السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج،الجزء الثالث

مقدّمة:

ورث عقّال الموحدين الدروز منذ نشأة مذهب التوحيد الأخذ بسِيَر السابقين من النجباء الذين لم يخل منهم زمان، فشكلوا عبر الأجيال سلسلة لا تنتهي من العارفين بنقل أمانة التوحيد وخصاله ومسلكه الى إخوانهم ورفاقهم وأبنائهم من الناشئة، وهو ما يعرف بقاعدة «المفيد والمستفيد»، وترتكز على ثابتتين:

الأولى – إنّ العلم الحقيقي هو المنبثقُ من أمر الله وتأييده وواسطته، فهو للنفوس كالماء في الطبيعة، جُعِلَ منه كل شيء حي. وغاية العِلم المُثمر أن يهديَ النَّفسَ الى المعرفة الصادقة التي من شأنها أن تحيي الرُّوحَ، وتُسدِّد خطاها في مسالكها المعنوية والعملية.

والثانية- ارتباط العِلم بالعمل، فلا يُنتفَع بالعِلم حتى يصدقه العمل، كذلك، لا يُنتفع بالعمَل حتى يثبته الإخلاص وحسن النيَّة. وذلك استناداً الى قوله تعالى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر 19)، وقوله تعالى أيضاً: (يعلم ما في قلوبهم (النساء 63)، وقول النبي (ص) (إنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعمالكم).

يقول أحد العلماء العارفين: «إن المفيد في التوحيد هو الذي يُرشد ويحرّك وعيَ الطالب باتجاه نور العقل الكلي، أي علمُه المعبَّر عنه برسالات الأنبياء وصولاً الى الطور الأخير المعروف. بهذا، يصبح الإخوان حالة يشدّ بها الواحد منهم حال الآخر كما قال «على سررٍ متقابلين»، تجمعهم في ذلك «الصلة» بالحقّ، وكلٌّ يحترم شيخَه، وفي الوقت عينه الشيوخ الثقات.

المرحوم الشيخ احمد امين الدين

منهم قاصد بالتقوى والزهد، ومنهُم مجاهد بالورع والخوف، ومنهم مثابر بسعة الاطّلاع والدّرس، ومنهم متميّز بالشجاعة، ومنهُم متلهف بالشوق والوجد أكثر من غيره. ويوجب هذا على الموحّد أن يستقي المعاني من هذه الكوكبة المستنيرة بيقينها المرتكز على العمل، والتّحقّق، وصدق اللسان.
والدرس الذي يستفاد في موضوع المفيد من المفهوم التوحيدي، هو أن حلقة التوحيد لا بدّ أن تكون جامعة، تصل الكلّ بالكلّ في روضة الخير. صحيح أن علم الطالب ينمو بتوجيه شيخ من الشيوخ، ولكن على درب «الصلة» بالكلّ»(1).

فكيف إذا كان المفيد الشيخ أبو حسين محمود فرج صاحب الفضل والمعرفة والثبات في المسلك الذي جمع وجوهاً متعددة في قصد التقوى والزهد والمجاهدة بالورع والخوف، والمثابرة لسعة الاطلاع والدرس والتلهف بالشوق والوجد. فقد كانت لمريديه ورفاقه مناسبات تجددت فيها سعادات القلوب بنور التوحيد، وارتاضوا في رياض الخير الى حد أن تلك المرحلة باتت مثالاً للمعشر بين الاخوان. وقد اتفق المنصفون وسادة العصر وأعيان البلاد على الاعتراف له بالفضيلة فجعلوه لمحض تقواه إمامهم المطاع ومرجعهم الأعلى.

ومن المستفيدين الناجحين الذين تابعوا الشيخ أبا حسين ورافقاه الشيخان أبو سعيد حَمُّود حَسَن وأبو داوود كامل حسن وهما من بلدة البنيه المجاورة لبلدة عبيه، فكانا نغماً عطراً طيباً من نغمات أهل التوحيد والسلف الصالح، وتابعاه من الاجتماع الديني في خلوة الشيخ أحمد أمين الدين في عبيه،(الشخصية الثانية بعد السيد الأمير«ق» الذي أوقف كافة عقاراته لعموم الأجاويد) خلوة الصدق والإخلاص والعمل الصالح، الى معظم الاجتماعات واللقاءات الدينية، حتى زكت بهما النفس وطابت القلوب بحميد الذكر ونور الاستشعار، فكانا من الأعلام الشاهدة على الرسوخ في السبيل القويم واتباع النهج السليم الذي استقى من ينابيع السادة الأوَل، وارتقى في معراج الثبات في رياض الذكر الحكيم، محققاً للنفس شرفها الذي وجدت من أجله وهو العبادة والتوحيد.

الشيخ أبو داوود كامل حسن (1909 – 1982):
المرحوم الشيخ ابو داوود كامل حسن

هو الشيخ الدَّيان المخلص الواعظ والأخ المحب المتابع والجار الوديع للشيخ أبي سعيد حمود حسن، رفيقاً مجاهداً في الطاعة والعبادة. تابعا معاً اجتماعات الشيخ أبو حسين محمود فرج ورافقاه في معظم تجواله. كُلّف كلّ منهما لفترة مسؤولية سياسة مجلس البلدة وحقوق أوقافه مع لجنة من مشايخ البلدة الكرام.
حرص الشيخ أبو داوود، كما هو مسلك الأتقياء، على الرزق الحلال فعمل في الزراعة ومواسم الزيتون والقز وغيرها.

إلاّ أن القدر فرّق بينه وبين الشيخ أبو سعيد اثناء أحداث الشحار 1983 حيث شاءت الأقدار ان يبقى الشيخ أبو داوود في البلدة ولم يتمكن من مغادرتها، فقتل برصاص الغدر أمام منزله الذي تمّ حرقه، وبعد تحرير الشحار وُجدت محفظته سالمة بين رماد جسده الطاهر. فقد كان يحتفظ في جيب عباءته بأمانة أموال لمجلس البلدة ولعدد من أبنائها مُبيّنة بأسمائهم وبقيت سالمة وأعيدت الأمانة لأصحابها مما يعتبر حقاً كرامةً له.

الشيخ أبو سعيد حَمُّود حَسَن (1903 – 2004) (2):

هو ابنٌ لعائلة عريقة في التديّن والورع والتقوى، وعندما سُأل أحد معمّري البلدة عنه في تسعينات القرن الماضي اجاب أننا نعرف الشيخ أبا سعيد متكملاً، مرتدياً العباءة البيضاء منذ شبابه، وكان منزله عامراً بالسهرات الدينية للمشايخ الأعيان وكذلك بالزيارات والوفود. فقد كانت اليقظة الروحية والنهضة الدينية ملازمة له في سن مبكرة.

واجهته صعوبة الحرب العالمية الأولى وهو في الحادية عشرة من عمره، لكنه تخطّى الظروف الصعبة تلك بفضل ما منحه الله من ثبات الإيمان وقوة البُنية. وكان الشيخ يروي بعضاً من تفاصيلها وبخاصة المجاعة التي طالت لبنان في ذلك الحين، وكان يردد: « لم يسلم من المجاعة إلا من كان يملك رأس ماشية يدر لبناً».
وعلى خطى السلف الصالح وعن قول جبرائيل لداوود عليهما السلام: «وما من عبد أحب الى الله من عبد يأكل من كد يمينه». حرص الشيخ حمود على الرزق الحلال، وعلى جني رزقه من تعبه طوال حياته، فأستقر عمله (بعد سنوات عجاف) في الزراعة ومعاشرة الأرض، وجني مواسم الزيتون والصنوبر والفواكه ومواسم القز التي ازدهرت في منتصف القرن الماضي، وصناعة الصابون البلدي التي استمر بها حتى آخر أيام حياته.

مرحلة المرافقة مع الشيخ ابي حسين محمود فرج:

من المرجح أنه في أواخر عشرينات القرن الماضي تابع الشيخ أبو سعيد برفقة الشيخ أبو داوود كامل حسن اجتماعات الشيخ العلَم، حيث كان يردد في غالب الأحيان أن مرافقتهما استمرت أكثر من عشرين عاماً (وفاة الشيخ أبو حسين 1952). تأدبا بآدابه وتعلَّما الكثير من مآثر الخير على يده، بل يصحّ القول انهما تتلمذا على يديه، واقتديا بكثير من مسالكه الشريفة، وأخذا عنه الخصال الحميدة كالدقّة والحلم وسعة البصيرة وغيرها.

وقد منحهما الشيخ العلم لفتة خاصة من المودة والعطف، حتى أمكن القول إنه كان يصعب على شيخ البلاد الرجيح من عبيه، إذا قصد زيارة المشايخ والإخوان في لبنان او سوريا او بعض الأماكن المقدّسة في أي مكان، ألّا يكون الشيخان أبو سعيد وأبو داوود رفيقيه مع المشايخ الأفاضل.

وفي معظم لقاءات الشيخ أبو سعيد بعد ان تجاوز الثمانين من عمره المديد، كانت مذاكرته عندما يُزار، ويزور، عن المشايخ الكبار الذين سلفوا، وفي مقدّمهم الشيخ أبو حسين وتعلّقه به فكانت ذكراه حية على لسانه وفي قلبه وكان يُعيد ما وقع منه أو من أخيه الشيخ أبي داوود من أخطاء في بداية المتابعة بمنتهى البساطة والبشاشة وكيف كان الشيخ بحلمه الواسع يصحح لهما ويرشدهما ويدلهما على الأصوب والأفضل.

كما كان يروي عن مناقب الشيخ أبي حسين كما عرفها عنه، رواية شاهد من أهله، حيث كانت الزيارات بمعظمها تتم مشياً على الأقدام، وكثيراً ما يُعيد الشيخ أبو سعيد لطائف المودّة والعطف بدعوة الشيخ أبي حسين لهما لزيارة مقام النبي شعيب (ع) في فلسطين في أربعينات القرن الماضي والتي ألحّ بها شوقاً لرؤية الإخوان، أو مواقف الشيخ الذي قرر ترك بلدته عبيه لمدّة ثلاثة أشهر ليمنع وقوع خلاف بين بعض أقربائه وجيران له، أو حرص الشيخ العلم على العمل بالنية مع نفسه دون الحاجة الى قرطاس أو قلم أو الى الكلام مع الغير أحياناً، وهذا هو جمال التعامل مع الله، والمراقبة الدائمة للنفس. أو غير ذلك من سيرته العطرة.

واختصاراً نختار هذه الواقعة من مرحلة المرافقة التي تعبِّر عن صفاء العلاقة ومتانتها بين الشيخ أبي حسين ورفيقيه:
ففي موعدٍ سهرة دينية في بلدة عرمون الغرب، جرى حديث بين الشيخ ابي حسين والشيخين أبي سعيد وأبي داوود لحضور السهرة، وبعد ظهر ذلك اليوم تبدّلت الطبيعة وتحول الطقس ماطراً وعاصفاً. وقناعةً منهما ان الشيخ العلم لن يبقى في عبيه قررا الانتقال الى عرمون للقائه، وهذا ما حصل فعلاً، ولم تمنعهما الطبيعة من تنفيذ الوعد رغم الانتقال سيراً على الأقدام، في حين تعذّر على جمع غفير الوصول في تلك الليلة فعاتبهم الشيخ بطريقته اللطيفة في اليوم التالي. ويروي الشيخ أبو سعيد ان الشيخ أبا حسين لم يجد في تبدّل الطبيعة عذراً وأجاب على سؤال: «لو كان المرء في حقله وهطلت الأمطار فهل يبقى في الحقل أم يعود الى البيت»؟.

الشيخ أبو سعيد حمود حسن: مسيرة مستقلة
المرحوم الشيخ ابو سعيد حمود حسن

لقد كانت مسيرة الشيخ أبو سعيد مسيرة مستقلة مشرقة، واضحة لأصحاب البصائر، فأضفت احترامه ومكانته في المجتمع التوحيدي وفي مقدمّهم المرحوم الشيخ أبو حسن عارف حلاوي وخاصةً بعد ان أصبح الشيخ حلاوي المرجع الديني الوحيد المتوّج بالعمامة المدورة والشيخ أبو سعيد كبير مشايخ الغرب. وقد تعارفا في ريعان الشباب قبل ان ينتقل الشيخ أبو حسن عارف الى بلدة معصريتي. وهما متقاربان في المواليد وحياة الطاعة المديدة (الشيخ حلاوي 1899 – 2003) (الشيخ أبو سعيد 1903 – 2004). كذلك كان الحال مع المشايخ الذين تُوّجوا فيما بعد بالعمائم المدوّرة (الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين، الشيخ أبو محمد صالح العنداري، الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب).

يقول سماحة الشيخ أبو علي سليمان أبو ذياب في مخطوط خاص عن المرحوم الشيخ أبو سعيد:
«أنه شيخٌ فاضلٌ صَرَفَ حياتَهُ في طاعة الله تَعَالى عابداً، زاهداً، مجاهداً، وراضياً قانِعاً، مُخلِصاً، أميناً، وفيّاً، محافظاً، ومثابراً تقياً.».

رافق شيوخَ البلاد وأعيانَها (في الجبلين) وصاحبهُم، وأحبوهُ وأحبَهم، وكان فيهم ومنهم رفيقاً كريما صحيحاً صالحاً، وأخاً محباً عطوفاً عفيفاً ناصِحاً، وشيخاً وقوراً رزيناً راجحاً.
إقتَنَعَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْفي وَجَلَسَ بيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِ عَزَّ وجلَّ مُستأْنِسًا بِذِكْرِهِ حَامِداً شَاكِراً هَادِئاً مُطمَئِناً سَاكِناً ذَاكِراً.
زَارَهُ المشايخ والاخوان وزارهُمْ وأكرموهُ وأكرمهم وارتاحوا اليه وارتاحً إليهم.

ويتابع الشيخ أبو ذياب: كان الشيخ أبو سعيد وقورَ المحضر، رزين المنظر، تبدو مُراقبَةُ الخالق عزَّ وجَلَّ على وجهِهِ الهادئ ونَظَرِهِ الخاشِع يَعظُ حَالُهُ قَبْل قَالِهِ، حَسَن المُقَابَلَة حَسَن التَّرْحِيبِ بِضُيُوفِهِ يَبْدو عَلَى مُحْيَاهُ الْوُقُورِ اللُّطْفُ وَالْعَطْفُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْحَنَان، جَزِيْلَ الإِكْرَامِ والكَرَم يُجَالِسُ ضُيُوفَهُ مُجَالَسَةَ المُرْتَاحِ السَّعِيدِ الْهَادِئ وَيَسْتمعُ إلى أَحَادِيثَهُم بِإِصْغَاءٍ وَوَعْيٍ وَاهْتِمَام. وإذا شَكَوا إليهِ هُمُومَهُمْ يُهَوِّنُ عليهم بكلماتٍ لطيفةٍ؛ يُحبّ الرِفْقَ والوِفاق ويأبى العُنْفَ وعدمَ الاتفاق، ويحملُ هَمَّهُمْ وَان اقتضى الأمرُ يسعى إلى مَنْ كانَ السَّبَبَ، مضَى إليهِ مُخلصاً وَأزَالَ الهُمُومَ بمَسْعَاهُ وَصحةِ نَوَايَاه.

كانت مساعيه في الخير ولله عَزَّ وجَلَّ مع ارتجاءِ رِضاهُ وكانَ يُوفَّق فاللهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّق مَنْ سَعى في مرضاتِهِ وكان مُعتَدِلاً في أمُورِهِ وأحكامِهِ وَحَيَاتِهِ حَيْثُ قَالَ الحُكَماء العِظامُ عَلَيْهِمِ أزكى السَّلام: خيرُ الأمورِ أوسطُهَا، وَحيَاةُ الاعتِدَالِ والفضيلة هي الحياة السعيدةُ الحقيقية لا تَحْتَمِلُ الزِيادَةَ أو الانتقاص وهي قانون الحياة الصحيح لكل ذي عقل رجيح ونعمةٌ مِنَ الله تَعَالى على من خُصَّ بِهَا وسرُّ القوةِ انّ يحتفظ الإنسانُ بطبعٍ هادئ كي يُفكِّرَ ويستعين بخالِقِهِ ويكونَ مُعْتَدِلاً كيْفَما تقلَّبَت ظروفُ الحياةِ وَصروفُها عليهِ.

هكذا مارس الشيخ أبو سعيد حَيَاة الاعْتِدال والفضيلة مُرتاحاً سعيداً سديداً، وَكان في خَلْوَتِهِ مَعَ خَالِقِهِ إذا اسْبَلَ اللَّيلُ سِتَارَهُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةَ الأَلِبّاءِ الصّالحينَ الخَاضِعينَ الخَاشِعِينَ الْخائِفِينَ.

ومن أشهر ما عُرف عنه:

1. سداد الرأي والشجاعة في قول الحق:
عرف عن الشيخ أبي سعيد أنه: إذا استشير في أمرٍ فيتأنَّى ويفكِر ثُمَّ يُبْدِي رَأيَهُ وكان كثيراً مَا يُسْنِدُ رَأيَهُ الى رأي من سَبَقَهُ مِنَ المَشَايخ واستشيروا في أمرٍ يماثله، وكان مستنده في ذلك الكتاب الكريم وتفاسيره.

وكانَ سديد الرأي مَبْنِيٌ قولُهُ على الصَّواب، ولا يُطيلُ الشرح ولا يكثر الكلام يختارُ كلماتِهِ ويُوضِحُ ما يريدُ عن فكر رشيد، كريم الأخلاق. أما في المسائل العامة فكان يرغب بمشاورة المشايخ الأعيان.
ومن المعروف عنه أنه كان حازماً عندما يتعلق الرأي بأمر سبق حدوثه أو خطأ تم الوقوع فيه. وقد إتخذ الشيخ أبو سعيد العديد من مواقف الجرأة والشجاعة، حتى أنه امتنع مرّة عن تناول الطعام من أجل حلّ سريع لمسألة طرأت بين المشايخ الأفاضل.

2. قوله المشهور: لم أقل يوماً بلساني مخالفاً لما في قلبي
الصدق في التوحيد هو وحدة الحال في عمل اللسان والقلب والنيّة، وكافة الجوارح، والتبرؤ من المخادعة والتدليس، وما من سبيل للوصول الى حقيقة التوحيد دون المدخل الصدق اليه، وفي مذاكرة مع حفيده قال له: «يا جدي لم يخطر ببالي يوماً أني قلت بغير ما في قلبي؟».
وكان من مسالكه قاعدة « إذا غيّروا لا نغيّر»، وكثيراً ما حصل اتفاق ما مع آخرين ثم بدّلوا رأيهم، ولم يبدّل رأيه.

3. الابتعاد عن السياسة:
تميّز الشيخ أبو سعيد حمود حسن بالابتعاد عن السياسة، فلم يعرف قلبه الميل ولا الجاه على الرغم من متابعته لما يجري من قضايا وأحداث داخل طائفة الموحدين الدروز، ثابت الموقف والعمل تجاه وحدة الصف والكلمة، متلهفاً لجمع الشمل وحفظ الاخوان، وكانت شخصيته علامة فارقة، فريدة بين مشايخ عصره، ومواقفه خالصة لوجه الله كالماء العذب الزلال، مستقلة تماماً عن أي تأثّر دنيوي. وقد حرص أحفاده الذين عرفوا كثيراً من تفاصيلها أن تبقى في أوراق الذكريات.

4. العمامة المدوّرة:
تأكدت نية الشيخ أبو حسن عارف حلاوي والشيخ أبو محمد جواد ولي الدين مجتمعة بعد وفاة الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب والشيخ أبو محمد صالح العنداري على تتويجه بالعمامة المدوَّرة ولكن ظروف لا تتعلق بالشيخ أبو سعيد حالت دون إتمامها قبل وفاة الشيخ أبو حسن عارف حلاوي فأصر الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين على إتمامها في اللحظات الأخيرة من حياته، مكرراً مزايا الشيخ أبو سعيد ومناقبه التي أهّلته للحصول على هذه المنزلة الرفيعة، فكانت بمثابة وسام ديني لعلو همّته وسامي منزلته.

وفاته

مَضَى الشيْخُ أبو سعيد في سَبيلِ النَّجَاةِ والهُدَى. وفي يوم وداعه تقاطرت الوفود من الجبلين الى إلقاء التحية الأخيرة. وألقى عدد من الخطباء ما يليق من المراثي ويكفي أن نقول أن العديد من المشايخ الأفاضل الذين ما زال بعضهم على قيد الحياة سمعوا صوت السماء بلحن الخلود المتعارف عليه دينياً أنه يصدر بإرادة ملائكة الرحمن ويخصص تكريماً للمشايخ الثقات يوم وداعهم الأخير؛ هو الصوت الذي تحدّث الشيخ أبو سعيد يوماً انه سمعه في وداع والده المرحوم الشيخ حسين بشير حسن. رحمهما الله.

مقامه وضريحه

على خطى المشايخ الأعيان أقيم له مقام في بلدته البنية، وكما في حياته كذلك بعد وفاته بقي مقصداً لأهل الفضل من المشايخ، وبخاصة مشايخ الغرب من عبيه وعرمون وبيصور وغيرها. وقد نُقش على ضريحه آية الكرسي من جهة وتاريخ وفاته من جهة أخرى تقدمة الشيخ منذر عبد الخالق، بالأبيات التالية:

يـا عَابِـداً زَانَـت التَقـوى مَنــَاقِبَهُ
أَلبِرُ تَاجُكَ وَالمِنهَاجُ محــــمُودُ
بُشـْرَاكَ في الجَنَّةِ العَلْيَـاءِ مِنْ حَسَـنٍ
تَنَالُ خَيــرَ جَزاً يَرْعَاكَ مَعْبُــودُ
لَـكَ المـآثِرُ فِـي التَـارِيخِ أحمَـدُهَا
أبو سَعِيدٍ رَبِيبُ الفَضـلٍ حَمُّـــود

ورد خطأ مطبعي في الصفحة 19 من عدد مجلة الضّحى 31 في الفقرة بعنوان (بعض الخصال) ضمن المقالة بعنوان «الشيخ العلم الورع الديان، أبو حسين محمود فرج الجزء الثاني».

السطر الخطأ التصحيح
الخامس عشر طيّباً طبيباً
السابع عشر رضاه في الباطل لا يدخله رضاه في الباطل
التاسع عشر للغيوم لغيوم
(المزيد…)

ساعـــة الحقـيقـــة

مائة سنة على إعلان “دولة” لبنان الكبير. “الدولة” التي تواجهُ اليوم ساعة الحقيقة القاسية. تواجهها مؤسَّساتها الدستوريَّة بكلِّ “المُنتَخَبين لتحمُّل أعباء المسؤوليَّة. يواجهها “شعبُها”، الذي يعيشُ داخل أراضيها (وخارجها) في حالة “شتات” مروِّع. ذلك أنَّه موزَّع على الطوائف والأحزاب والحركات “الثائرة” بشكل يقربُ أن يكونَ حالة “بابليَّة”، حيث تشظَّت اللغة فباتت كلّ فئة تحكي لغتها لا غير، فيما آذانها صمَّاء عن لغة الآخَرين. ويواجهها قرارُها الذي غادر “طاولة الحوار والعقلانيَّة” فاشتدَّت عواصف الخارج في الميادين الداخليَّة بكلّ الذرائع والوسائل المُتاحة.

لقد عبَّر الانفجارُ الرَّهيب في مرفأ بيروت عن هذه الساعة بشكل ملحميّ-مأساويِّ مُرعِب. وها هي تداعياته بكلِّ وجوهها تكشف عمق الهوَّة التي بات وطنُنا المسكين في جوفها. السؤال الكبير الآن: هل بعدُ بالإمكان من سبيل إلى الإنقاذ؟

نحتاج، أكثر ما نحتاجُ إليه، إلى الرُّوح الوطنيَّة العابرةِ للمصالح الصغيرة نحو المصلحة العُليا للشعب اللبناني الواحد. لقد بات هذا الأمرُ مُلحّاً وبمستوى الضَّرورة اللازمة حتماً. إنَّ الانكشافَ المُعيب للفجوات الهائلة التي سبَّبها الفسادُ والإهمالُ واستباحة الإدارات إلخ. وانتشار المعلومات بصدده عموماً، سيّما دوليا كما يعبَّر عنه في المواقف الرسميَّة والصحافة العالميَّة، هو أمرٌ لا يمكن علاجه إلَّا بتغيير أنماط التحكُّم بأدوات السلطة، آن الأوان ليقظةٍ أخلاقيَّة وجدانيَّة حقيقيَّة. وكم كان مُحقّاً شوقي في قوله:

وإنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيَت         فإنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهبُوا 

إنَّ الأمثولةَ التي يُعطيها القادةُ لشعوبهم في أوقات المحن الكبرى، بالتضحيات والشجاعة ونكران الذات، كانت عبر مجرى التاريخ العامل الأصل في تقدُّم الحضارات في ما عهدناه. أمَّا ما نراه اليوم، في عالمنا المعاصر عموما، من اندفاعات متسارعة نحو التخاصُم وتعطيل آليَّات الاحتكام الدولي الذي ترعاه هيئة الأمم (وشعارها حقوق الإنسان والإنسانيَّة)، فهو الأمر الذي يفاقمُ حتماً مسارات التوتُّر والاضطرابات، ناهيك عن عاصفة الوباء التي، عدا كونها جائحة مؤلمة للأوضاع البشريَّة، فقد عرقلت على نحو خطير دورة الاقتصاد العالمي وباتت الدول المتقدِّمة تضع خطط الإنقاذ والنهوض لسنوات قادمة.

في لقاء مع سيادة مطران بيروت السابق المطران بولس مطر الذي نكّن لشخصه كلّ التقدير والاحترام أعاد سرد حادثة حصلت في أثناء بناء دير مار جرجس الناعمة. ومما قاله إن الارض التي شيّد عليها الدير هي هبة من بني معروف، من آل نكد الذين قدّموا مليون متر مربع للرهبانية اللبنانية المارونية (سنة 1756).  وكان لهم شرط واحد ان يسمى الدير بإسم مار جرجس.

أمّا الحادثة فهي التالية:

في أثناء أعمال البناء وتحديد الأرض حصل سوء تفاهم على ترسيم الحدود بين القيّم على الدير والمسؤولين من آل نكد. أبدلت الرهبانية المارونية القيّم على الدير الذي وقع معه الخلاف وعيّنت بديلاً منه. اتصل القيّم الجديد بآل نكد وذكر لهم فضلهم وأن هذه الأرض هي تقدمة منهم وليضعوا الحدود أينما أرادوا فكان جوابهم انهم يتركون الأمر للرهبانية المارونية والقيّم الجديد وهكذا حُلّت المسألة.

هذه الحادثة تختصر مشكلة لبنان ليس فقط بين طائفتين كريمتين بل مع جميع مكونات الشعب اللبناني، وتختصر أيضاً الطريق لحل معظم مشكلاتنا. ألا تواضعوا، حدّثوا وتخاطبوا بالكلمة الطيّبة، أحسنوا النوايا، واعتمدوا مصلحة لبنان. وإلّا فلبنان الى زوال – لا قدّر الله

العدد 32-33