير السابق غسان تويني صاحب جريدة النهار مقالاً في جريدتـه قال فيـه: من الرجال الكبار الذين سكنوا منذ سنوات فسحة النسيان، نجيب علم الدين. صار اسمه على كلّ شـفه “الشيخ نجيب”، وفي الصحف العالمية وبعض الكتب، “الشيخ الطائر”. وليس أطيب ما يخلفه الشيخ نجيب، أنه صعـد باسم لبنان عالياً إلى الأجواء، تحمل أرزته إلى كل سماء وكل عاصمة، في كل قارة، طائرات الـ “ميـدل إيست طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية”. أنجح من كل نجاحات الشرق الأوسط. ينافس بهـا الأعـرق منهـا والأكبـر. فكلّما كبر اسـمه ازداد تواضعه، والثقافة التي لا يتوقف عن تحصيلها، والوفاء والاستقامة في المعاملة والإدارة، في وجـه التيارات السياسية التي كانت في أيامه عاصفة لا تـرحم، فلم تتمكن منه، لأنـه تحصّن بالثقة بمؤسسة لـو تركها تلتوي، لكان يجازف في الجـو وعلى الأرض.

يتميّـز اللبنانيون بالفـرادة، فينجـح الأفـراد ولا تنجـح الجماعـة. فكيف يمكن أن نطمئن اللبنانيين إلى تماسك مجتمعهم، وإلى تضافـرهم في الدفاع عـن حقوقهم المشتركة.

من أقوال الشيخ نجيب علم الدين

حـول تـركيبة لبنان الطائفية، قال الشيخ نجيب ما يلي:

لا يستطيع هكـذا خليط من الناس أن يؤلف شعباً واحـداً ومجتمعاً واحـداً. فكيف يستطيع إذاً أن يؤلّـف دولـة يتفيّـأ الجميع في ظلّها على حـد سواء؟ في لبنان خليط من الناس، ولا يوجد فيه شعب لبناني، مـع العلم أنّ الشعب شيء والناس شيء آخـر. الشعب الواحد لـه حقوق واحـدة مشتركة، وعليه واجبات واحدة مشتركة. وفي لبنان الآن عشرون طائفة تقريباً. لكل طائفة قانون أحوال شخصية خاص بها. بالإضافة إلى مفاهيم وتقاليـد وطقوس خاصة. ناهيك عن أزياء الألبسة التي تميّـز كل طائفة عـن الطوائف الأخـرى.

وأضاف:

ومـع ذلك يتميّـز اللبنانيون بالفـرادة، فينجـح الأفـراد ولا تنجـح الجماعـة. فكيف يمكن أن نطمئن اللبنانيين إلى تماسك مجتمعهم، وإلى تضافـرهم في الدفاع عـن حقوقهم المشتركة.

نجيـب علم الدين من المنارات في هـذا الوطـن. هـو الإنسـان المتعـدّد المـواهب والمـزايا والمناقـب، المنـاضل الكبيـر، طاقـة تنفجـر فتعـطـي فتـرشـد وتبنـي. نفتقـده في زمـن نـدر فيـه الـرجال أمثالـه.

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج

مولده

وُلِدَ سيدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، في بلدة (اعْبَيْه) من شحّار غرب لبنان، في شهر شوّال سنة ألف ومئتين واثنتين وثمانين (1282) للهجرة، من أبوين كريمين.

نَشأَتُهُ
المرحوم الشيخ ابو حسين محمود فرج

نشأ رحمه الله في رعاية أبويه عزيزاً مُكرّماً، وكان ذلك في أوائل عهد النهضة العلمية في لبنان، فتلقّى العلوم الابتدائية البسيطة، وحينما بلغ سنَّ الرّشد ظهرت عليه دلائل الورع والاجتهاد في البحث عن مناقب أولياء الله الصالحين، وطرائق أهل الفضل من الزهَّاد والعبَّاد الورعين، فجدَّ في استقصاء أخبارهم وتتبّع خططهم الشريفة، وكان أكثر تردّده في بداية أمره إلى بلدة بَيْصور، حيث يرى فيها ضالته المنشودة، من إخوانٍ له كثيرين أتقياء مؤمنين، وعلى رأسهم شيخ مشايخ ذلك الزمان في جبل لبنان، المرحوم الشيخ أبو علي اسماعيل حسيكة ملاعب.

وكان من جملة الواردين إليه شابّان ناهضان، هُما الشيخ أبو فارس محمود عبد الخالق من بلدة مجدل بعنا في الجُرد _ والشيخ أبو محمّد رشيد عيد، من بلدة بشامون في الغرب _ والشيخ أبو حسين محمود فرج ثالثهم.

وقد عَلِم رضي الله عنه وتحقّق، وأيقن وصدَّق، أن بلوغ الغاية والمُراد والفوز في دار المعاد، هو بامتثال الأوامر والنواهي الدينية، والنهوض التام في شطريها اللّذين هما الاكتساب، والاجتناب، وكان في كليهما من السابقين حقًّا.

وقال بعض الحكماء: الكمال في أربعة “رصانة العقل، وحسن الخلق، وسخاء النفس، وقمع الشهوة” وقد كانت هذه الفضائل والأوصاف من بعض مزاياه، التي خصّه بها مولاه، وتميّز بها وبأمثالها عن سواه.

منها مَيْزُ كلامِه، وصيانة لسانه دائم الأوقات، مع الصّدق التام في كل الحالات، وتجنّب الحرام والشّبهات، فكانت هذه الخصال الثلاث في بداية أمره، من الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة، على سمو فضله وصحة فضيلته، وعلو مقامه في الدين.

وكان رحمه الله، على مبالغته في تجنب الحرام شديد الحذر من الانسياق في شططه، ولطالما قال بتلهُّف وتوجُّع: إنّ بعض أهل الورع والخوف ممَّن سلف، كانوا يتركون اثنين وسبعين باباً من الحلال، مخافة دخول باب من الحرام.

ويردِّد مُستحسِناً قول لقمان الحكيم لابنه ثاران يا بني، من عاملك بالقبيح، عامله أنت بالمليح، وكلّ يلقى عمله.

ومن خصائصه المشهورة، التي أثبتت فضله، وشهرَت أمره، ورفَعَتْ منزلته منذ بداية أمره، حتى نهاية عمره، طول صمته وأناته، وصدق لسانه وطهارة جنانه، وحسن نيّته، وقلَّة كلامه، إلّا فيما يعنيه ويلازمه في الإفادة والاستفادة، بِرَوِيَّة فائقة، وحكمة بالغة، قال تعالى في كتابه العزيز (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة، فقد أوتي خيراً كثيراً) وقال بعض الحكماء: أعقِل لسانك إلّا عن حقٍّ تُوَضّحه، أو باطل تدحضُه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها. وقيل: ما خلق الله شيئاً أحقّ بالسجن من اللِّسان، وسجنه طول صمته عن الكلام، إلَّا فيما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بميزان الحكمة والعدل، وهو أنّ الكلام أربعة أقسام، قسمٌ هو ضررٌ مَحض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أمّا الذي هو ضرر محض، فلا بدَّ من السكوت عنه. وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، لا تفي المنفعة بالضرر. وأمّا الذي لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول، والاشتغال فيه تضييع زمان، وهو عين الخسران. فلا يبقى إلّا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام، وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر. وقيل: على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مُقبلاً على شأنه، حافظاً لِلسانه، ومَن عَلِمَ أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه.

ويمكنني القول: إنّ المرحوم لم يَعِدْ وعداً في حياته كلِّها إلّا وفى به، ولا عاهد عهداً إلّا قام بموجبه، ولا قال قولاً صادراً عن نفسه الطاهرة، أو نقلاً عن غيره إلّا صدق فيه، اللَّهم إلّا أن يقع سهو، وَجلَّ من لا ينسى ولا يسهو….

عملُه وزواجُه

تعلَّم المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج صنعة الحياكة على كِبَر وصار ينسج العباءات على أنواعها والبُسْط، فكانت هذه الصّنعة بتوفيق الله، أساساً لعمران البيت، وسبباً للاتصال والتعارف بينه وبين إخوانه مشايخ الدين، في المناطق اللبنانية عامة، ووادي التَّيْم والإقليم وفلسطين، وكان يعمل جادّاً في صنعته هذه، دون كلل أو ملل.

ولمّا بلغ من العمر ما يُقارب الثلاثين سنة، فكّر في أمر الزواج، سنّة الله في خلقه، على أن يأتي بقرينة صالحة تكون عوناً له في دينه ودنياه، وكان رحمه الله يقول، نقلاً عن شيخنا الجليل الفاضل المفضال، المرحوم الشيخ أبي محمّد صالح الجرَماني: “إنّ المرأة سترة للرجل، وأعمال الخير كثيرة. يعني بهذا إنَّ الرجل المُخلص في عمله، الساهر على صيانة نفسه، يتمكن من القيام بفرائض دينه، وامرأته في بيته تشاركه في أعماله وفي وجودها سترة لبعلها، ويتمُّ بذلك النظام الطبيعي الإلهي..

وحينما أراد الله سبحانه وتَعَالىَ توفيقه، سهّل في ذلك طريقه، فكانت الواسطة والهداية على يد الشيخ أبي محمّد علي نصّار من بَيصور، إذ كانت والدة المرحوم المُشار اليه، من بلدة معاصر الشوف، وكان لخاله هناك ابنة في سن الزواج تُدعى زهيّة، وهي ابنة المرحوم الشيخ أبي محمّد محمود سلمان فياض.

وقد ابتدأا حياتهما الأولى، في اجتهاد دائم مُقيم، واقتصاد حكيم، مع حسن تدبير، وأضاف المرحوم إلى شغله في النسيج أعمالاً أُخرى زراعية، مثل تربية دود القز، وهو موسم الحرير المشهور في لبنان، وقد كان من أعظم موارده ومحصولاته فيما مضى، وأخذا زيتوناً بالأمانة، يجمعان ثمره ويعصرانه، ويأخذان سهماً منه لقاء أتعابهما، فكان لشدة ورَعه، وخوفه على نفسه، أثناء جمع ثمر الزيتون، لا يتناول طعامه إلّا بعد أن يغسل يديه، كي لا يبقى أثرٌ لزيت الزيتون عليهما، وغير ذلك من الأعمال لبراءة ذمته.

وعلى النهج القويم استمرَّ سائراً مدَّة حياته، في سائر معاملاته، في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والقرض والوفاء، مُدَقِّقاً على نفسه في القطعة والدرهم، وقد تسهَّلت بعونه تعالى وحسن نيّته أشغاله، وبارك الله له في جميع أعماله، فغدت حركاته الشريفة دائماً موفَّقة وآراؤه بالخير والتسديد مُحقّقة، كما قال سيدنا الأمير قدَّس المولى روحه “العبد إذا كمَّل صفاه وأتمَّ تقواه وجرَّد قواه، واستعبد هواه، واستصحب في جميع أحوالهِ معرفة مولاه، وتوسَّل إليه بهادي الهُداة، وكان عقله الصافي أكمل سجاياه، واستعان بالله في كل ما يتوخَّاه، فلا شكّ في توفيقه في دنياه وأخراه”.

المرحوم الشيخ ابو فارس محمود عبد الخالق
مأكلُه ومشربُه

ان رحمه الله يقول، إنَّ النظام العادل التام، للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في طعامهم وشرابهم، الترفُّع عن ثقل الشّبع، وعن ألَم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم، والنَّسج على منوالهم جُهد الاستطاعة مع العلم والتحقيق إنَّ الغذاء بمثابة الدواء، يجب أن يُحدَّد مقداره، ويُتناوَل في أوقاته، بعد ِّ المَعدة من فضَلاته، لكي تحصل بتناوله المُقنَّن المنفعة المتوخاة، من دوام الصحة، واتّقاء المضرَّة.

فبسلامة الجسم ونشاطه، يستمرّ الإنسان في العمل والخدمة، والشّكر لله الرازق الحكيم، ويكون لصاحبه صفة القادر الآمر، في سلوك النَّهج القويم، بحيث إنَّ العقل السليم، لا يكون إلَّا في الجسم السليم، ومن بعض ما أورده السيد الأمير(ق)، ورسَمه في تناول الطعام والشراب وحدَّده، قوله: “ينبغي للإنسان أن لا يأكل في نهاره وليله، سوى أكلتين، وأن يترك المائدة وعنده بقية من شهوة الطعام، وأن لا يشرب الماء وقت الأكل أو عقبه تماماً، والأحسن أن يكون الشرب بعد الأكل بساعة أو ساعتين، وأن لا يستوفي الشُّرب، بل يتركه ونفسه قابلته، وحكمه في ذلك مثل حكم الأكل، وإن كان للإنسان عادة في كليهما يشقُّ قطعها عليه أن يقطعها بالتدريج، فأحسن الأحوال الاعتدال، فلا شَبع ولا جوع.

ومن آدابه رحمه الله، أمام الرازق العظيم، في أثناء تناوله الطعام والشراب، دوام ذكره، وأداء حمده وشكره، قال السيد الأمير(ق)، “إذا شَرَعَ الإنسان في الأكل، فليعلم أنه ضيفُ الله، لأنّه تَعَالىَ وتقدَّس الذي يُطعم ولا يُطعَم، فليُسمِّه في الابتداء، وَيَحمَدْهُ في الانتهاء وإن استطاع فليفعل في كلِّ لقمة، وليعرف نعمة الله عليه في كلِّ حال”.

كان المرحوم الشيخ أبو حسين رضي الله عنه، لا يضع في فمه لقمة من طعام، ولا جُرعة من ماء، ولا ثمرة واحدة من جميع الثمر، حتى يذكر اسمه العزيز، قائلاً بلفظ صريح في كلِّ مرة: (بسم الله الرحمن الرحيم) ومن عادته في موسم الفواكه أن لا يأكل العنب، إلّا حبّة، حبّة، ويذكر البسملة عند تناوله كلّ حبة، والغاية من ذلك دوام المراقبة، والإ كثار من ذكر من له الحمد المُقيم، والشُّكر العظيم، كيلا يُنسيه ولا يُلهيه، شيء من شهوات الجسد في جميع الأحوال، عن استشعار وجود المُنعم الخلاَّق، ولزوم الأدب أمامه وتهذيب الأخلاق، لأنَّ الواجب على المُوَحّد العارف أن يُجرِّد المحبة لله تعالى وتقدَّس، ويُخلص العبودية له، ويلازم النظر إليه، والاعتصام بحبله، وأن لا يَسْكُنَ إلّا إليه، ولا يأنسَ إلَّا به، ولا يتقوَّى إلَّا بمعونته، ولا يُؤثر غيرهُ عليه، فيصير هو بعينه، لفرط الاتِّصال به، والتقرُّب إليه، عقلاً خالصاً، وحقَّاً محضاً، وروحاً صافياً، ونوراً إلهياً، وذلك هو الكمال الحقيقي المجوهر الأنسي.

اكتمالُ بدرِه، ودوامُ سؤدُدِه ونَصْرِه

في الحديث النبوي، “أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل” وكان رحمه الله لطيب عنصره، وعظيم صبره، وشدّة عزمه، وطهارة نفسه، كالفضّة الصافية، التي كُلما زادتها النار حَمَّاً، زادتها جوهراً وصفاءً وكان كلما زاده الزمان امتحاناً، ازداد في نفسه يقيناً وإيماناً. بعد كل هذا وصل راقياً بنفسه العفيفة، إلى الرتبة الشريفة، التي هي رتبة الإنسان كما وصفها وعيَّنها سيدنا الأمير(ق)، قائلاً: “ومَن منحه الله القبول والترقِّي والعروج إلى حد الإنسانية، كان من ثمرة أفعاله العقل، والسكون، والرّصانة، والرّجحان، والعفاف، والصيانة، والنزاهة، والنظافة، والطاعة، والطهارة، ومكارم الأخلاق، والزّهد في المطالب الدنيوية، والخوف من الله، والمراقبة له، والثبات على الأوامر، والتزام ترك النواهي، والصبر والاحتمال، والإغضاء عن بلوغ الأغراض، والانصراف بكليَّة الجهد في التطلّع إلى العلوم البسيطة، والتَّلَمُّح من إشارات مضمون معانيها، والمبالغة في العمل بأوامرها، والانتهاء بنواهيها، والبحث والاستكشاف عن أصول مبانيها، القائمة بالفروض الواجبات، والسُّنن المشروعات، إلى أن قال، فهذه درجة الإنسان، التي تبعها السلف الصالح من أهل الفضل والتَّبيان”.

وقد اقتضت الحكمة الربانية، ما ورد ذكره في النصوص الجوهرية، وهو: إنّ الدار لا تخلو من الفاضل، لتثبت به الحجّة على العالم والجاهل، فلمّا اكتملت في جوهره الشريف الأوصاف الإنسانية، وتفرَّد بنفسه حاملاً لواء الفضائل والمحامد الدينية وظهرت عليه هذه الآثار الحميدة، والآراء السديدة، والطريقة الرشيدة، بانت له الفضيلة والمزيَّة على الاقران، في جميع الأصقاع التي توطّنها المعروفيّون، لأنَّ المقامات تعلو بأهلها، والفضائل تشير إلى أصحابها، عندئذ أجمع المخلصون على اختلاف درجاتهم، واتفق المنصفون من سادة العصر وأعيان البلاد، على الاعتراف له بالفضيلة، والرتبة الجليلة، فجعلوه لمحض تقواه، ومراقبة مولاه، وتجرده عن هواه، في سره ونجواه إمامهم المطاع، ومرجعهم الأعلى ورمزهم الأسمى في السبيل الروحاني دون نزاع، وغدا موضع ثقتهم الوحيد، لمسلكه الدقيق الفريد، فأصبح منزله محطّ رحال الإخوان، أهل الفضل والتصديق والإيقان، من قاصٍ ودانٍ، ولطالما سعى الكثيرون من الناس شوقاً لرؤيته والتماس بركته، والتَّفكُّه بمحادثته، واقتباس إفادته، من لفظه العذب الموزون وحميد سيرته، ولطالما جاءه الكثيرون: شاكين: مُتظلّمين: وبه مستعينين ومستنصرين.

فكانت نيّته الصادقة، مصروفة دائماً إلى لمّ شمل إخوان الدين، والإصلاح العام التام بين الموحدين، ليكونوا قائمين على نفوسهم بقسطاس الحقّ والعدل، معروفين لدى الجميع بالإحسان والفضل، مُترفّعين عن الانغماس في الشّبهات والحرام، مقتصرين على طلب الحلال، لستر الحال، مع حسن الاتّكال، ولزوم الورع، وترك الطمع، والعدول عن الفساد، إلى طريق السَّداد، والصلاح والرشاد، فبهذا وأمثاله تتاجر الأبرار، في هذه الدار، وتُدَّخر الحسنات والأعمال الصالحات لدار القرار، أملاً بالرضى والعفو من الكريم الغفّار.

مشيخة العقل والهيئة الروحية لطائفة الموحدين الدروز

اقامت مشيخة العقل، والهيئة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، صلاة الغائب عن روح فضيلة المرحوم الشيخ ابو عدنان ركان الأطرش، الذي نعته الهيئة الروحية ومشيخة العقل، “شيخًا صادقًا موحدًا عطوفًا داعيًا بالحق، بالتزامن مع الموعد المحدد للصلاة على جثمانه في سوريا، وذلك في مقام الأمير السيد عبدالله التنوخي (ق) في عبيه.

وشارك في الصلاة سماحة شيخ عقل طائفة الموّحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، والمرجع الروحي الشيخ ابو صالح محمد العنداري، والشيخ اكرم الصايغ ممثلا المرجع الروحي الشيخ ابو يوسف أمين الصايغ، وحشد من رجال الدين والأعيان تقدمهم الشيخ ابو محمود سعيد فرج، والشيخ ابو يوسف أمين العريضي، ووفدٌ من مشايخ مدينة عاليه تقدمه الشيخ ابو مسعود هاني جابر، والشيخ ابو طاهر ريدان شهيب، ووفدٌ من مشايخ العبادية تقدمه الشيخ ابو طاهر منير بركة، ووفدٌ من مشايخ منطقة الشوف تقدمه الشيخ ابو سليمان سعيد سري الدين، والشيخ ابو زين الدين حسن غنّام، والشيخ ابو عفيف رفيق ابو غنام على رأس وفد، ومشايخ منطقة الغرب، وقاضي محكمة المتن الدرزية الشيخ غاندي مكارم، ووفدٌ من مشايخ مؤسسة العرفان التوحيدية برئاسة الشيخ نزيه رافع، ومن مدرسة الأشراق برئاسة الشيخ الدكتور وجدي الجردي، اضافة الى رئيس اللجنة الدينية في المجلس المذهبي الشيخ هادي العريضي، وعدد من أعضاء الهيئة الاستشارية لمشيخة العقل، ومن المشايخ أعضاء المجلس المذهبي، وسائسي المجالس والخلوات الدينية، وجمع ديني من مناطق مختلفة.

وسبق الصلاة كلمة لسماحة شيخ العقل تحدث فيها عن مزايا ومآثر الشيخ الراحل جاء فيها،”

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعـــــون

الشيخ الفاضل أبو عدنان ركان الأطرش من الأرومة العربيَّة الإسلاميَّة التوحيديَّة التي تجذَّر نضالُها في التاريخ الوطنيّ المشرِّف لسوريا وللأمَّة العربيَّة حتَّى باتت صِنواً للشهامةِ والشجاعةِ وبذل التضحيات، ورمزاً ساطعاً من رموز الوحدة والكفاح رفعاً لراية الوطن الموحَّد بكلِّ أبنائه.

تميَّز الشيخ المرحوم بين قومِه بالأُلفة والمودَّة وحُسن الخُلق، وتحصَّن روحيّاً بالصِّدق وبالنيَّة الطيِّبة وبالقلب المرتاض بأزهار المعاني التوحيديَّة. كان مُحبّاً عطُوفاً صادقاً داعياً على الدَّوام بالحقِّ، حاثّـــاً على التمسُّكِ بجمع الشَّمل ووحدة الكلمة والصفّ، بفائض المحبَّة الجامعة في رياضِ التَّوحيد.

الشَّيخ ركان الأطرش كان متواضعاً، مستنيراً بروحِ الطاعة، ومستأنِساً بالله تعالى، ومستشعراً لطافة السلوك المستكين إلى الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكَر. وكان بكلِّ هذا ذا حضورٍ إنسانيّ يملأ قلُوب مجالسِيه بجمال المحبَّة وأُنس الشَّوق إلى روضة الرِّضى التي حباهُ الله عزَّ وجلَّ بها فهي تتبدَّى منه بالطبع بعيداً عن أيّ تكلُّف.

هنيئاً لمن خُتِم له بالطَّاعة. نسأل الله تعالى له الرَّحمة الواسعة، معبِّرين بأحرِّ مشاعر المشاركة والمؤاساة إلى عائلتِه الكريمة وإلى كافَّة المشايخ الأفاضل في سوريا وشعبها، وإلى كافَّة الاخوان في لبنان وشعبه، سائلين الله تعالى أن يسدِّد خطانا إلى ما يُرضيه، وأن يجمعنا مع السالكين الطائعين، من الَّذين ﴿يستبشِرُونَ بنِعمَةٍ منَ الله وفضْلٍ وأنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤمِنين﴾.

بعد ذلك أقيمت صلاة الغائب عن روح الشيخ الأطرش وتقبل المشاركون التعازي.

من مراسيم تشييع الشيخ ابو عدنان ركان الأطرش في السويداء، جبل العرب

مأتمِ الشّهيد عَلاء أبو فَخْر

الشّهيد عَلاء أبو فَخْر

شارك سماحة شَيْخ عقل طائفة المُوَحِّدين الدّروز الشّيخ نعيم حسن على رأس وفد من مشايخ الطائفة، في المأتم الوطني الحاشد الذي أقامه الحزب التقدّمي الاشتراكي والثّورة الوطنيّة اللبنانيّة وأهالي الشويفات والجبل للشهيد علاء أبو فخر في مدينة الشويفات بمشاركة شخصيات عدّة وحشود ضخمة من المواطنين.

وسَبَق الصلاة كلمة لسماحة شيخ العقل قال فيها،” فقيدُنا اليوم هو فقيد الوطن وأملنا أن تكون الحادثة عِبْرةَ بدايةٍ وخاتمةٍ للعنف، ودعاؤنا للوطن بالسلامة ولأهل الحكم والمسؤولين بالتَّعقُّل والحكمة والنظر بمسؤولية، مسؤولية المصلحة الوطنية العامة للدولة المستقلّة والدستورية والحُكم العادل”.
وأضاف، في هذه المناسبة، التي تبدو وكأنَّها عرس وطني، وبمسؤوليتنا الدينية والروحية والوطنية نُحَرِّم من منطلق مسؤوليتنا الدينية والروحية إطلاق النار تحريمًا قاطعًا.
وختم سماحته: “نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يشمل الفقيد برحمته وكرمه.”

ثم أَمَّ سماحة شيخ العقل الصّلاة على الجثمان.

العدد 30